تفسير سورة يونس

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ يُونُسَ - عَلَيهِ السَّلَامُ -
قوله تعالى: ﴿الر... (١)﴾.. قال الزمخشري: تقرير للحروف عن طريق التحدي بسببها. ابن عرفة: أراد أن دليل النبوة التعجيز بالآيات وتركيب حروفها؛ كالصانع النجار فإنه ليس من شرطه حسن الخشب بل حسن هيئتها في الصنع وشكلها، وكذلك الصلآل ليس من شرط صنعته طينة الطفل بل حسن العمل، وكذلك هنا إشارة إلى أن هذه الآيات أنزلت بحروف معهودة لكم تتكلمون بها إلا أن صيغة تركيبها يعجز كون التحدي بصفة التركيب لَا بالمادة.
قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).
قال ابن عطية: قيل: المحكم، وقال الزجاج: هو محكم، وهو صفة موصوف بصفة الله تعالى فهو محكم.
ابن عطية: فرجعت إلى قول واحد.
ابن عرفة: لم يفهم عنه مراده وإنما أراد ما قال الزمخشري من أنه من باب إسناد الشيء إلى غير فاعله، كقولهم: ليل قائم ونهار صائم، يوصف القرآن بصفة من هو كلامه كما وصف الليل والنهار بصفة يعتد فيها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... (٣)﴾
حكى ابن سينا في تأليفه الخلاف هل الأرضين سبع أو لَا؟ والاختيار هو أنها سبع، وقال المازري في المعلم: سألت عنها شيخنا عبد الحميد، فقال: إنها سبع لحديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] "، ولقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) وتأول ابن رشد هذه الآية في البيان والتحصيل في مسألة سعيد بن المسيب من كتاب الصرف بأنه لا يلزم من لفظ المثل أن يكون قدرها، وبدليل حديث: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن"، ومع أنه لَا يحاكيه في الحيعلة والحوقلة؛ بل يقول: لَا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ).
ابن عرفة: [يؤخذ منها الاستدلال*] على وجوده بالإمكان، وهو المناسب في الآية؛ لأنه أظهر والإمكان أغمض، قال: فإن قلت: الفائدة أن الخبر أعم من المبتدأ، كقولك: الإنسان حيوان، وجاء هذا على العكس؛ فيلزم أن يكون كقولك: الحيوان إنسان وهذا لَا يصح، قال: والجواب أن الرب كما لَا يؤخذ منه إلا واحدا كالإله، ومن يعرف المنطق لم يفهم هذا، فيصح الإخبار عنه [بالواجب*] وهو الله.
قوله تعالى: (فَاعْبُدُوهُ).
قال: قد يتمسك به من يقول بوجود شكر المنعم عليه؛ لأن الفاء تقتضي التثبت.
قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا... (٤)﴾
يحتمل أن يريد بالرجوع ما ذكروه في الروح من أنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء حتى توقف بين يدي الجبار، جل وعلا ثم ترجع روح المؤمن إلى الموضع الذي فيه جسده، وترجع روح الكافر إلى سجين، ويحتمل ما ذكره المفسرون.
قوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا).
معناه لأنه صدق ولا يلزم عليه مذهب المعتزلة في أن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده.
قوله تعالى: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).
قرأ أنه بالفتح، فقيل: هو فاعل حقا، كقوله (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ)، وقيل: مفعول فعله رباعي. أي أحق أنه يبدأ الخلق.
وقال ابن عطية: أنه بدل من وعد، ابن عرفة: أي بدل اشتمال، ابن عرفة: فيرد عليه أن الوعد إنما يكون بأمر مستقبل، وبدأ الخلق ماض فلا يتعلق به الوعد، قال: وعادتهم يجيبون بوجهين:
الأول: أن المراد بالوعد الكلام القديم الأزلي والإبداء والإعادة مستقلان عنه.
الثاني: أن المراد بالوعد مجموع الإبداء والإعادة؛ لأن في كل واحد منهما نظر، والمجموع مستقل، كما قالوا في حد القياس: أنه حمل معلوم في إثبات حكم السماء وتقف عنهما، فأورد عليه أنه يلزم منه أن يكون حكم الأصل ثابتا بالقياس، وأجابوا بأن المراد ثبوت المجموع لَا ثبوت كل واحد.
وقال ابن عرفة مرة أخرى على هذا يكون الوعد تعلق بأمرين الإبداء والإعادة فمتعلقة بالإعادة ظاهر، وأما تعلقه بالإبداء ففيه نظر؛ لأن الوعد إنما يتعلق بالمستقبل، والجواب إما بأن الوعد قد حصل في الأولى فهو متقدم على الإبداء، وإما بأنه باعتبار المجموع فيكون تعلق بالمجموع من حيث كونه مجموعا.
قوله تعالى: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ).
ابن عرفة: يحتمل أن يكون من باب حذف الفاعل فذكر في الثاني ما يقع به الجزاء، وحذف كيفه كدلالة الأول ما يقع به الجزاء لدلالة الثاني عليه، وذكر كيفه، والتقدير ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ بالقسط الثواب الجزيل، والذين كفروا بالقسط يجزيهم ولهم شراب من حميم وعذاب أليم.
