تفسير سورة التحريم

تفسير الخازن
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف بـتفسير الخازن .
لمؤلفه الخازن . المتوفي سنة 741 هـ
( مدنية وهي اثنتا عشرة آية ومائتان وسبع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا )

سورة التحريم
(مدنية وهي اثنتا عشرة آية ومائتان وسبع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة التحريم (٦٦): آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذكر سبب نزولها، (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلواء والعسل وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت النبي صلّى الله عليه وسلّم منه شربة فقلت أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له يا رسول الله أكلت مغافير فإنه سيقول لا فقولي ما هذه الريح التي أجد وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي له جرست نحله العرفط وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفية ذلك فلما دخل على سودة قالت تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقا منك فلما دنا منها قالت له سودة يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال لا قالت فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال سقتني حفصة شربة عسل قال جرست نحله العرفط فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت له يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه قلت لها اسكتي» (ق) عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا فتواطيت أنا وحفصة أنا أيتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى قوله إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ لعائشة وحفصة وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً لقوله «بل شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا» زاد في رواية «يبتغي بذلك مرضاة أزواجه».
(شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما) قولها كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلواء والعسل الحلواء بالمد وهو كل شيء حلو وذكر العسل بعدها وإن كان داخلا في جملة الحلواء تنبيها على شرفه ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام قولها في الحديث الثاني فتواطيت أنا وحفصة هكذا ذكر في الرواية وأصله فتواطأت أي اتفقت أنا وحفصة قولها إني لأجد منك ريح مغافير هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة وبالفاء يكون بالحجاز وقيل العرفط نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة
وثمره خبيث الرائحة، وقال أهل اللغة العرفط من شجر العضاه وهو كل شجر له شوك، وقيل رائحته كرائحة النبيذ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يوجد منه رائحة كريهة قولها جرست نحله العرفط هو بالجيم والراء وبالسين المهملتين ومعناه أكلت نحله العرفط فصار منه العسل قولها في الحديث الثاني فقال شربت عسلا عند زينب بنت جحش وفي الحديث الأول أن الشرب كان عند حفصة بنت عمر بن الخطاب وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه قال القاضي عياض والصحيح الأول قال النسائي إسناد حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج صحيح حيد غاية وقال الأصيلي حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله وأكمل فائدة يريد قوله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وهما ثنتان لا ثلاثة وأنهما عائشة وحفصة كما اعترف به عمر في حديث ابن عباس وسيأتي الحديث قال وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى يعني الحديث الأول الذي فيه أن الشرب كان عند حفصة قال القاضي عياض: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم وكذا ذكره القرطبي أيضا وقال المفسرون في سبب النزول «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زيارة أبيها فأذن لها فلما خرجت أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة وخلا بها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال ما يبكيك؟ قالت إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقا ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد حرم عليه أمته مارية وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي بها صلّى الله عليه وسلّم فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلّى الله عليه وسلّم حتى حلف أن لا يقربها عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت له أمة يطؤها بها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية أخرجه النسائي قال العلماء الصحيح في سبب نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح قال النسائي إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية.
وأما التفسير فقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي من العسل أو ملك اليمين على اختلاف الرواية فيه وهذا التحريم تحريم امتناع عن الانتفاع بها أو بالعسل لا تحريم اعتقاد بكونه حراما بعد ما أحله الله فالنبي «صلّى الله عليه وسلّم امتنع عن الانتفاع بذلك مع اعتقاده أن ذلك حلال تبتغي مرضاة أزواجك أي تطلب رضاهن بترك ما أحل الله لك والله غفور رحيم أي غفر لك ذلك التحريم.
[سورة التحريم (٦٦): الآيات ٢ الى ٣]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي بين وأوجب لكم تحليل أيمانكم بالكفارة وهو ما ذكر في سورة المائدة فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويراجع أمته فأعتق رقبة وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي وليكم وناصركم وَهُوَ الْعَلِيمُ أي بخلقه الْحَكِيمُ أي فيما فرض من حكمه.
