ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ». اسم عزيز يمهل من عصاه، فإذا رجع وناداه.. أجابه ولبّاه «١» فإن لم يتوسّل بصدق قدمه في ابتداء أمره ثم تنصّل بصدق ندمه في آخر عمره أوسعه غفرا «٢»، وقبل منه عذرا، وأكمل له ذخرا، وأجزل له برّا.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (٦٦) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١)جاء في القصة: أن النبي ﷺ حرّم على نفسه مارية القبطية، وفي الحال حلف ألّا يطأها شهرا مراعاة لقلب حفصة حيث رأت النبي ﷺ معها في يومها «٣».
وقيل: حرّم على نفسه شرب العسل لمّا قالت له زوجاته، إنّا نشم منك ريح المغافير! - والمغافير صمغ في البادية كريه الرائحة، ويقال:
بقلة كريهة الرائحة | فعاتبه الله على ذلك. |
(٢) هكذا في م وهي في ص (عفوا) وهي وإن كانت مقبولة إلا أن التركيب الموسيقى يجعلنا نؤثر (غفرا). [.....]
(٣) الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل الرسول (ص) بأم ولده مارية في بيت حفصة وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها فقالت: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هوانى عليك فقال لها:
لا تذكرى هذا لعائشة فهى حرام علىّ إن قربتها.
وقيل: لمّا رأته حفصة مع مارية في يومها قال لها: إنّى مسرّ إليك سرّا فلا تخبري أحدا: إنّ هذا الأمر يكون بعدي لأبى بكر ولأبيك.
ولكن حفصة ذكرت هذا لعائشة، وأوحى الله له بذلك، فسأل النبيّ حفصة: لم أخبرت عائشة بما قلت؟.
فقالت له: ومن أخبرك بذلك؟ قال أخبرنى الله، وعرّف حفصة بعض ما قالت، ولم يصرّح لها بجميع ما قالت، قال تعالى: «عَرَّفَ «١» بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ»، فعاتبها على بعض وأعرض عن بعض- على عادة الكرام.
ويقال: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا نزلت هذه الآية كان كثيرا ما يقول:
«اللهم إنى أعوذ بك من كل قاطع يقطعنى عنك».
وظاهر هذا الخطاب «٢» عتاب على أنّه مراعاة لقلب امرأته حرّم على نفسه ما أحلّ الله له.
والإشارة فيه: وجوب تقديم حقّ الله- سبحانه- على كل شىء في كل وقت.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٢ الى ٣]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣)
أنزل الله ذلك عناية بأمره عليه السلام، وتجاوزا عنه. وقيل: إنه كفّر بعتق رقبة، وعاود مارية.
(٢) أي «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ..»
إذا علّقت روحى حبيبا تعلّقت... به غير الأيام كى تسلبنّيه
وقد ألقى الله في قلب رسوله ﷺ تناسيا بينه وبين زوجاته فاعتزلهن «١»، وما كان من حديث طلاق حفصة، وما عاد إلى قلب أبيها، وحديث الكفاية، وإمساكه عن وطء مارية تسعا وعشرين ليلة... كل ذلك غيرة من الحق عليه، وإرادته- سبحانه- تشويش قلوبهم حتى يكون رجوعهم كلّهم إلى الله تعالى بقلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٤]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
عاتبهما على السير من خطرات القلب، ثم قال: «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ... ».
«صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» من لم يكن منهم في قلبه نفاق، مثل أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.
وجاء: أن عمر بن الخطاب لما سمع شيئا من ذلك قال لرسول الله:
لو أمرتنى لأضربنّ عنقها! «٢»
(٢) لما سمع عمر الناس بالمسجد يقولون: لقد طلق الرسول نساءه! غضب وذهب إلى بيت النبي ليعلم الأمر فذهب أولا إلى عائشة وقال: يا بنة أبى بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذى رسول الله؟ فقالت: يا بن الخطاب عليك بعيبتك، فاتجه إلى حفصة وقال: والله لقد علمت أن رسول الله لايحبك ولولا أنا لطلقك.. فبكت بكاء شديدا.
وذهب إلى رسول الله قائلا: والله لئن أمر في رسول الله بضرب عنق ابنتي لفعلت.
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٥ الى ٦]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)
ثم قال تعالى زيادة في العتاب وبيان القصة:
قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» أي: فقّهوهم، وأدّبوهم، وادعوهم إلى طاعة الله، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم.
ودلّت الآية: على وجوب الأمر بالمعروف في الدّين للأقرب فالأقرب.
وقيل: أظهروا من أنفسكم العبادات ليتعلّموا منكم، ويعتادوا كعادتكم.
ويقال: دلّو هم على السّنّة والجماعة.
ويقال: علّموهم الأخلاق الحسان.
ويقال: مروهم بقبول النصيحة.
«وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» : الوقود: الحطب.
ويقال: أمر الناس يصلح بحجرة أو مدرة، فإن أصل الإنسان مدرة، ولو أنه أقام حجرة مقام مدرة فلا غرو من فضل الله.
اللهمّ فألق فيها بدلنا حجرا وخلّصنا منها.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)
إذا فات الوقت استفحل الأمر، وانغلق الباب، وسقطت الحيل.. فالواجب البدار والفرار لتصل إلى روح القرار.
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
التوبة النصوح: هى التي لا يعقبها نقض.
ويقال: هى التي لا تراها من نفسك، ولا ترى نجاتك بها، وإنما تراها بربّك.
ويقال: هى أن تجد المرارة في قلبك عند ذكر الزّلّة كما كنت تجد الراحة لنفسك عند فعلها.
قوله جل ذكره: «يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
لا يخزى الله النبيّ بترك شفاعته، والذين آمنوا معه بافتضاحهم بعد ما قبل فيهم شفاعته.
«نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» عبّر بذلك عن أنّ الإيمان من جميع جهاتهم.
ويقال: بأيمانهم كتاب نجاتهم: أراد نور توحيدهم ونور معرفتهم ونور إيمانهم، وما يخصّهم الله به من الأنوار في ذلك اليوم.
«يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» : يستديمون التضرّع والابتهال في السؤال «١».
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
أمره بالملاينة في وقت الدعوة، وقال: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «٢» ثم لمّا أصرّوا- بعد بيان الحجّة- قال: «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» : لأن هذا في حال إصرارهم، وزوال أعذارهم.
(٢) آية ١٢٥ سورة النحل.
[سورة التحريم (٦٦) : آية ١٠]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)
لمّا سبقت لهما الفرقة يوم القسمة لم تنفعهما القربة يوم العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة التحريم (٦٦) : آية ١١]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١)
قالوا: صغرت همّتها حيث طلبت بيتا في الجنة، وكان من حقّها أن تطلب الكثير.. ولا كما توهّموا: فإنها قالت: ربّ ابن لى عندك، فطلبت جوار القربة، ولبيت في الجوار أفضل من ألف قصر في غير الجوار. ومن المعلوم أنّ العنديّة هنا عنديّة القربة والكرامة.. ولكنه على كل حال بيت له مزية على غيره، وله خصوصية. وفي معناه أنشدوا:
إنى لأحسد جاركم لجواركم | طوبى لمن أضحى لدارك جارا |
يا ليت جارك باعني من داره | شبرا لأعطيه بشبر دارا |
[سورة التحريم (٦٦) : آية ١٢]
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
ختم السورة بذكرها بعد ما ذكر امرأة فرعون، وهما من جملة النساء، ولمّا كثر في هذه السورة ذكر النساء أراد الله سبحانه ألّا يخلى السورة من ذكرها تخصيصا لقدرها «١»