تفسير سورة عبس

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة عبس من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

عَبَسَ وَتَوَلَّى
" عَبَسَ " أَيْ كَلَحَ بِوَجْهِهِ ; يُقَال : عَبَسَ وَبَسَرَ.
" وَتَوَلَّى " أَيْ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ قَالَ مَالِك : إِنَّ هِشَام بْن عُرْوَة حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَة، أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم ; جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُول : يَا مُحَمَّد اسْتَدْنِنِي، وَعِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر، وَيَقُول :( يَا فُلَان، هَلْ تَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ) ؟ فَيَقُول :[ لَا وَالدُّمَى مَا أَرَى بِمَا تَقُول بَأْسًا ] ; فَأَنْزَلَ اللَّه :" عَبَسَ وَتَوَلَّى ".
وَفِي التِّرْمِذِيّ مُسْنَدًا قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَى بْن سَعِيد الْأُمَوِيّ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ هَذَا مَا عَرَضْنَا عَلَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى، أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ، يَقُول : يَا رَسُول اللَّه أَرْشِدْنِي، وَعِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ، وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر، وَيَقُول :[ أَتَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ] فَيَقُول : لَا ; فَفِي هَذَا نَزَلَتْ ; قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب.
الْآيَة عِتَاب مِنْ اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِعْرَاضه وَتَوَلِّيه عَنْ عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم.
وَيُقَال : عَمْرو بْن أُمّ مَكْتُوم، وَاسْم أُمّ مَكْتُوم عَاتِكَة بِنْت عَامِر بْن مَخْزُوم، وَعَمْرو هَذَا : هُوَ اِبْن قَيْس بْن زَائِدَة بْن الْأَصَمّ، وَهُوَ اِبْن خَال خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا.
وَكَانَ قَدْ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ، يُقَال كَانَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا قَوْل عُلَمَائِنَا إِنَّهُ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة فَقَدْ قَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْعَبَّاس وَهَذَا كُلّه بَاطِل وَجَهْل مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا الدِّين، ذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْوَلِيد كَانَا بِمَكَّة وَابْن أُمِّ مَكْتُوم كَانَ بِالْمَدِينَةِ، مَا حَضَرَ مَعَهُمَا وَلَا حَضَرَا مَعَهُ، وَكَانَ مَوْتهمَا كَافِرَيْنِ، أَحَدهمَا قَبْل الْهِجْرَة، وَالْآخَر بِبَدْرٍ، وَلَمْ يَقْصِد قَطُّ أُمَيَّة الْمَدِينَة، وَلَا حَضَرَ عِنْده مُفْرَدًا، وَلَا مَعَ أَحَد.
أَقْبَلَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَغِل بِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ وُجُوه قُرَيْش يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَقَدْ قَوِيَ طَمَعه فِي إِسْلَامهمْ وَكَانَ فِي إِسْلَامهمْ إِسْلَام مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمهمْ، فَجَاءَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَهُوَ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّه، وَجَعَلَ يُنَادِيه وَيُكْثِر النِّدَاء، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُشْتَغِل بِغَيْرِهِ، حَتَّى ظَهَرَتْ الْكَرَاهَة فِي وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِهِ كَلَامه، وَقَالَ فِي نَفْسه : يَقُول هَؤُلَاءِ : إِنَّمَا أَتْبَاعه الْعُمْيَان وَالسَّفَلَة وَالْعَبِيد ; فَعَبَسَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَة.
قَالَ الثَّوْرِيّ : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ إِذَا رَأَى اِبْن أُمّ مَكْتُوم يَبْسُط لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُول :[ مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي ].
وَيَقُول :[ هَلْ مِنْ حَاجَة ] ؟ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَة مَرَّتَيْنِ فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا.
قَالَ أَنَس : فَرَأَيْته يَوْم الْقَادِسِيَّة رَاكِبًا وَعَلَيْهِ دِرْع وَمَعَهُ رَايَة سَوْدَاء.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَا فَعَلَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم كَانَ مِنْ سُوء الْأَدَب لَوْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْغُول بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجُو إِسْلَامَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاتَبَهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِر قُلُوب أَهْل الصُّفَّة ; أَوْ لِيُعْلِم أَنَّ الْمُؤْمِن الْفَقِير خَيْر مِنْ الْغَنِيّ، وَكَانَ النَّظَر إِلَى الْمُؤْمِن أَوْلَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَصْلَح وَأَوْلَى مِنْ الْأَمْر الْآخَر، وَهُوَ الْإِقْبَال عَلَى الْأَغْنِيَاء طَمَعًا فِي إِيمَانهمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَوْعًا مِنْ الْمَصْلَحَة، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج قَوْل تَعَالَى :" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُون لَهُ أَسْرَى " [ الْأَنْفَال : ٦٧ ] الْآيَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : إِنَّمَا قَصَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْلِيف الرَّجُل، ثِقَة بِمَا كَانَ فِي قَلْب اِبْن مَكْتُوم مِنْ الْإِيمَان ; كَمَا قَالَ :[ إِنِّي لَأَصِلُ الرَّجُل، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، مَخَافَة أَنْ يُكِبّهُ اللَّه فِي النَّار عَلَى وَجْهه ].
قَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّمَا عَبَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ أُمّ مَكْتُوم وَأَعْرَضَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الَّذِي كَانَ يَقُودهُ أَنْ يَكُفَّهُ، فَدَفَعَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم، وَأَبَى إِلَّا أَنْ يُكَلِّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعَلِّمَهُ، فَكَانَ فِي هَذَا نَوْع جَفَاء مِنْهُ.
وَمَعَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّه فِي حَقِّهِ عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" عَبَسَ وَتَوَلَّى " بِلَفْظِ الْإِخْبَار عَنْ الْغَائِب، تَعْظِيمًا لَهُ وَلَمْ يَقُلْ : عَبَسْت وَتَوَلَّيْت.
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى
" أَنْ جَاءَهُ " " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب لِأَنَّهُ مَفْعُول لَهُ، الْمَعْنَى لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، أَيْ الَّذِي لَا يُبْصِر بِعَيْنَيْهِ.
فَرَوَى أَهْل التَّفْسِير أَجْمَع أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَشْرَاف قُرَيْش كَانُوا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامهمْ، فَأَقْبَلَ عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم، فَكَرِهَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَع عَبْد اللَّه عَلَيْهِ كَلَامه، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
قَالَ مَالِك : إِنَّ هِشَام بْن عُرْوَة حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَة، أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم ; جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُول : يَا مُحَمَّد اسْتَدْنِنِي، وَعِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر، وَيَقُول :[ يَا فُلَان، هَلْ تَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ] ؟ فَيَقُول :[ لَا وَالدُّمَى مَا أَرَى بِمَا تَقُول بَأْسًا ] ; فَأَنْزَلَ اللَّه :" عَبَسَ وَتَوَلَّى ".
وَفِي التِّرْمِذِيّ مُسْنَدًا قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَى بْن سَعِيد الْأُمَوِيّ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ هَذَا مَا عَرَضْنَا عَلَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ : نَزَلَتْ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى، أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ، يَقُول : يَا رَسُول اللَّه أَرْشِدْنِي، وَعِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِض عَنْهُ، وَيُقْبِل عَلَى الْآخَر، وَيَقُول :[ أَتَرَى بِمَا أَقُول بَأْسًا ] فَيَقُول : لَا ; فَفِي هَذَا نَزَلَتْ ; قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب.
الْآيَة عِتَاب مِنْ اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِعْرَاضه وَتَوَلِّيه عَنْ عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم.
