تفسير سورة الغاشية

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الغاشية
مكية، ست وعشرون آية، اثنتان وتسعون كلمة، ثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) أي خبر القيامة التي تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين بشدائدها، و «هل» استفهام أريد به التعجب مما في ذلك الحديث، والتشويق إلى استماعه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ غشيت خاشِعَةٌ (٢) أي ذليلة بالعذاب عامِلَةٌ أعمالا شاقة ناصِبَةٌ (٣) أي ذات تعب فيها، وهي جر السلاسل، والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإبل في الوحل، وصعودهم في تلال النار وهبوطهم في وهادها وهم الرهبان وأصحاب الصوامع كما قاله ابن عباس، أو هم الخوارج كما قاله علي تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) أي تدخل نارا متناهية في الحر.
وقرأ أبو عمرو، وعاصم بضم التاء الفوقية وقوله تعالى: وُجُوهٌ مبتدأ وخاشِعَةٌ وما بعده خبره، وقيل خبره «تصلى» وما قبله صفات ل «وجوه» ولا يوقف قبل الخبر، وقرئ «عاملة» ناصبة على الشتم تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) أي متناهية في الحر لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) وهو ما يبس من الشبرق وهو نبت يكون في طريق مكة إذا كان رطبا تأكل منه الإبل، وإذا يبس صار كأظفار الهرة، وهو سم قاتل، وهذا طعام لبعض أهل النار، والزقوم، والغسلين لآخرين لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) أي غير مسمن وغير مشبع لأنه ليس من جنس ضريع الدنيا.
روي أن كفار قريش قالت: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت هذه الآية، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) أي ذات حسن وجمال لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) أي لثواب عملها الذي عملته في الدنيا راضية حين رأت ذلك الثواب حتى لا تريد أكثر منه فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) مكانا ومنقبة
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١).
قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وحفص بفتح التاء ونصب «لاغية» أي لا تسمع أنت يا أكرم الرسل، أو يا مخاطب، أو لا تسمع الوجوه في الجنة كلمة ذات لغو، فإنما يتكلمون بالحكمة، وحمد الله على النعم، وقرأ نافع بضم التاء الفوقية ورفع «لاغية»، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم الياء التحتية ورفع «لاغية»، وقرأ المفضل، والجحدري بفتح الياء التحتية ونصب «لاغية» أي لا يسمع فيها أحد يمينا لا برة ولا فاجرة فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) أي في الجنة عين شراب جارية على
وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) في الهواء لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم، والملك. قال ابن عباس:
هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء وَأَكْوابٌ أي كيزان مَوْضُوعَةٌ (١٤) بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب، أو فضة، أو من جوهر وتلذذهم بالشراب منها وَنَمارِقُ أي وسائد مَصْفُوفَةٌ (١٥) بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى وَزَرابِيُّ أي بسط فاخرة مَبْثُوثَةٌ (١٦) أي منشورة مفرقة في المجالس، فلما أخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك قال كفار مكة: ائتنا بآية بأن الله أرسلك إلينا رسولا فقال الله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) أي أينكر كفار مكة البعث، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله فلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت بشدة قوتها، وعجيب هيئتها، وصبرها على الجوع، والعطش، واحتمال المداومة على السير، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) فوق الأرض بلا عماد ولا إمساك وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) نصبا رضيا على الأرض لا يتزلزل وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) أي بسطت على الماء.
وقرئ «سطحت» مشددا، وقرأ علي رضي الله عنه وكرم وجهه «خلقت» و «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» على البناء للفاعل وبتاء المتكلم، فَذَكِّرْ أي فاقتصر على التذكير والحمل على النظر في هذه الأدلة
إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) فلا بأس عليك في أن لا ينظروا بالاعتبار ولا يتذكروا بالافتكار إنما عليك البلاغ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) أي لست يا أشرف الخلق بمتسلط عليهم بأن تجبرهم على الإيمان، وقرأ هشام بالسين، وحمزة بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة، وقرئ بفتح الطاء إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣)، وفي هذا الاستثناء قولان:
أحدهما:
إنه استثناء حقيقي وفي هذا احتمالان: إما أن يكون مستثنى من المفعول أي فذكر عبادي إلا من أعرض عن الإيمان وكفر بالقرآن فاستحق العذاب الأكبر، وإما أن يكون مستثنى من الضمير في «عليهم» أي لست عليهم بمسيطر إلا على من انقطع طمعك من إيمانه وتولى عنك وكفر بالله، فإن لله القهر، وسيأمرك بقتالهم، فإن جهاد
الكفار وقتلهم تسليط، فكأنه تعالى أوعدهم بالجهاد في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة.
ثانيهما:
إن هذا الاستثناء منقطع عما قبله والتقدير لست بمستول عليهم، لكن من تولى منهم فإن الله تعالى يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم، وعلامة كون الاستثناء منقطعا حسن دخول «أن» في المستثنى به وإذا كان الاستثناء متصلا لم يحسن ذلك ألا ترى أنك تقول:
عندي مائتان إلا درهما، فلا يحسن عليه دخول أن، وهاهنا يحسن دخول أن فإنك تقول إلا أن من تولى وكفر، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) وسمي العذاب بالأكبر لأنه قد بلغ حد عذاب
626
الكفر، فإن ما عداه من عذاب الفسق دونه، وقرئ «ألا من تولى» بفتح الهمزة على التنبيه، وهذا مما يقوي القول بأن الاستثناء منقطع، وفي قراءة ابن مسعود «فإنه يعذبه الله». إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) أي رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا قرأ أبو جعفر المدني بتشديد الياء، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦) في المحشر على النقير والقمطير لا على غيرنا، والحساب واجب عليه تعالى بحكم الوعد الذي يمتنع الخلف فيه، وفي الحكمة فإنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم تعالى الله تعالى عنه، وذكر تعالى هذه الآية ليزيل بها عن قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم حزنه على كفرهم.
627
Icon