وقوله: (بِالْقِسْطِ) يحتمل أن يرجع إلى عملهم أو إلى أجزاء عملهم.
وقوله: (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ) من باب عطف العام على الخاص، وكان بعضهم يقول: [إنما أتى به*] كذلك؛ لأن الشراب أمر وجودي محسوس، والعذاب أمر معنوي، والوجودي لَا يدخل تحت المعنوي فهما مختلفان.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا... (٥)﴾
قال ابن عطية: النور أضعف من الضياء فكيف صح إسناده إلى الله تعالى في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وفي الحديث "نورٌ أنَّى أراه" لما سئل هل رأى ربه أم لَا؟ وأجاب بأن الضياء عام يتعلق بكل شيء، والنور خاص ببعض دون بعض، ولذلك وجدنا نور السراج يشرق على موضع دون موضع، فلو نسب [الضياء*] إلى الله تعالى لكان الإيمان اضطراريا، فلأن يكون كل واحد مؤمنا إيمانا ضروريا لظهور الأشياء تأكيد بعضه بهيئة، فلذلك أسند النور إليه تنبيها على أنه تارة يظهر دلائل على وجوده ووحدانيته، وصفات كماله لقوم، وتارة يخفي عن آخرين.
ابن عطية: وهو [أضلنا*]، قيل لابن عرفة: يرد علي أنه إن أريد مطلق الضياء ومطلق النور فهما متساويان، فكما قلتم: إن النور يتعلق بشيء دون شيء، فكذلك الضياء وإن كان ذلك مضافا فيقال ضياء كذا ونور كذا، فهو مجتنب ما يضاف إليه.
ابن عرفة: إنما لَا ينافي مطلق الضياء ومطلق النور، ويقول: إنه في اللغة يعم الضياء ويخص النور.
قوله تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ).
ابن عطية: أعاد الضمير على القمر وحده فهو من إطلاق المفرد على الاثنين.
ابن عرفة: وعادتهم يقولون: إنما خص التقدير بالقمر دون الشمس فإن منازلها تعلم بالفصول علما ضروريا ظاهرا؛ لأن سيره في المنازل ظاهر معلوم [يدرك كل أحد ببصره*]؛ حتى البهائم ألا ترى أن كل أحد يعلم دخول الصيف والربيع والشتاء حتى أن الغرنوق يذهب [... ] ولا يبقى منه شيئا، والبلائع يأتينا في أول يوم من الربيع وكل حيوان يدرك [... ]. فضله [... ] القمر، فإن سيره في المنازل لَا يدركه إلا الخواص فكذلك أعاد الضمير عليه وحده دون [... ]، وقيل لابن عرفة: الخطاب إنما هو للعرب، والعرب إنما [يحسبون*] بالقمري لَا بالشمسي، فقال: قد تقدم؛ لأن ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب في كتاب الزكاة فيما إذا أخرج الزكاة بالقمري وخالف الشمسي، فكان بينهما أيام هل يعتد بها أو لَا يعتد بها، وتقدم لنا في تأليفنا الرد عليه.
قوله تعالى: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ).
قدم العدد لأنه هو المتقدم في الوضع بوضع أولا العدد؛ ثم يقع عليه الحساب بعد ذلك.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا).
ابن عرفة: إن أريد بذلك فعل المعاصي فالرجاء بمعنى الخوف، وإن أريد به عدم فعل الطاعة، فالرجاء على بابه، وفسره الفخر بالطمع وهما بمعنى واحد.
قوله تعالى: ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا... (٧)﴾
أي رضوا بها حال كونهم مطمئنين إليها؛ فيكونوا ثلاثة أقسام: منهم من لم يرض ومنهم تراضى بالدنيا واطمأن، ومنهم من غفل عن الآية فيتناول هذا الوعيد هؤلاء الثلاثة والأولان راجعان لعدم الاهتداء بالدلائل العقلية، والثالث راجع لعدم الاهتداء بالدليل الشرعي.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ... (٨)﴾
الصواب جعل النار مبتدأ ومأواهم خبر ليفيد حصر النار في مأواهم؛ فيكون حجة لأهل السنة على المعتزلة وتكون الآية في الكافرين.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ... (١٣)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منها العمل بالقياس لأنه به يحصل التخويف؛ فيأخذ أيضا منها القياس على أفعال الله فتكون حجة لمالك في حكمه في الرجم في اللواط قياسا على الرجم في الزنا.
قوله تعالى: ﴿لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)﴾
قلنا: يؤخذ منه أن الوجود مصحح للرؤية.
قوله تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ... (١٥).. ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق أن الأمم السالفة أهلكوا بسبب عصيانهم عقبه بعبارات [قال*] هؤلاء لذلك عدل فأنت تغيره؛ لأن القادر عليه قادر على غيره، وإن كان من عند الله [فرده إليه وبدله*] بقرآن آخر، وهذا يدل على أن الدل بمعنى بدل، وكذلك سورة الكهف (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) لقراءة ابن كثير يبدلهما بالتخفيف والباقون بالتشديد.
قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ).