وَيُقَال : عَمْرو بْن أُمّ مَكْتُوم، وَاسْم أُمّ مَكْتُوم عَاتِكَة بِنْت عَامِر بْن مَخْزُوم، وَعَمْرو هَذَا : هُوَ اِبْن قَيْس بْن زَائِدَة بْن الْأَصَمّ، وَهُوَ اِبْن خَال خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا.
وَكَانَ قَدْ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ، يُقَال كَانَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة.
اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَهُ الْمَالِكِيَّة مِنْ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ يُكَنَّى أَبَا عَبْد شَمْس.
وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ أُمَيَّة بْن خَلَف وَعَنْهُ : أُبَيّ بْن خَلْف.
وَقَالَ مُجَاهِد : كَانُوا ثَلَاثَة عُتْبَة وَشَيْبَة اِبْنَا رَبِيعَة وَأُبَيّ بْن خَلْف.
وَقَالَ عَطَاء عُتْبَة بْن رَبِيعَة.
سُفْيَان الثَّوْرِيّ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَمّه الْعَبَّاس.
الزَّمَخْشَرِي : كَانَ عِنْده صَنَادِيد قُرَيْش : عُتْبَة وَشَيْبَة اِبْنَا رَبِيعَة، وَأَبُو جَهْل بْن هِشَام، وَالْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب، وَأُمِّيَّة بْن خَلَف، وَالْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام، رَجَاء أَنْ يُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ غَيْرُهُمْ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا قَوْل عُلَمَائِنَا إِنَّهُ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة فَقَدْ قَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْعَبَّاس وَهَذَا كُلّه بَاطِل وَجَهْل مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا الدِّين، ذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّة بْن خَلَف وَالْوَلِيد كَانَا بِمَكَّة وَابْن أُمّ مَكْتُوم كَانَ بِالْمَدِينَةِ، مَا حَضَرَ مَعَهُمَا وَلَا حَضَرَا مَعَهُ، وَكَانَ مَوْتهمَا كَافِرَيْنِ، أَحَدهمَا قَبْل الْهِجْرَة، وَالْآخَر بِبَدْرٍ، وَلَمْ يَقْصِد قَطُّ أُمَيَّة الْمَدِينَة، وَلَا حَضَرَ عِنْده مُفْرَدًا، وَلَا مَعَ أَحَد.
أَقْبَلَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَغِل بِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ وُجُوه قُرَيْش يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَقَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِسْلَامهمْ وَكَانَ فِي إِسْلَامهمْ إِسْلَامُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمهمْ، فَجَاءَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَهُوَ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّه، وَجَعَلَ يُنَادِيه وَيُكْثِر النِّدَاء، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُشْتَغِل بِغَيْرِهِ، حَتَّى ظَهَرَتْ الْكَرَاهَة فِي وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِهِ كَلَامه، وَقَالَ فِي نَفْسه : يَقُول هَؤُلَاءِ : إِنَّمَا أَتْبَاعه الْعُمْيَان وَالسَّفَلَة وَالْعَبِيد ; فَعَبَسَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَة.
قَالَ الثَّوْرِيّ : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ إِذَا رَأَى اِبْن أُمّ مَكْتُوم يَبْسُط لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُول :[ مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي ].
وَيَقُول :[ هَلْ مِنْ حَاجَة ] ؟ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَة مَرَّتَيْنِ فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا.
قَالَ أَنَس : فَرَأَيْته يَوْم الْقَادِسِيَّة رَاكِبًا وَعَلَيْهِ دِرْع وَمَعَهُ رَايَة سَوْدَاء.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَا فَعَلَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم كَانَ مِنْ سُوء الْأَدَب لَوْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْغُول بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجُو إِسْلَامهمْ، وَلَكِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاتَبَهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِر قُلُوب أَهْل الصُّفَّة ; أَوْ لِيُعْلِم أَنَّ الْمُؤْمِن الْفَقِير خَيْر مِنْ الْغَنِيّ، وَكَانَ النَّظَر إِلَى الْمُؤْمِن أَوْلَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَصْلَحَ وَأَوْلَى مِنْ الْأَمْر الْآخَر، وَهُوَ الْإِقْبَال عَلَى الْأَغْنِيَاء طَمَعًا فِي إِيمَانهمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَوْعًا مِنْ الْمَصْلَحَة، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج قَوْله تَعَالَى :" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُون لَهُ أَسْرَى " [ الْأَنْفَال : ٦٧ ] الْآيَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : إِنَّمَا قَصَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْلِيف الرَّجُل، ثِقَة بِمَا كَانَ فِي قَلْب اِبْن مَكْتُوم مِنْ الْإِيمَان ; كَمَا قَالَ :[ إِنِّي لَأَصِلُ الرَّجُل وَغَيْره أَحَبّ إِلَيَّ مِنْهُ، مَخَافَة أَنْ يُكِبّهُ اللَّه فِي النَّار عَلَى وَجْهه ].
قَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّمَا عَبَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ أُمّ مَكْتُوم وَأَعْرَضَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الَّذِي كَانَ يَقُودهُ أَنْ يَكُفَّهُ، فَدَفَعَهُ اِبْن أُمّ مَكْتُوم، وَأَبَى إِلَّا أَنْ يُكَلِّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعَلِّمَهُ، فَكَانَ فِي هَذَا نَوْع جَفَاء مِنْهُ.
وَمَعَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّه فِي حَقّه عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" عَبَسَ وَتَوَلَّى " بِلَفْظِ الْإِخْبَار عَنْ الْغَائِب، تَعْظِيمًا لَهُ وَلَمْ يَقُلْ : عَبَسْت وَتَوَلَّيْت.
وَقَرَأَ الْحَسَن " آأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى " بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَام فَـ " أَنْ " مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " التَّقْدِير : آأَنْ جَاءَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَوَلَّى ؟ فَيُوقَف عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة عَلَى " وَتَوَلَّى "، وَلَا يُوقَف عَلَيْهِ عَلَى قِرَاءَة الْخَبَر، وَهِيَ قِرَاءَة الْعَامَّة.
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِمُوَاجَهَةِ الْخِطَاب تَأْنِيسًا لَهُ فَقَالَ :" وَمَا يُدْرِيك " أَيْ يُعْلِمك " لَعَلَّهُ " يَعْنِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم " يَزَّكَّى " بِمَا اِسْتَدْعَى مِنْك تَعْلِيمَهُ إِيَّاهُ مِنْ الْقُرْآن وَالدِّين، بِأَنْ يَزْدَاد طَهَارَة فِي دِينه، وَزَوَال ظُلْمَة الْجَهْل عَنْهُ.
وَقِيلَ : الضَّمِير فِي " لَعَلَّهُ " لِلْكَافِرِ يَعْنِي إِنَّك إِذَا طَمِعْت فِي أَنْ يَتَزَكَّى بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَذَّكَّر، فَتُقَرِّبهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُول الْحَقّ وَمَا يُدْرِيك أَنَّ مَا طَمِعْت فِيهِ كَائِن.
وَقَرَأَ الْحَسَن " آأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى " بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَام فَـ " أَنْ " مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ " عَبَسَ وَتَوَلَّى " التَّقْدِير : آأَنْ جَاءَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَوَلَّى ؟ فَيُوقَف عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة عَلَى " وَتَوَلَّى "، وَلَا يُوقَف عَلَيْهِ عَلَى قِرَاءَة الْخَبَر، وَهِيَ قِرَاءَة الْعَامَّة.
