ﰡ
وتسمى سورة النبي صلّى الله عليه وسلّم. مدينة، ثنتا عشرة آية، مائتان وتسع وأربعون كلمة، ألف وستون حرفا
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لم تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله تعالى لك من ملك اليمين أو من العسل.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم خلا بمارية في يوم حفصة وعلمت بذلك عائشة فقال لها: «اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي»، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقين فطلق حفصة، واعتزل نساءه، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية.
وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله طلقك، فنزل جبريل عليه السلام وقال له صلّى الله عليه وسلّم: راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وهذا قول الحسن ومجاهد، وقتادة، والشعبي، ومسروق، ورواية ثابت عن أنس ورواية البزار من حديث ابن عباس، ورواية الطبراني من حديث هريرة، ورواية الضياء من حديث عمرو الذي في الصحيحين أن الذي حرمه النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفسه هو شرب العسل، فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له: إنا نشم منك ريح المغافير، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة، فحرم العسل على نفسه فنزلت هذه الآية تَبْتَغِي أي تطلب بتحريم مارية أو العسل، مَرْضاتَ أَزْواجِكَ عائشة وحفصة وَاللَّهُ غَفُورٌ قد غفر لك هذه الزلة رَحِيمٌ (١) قد رحمك في تلك اليمين. وقد نقل جماعة من المفسرين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حلف أن لا يطأ جاريته، فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين، وأيضا أن أبا حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء، فإذا حرم شخص طعاما فقد حلف على أكله أو أمة، فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها، إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وإن نوى عددا كأن نوى ثنتين أو ثلاثا، فكما نوى، وإن قال: كل حلال علي حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا في الكفارة في النساء فقط وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي أوجب الله عليكم كفارة ككفارة أيمانكم أو قد بيّن الله
قال ابن عباس: لما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين، تحريم مارية على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده صلّى الله عليه وسلّم في أبي بكر وأبيها عمر، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ.
قرأ الجمهور بتشديد الراء، أي فلما أخبرت حفصة بسر النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة ظنا منها أنه لا حرج عليها في ذلك، وأطلع الله نبيه على ما أخبرت حفصة عائشة بين النبي لحفصة بعض ما قالت لعائشة من خلافة أبي بكر وعمر وعاتبها على ذلك خوفا من أن ينشر في الناس، فربما أثار حسد بعض المنافقين.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «ويلك ألم أقل لك اكتمي علي!» قالت: والذي بعثك بالحق نبيا ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خصّ الله تعالى بها أبي
. وقرأ الكسائي بالتخفيف أي جازى على ذلك البعض بأن طلق حفصة مجازاة على بعض ما فعلت، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي وسكت عن بعض من تحريم مارية القبطية على نفسه، ولم يلم حفصة على ذكر ذلك حياء وحسن عشرة، فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي فلما أخبر النبي حفصة بما قالت لعائشة قالَتْ أي حفصة: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر لعائشة، وقد ظننت أن عائشة هي التي أخبرته.
قالَ أي النبي صلّى الله عليه وسلّم: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) بقولك لعائشة وبقولي لك. إِنْ تَتُوبا يا حفصة ويا عائشة من إيذائكما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَى اللَّهِ تاب الله عليكما فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، إذ قد مالت قلوبهما عن الحق وأحبت ما كرهه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو اجتنابه جاريته. وقرئ «فقد زاغت». وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي وإن تتعاونا أنتما على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإيذاء لم يضره ذلك التعاون منكما، فإن الله ناصره، وجبريل رئيس الكروبيين وأبو بكر وعمر، كما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس وبه قال عكرمة ومقاتل، وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصر من ذكر ظَهِيرٌ (٤) أي أعوان له صلّى الله عليه وسلّم فقوله: جِبْرِيلُ عطف على محل اسم «إن» قبل دخولها وكذا «وصالح المؤمنين»، ف «مولاه» خبر عن الكل فيقدر بعد كل واحد منهما، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله تعالى:
مَوْلاهُ ويكون «جبريل» مبتدأ وما بعده عطف عليه، و «ظهير» خبرا لجميع. وقرأ الكوفيون «تظاهرا» بتخفيف الظاء وإسقاط إحدى التاءين. والباقون بتشديدها. وقرئ على الأصل أي بالتاءين، وقرئ «تظهرا». عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال. والباقون وهم أهل الكوفة بسكونها.
