تفسير سورة الحديد

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مدنية وهي تسع وعشرون آية

عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم نصبه فاقة أبدا» «١»
سورة الحديد
مدنية، وهي تسع وعشرون آية [نزلت بعد الزلزلة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
(١). أخرجه ابن وهب في جامعه حدثني السرى بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبى ظبية عن عبد الله بن مسعود تابعه يزيد بن أبى حكيم وعباس بن الفضل البصري كلاهما عن السرى. أخرجه البيهقي في الشعب من طريقهما.
وكذا رواه أبو يعلى من رواية محمد بن حبيب عن السرى. ورواه البيهقي في الشعب من رواية حجاج بن منهال عن السرى فقال: عن شجاع عن ابن فاطمة عن ابن مسعود. وكذا رواه أبو عبيد في فضائل القرآن من رواية السرى فقال: عن أبى ظبية، فاختلف أصحاب السرى. هل شيخه شجاع أو أبو شجاع. وكذا اختلفوا في شيخ شجاع هل هو أبو فاطمة أو أبو ظبية. ثم اختلفوا في ضبط أبى ظبية فعند الدارقطني بالطاء المهملة بعدها تحتانية، ثم موحدة وإنه عيسى بن سليمان الجرجاني. وأن روايته عن ابن مسعود منقطعة. ويؤيده أن الثعلبي أخرجه من طريق أبى بكر العطاردي عن السرى عن شجاع عن أبى ظبية الجرجاني. وعند البيهقي أنه بالمعجمة بعدها موحدة، ثم تحتانية، وأنه مجهول. وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. وشجاع لا أعرفه.
471
جاء في بعض الفواتح سَبَّحَ على لفظ الماضي، وفي بعضها على لفظ المضارع، وكل واحد منهما معناه: أنّ من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه، وذلك هجيراه وديدنه، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى وَتُسَبِّحُوهُ وأصله: التعدي بنفسه، لأنّ معنى سبحته: بعدته عن السوء، منقول من سبح إذا ذهب وبعد، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في: نصحته، ونصحت له. وإما أن يراد بسبح لله: أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصا، ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما يتأتى منه التسبيح ويصح. فإن قلت: ما محل يُحْيِي؟
قلت: يجوز أن لا يكون له محل، ويكون جملة برأسها، كقوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وأن يكون مرفوعا على: هو يحيى ويميت، ومنصوبا حالا من المجرور في لَهُ والجار عاملا فيها. ومعناه:
يحيى النطف والبيض والموتى يوم القيامة ويميت الأحياء هُوَ الْأَوَّلُ هو القديم الذي كان قبل كل شيء وَالْآخِرُ الذي يبقى بعد هلاك كل شيء وَالظَّاهِرُ بالأدلة الدالة عليه وَالْباطِنُ لكونه غير مدرك بالحواس. فإن قلت: فما معنى الواو؟ «١» قلت الواو الأولى معناها الدلالة «٢» على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن: جامع للظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس. وفي هذا حجة على من جوّز إدراكه «٣» في الآخرة بالحاسة. وقيل: الظاهر العالي على كل شيء الغالب له، من ظهر عليه إذا علاه وغلبه. والباطن الذي بطن كل شيء، أى علم باطنه، وليس بذاك مع العدول عن الظاهر المفهوم.
(١). قال محمود: «إن قلت: ما معنى الواو وأجاب بأن المتوسطة بين الأول والآخر للجمع بين معنى الأولية والبقاء الخ. قال: ومعنى الطاهر أى بالأدلة والباطن أى عن الحواس. وقيل: وفيه دليل الرد على من زعم أنه تعالى يرى في الآخرة بالحاسة» قال أحمد: «لا دليل فيه على ذلك، فان لنا أن نقول: إن المراد عدم الإدراك بالحاسة في الدنيا لا في الآخرة. ونحن نقول به، أو في الآخرة. والمراد: الكفار والجاحدون للرؤية كالقدرية ألا ترى إلى قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فانه قيل: تقييد وتخصيص على خلاف الظاهر. قلنا والمسألة قطعية، فيكفى الاحتمال. وأيضا فقسيمه لا بد فيه من تخصيص، فانه تعالى لم يظهر جميع خلقه على الأدلة الموصلة إلى معرفته، بل أخفاها عن كثير منهم وحرمهم الفوز بالايمان به عز وجل، فالظاهر إذا معناها في التخصيص كالثاني طبقا بينه وبين الأول.
(٢). قوله «قلت الواو الأولى معناها الدلالة»
الأولى إنما دلت على اجتماع الصفتين الأوليين، والثالثة على اجتماع الأقربين. والثانية على اجتماع المجموعين. (ع)
(٣). قوله «حجة على من جوز إدراكه» يريد أهل السنة، وهم قد جوزوا رؤيته مطلقا، وقالوا: لا تدركه الأبصار، أى لا تحيط به، والمعتزلة أحالوا رؤيته تعالى، وتفصيله في التوحيد. (ع)
472

[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ٨]

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعنى أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها، وخوّلكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة. وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنوّاب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه. أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم: بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم لا تُؤْمِنُونَ حال من معنى الفعل في مالكم، كما تقول: مالك قائما، بمعنى: ما تصنع قائما، أى: وما لكم كافرين بالله. والواو في وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ واو الحال، فهما حالان متداخلتان. وقرئ:
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ والمعنى: وأى عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان: حيث ركب فيكم العقول، «١» ونصب لكم الأدلة، ومكنكم من النظر، وأزاح عللكم، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول، فما لكم لا تؤمنون إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب ما، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه. وقرئ: أخذ ميثاقكم، «٢» على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٩]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩)
لِيُخْرِجَكُمْ الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. أو ليخرجكم الرسول بدعوته
(١). قال محمود: «أخذ الميثاق عبارة عن تركيب العقول فيهم... الخ» قال أحمد: وما عليه أن يحمل أخذ الميثاق على ما بينه الله في آية غير هذه، إذ يقول تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ولقد يريبني منه إنكاره لكثير من مثل هذه الظواهر والعدول بها عن حقائقها مع إمكانها عقلا ووقوعها بالسمع قطعا إلى ما يتوهمه من تمثيل يسميه تخييلا، فالقاعدة التي تعتمد عليها كى لا يضرك ما يومئ إليه أن ما كل ما جوزه العقل وورد بوقوعه السمع وجب حمله على ظاهره والله الموفق.
(٢). قوله «وقرئ: أخذ ميثاقكم» يفيد أن القراءة على البناء للمفعول أشهر. (ع)
لَرَؤُفٌ وقرئ لرؤوف «١».
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا في أن لا تنفقوا وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره، يعنى: وأى غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله. ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجا وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة أُولئِكَ الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:
«لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «٢» أَعْظَمُ دَرَجَةً. وقرئ:
قبل الفتح وَكُلًّا وكل واحد من الفريقين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أى المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرئ بالرفع على: وكل وعده الله. وقيل: نزلت في أبى بكر رضى الله عنه، لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله. القرض الحسن: الإنفاق في سبيله. شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز، لأنه إذا أعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه فَيُضاعِفَهُ لَهُ أى يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا «أضعافا» من فضله وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يعنى: وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه. وقرئ: فيضعفه. وقرئا منصوبين على جواب «٣» الاستفهام «والرفع عطف على يُقْرِضُ، أو على فَيُضاعِفَهُ.
(١). قوله وقرئ «لرؤوف» يفيد أن القراءة بالقصر أشهر، وفيه نظر فلينظر. وفي الصحاح: رؤف به- بالضم، ورأف به- بالفتح، ورئف به- بالكسر، فهو رؤف على فعول. قال كعب بن مالك الأنصارى:
نطيع نبينا ونطيع ربا هو الرحمن كان بنا رءوفا
ورؤف أيضا على فعل. قال جرير:
يرى للمسلمين عليه حقا كفعل الوالد الرؤوف الرحيم
والظاهر أن رسمه بواو واحدة حال المد والقصر، فيكون الأشهر قراءة المد، كما هو الأشهر في الاستعمال اللغوي. (ع)
(٢). متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه. [.....]