نَظِير هَذِهِ الْآيَة فِي الْعِتَاب قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْعَام :" وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ " [ الْأَنْعَام : ٥٢ ] وَكَذَلِكَ قَوْله فِي سُورَة الْكَهْف :" وَلَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ تُرِيد زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا " [ الْكَهْف : ٢٨ ] وَمَا كَانَ مِثْله، وَاَللَّه أَعْلَم.
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى
" أَوْ يَذَّكَّر " يَتَّعِظ بِمَا تَقُول " فَتَنْفَعهُ الذِّكْرَى " أَيْ الْعِظَة.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " فَتَنْفَعُهُ " بِضَمِّ الْعَيْن، عَطْفًا عَلَى " يَزَّكَّى ".
وَقَرَأَ عَاصِم وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَعِيسَى " فَتَنْفَعَهُ " نَصْبًا.
وَهِيَ قِرَاءَة السُّلَمِيّ وَزِرّ بْن حُبَيْش، عَلَى جَوَاب لَعَلَّ ; لِأَنَّهُ غَيْر مُوجَب ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" لَعَلِّي أَبْلُغ الْأَسْبَاب " [ غَافِر : ٣٦ ] ثُمَّ قَالَ :" فَأَطَّلِعَ " [ الصَّافَّات : ٥٥ ].
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
أَيْ كَانَ ذَا ثَرْوَة وَغِنًى
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى
أَيْ تَعَرَّض لَهُ، وَتُصْغِي لِكَلَامِهِ.
وَالتَّصَدِّي : الْإِصْغَاء ; قَالَ الرَّاعِي :
تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ سِرَاجُ الدُّجَى يَحْنِي إِلَيْهِ الْأَسَاوِرُ
وَأَصْلُهُ تَتَصَدَّد مِنْ الصَّدّ، وَهُوَ مَا اِسْتَقْبَلَك، وَصَارَ قُبَالَتك ; يُقَال : دَارِي صَدَد دَارِهِ أَيْ قُبَالَتهَا، نَصْب عَلَى الظَّرْف.
وَقِيلَ : مِنْ الصَّدَى وَهُوَ الْعَطَش.
أَيْ تَتَعَرَّض لَهُ كَمَا يَتَعَرَّض الْعَطْشَان لِلْمَاءِ، وَالْمُصَادَاة : الْمُعَارَضَة.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " تَصَدَّى " بِالتَّخْفِيفِ، عَلَى طَرْح التَّاء الثَّانِيَة تَخْفِيفًا.
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن مُحَيْصِن بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْإِدْغَام.
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى
أَيْ لَا يَهْتَدِي هَذَا الْكَافِر وَلَا يُؤْمِن، إِنَّمَا أَنْتَ رَسُول، مَا عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ.
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى
يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلَّهِ
وَهُوَ يَخْشَى
أَيْ يَخَاف اللَّه.
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى
أَيْ تُعْرِض عَنْهُ بِوَجْهِك وَتُشْغَل بِغَيْرِهِ.
وَأَصْله تَتَلَهَّى ; يُقَال : لَهِيت عَنْ الشَّيْء أَلْهَى : أَيْ تَشَاغَلْت عَنْهُ.
وَالتَّلَهِّي : التَّغَافُل.
وَلَهِيت عَنْهُ وَتَلِيت : بِمَعْنًى.
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
" كَلَّا " كَلِمَة رَدْع وَزَجْر ; أَيْ مَا الْأَمْر كَمَا تَفْعَل مَعَ الْفَرِيقَيْنِ ; أَيْ لَا تَفْعَل بَعْدهَا مِثْلهَا : مِنْ إِقْبَالِك عَلَى الْغَنِيّ، وَإِعْرَاضك عَنْ الْمُؤْمِن الْفَقِير.
وَاَلَّذِي جَرَى مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَرْك الْأَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى صَغِيرَة لَمْ يَبْعُد ; قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَالْوَقْف عَلَى " كَلَّا " عَلَى هَذَا الْوَجْه : جَائِز.
وَيَجُوز أَنْ تَقِف عَلَى " تَلَهَّى " ثُمَّ تَبْتَدِئ " كَلَّا " عَلَى مَعْنَى حَقًّا.
" إِنَّهَا " أَيْ السُّورَة أَوْ آيَات الْقُرْآن " تَذْكِرَة " أَيْ مَوْعِظَة وَتَبْصِرَة لِلْخَلْقِ قَالَ الْجُرْجَانِيّ :" إِنَّهَا " أَيْ الْقُرْآن، وَالْقُرْآن مُذَكَّر إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقُرْآن تَذْكِرَة، أَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظ التَّذْكِرَة، وَلَوْ ذَكَّرَهُ لَجَازَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِع آخَر :" كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَة ".
وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْقُرْآن قَوْله :" فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ " أَيْ كَانَ حَافِظًا لَهُ غَيْر نَاس ; وَذَكَّرَ الضَّمِير ; لِأَنَّ التَّذْكِرَة فِي مَعْنَى الذِّكْر وَالْوَعْظ.
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
أَيْ اِتَّعَظَ بِالْقُرْآنِ.
قَالَ الْجُرْجَانِيّ :" إِنَّهَا " أَيْ الْقُرْآن، وَالْقُرْآن مُذَكَّر إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقُرْآن تَذْكِرَة، أَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظ التَّذْكِرَة، وَلَوْ ذَكَّرَهُ لَجَازَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِع آخَر :" كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَة ".
وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْقُرْآن قَوْله :" فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ " أَيْ كَانَ حَافِظًا لَهُ غَيْر نَاس ; وَذَكَّرَ الضَّمِير ; لِأَنَّ التَّذْكِرَة فِي مَعْنَى الذِّكْر وَالْوَعْظ.
وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى :" فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ " قَالَ مَنْ شَاءَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَلْهَمَهُ.
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ جَلَالَتِهِ فَقَالَ :" فِي صُحُف " جَمْع صَحِيفَة " مُكَرَّمَة " أَيْ عِنْد اللَّه ; قَالَهُ السُّدِّيّ.
الطَّبَرِيّ :" مُكَرَّمَة " فِي الدِّين لِمَا فِيهَا مِنْ الْعِلْم وَالْحُكْم.
وَقِيلَ :" مُكَرَّمَة " لِأَنَّهَا نَزَلَ بِهَا كِرَام الْحَفَظَة، أَوْ لِأَنَّهَا نَازِلَة مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقِيلَ :" مُكَرَّمَة " لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ كَرِيم ; لِأَنَّ كَرَامَة الْكِتَاب مِنْ كَرَامَة صَاحِبه.
وَقِيلَ : الْمُرَاد كُتُب الْأَنْبِيَاء ; دَلِيله :" إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى.
صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى " [ الْأَعْلَى :
١٨ - ١٩ ].
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ
" مَرْفُوعَة " رَفِيعَة الْقَدْر عِنْد اللَّه.
وَقِيلَ : مَرْفُوعَة عِنْده تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَقِيلَ : مَرْفُوعَة فِي السَّمَاء السَّابِعَة، قَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام.
الطَّبَرِيّ : مَرْفُوعَة الذِّكْر وَالْقَدْر.
وَقِيلَ : مَرْفُوعَة عَنْ الشُّبَه وَالتَّنَاقُض.
" مُطَهَّرَة " قَالَ الْحَسَن : مِنْ كُلّ دَنَس.
وَقِيلَ : مُصَانَة عَنْ أَنْ يَنَالهَا الْكُفَّار.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْل السُّدِّيّ.
وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : مُطَهَّرَة مِنْ أَنْ تَنْزِل عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقِيلَ : أَيْ الْقُرْآن أَثْبَت لِلْمَلَائِكَةِ فِي صُحُف يَقْرَءُونَهَا فَهِيَ مُكَرَّمَة مَرْفُوعَة مُطَهَّرَة.
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
أَيْ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّه سُفَرَاء بَيْنه وَبَيْن رُسُله، فَهُمْ بَرَرَة لَمْ يَتَدَنَّسُوا بِمَعْصِيَةٍ.
وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : هِيَ مُطَهَّرَة تَجْعَل التَّطْهِير لِمَنْ حَمَلَهَا " بِأَيْدِي سَفَرَة " قَالَ : كَتَبَة.
وَقَالَهُ مُجَاهِد أَيْضًا.
وَهُمْ الْمَلَائِكَة الْكِرَام الْكَاتِبُونَ لِأَعْمَالِ الْعِبَاد فِي الْأَسْفَار، الَّتِي هِيَ الْكُتُب، وَاحِدُهُمْ : سَافِر ; كَقَوْلِك : كَاتِب وَكَتَبَة.
وَيُقَال : سَفَرَتْ أَيْ كَتَبَتْ، وَالْكِتَاب : هُوَ السِّفْر، وَجَمْعه أَسْفَار.
قَالَ الزَّجَّاج : وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفْر، بِكَسْرِ السِّين، وَلِلْكَاتِبِ سَافِر ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَيِّن الشَّيْء وَيُوَضِّحُهُ.
يُقَال : أَسْفَرَ الصُّبْح : إِذَا أَضَاءَ، وَسَفَرَتْ الْمَرْأَة : إِذَا كَشَفَتْ النِّقَاب عَنْ وَجْهِهَا.
قَالَ : وَمِنْهُ سَفَرْت بَيْن الْقَوْم أَسْفِر سِفَارَة : أَصْلَحْت بَيْنهمْ.
وَقَالَهُ الْفَرَّاء، وَأَنْشَدَ :
فَمَا أَدْعُ السِّفَارَة بَيْن قَوْمِي وَلَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْت
وَالسَّفِير : الرَّسُول وَالْمُصْلِح بَيْن الْقَوْم وَالْجَمْع : سُفَرَاء، مِثْل فَقِيهِ وَفُقَهَاء.
وَيُقَال لَلْوَرَّاقِينَ سُفَرَاء، بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّة.
وَقَالَ قَتَادَة : السَّفَرَة هُنَا : هُمْ الْقُرَّاء، لِأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْأَسْفَار.
وَعَنْهُ أَيْضًا كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه :" بِأَيْدِي سَفَرَة.
كَرَامٍ بَرَرَة " هُمْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَقَدْ كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرَة، كِرَامًا بَرَرَة، وَلَكِنْ لَيْسُوا بِمُرَادِينَ بِهَذِهِ الْآيَة، وَلَا قَارَبُوا الْمُرَادِينَ بِهَا، بَلْ هِيَ لَفْظَة مَخْصُوصَة بِالْمَلَائِكَةِ عِنْد الْإِطْلَاق، وَلَا يُشَارِكهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَلَا يَدْخُل مَعَهُمْ فِي مُتَنَاوَلهَا غَيْرهمْ.
وَرُوِيَ فِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ مَثَل الَّذِي يَقْرَأ الْقُرْآن وَهُوَ حَافِظ لَهُ، مَعَ السَّفَرَة الْكِرَام الْبَرَرَة ; وَمَثَل الَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيد، فَلَهُ أَجْرَانِ ] مُتَّفَق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
كِرَامٍ بَرَرَةٍ
" كَرَامٍ " أَيْ كَرَامٍ عَلَى رَبّهمْ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ.
الْحَسَن : كَرَامٍ عَنْ الْمَعَاصِي، فَهُمْ يَرْفَعُونَ أَنْفُسهمْ عَنْهَا.
وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي " كَرَامٍ " قَالَ : يَتَكَرَّمُونَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ اِبْن آدَم إِذَا خَلَا بِزَوْجَتِهِ، أَوْ تَبَرَّزَ لِغَائِطِهِ.
وَقِيلَ : أَيْ يُؤْثِرُونَ مَنَافِع غَيْرهمْ عَلَى مَنَافِع أَنْفُسِهِمْ.
" بَرَرَة " جَمْع بَارّ مِثْل كَافِر وَكَفَرَة، وَسَاحِر وَسَحَرَة، وَفَاجِر وَفَجَرَة ; يُقَال : بَرّ وَبَارّ إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلصِّدْقِ، وَمِنْهُ بَرَّ فُلَان فِي يَمِينه : أَيْ صَدَقَ، وَفُلَان يَبَرّ خَالِقه وَيَتَبَرَّره : أَيْ يُطِيعهُ ; فَمَعْنَى " بَرَرَة " مُطِيعُونَ لِلَّهِ، صَادِقُونَ لِلَّهِ فِي أَعْمَالهمْ.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْوَاقِعَة " قَوْله تَعَالَى :" إِنَّهُ لَقُرْآن كَرِيم فِي كِتَاب مَكْنُون.
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الْوَاقِعَة :
٧٧ - ٧٩ ] أَنَّهُمْ الْكِرَام الْبَرَرَة فِي كِتَاب مَكْنُون.
" لَا يَمَسّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [ الْوَاقِعَة : ٧٩ ] أَنَّهُمْ الْكِرَام الْبَرَرَة فِي هَذِهِ السُّورَة.
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ
" قُتِلَ " أَيْ لُعِنَ.
وَقِيلَ : عُذِّبَ.
وَالْإِنْسَان الْكَافِر رَوَى الْأَعْمَش عَنْ مُجَاهِد قَالَ : مَا كَانَ فِي الْقُرْآن " قُتِلَ الْإِنْسَان " فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ الْكَافِر.
وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ فِي عُتْبَة بْن أَبِي لَهَب، وَكَانَ قَدْ آمَنَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ " وَالنَّجْم " اِرْتَدَّ، وَقَالَ : آمَنْت بِالْقُرْآنِ كُلّه إِلَّا النَّجْم، فَأَنْزَلَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ " قُتِلَ الْإِنْسَان " أَيْ لُعِنَ عُتْبَة حَيْثُ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ، وَدَعَا عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :[ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ أَسَد الْغَاضِرَة ] فَخَرَجَ مِنْ فَوْره بِتِجَارَةٍ إِلَى الشَّام، فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى الْغَاضِرَة تَذَكَّرَ دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ لِمَنْ مَعَهُ أَلْف دِينَار إِنْ هُوَ أَصْبَحَ حَيًّا، فَجَعَلُوهُ فِي وَسَط الرُّفْقَة، وَجَعَلُوا الْمَتَاع حَوْله، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَقْبَلَ الْأَسَد، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الرِّحَال وَثَبَ، فَإِذَا هُوَ فَوْقَهُ فَمَزَّقَهُ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ نَدَبَهُ وَبَكَى وَقَالَ : مَا قَالَ مُحَمَّد شَيْئًا قَطُّ إِلَّا كَانَ.
وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس " مَا أَكْفَره " : أَيْ شَيْء أَكْفَرَهُ ؟ وَقِيلَ :" مَا " تَعَجُّب ; وَعَادَة الْعَرَب إِذَا تَعَجَّبُوا مِنْ شَيْء قَالُوا : قَاتَلَهُ اللَّه مَا أَحْسَنه ! وَأَخْزَاهُ اللَّه مَا أَظْلَمَهُ ; وَالْمَعْنَى : اِعْجَبُوا مِنْ كُفْر الْإِنْسَان لِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا بَعْد هَذَا.