دليل على نفي القياس والاجتهاد، وأجاب بأن ذلك من الوحي.
قوله تعالى: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
دليل على أن تارك المندوب لَا يسمى عاصيا؛ [لأن*] العذاب العظيم على العصيان.
خلافا لما حكى المازري في العلم في كتاب النكاح عن بعض البغداديين في حديث: " [وَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ*] ".
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا... (١٩)﴾
ابن عرفة: إن قلت: لم قال في سورة البقرة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) بغير أداة حصر، وقال: هنا (وما كان النَّاس إلا أمة واحدة) بأداة الحصر.
فالجواب: أن آية البقرة خرجت مخرج ذكر بعث النبيين فلم يحتج، وبالحصر كونهم أمة واحدة، وهذه الآية خرجت لبيان اختلاف الأمم بعد اتفاقهم، واحتج فيها إلى حصر كونهم أمة واحدة.
ابن عرفة: وتقدمنا فيها آية يؤخذ منها أن الإجماع حجة لَا يجوز مخالفته؛ لأنها اقتضت ذم الاختلاف بعد الاتفاق، ولا معنى مخالفة الإجماع إلا هذا، وقوله: قبل هذا (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)، قال بعض الطلبة: لَا يبعد أن يؤخذ منها جواز النسخ في القرآن؛ لأن مفهوم قوله: (مِنْ تِلْقَاءِ) يعني أن ذلك جائز من عند الله عز وجل.
قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ... (٢٦)﴾
ابن عرفة: يحتمل أن يريد الإحسان الأعم وهو مطلق الطاعة مع الإيمان، والأخص وهو ما في الحديث: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وسياق الآية يدل على أنه الأخص.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
يؤخذ منه أن الصحابة لَا تستلزم الرؤية؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال، وهم حينئذ لم يروه وإنما يرونها في المستقبل.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨)﴾
مناقض لقوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ)، وأجاب ابن عرفة: بأن المراد: ما كنتم إيانا تعبدون عبادة مرضية لنا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ... (٣١)﴾
يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه رسلم، أو خطابا للجميع، فأمر كل واحد بأن يقول ذلك، قال: ولما تقدمها إنذار المشركين بما لحقهم من العذاب عقوبة على فعلهم القبيح، عقبه ببيان البرهان الدال على إبطال [معتقدهم*].
قال: وهذا يحتمل أن يكون كلا أو كلية؛ فيتناول ثلاثة أمور:
الرزق الخاص بالسماء، والرزق الخاص بالأرض، والرزق المشترك بينهما وهو النبات فإِنه من المطر بعد تغذيه بالتراب.
قوله تعالى: (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ).
بدأ أولا بالأمر الجلي الواضح لكل أحدث لأن كل أحد يحتاج إلى الغذاء، ولا يستطيع الصبر على الجوع بوجه فيظهر له الافتقار إليه بالبديهية في كل زمان بخلاف السمع والأبصار، فإِن دوامها غالب، وطرق الإعراض عنها قليلة ليس في كل زمان ولا لكل النَّاس بل لبعضهم فقط؛ فالافتقار إلى الغوث، ثم إن إخراج الحي من الميت أخفى فلا يدركه كل أحد، ثم تدبير الأمور وإرادتها أخفى من الجميع، ولذلك خالف فيها المعتزلة والقدرية.
ابن عرفة: وأفرد السمع وجمع الأبصار لوجهين: لفظي، ومعنوي؛ أما اللفظي؛ فلأن السمع مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه، والبصر اسم غير مصدري.
وأما المعنوي؛ فلأن السمع يدرك به الإنسان الصوت من الجهات الست، والبصر لا يدرك به إلا ما يقابله فقط، ولذلك قدم؛ لأنه أشرف، وهذا دليل على أن العرض لا يبقى زمنين، وأنه في كل زمن يقدم البصر ويمده بأبصار جديدة كإعدام لون الثوب فسيقولون الله؛ لأنه لم يخالف في ذلك أحد، كما قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ... (٣٥)﴾
ابن عرفة: عدا الأول بإلى، والثاني باللام؛ لأن إلى للغاية تقتضي أنها ما قبلها عندها ومخالفته لما بعد، واللام للملك فالله تعالى يملك الحق ويمنحه ويعطفه ويخلقه في قلوبهم، فهدى له كله، والشركاء لَا يملكون شيئا، فعلى تقدير أن تكون لهم الهداية إنما يعدون الطريقة ولمبادئه ومقدماته فقط، قيل لابن عرفة: يبطل هذا بقوله (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) فقال: هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأن الشركاء لَا يهدون لحق بوجه، فمعناه إذا كان الذي يهدي لمقدمات الحق وأوائله أحق بالاتباع ممن لَا يستطيع شيئا بوجه، فأحرى أن لَا يكون الذي منح الحق كله، ويعطفه ويخلقه في قلوبكم أحق بالاتباع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا... (٣٦)﴾
مصدر مولد للفعل المنفي فهو نفي أخص ولا نفي أخص.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).
ولم يقل: بما يعملون؛ والعمل أبلغ ألا ترى أنهم قالوا في حديث الأعمال بالنيات يستثنى منه النية، وهي القصد إلى النظر، والنظر قبلوا النية عملا.
