تفسير سورة الإسراء

فتح القدير
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير المعروف بـفتح القدير .
لمؤلفه الشوكاني . المتوفي سنة 1250 هـ
سورة الإسراء
آياتها مائة وإحدى عشرة آية، وهي مكية إلا ثلاث آيات قوله عز وجل ﴿ وإن كادوا ليستفزونك ﴾ نزلت حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق ﴾.
وقوله :﴿ إن ربك أحاط بالناس ﴾ وزاد مقاتل قوله :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾. وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة بني إسرائيل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود قال : في بني إسرائيل والكهف ومريم، إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عمرو الشيباني قال : صلى بنا عبد الله الفجر فقرأ السورتين الآخرة منهما بنو إسرائيل.

سورة الإسراء
آياتها مائة وإحدى عشرة آية، وهي مكية إلا ثلاث آيات: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ نَزَلَتْ حِينَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَحِينَ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ:
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَزَادَ مُقَاتِلٌ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَّلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي «١». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَبْدُ اللَّهِ الْفَجْرَ فَقَرَأَ السُّورَتَيْنِ الْآخِرَةُ مِنْهُمَا بَنُو إِسْرَائِيلَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
قَوْلُهُ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا هُوَ مَصْدَرُ سَبَّحَ، يُقَالُ سَبَّحَ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا وَسُبْحَانًا، مِثْلُ كَفَّرَ الْيَمِينَ تَكْفِيرًا وَكُفْرَانًا، وَمَعْنَاهُ: التَّنْزِيهُ وَالْبَرَاءَةُ لِلَّهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ [من معناه] «٢» لَا مِنْ لَفْظِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُنَزِّهُ اللَّهَ تَنْزِيهًا، فوقع سبحان مَكَانَ تَنْزِيهًا، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِثْلُ قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ وَاشْتَمَلَ الصَّمَّاءَ «٣» وَقِيلَ: هُوَ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَعُثْمَانَ لِلرَّجُلِ، وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهُ تَقْدِيرُهُ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانَ، ثُمَّ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ وَسَدَّ مَسَدَّهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا «٤» طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِسُبْحَانَ. وَالْإِسْرَاءُ قِيلَ: هو سير الليل، يقال: سرى وأسرى
(١). العتاق: هو كل ما بلغ الغاية في الجودة. والتلاد: يريد أن هذه السور من أول ما تعلم من القرآن، وأن لهنّ فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم.
(٢). من تفسير القرطبي (١٠/ ٢٠٤).
(٣). هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعا.
(٤). البقرة: ٣٢.
245
كَسَقَى وَأَسْقَى لُغَتَانِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الشَّاعِرُ «١» في قوله:
حيّ النّضيرة ربّة الْخِدْرِ أَسْرَتْ إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنْ تُسْرِي
وَقِيلَ: هُوَ سَيْرُ أَوَّلِ اللَّيْلِ خَاصَّةً، وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ فَلَا بُدَّ لِلتَّصْرِيحِ بِذِكْرِ اللَّيْلِ بَعْدَهُ مِنْ فَائِدَةٍ، فَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَيْلًا تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَوَجْهُ دَلَالَةِ لَيْلًا عَلَى تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْكِيرِ الدَّالِّ عَلَى الْبَعْضِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْتَ سَرَيْتُ اللَّيْلَ فَإِنَّهُ يُفِيدُ اسْتِيعَابَ السَّيْرِ لَهُ جَمِيعًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَلَى إِفَادَةِ لَيْلًا لِلْبَعْضِيَّةِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ «مِنَ اللَّيْلِ». وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا سَيَّرَ عَبْدَهُ يَعْنِي مُحَمَّدًا لَيْلًا، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى أَسْرَى مَعْنَى سَيَّرَ فَيَكُونُ لِلتَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ فَائِدَةٌ، وَقَالَ بِعَبْدِهِ وَلَمْ يَقُلْ بِنَبِيِّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ بِمُحَمَّدٍ تَشْرِيفًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: لَوْ كَانَ غَيْرُ هَذَا الِاسْمِ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ وَالْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ:
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بياعبدها فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
ادِّعَاءً بِأَسْمَاءٍ نَبْزًا فِي قَبَائِلِهَا كَأَنَّ أَسْمَاءً أَضْحَتْ بَعْضَ أَسْمَائِي
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْمَسْجِدَ نَفْسَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَارِ أُمِّ هَانِئٍ، فَحَمَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ على مكة أو الحرم لِإِحَاطَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْغَايَةَ الَّتِي أَسْرَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فَقَالَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ، ثُمَّ وَصَفَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِبَرَكَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي بَارَكْنَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَسْرَى الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي أَسْرَى بِهِ لِأَجْلِهَا فَقَالَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أَيْ: مَا أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا قَطْعُ هَذِهِ الْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ السَّمِيعُ بِكُلِّ مسموع، ومن جملة ذلك قول رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَصِيرُ بِكُلِّ مُبْصَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ذَاتُ رَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ رُوحِهِ أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ فَذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ إِلَى الْأَوَّلِ. وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ يَقَظَةً إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِلَى السَّمَاءِ بِالرُّوحِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بِقَوْلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَجَعَلَهُ غَايَةً لِلْإِسْرَاءِ بِذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَعَ بِذَاتِهِ لَذَكَرَهُ، وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ
(١). هُوَ حسان بن ثابت.
246
هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ مِنْ أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً إِلَى بيت المقدس، ثم إلى السموات، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ هَذَا النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ، وَلَا مُقْتَضًى لِذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ وَتَحْكِيمُ مَحْضِ الْعُقُولِ الْقَاصِرَةِ عَنْ فَهْمِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّهُ لَا يستحيل عليه سبحانه شيء، ولو كان مُجَرَّدَ رُؤْيَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِالرُّوحِ فَقَطْ، وَأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ لَمْ يَقَعِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْكَفَرَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِخْبَارِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَحْ بِالْإِيمَانِ صَدْرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَا هُوَ مُسْتَبْعَدٌ، بَلْ مَا هُوَ مُحَالٌ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ وَأَمَّا التَّمَسُّكُ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ إِنَّمَا كَانَ بِالرُّوحِ عَلَى سَبِيلِ الرُّؤْيَا بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «١» فَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا هُوَ هَذَا الْإِسْرَاءُ، فَالتَّصْرِيحُ الْوَاقِعُ هُنَا بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَالتَّصْرِيحُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ لَا تَقْصُرُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْوَاقِعَةِ فِي الْآيَةِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ لِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ رُؤْيَا، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُ هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ركب البراق؟ وكيف يصحّ وصف الروح بالركوب؟ وهكذا كيف يَصِحُّ حَمْلُ هَذَا الْإِسْرَاءِ عَلَى الرُّؤْيَا مَعَ تَصْرِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ كَانَ عند ما أُسَرِيَ بِهِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ؟.
وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي تَارِيخِ الْإِسْرَاءِ، فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِأَعْوَامٍ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ خَدِيجَةَ صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ، وَقِيلَ: بِأَرْبَعٍ، وَلَمْ تُفْرَضِ الصَّلَاةُ إِلَّا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بالنبي ﷺ ليلة سبع وَعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي تَارِيخِهِ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ قَالَ بِمِثْلِ هَذَا. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِسَبْعَةِ أَعْوَامٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَيِ: التَّوْرَاةَ، قِيلَ: وَالْمَعْنَى: كَرَّمْنَا مُحَمَّدًا بِالْمِعْرَاجِ وَأَكْرَمْنَا مُوسَى بِالْكِتَابِ وَجَعَلْناهُ أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَقِيلَ: مُوسَى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ يَهْتَدُونَ بِهِ أَلَّا تَتَّخِذُوا.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: لِئَلَّا يَتَّخِذُوا. وَالْمَعْنَى: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ لِهِدَايَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: كَفِيلًا بِأُمُورِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَافِيًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَيْ: مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ وَقِيلَ: شَرِيكًا، وَمَعْنَى الْوَكِيلِ فِي اللُّغَةِ: مَنْ تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ النِّدَاءِ، ذَكَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ فِي ضِمْنِ إِنْجَاءِ آبَائِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَيَجُوزُ أن يكون المفعول الأوّل لقوله أَلَّا تَتَّخِذُوا أَيْ: لَا تَتَّخِذُوا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ مِنْ دُونِي وَكِيلًا، كَقَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «٢». وَقُرِئَ بالرفع
(١). الإسراء: ٦٠. [.....]
(٢). آل عمران: ٨٠.
247
﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الكتاب ﴾ أي : التوراة، قيل : والمعنى كرّمنا محمداً بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب ﴿ وجعلناه ﴾ أي : ذلك الكتاب ؛ وقيل : موسى ﴿ هُدًى لبَنِي إسرائيل ﴾ يهتدون به ﴿ أَن لا تَتَّخِذُوا ﴾. قرأ أبو عمر بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالفوقية أي : لئلا يتخذوا. والمعنى : آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا ﴿ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ قال الفراء : أي كفيلاً بأمورهم، وروي عنه أنه قال : كافياً ؛ وقيل : أي متوكلون عليه في أمورهم، وقيل : شريكاً، ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال : أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وأخرج البيهقي عن عروة مثله. وأخرج البيهقي أيضاً عن السدّي قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مهاجره بستة عشر شهراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ قال : أنبتنا حوله الشجر. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إسرائيل ﴾ قال : جعله الله هدى يخرجهم من الظلمات إلى النور وجعله رحمة لهم. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ قال : شريكاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ قال : هو على النداء. يا ذرية من حملنا مع نوح. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ﴿ ذرية من حملنا مع نوح ﴾، ما كان مع نوح إلاّ أربعة أولاد : حام، وسام، ويافث، وكوش، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق ) واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز، وذكر أسباب النزول، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة.
﴿ ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ نصب على الاختصاص أو النداء، ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق، ويجوز أن يكون المفعول الأوّل لقوله ﴿ أن لا تتخذوا ﴾ أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، كقوله :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الملائكة والنبيين أَرْبَابًا ﴾ [ آل عمران : ٨٠ ]. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من فاعل ﴿ تتخذوا ﴾، وقرأ مجاهد بفتح الذال، وقرأ زيد بن ثابت بكسرها، والمراد بالذرية هنا : جميع من في الأرض، لأنهم من ذرية من كان في السفينة ؛ وقيل : موسى وقومه من بني إسرائيل. وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص، والرفع على البدل وعلى الخبر، فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين، وأما على جعل النصب على أن ﴿ ذرية ﴾ هي المفعول الأوّل لقوله ﴿ لا تتخذوا ﴾، فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم. ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ أي : نوحاً، وصفه الله بكثرة الشكر وجعله كالعلة لما قبله إيذاناً بكون الشكر من أعظم أسباب الخير، ومن أفضل الطاعات حثاً لذريته على شكر الله سبحانه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال : أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وأخرج البيهقي عن عروة مثله. وأخرج البيهقي أيضاً عن السدّي قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مهاجره بستة عشر شهراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله :﴿ الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ قال : أنبتنا حوله الشجر. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إسرائيل ﴾ قال : جعله الله هدى يخرجهم من الظلمات إلى النور وجعله رحمة لهم. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ قال : شريكاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ قال : هو على النداء. يا ذرية من حملنا مع نوح. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ﴿ ذرية من حملنا مع نوح ﴾، ما كان مع نوح إلاّ أربعة أولاد : حام، وسام، ويافث، وكوش، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق ) واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز، وذكر أسباب النزول، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة.
عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ تَتَّخِذُوا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِفَتْحِ الذَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِكَسْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِالذَّرِّيَّةِ هُنَا جَمِيعُ مَنْ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ، وَقِيلَ: مُوسَى وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ وَالنَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ وَعَلَى الْخَبَرِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورِينَ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِ النَّصْبِ عَلَى أَنَّ ذُرِّيَّةَ هِيَ الْمَفْعُولُ الأوّل لقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ بِجَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً أَيْ: نُوحًا، وَصَفَهُ اللَّهُ بِكَثْرَةِ الشُّكْرِ، وَجَعَلَهُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهُ إِيذَانًا بِكَوْنِ الشُّكْرِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ، وَمِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، حَثًّا لِذُرِّيَّتِهِ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مهاجرته بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قَالَ: أَنْبَتْنَا حَوْلَهُ الشَّجَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: جَعَلَهُ اللَّهُ هُدًى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا قَالَ: شَرِيكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ قَالَ:
هُوَ عَلَى النِّدَاءِ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ: حَامٌ، وَسَامٌ، وَيَافِثُ، وَكُوشٌ، فَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ انْتَسَلُوا هَذَا الْخَلْقَ». وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَطَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ كَثِيرٍ وَالسُّيُوطِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِسْرَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَهَكَذَا أَطَالُوا بِذِكْرِ فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَبْحَثٌ آخَرُ، وَالْمَقْصُودُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَذِكْرُ أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَبَيَانُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلَةٌ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حاجة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ١١]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
248
قَوْلُهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أَيْ: أَعْلَمْنَا وَأَخْبَرْنَا، أَوْ حَكَمْنَا وَأَتْمَمْنَا وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْإِحْكَامُ لِلشَّيْءِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَقِيلَ: أَوْحَيْنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ لَقَالَ: قَضَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى حَكَمْنَا لَقَالَ: عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى أَتْمَمْنَا: لِقَالٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةُ، وَيَكُونُ إِنْزَالُهَا عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى كَإِنْزَالِهَا عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ قَوْمَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «فِي الْكُتُبِ». وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَفْسَدُوا فَسَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: مُخَالَفَةُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ:
أَرْضُ الشَّامِ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: أَرْضُ مِصْرَ، وَاللَّامُ فِي لَتُفْسِدُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: أَوْ أَجْرَى الْقَضَاءَ الْمَبْتُوتَ مَجْرَى الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَقْسَمْنَا لَتُفْسِدُنَّ وَانْتِصَابُ مَرَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَصْدَرٌ عَمِلَ فِيهِ مَا هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالْمَرَّةُ الْأُولَى قَتْلُ شِعْيَاءَ، أَوْ حَبْسُ أَرْمِيَاءَ، أَوْ مُخَالَفَةُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَالثَّانِيَةُ قَتْلُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَالْعَزْمُ عَلَى قَتْلِ عِيسَى وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً هَذِهِ اللَّامُ كَاللَّامِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: لَتَسْتَكْبِرُنَّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَتَسْتَعْلُنَّ عَلَى النَّاسِ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ مُجَاوِزِينَ لِلْحَدِّ فِي ذَلِكَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أَيْ: أُولَى الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أَيْ: قُوَّةٍ فِي الْحُرُوبِ وَبَطْشٍ عِنْدَ اللقاء. قيل: هُوَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ، وَقِيلَ: جَالُوتُ، وَقِيلَ: جُنْدٌ مِنْ فَارِسَ، وَقِيلَ: جُنْدٌ مِنْ بَابِلَ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أَيْ: عَاثُوا وَتَرَدَّدُوا، يُقَالُ:
جَاسُوا وهاسوا وداسوا بمعنى، ذكره ابن عزيز والقتبي. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ طَافُوا خِلَالَ الدِّيَارِ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ يَقْتُلُوهُ؟ قَالَ: وَالْجَوْسُ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَوْسُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ جَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ أَيْ: تَخَلَّلُوهَا كَمَا يَجُوسُ الرَّجُلُ لِلْأَخْبَارِ أَيْ: يَطْلُبُهَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ:
مَعْنَى جَاسُوا طَافُوا بَيْنَ الدِّيَارِ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ قَتَلُوهُمْ بَيْنَ بُيُوتِهِمْ، وَأَنْشَدَ لِحَسَّانَ:
وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءَ عَرْضَ الْعَسَاكِرِ
وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ نَزَلُوا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَجُسْنَا دِيَارَهُمْ عُنْوَةً وَأُبْنَا بِسَادَاتِهِمْ مُوَثَّقِينَا
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «فَحَاسُوا» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْحَوْسُ وَالْجَوْسُ وَالْعَوْسُ والهوس: الطوف بالليل. وقيل: الطَّوْفُ بِاللَّيْلِ هُوَ الْجَوَسَانُ مُحَرَّكًا، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقُرِئَ «خَلَلَ الدِّيَارِ» وَمَعْنَاهُ مَعْنَى خِلَالَ وَهُوَ وَسَطُ الدِّيَارِ وَكانَ ذَلِكَ وَعْداً مَفْعُولًا أَيْ: كَائِنًا لَا مَحَالَةَ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أَيِ: الدَّوْلَةَ وَالْغَلَبَةَ وَالرَّجْعَةَ وَذَلِكَ عِنْدَ تَوْبَتِهِمْ. قِيلَ: وَذَلِكَ حِينَ قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَقِيلَ: حِينَ
249
قُتِلَ بُخْتَنَصَّرُ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ بَعْدَ نَهْبِ أَمْوَالِكُمْ وَسَبْيِ أَبْنَائِكُمْ حَتَّى عَادَ أَمْرُكُمْ كَمَا كَانَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّفِيرُ الْعَدَدُ مِنَ الرِّجَالِ فَالْمَعْنَى: أَكْثَرُ رِجَالًا مِنْ عَدُوِّكُمْ.
وَالنَّفِيرُ: مَنْ يَنْفِرُ مَعَ الرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، يُقَالُ: نَفِيرٌ وَنَافِرٌ مِثْلُ قَدِيرٌ وَقَادِرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ جَمْعَ نَفَرٍ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَيْ: أَفْعَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لِأَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَيْكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ أَفْعَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ فَأَوْقَعْتُمُوهَا لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُمْ فَلَها أَيْ:
فَعَلَيْهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
................
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ «١»
أَيْ: عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَمِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ: فَإِلَيْهَا تَرْجِعُ الْإِسَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أَيْ: إِلَيْهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَلَهَا الْجَزَاءُ أَوِ الْعِقَابُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ:
فَلَهَا رَبٌّ يَغْفِرُ الْإِسَاءَةَ. وَهَذَا الْخِطَابُ قِيلَ: هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُلَابِثِينَ لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَقِيلَ: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَائِنِينَ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ: إِعْلَامُهُمْ مَا حَلَّ بِسَلَفِهِمْ فَلْيَرْتَقِبُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيْ: حَضَرَ وَقْتُ مَا وُعِدُوا مِنْ عُقُوبَةِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ، وَالْمَرَّةُ الْآخِرَةُ هِيَ قَتْلُهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا كَمَا سَبَقَ، وَقِصَّةُ قَتْلِهِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَاسْمُهُ فِيهِ يُوحَنَّا، قَتَلَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ حَمَلَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْمُ الْمَلِكِ لَاخْتَ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيرُدُوسْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بَعَثْنَاهُمْ لِدَلَالَةِ جَوَابِ إِذَا الْأُولَى عَلَيْهِ، ولِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: لِيَفْعَلُوا بِكُمْ مَا يَسُوءُ وُجُوهَكُمْ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْكُمْ آثَارُ الْمُسَاءَةِ وَتَتَبَيَّنَ فِي وُجُوهِكُمُ الْكَآبَةُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ السَّادَةُ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ «لِنَسُوءَ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «لِنَسُوءَنَّ» بِنُونِ التَّأْكِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ «لِيَسُوءَ» بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْإِفْرَادِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ شَيْءٍ كَسَرْتَهُ وفتنه فَقَدْ تَبَّرْتَهُ، وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ أَوِ الْوَعْدِ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَسُوءُوا كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا أَيْ: يُدَمِّرُوا وَيُهْلِكُوا، وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَهْدِمُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعُ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِثْبَاتِ وَاوٍ بَعْدَهَا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ عِبَادٌ لَنَا مَا عَلَوْا أَيْ: مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ أَوْ مُدَّةَ عُلُوِّهِمْ تَتْبِيراً أَيْ: تَدْمِيرًا، ذُكِرَ الْمَصْدَرُ إِزَالَةً لِلشَّكِّ وَتَحْقِيقًا لِلْخَبَرِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ عُدْتُمْ لِلثَّالِثَةِ عُدْنا إِلَى عُقُوبَتِكُمْ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: ثُمَّ إنهم عادوا إلا مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ تَكْذِيبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم وكتمان ما ورد في
(١). وصدره: وهتكت بالرمح الطويل إهانة. والبيت لربيعة بن مكدم.
250
بَعْثِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى عُقُوبَتِهِمْ عَلَى أَيْدِي الْعَرَبِ، فَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً وَهُوَ الْمَحْبِسُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مَحْبُوسُونَ فِي جَهَنَّمَ لَا يَتَخَلَّصُونَ عَنْهَا أَبَدًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَصَرَهُ يَحْصُرُهُ حَصْرًا ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقِيلَ: فِرَاشًا وَمِهَادًا، وَأَرَادَ عَلَى هَذَا بِالْحَصِيرِ الْحَصِيرَ الَّذِي يَفْرِشُهُ النَّاسُ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يَعْنِي الْقُرْآنُ يَهْدِي النَّاسَ الطَّرِيقَةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الطُّرُقِ وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، فَالَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِلْحَالِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبَشُّرُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنَ التَّبْشِيرِ أَيْ: يُبَشِّرُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعْدِ بِالْخَيْرِ آجِلًا وَعَاجِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَى عَمَلِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَأَحْكَامِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْقُرْآنِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُبَشِّرُ بِتَقْدِيرِ يُخْبِرُ، أَيْ: وَيُخْبِرُ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَيُرَادُ بِالتَّبْشِيرِ مُطْلَقُ الْإِخْبَارِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِبِشَارَتَيْنِ: الْأُولَى: مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا لِأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْجِنْسُ لِوُقُوعِ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَ الضَّجَرِ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أَيْ: مِثْلَ دُعَائِهِ لِرَبِّهِ بِالْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ كَطَلَبِ الْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالشَّرِّ هَلَكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَجِبْ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ «١» وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ الْكَافِرُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِالشَّرِّ، وَهُوَ استعجال العذاب دعاءه بِالْخَيْرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٢». وَقِيلَ: هو أَنْ يَدْعُوَ فِي طَلَبِ الْمَحْظُورِ كَدُعَائِهِ فِي طَلَبِ الْمُبَاحِ، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ مِنْ وَيَدَعُ الْإِنْسَانُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِعَدَمِ التَّلَفُّظِ بِهَا لِوُقُوعِ اللَّامِ السَّاكِنَةِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «٣»، وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «٤»، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ «٥» وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أَيْ: مَطْبُوعًا عَلَى الْعَجَلَةِ، وَمِنْ عَجَلَتِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُ الشَّرَّ كَمَا يَسْأَلُ الْخَيْرَ وَقِيلَ: إِشَارَتُهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نَهَضَ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ الرُّوحُ، وَالْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: أَعْلَمْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَخْبَرْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أيضا قضينا
(١). يونس: ١١.
(٢). الأنفال: ٣٢.
(٣). العلق: ١٨.
(٤). الشورى: ٢٤.
(٥). النساء: ١٤٦.
251
﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أولاهما ﴾ أي : أولى المرتين المذكورتين ﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ أي : قوّة في الحروب وبطش عند اللقاء. قيل : هو بختنصر وجنوده ؛ وقيل : جالوت ؛ وقيل : جند من فارس ؛ وقيل : جند من بابل ﴿ فَجَاسُوا خلال الديار ﴾ أي : عاثوا وتردّدوا، يقال : جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى، ذكره ابن غرير والقتيبي. قال الزجاج : معناه طافوا خلال الديار، هل بقي أحد لم يقتلوه ؟ قال : والجوس طلب الشيء باستقصاء. قال الجوهري : الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي : تخللوها، كما يجوس الرجل للأخبار، أي : يطلبها، وكذا قال أبو عبيدة. وقال ابن جرير : معنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين. وقال الفراء : معناه قتلوهم بين بيوتهم وأنشد لحسان :
وَمِنَّا الذي لاقى بسَيْفٍ مُحَمَدٍ *** فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْض العَسِاكِرِ
وقال قطرب : معناه نزلوا. وأنشد قول الشاعر :
فجسنا ديارهم عنوة *** وأُبنَا بساداتهم موثقينا
وقرأ ابن عباس ( فحاسوا ) بالحاء المهملة. قال أبو زيد : الحوس، والجوس، والعوس، والهوس : الطوف بالليل، وقيل : الطوف بالليل هو الجوسان محركاً، كذا قال أبو عبيدة. وقرئ ( خلل الديار ). ومعناه معنى خلال وهو : وسط الديار ﴿ وَكَانَ ﴾ ذلك ﴿ وَعْدًا مفْعُولاً ﴾ أي : كائناً لا محالة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً :﴿ قَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله :﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ قال : الأولى : قتل زكريا، والآخرة : قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله :﴿ ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ﴿ فَجَاسُوا ﴾ قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال :﴿ تَتْبِيرًا ﴾ تدميراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ قال : سجنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ قال : فراشاً ومهاداً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً ( إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير ﴾ يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ قال : ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾ أي : الدولة والغلبة والرجعة، وذلك عند توبتهم. قيل : وذلك حين قتل داود جالوت، وقيل : حين قتل بختنصر ﴿ وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ ﴾ بعد نهب أموالكم وسبي أبنائكم، حتى عاد أمركم كما كان. ﴿ وجعلناكم أَكْثَرَكم نَفِيرًا ﴾ قال أبو عبيدة : النفير : العدد من الرجال ؛ فالمعنى ؛ أكثر رجالاً من عدوكم، والنفير : من ينفر مع الرجل من عشيرته، يقال : نفير ونافر مثل : قدير و[ قادر ]، ويجوز أن يكون النفير جمع : نفر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً :﴿ قَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله :﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ قال : الأولى : قتل زكريا، والآخرة : قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله :﴿ ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ﴿ فَجَاسُوا ﴾ قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال :﴿ تَتْبِيرًا ﴾ تدميراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ قال : سجنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ قال : فراشاً ومهاداً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً ( إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير ﴾ يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ قال : ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ ﴾ أي : أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم، ﴿ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ ﴾ لأن ثواب ذلك عائد إليكم ﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ ﴾ أفعالكم وأقوالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم، ﴿ فَلَهَا ﴾ أي : فعليها. ومثله قول الشاعر :
فخر صريعاً لليدين وللفم ***. . .