وَقِيلَ : مَا أَكْفَره بِاَللَّهِ وَنِعَمه مَعَ مَعْرِفَته بِكَثْرَةِ إِحْسَانه إِلَيْهِ عَلَى التَّعَجُّب أَيْضًا ; قَالَ اِبْن جُرَيْج : أَيْ مَا أَشَدّ كُفْره ! وَقِيلَ :" مَا " اِسْتِفْهَام أَيْ أَيّ شَيْء دَعَاهُ إِلَى الْكُفْر ; فَهُوَ اِسْتِفْهَام تَوْبِيخ.
وَ " مَا " تَحْتَمِل التَّعَجُّب، وَتَحْتَمِل مَعْنَى أَيّ، فَتَكُون اِسْتِفْهَامًا.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
أَيْ مِنْ أَيّ شَيْء خَلَقَ اللَّه هَذَا الْكَافِر فَيَتَكَبَّر ؟ أَيْ اِعْجَبُوا لِخَلْقِهِ.
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
" مِنْ نُطْفَة " أَيْ مِنْ مَاء يَسِير مَهِين جَمَاد " خَلَقَهُ " فَلَمْ يَغْلَط فِي نَفْسه ؟ ! قَالَ الْحَسَن : كَيْف يَتَكَبَّر مَنْ خَرَجَ مِنْ سَبِيل الْبَوْل مَرَّتَيْنِ.
" فَقَدَّرَهُ " فِي بَطْن أُمّه.
كَذَا رَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَيْ قَدَّرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِر آرَابِهِ، وَحَسَنًا وَدَمِيمًا، وَقَصِيرًا وَطَوِيلًا، وَشَقِيًّا وَسَعِيدًا.
وَقِيلَ :" فَقَدَّرَهُ " أَيْ فَسَوَّاهُ كَمَا قَالَ :" أَكَفَرْت بِاَلَّذِي خَلَقَك مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوَّاك رَجُلًا ".
وَقَالَ :" الَّذِي خَلَقَك فَسَوَّاك ".
وَقِيلَ :" فَقَدَّرَهُ " أَطْوَارًا أَيْ مِنْ حَال إِلَى حَال ; نُطْفَة ثُمَّ عَلَقَة، إِلَى أَنْ تَمَّ خَلْقه.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة عَطَاء وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَمُقَاتِل : يَسَّرَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ بَطْن أُمّه.
مُجَاهِد : يَسَّرَهُ لِطَرِيقِ الْخَيْر وَالشَّرّ ; أَيْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ.
دَلِيله :" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل " وَ " هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ".
وَقَالَهُ الْحَسَن وَعَطَاء وَابْن عَبَّاس أَيْضًا فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا قَالَ : سَبِيل الشَّقَاء وَالسَّعَادَة.
اِبْن زَيْد : سَبِيل الْإِسْلَام.
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن طَاهِر يَسَّرَ عَلَى كُلّ أَحَد مَا خَلَقَهُ لَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ ; دَلِيله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :[ اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَهُ ].
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ إِكْرَامًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّا يُلْقَى عَلَى وَجْه الْأَرْض تَأْكُلهُ الطَّيْر وَالْعَوَافِي ; قَالَهُ الْفَرَّاء.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة :" أَقْبَرَهُ " : جَعَلَ لَهُ قَبْرًا، وَأَمَرَ أَنْ يُقْبَر.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : وَلَمَّا قَتَلَ عُمَر بْن هُبَيْرَة صَالِح بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَتْ بَنُو تَمِيم وَدَخَلُوا عَلَيْهِ : أَقْبَرْنَا صَالِحًا ; فَقَالَ : دُونَكُمُوهُ.
وَقَالَ :" أَقْبَرَهُ " وَلَمْ يَقُلْ قَبَرَهُ ; لِأَنَّ الْقَابِر هُوَ الدَّافِن بِيَدِهِ، قَالَ الْأَعْشَى :
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إِلَى نَحْرِهَا عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى قَابِر
يُقَال : قَبَرْت الْمَيِّت : إِذَا دَفَنْته، وَأَقْبَرَهُ اللَّه : أَيْ صَيَّرَهُ بِحَيْثُ يُقْبَر، وَجَعَلَ لَهُ قَبْرًا ; تَقُول الْعَرَب : بَتَرْت ذَنَب الْبَعِير، وَأَبْتَرَهُ اللَّه، وَعَضَبْت قَرْن الثَّوْر، وَأَعْضَبَهُ اللَّه، وَطَرَدْت فُلَانًا، وَاَللَّه أَطْرَدَهُ، أَيْ صَيَّرَهُ طَرِيدًا.
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ
أَيْ أَحْيَاهُ بَعْد مَوْته.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " أَنْشَرَهُ " بِالْأَلِفِ.
وَرَوَى أَبُو حَيْوَة عَنْ نَافِع وَشُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة " شَاءَ نَشَرَهُ " بِغَيْرِ أَلِف، لُغَتَانِ فَصَيْحَتَانِ بِمَعْنًى ; يُقَال : أَنَشَرَ اللَّه الْمَيِّت وَنَشَرَهُ ; قَالَ الْأَعْشَى :
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ
قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة :" لَمَّا يَقْضِ " : لَا يَقْضِي أَحَد مَا أُمِرَ بِهِ.
وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول :" لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ " لَمْ يَفِ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِ فِي صُلْب آدَم.
ثُمَّ قِيلَ :" كَلَّا " رَدْع وَزَجْر، أَيْ لَيْسَ الْأَمْر : كَمَا يَقُول الْكَافِر ; فَإِنَّ الْكَافِر إِذَا أُخْبِرَ بِالنُّشُورِ قَالَ :" وَلَئِنْ رُجِعْت إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْده لِلْحُسْنَى " [ فُصِلَتْ : ٥٠ ] رُبَّمَا يَقُول قَدْ قَضَيْت مَا أُمِرْت بِهِ.
فَقَالَ : كَلَّا لَمْ يَقْضِ شَيْئًا بَلْ هُوَ كَافِر بِي وَبِرَسُولِي.
وَقَالَ الْحَسَن : أَيْ حَقًّا لَمْ يَقْض : أَيْ لَمْ يَعْمَل بِمَا أُمِرَ بِهِ.
وَ " مَا " فِي قَوْله :" لَمَّا " عِمَاد لِلْكَلَامِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَبِمَا رَحْمَة مِنْ اللَّه " [ آل عُمْرَانِ : ١٥٩ ] وَقَوْله :" عَمَّا قَلِيلٍ لِيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٤٠ ].
وَقَالَ الْإِمَام اِبْن فُورك : أَيْ : كَلَّا لَمَّا يَقْضِ اللَّه لِهَذَا الْكَافِر مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَان، بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ.
اِبْن الْأَنْبَارِيّ : الْوَقْف عَلَى " كَلَّا " قَبِيح، وَالْوَقْف عَلَى " أَمَرَهُ " وَ " نَشَرَهُ " جَيِّد ; فَـ " كَلَّا " عَلَى هَذَا بِمَعْنَى حَقًّا.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
لَمَّا ذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اِبْتِدَاء خَلْق الْإِنْسَان، ذَكَرَ مَا يَسَّرَ مِنْ رِزْقِهِ ; أَيْ فَلْيَنْظُرْ كَيْف خَلَقَ اللَّه طَعَامه.
وَهَذَا النَّظَر نَظَر الْقَلْب بِالْفِكْرِ ; أَيْ لِيَتَدَبَّر كَيْف خَلَقَ اللَّه طَعَامه الَّذِي هُوَ قِوَام حَيَاته، وَكَيْف هَيَّأَ لَهُ أَسْبَاب الْمَعَاش، لِيَسْتَعِدْ بِهَا لِلْمَعَادِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد قَالَا :" فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه " أَيْ إِلَى مُدْخَله وَمُخْرَجه.