وأجيب بأنه إشارة إلى تعنتهم وأن حقهم إظهار الحق وفعله.
قوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ... (٣٨)﴾
ابن عطية: هي دليل لمن يقول بالصرفة.
ابن عرفة: ومعنى الصرفة أن تقول دليل كرامتي أني أقوم من هناك إلى هنا وتعجزون أنتم عن ذلك، فحاصله أن تعجزهم عن شيء هو من مقدورهم.
وعين الصرفة مثل أن يقول: دليل كرامتي استطاعتي؛ أثبتها المعتزلة، ونفاها أهل السنة.
قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ... (٣٩)﴾
الزمخشري: أي بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه.
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ).
معناه أنه غير قابل لأن يكون مفترى، وأن يفترى مقدر بالمصدر؛ أي كان ذا افتراء، وما كان افتراء بمعنى مفترى، مثل: قتلته صبرا أي مصبورا، مثل: قال ابن عرفة: وتقدمنا فيها سؤال وهو أن ظاهر الآية أنه لم يكن مفترى على غير الله تعالى،
340
وفرق بين قولك: هذا افتراء على فلان، أو هذا افتراء من غير فلان، فمعنى الآية أنه افتراء على الله، أي ليس المعنى أنه افتراء غير الله؛ فإِذا كان المعنى ما كان لأن يفتريه غير الله فمفهومه أن غير الله نقوله من غير افتراء، وهذا ممكن، وإنما المعنى ما كان لأن يفتري من غير أمر الله فمفهومه أنه يكون مفترى بأمر الله، وهذا المفهوم غير موجود لاستلزامه التناقض؛ لأنه من حيث كونه مفترى فهو لذنب على الله فكيف يكون بأمر الله. فيكون كما قالوا في قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا).
قوله تعالى: (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ).
ابن عرفة: التفضيل إما راجع للكتب السابقة؛ فيرجع التصديق إلى ما أخبر به من الأمور المستقبلة كأشراط الساعة وغيرها، وإما أن يراد بالتفضيل أنه معجزة تتضمن الأحكام الاعتقادية فتوافق الكتب السالفة في أحكامها الاعتقادية لَا الشرعية؛ لأن الشرائع مختلفة وأحكام الاعتقاد متحدة.
قوله تعالى: (لَا رَيبَ فِيهِ).
أي عند من أنصف ونظر النظر السديد فأدرك أنه لَا ريب فيه.
قال أبو حيان: والاستدراك هنا في لكن على أصلها؛ لأنها بين متناقضين.
ابن عرفة: فإن قلت: بل هي بين متماثلين؛ لأنه إذا لم يكن مفترًى فهو مصدق لما بين يديه، فالجواب: أن الثناء باعتبار نفس الفعلين لَا بين الجملتين، كقولك: ما تحرك زيد لكن سكن.
قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ).
وفي البقرة (مِن مِثلِهِ) فالمثلية هنا راجعة للقرآن، وهناك للشخص الآتي.
قال ابن عطية: السورة مأخوذة من سورة النبأ وهي في القرآن القطعة التي لها مبتدأ وبها ختم ابن عرفة، وكذلك الكلمة؛ والصواب: أنها القطعة التي لَا يصدق اسمها إلا على جملتها، ابن عرفة: والإعجاز في الكتب السالفة وقع بجملة كل كتاب منها، والإعجاز في القرآن وقع بكل آية منه.
ابن عرفة: وذكر ابن عطية هنا أن الإعجاز وقع بالكلام القديم الأزلي وهو باطل؛ لأن المعجزة من شروطها الحدوث. فكيف يقول: وقع الإعجاز بالمعاني من الغيب
341
لما مضى، ولما يستقبل؛ لأنه معلوم أنهم لَا يقدرون على ذلك، وكذلك قال الشاطبي في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) [**ومن يقل بعلوم الغيب]، قلت: وأثبته [... ]، لأنه فرق بين تكليف ما لَا يطاق وبين الإعجاز بتكليف ما لَا يطاق؛ فلم يعجزوا أصلا بالإتيان بمثل الكلام القديم الأزلي؛ لأنه ليس في قدرتهم ذلك بوجه؛ ولأن المعجزة من [شرطها*] الحدوث، فلو علله بكون المعجزة من شرطها الحدوث لصح له ذلك.
فكلام الشاطبي مثل كلام ابن عطية هنا؛ لأن الشاطبي فهم أن المراد فأتوا بكلام قديم أزلي من عند الله، كما أتى القرآن من عنده فأبطله الشاطبي بأنه من تكليف ما لا يطاق.
قال ابن عرفة: وهو ضعيف؛ لأن تكليف ما لَا يطاق عادة عندنا جائز، فكيف يبطله؟! فإنه من تكليف ما لَا يطاق، وفرق بين التكليف بالحال وبين إلزام الحال.
قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ).
الزمخشري: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجئوه في بداهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا [كنه*] أمره، وذلك لفرط نفورهم مما يخالف دينهم وخروجهم عن دين آبائهم كالناشئ على التقلد من الحشوية.