(٣). قوله «وقرئا منصوبين على جواب» أى قوله: فيضاعفه، وقوله فيضعفه. (ع)

[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٢]

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
يَوْمَ تَرَى ظرف لقوله: وله أجر كريم. أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيما لذلك اليوم. وإنما قال بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم، فجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية، لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون: سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدما. ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ. وقرئ: ذلك الفوز.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٣ الى ١٥]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
يَوْمَ يَقُولُ بدل من يوم ترى انْظُرُونا انتظرونا، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف «١» بهم. وهؤلاء مشاة. وانظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا اليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. وقرئ: أنظرونا من النظرة وهي الإمهال: جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه، وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً طرد لهم وتهكم بهم، أى: ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا نورا بتحصيل سببه وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا،
(١). قوله «تزف بهم» أى: تسرع. أفاده الصحاح. (ع)
فالتمسوا نورا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو تخييب وإقناط لهم فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ بين المؤمنين والمنافقين بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار. وقيل: هو الأعراف لذلك السور بابٌ لأهل الجنة يدخلون منه باطِنُهُ باطن السور أو الباب، وهو الشق الذي بلى الجنة وَظاهِرُهُ ما ظهر لأهل النار مِنْ قِبَلِهِ من عنده ومن جهته الْعَذابُ وهو الظلمة والنار. وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما: فضرب بينهم على البناء للفاعل أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم في الظاهر فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وهو الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وغرّكم الشيطان بأنّ الله عفوّ كريم لا يعذبكم. وقرئ: الغرور، بالضم فِدْيَةٌ ما يفتدى به هِيَ مَوْلاكُمْ قيل: هي أولى بكم، وأنشد قول لبيد:
فندت كلا الفرجين تحسب أنّه مولى المخافة خلفها وأمامها «١»
وحقيقة مولاكم: محراكم ومقمنكم «٢». أى: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، كما قيل: هو مئنة للكرم، أى مكان، لقول القائل: إنه لكريم. ويجوز أن يراد: هي ناصركم، أى لا ناصر لكم غيرها. والمراد: نفى الناصر على البتات. ونحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع «٣». ومنه قوله تعالى يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٦]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)
(١).
وتوجست رز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها
البيد من معلقته. يصف بقرة وحشية، توجست: أى تسمعت البقرة. والتوجس: التسمع. ويقال: رزت السماء رزا، بتقديم الراء إذا صوتت عند المطر فالرز بالفتح: التصويت الخفي، وبالكسر: اسم للصوت الخفي.
ورز: أى صوت الأنيس، وهم الصياد، فأفزعها بظهر الغيب. وإقحام الظهر في مثل هذا التركيب: مبالغة في الخفاء، لأن ما وراء الظهر لا يعلم ولا يدرى ما هو. وسمى الصياد أنيسا بالنسبة إلينا لا إليها، لأنه عناؤها وسبب خوفها، فجعله نفس السقام مبالغة. وكلا الفرحين: مبتدأ. وتحسب أنه مولى المخافة: خبر، أى أنه الأولى بالخوف من جهته. وخلفها وأمامها: خبر لمبتدإ محذوف، أو بدل من كلا الفرجين للتوضيح والتبيين، أى: لهما ما بين رجليها وما بين يديها، وبعضهم فسرهما بنقرنين في الجبل، وعليه فلا معنى للام العهد فيهما.
(٢). قوله «محراكم ومقمنكم» يقال: هو حرى أن يفعل كذا، وهو قمن أن يفعله، أى: جدير بذلك وحقيق به. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «فاستنصر الجزع» لعله: الجزع، أى: نقيض الصبر. (ع)
أَلَمْ يَأْنِ من أنى الأمر يأنى، إذا جاء إناه، أى. وقته. وقرئ: ألم يئن، من آن يئين بمعنى: أنى يأنى، وألما يأن، قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين «١». وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. وعن الحسن رضى الله عنه: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤن من القرآن أقل مما تقرءون. فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.
وعن أبى بكر رضى الله عنه أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديدا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وقرئ: نزّل ونزل. وأنزل وَلا يَكُونُوا عطف على تخشع، وقرئ بالتاء على الالتفات. ويجوز أن يكون نهيا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أنّ بنى إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره. فإن قلت:
ما معنى لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟ قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق: القرآن، لأنه جامع للأمرين: للذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً أراد بالأمد: الأجل، كقوله:
...... إذا انتهى أمده «٢»
وقرئ: الأمدّ، أى: الوقت الأطول وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٧]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
(١). أخرجه مسلم بلفظ «وبين أن عاتبنا الله» ووهم الحاكم فاستدركه.
(٢). قوله «كقوله إذا انتهي أمده» البيت من أوله:
كل حى مستكمل مدة العمر... ومود إذا انتهى أمده.... اه عليان
قلت: قد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٧٧ فراجعه إن شئت. اه مصححه.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيى الغيث الأرض.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٨]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
الْمُصَّدِّقِينَ المتصدّقين. وقرئ على الأصل. والمصدّقين من صدق، وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعنى المؤمنين. فإن قلت: علام عطف قوله وَأَقْرَضُوا؟ قلت: على معنى الفعل في المصدّقين، لأنّ اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا، كأنه قيل: إنّ الذين اصدقوا وأقرضوا. والقرض الحسن: أنّ يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة. وقرئ: يضعف، ويضاعف، بكسر العين، أى: يضاعف الله.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٩]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء: وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أى: مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم. فإن قلت: كيف يسوّى بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت: المعنى أنّ الله يعطى المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوى أجرهم مع أضعافه أجر أولئك.