(فصل) اختلف العلماء في لفظ التحريم فقيل ليس هو بيمين فإن قال لزوجته أنت علي حرام أو قال حرمتك فإن
قوله تعالى :﴿ وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ﴾ يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم مارية على نفسه واستكتمها ذلك وهو قوله لا تخبري بذلك أحداً وقال ابن عباس أسر أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة قال الكلبي أسر إليها إن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقيل لما رأى الغيرة في وجه حفصة أراد أن يراضيها فسرها بشيئين بتحريم مارية على نفسه وأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر ﴿ فلما نبأت به ﴾ أي أخبرت بذلك حفصة عائشة ﴿ وأظهره الله عليه ﴾ أي أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على قول حفصة لعائشة ﴿ عرف بعضه ﴾ قرئ بتخفيف الراء أي عرف بعض الذي فعلته حفصة فغضب من إفشاء سره وجازاها عليه بأن طلقها فلما بلغ عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بمراجعتها وقيل لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل فقال لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وقرئ عرف بالتشديد، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها ﴿ وأعرض عن بعض ﴾ أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به قال الحسن ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم كره أن ينتشر ذلك في الناس ﴿ فلما نبأها به ﴾ أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ﴿ قالت ﴾ يعني حفصة ﴿ من أنبأك هذا ﴾ أي من أخبرك بأني أفشيت السر ﴿ قال نبأني العليم ﴾ أي بما تكنه الضمائر ﴿ الخبير ﴾ أي بخفيات الأمور.
نوى طلاقا فهو طلاق وإن نوى ظهارا فظهار وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقا عتقت وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين وإن قال لطعام حرمته على نفسي فلا شيء عليه وهذا قول أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين وإليه ذهب الشافعي وإن لم ينو شيئا ففيه قولان للشافعي أحدهما أنه يلزمه كفارة اليمين، والثاني لا شيء عليه وأنه لغو فلا يترتب عليه شيء من الأحكام وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطؤها وإن حرم طعاما فهو كما لو حلف أن لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» وفي رواية «إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» لفظ الحميدي.
قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم مارية على نفسه واستكتمها ذلك وهو قوله لا تخبري بذلك أحدا وقال ابن عباس أسر أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة قال الكلبي أسر إليها إن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقيل لما رأى الغيرة في وجه حفصة أراد أن يراضيها فسرها بشيئين بتحريم مارية على نفسه وأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت بذلك حفصة عائشة وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم على قول حفصة لعائشة عَرَّفَ بَعْضَهُ قرئ بتخفيف الراء أي عرف بعض الذي فعلته حفصة فغضب من إفشاء سره وجازاها عليه بأن طلقها فلما بلغ عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بمراجعتها وقيل لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل فقال لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وقرئ عرف بالتشديد، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به قال الحسن ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض والمعنى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلّى الله عليه وسلّم كره أن ينتشر ذلك في الناس فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه قالَتْ يعني حفصة مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ أي بما تكنه الضمائر الْخَبِيرُ أي بخفيات الأمور.
[سورة التحريم (٦٦): آية ٤]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
قوله عز وجل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ يخاطب عائشة وحفصة أي من التعاون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والإيذاء له فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما أن تتوبا وذلك بأن سرهما ما كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو اجتناب مارية، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتين قال الله عز وجل إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما حتى حج عمر وحججت معه فلما كان عمر ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة فتبرز ثم أتاني فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتان قال الله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما قال عمر وا عجبا لك يا ابن العباس قال الزهري كره منه ما سأله عنه ولم يكتمه قال هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني
313
فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت أتراجعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت نعم فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك يريد عائشة وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينزل يوما ويأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك وكنا نتحدث أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم قلت ماذا أجاءت غسان؟ قال لا بل أعظم من ذلك وأهول طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه قلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاما له أسود فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال قد ذكرتك له فصمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه فقلت أطلقت يا رسول الله نساءك فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله قد كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت إذ راجعتني فقالت ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله قد دخلت علي حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك فتبسم أخرى فقلت استأنس يا رسول الله قال نعم قال فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا
أهبة ثلاثة فقلت يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى» قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت «لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت في ليلة تسع وعشرين أعدهن فقال إن الشهر يكون تسعا وعشرين زاد في رواية وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة ثم قال يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ثم قال يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها حتى بلغ إلى قوله عظيما قالت عائشة قد علم رسول الله والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة»، زاد في رواية «أن عائشة قالت لا تخبر نساءك أني اخترتك فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا» ولمسلم عن ابن عباس عن عمر نحوه وفيه قال «دخلت عليه فقلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول فنزلت هذه الآية عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير»، وفيه أنه استأذن رسول
314
الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له وأنه قام على باب المسجد فنادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه.
