ﰡ
هل جاءكَ يا محمد، خبر نبأ يوم القيامة التي تغشى الناسَ وتغمرهم بأهوالها ؟ والخطابُ وإن كان لرسول الله فهو عام لكل من يسمع....
بعد هذا الاستفهام فصَّلَ شأنَ أهل الموقف في ذلك اليوم.
وبيَّن أنهم فريقان : فريق الكفرة الفجرة، وفريق المؤمنين البررة فقال :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾
في ذلك اليوم تظهر وجوه ذليلة خاضعة مهينة.
ناصبة : تعبة. والفعل نصِب ينصَب نصبا : تعب.
عملَ أصحابها في الدنيا كثيرا وتعبوا كثيرا، ولكنْ لغير الله، فما نفعتهم أعمالهم ولا أموالهم.
قراءات :
قرأ أهل البصرة غير سهل : تُصلى بضم التاء. و الباقون تَصلى بفتحها.
وإذا عطِشوا يَسقونهم ماءً حارا من عين حرارتُها بالغة الشدّة.
وإذا طلبوا الطعامَ يقدَّم لهم طعام خبيث رديء، اسمه الضَريع، ليس فيه فائدةُ الطعام المعروف.
فهذه الصورةُ البشعة من العذاب تصوّر في أذهاننا هولَ ذلك اليوم حتى نرعويَ ونبتعدَ عن كل ما يُغضب الله من أعمال وأقوال، ونسلكَ الطريق المستقيم.
وبعد أن بين حالَ المجرمين وما يلاقون من ذلّ وهَوان وعذاب، وصف المؤمنين الصادقين بأحسن الأوصاف فقال :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴾
أما وجوه المؤمنين الصادقين يومئذ فتكون نضرة مبتهجة كما جاء في قوله تعالى :﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم ﴾ [ المطففين : ٢٤ ] ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢ ].
وقد فرحتْ هذه الوجوه بما لاقت من جزاء عملها في الدنيا.
فهي لسعْيِها راضية.
في جنةٍ مرتفعة مكاناً وقدرا.
وهي بعيدة عن اللغو، فهي في منازِل أهل الشرف في سعادة وكرامة في ضيافة رب العالمين.
قراءات :
قرأ أهل البصرة غير سهل : لا يُسمع فيها لاغية بضم الياء ورفع لاغية. والباقون : لا تسمع بفتح التاء ونصب لاغية. وقرأ نافع : لا تسمع فيها لاغية بالتاء المضمومة ورفع لاغية.
في هذه الجنة ماء جارٍ من نبع صافٍ يسر الناظرين.
وفيها السرر المهيّأة لهم مرفوعة نظيفة.
وأكوابٌ مجهزة مهيّأة لهم كلما أرادوا الشربَ وجدوها في متناول أيديهم.
وأنواعُ البسُط والطنافس والسجاجيد مبسوطة في كل مكان. كل هذا النعيم أُعدّ لمن عمل صالحاً من المؤمنين، فاعتبِروا يا أولي الألباب.
فهل آن لهؤلاء الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالله أن يعتبروا بهذا الترتيب الإلهي، وأن يقدّموا الإحسان في العمل حتى يبلغوا فيه غايةً مرضيّة، وأن يبتعدوا عن اللهو والترف ويتحلّوا بالفضائل، ويتدبروا كتابَهم ويرجعوا إلى سيرة الرسول الكريم وصحبه الطاهرين فينهضوا إلى طلبِ ما أَعدّ الله لهم، ويشاركوا في بناء هذا المجتمع ويستردّوا ما اغتُصِب من أراضيهم ! !
وبعد أن بين الله تعالى أحوال الآخرة وما فيها من نعيمٍ للمؤمنين وشقاءٍ للجاحدين يذكّر الناسَ هنا لينظروا في هذا الوجود الظاهر، ويعتبروا بقدرة القادر وتدبير المدبّر فقال :
﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾.
إن هذه المشاهد معروفة لنظر الإنسان حيثما كان : الحيوان والسماء والأرض والجبال. وأيّاً ما كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه مشاهد داخلة في عالَمه وإدراكه. ويذكّرنا الله تعالى بأن ننظر ونعتبرَ بهذه القدرة الخارقة والتدبير المحكَم.
فالجمل حيوانٌ عجيب ونفعه كبير جدا، عليه يسافر الإنسان ويحمل أثقاله. ومن لبنِ الناقة يشرب، ويأكل من لحومها، ومن أوبار الإبل وجلودها يلبس ويتّخذ المأوى. فقد كانت الجِمالُ ولا تزال في كثيرٍ من بقاع الأرض موردَ الحياة الأول للإنسان ومن أحسن المواصلات، حتى سُميت سفنَ الصحراء. وهي قليلة التكاليف وعلى قوّتها وضخامتها يقودُها الصغير فتنقاد. ولهيئتها مزية وفي تكوينها عَجَب. فعينا الجمل ترتفعان فوق رأسه، وترتدّان إلى الخلف. ولهما طبقتان من الأهداب تقيانهما الرمالَ والقذَى. وكذلك المِنخَران والأُذنان يكتنفها الشعر للغرضِ نفسِه. فإذا ما هبّت العواصف الرملية، انقفل المِنخران وانثنت الأُذنان نحو الجسم. والإِبلُ أصبرُ الحيوان على الجوع والعطش والكدح، ومزاياها كثيرة لا يتسع المقام لبسْطِها. وما زال العلماء يجدون في الجمل كلّما بحثوا مصداقاً لِحَضِّ الله تعالى لهم على النظر في خَلْقه المعجز.
ألا ينظرون إلى الأرض التي يتقلبون عليها كيف مهّدها الله لهم، فأينَ
ما سافر الإنسانُ يجدها مبسوطة سهلة مع أنها كروية الشكل.
والله تعالى يوجه أنظارنا إلى ما حولنا من مخلوقات وما نرى في هذه الطبيعة الجميلة حتى نتّعظ ونؤمنَ بقدرة مَن خلق هذا الكون العجيب،
وما فيه من الكائنات، وقُدرته على حِفظها وإحكام صنعها، كي ندرك أنه قادر على أن يُرجِع الخلق إلى يومٍ يوفَّى فيه كل عامل جزاء عمله.
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾.
ذكّر الناسَ أيها الرسول بالآخرة وما فيها، وبالكون المعروض أمامهم وما فيه من عجائب، فإن مهمّتك التبليغُ ودعوةُ الناس إلى ما فيه خيرهم.
ما تريد.
ولستَ عليهم بمتسلّط. وحسابُهم على الله.
ثم ختم هذه السورةَ الكريمة بآيتين قصيرتين جليلتين أكد فيهما رجوعَ الناس إليه وحسابَهم الدقيق في ذلك اليوم فقال :
﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
إنهم راجعون إلينا.