قيل لابن عرفة: الحشوية هم الحنابلة، والزمخشري حنفي.
ابن عرفة: الحشوية عندهم المخالفون لمذهبه، وعندنا هم المجسمة القائلون بالجثة والمكان، قلت: وفي تلبيس إبليس [لابن الجوزي*] الحشوية طائفة من المرجئة [قالوا بوجوب*] النافلة كالفريضة (١)، وانظر ما قيدت في سورة النمل في قوله تعالى: (قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) ابن عرفة: وتكذيب الإنسان بما لم يعلم أشد؛ فنجا من تكذيبه بما علم، قدمهم أولا على التكذيب بما علموا ثم أضرب عنه بكونهم كذبوا به قبل العلم به، قال: وكان بعضهم يأخذ من الآية مطلبين أحدهما: أنه لَا يجوز لأحد أن ينكر علما من العلوم فلا يكذب به من يعلمه.
الثاني: إذا بحث ذاك فلا يرد عليه حتى يكرر كلامه ليعلم منه أنه فهمه، وحينئذ يقبل منه الجواب عنه؛ لأن الرد عليه تكذيب له وإبطال.
قوله تعالى: (وَلَمَّا يَأتِهِم تَأوِيلُهُ) أي لم يعلموه من حيث ليكمله لرجل لم يقرأ علم الفلسفة ولكن يعلم خاصيته؛ وهو أن من خصائصه نسبة التأثير لغير الله عز وجل
(١) النص في التلبيس هكذا:
"وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة التاركية قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به فمن آمن به وعرفه فليفعل ما شاء والسائبية قالوا إن الله تعالى سيب خلقه ليعملوا ما شاءوا والراجية قالوا لا نسمي الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا لأنا لا ندري ما له عند الله والشاكية قالوا إن الطاعات ليست من الإيمان والبيهسية قالوا الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر والمنقوصية قالوا الإيمان لا يزيد ولا ينقص والمستثنية نفوا الاستثناء في الإيمان والمشبهة يقولون لله بصر كبصري ويد كيدي والحشوية جعلوا حكم الأحاديث كلها واحدا فعندهم إن تارك النفل كتارك الفرض والظاهرية وهم الذين نفوا القياس والبدعية أول من ابتدع الأحداث في هذه الأمة. اهـ (تلبيس إبليس. ٣١).
342
فيكذب به من أجل هذا، وقيل إن معناه: ولم يطلعوا على عاقبه، ومثاله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ... (٤٢).. ابن عرفة: إن قلت: ما السر في جمع ضمير المستمعين وإفراد ضمير الناظر؟
فالجواب: أن الاستماع يقع من الجهات الأربع، والنظر إنما يكون من جهة الأمام فقط، فخلقت العجائب مع كلامه، فيها كل من دار به لَا ينظر إلى أفعاله إلا من هو قبالته، فالسامعون لكلامه أكثر من الناظرين فنقله فكذلك جمعهم.
فإن قلت: لم أفرد السمع وجمع الأبصار مع أن متعلق السمع أكثر؟ فقال: لأن السمع مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه فلا يجمع، والبصر اسم [الجارجة*] التي يبصر بها فصح جمعه.
قوله تعالى: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ).
قال ابن عرفة: هذا استفهام على سبيل الإنكار فهو في معنى النهي، كقولك (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) قال: ولو إنما تدخل على ما تستبعد وقوعه، أو تستقرب؛ كقولك: أكرم السائل ولو أتاك على فرس؛ لأن إكرامه إذا أتى على فرس مستبعد، ونفي إسماع غير العقلاء أظهروا بين مما نفي سماع الصم العقلاء، فكيف أدخل عليه لو؛ فإنما كان يقال: أفأنت تسمع من يعقل ولو كان أصم فيكون ظاهرا؟ وأجيب بوجهين:
الأول: أنه تنبيه على حرص النبي ﷺ على إسماعهم وإيمانهم.
الثاني: أن لو إنما دخلت في الكلام المثبت غير المنفي، ودخل الاستفهام بعد ذلك على الجملة فهو نفي أخص لَا نفي أعم، فأصله أنت تسمع ولو كانوا لَا يعقلون، فدخل الاستفهام عليه فنفى الجملة، كقولك: ما ضربت زيدا ضربا، فنفيت الفعل المولد. لأنك أكدت الفعل المنفي، كقولك: أفأنت تقوم ولو كنت مقعدا، أنكرت قيامه في هذه الحالة كما نفيت الضرب المولد، وكذلك تقول: أفأنت تكرم زيدا وإن أساء إليك، أنكرت إكرامه في هذه الحالة فأنكر هنا إسماع الصم في حالة عدم العقل.
قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ... (٤٦)﴾
انظر ما الفرق بين هذه، وبين قوله في سورة القتال (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) عطف الثاني هناك بـ إما وعطفه هنا بـ أو، قال: وأجيب بأن إما [للتفصيل*]؛ فتدخل بين المتغايرين وإن لم يكونا متناقضين، وأو لأخذ الشيئين أو الأشياء فتدخل بين النقيضين، ولا شك أن المن والفداء يجتمعان
فيمن على أشخاص ويفدي أشخاصا، فدخلت إما [لتفصيل*] حال هؤلاء من حال هؤلاء ورؤيته بعض الذي وعد لَا يجتمع مع وفاته بل تناقضها فحسنت فيه أوقف له ثم الله شهيد على ما يفعلون، وإما أن يريد في الآخرة فتكون حكاية حال ماضيه، أو يريد شهيد في الدنيا على ما يفعلون فيها؛ لأن الآخرة ليس فيها فعل بوجه يوجد إذ ليست دار تكليف.
وجعل أبو حيان جواب الشرط الأول مقدرا؛ أي: وإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم، فذلك يعارض ابن عرفة؛ لأن قوله (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) إنما يجيء جوابا عن الثاني.
ابن عرفة: وهذا لَا يلزم، ونظيره قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) لأن عذاب النار ثابت لهم مطلقا سواء كتب عليهم الجلاء، أو لم يكتب.
قوله تعالى: ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧)﴾
إن أريد لَا يظلمون في القضاء فيكون تأكيد، وإن أريد لَا يظلمون مطلقا فيكون تأسيسا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ... (٤٩)﴾ وقال في الأعراف (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ابن عرفة: لما تقدم ذلك (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) ناسب تعقيبها بقوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ولما تقدم هذه (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) بقوله (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) قلت: ولهذا أجاب ابن الزبير عن تقدم النفع هناك على الضرر، وتأخيره هنا، فقال: لما تقدم آية الأعراف سؤالهم عن الساعة، وتكرر في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي عالم بها، وظاهر سياق الآية أنهم كانوا يظنون عليه بها، والعلم بالشيء يقع لصاحبه؛ قدم فيها نفي النفع، ولما تقدم لهذه طلبهم تعجيل العذاب، بقولهم (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) استهزاء وتكذيب قدم فيها نفي الضر.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ... (٥٣)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منه جواز حلف الشاهد على شهادته، قاله بعضهم وهو يفيد قوله (أَلَا إِن لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ... (٥٥).. قال: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدمها (وَلَو أَنَّ
لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) فقد يتوهم أنه تعالى مفتقر إلى أخذ الفداء؛ فنفى ذلك بقوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) الآية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ... (٥٧)﴾
نقل ابن عرفة هنا كلام الزمخشري وابن عطية، ثم قال: ويحتمل عندي أن يكون المراد بالموعظة المعجزة، وبالشفاء الإيمان، وبالهدى فروعه، وكانت هدى؛ لأنها موصلة للسعادة، وبالرحمة حفظ الأموال والنفوس، وهي عامة بجميع المؤمنين، ووقع العطف على الترتيب والتأخير كما هو في الوجود الخارجي.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا... (٥٩)﴾
يحتمل أن يكون من باب إطلاق السبب على المسبب؛ فيكون الرزق حقيقة في الطعام وأطلق عليه اسم الإنزال، ويحتمل العكس فيكون الرزق مجازا في الماء، والإنزال حقيقة، ولا دليل في الآية على أن الأشياء على الحظر والإباحة.
وقوله (مِنْ رِزْقٍ) قال أبو حيان: للتبعيض أو لابتداء الغاية، قلت: بل لبيان الجنس، ولا يصح التبعيض؛ لأن رزقا مطلق إذ هو في سياق الثبوت فيصدق بصورة وبعض رزق واحد لَا يعينه ليس برزق، فإن قلت: إنه رزق، قلت: أقول لفظ البعض يتناوله، فإذا بعضته لم يكن جزاء رزقا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ... (٦٠)﴾
قال أبو حيان: العامل في يوم ظن، قلت: هو المفعول الأول، والثاني: محذوفا.
قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ).
وقال: في سبأ (وَقَلِيل مِنْ عِبَادِيَ الشكُورُ) فينفي الشكر الخاص عن القليل، وهل الكثير هو الأكثر أم لَا؟ قال ابن عرفة الكثير هو الأكثر.
قلت: بل هو لقوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ)، فسمى النصف قليلا؛ فإذا كان قليلا فليس هو كثير فالكثير أنه إنما يصدق على ما فوق النصف، وكذلك الأكثر.
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا).
345
ابن عرفة: يؤخذ منها بأن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأن الذم إنما ترتب على نفس التقسيم من غير اعتبار شيئين من الأقسام.
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ).
إشارة إلى ذم الاتصاف بأدنى الظلمة.
قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).
الزمخشري: ما الفائدة في إسرارها؟ وأجاب بأنهم لشدة ما نالهم من الهول لا يقدرون على إظهار الندامة، ورُد بأن مذهبه أن القادر على شيء قادر على ضده، وأجاب ابن عرفة: بأن ذلك عقلا، وهذا أمر عادي فقط.
قوله تعالى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
القضاء بالقسط كان تأكيدا، وإن أريد لَا يظلمون مطلقا كان تأسيسا.
قوله تعالى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
هذا احتراس؛ لأنه لما تقدمها (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أوهم أن المفتدى منه ينتفع بذلك الفداء فنص هنا على أن الفداء به كله ملكة فلا حَاجة له في شيء من ذلك.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الموعظة هي المعجزة، والشفاء لما في الصدور هي دليلها، والإيمان بها والهدى هو الأحكام والشرائع التي بيانها، والرحمة حفظ الأموال والنفوس بالإيمان، كما في الحديث: " [أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ*] ".