وَرَوَى اِبْن أَبِي خَيْثَمَة عَنْ الضَّحَّاك بْن سُفْيَان الْكِلَابِيّ قَالَ : قَالَ لِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ يَا ضَحَاك مَا طَعَامك ] قُلْت : يَا رَسُول اللَّه ! اللَّحْم وَاللَّبَن ; قَالَ :[ ثُمَّ يَصِير إِلَى مَاذَا ] قُلْت إِلَى مَا قَدْ عَلِمْته ; قَالَ :[ فَإِنَّ اللَّه ضَرَبَ مَا يَخْرُج مِنْ اِبْن آدَم مَثَلًا لِلدُّنْيَا ].
وَقَالَ أُبَيّ بْن كَعْب : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ إِنَّ مَطْعَم اِبْن آدَم جُعِلَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا وَإِنَّ قَزَحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرْ إِلَى مَا يَصِير ].
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ الرَّجُل يَدْخُل الْخَلَاء فَيَنْظُر مَا يَخْرُج مِنْهُ ; قَالَ : يَأْتِيه الْمَلَك فَيَقُول اُنْظُرْ مَا بَخِلْت بِهِ إِلَى مَا صَارَ ؟
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا
قِرَاءَة الْعَامَّة " إِنَّا " بِالْكَسْرِ، عَلَى الِاسْتِئْنَاف، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَرُوَيْس عَنْ يَعْقُوب " أَنَّا " بِفَتْحِ الْهَمْزَة، فَـ " أَنَّا " فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى التَّرْجَمَة عَنْ الطَّعَام، فَهُوَ بَدَل مِنْهُ ; كَأَنَّهُ قَالَ :" فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه " إِلَى " أَنَّا صَبَبْنَا " فَلَا يَحْسُن الْوَقْف عَلَى " طَعَامه " مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَة.
وَكَذَلِكَ إِنْ رَفَعْت " أَنَّا " بِإِضْمَارِ هُوَ أَنَّا صَبَبْنَا ; لِأَنَّهَا فِي حَال رَفْعِهَا مُتَرْجِمَة عَنْ الطَّعَام.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى : لِأَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء، فَأَخْرَجْنَا بِهِ الطَّعَام، أَيْ كَذَلِكَ كَانَ.
وَقَرَأَ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ " أَنَّى " فَقَالَ، بِمَعْنَى كَيْف ؟ فَمَنْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَة قَالَ : الْوَقْف عَلَى " طَعَامه " تَامّ.
وَيُقَال : مَعْنَى " أَنَّى " أَيْنَ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا كِنَايَة عَنْ الْوُجُوه ; وَتَأْوِيلهَا : مِنْ أَيّ وَجْه صَبَبْنَا الْمَاء ; قَالَ الْكُمَيْت :
حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِر
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ آبَك الطَّرَب مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَة وَلَا رِيَب
" صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا " : يَعْنِي الْغَيْث وَالْأَمْطَار.
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا
أَيْ بِالنَّبَاتِ
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا
أَيْ قَمْحًا وَشَعِيرًا وَسُلْتًا وَسَائِر مَا يُحْصَد وَيُدَّخَر
وَعِنَبًا وَقَضْبًا
وَهُوَ الْقَتّ وَالْعَلَف، عَنْ الْحَسَن : سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُقْضَب أَيْ يُقْطَع بَعْد ظُهُوره مَرَّة بَعْد مَرَّة.
قَالَ الْقُتَبِيّ وَثَعْلَب : وَأَهْل مَكَّة يُسَمُّونَ الْقَتّ الْقَضْب.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الرُّطَب لِأَنَّهُ يُقْضَب مِنْ النَّخْل : وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ الْعِنَب قَبْله.
وَعَنْهُ أَيْضًا : أَنَّهُ الْفَصْفَصَة وَهُوَ الْقَتّ الرُّطَب.
وَقَالَ الْخَلِيل : الْقَضْب الْفَصْفَصَة الرَّطْبَة.
وَقِيلَ : بِالسِّينِ، فَإِذَا يَبِسَتْ فَهُوَ قَتّ.
قَالَ : وَالْقَضْب : اِسْم يَقَع عَلَى مَا يُقْضَب مِنْ أَغْصَان الشَّجَرَة، لِيُتَّخَذ مِنْهَا سِهَام أَوْ قِسِيّ.
وَيُقَال : قَضْبًا، يَعْنِي جَمِيع مَا يُقْضَب، مِثْل الْقَتّ وَالْكُرَّاث وَسَائِر الْبُقُول الَّتِي تُقْطَع فَيَنْبُت أَصْلهَا.
وَفِي الصِّحَاح : وَالْقَضَّة وَالْقَضْب الرَّطْبَة، وَهِيَ الْإِسْفِسْت بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالْمَوْضِع الَّذِي يَنْبُت فِيهِ مَقْضَبَة.
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا
" وَزَيْتُونًا " وَهِيَ شَجَرَة الزَّيْتُون " وَنَخْلًا " يَعْنِي النَّخِيل
وَحَدَائِقَ غُلْبًا
" وَحَدَائِق " أَيْ بَسَاتِين وَاحِدهَا حَدِيقَة.
قَالَ الْكَلْبِيّ : وَكُلّ شَيْء أُحِيطَ عَلَيْهِ مِنْ نَخِيل أَوْ شَجَر فَهُوَ حَدِيقَة، وَمَا لَمْ يُحَطْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحَدِيقَةٍ.
" غُلْبًا " عِظَامًا شَجَرهَا ; يُقَال : شَجَرَة غَلْبَاء، وَيُقَال لِلْأَسَدِ : الْأَغْلَب ; لِأَنَّهُ مُصْمَت الْعُنُق، لَا يُلْتَفَت إِلَّا جَمِيعًا ; قَالَ الْعَجَّاج :
مَا زِلْت يَوْم الْبَيْن أَلْوِي صُلْبِي وَالرَّأْس حَتَّى صِرْت مِثْل الْأَغْلَب
وَرَجُل أَغْلَب بَيِّن الْغَلَب إِذَا كَانَ غَلِيظ الرَّقَبَة.
وَالْأَصْل فِي الْوَصْف بِالْغَلَبِ : الرِّقَاب فَاسْتُعِيرَ ; قَالَ قَالَ عَمْرو بْن مَعْدِي كَرِب :
يَمْشِي بِهَا غُلْبَ الرِّقَاب كَأَنَّهُمْ بُزْل كُسِينَ مِنْ الْكَحِيل جِلَالَا
وَحَدِيقَة غَلْبَاء : مُلْتَفَّة وَحَدَائِق غُلْب.
وَاغْلَوْلَبَ الْعُشْب : بَلَغَ وَالْتَفَّ الْبَعْض بِالْبَعْضِ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْغُلْب : جَمْع أَغْلَب وَغَلْبَاء وَهِيَ الْغِلَاظ.
وَعَنْهُ أَيْضًا الطِّوَال.
قَتَادَة وَابْن زَيْد : الْغُلْب : النَّخْل الْكِرَام.
وَعَنْ اِبْن زَيْد أَيْضًا وَعِكْرِمَة : عِظَام الْأَوْسَاط وَالْجُذُوع.
مُجَاهِد : مُلْتَفَّة.
