ﰡ
﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ ﴾؛ أخبارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسرَّهُ.
﴿ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾؛ التي بينَكمَ وبينهم وتُخبرونَهم بما يخبرُ به الرجلُ أهلَ مودَّتهِ.
﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ ﴾؛ جحَدُوا بما جاءَكم من الحقِّ يعني القرآنَ، ومع ذلك.
﴿ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي يُخرِجون الرسولَ من مكَّة ويخرجُونكم أيضاً من دياركم لأجلِ إيمانِكم بربكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي ﴾؛ هذا شرطٌ وجوابهُ متقدِّمٌ عليه وهو قولهُ ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾.
تقديرهُ: إنْ كُنتم خرَجتُم جِهَاداً مُجاهدِين في طاعتي وسُنَّتي ومتَّبعين مَرضَاتِي، فلا تتَّخذونَهم أولياءَ، وقولهُ تعالى: ﴿ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي ﴾ منصُوبان لأنَّهما مفعولٌ لَهما. وقوله تعالى: ﴿ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾؛ أي تُخفون مَودَّتَهم.
﴿ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾؛ وأنا أعلمُ بما تُضمِرُون في صُدوركم، وما تُظهرِون بأَلسِنَتِكُم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ ﴾؛ يعني الإسرارَ وإلقاءَ المودَّة إليهم.
﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ أي فقد أخطأَ طريقَ الهدى، والمعنى: ومَن يفعل منكم يا معشرَ المؤمنين ما فعلَ حاطبُ، فقد أخطأَ طريقَ الحقِّ والهدى.
﴿ وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾؛ بالقتلِ والضَّرب.
﴿ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ ﴾؛ بالشَّتمِ والطعنِ.
﴿ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾؛ ويحبُّون أن تكفُروا باللهِ بعد إيمانِكم كما أنَّهم كافرون، والمعنى: لا ينفعُكم التقرُّب إليهم بنقلِ أخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ﴾؛ فيُدخِلُ أهلَ طاعةِ الله الجنةَ، ويدخل أهلَ الكفرِ النارَ.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ.
﴿ بَصِيرٌ ﴾.
قرأ عاصمُ ويعقوب (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) بفتحِ الياء وكسر الصاد مخفَّفاً، وقرأ ابنُ عامر والأعرج (يُفَصَّلُ) بضمِّ الياء وفتحِ الصاد مشدَّداً، وقرأ طلحةُ والنخعي (نُفَصِّلُُ) بالنون وبضمَّة وكسرِ الصاد مشدَّداً، وقرأ الباقون (يُفْصَلُ) بضم الياء وفتح الصاد مخفَّفاً. ثُم ضربَ اللهُ لهم إبراهيمَ مَثلاً حين تبرَّأ من قومهِ فقال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾؛ أي قد كانت لكم قدوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ خليلِ الله والذين معَهُ من المؤمنين.
﴿ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ ﴾؛ لأقاربهم من الكفَّار: ﴿ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ ﴾؛ ومن دِينكم.
﴿ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ من الأصنامِ.
﴿ كَفَرْنَا بِكُمْ ﴾، تبرَّأنَا منكم.
﴿ وَبَدَا ﴾؛ وظهرَ.
﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ ﴾؛ بالفعلِ.
﴿ وَٱلْبَغْضَآءُ ﴾؛ بالقولِ.
﴿ أَبَداً ﴾؛ إلى الأبدِ.
﴿ حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ ﴾؛ تُقِرُّوا وتُصدِّقوا بوحدانيَّة اللهِ تعالى، فهلاَّ تأَسَّيتَ يا حاطبُ بإبراهيمَ في إظهارهِ مُعاداةَ الكفَّار، وقطعِ الموالاةِ بينكم وبينهم كما فعلهُ إبراهيم ومَن معهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ﴾؛ أي قد كانت لكم أسوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ وأمُورهِ، إلاَّ في قولهِ لأبيهِ لأستغفرن لك.
﴿ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾؛ إنْ عَصَيتَهُ، نُهُوا أن يتأَسَّوا بإبراهيمَ في هذا خاصَّة فيَستَغفِرُوا للمشركين. والمعنى: قد كانت لكم أسوةٌ حَسنةٌ في صُنعِ إبراهيمَ إلاَّ في استغفارهِ لأبيهِ وهو مشركٌ. ثم بيَّن اللهُ عُذرَهُ إبراهيمَ في سورةِ التَّوبة في استغفارهِ لأبيه فقالَ تعالى:﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾[التوبة: ١١٤] وكان هذا قبلَ إخبار الله تعالى أنْ لا يغفرَ أنْ يُشرَكَ به. وقولُ إبراهيم: ﴿ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ معناهُ: لا أقدرُ على دفعِ شيءٍ من عذاب الله عنكَ إنْ لم تُؤمِنْ. وكان من دعاءِ إبراهيمَ وأصحابهِ: ﴿ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ﴾؛ أي وَثِقْنا.