346
قوله تعالى: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
إشارة إلى أن كذبهم غير مسند إلى ظن ظنوه أو توهم توهموه بل هو مجرد عند وافتراء، أو يكون المعنى: أنهم كذبوا على الله وظنوا أنهم لَا يؤاخذون بذلك إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ... (٦١)﴾
إلى قوله (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) يؤخذ منه أن الله تعالى عالم بالجزئيات كعلمه بالكليات.
قوله تعالى: (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ).
ابن عرفة: هذا كقولك: أتعصي والله يراك. لأنه أزجر له من أن تنهاه عن العصيان، وإلا فرؤية الله تعالى سابقة قديمة، وتعليقها [بحالة*] العصيان تنفيرا للعاصي عن فعله.
قيل لابن عرفة الرؤية لَا تتعلق بالمعدوم على تقدير وجوده.
وقال الفخر: قوله تعالى: (شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) إن قلت: فيه إيهام، فالجواب أن الشهادة أخص من العلم، فلا يلزم من نفيها نفيه.
ابن عرفة: فيه نظر لبقاء السؤال في القدر الزائد، فإن قلت: الشهادة بمعنى البصر تتعلق بالمعدوم على أنه موجود، والعدم يتعلق به لَا على أنه موجود.
قال بعضهم: قد يجاب بأن الفرق بين العلم والشهادة إنما هو في التسمية فقط، فقيل: الوجود يسمى علما وبعده شهادة واستبعده ابن عرفة.
قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ).
فيها دليل لمن يقول بنفي الجوهر الفرد عند مثبته، فقوله تعالى: (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ) يقتضي القيامة.
قوله تعالى: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، وإن جعلنا الاستثناء متصلا لأنه يوهم أنه يعزب مع أنه معلوم له.
قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)﴾
على فوات محبوبهم، أو لَا يخافون لأن تفوتهم الجنة، ولا يتعلق عزمهم إلا بطاعة الله لَا يطمعون في جنة، ولا يخافون فواتها، ولا يحزنون على نقص لذاتهم في الدنيا.
قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (٦٤)﴾
بعصمة دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وفي الآخرة بالنجاة من النار.
قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ... (٦٦)﴾
عبر بمن [... ]. إما تغليبا للعاقل، أو لأن العاقل أشرف، فإذا ملكه فأحرى أن يملك غيره، فهو تنبيه على الأعلى بالأدنى، أو لأن ملكه لغير العاقل مقدم التنبيه عليه، بقوله (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فإن قلت: لم كررت مَن في هذه الآية ولم يكررها في التي قبلها؟ فالجواب: أنه لما كانت أعم من التي قبلها أغنى ذلك العموم من تكرارها.
قوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ).
ابن عرفة: هذه سالبة كلية، والسالبة الكلية، قال المنطقيون: إنها تكذب [**إذا فكيف هم]؟ هذا مع أنهم جعلوا لله شريكا، فكان بعضهم يقول: هؤلاء شركاء في اعتقادهم وليسوا شركاء في نفس الأمر.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا... (٦٧)﴾
من باب حذف التقابل؛ أي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتبصروا فيه.
قوله تعالى: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).
عبر بالسمع لأنه أشرف وأعم من البصر، والعرب يؤرخون بالليالي [... ].
كذا [... ]. الأسبق في الأيكة وفي التاريخ؛ فلذلك قال (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ولم يقل يبصرون؛ لأن الليل محل السماع فقط.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا... (٦٨)﴾
ابن عرفة: هذا أخف من أن لو قالوا: ولد الله ولدا.
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ... (٧١)﴾
ابن عرفة: إما تسلية له ﷺ بكون قوم نوح كفروا به [وضايقوه*] مضايقة شديدة، وإما تخويفا لقريش أن ينزل بهم ما نزل بقوم نوح.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ... (٧٩)﴾
فأحرى أن يطلب السحَّار.
قوله تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ... (٨١)﴾
قيل: ما موصولة مبتدأ والسحر خبر، أو العكس؛ لأن الموصولات في رتبة فاعل مؤخر بالألف واللام فقد تساويا؛ لكن الخبر لَا يكون إلا متاويا للمبتدأ، وأعم منه والسحر يصدق على ما جاءوا به وعلى غيره، فهو أعم لأن ما جاءوا به ليس إلا سحرا إن الله سيبطله.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ).
السين للتحقيق أو للاستقبال، قيل له: بل لهما معا، فقال: يلزم عليه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن كونها للتحقيق مجاز، وكونها للاستقبال حقيقة.
قوله تعالى: (لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ).
ولم يقل: يبطل عملهم، فالجواب: أن ما أتوا به باطل، والباطل قد ينصلح فأخبر عنه أنه يبطل ولا ينصلح.
قوله تعالى: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ... (٨٢)﴾
أي يظهره.