أي : على اليدين وعلى الفم. قال ابن جرير : اللام بمعنى إلى، أي : فإليها ترجع الإساءة كقوله تعالى :﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا ﴾ [ الزلزلة : ٥ ] أي : إليها ؛ وقيل : المعنى : فلها الجزاء أو العقاب. وقال الحسين بن الفضل : فلها ربّ يغفر الإساءة، وهذا الخطاب : قيل هو لبني إسرائيل الملابثين لما ذكر في هذه الآيات، وقيل : لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ومعناه : إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك، وقيل : هو خطاب لمشركي قريش. ﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة ﴾ أي : حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة، والمرة الآخرة : هي قتلهم يحيى بن زكريا كما سبق، وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل، واسمه فيه يوحنا، قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله، واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة. وقال ابن جرير : هيردوس، وجواب ﴿ إذا ﴾ محذوف، تقديره : بعثناهم، لدلالة جواب «إذا » الأولى عليه، ﴿ يسؤووا وُجُوهَكُمْ ﴾ متعلق بهذا الجواب المحذوف أي : ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة، وتتبين في وجوهكم الكآبة، وقيل : المراد بالوجوه السادة منهم. وقرأ الكسائي ( لنسوء ) بالنون، على أن الضمير لله سبحانه. وقرأ أبيّ :( لنسوءن ) بنون التأكيد. وقرأ أبو بكر، والأعمش، وابن وثاب، وحمزة، وابن عامر «ليسوء » بالتحتية والإفراد. قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرئه، والضمير : لله أو الوعد ﴿ وَلِيَدْخُلُوا المسجد ﴾ معطوف على ﴿ ليسوءوا ﴾. ﴿ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُوا ﴾ أي : يدمروا ويهلكوا، وقال قطرب : يهدموا، ومنه قول الشاعر :
فما الناسُ إلاّ عامِلان فَعَاملٌ *** يُتَبِّر ما يَبْنِي، وآخر رافع
وقرأ الباقون بالتحتية، وضم الهمزة، وإثبات واو بعدها على أن الفاعل عباد لنا ﴿ مَا عَلَوْاْ ﴾ أي : ما غلبوا عليه من بلادكم، أو مدة علوهم ﴿ تَتْبِيرًا ﴾ أي : تدميراً، ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً :﴿ قَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله :﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ قال : الأولى : قتل زكريا، والآخرة : قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله :﴿ ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ﴿ فَجَاسُوا ﴾ قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال :﴿ تَتْبِيرًا ﴾ تدميراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ قال : سجنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ قال : فراشاً ومهاداً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً ( إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير ﴾ يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ قال : ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم في المرة الثانية ﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ ﴾ للثالثة ﴿ عُدْنَا ﴾ إلى عقوبتكم. قال أهل السير : ثم إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد من بعثه في التوراة والإنجيل، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة. ﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ وهو المحبس، فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. والمعنى : أنهم محبوسون في جهنم لا يتخلصون عنها أبداً. قال الجوهري : حصره يحصره حصراً : ضيق عليه وأحاط به ؛ وقيل : فراشاً ومهاداً، - وأراد على هذا - بالحصير : الحصير الذي يفرشه الناس.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً :﴿ قَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله :﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ قال : الأولى : قتل زكريا، والآخرة : قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله :﴿ ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ﴿ فَجَاسُوا ﴾ قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال :﴿ تَتْبِيرًا ﴾ تدميراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ قال : سجنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ قال : فراشاً ومهاداً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً ( إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير ﴾ يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ قال : ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ يعني : القرآن يهدي الناس الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق وهي ملة الإسلام، فالتي هي أقوم صفة لموصوف محذوف وهي الطريق. وقال الزجاج : للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله، وكذا قال الفراء. ﴿ وَيُبَشّرُ المؤمنين ﴾ قرأ حمزة والكسائي ( يبشر ) [ بفتح ] الياء وضم الشين. وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الشين من التبشير أي : يبشر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلاً وعاجلاً للمؤمنين ﴿ الذين يَعْمَلُونَ الصالحات ﴾ التي أرشد إلى عملها القرآن ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ أي : بأنّ لهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً :﴿ قَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله :﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ قال : الأولى : قتل زكريا، والآخرة : قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله :﴿ ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ﴿ فَجَاسُوا ﴾ قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال :﴿ تَتْبِيرًا ﴾ تدميراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ قال : سجنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ قال : فراشاً ومهاداً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً ( إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير ﴾ يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ قال : ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
﴿ وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ﴾ وأحكامها المبينة في القرآن ﴿ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ وهو عذاب النار، وهذه الجملة معطوفة على جملة يبشر بتقدير : يخبر، أي : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ؛ وقيل : معطوفة على قوله :﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾، ويراد بالتبشير : مطلق الإخبار، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي، ويكون الكلام مشتملاً على تبشير المؤمنين ببشارتين : الأولى : مالهم من الثواب، والثانية : ما لأعدائهم من العقاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً :﴿ قَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله :﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ قال : الأولى : قتل زكريا، والآخرة : قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله :﴿ ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ﴿ فَجَاسُوا ﴾ قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال :﴿ تَتْبِيرًا ﴾ تدميراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ قال : سجنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ قال : فراشاً ومهاداً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً ( إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير ﴾ يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ قال : ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر ﴾ المراد بالإنسان هنا : الجنس، لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده، وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له ﴿ دُعَاءهُ بالخير ﴾ أي : مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله كطلب العافية والرزق ونحوهما، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشرّ هلك، لكنه لم يستجب تفضلاً منه ورحمة، ومثل ذلك ﴿ وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير ﴾ [ يونس : ١١ ]. وقد تقدّم ؛ وقيل : المراد بالإنسان هنا القائل هذه المقالة : هو الكافر يدعو لنفسه بالشرّ، وهو استعجال العذاب دعاءه بالخير كقول القائل :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ]. وقيل : هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح، وحذفت الواو من ﴿ ويدع الإنسان ﴾ في رسم المصحف لعدم التلفظ بها لوقوع اللام الساكنة بعدها كقوله :﴿ سَنَدْعُ الزبانية ﴾ [ العلق : ١٨ ] و﴿ وَيَمْحُ الله الباطل ﴾ [ الشورى : ٢٤ ] و﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين ﴾ [ النساء : ١٤٦ ] ونحو ذلك. ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ أي : مطبوعاً على العجلة، ومن عجلته : أنه يسأل الشر كما يسأل الخير ؛ وقيل : إشارته إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن تكمل فيه الروح، والمناسب للسياق هو الأوّل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً :﴿ قَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل ﴾ : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله :﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ قال : الأولى : قتل زكريا، والآخرة : قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله :﴿ ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه ﴿ فَجَاسُوا ﴾ قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال :﴿ تَتْبِيرًا ﴾ تدميراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا ﴾ قال : سجنا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال : معنى حصيراً : جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ قال : فراشاً ومهاداً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً ( إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير ﴾ يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ قال : ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله :﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾.
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: قَضَيْنَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ قَالَ: الْأُولَى قَتْلُ زَكَرِيَّا، وَالْآخِرَةُ قَتْلُ يَحْيَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ:
كَانَ أَوَّلُ الْفَسَادِ قَتْلَ زَكَرِيَّا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ النَّبَطِ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَجَهَّزُوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأُولَى جَالُوتَ، وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُخْرَى بُخْتَنَصَّرَ، فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَجاسُوا قَالَ: فَمَشَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ:
تَتْبِيراً تَدْمِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ قَالَ: كَانَتِ الرَّحْمَةُ الَّتِي وَعَدَهُمْ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قَالَ: فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَعْيِينِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ فِي الْمَرَّتَيْنِ، وَفِي تَعْيِينِ مَنْ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً قَالَ: سِجْنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. قَالَ:
مَعْنَى حَصِيراً جَعَلَ اللَّهُ مَأْوَاهُمْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: حَصِيراً قَالَ: فِرَاشًا وَمِهَادًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قَالَ: لِلَّتِي هِيَ أَصْوَبُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَتْلُو كَثِيرًا إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ بِالتَّخْفِيفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ يَعْنِي قَوْلَ الْإِنْسَانِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَاغَضَبْ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا قَالَ: ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ آدَمَ رَأْسُهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ وَهُوَ يُخْلَقُ وَبَقِيَتْ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَالَ: يَا رَبِّ أَعْجِلْ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٧]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
252
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ أَكَّدَهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ وَبَدَائِعِ خَلْقِهِ، فَقَالَ:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْإِظْلَامِ وَالْإِنَارَةِ مَعَ تَعَاقُبِهِمَا وَسَائِرِ مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي تَحَارُ فِي وَصْفِهَا الْأَفْهَامُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمَا آيَتَيْنِ أَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أَيْ: طَمَسْنَا نُورَهَا، وَقَدْ كَانَ الْقَمَرُ كَالشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ وَالضَّوْءِ. قِيلَ: وَمِنْ آثَارِ الْمَحْوِ السَّوَادُ الَّذِي يُرَى فِي الْقَمَرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَحْوِهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهَا مَمْحُوَّةَ الضَّوْءِ مَطْمُوسَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَحَاهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَيْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ شَمْسَهُ مُضِيئَةً تُبْصَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَبْصَرَ النَّهَارُ إِذَا صَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَرُ بِهَا وَقِيلَ: مُبْصَرَةٌ لِلنَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ أَبْصَرَهُ فَبَصَرَ. فَالْأَوَّلُ وَصْفٌ لَهَا بِحَالِ أَهْلِهَا، وَالثَّانِي وَصْفٌ لَهَا بِحَالِ نَفْسِهَا، وَإِضَافَةُ آيَةً إِلَى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ: فَمَحَوْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ وَالْآيَةَ الَّتِي هِيَ النَّهَارُ كَقَوْلِهِمْ نَفْسُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: لِتَتَوَصَّلُوا بِبَيَاضِ النَّهَارِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي وُجُوهِ الْمَعَاشِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَيْ: جَعَلْنَاهَا لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: رِزْقًا، إِذْ غَالِبُ تَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ يَكُونُ بِالنَّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا السُّكُونَ فِي اللَّيْلِ اكْتِفَاءً بِمَا قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً «١»، ثُمَّ ذَكَرَ مَصْلَحَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْجَعْلِ فَقَالَ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لَا بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ كَالْأَوَّلِ، إِذْ لَا يَكُونُ عِلْمُ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، إِلَّا بِاخْتِلَافِ الْجَدِيدَيْنِ «٢» وَمَعْرِفَةِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ أَنَّ الْعَدَدَ إِحْصَاءُ مَا لَهُ كَمِّيَّةٌ بِتَكْرِيرِ أَمْثَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يتحصّل منه شيء، والحساب إحصاء ماله كَمِّيَّةٌ بِتَكْرِيرِ أَمْثَالِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَحَصَّلُ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ مِنْهُ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ فَالسَّنَةُ مَثَلًا إِنْ وَقَعَ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ عَدَدِ أَيَّامِهَا فَذَلِكَ هُوَ الْعَدَدُ وَإِنْ وَقَعَ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقِهَا وَتَحَصُّلِهَا مِنْ عِدَّةِ أَشْهُرٍ، قَدْ يَحْصُلُ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ عِدَّةِ أَيَّامٍ، قَدْ يَحْصُلُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عِدَّةِ سَاعَاتٍ، قَدْ تَحَصَّلَتْ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ عِدَّةِ دَقَائِقَ، فَذَلِكَ هُوَ الْحِسَابُ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أَيْ: كُلَّ مَا تَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا وَاضِحًا لَا يَلْتَبِسُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَنْزَاحُ الْعِلَلُ وَتَزُولُ الْأَعْذَارُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ «٣»، وَلِهَذَا قَالَ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ، وَيُقَالُ لَهُ الْبَخْتُ، فَالطَّائِرُ مَا وَقَعَ لِلشَّخْصِ فِي الْأَزَلِ بِمَا هُوَ نَصِيبُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعَمَلِ وَالْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، كَأَنَّ طَائِرًا يَطِيرُ إِلَيْهِ مِنْ وَكْرِ الْأَزَلِ وَظُلُمَاتِ عَالَمِ الْغَيْبِ طَيَرَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ ولا غاية إلى أن انتهى إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ مِنْ غَيْرِ خَلَاصٍ وَلَا مَنَاصٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلِمَ الْمُطِيعَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَالْعَاصِيَ، فَكَتَبَ مَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَضَى سَعَادَةَ مَنْ عَلِمَهُ مُطِيعًا وَشَقَاوَةَ مَنْ عَلِمَهُ عَاصِيًا، فَطَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ عِنْدَ خَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أَيْ: مَا طَارَ لَهُ في علم الله، وفي عنقه
(١). يونس: ٦٧.