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا
" وَفَاكِهَة " أَيْ مَا تَأْكُلُهُ النَّاس مِنْ ثِمَار الْأَشْجَار كَالتِّينِ وَالْخَوْخ وَغَيْرهمَا " وَأَبًّا " هُوَ مَا تَأْكُلهُ الْبَهَائِم مِنْ الْعُشْب، قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن : الْأَبّ : كُلّ مَا أَنْبَتَتْ الْأَرْض، مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ النَّاس، مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّونَ هُوَ الْحَصِيد ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر فِي مَدْح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَهُ دَعْوَة مَيْمُونَة رِيحهَا الصَّبَا بِهَا يُنْبِت اللَّه الْحَصِيدَة وَالْأَبَّا
وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَ أَبًّا ; لِأَنَّهُ يَؤُبُّ أَيْ يَؤُمُّ وَيُنْتَجَع.
وَالْأَب وَالْأُمّ : أَخَوَانِ ; قَالَ :
جِذْمنَا قَيْس وَنَجْد دَارُنَا وَلَنَا الْأَبّ بِهِ وَالْمَكْرَع
وَقَالَ الضَّحَّاك : وَالْأَبّ : كُلّ شَيْء يُنْبَت عَلَى وَجْه الْأَرْض.
وَكَذَا قَالَ أَبُو رَزِين : هُوَ النَّبَات.
يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْل اِبْن عَبَّاس قَالَ : الْأَبّ : مَا تُنْبِت الْأَرْض مِمَّا يَأْكُل النَّاس وَالْأَنْعَامُ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَابْن أَبِي طَلْحَة : الْأَبّ : الثِّمَار الرَّطْبَة.
وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ التِّين خَاصَّة.
وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا ; قَالَ الشَّاعِر :
فَمَا لَهُمْ مَرْتَع لَلَسَّوا م وَالْأَبّ عِنْدَهُمْ يُقْدَر
الْكَلْبِيّ : هُوَ كُلّ نَبَات سِوَى الْفَاكِهَة.
وَقِيلَ : الْفَاكِهَة : رُطَب الثِّمَار، وَالْأَبّ يَابِسُهَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ : سُئِلَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ تَفْسِير الْفَاكِهَة وَالْأَبّ فَقَالَ : أَيُّ سَمَاء تُظِلّنِي وَأَيّ أَرْض تُقِلُّنِي إِذَا قُلْت : فِي كِتَاب اللَّه مَا لَا أَعْلَم.
وَقَالَ أَنَس : سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة ثُمَّ قَالَ : كُلّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الْأَبّ ؟ ثُمَّ رَفَعَ عَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ وَقَالَ : هَذَا لَعُمْر اللَّه التَّكَلُّف، وَمَا عَلَيْك يَا بْن أُمّ عُمَر أَلَّا تَدْرِي مَا الْأَبّ ؟ ثُمَّ قَالَ : اِتَّبِعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَاب، وَمَا لَا فَدَعُوهُ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :[ خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْع، وَرُزِقْتُمْ مِنْ سَبْع، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ عَلَى سَبْع ].
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ :[ خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْع ] يَعْنِي " مِنْ نُطْفَة، ثُمَّ مِنْ عَلَقَة، ثُمَّ مِنْ مُضْغَة " [ الْحَجّ : ٥ ] الْآيَة، وَالرِّزْق مِنْ سَبْع، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :" فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا " إِلَى قَوْله :" وَفَاكِهَة " ثُمَّ قَالَ :" وَأَبًّا " وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرِزْقٍ لِابْنِ آدَم، وَأَنَّهُ مِمَّا تَخْتَصّ بِهِ الْبَهَائِم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ
" مَتَاعًا لَكُمْ " نَصْب عَلَى الْمَصْدَر الْمُؤَكِّد، لِأَنَّ إِنْبَات هَذِهِ الْأَشْيَاء إِمْتَاع لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَات.
وَهَذَا ضَرْب مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِبَعْثِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورهمْ، كَنَبَاتِ الزَّرْع بَعْد دُثُوره، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي غَيْر مَوْضِع.
وَيَتَضَمَّن اِمْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي غَيْر مَوْضِع أَيْضًا.
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ
لَمَّا ذَكَرَ أَمْر الْمَعَاش ذَكَرَ أَمْر الْمَعَاد، لِيَتَزَوَّدُوا لَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، وَبِالْإِنْفَاقِ مِمَّا اُمْتُنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ.
وَالصَّاخَّة : الصَّيْحَة الَّتِي تَكُون عَنْهَا الْقِيَامَة، وَهِيَ النَّفْخَة الثَّانِيَة، تَصُخُّ الْأَسْمَاع : أَيْ تَصُمُّهَا فَلَا تَسْمَع إِلَّا مَا يُدْعَى بِهِ لِلْأَحْيَاءِ.
وَذَكَرَ نَاس مِنْ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : تُصِيخ لَهَا الْأَسْمَاع، مِنْ قَوْلك : أَصَاخَ إِلَى كَذَا : أَيْ اِسْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيث :[ مَا مِنْ دَابَّة إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَة يَوْم الْجُمْعَة شَفَقًا مِنْ السَّاعَة إِلَّا الْجِنّ وَالْإِنْس ].
وَقَالَ الشَّاعِر :
يُصِيخ لِلنَّبْأَةِ أَسْمَاعه إِصَاخَة الْمُنْشِد لِلْمُنْشِدِ
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : وَهَذَا يُؤْخَذ عَلَى جِهَة التَّسْلِيم لِلْقُدَمَاءِ، فَأَمَّا اللُّغَة فَمُقْتَضَاهَا الْقَوْل الْأَوَّل، قَالَ الْخَلِيل : الصَّاخَّة : صَيْحَة تَصُخّ الْآذَان صَخًّا أَيْ تَصُمُّهَا بِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا.
وَأَصْل الْكَلِمَة فِي اللُّغَة : الصَّكّ الشَّدِيد.
وَقِيلَ : هِيَ مَأْخُوذَة مِنْ صَخَّهُ بِالْحَجَرِ : إِذَا صَكَّهُ قَالَ الرَّاجِز :
يَا جَارَتِي هَلْ لَك أَنْ تُجَالِدِي جَلَادَة كَالصَّكِّ بِالْجَلَامِدِ
وَمِنْ هَذَا الْبَاب قَوْل الْعَرَب : صَخَّتْهُمْ الصَّاخَّة وَبَاتَّتْهُمْ الْبَائِتَة، وَهِيَ الدَّاهِيَة.
الطَّبَرِيّ : وَأَحْسَبُهُ مِنْ صَخَّ فُلَان فُلَانًا : إِذَا أَصْمَاهُ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الصَّاخَّة الَّتِي تُورِثُ الصَّمَم، وَإِنَّهَا لَمُسْمِعَة، وَهَذَا مِنْ بَدِيع الْفَصَاحَة، حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْض حَدِيثِي الْأَسْنَان حَدِيثِي الْأَزْمَان : ش أَصَمَّ بِك النَّاعِي وَإِنْ كَانَ أَسْمَعَا ش وَقَالَ آخَر :
أَضَمَّنِي سِرُّهُمْ أَيَّام فُرْقَتِهِمْ فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِسِرٍّ يُورِث الصَّمَمَا
لَعَمْر اللَّه إِنَّ صَيْحَة الْقِيَامَة لَمُسْمِعَة تُصِمّ عَنْ الدُّنْيَا، وَتُسْمِع أُمُور الْآخِرَة.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
أَيْ يَهْرُب، أَيْ تَجِيء الصَّاخَّة فِي هَذَا الْيَوْم الَّذِي يَهْرُب فِيهِ مِنْ أَخِيهِ ; أَيْ مِنْ مُوَالَاة أَخِيهِ وَمُكَالَمَته ; لِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغ لِذَلِكَ، لِاشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ ; كَمَا قَالَ بَعْده :" لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه " أَيْ يُشْغِلُهُ عَنْ غَيْره.
وَقِيلَ : إِنَّمَا يَفِرّ حَذَرًا مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ، لِمَا بَيْنهمْ مِنْ التَّبِعَات.
وَقِيلَ : لِئَلَّا يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّة.
وَقِيلَ : لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَهُ وَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ شَيْئًا ; كَمَا قَالَ :" يَوْم لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا " [ الدُّخَان : ٤١ ].
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن طَاهِر الْأَبْهَرِيّ : يَفِرّ مِنْهُمْ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ عَجْزِهِمْ وَقِلَّة حِيلَتِهِمْ، إِلَى مَنْ يَمْلِك كَشْف تِلْكَ الْكُرُوب وَالْهُمُوم عَنْهُ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَمَا اِعْتَمَدَ شَيْئًا سِوَى رَبّه تَعَالَى.
وَذَكَرَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يَفِرّ قَابِيل مِنْ أَخِيهِ هَابِيل، وَيَفِرّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمِّهِ، وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ أَبِيهِ، وَنُوح عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ اِبْنه، وَلُوط مِنْ اِمْرَأَته، وَآدَم مِنْ سَوْأَة بَنِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَن : أَوَّل مَنْ يَفِرّ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ أَبِيهِ : إِبْرَاهِيم، وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِبْنه نُوح ; وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِمْرَأَته لُوط.
قَالَ : فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهَذَا فِرَار التَّبَرُّؤ.
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
قِيلَ : إِنَّمَا يَفِرّ حَذَرًا مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ، لِمَا بَيْنهمْ مِنْ التَّبِعَات.
وَقِيلَ : لِئَلَّا يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّة.
وَقِيلَ : لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَهُ وَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ شَيْئًا ; كَمَا قَالَ :" يَوْم لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا " [ الدُّخَان : ٤١ ].
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن طَاهِر الْأَبْهَرِيّ : يَفِرّ مِنْهُمْ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ عَجْزِهِمْ وَقِلَّة حِيلَتِهِمْ، إِلَى مَنْ يَمْلِك كَشْف تِلْكَ الْكُرُوب وَالْهُمُوم عَنْهُ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَمَا اِعْتَمَدَ شَيْئًا سِوَى رَبّه تَعَالَى.
وَذَكَرَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يَفِرّ قَابِيل مِنْ أَخِيهِ هَابِيل، وَيَفِرّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمّه، وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ أَبِيهِ، وَنُوح عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ اِبْنه، وَلُوط مِنْ اِمْرَأَته، وَآدَم مِنْ سَوْأَة بَنِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَن : أَوَّل مَنْ يَفِرّ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ أَبِيهِ : إِبْرَاهِيم، وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِبْنه نُوح ; وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِمْرَأَته لُوط.
قَالَ : فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهَذَا فِرَار التَّبَرُّؤ.
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
" وَصَاحِبَته " أَيْ زَوْجَته.
" وَبَنِيهِ " أَيْ أَوْلَاده.
وَذَكَرَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يَفِرّ قَابِيل مِنْ أَخِيهِ هَابِيل، وَيَفِرّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمّه، وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ أَبِيهِ، وَنُوح عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ اِبْنه، وَلُوط مِنْ اِمْرَأَته، وَآدَم مِنْ سَوْأَة بَنِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَن : أَوَّل مَنْ يَفِرّ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ أَبِيهِ : إِبْرَاهِيم، وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِبْنه نُوح ; وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِمْرَأَته لُوط.
قَالَ : فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهَذَا فِرَار التَّبَرُّؤ.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْت رَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :[ يُحْشَر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غُرْلًا ] قُلْت، يَا رَسُول اللَّه ! الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا يَنْظُر بَعْضهمْ إِلَى بَعْض ؟ قَالَ :[ يَا عَائِشَة، الْأَمْر أَشَدّ مِنْ أَنْ يَنْظُر بَعْضهمْ إِلَى بَعْض ].
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ يُحْشَرُونَ حُفَاة عُرَاة غُرْلًا ] فَقَالَتْ اِمْرَأَة : أَيَنْظُرُ بَعْضُنَا، أَوْ يَرَى بَعْضنَا عَوْرَة بَعْض ؟ قَالَ :[ يَا فُلَانَة ] " لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه ".
قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة ; أَيْ حَال يَشْغَلهُ عَنْ الْأَقْرِبَاء.
وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد " يَعْنِيه " بِفَتْحِ الْيَاء، وَعَيْن غَيْر مُعْجَمَة ; أَيْ يَعْنِيه أَمْرُهُ.
وَقَالَ الْقُتَبِيّ : يَعْنِيه : يَصْرِفهُ وَيَصُدّهُ عَنْ قَرَابَته، وَمِنْهُ يُقَال : اِعْنِ عَنِّي وَجْهَك : أَيْ اِصْرِفْهُ وَاعْنِ عَنْ السَّفِيه ; قَالَ خُفَاف :
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ
أَيْ مُشْرِقَة مُضِيئَة، قَدْ عَلِمَتْ مَالهَا مِنْ الْفَوْز وَالنَّعِيم، وَهِيَ وُجُوه الْمُؤْمِنِينَ.
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
" ضَاحِكَة " أَيْ مَسْرُورَة فَرِحَة.
" مُسْتَبْشِرَة " : أَيْ بِمَا آتَاهَا اللَّه مِنْ الْكَرَامَة.
وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ :" مُسْفِرَة " مِنْ طُول مَا اِغْبَرَّتْ فِي سَبِيل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ.
ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْم.
الضَّحَّاك : مِنْ آثَار الْوُضُوء.
اِبْن عَبَّاس : مِنْ قِيَام اللَّيْل ; لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيث :[ مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ ] يُقَال : أَسْفَرَ الصُّبْح إِذَا أَضَاءَ.
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ
أَيْ غُبَار وَدُخَان
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ
" تَرْهَقُهَا " أَيْ تَغْشَاهَا " قَتَرَة " أَيْ كُسُوف وَسَوَاد.
كَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس.
وَعَنْهُ أَيْضًا : ذِلَّة وَشِدَّة.
وَالْقَتَر فِي كَلَام الْعَرَب : الْغُبَار، جَمْع الْقَتَرَة، عَنْ أَبِي عُبَيْد ; وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَق :
سَيَعْنِيك حَرْب بَنِي مَالِك عَنْ الْفُحْشِ وَالْجَهْل فِي الْمَحْفِل
مُتَوَّج بِرِدَاءِ الْمُلْك يَتْبَعهُ مَوْج تَرَى فَوْقه الرَّايَات وَالْقَتَرَا
وَفِي الْخَبَر : إِنَّ الْبَهَائِم إِذَا صَارَتْ تُرَابًا يَوْم الْقِيَامَة حُوِّلَ ذَلِكَ التُّرَاب فِي وُجُوه الْكُفَّار.
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ، الْقَتَرَة : مَا اِرْتَفَعَتْ إِلَى السَّمَاء، وَالْغَبَرَة : مَا اِنْحَطَّتْ إِلَى الْأَرْض، وَالْغُبَار وَالْغَبَرَة : وَاحِد.
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
" أُولَئِكَ هُمْ الْكَفَرَة " جَمَعَ كَافِر " الْفَجَرَة " جَمَعَ فَاجِر، وَهُوَ الْكَاذِب الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّه تَعَالَى.
وَقِيلَ : الْفَاسِق ; [ يُقَال ] : فَجَرَ فُجُورًا : أَيْ فَسَقَ، وَفَجَرَ : أَيْ كَذَبَ.
وَأَصْله : الْمَيْل، وَالْفَاجِر : الْمَائِل.
وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ وَالْكَلَام فِيهِ.
وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده.
Icon