وقيل: قائمات بالليل للصلاة تائِباتٍ من الذنوب، عابِداتٍ أي كثيرات العبادات متذللات لأمر الرسول عليه السلام، سائِحاتٍ أي صائمات كما قاله ابن عباس، أو مهاجرات كما قاله الحسن. وقرئ «سيحات». ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) فالثيب: تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلا، وأسرع حبلا غالبا، والبكر: تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة غالبا، وسميت الثيب ثيبا، لأنها ثابت أي رجعت إلى بيت أبويها، وسميت العذراء بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي علموا أنفسكم ونساءكم وأولادكم الخير، وأدبوهم بأن تأمروهم بالخير وتنهوهم عن الشر تقوهم بذلك نارا، وقرئ «وأهلوكم» عطفا على «واو قوا» فيكون أنفسكم عبارة عن أنفس الكل، أي قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم نارا، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي حطبها الكفار وحجارة الكبريت. وقرئ «وقودها» بضم الواو عَلَيْها، أي النار مَلائِكَةٌ تسعة عشر وهم الزبانية، غِلاظٌ أي غلاظ القلوب لا يرحمون، إذا استرحموا خلقوا من الغضب وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب، شِدادٌ أي شداد الخلق، أقوياء على الأفعال الشديدة، لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ بدل اشتمال من الله، أي لا يعصون أمره، أو منصوب على نزع الخافض. أي فيما أمرهم به من عذاب أهل النار، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) أي يؤدون ما يؤمرون به من غير توان ويقولون للكفار عند ادخالهم النار: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إذ الاعتذار هو التوبة، وهي غير مقبولة بعد الدخول في النار فلا ينفعكم الاعتذار، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)، أي جزاء أعمالكم، أي إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي بالغة في النصح بأن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة، لا يعودون إليها، وقرأ شعبة بضم النون وهو مصدر، أي ذات نصوح أو تنصح نصوحا، أو توبوا لينصح أنفسكم. والباقون بفتحها فهو صفة مشبهة، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي أن يغفر لكم ذنوبكم بالتوبة وَيُدْخِلَكُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ظرف «ليدخلكم»، وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي صاحبوه في وصف الإيمان، والموصول إما معطوف على النبي وإما مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عند المشي على الصراط، وَبِأَيْمانِهِمْ أي ويسعى عنن إيمانهم عند الحساب، لأنهم يؤتون التاب بإيمانهم وفيه نور يَقُولُونَ أي المنافقين خائفين من أن يطفأ نورهم رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا أي أبق لنا نورنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨). وقيل: الذين يمرون على الصراط حبوا وزحفا هم
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي جعل الله حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان، واسمها آسية بنت مزاحم آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه، وتلقف العصا، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان، فإنه أوتدها بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة فقالت: رب نجني من فرعون، فرقى بروحها إلى الجنة، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، إِذْ قالَتْ- ظرف ل «مثلا» -: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أي رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ أي من نفسه الخبيثة، وَعَمَلِهِ السيئ، وهو شركه أو جماعه، كما قاله ابن عباس، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) أي من القبط التابعين له في الظلم، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الفواحش فإنها قذفت بالزنا فَنَفَخْنا فِيهِ أي في فرجها، كما قاله البقاعي. وقرئ فيها أي في مريم. وقال الرازي: وقوله تعالى فيه أي في عيسى ومن قرأ فيها في نفس عيسى، مِنْ رُوحِنا أي من روح خلقناه بلا توسط أصلا. والمعنى: أوصلنا إلى فرجها الريح الخارج من نفس جبريل لما نفخ في جيب قميصها، فوصل إليه، فحملت بعيسى، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها أي بالصحف المنزلة على إدريس وغيره. قال مقاتل: أي بعيسى ويدل عليه قراءة الحسن بكلمة ربها بالإفراد وقرئ «بكلمة الله». وَكُتُبِهِ، وقرأ أبو عمرو وحفص بصيغة الجمع أي بالكتب الأربعة، والباقون و «كتابه» بالإفراد أي وبكتابه المنزل عليه وهو الإنجيل، وقوله تعالى:
وَصَدَّقَتْ بالتخفيف والتشديد على أن مريم جعلت الكلمات والكتب صادقة بمعنى وصفتها بالصدق، وهو معنى التصديق بعينه وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢) أي من القوم المطيعين لله في الشدة والرخاء.
ومنها: أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ولا يأمن نفسه. ومنها: العلم بأن إحصان المرأة مفيد غاية الإفادة. ومنها: التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب وإلى الثواب بغير حساب، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب.