تبدأ هذه السورة بذكر أهوال يوم القيامة وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار، والأرض والسماء، وبني الإنسان وسائر الحيوان والوحوش. ويستغرق هذا الموضوع أربع عشرة آية إلى قوله تعالى ﴿ علمت نفس ما أحضرت ﴾. وفي ذلك اليوم تعلم كل نفس ما قدّمته من أعمال ويتبين لها ما كان منها من خير أو شر، وتأخذ جزاءها عليه.
ثم يأتي بعد ذلك القَسم بأربعة أشياء من ظواهر هذا الكون العجيب :( بالنجوم الخنّس والكنّس، وبالليل إذا أقبل بظلامه، وبالصبح إذا بدأ ضوؤه وهبّ النسيم اللطيف ) إن هذا القرآن قول رسول كريم، هو كلام الله المنزل عليه. وأن الرسول الذي جاء بالقرآن الكريم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هو صاحب قوة في أداء مهمته، وذو مكانة عند الله. وهو مطاع عند الملأ الأعلى، مؤتمن على الوحي.
ثم تأتي تبرئة الرسول الكريم مما رموه به من الجنون ﴿ وما صاحبكم بمجنون ﴾ لأن زعماء قريش لما أعيتهم الحيلة في أمره قالوا عنه إنه مجنون. وهذه الصفة قد أطلقت من قبل على جميع الرسل، كما جاء في قوله تعالى :﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا : ساحر أو مجنون ﴾ [ الذاريات : ٥٢ ].
ولقد رأى سيدنا محمد جبريل بالأفق الأعلى الواضح، وهو صادق في جميع ما يبلّغ عن اليوم الآخر، وحوادثه، والوحي وما يجيء به.
وهو لا يقصّر في تبليغ ما يوحى إليه ﴿ وما هو بقول شيطان رجيم ﴾. لقد عرفتم هذا النبي يا مشركي قريش، بصحة العقل والأمانة منذ صغره، فهل يكون ما يحدّث به الآن من خبر الآخرة والجنة والنار والشرائع والأحكام قول شيطان رجيم ؟ !
ثم يؤكد الله خطابه للمنكرين فيقول :﴿ فأين تذهبون ﴾ وأي طريق أهدى من هذا الطريق تسلكون ! إن هذا الذي يتلوه عليكم محمد ﴿ إلا ذكر للعالمين ﴾ وموعظة يتذكّرون بها ما رُكّب في طباعهم من الميل إلى الخير. ثم يختم هذه السورة الكريمة بهذه الآية الرائعة ﴿ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ﴾. ففي هذه السورة مشاهد عظيمة رائعة من هذا الكون البديع الذي نراه ونعيش فيه.
ﰡ
في هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها تصويرٌ رائع لما يحدثُ يومَ القيامة من أهوالٍ تُشيبُ الأطفالَ. فإذا طُويت الشمسُ واختفت.
وتناثرت النجومُ.
وزالت الجبالُ عن أماكنِها.
عُطّلت : أُهملت بدون راع يرعاها ولا طالب.
وأُهملت النوقُ الحوامل ( وقد خصّها الله بالذِكر لأنها أكرم الأموالِ عند العرب ).
وإذا تأجّجت البحار وغدَتْ نيرانا ملتهبة ( وتسجيرُ البحار يكون بتشقق الأرض وتفجر النيران من باطنها فيظهر ما فيه من نيران متأجّجة كما نشاهد من ثورات البراكين )، يذهب الماء عند ذلك بخارا، ولا يبقى في البحار إلا النار. وهذا معنى قوله تعالى ﴿ وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ ﴾.
قراءات :
قرأ الجمهور : سجّرتْ بتشديد الجيم المكسورة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : سجرت بتخفيف الجيم.
وإذا قرنت الأنفس بأجسادها وعادت كل نفس إلى الجسم الذي فارقتْه عند الموت، فَزُوِّدت النفوس بأبدانها، وهي النشأةُ الآخرة، ( وفي الآية ما يشعر بأن النفوس باقية لم تمت، وإنما تزوَّج بالبَدَن بعد انفصالها عنه ).
وإذا أُتي بالموءودةِ وسُئِلت.
وتُنشَر الصحف. ويحاسَب كل انسان على عمله.
قراءات :
قرأ نافع وحفص عن عاصم وابن عامر وأبو عمرو : نشرت بكسر الشين من غير تشديد، والباقون : نشرت بتشديد الشين.
بعد أن تزول السماء
وتُبرز الجحيمُ بنيرانها المتأججة.
قراءات :
قرأ الجمهور : سعرت بكسر العين المخففة، وقرأ نافع وحفص وابن ذكوان : سعّرت بتشديد العين.
وتقرَّب الجنةُ للمؤمنين.
عند ذلك تعلم كلُّ نفس ما قدّمت من أعمال، فيذهب أهلُ النار إلى جهنم والمؤمنون إلى الجنةِ عند ربهم، ﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾ [ القمر : ٥٥ ].
والذي يجب علينا أن تعتقدَه أن أعمال العباد تظهر لهم ثابتةً مبيَّنة
لا يرتابون فيها يومَ القيامة. وبعد أن اخترع الإنسان الكمبيوتر والآلات الحاسبة لم يعدْ هناك شيء مستغرَب في نشر الصحف يوم القيامة، وفيها حسابُ كل إنسان على أدقِّ وجه ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
بعد أن ذكر الله تعالى بعض أهوال يوم القيامة، وكلَّ ما سبق، أقسم هنا بأيمان مؤكدة بالنجوم الخُنّس.
والكنَّس.
وبالليلِ إذا أقبل ظلامُه.
وبالصبحِ إذا أسفَرَ وظهر نورُه. وما أجملَ قوله تعالى ﴿ والصبح إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ ! ولا يعرف هذه الحقيقة إلا الذي يقوم مبكّرا، ويرى جمالَ إسفارِ الصباح ويشمُّ النسيم العليلَ الذي يُنعش النفوس.
لقد أقسم الله تعالى بهذه الأشياء العظيمة، أن القرآنَ الكريم ليس من كلام محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما هو كلامُ الله جاء به جبريلُ، وهو رسولٌ كريم.
مكين : صاحب مكانة وجاهٍ عند ربه.
وصاحبُ قوةٍ في أداءِ مهمته، ﴿ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ ﴾ وذو جاهٍ ومنزلة عند ربه العليّ العظيم.
كما أنه مطاع بين الملائكة المقربين.
ثم وصف الرسولَ الكريمَ مخاطباً قومه فقال ﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾
فهو محمد الذي عرفتموه وخبرتموه وكنتم تنعتونه « بالأمين » ! لماذا بعد أن جاءته الرسالة قلتم عنه أنه مجنون ؟
كيف تقولون هذه الأقوال الكاذبة عنه، وهو الذي رأى جبريلَ بالأفق المبين الواضح، كما جاء في سورة النجم :﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى، أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى، عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾. [ النجم : ١١-١٤ ].
ليس محمّد بالمتهَم على القرآن وما فيه، ولا ببخيلٍ يقصّر في تبليغه وتعليمه، بل هو ثقةٌ أمين.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : بظنين بالظاء، وقرأ الباقون بضنين، بالضاد.
ما هذا القرآن الذي يتكلم به النبيّ قولَ شيطانٍ مرجوم مطرودٍ من رحمة الله.
﴿ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾.
أي طريقٍ أهدَى من هذا الطريق تسلكون ! !