﴿ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا ﴾؛ أي فوَّضنَا أُمورَنا وإليك رجَعنا بالتَّوبةِ والطاعةِ.
﴿ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ أي لا تُظهِرِ الكفَّارَ عَلينا فيظُنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ فيُفتَنوا بها، هكذا قال قتادةُ. وعن ابنِ عبَّاس أنَّهُ قالَ: (مَعْنَاهُ: لاَ تُسَلِّطْهُمْ فَيَفْتِنُونَا). وقال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ: لاَ تُعَذِّبْنَا بأَيْدِيهِمْ وَلاَ بعَذابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أصَابَهُمْ هَذا).
ومعنى ﴿ يَرْجُو ٱللَّهَ ﴾ أي يخافُ اللهَ ويخافُ الآخرةَ.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ ﴾؛ أي مَن يُعرِضُ عن الإيمانِ ويُوالِي الكفارَ فإنَّ اللهَ هو الغنيُّ عن خلقهِ، الحميدُ إلى أوليائهِ وأهلِ طاعته. قال مقاتلُ: (فَلَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بعَدَاوَةِ الْكُفَّار أظْهَرُواْ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَرَاءَةَ امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) فأنزلَ اللهُ: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم ﴾؛ أي كونوا على رجاءٍ وطمعٍ في أن يجعلَ اللهُ بينكم وبين الذين عادَيتم من المشركين.
﴿ مَّوَدَّةً ﴾؛ يعني من كفار مكَّة. ففعلَ اللهُ ذلكَ بأن أسلمَ كثيرٌ منهم بعدَ الفتحِ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ؛ وأبو سُفيان بن الحارث؛ والحارثُ بنُ هشام؛ وسُهيل بن عمرٍو؛ وحَكمُ بن حِزام، وكانوا مِن رُؤساء الكفَّار والمعادِين لأهلِ الإسلامِ، فصارُوا لهم أولياءً وإخوَاناً، فخَالَطُوهم وناكَحُوهم، وتزوَّجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُمَّ حبيبةَ بنتِ أبي سُفيان بن حرب، فَلانَ لهم أبو سفيان، فهذه المودَّةُ التي جعلَها اللهُ تعالى بينَهم.
﴿ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ﴾؛ على أن يجعلَ بينكم المودَّة.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم بعد ما تَابُوا وأسلَمُوا.
﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾، والمعنى: لاَ ينهاكُم اللهُ عن برِّ الذين لم يُقاتِلُوكم، وهذا يدلُّ على جواز البرِّ بأهلِ الذمَّة وإنْ كانت الموالاةُ منقطعةً. ولذلك جوَّزَ أبو حَنيفة ومحمَّد صرفَ صدقةِ الفطرِ والكفَّارات والنُّذور الْمُطْلَقَةِ إليهم، وأجْمَعُوا على جواز صرفِ صدقةِ التطوُّع إليهم، وأجْمَعُوا على أنه لا يجوزُ صرفُ الزَّكَوَاتِ إليهم لقوله عليه السلام:" أُمِرْتُ أنْ آخُذ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ وَأرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ". وقولهُ تعالى: ﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ في موضعِ خفضٍ بدلَ من ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ كأنَّهُ قالَ عن أنْ تبَرُّوا الذين لم يُقاتِلُوكم، وقوله تعالى: ﴿ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾؛ القِسْطُ إليهم أن نُعطِيَهم قِسْطاً من أموالِنا على جهة البرِّ، ويقالُ: أقسطتُ إلى الرجُلِ اذا عامَلتهُ بالعدلِ، قال الزجَّاج: (مَعْنَاهُ: وَتَعْدِلُوا فِيْمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بالْعَهْدِ).
﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بمصالِحكم.
﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ فيما حكمَ بينكم وبينهم. قال الزهريُّ: (فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أقَرَّ الْمُسْلِمُونَ بحُكْمِ اللهِ فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَواْ أنْ يُقِرُّوا) فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ ﴾؛ معناهُ: إنْ ذهبَتِ امرأةٌ من نسائِكم إلى الكفَّار فعاقَبتم أي فَضَحْتُمْ. قال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ: فَكَانَتِ الْعُقْبَى لَكُمْ، أي كانت الغَلبةُ لكم حتى غَنِمتُم)، فأعطُوا أزواجَ الذين ذهبت نساؤُهم مثلَ ما أنفَقُوا من المهور، قبلَ أن تُقسَمَ الغنائمُ، ثم اقسموا الغنائمَ كما أمرَ اللهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي اتقوهُ في مخالفةِ ما أمَرَكم بهِ.
وعن عمرَ رضي الله عنه: (أنَّهُ سَمِعَ نَائِحَةً فَضَرَبَهَا حَتَّى وَقَعَ خِمَارُهَا عَنْ رَأسِهَا، فَقِيلَ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إنَّهَا قَدْ وَقعَ خِمَارُهَا، قَالَ: إنَّهَا لاَ حُرْمَةَ لَهَا).