(شرح بعض ألفاظه) قوله فعدلت معه بالإداوة أي فملت معه بالركوة فتبرز أي أتى البراز وهو الفضاء من الأرض لقضاء الحاجة.
العوالي جمع عالية وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة قوله ولا يغرنك أن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة أوسم منك أي أكثر حسنا وجمالا منك قوله فكنا نتناوب النزول التناوب هو أن يفعله الإنسان مرة ويفعله الآخر بعده المشربة بضم الراء وفتحها الغرفة قوله فإذا هو متكئ على رمال حصير يقال رملت الحصير إذا ضفرته ونسجته والمراد به أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير قوله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا أهبة ثلاثة الأهبة والأهب جمع إهاب وهو الجلد قوله من شدة موجدته الموجدة الغضب.
قوله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي تعاونا على إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي وليه وناصره وَجِبْرِيلُ يعني وجبريل وليه وناصره أيضا وإنما أفرده وإن كان داخلا في جملة الملائكة تعظيما له وتنبيها على علو منزلته ومكانته وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب صالح المؤمنين أبو بكر وعمر وقيل هم المخلصون من المؤمنين الذين ليسوا بمنافقين وقيل هم الأنبياء وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين ظَهِيرٌ أي أعوان للنبي صلّى الله عليه وسلّم ينصرونه.
[سورة التحريم (٦٦): آية ٥]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)
عَسى رَبُّهُ أي واجب من الله إِنْ طَلَّقَكُنَّ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ثم وصف الأزواج اللواتي كان يزوجه بهن فقال مُسْلِماتٍ أي خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِناتٍ أي مصدقات بتوحيد الله تعالى: قانِتاتٍ أي طائعات وقيل داعيات وقيل مصليات بالليل تائِباتٍ أي تاركات للذنوب، لقبحها أو كثيرات التوبة عابِداتٍ وكثيرات العبادة سائِحاتٍ أي صائمات وقيل مهاجرات وقيل يسحن معه حيث ساح ثَيِّباتٍ جمع ثيب وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه وَأَبْكاراً أي عذارى جمع بكر وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه لا يطلقهن فأخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله أزواجا خيرا منهن تخويفا لهن.

[سورة التحريم (٦٦): الآيات ٦ الى ٩]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس بالانتهاء عما نهاكم الله عنه والعمل بطاعته وَأَهْلِيكُمْ يعني مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدبوهم تقوهم بذلك، ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ يعني الكبريت، لأنه أشد الأشياء حرا وأسرع إيقادا عَلَيْها مَلائِكَةٌ يعني خزنة النار وهم الزبانية غِلاظٌ أي فظاظ على أهل النار شِدادٌ يعني أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا في النار لم يخلق الله الرحمة فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ أي لا يخالفون الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامره والانتقام من أعدائه يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم وذلك حين يعاينون النار وشدتها لأنه قد قدم إليهم الإنذار والإعذار فلا ينفعهم الاعتذار لأنه غير مقبول بعد دخول النار إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني أن أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى الذنب الذي تاب منه قال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ومعاذ التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود إليه وقال الكلبي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال سعيد بن المسيب معناه توبة تنصحون بها أنفسكم وقال محمد بن كعب القرظي التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان.
(فصل) وقال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاث شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحا وإن فقد شرط منها لم تصح توبته فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة المتقدمة والرابع أن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت المعصية مالا ونحوه رده إلى صاحبه وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه من نفسه أو طلب عفوه وإن كانت غيبة استحله منها ويجب أن يتوب العبد من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته من ذلك الذنب وبقي عليه ما لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة (م) عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة» (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة الحديث (م) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
وقوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ هذا إطماع من الله تعالى لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلا وتكرما لا وجوبا عليه وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
أي لا يعذبهم بدخول النار نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يعني على الصراط يَقُولُونَ رَبَّنا يعني إذا انطفأ نورا المنافقين أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تقدم تفسيره.
﴿ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ﴾ أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم وذلك حين يعاينون النار وشدتها لأنه قد قدم إليهم الإنذار والإعذار فلا ينفعهم الاعتذار لأنه غير مقبول بعد دخول النار ﴿ إنما تجزون ما كنتم تعملون ﴾ يعني أن أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب.
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ﴾ أي ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى الذنب الذي تاب منه قال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ومعاذ التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود إليه وقال الكلبي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال سعيد بن المسيب معناه توبة تنصحون بها أنفسكم وقال محمد بن كعب القرظي التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان.