(٢). الجديدان والأجدّان: الليل والنهار.
(٣). الأنفال: ٤٢.
253
عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَلُزُومِ الْقِلَادَةِ الْعُنُقَ مِنْ بَيْنِ مَا يُلْبَسُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذِكْرُ الْعُنُقِ عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَلُزُومِ الْقِلَادَةِ الْعُنُقَ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «وَيَخْرُجُ» بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَبِالرَّاءِ المضمومة على معنى: ويخرج له الطائر، وكتابا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يخرج له الطَّائِرُ فَيَصِيرُ كِتَابًا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «يُخْرِجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: أَيْ يُخْرِجُ الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السّميقع. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «يُخْرَجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: وَيُخْرَجُ لَهُ الطَّائِرُ كِتَابًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَنُخْرِجُ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الْمُخْرِجَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَكِتَابًا مَفْعُولٌ بِهِ، وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلْزَمْناهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ يُلَقَّاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ يَلْقاهُ مَنْشُوراً تَعْجِيلًا لِلْبُشْرَى بِالْحَسَنَةِ وَلِلتَّوْبِيخِ عَلَى السَّيِّئَةِ اقْرَأْ كِتابَكَ أَيْ: نَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ، أَوْ قَائِلِينَ لَهُ، قِيلَ: يَقْرَأُ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَنْ كَانَ قَارِئًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا. كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الْبَاءُ في بِنَفْسِكَ زائدة وحَسِيباً تَمْيِيزٌ أَيْ:
حَاسِبًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: ضَرِيبُ الْقِدَاحِ بِمَعْنَى ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٌ بِمَعْنَى صَارِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْكَافِي، ثُمَّ وُضِعَ مَوْضِعَ الشَّهِيدِ فَعُدِّيَ بِعَلَى، وَالنَّفْسُ بِمَعْنَى الشَّخْصِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ كَالشَّرِيكِ وَالْجَلِيسِ. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعِقَابَ ضِدِّهِ يَخْتَصَّانِ بفاعلهما لا يتعدان مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَمَنِ اهْتَدَى بِفِعْلِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّمَا تَعُودُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أَيْ: فَإِنَّ وَبَالَ ضَلَالِهِ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُجَاوِزُهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ مُحَاسَبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مَجْزِيٌّ بِطَاعَتِهِ، مُعَاقَبٌ بِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِأَبْلَغِ تَأْكِيدٍ فَقَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ، يُقَالُ: وَزَرَ يَزِرُ وِزْرًا وَوَزْرَةً. أَيْ: إِثْمًا، وَالْجَمْعُ أَوْزَارُ، وَالْوِزْرُ: الثِّقَلُ. وَمِنْهُ: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «١» أَيْ: أَثْقَالَ ذُنُوبِهِمْ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ لِلْوِزْرِ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى حَتَّى تَخَلُصَ الْأُخْرَى عَنْ وِزْرِهَا وَتُؤْخَذَ بِهِ الْأُولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْآثِمَ وَالْمُذْنِبَ لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اخْتِصَاصَ الْمُهْتَدِي بِهِدَايَتِهِ وَالضَّالِّ بِضَلَالِهِ، وَعَدَمَ مُؤَاخَذَةِ الْإِنْسَانِ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ عِبَادَهُ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُمْ سُدًى، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَا هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا لَا عَذَابُ الْآخِرَةِ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى أَمَرْنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ النَّهْيِ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ الطَّاعَةُ وَالْخَيْرُ. وقال في الكشاف: معناه أمرناهم
(١). الأنعام: ٣١.
254
بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا وَتَبِعَهُ الْمُقْتَدُونَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ مُعَارَضٌ بِمِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنَافِيَةٌ لِلْأَمْرِ مُنَاقِضَةٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ أَمَرْتُهُ فَفَسَقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفِسْقِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنَافِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ وَيُنَاقِضُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنا مُتْرَفِيها
أَكْثَرْنَا فُسَّاقَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَمَرَ الْقَوْمَ إِذَا كَثُرُوا، وَأَمَرَهُمُ اللَّهُ إِذَا أَكْثَرَهُمْ. وَقَدْ قَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ أَمَرْنا
بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ «آمَرْنَا» بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ: أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: آمِرْتُهُ بِالْمَدِّ وَأَمِرْتُهُ لُغَتَانِ بِمَعْنَى كَثْرَتِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» أَيْ: كَثِيرَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْلِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَزِيزٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ «أَمِرْنَا» بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى مَعْنَى فَعَلْنَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا. وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمِرَ مَالُهُ- بِالْكَسْرِ- أَيْ: كَثُرَ، وَأَمِرَ الْقَوْمُ: أَيْ كَثِرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
إِنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمِرُوا يوما يصيروا للهلك والنّكد «١»
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنا
مِنَ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَى مُتْرَفِيها
الْمُنَعَّمُونَ الَّذِينَ قَدْ أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ فِي تَفْسِيرِ الْمُتْرَفِينَ: إِنَّهُمُ الْجَبَّارُونَ الْمُتَسَلِّطُونَ والملوك الجائرون، قالوا: وَإِنَّمَا خُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ أَتْبَاعٌ لهم، ومعنى فَفَسَقُوا فِيها
خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، وَتَمَرَّدُوا فِي كُفْرِهِمْ لِأَنَّ الْفُسُوقَ الْخُرُوجُ إِلَى مَا هُوَ أَفْحَشُ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أَيْ: ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ ظُهُورِ فِسْقِهِمْ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أَيْ: تَدْمِيرًا عَظِيمًا لَا يُوقَفُ عَلَى كُنْهِهِ لِشِدَّتِهِ وَعِظَمِ مَوْقِعِهِ وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ أَمْرِنَا بِأَنَّهُ مَجَازٌ عَنِ الْأَمْرِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْفِسْقِ، وَهُوَ إِدْرَارُ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ أَيْضًا:
إِنَّ الْمُرَادَ بِأَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَنَّهُ قُرْبُ إِهْلَاكِ قَرْيَةٍ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِدُونِ مُلْجِئٍ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ عَادَتُهُ الْجَارِيَةُ مَعَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، فَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أَيْ: كَثِيرًا مَا أَهْلَكْنَا مِنْهُمْ، فَ «كَمْ» مَفْعُولُ «أَهْلَكْنَا»، وَ «مِنَ الْقُرُونِ» بَيَانٌ لِ «كَمْ» وَتَمْيِيزٌ لَهُ، أَيْ: كَمْ مِنْ قَوْمٍ كَفَرُوا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كَعَادٍ وَثَمُودَ، فَحَلَّ بِهِمُ الْبَوَارُ، وَنَزَلَ بِهِمْ سَوْطُ الْعَذَابِ، وَفِيهِ تَخْوِيفٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ. ثُمَّ خَاطَبَ رَسُولَهُ بِمَا هُوَ رَدْعٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَقَالَ: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا يَجُوزُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي الْمَرْفُوعِ إِذَا كَانَ يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ أَوْ يُذَمُّ بِهِ، كَقَوْلِكَ: كَفَاكَ، وَأَكْرِمْ بِهِ رَجُلًا، وَطَابَ بِطَعَامِكَ طَعَامًا، وَلَا يُقَالُ قَامَ بِأَخِيكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَامَ أَخُوكَ. وَفِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَتَخْوِيفٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ
(١). في المطبوع: يوما يكن للهلاك والفند. والمثبت من الديوان ص (١٦٠). «يهبطوا» - هنا-: يموتوا.
255
الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ التَّامَّ وَالْخِبْرَةَ الْكَامِلَةَ وَالْبَصِيرَةَ النَّافِذَةَ تَقْتَضِي إِيصَالَ الْجَزَاءِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَزِيدُ التَّفَضُّلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ خَبِيرًا بَصِيرًا أَنَّهُ مُحِيطٌ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَقَالَ: كَانَا شَمْسَيْنِ، قَالَ اللَّهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فَالسَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتَ هُوَ الْمَحْوُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى هَذَا بِأَطْوَلَ مِنْهُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قَالَ: هُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً قَالَ: مُنِيرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: جَعَلَ لَكُمْ سَبْحًا طَوِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَصَّلْناهُ قَالَ: بَيَّنَّاهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «طَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عُنُقِهِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس فِي قَوْلِهِ: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قَالَ: سَعَادَتُهُ وَشَقَاوَتُهُ، وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ، لازمه أينما كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: طائِرَهُ قَالَ: كِتَابَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَمَلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قَالَ: هُوَ عَمَلُهُ الَّذِي أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَأُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَقَرَأَهُ مَنْشُورًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ كِتابَكَ قَالَ: سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «التَّمْهِيدِ» عَنِ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قَالَ:
سَأَلَتْ خَدِيجَةُ «١» عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فقال: «هم مع آبَائِهِمْ»، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ مَا اسْتَحْكَمَ الْإِسْلَامُ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَقَالَ: «هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَوْ قَالَ، فِي الْجَنَّةِ». قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ فِي الْبَيَاتِ مِنْ ذَرَارِي الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ» «٢» وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَبَحْثٌ طَوِيلٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ غَالِبَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سريع
(١). يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(٢). «البيات» : أن يغار على المشركين بالليل حيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي.
«هم منهم» : أي في الحكم، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية- أي بالأرجل-، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم، جاز قتلهم. [.....]
256
﴿ وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ قال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ. ويقال له البخت : فالطائر ما وقع للشخص في الأزل بما هو نصيبه من العقل والعمل والعمر والرزق والسعادة والشقاوة ؛ كأن طائراً يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيراناً لا نهاية له ولا غاية إلى أن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدّر من غير خلاص ولا مناص. وقال الأزهري : الأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادة من علمه مطيعاً وشقاوة من علمه عاصياً، فطار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه ؛ وذلك قوله :﴿ وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ أي : ما طار له في علم الله، وفي عنقه عبارة عن اللزوم، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس. قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق. ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً ﴾. قرأ ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن محيصن، وأبو جعفر، ويعقوب ( ويخرج ) بالمثناة التحتية المفتوحة وبالراء المضمومة على معنى ويخرج له الطائر. ﴿ وكتاباً ﴾ منصوب على الحال، ويجوز أن يكون المعنى : يخرج لها الطائر فيصير كتاباً. وقرأ يحيى بن وثاب ( يُخِرج ) بضم الياء وكسر الراء : أي : يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميفع، وروي أيضاً عن أبي جعفر ( يُخرج ) بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول أي : ويخرج له الطائر كتاباً. وقرأ الباقون ﴿ ونخرج ﴾ بالنون على أن المخرج هو الله سبحانه. و﴿ كتاباً ﴾ مفعول به، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله تعالى :﴿ ألزمناه ﴾. وقرأ أبو جعفر، والحسن، وابن عامر ( يلقاه ) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. وإنما قال سبحانه :﴿ يلقاه مَنْشُوراً ﴾ تعجيلاً للبشرى بالحسنة وللتوبيخ على السيئة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة، وابن عساكر عن سعيد المقبري :( أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر ؛ فقال :( كانا شمسين، قال الله ﴿ وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ فالسواد الذي رأيت هو المحو ) وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي : وإسناده واهٍ. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ في قوله :﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ قال : هو السواد الذي في القمر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ قال : منيرة. ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ﴾ قال : جعل لكم سبحاً طويلاً. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ قال : بيناه. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير بسندٍ حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( طائر كل إنسان في عنقه ) وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ﴾ قال : سعادته وشقاوته وما قدّر الله له وعليه فهو لازمه أين كان. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن أنس في قوله :﴿ طَائِرَهُ ﴾ قال : كتابه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عمله. ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً ﴾ قال : هو عمله الذي أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ إقرأ كتابك ﴾ قال : سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئاً في الدنيا. وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن عائشة في قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ قال : سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال :( هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ فقال : هم على الفطرة أو قال : في الجنة. قال السيوطي : وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال : هم منهم ). وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليها. وأخرج إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن حبان، وأبو نعيم في المعرفة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة ؛ ثم قال : فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن أدخلوا النار، قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها )، وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن أبي قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وأخرج قاسم بن أصبع، والبزار، وأبو يعلى، وابن عبد البرّ في التمهيد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلاً وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً ) فذكر معناه مطولاً. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ قال : بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : سمعت ابن عباس يقول في الآية :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال : سلطنا شرارنا فعصوا، فإذا فعلوا ذلك، أهلكناهم بالعذاب، وهو كقوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]. وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود، قال : كنا نقول للحى إذا كثروا في الجاهلية : قد أمر بنو فلان.
﴿ اقرأ كتابك ﴾ أي نقول له : إقرأ كتابك، أو قائلين له، قيل : يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئاً، ومن لم يكن قارئاً ﴿ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ الباء في :﴿ بنفسك ﴾ زائدة. و﴿ حسيباً ﴾ تمييز، أي : حاسباً. قال سيبويه : ضريب القداح بمعنى : ضاربها، وصريم بمعنى صارم، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي، ثم وضع موضع الشهيد فعدّي ب﴿ على ﴾، والنفس بمعنى الشخص، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى : المحاسب كالشريك والجليس.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة، وابن عساكر عن سعيد المقبري :( أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر ؛ فقال :( كانا شمسين، قال الله ﴿ وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ فالسواد الذي رأيت هو المحو ) وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي : وإسناده واهٍ. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ في قوله :﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ قال : هو السواد الذي في القمر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ قال : منيرة. ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ﴾ قال : جعل لكم سبحاً طويلاً. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ قال : بيناه. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير بسندٍ حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( طائر كل إنسان في عنقه ) وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ﴾ قال : سعادته وشقاوته وما قدّر الله له وعليه فهو لازمه أين كان. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن أنس في قوله :﴿ طَائِرَهُ ﴾ قال : كتابه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عمله. ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً ﴾ قال : هو عمله الذي أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ إقرأ كتابك ﴾ قال : سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئاً في الدنيا. وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن عائشة في قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ قال : سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال :( هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ فقال : هم على الفطرة أو قال : في الجنة. قال السيوطي : وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال : هم منهم ). وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليها. وأخرج إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن حبان، وأبو نعيم في المعرفة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة ؛ ثم قال : فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن أدخلوا النار، قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها )، وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن أبي قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وأخرج قاسم بن أصبع، والبزار، وأبو يعلى، وابن عبد البرّ في التمهيد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلاً وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً ) فذكر معناه مطولاً. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ قال : بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : سمعت ابن عباس يقول في الآية :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال : سلطنا شرارنا فعصوا، فإذا فعلوا ذلك، أهلكناهم بالعذاب، وهو كقوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]. وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود، قال : كنا نقول للحى إذا كثروا في الجاهلية : قد أمر بنو فلان.
﴿ مَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ﴾ بين سبحانه أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضدّه يختصان بفاعلهما لا يتعدان منه إلى غيره، فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه، فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه، ﴿ وَمَن ضَلَّ ﴾ عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به، ولم يترك ما نهي عنه ﴿ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ أي : فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها، فكل أحد محاسب عن نفسه، مجزيّ بطاعته معاقب بمعصيته، ثم أكد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ والوزر الإثم، يقال : وزر : يزر وزراً ووزرة، أي : إثما، والجمع أوزار، والوزر : الثقل. ومنه ﴿ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ٣١ ] أي : أثقال ذنوبهم. ومعنى الآية : لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى، وقد تقدّم مثل هذا في الأنعام. قال الزجاج في تفسير هذه الآية : إن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره. ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته، والضالّ بضلاله، وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره، ذكر أنه لا يعذب عباده إلاّ بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدًى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلاّ بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة، وابن عساكر عن سعيد المقبري :( أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر ؛ فقال :( كانا شمسين، قال الله ﴿ وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ فالسواد الذي رأيت هو المحو ) وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي : وإسناده واهٍ. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ في قوله :﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ قال : هو السواد الذي في القمر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ قال : منيرة. ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ﴾ قال : جعل لكم سبحاً طويلاً. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ قال : بيناه. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير بسندٍ حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( طائر كل إنسان في عنقه ) وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ﴾ قال : سعادته وشقاوته وما قدّر الله له وعليه فهو لازمه أين كان. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن أنس في قوله :﴿ طَائِرَهُ ﴾ قال : كتابه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عمله. ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً ﴾ قال : هو عمله الذي أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ إقرأ كتابك ﴾ قال : سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئاً في الدنيا. وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن عائشة في قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ قال : سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال :( هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ فقال : هم على الفطرة أو قال : في الجنة. قال السيوطي : وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال : هم منهم ). وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليها. وأخرج إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن حبان، وأبو نعيم في المعرفة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة ؛ ثم قال : فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن أدخلوا النار، قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها )، وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن أبي قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وأخرج قاسم بن أصبع، والبزار، وأبو يعلى، وابن عبد البرّ في التمهيد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلاً وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً ) فذكر معناه مطولاً. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ قال : بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : سمعت ابن عباس يقول في الآية :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال : سلطنا شرارنا فعصوا، فإذا فعلوا ذلك، أهلكناهم بالعذاب، وهو كقوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]. وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود، قال : كنا نقول للحى إذا كثروا في الجاهلية : قد أمر بنو فلان.
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا ﴾ اختلف المفسرون في معنى ﴿ أمرنا ﴾ على قولين : الأوّل أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به، فالأكثر على أنه : الطاعة والخير. وقال في الكشاف : معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا، وأطال الكلام في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل : أمرته فعصاني، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية، لأن المعصية منافية للأمر، مناقضة له، فكذلك : أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق ؛ لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ويناقضه. القول الثاني أن معنى ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ أكثرنا فساقها. قال الواحدي : تقول العرب أمر القوم، إذا كثروا وأمرهم الله : إذا أكثرهم. وقد قرأ أبو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن ( أمَّرنا ) بتشديد الميم، أي : جعلناهم أمراء مسلطين. وقرأ الحسن أيضاً، وقتادة، وأبو حيوة الشامي، ويعقوب، وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعليّ وابن عباس :( آمرنا ) بالمدّ والتخفيف، أي : أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة :«آمرته » بالمدّ و«أمرته » لغتان بمعنى كثرته، ومنه الحديث :«خير المال مهرة مأمورة » أي : كثيرة النتاج والنسل، وكذا قال ابن عزيز. وقرأ الحسن أيضاً. ويحيى بن يعمر ( أمرنا ) بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. قال قتادة والحسن : المعنى أكثرنا. وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد وأنكره الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلاّ آمرنا بالمدّ. قال في الصحاح : وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر، أي : كثر، وأمر القوم، أي : كثروا، ومنه قول لبيد :
إن يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وَإنْ أمِرُوا يوماً يكن للهَلاكِ والفَنَدِ
وقرأ الجمهور ﴿ أمرنا ﴾ من الأمر، ومعناه ما قدّمنا في القول الأوّل، ومعنى ﴿ مُتْرَفِيهَا ﴾ : المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين : إنهم الجبارون المتسلطون، والملوك الجائرون، قالوا : وإنما خصوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم، ومعنى ﴿ فسقوا فيها ﴾ : خرجوا عن الطاعة و[ تمردوا ] في كفرهم، لأن الفسوق الخروج إلى ما هو أفحش ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا القول ﴾ أي ثبت وتحقق عليهم العذاب بعد ظهور فسقهم. ﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ أي : تدميراً عظيماً لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه، وقد قيل في تأويل ﴿ أمرنا ﴾ بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق، وهو إدرار النعم عليهم، وقيل أيضاً : إن المراد ب﴿ أردنا أن نهلك قرية ﴾ أنه قرب إهلاك قرية، وهو عدول عن الظاهر بدون ملجئ إليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة، وابن عساكر عن سعيد المقبري :( أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر ؛ فقال :( كانا شمسين، قال الله ﴿ وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ فالسواد الذي رأيت هو المحو ) وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي : وإسناده واهٍ. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ في قوله :﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ قال : هو السواد الذي في القمر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ قال : منيرة. ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ﴾ قال : جعل لكم سبحاً طويلاً. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ قال : بيناه. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير بسندٍ حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( طائر كل إنسان في عنقه ) وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ﴾ قال : سعادته وشقاوته وما قدّر الله له وعليه فهو لازمه أين كان. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن أنس في قوله :﴿ طَائِرَهُ ﴾ قال : كتابه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عمله. ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً ﴾ قال : هو عمله الذي أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ إقرأ كتابك ﴾ قال : سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئاً في الدنيا. وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن عائشة في قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ قال : سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال :( هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ فقال : هم على الفطرة أو قال : في الجنة. قال السيوطي : وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال : هم منهم ). وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليها. وأخرج إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن حبان، وأبو نعيم في المعرفة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة ؛ ثم قال : فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن أدخلوا النار، قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها )، وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن أبي قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وأخرج قاسم بن أصبع، والبزار، وأبو يعلى، وابن عبد البرّ في التمهيد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلاً وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً ) فذكر معناه مطولاً. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ قال : بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : سمعت ابن عباس يقول في الآية :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال : سلطنا شرارنا فعصوا، فإذا فعلوا ذلك، أهلكناهم بالعذاب، وهو كقوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]. وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود، قال : كنا نقول للحى إذا كثروا في الجاهلية : قد أمر بنو فلان.
ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون ﴾ أي : كثيراً ما أهلكنا منهم، ف﴿ كم ﴾ مفعول ﴿ أهلكنا ﴾، و﴿ من القرون ﴾ بيان ل﴿ كم ﴾ وتمييز له ؛ أي : كم من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود، فحلّ بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب ؟ وفيه تخويف لكفار مكة. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال :﴿ وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا ﴾ قال الفراء : إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم به، كقولك : كفاك، وأكرم به رجلاً، وطاب بطعامك طعاماً، ولا يقال : قام بأخيك، وأنت تريد : قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأهل المعصية، لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة تقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقه بحسب استحقاقه، ولا ينافيه مزيد التفضل على من هو أهل لذلك، والمراد بكونه سبحانه ﴿ خبيراً بصيراً ﴾ أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهراً وباطناً لا تخفى عليه منها خافية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة، وابن عساكر عن سعيد المقبري :( أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر ؛ فقال :( كانا شمسين، قال الله ﴿ وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ فالسواد الذي رأيت هو المحو ) وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي : وإسناده واهٍ. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ في قوله :﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل ﴾ قال : هو السواد الذي في القمر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ قال : منيرة. ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ﴾ قال : جعل لكم سبحاً طويلاً. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ قال : بيناه. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير بسندٍ حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( طائر كل إنسان في عنقه ) وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ﴾ قال : سعادته وشقاوته وما قدّر الله له وعليه فهو لازمه أين كان. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن أنس في قوله :﴿ طَائِرَهُ ﴾ قال : كتابه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عمله. ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً ﴾ قال : هو عمله الذي أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ إقرأ كتابك ﴾ قال : سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئاً في الدنيا. وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن عائشة في قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ قال : سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال :( هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ فقال : هم على الفطرة أو قال : في الجنة. قال السيوطي : وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال : هم منهم ). وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليها. وأخرج إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن حبان، وأبو نعيم في المعرفة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة ؛ ثم قال : فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن أدخلوا النار، قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها )، وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن أبي قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وأخرج قاسم بن أصبع، والبزار، وأبو يعلى، وابن عبد البرّ في التمهيد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلاً وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً ) فذكر معناه مطولاً. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ قال : بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : سمعت ابن عباس يقول في الآية :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال : سلطنا شرارنا فعصوا، فإذا فعلوا ذلك، أهلكناهم بالعذاب، وهو كقوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]. وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود، قال : كنا نقول للحى إذا كثروا في الجاهلية : قد أمر بنو فلان.
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ... ثُمَّ قَالَ: فَيَأْخُذُ اللَّهُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النار، قال: فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا» وإسناده عند أحمد هكذا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ.