ويجوز أن يكون وَالشُّهَداءُ مبتدأ، ولَهُمْ أَجْرُهُمْ خيره.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٠]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
أراد أنّ الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر.
وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام، وهي: العذاب الشديد والمغفرة ورضوان الله. وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل «١»
وأعجب به
(١). قوله «فاستوى واكتهل» في الصحاح: اكتهل النيات، أى: تم طوله وظهر نوره. (ع)
الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاما عقوبة لهم على جحودهم، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. وقيل الْكُفَّارَ:
الزراع. وقرئ: مصفارا
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢١]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
سابِقُوا سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار، إلى جنة عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قال السدى: كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين، وذكر العرض دون الطول، لأنّ كل ماله عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة:
عرف أنّ طوله أبسط وأمدّ. ويجوز أن يراد بالعرض: البسطة، كقوله تعالى فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة: بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك: وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة ذلِكَ الموعود من المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ عطاؤه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وهم المؤمنون.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
المصيبة في الأرض: نحو الجدب وآفات الزروع والثمار. وفي الأنفس: نحو الأدواء والموت فِي كِتابٍ في اللوح مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يعنى الأنفس أو المصائب إِنَّ ذلِكَ إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وإن كان عسيرا على العباد، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال لِكَيْلا تَأْسَوْا... وَلا تَفْرَحُوا يعنى أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي، لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا محالة: لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أنّ بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال: لم يعظم فرحه عند نيله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ
لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه: اختال وافتخر به وتكبر على الناس.
قرئ: بما آتاكم. وأتاكم، من الإيتاء والإتيان. وفي قراءة ابن مسعود: بما أوتيتم. فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه- عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها- أن لا يحزن ولا يفرح.
قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغى الملهى عن الشكر، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر: فلا بأس بهما الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون، يريد: الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم: يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم، وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته وَمَنْ يَتَوَلَّ عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتى: فإنّ الله غنى عنه. وقرئ: بالبخل. وقرأ نافع: فإنّ الله الغنى، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٥]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا يعنى الملائكة إلى الأنبياء بِالْبَيِّناتِ بالحجج والمعجزات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أى الوحى وَالْمِيزانَ روى أنّ جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة «١»
، والإبرة. وروى: ومعه المر والمسحاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض:
أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح «٢»
. وعن الحسن وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ: خلقناه، كقوله تعالى وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وهو القتال به وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم، فما من صناعة
(١). قوله «والميقعة والمطرقة... الخ» في الصحاح «الميقعة» : المطرقة. والميقعة- أيضا-: المسن الطويل.
والمر: الحبل، والمسحاة كالمجرفة، إلا أنها من حديد. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي من حديث ابن عمر، وفي إسناده من لا أعرفه.
إلا والحديد آلة فيها، أو ما يعمل بالحديد وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بِالْغَيْبِ غائبا عنهم، قال ابن عباس رضى الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ غنى بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)
وَالْكِتابَ والوحى. وعن ابن عباس: الخط بالقلم، يقال: كتب كتابا وكتابة مِنْهُمْ فمن الذرية أو من المرسل إليهم، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين. وهذا تفصيل لحالهم، أى: فمنهم مهتد ومنهم فاسق، والغلبة للفساق.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٧]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
قرأ الحسن: الإنجيل، بفتح الهمزة، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن رواهما بفتح الفاء، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب. وقرئ: رآفة، على: فعالة، أى: وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. ونحوه في صفة أصحاب رسول الله ﷺ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية: ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، «١»
وهو الخائف: فعلان من رهب، كخشيان من خشي. وقرئ: ورهبانية بالضم، كأنها نسبة إلى الرهبان: وهو جمع راهب كراكب وركبان، وانتصابها بفعل مضمر «٢»
يفسره
(١). قال محمود: «الرهبانية: الفعلة المنسوبة للرهبان... الخ» قال أحمد: وفيه إشكال، فان النسب إلى الجمع على صيغته غير مقبول عندهم حتى يرد إلى مفرده، إلا أن يقال: إنه لما صار الرهبان طائفة مخصوصة صار هذا الاسم- وإن كان جمعا- كالعلم لهم، فلحق بأنصارى ومدائنى وأعرابى.
(٢). قال محمود: «وهي منصوبة بفعل مضمر... الخ» قال أحمد: في إعراب هذه الآية تورط أبو على الفارسي وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة، فأعرب رهبانية على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر، وعلل امتناع العطف فقال: ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جَعَلْنا مع وصفها بقوله ابْتَدَعُوها لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم، والزمخشري ورد أيضا مورده الذميم، وأسلمه شيطانه الرجيم، فلما أجاز ما منعه أبو على من جعلها معطوفة: أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى التوفيق، فرارا مما فر منه أبو على: من اعتقاد أن ذلك مخلوق لله تعالى، وجنوحا إلى الاشراك واعتقاد أن ما يفعلونه هم لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه، وكفى بما في هذه الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه، فانه ذكر محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها القلب، فجعل قوله فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله، ولو كان المراد أمرا غير مخلوق في قلوبهم لله تعالى كما زعما: لم يبق لقوله في قلوب الذين اتبعوه موقع، ويأبى الله أن يشتمل كتابه الكريم على مالا موقع له، ألهمنا الله الحجة وتهج بنا واضح المحجة، إنه ولى التوفيق وواهب التحقيق.
الظاهر: تقديره. وابتدعوا رهبانية ابْتَدَعُوها يعنى: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ لم نفرضها نحن عليهم إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أى:
ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا يريد: أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الذين لم يحافظوا على نذرهم. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها، وابتدعوها: صفة لها في محل النصب، أى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم، بمعنى: وقفناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه، فما رعوها جميعا حق رعايتها، ولكن بعضهم، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم، وكثير منهم فاسقون. وهم الذين لم يرعوها.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يجوز أن يكون خطابا للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا «١»
من غيرهم، فإن كان خطابا لمؤمنى أهل الكتاب. فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد يُؤْتِكُمْ الله كِفْلَيْنِ أى نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله وَيَجْعَلْ لَكُمْ يوم القيامة نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وهو النور المذكور في قوله يَسْعى نُورُهُمْ. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٩]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
(١). قوله «والذين آمنوا» لعله والذين آمنوا. (ع)
482
لِئَلَّا يَعْلَمَ ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الذين لم يسلموا، ولا مزيدة أَلَّا يَقْدِرُونَ أن مخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يقدرون، يعنى: أنّ الشأن لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أى: لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين: والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله، ولم يكسبهم فضلا قط. وإن كان خطابا لغيرهم، فالمعنى:
اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ولا ينقصكم من مثل أجرهم، لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله. روى أنّ رسول الله ﷺ بعث جعفرا رضى الله عنه في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له، فقال ناس ممن آمن من أهل مملكته وهم أربعون رجلا. ائذن لنا في الوفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لهم فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعوا وقدموا بأموال لهم فآسوا بها المسلمين «١»
، فأنزل الله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ... إلى قوله... وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ فخروا على المسلمين وقالوا: أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرّتين، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فضلكم علينا؟ فنزلت. وروى أنّ مؤمنى أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرّتين، وادعوا الفضل عليهم، فنزلت. وقرئ لكي يعلم. ولكيلا يعلم. وليعلم. ولأن يعلم: بإدغام النون في الياء. ولين يعلم: بقلب الهمزة ياء وإدغام النون في الياء. وعن الحسن: ليلا يعلم، بفتح اللام وسكون الياء. ورواه قطرب بكسر اللام. وقيل في وجهها: حذفت همزة أن، وأدغمت نونها في لام لا، فصار «للا» ثم أبدلت من اللام المدغمة ياء، كقولهم: ديوان، وقيراط. ومن فتح اللام فعلى أن أصل لام الجرّ الفتح، كما أنشد:
أريد لأنسى ذكرها. «٢»..
(١). المعروف أن جعفر إنما قدم بعد أحد بزمان، قدم عند فتح خيبر. [.....]
(٢).
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
لقبس بن الملوح مجنون ليلى العامرية. وقيل: لكثير صاحب عزة، وكنى عنها بليلى تسترا. وقيل: سرقه كثير من شعر جميل صاحب بثنية. وقوله: لأنسى بفتح لام الجر على الأصل في الحروف المفردة، وتلك: لغة عكل، ويتعين فيها إذا دخلت على فعل منصوب بأن مضمرة كما هنا. وتروى بالكسر على اللغة المشهورة، أى: أريد لنسيان تذكرها، واللام زائدة، لكنها هي التي أشعرت بحذف «إن»، وتمثل: أصله تتمثل، أى تتشكل وتتخيل أمامى ليلى بكل طريق، إما الحسى وإما طريق الذكر، والأول أوجه، بدليل قوله «كأنما» وتمثلها له يوجب تذكرها. وما زائدة بعد كان، كافة لها عن العمل فلذلك دخلت على الفعل.
483
Icon