( فصل )
وقال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاث شروط :
أحدها : أن يقلع عن المعصية ؛ والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحاً وإن فقد شرط منها لم تصح توبته فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة المتقدمة والرابع أن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت المعصية مالاً ونحوه رده إلى صاحبه وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه من نفسه أو طلب عفوه وإن كانت غيبة استحله منها ويجب أن يتوب العبد من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته من ذلك الذنب وبقي عليه ما لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة ( م ) عن الأغر بن يسار المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة " ( خ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة "، ( ق ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة " الحديث ( م ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
وقوله تعالى :﴿ عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ﴾ هذا إطماع من الله تعالى لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلاً وتكرماً لا وجوباً عليه ﴿ ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ أي لا يعذبهم بدخول النار ﴿ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ يعني على الصراط ﴿ يقولون ربنا ﴾ يعني إذا انطفأ نور المنافقين ﴿ أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ﴾.

[سورة التحريم (٦٦): الآيات ١٠ الى ١٢]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي بين شبها وحالا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها واعلة وَامْرَأَتَ لُوطٍ واسمها واهلة وقيل اسمها والعة ووالهة كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ وهما نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وقوله من عبادنا إضافة تشريف وتعظيم فَخانَتاهُما قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما وكانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن أحد أخبرت به الجبابرة من قومها وأما امرأة لوط فإنها كانت تدل قومها على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار وإذا نزل به ضيف بالنهار دخنت لتعلم قومها بذلك وقيل أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لم يدفعا عن امرأتيهما مع نبوتهما عذاب الله وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وهذا مثل ضربه الله تعالى للصالحين والصالحات من النساء وأنه لا ينفع العاصي طاعة غيره ولا يضر المطيع معصية غيره وإن كانت القرابة متصلة بينهم وأن القريب كالأجانب بل أبعد وإن كان القريب الذي يتصل به الكافر نبيا كامرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان عن امرأتيهما شيئا فقطع بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية ويتكل على صلاح غيره وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ثم ضرب مثلا آخر يتضمن أن معصية الغير لا تضره إذا كان مطيعا وأن وصلة المسلم بالكافر لا تضر المؤمن فقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ يعني آسية بنت مزاحم قال المفسرون لما غلب موسى السحرة آمنت به امرأة فرعون فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس فكانت تعذب في الشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف الله لها عن بيتها في الجنة وقيل إن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة، من درة بيضاء وانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألما وقيل رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي تأكل وتشرب فيها وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ يعني وشركه وقال ابن عباس عمله يعني جماعه وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي عن الفواحش والمحصنة العفيفة فَنَفَخْنا فِيهِ أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية مِنْ رُوحِنا إضافة تمليك وتشريف كبيت الله وناقة الله وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها يعني الشرائع التي شرعها الله لعباده بكلماته المنزلة على أنبيائه وَكُتُبِهِ يعني الكتب المنزلة على إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ يعني كانت من القوم القانتين أي المطيعين وهم رهطها وعشيرتها لأنهم كانوا أهل بيت صلاح وطاعة الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح. والله أعلم بمراده.
فقال تعالى :﴿ وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ﴾ يعني آسية بنت مزاحم قال المفسرون لما غلب موسى السحرة آمنت به امرأة فرعون فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس فكانت تعذب في الشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة ﴿ إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ﴾ فكشف الله لها عن بيتها في الجنة وقيل إن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة، من درة بيضاء وانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألماً وقيل رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي تأكل وتشرب فيها ﴿ ونجني من فرعون عمله ﴾ يعني وشركه وقال ابن عباس عمله يعني جماعه ﴿ ونجني من القوم الظالمين ﴾ يعني الكافرين.
﴿ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها ﴾ أي عن الفواحش والمحصنة العفيفة ﴿ فنفخنا فيه ﴾ أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية ﴿ من روحنا ﴾ إضافة تمليك وتشريف كبيت الله وناقة الله ﴿ وصدقت بكلمات ربها ﴾ يعني الشرائع التي شرعها الله لعباده بكلماته المنزلة على أنبيائه ﴿ وكتبه ﴾ يعني الكتب المنزلة على إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ﴿ وكانت من القانتين ﴾ يعني كانت من القوم القانتين أي المطيعين وهم رهطها وعشيرتها لأنهم كانوا أهل بيت صلاح وطاعة الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون » أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح. والله أعلم بمراده.
Icon