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فذكره نَحْوَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَ الْأَحْمَقِ الْمَعْتُوهَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَمْسُوحِ عَقْلًا، وَبِالْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ، وَبِالْهَالِكِ صَغِيرًا» فَذَكَرَ مَعْنَاهُ مُطَوَّلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
قَالَ: بِطَاعَةِ اللَّهِ فَعَصَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
بِحَقٍّ فَخَالَفُوهُ، فَحَقَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ التَّدْمِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْهُ فِي الآية قال: سلطنا شرارها فَعَصَوْا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها «١». وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: قَدْ أَمِرَ بَنُو فلان.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤)
قَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَلَفَ مِنْ جُمْلَةِ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ وَمِنْ جُمْلَةِ مَنِ اهْتَدى وَالْمُرَادُ بِالْعَاجِلَةِ: الْمَنْفَعَةُ الْعَاجِلَةُ أَوِ الدَّارُ الْعَاجِلَةُ. وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ أَوْ بِأَعْمَالِ الْآخِرَةِ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَفَرَةُ والفسقة والمراؤون وَالْمُنَافِقُونَ عَجَّلْنا لَهُ أَيْ: عَجَّلْنَا لِذَلِكَ الْمُرِيدِ فِيها أَيْ: فِي تِلْكَ الْعَاجِلَةِ، ثُمَّ قَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِقَيْدَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا نَشاءُ أَيْ: مَا يَشَاءُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعْجِيلَهُ لَهُ مِنْهَا، لَا مَا يَشَاؤُهُ ذَلِكَ الْمُرِيدُ، وَلِهَذَا تَرَى كثيرا من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون
(١). الأنعام: ١٢٣.
257
من الدُّنْيَا مَا لَا يَنَالُونَ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَالْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: لِمَنْ نُرِيدُ أَيْ: لِمَنْ نُرِيدُ التَّعْجِيلَ لَهُ مِنْهُمْ مَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُنَا، وَجُمْلَةُ لِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى «مَنْ» وَهُوَ لِلْعُمُومِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُقَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُطْلَقَةَ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها «١». مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ «٢». وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قُرِئَ «مَا يَشَاءُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَلَا نَدْرِي مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ مِنْ أهل الشواذّ، وعلى هذه القراءة قيل: الضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: مَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالنُّونِ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ عَجَّلْنَا وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ لِمَنْ نُرِيدُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: لِمَنْ نُرِيدُ أَيْ: عَجَّلْنَا لَهُ مَا يَشَاؤُهُ، لَكِنْ بِحَسَبِ إِرَادَتِنَا فَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَرَادَ الْعَاجِلَةَ مَا يَشَاؤُهُ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَمِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الطِّلْبَةِ الْفَارِغَةِ الَّتِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِالْقَيْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَذَابُ الْآخِرَةِ الدَّائِمُ، وَلِهَذَا قَالَ: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ أَيْ: جَعَلْنَا لَهُ بِسَبَبِ تَرْكِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ وَإِخْلَاصِهِ عَنِ الشَّوَائِبِ عَذَابَ جَهَنَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ يَصْلاها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَدْخُلُهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً أَيْ: مَطْرُودًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مُبْعَدًا عَنْهَا، فَهَذِهِ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ، فَأَيْنَ حَالُ هَذَا الشَّقِيِّ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ؟ فَإِنَّهُ يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِلَا هَلَعٍ مِنْهُ وَلَا جَزَعٍ، مَعَ سُكُونِ نَفْسِهِ وَاطْمِئْنَانِ قَلْبِهِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْآخِرَةِ مُنْتَظِرٌ لِلْجَزَاءِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أَيْ: أَرَادَ بِأَعْمَالِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي: السعي الحقيق بِهَا اللَّائِقَ بِطَالِبِهَا، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَتَرْكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ خَالِصًا لِلَّهِ غَيْرَ مَشُوبٍ، وَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ مِنْ دُونِ ابْتِدَاعٍ وَلَا هَوًى وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «٣» وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
فَأُولئِكَ إِلَى الْمُرِيدِينَ لِلْآخِرَةِ السَّاعِينَ لَهَا سَعْيَهَا وَخَبَرُهُ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عِنْدَ الله، أي: مقبولا غير مردود وقيل: مضاعفا إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، فَقَدِ اعْتَبَرَ سُبْحَانَهُ فِي كَوْنِ السَّعْيُ مَشْكُورًا أُمُورًا ثَلَاثَةً:
الْأَوَّلُ: إِرَادَةُ الْآخِرَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَسْعَى لَهَا السَّعْيَ الَّذِي يَحِقُّ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ رَأْفَتِهِ وَشُمُولَ رَحْمَتِهِ، فَقَالَ: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ التَّنْوِينُ فِي كُلًّا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نُمِدُّ، أَيْ: نَزِيدُهُ مِنْ عَطَائِنَا عَلَى تَلَاحُقٍ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، نَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ وَأَهْلَ الطَّاعَةِ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ، لَا تُؤَثِّرُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِي فِي قَطْعِ رِزْقِهِ، وَمَا بِهِ الْإِمْدَادُ:
هُوَ مَا عَجَّلَهُ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وَمَا أَنْعَمَ بِهِ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذلك بمحض التفضل، وهو متعلق بنمدّ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أَيْ:
مَمْنُوعًا، يُقَالُ: حَظَرَهُ يَحْظُرُهُ حَظْرًا مَنَعَهُ، وَكُلُّ مَا حَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ شَيْءٍ فَقَدْ حَظَرَهُ عَلَيْكَ، وهؤُلاءِ
(١). الشورى: ٢٠.
(٢). هود: ١٥.
(٣). المائدة: ٢٧.
258
بَدَلٌ مِنْ كُلًّا وهؤُلاءِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْبَدَلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُعْطِيَ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَأَنَّهُ يَرْزُقُهُمَا جَمِيعًا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا مَرَّ مِنَ الْإِمْدَادِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ وَالْمَعْنَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا فِي الْعَطَايَا الْعَاجِلَةِ بَعْضَ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَقَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ وَعَاقِلٍ وَأَحْمَقَ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهَا وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ نِسْبَةَ التفاضل في درجات الْآخِرَةُ أَكْبَرَ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرَ تَفْضِيلًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يَدْخُلُونَ النَّارَ فَتَظْهَرُ فَضِيلَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْآخِرَةِ وَدَرَجَاتِهَا فَوْقَ التَّفَاضُلِ فِي الدُّنْيَا وَمَرَاتِبِ أَهْلِهَا فِيهَا مِنْ بَسْطٍ وَقَبْضٍ وَنَحْوِهِمَا. ثُمَّ لَمَّا أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَخَذَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ مُبْتَدِئًا بِأَشْرَفِهَا الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ فَقَالَ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا، أَوْ لِكُلِّ مُتَأَهِّلٍ لَهُ صَالِحٍ لِتَوْجِيهِهِ إِلَيْهِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ:
قُلْ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ لَا تَجْعَلْ، وَانْتِصَابُ تَقْعُدَ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَكُنُ مِنْكَ جَعْلٌ فَقُعُودٌ وَمَعْنَى تَقْعُدُ تَصِيرُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَحَذَ الشَّفْرَةَ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا خَرِبَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقُعُودِ الْمُقَابِلِ لِلْقِيَامِ وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ السَّعْيَ فِيهِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِالْقِيَامِ، وَالْعَجْزُ عَنْهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ قَاعِدًا عَنِ الطَّلَبِ وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ نَادِمًا مُفَكِّرًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، فَالْقُعُودُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَانْتِصَابُ مَذْمُوماً مَخْذُولًا عَلَى خَبَرِيَّةِ تَقْعُدَ أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فَتَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الذَّمِّ لَكَ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَمِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ، وَالْخِذْلَانِ لَكَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، أَوْ حَالَ كَوْنِكَ جَامِعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ أَتْبَعَهُ سَائِرَ الشَّعَائِرِ وَالشَّرَائِعِ فَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَيْ: أَمَرَ أمرا جزما، وحكما قطعا، وحتما مبرما أَلَّا تَعْبُدُوا أَيْ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا، فَتَكُونُ أَنْ نَاصِبَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً وَلَا نَهْيَ. وَقُرِئَ وَوَصَّى رَبُّكَ أَيْ: وَصَّى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أَيْ: وَقَضَى بِأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أَوْ وَأَحْسِنُوا بِهِمَا إِحْسَانًا، وَلَا يَجُوزُ أن يتعلّق بالوالدين بإحسانا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
قِيلَ: وَوَجْهُ ذِكْرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَهُمَا، وَفِي جَعْلِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ قَرِينًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ مِنَ الْإِعْلَانِ بِتَأَكُّدِ حَقِّهِمَا وَالْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِمَا مَا لَا يَخْفَى، وَهَكَذَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى شُكْرَهُمَا مُقْتَرِنًا بِشُكْرِهِ فَقَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «١»، ثُمَّ خَصَّ سُبْحَانَهُ حَالَةَ الْكِبَرِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا إِلَى الْبِرِّ مِنَ الْوَلَدِ أَحْوَجَ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وَمَا الْإِبْهَامِيَّةِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِمَّا سَيَقَعُ الْبَتَّةَ عَادَةً «٢». قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ النهي من
(١). لقمان: ١٤.
(٢). قال الرازي في تفسيره: المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما ألا يقع.
259
حَيْثُ الْجَزْمِ وَعَدَمِ الثُّبُوتِ، فَلِهَذَا صَحَّ دُخُولُ النُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبْلُغَانِ» قَالَ الْفَرَّاءُ:
ثَنّىَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ قَدْ ذُكِرَا قَبْلَهُ فَصَارَ الْفِعْلُ عَلَى عَدَدِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ يَبْلُغَنَّ فَأَحَدُهُمَا فَاعِلٌ بِالِاسْتِقْلَالِ وَقَوْلُهُ: أَوْ كِلاهُما فَاعِلٌ أَيْضًا لَكِنْ لَا بِالِاسْتِقْلَالِ بَلْ بِتَبَعِيَّةِ الْعَطْفِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى قِرَاءَةِ «يَبْلُغَانِ» بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي الْفِعْلِ وَيَكُونُ كِلَاهُمَا عَطْفًا عَلَى الْبَدَلِ، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ كِلَاهُمَا تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ لِاسْتِلْزَامِ الْعَطْفِ الْمُشَارَكَةَ، وَمَعْنَى عِنْدَكَ فِي كَنَفِكَ وكفالتك، وتوحيد الضمير في عندك وَلَا تَقُلْ وَمَا بَعْدَهُمَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ مَنْهِيٌّ بِمَا فِيهِ النَّهْيُ، وَمَأْمُورٌ بِمَا فِيهِ الْأَمْرُ، وَمَعْنَى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لَا تَقُلْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالَتَيِ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ فَقَطْ وَفِي أُفٍّ لُغَاتٌ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ مَعَ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْفَاءِ، وَبِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ، وَبِكَسْرِ الهمز والفاء بلا تنوين، وأفّي مُمَالًا «١»، وَأُفَّهْ بِالْهَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ يَتَأَفَّفُ مِنْ رِيحٍ وَجَدَهَا، أَيْ: يَقُولُ أُفٌّ أُفٌّ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْأُفُّ: وَسَخُ الْأُذُنِ، والتّف: وَسَخُ الْأَظْفَارِ، يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْذَارِ الشَّيْءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهُ فِي كُلِّ مَا يَتَأَذَّوْنَ بِهِ. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أن الأف الضجر، وقال القتبي: أَصْلُهُ أَنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَنَحْوُهُ نَفَخَ فِيهِ لِيُزِيلَهُ، فَالصَّوْتُ الْحَاصِلُ عِنْدَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أُفٌّ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فَذَكَرُوهُ عِنْدَ كُلِّ مَكْرُوهٍ يَصِلُ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ النَّتَنُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء: الأف وسخ بين الأظفار والتّف قُلَامَتُهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ يُنْبِئُ عَنِ التَّضَجُّرِ وَالِاسْتِثْقَالِ، أَوْ صَوْتٌ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، فَنُهِيَ الْوَلَدُ عَنْ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّضَجُّرِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوِ الِاسْتِثْقَالِ لَهُمَا، وَبِهَذَا النَّهْيِ يُفْهَمُ النَّهْيُ عَنْ سَائِرِ مَا يُؤْذِيهِمَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ بِلَحْنِهِ كَمَا هُوَ مُتَقَرِّرٌ فِي الْأُصُولِ وَلا تَنْهَرْهُما النَّهْرُ: الزَّجْرُ وَالْغِلْظَةُ، يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا تُكَلِّمْهُمَا ضَجِرًا صَائِحًا فِي وُجُوهِهِمَا وَقُلْ لَهُما بَدَلَ التَّأْفِيفِ وَالنَّهْرِ قَوْلًا كَرِيماً أَيْ: لَيِّنًا لَطِيفًا أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ مِنْ لُطْفِ الْقَوْلِ وَكَرَامَتِهِ مَعَ التَّأَدُّبِ وَالْحَيَاءِ وَالِاحْتِشَامِ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ ضَمَّ فِرَاخَهُ إِلَيْهِ لِلتَّرْبِيَةِ خَفَضَ لَهَا جَنَاحَهُ، فَلِهَذَا صَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِلْوَلَدِ: اكْفُلْ وَالِدَيْكَ بِأَنْ تَضُمَّهُمَا إِلَى نَفْسِكَ كَمَا فَعَلَا ذَلِكَ بِكَ فِي حَالِ صِغَرِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالِارْتِفَاعَ نَشَرَ جَنَاحَهُ، وَإِذَا أَرَادَ النُّزُولَ خَفَضَ جَنَاحَهُ، فَصَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنِ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ الِارْتِفَاعِ. وَفِي إِضَافَةِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَإِضَافَةِ حَاتِمٍ إِلَى الْجُودِ فِي قَوْلِكَ حَاتِمُ الْجُودِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ الْجَنَاحُ الذَّلِيلُ، وَالثَّانِي: سُلُوكُ سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، كَأَنَّهُ تَخَيَّلَ لِلذُّلِّ جَنَاحًا، ثُمَّ أَثْبَتَ لِذَلِكَ الْجَنَاحِ خَفْضًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ مِنْ ذَلَّ يَذِلُّ ذُلًّا وَذِلَّةً وَمَذَلَّةً فَهُوَ ذَلِيلٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِكَسْرِ الذَّالِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ دابة ذلول بيّنة الذُّلِّ أَيْ: مُنْقَادَةٌ سَهْلَةٌ لَا صُعُوبَةَ فِيهَا، ومن الرَّحْمَةِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ فرط الشفقة والعطف
(١). قراءة على الإمالة.