قوله تعالى (بِكَلِمَاتِهِ) يحتمل معنيين: إما أن المراد بوعده أي الحق الثابت في نفس الأمر بوعده وهو يضرهم على الكفار، وتعجيزه لهم يظهره الآن، ويحتمل أن يكون بكلمته؛ أي بقوله (كُنْ فَيَكُونُ)، وقوله (بِكَلِمَاتِهِ) يحتمل أن يتعلق بحق أو بالحق، لكن قال الزمخشري في قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) هل يتعلق (مِنَ الْأَرْضِ) بـ (دَعْوَةً) أو بـ (دَعَاكُمْ)؟ قال [إذا جاء نهر الله*] بطل [نهر*] معقل، وكذلك هنا.
قال ابن عرفة: يحتمل أن يقال ذلك، إنما ذلك إذا اتخذ معنى التعلق فيهما، وهو هنا مختلف؛ لأن معناه في الأول: ويظهر الحق بكلمته الحق الثابت في نفس الأمر، ومعناه الثاني: ويظهر الله الحق المصاحب لكلماته أو نحوه.
قوله تعالى: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
لو بمعنى إن، وليست مثل: أكرم السائل ولو أتاك على فرس؛ لأن تلك دخلت على ما يتوهم نفيه؛ لأنه إذا أتى على فرس لم يكرم، وكذلك (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) وهنا إذا كره المجرمون فإظهار الحق ثابت ولا يتوهم نفيه.
والجواب أن المراد الإخبار بجهلهم وغباوتهم، وأنهم في مقام يظن الظان بهم لو كرهوا ظهور الحق لم يظهر.
قوله تعالى: ﴿آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (٨٨)﴾
من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ).
يؤخذ منها جواز الدعاء على الكافر بالموت على الكفر، وأجيب باحتمال أن يكون أوحى إليه أنهم لَا يؤمنون؛ هذا إن كان (فَلا يُؤمِنُوا) منصوبا بالجواب، قوله (اطْمِسْ) يحتمل أن يعطف على قوله (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) فلا يكون فيه دليل.
قوله تعالى: ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ... (٩٠)﴾
يؤخذ منه جواز التقليد في العقائد؛ لقوله [(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) *]: يدل على أنه لو قال هذه الكلمة قبل ذلك لَا ينتفع بها.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ... (٩٤)﴾
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: معناه فإن كنت في شك من كيفية مما أنزلنا إليك من اختلافهم؛ لأنه أنزل إليه الآية التي قبلها، وهي (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي فإن وقع عندك شك في كيفية اختلاف الأمم السالفة، (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) يخبروك بكيفية اختلافهم، ابن عرفة: ويؤخذ من الآية أحد أمرين: إما أن خبر التوراة يفيد العلم، ولنا جواز العمل بخبر الواحد؛ لأن المسؤلين إما بالغون عدد التواتر أو لا.
قوله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
ابن عرفة: الافتراء أخص من الشك؛ لأن الشك هو التردد في أمر دليل قابل للظهور والخفاء، والافتراء هو التردد في أمر دليله ظاهر قوي لَا يخفى على أحد، ويؤيد ذلك قوله (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).
قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ... (١٠٢)﴾
إما أن يراد فهل يقصدون في الانتظار بكم إلا مثل ما حل بالأمم السالفة، أو يراد فهل حالهم في الانتظار لما يحل بهم إلا حال الأمم السالفة فهذا انتظار عن غير قصد.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ... (١٠٧)﴾
ابن عرفة: عادتهم يقولون: لم عبر في الأول بالمس وفي الثاني بالإرادة؟ فعادتهم يجيبون بأن المس أبلغ من إرادة المس، فقصد في الأول تعليق الشرط بأقوى الأمور؛ لأنه لَا يفتقر إلى الشفيع والمكاشف إلا [عند*] عظائم الأمور، وسرائرها وأما [الخير*] فقصد فيه التنبيه على أنه إذا وقع بك قليله، فلا راد لفضله، واسع كثير يأتي بأكثر منه [ولا راد له*].
قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ... (١٠٨)﴾
يؤخذ منها منع الوصية بالحج مع أن مالكا أجازها ومنع الاستئجار على الحج في الحياة.
قوله تعالى: (وَاتَبعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ).
يؤخذ منه أنه - ﷺ - ليس بمجتهد، قلت: وتقدم لابن عرفة فيها في الختمة الأخرى بما نصه قوله (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ) أي يظهره، قوله (بكَلِمَاتِهِ) يحتمل معنيين: إما بوعده بالنصر عليهم فيظهرهم الآن، وإما بقوله (كُنْ فَيَكُونُ) قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
351
أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) إما أن الرزق حقيقة في الطعام وأطلق عليه الإنزال من مجاز إطلاق اسم السبب على سببه أو العكس؛ فالإنزال حقيقة في الماء وإطلاق الرزق على الماء مجاز، قوله (وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لَا يَشكرُونَ) نفى عن الكثير مطلق الشكر، وقال في سورة سبأ (وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشكُورُ) فأثبت للقليل أخص الشكر؛ فدل بالمفهوم على نفيه عن الكثير وإثبات مطلق الشكر له، فهل الكثير هو الأكثر أم لَا؟ فيه نظر.
* * *
352
Icon