260
عَلَيْهِمَا لِكِبَرِهِمَا وَافْتِقَارِهِمَا الْيَوْمَ لِمَنْ كَانَ أَفْقَرَ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِمَا بِالْأَمْسِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَكْتَفِ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لَا دوام لها وَلكن قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِهِمَا لِي أَوْ مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا لِي وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ رَحْمَةً مِثْلَ الرَّحْمَةِ بَلِ الْكَافَ لِاقْتِرَانِهِمَا فِي الْوُجُودِ فَلْتَقَعْ هَذِهِ كَمَا وَقَعَتْ تِلْكَ. وَالتَّرْبِيَةُ: التَّنْمِيَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ:
لِأَجْلِ تَرْبِيَتِهِمَا لِي كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «١» وَلَقَدْ بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي التَّوْصِيَةِ بِالْوَالِدَيْنِ مُبَالَغَةً تَقْشَعِرُّ لَهَا جُلُودُ أَهْلِ الْعُقُوقِ، وَتَقِفُ عِنْدَهَا شُعُورُهُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ قَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ذَاكَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: كُلًّا نُمِدُّ الآية قال: كل يَرْزُقُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الآية قال: يرزق مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا وَيُرْزَقُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: مَحْظُوراً مَمْنُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الدُّنْيَا دَرَجَةً فَارْتَفَعَ بِهَا إِلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ دَرَجَةً أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَطْوَلَ، ثم قرأ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ زَاذَانَ عَنْ سَلْمَانَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ كَمَا يَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَذْمُوماً يَقُولُ: مَلُومًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَوَصَّى رَبُّكَ، مَكَانَ وَقَضى، وقال: التزقت الواو والصاد وأنتم تقرؤونها «وَقَضى رَبُّكَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْهُ أَيْضًا مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَلَوْ نَزَلَتْ عَلَى الْقَضَاءِ مَا أَشْرَكَ بِهِ أَحَدٌ. وَأَقُولُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ مِنَ الْأَمْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ مَعَانِي مُطْلَقِ الْقَضَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «٢»، وَقَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ «٣» فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ «٤» وَلَكِنَّهُ- هَاهُنَا- بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْقَضَاءِ، وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِجَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ وَتَوْحِيدُهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَقَعَ الشِّرْكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ مَعَانِي مُطْلَقِ الْقَضَاءِ مَعَانٍ أُخَرُ غَيْرُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَالْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَمِنْهُ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «٥». وَبِمَعْنَى الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٦». وَبِمَعْنَى الْعَهْدِ كَقَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «٧». وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
(١). البقرة: ١٩٨.
(٢). يوسف: ٤١.
(٣). البقرة: ٢٠٠.
(٤). النساء: ١٠٣.
(٥). فصلت: ١٢.
(٦). البقرة: ١١٧.
(٧). القصص: ٤٤. [.....]
261
أي : أراد بأعماله الدار الآخرة ﴿ وسعى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ أي : السعي الحقيقي بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به، وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلاّ إذا كان من المؤمنين :
﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين ﴾ [ المائدة : ٢٧ ]، والجملة في محل نصب على الحال، والإشارة بقوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ ﴾ إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره ﴿ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ عند الله، أي : مقبولاً غير مردود، وقيل : مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة : الأول : إرادة الآخرة، الثاني : أن يسعى لها السعي الذي يحق لها، والثالث : أن يكون مؤمناً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة ﴾ قال : من كان يريد بعمله الدنيا، ﴿ عَجلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ﴾ ذاك به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله :﴿ كُلاًّ نُمِدُّ ﴾ الآية، قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال :﴿ مَحْظُورًا ﴾ ممنوعاً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وصفه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ )، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين :( أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء ). وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَذْمُومًا ﴾ يقول : ملوماً. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ :( ووصى ربك )، مكان ﴿ وقضى ﴾، وقال : التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرأونها :( وقضى ربك ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد ( ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ). وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله :﴿ قُضِي الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [ يوسف : ٤١ ]. وقوله :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]. ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى : الخلق، ومنه ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ [ فصلت : ١٢ ]. وبمعنى الإرادة كقوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ]. وبمعنى العهد كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ]. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ قال : أمر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : عهد ربك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ يقول : برّاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ لما تميط عنهما من الأذى : الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً :( لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه ). وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله :﴿ وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ قال : إذا دعواك فقل : لبيكما وسعديكما. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال : قولاً ليناً سهلاً. وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل ﴾ قال : يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقُل رَّبّ ارحمهما ﴾ ثم أنزل الله بعد هذا ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ والذين آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.
ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال :﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ ﴾ التنوين في «كلاً » عوض عن المضاف إليه، والتقدير كل واحد من الفريقين نمدّ، أي : نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة، وفي قوله :﴿ مِنْ عَطَاء رَبّكَ ﴾ إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق ب﴿ نمد ﴾، ﴿ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا ﴾ أي : ممنوعاً، يقال : حظره يحظره حظراً : منعه، وكل ما حال بينك وبين شيء، فقد حظره عليك، و﴿ هؤلاء ﴾ بدل من «كلا » وهؤلاء معطوف على البدل. قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أنه يعطي المسلم [ و ] الكافر وأنه يرزقهما جميعاً الفريقين فقال :﴿ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة ﴾ قال : من كان يريد بعمله الدنيا، ﴿ عَجلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ﴾ ذاك به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله :﴿ كُلاًّ نُمِدُّ ﴾ الآية، قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال :﴿ مَحْظُورًا ﴾ ممنوعاً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وصفه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ )، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين :( أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء ). وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَذْمُومًا ﴾ يقول : ملوماً. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ :( ووصى ربك )، مكان ﴿ وقضى ﴾، وقال : التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرأونها :( وقضى ربك ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد ( ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ). وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله :﴿ قُضِي الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [ يوسف : ٤١ ]. وقوله :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]. ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى : الخلق، ومنه ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ [ فصلت : ١٢ ]. وبمعنى الإرادة كقوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ]. وبمعنى العهد كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ]. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ قال : أمر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : عهد ربك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ يقول : برّاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ لما تميط عنهما من الأذى : الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً :( لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه ). وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله :﴿ وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ قال : إذا دعواك فقل : لبيكما وسعديكما. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال : قولاً ليناً سهلاً. وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل ﴾ قال : يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقُل رَّبّ ارحمهما ﴾ ثم أنزل الله بعد هذا ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ والذين آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.
﴿ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار، وهذه الجملة مقرّرة لما مرّ من الإمداد وموضحة له، والمعنى : انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض، فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها. ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، وقيل : المراد : أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين. وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما. ثم لما أجمل سبحانه أعمال البرّ في قوله :﴿ وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال :﴿ لا تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة ﴾ قال : من كان يريد بعمله الدنيا، ﴿ عَجلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ﴾ ذاك به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله :﴿ كُلاًّ نُمِدُّ ﴾ الآية، قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال :﴿ مَحْظُورًا ﴾ ممنوعاً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وصفه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ )، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين :( أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء ). وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَذْمُومًا ﴾ يقول : ملوماً. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ :( ووصى ربك )، مكان ﴿ وقضى ﴾، وقال : التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرأونها :( وقضى ربك ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد ( ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ). وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله :﴿ قُضِي الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [ يوسف : ٤١ ]. وقوله :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]. ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى : الخلق، ومنه ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ [ فصلت : ١٢ ]. وبمعنى الإرادة كقوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ]. وبمعنى العهد كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ]. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ قال : أمر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : عهد ربك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ يقول : برّاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ لما تميط عنهما من الأذى : الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً :( لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه ). وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله :﴿ وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ قال : إذا دعواك فقل : لبيكما وسعديكما. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال : قولاً ليناً سهلاً. وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل ﴾ قال : يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقُل رَّبّ ارحمهما ﴾ ثم أنزل الله بعد هذا ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ والذين آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.
﴿ لاَ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، تهييجاً وإلهاباً، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه، وقيل : هو على إضمار القول، والتقدير : قل لكل مكلف : لا تجعل، وانتصاب ﴿ تقعد ﴾ على جواب النهي، والتقدير : لا يكون منك جعل فقعود ؛ ومعنى ﴿ تقعد ﴾ : تصير، من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام ؛ وقيل : هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام، والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب ؛ وقيل : إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة، وانتصاب ﴿ مَذْمُومًا مَخْذُولاً ﴾ على خبرية تقعد أو على الحال : أي فتصير جامعاً بين الأمرين : الذم لك من الله ومن ملائكته، ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو حال كونك جامعاً بين الأمرين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة ﴾ قال : من كان يريد بعمله الدنيا، ﴿ عَجلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ﴾ ذاك به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله :﴿ كُلاًّ نُمِدُّ ﴾ الآية، قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال :﴿ مَحْظُورًا ﴾ ممنوعاً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وصفه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ )، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين :( أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء ). وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَذْمُومًا ﴾ يقول : ملوماً. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ :( ووصى ربك )، مكان ﴿ وقضى ﴾، وقال : التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرأونها :( وقضى ربك ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد ( ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ). وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله :﴿ قُضِي الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [ يوسف : ٤١ ]. وقوله :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]. ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى : الخلق، ومنه ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ [ فصلت : ١٢ ]. وبمعنى الإرادة كقوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ]. وبمعنى العهد كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ]. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ قال : أمر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : عهد ربك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ يقول : برّاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ لما تميط عنهما من الأذى : الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً :( لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه ). وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله :﴿ وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ قال : إذا دعواك فقل : لبيكما وسعديكما. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال : قولاً ليناً سهلاً. وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل ﴾ قال : يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقُل رَّبّ ارحمهما ﴾ ثم أنزل الله بعد هذا ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ والذين آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.
ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد، أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ أي : أمر أمراً جزماً، وحكماً قطعاً، وحتماً مبرماً ﴿ أَن لاَ تَعْبُدُوا ﴾ أي : بأن لا تعبدوا، فتكون «أن » ناصبة، ويجوز أن تكون مفسرة، و " لا " نهي. وقرئ ( ووصى ربك ) أي : وصى عباده بعبادته وحده، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي : وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، أو وأحسنوا بهما إحساناً، ولا يجوز أن يتعلق ﴿ بالوالدين ب{ إحسانا ﴾، لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلق به. قيل : ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال :﴿ أَنِ اشكر لِي ولوالديك ﴾ [ لقمان : ١٤ ]. ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر، لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها، فقال :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ﴾ :" إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " الإبهامية لتأكيد معنى الشرط، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير، كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة. قال النحويون : إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه. وقرأ حمزة والكسائي ( يبلغان ). قال الفراء : ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله، فصار الفعل على عددهما، ثم قال :﴿ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ﴾ على الاستئناف، وأما على قراءة ﴿ يبلغن ﴾ فأحدهما فاعل بالاستقلال. وقوله :﴿ أَوْ كِلاَهُمَا ﴾ فاعل أيضاً، لكن لا بالاستقلال، بل بتبعية العطف، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة ( يبلغان ) بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل، ويكون ﴿ كلاهما ﴾ عطفاً على البدل، ولا يصحّ جعل ﴿ كلاهما ﴾ تأكيداً للضمير، لاستلزام العطف المشاركة، ومعنى ﴿ عندك ﴾ في كنفك وكفالتك، وتوحيد الضمير في ﴿ عندك ﴾ و﴿ لا تقل ﴾ وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهيّ بما فيه النهي، ومأمور بما فيه الأمر، ومعنى ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ : لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد، وليس المراد حالة الاجتماع فقط ؛ وفي ﴿ أف ﴾ لغات : ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء، وبالتنوين وعدمه، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين، وأفي ممالاً، وأفه بالهاء. قال الفراء : تقول العرب : فلان يتأفف من ريح وجدها، أي : يقول أف أف. وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن، والثف : وسخ الأظفار، يقال ذلك : عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ أن الأفف : الضجر، وقال القتيبي : أصله : أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل : أفّ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم. وقال الزجاج : معناه النتن. وقال أبو عمرو بن العلاء : الأف : وسخ بين الأظفار، والثف : قلامتها. والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال، أو صوت ينبئ عن ذلك، فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول. ﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ النهر : الزجر والغلظة، يقال : نهره وانتهره : إذا استقبله بكلام يزجره. قال الزجاج : معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما. ﴿ وَقُل لَّهُمَا ﴾ بدل التأفيف والنهر ﴿ قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ أي : ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة ﴾ قال : من كان يريد بعمله الدنيا، ﴿ عَجلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ﴾ ذاك به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله :﴿ كُلاًّ نُمِدُّ ﴾ الآية، قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال :﴿ مَحْظُورًا ﴾ ممنوعاً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وصفه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ )، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين :( أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء ). وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَذْمُومًا ﴾ يقول : ملوماً. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ :( ووصى ربك )، مكان ﴿ وقضى ﴾، وقال : التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرأونها :( وقضى ربك ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد ( ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ). وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله :﴿ قُضِي الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [ يوسف : ٤١ ]. وقوله :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]. ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى : الخلق، ومنه ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ [ فصلت : ١٢ ]. وبمعنى الإرادة كقوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ]. وبمعنى العهد كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ]. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ قال : أمر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : عهد ربك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ يقول : برّاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ لما تميط عنهما من الأذى : الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً :( لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه ). وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله :﴿ وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ قال : إذا دعواك فقل : لبيكما وسعديكما. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال : قولاً ليناً سهلاً. وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل ﴾ قال : يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقُل رَّبّ ارحمهما ﴾ ثم أنزل الله بعد هذا ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ والذين آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.
﴿ واخفض لهما جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة ﴾ ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال للولد : أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك. والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع ؛ وفي إضافة الجناح إلى الذلّ وجهان : الأوّل : أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك : حاتم الجود، فالأصل فيه : الجناح الذليل، والثاني : سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذلّ جناحاً، ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً. وقرأ الجمهور ( الذلّ ) بضم الذال من ذلّ يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل. وقرأ سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير بكسر الذال، وروي ذلك عن ابن عباس وعاصم، من قولهم : دابة ذلول، بنية الذل، أي : منقادة سهلة لا صعوبة فيها، و﴿ من الرحمة ﴾ فيه معنى التعليل، أي : من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ثم كأنه قال له سبحانه : ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ولكن ﴿ قُل رَّبّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي : رحمة مثل تربيتهما لي، أو مثل رحمتهما لي، وقيل : ليس المراد رحمة مثل الرحمة، بل الكاف لاقترانهما في الوجود، فلتقع هذه كما وقعت تلك. والتربية : التنمية، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، أي : لأجل تربيتهما، لي كقوله :﴿ واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ]. ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة ﴾ قال : من كان يريد بعمله الدنيا، ﴿ عَجلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ﴾ ذاك به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله :﴿ كُلاًّ نُمِدُّ ﴾ الآية، قال : كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال :﴿ مَحْظُورًا ﴾ ممنوعاً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وصفه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ )، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين :( أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء ). وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَذْمُومًا ﴾ يقول : ملوماً. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ :( ووصى ربك )، مكان ﴿ وقضى ﴾، وقال : التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرأونها :( وقضى ربك ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله. وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد ( ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ). وأقول : إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله :﴿ قُضِي الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [ يوسف : ٤١ ]. وقوله :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]. ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى : الخلق، ومنه ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ [ فصلت : ١٢ ]. وبمعنى الإرادة كقوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ]. وبمعنى العهد كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ]. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ قال : أمر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : عهد ربك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ يقول : برّاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ لما تميط عنهما من الأذى : الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً :( لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه ). وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله :﴿ وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ قال : إذا دعواك فقل : لبيكما وسعديكما. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال : قولاً ليناً سهلاً. وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل ﴾ قال : يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ وَقُل رَّبّ ارحمهما ﴾ ثم أنزل الله بعد هذا ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيّ والذين آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.
وَقَضى رَبُّكَ قَالَ: أَمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: عَهِدَ رَبُّكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يَقُولُ: بِرًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيما تُمِيطُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَذَى: الْخَلَاءِ وَالْبَوْلِ، كَمَا كَانَا لَا يَقُولَانِهِ فِيمَا كَانَا يُمِيطَانِ عَنْكَ من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسن بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْعُقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَحَرَّمَهُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً قَالَ: إِذَا دَعَوَاكَ فَقُلْ لَبَّيْكُمَا وَسَعْدَيْكُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَوْلًا لَيِّنًا سَهْلًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ قَالَ: يَلِينُ لَهُمَا حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: اخْضَعْ لِوَالِدَيْكَ كَمَا يَخْضَعُ الْعَبْدُ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى «١». وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ في كتب الحديث.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٥ الى ٣٣]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
قَوْلُهُ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أَيْ: بِمَا فِي ضَمَائِرِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَعَدَمِهِ فِي كُلِّ الطَّاعَاتِ، وَمِنَ التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي فَرُطَ مِنْكُمْ أَوِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ مَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْبِرِّ وَالْعُقُوقِ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِمَا يَجِبُ لِلْأَبَوَيْنِ مِنَ الْبِرِّ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْأَوْلَادِ مِنَ الْعُقُوقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَلَا تُخَصِّصُهُ دَلَالَةُ السِّيَاقِ وَلَا تُقَيِّدُهُ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قَاصِدِينَ الصَّلَاحَ، وَالتَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ وَالْإِخْلَاصَ لِلطَّاعَةِ فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا وَقَعَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي تُبْتُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً أَيِ: الرَّجَّاعِينَ عَنِ الذُّنُوبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَعَنْ عَدَمِ الْإِخْلَاصِ إِلَى مَحْضِ الْإِخْلَاصِ غَفُورًا لِمَا فَرُطَ مِنْهُمْ من قول
(١). التوبة: ١١٣.
262
أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ رَجَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ التَّوْصِيَةَ بِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْأَقَارِبِ بَعْدَ التَّوْصِيَةِ بِهِمَا فَقَالَ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْخِطَابُ إِمَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ وَالْمُرَادُ بِذِي الْقُرْبَى ذُو الْقَرَابَةِ، وَحَقُّهُمْ هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، وَكَرَّرَ التَّوْصِيَةَ فِيهَا، وَالْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْقَرَابَةِ، أَوْ لِبَعْضِهِمْ كَالْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَالْأَوْلَادُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مَعْرُوفٌ، وَالَّذِي يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وُجُوبُ صِلَتِهِمْ بِمَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ وَحَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمِسْكِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى «ذَا الْقُرْبَى» وَفِي هَذَا الْعَطْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْحَقُّ الْمَالِيُّ وَابْنَ السَّبِيلِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمِسْكِينَ، وَالْمَعْنَى: وَآتِ مَنِ اتَّصَفَ بِالْمَسْكَنَةِ، أَوْ بِكَوْنِهِ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ حَقَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي التَّوْبَةِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمَا بِمَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ مِنْ صَدَقَةِ النَّفْلِ، أَوْ مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُمَا مِنْ صَدَقَةِ الْفَرْضِ، فَإِنَّهُمَا مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي هِيَ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ هَاهُنَا نَهَى عَنِ التَّبْذِيرِ فَقَالَ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً التَّبْذِيرُ: تَفْرِيقُ الْمَالِ، كَمَا يُفَرَّقُ الْبِذْرُ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِمَوَاقِعِهِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْمُومُ لِمُجَاوَزَتِهِ لِلْحَدِّ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلَا تَبْذِيرَ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَذَا: وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: التَّبْذِيرُ: هُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ حَقِّهِ، وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ، وَتَجَنُّبُ مُمَاثَلَةِ الشَّيْطَانِ وَلَوْ فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ خِصَالِهِ وَاجِبٌ، فَكَيْفَ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ فَقَدْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَاقْتَدَى بِهِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أَيْ: كَثِيرَ الْكُفْرَانِ، عَظِيمَ التَّمَرُّدِ عَنِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ مَعَ كُفْرِهِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا شَرًّا، وَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِعَمَلِ الشَّرِّ، وَلَا يُوَسْوِسُ إِلَّا بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُبَذِّرِينَ بِمُمَاثَلَةِ الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ التَّسْجِيلُ عَلَى جِنْسِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ كَفُورٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَذِّرَ مُمَاثِلٌ لِلشَّيْطَانِ، وَكُلُّ مُمَاثِلٍ لِلشَّيْطَانِ لَهُ حُكْمُ الشَّيْطَانِ، وَكُلُّ شَيْطَانٍ كَفُورٌ، فَالْمُبَذِّرُ كَفُورٌ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ قَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ أَصْلَ إِمَّا هَذِهِ مُرَكَّبٌ مِنْ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ وما الْإِبْهَامِيَّةِ، وَأَنَّ دُخُولَ نُونِ التَّأْكِيدِ عَلَى الشَّرْطِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلنَّهْيِ، أَيْ: إِنْ أَعْرَضْتَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِأَمْرٍ اضْطَرَّكَ إِلَى ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: لِفَقْدِ رِزْقٍ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّهُ أَقَامَ الْمُسَبَّبَ الَّذِي هُوَ ابْتِغَاءُ رَحْمَةِ اللَّهِ مَقَامَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ فَقْدُ الرِّزْقِ لِأَنَّ فَاقِدَ الرِّزْقِ مُبْتَغٍ لَهُ وَالْمَعْنَى: وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِفَقْدِ رِزْقٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُو أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أَيْ: قَوْلًا سَهْلًا لَيِّنًا كَالْوَعْدِ الْجَمِيلِ أَوِ الِاعْتِذَارِ الْمَقْبُولِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَسَّرْتُ لَهُ الْقَوْلَ أَيْ لَيَّنْتُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ تُعْرِضْ عَنِ السَّائِلِ إِضَاقَةً وَإِعْسَارًا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا عِدْهُمْ عِدَةً حَسَنَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِكَ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هنا الإعراض
263
بِالْوَجْهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ إِذَا سَأَلَهُمْ سَائِلٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ كَيْفَ يَقُولُونَ وَبِمَا يَرُدُّونَ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
إِنْ لَا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ
لَا يعدم السائلون الخير من خلقي إمّا نوالي وإما حسن مردودي
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَدَبَ الْمَنْعِ بَعْدَ النَّهْيِ عن التذيير بَيَّنَ أَدَبَ الْإِنْفَاقِ فَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وَهَذَا النَّهْيُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُكَلَّفٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ وَتَعْلِيمًا لَهُمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ لِلْإِنْسَانِ بِأَنْ يُمْسِكَ إِمْسَاكًا يَصِيرُ بِهِ مُضَيِّقًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يُوَسِّعُ فِي الْإِنْفَاقِ تَوْسِيعًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِهِ مُسْرِفًا، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ جَانِبَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوَسُّطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ:
وَلَا تَكُ فِيهَا مُفْرِطًا أَوْ مُفَرِّطًا كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
وَقَدْ مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الشَّحِيحِ بِحَالِ مَنْ كَانَتْ يَدُهُ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ بِهَا، وَمَثَّلَ حَالَ مَنْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِي التَّصَرُّفِ بِحَالِ مَنْ يَبْسُطُ يَدَهُ بَسْطًا لَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبِهِ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا تَقْبِضُ الْأَيْدِيَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا التَّصْوِيرِ مُبَالِغَةٌ بَلِيغَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ غَائِلَةَ الطَّرَفَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا فَقَالَ: فَتَقْعُدَ مَلُوماً عِنْدَ النَّاسِ بِسَبَبِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّحِّ مَحْسُوراً بِسَبَبِ مَا فَعَلْتَهُ مِنَ الْإِسْرَافِ، أَيْ: مُنْقَطِعًا عَنِ الْمَقَاصِدِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ، وَالْمَحْسُورُ فِي الْأَصْلِ: الْمُنْقَطِعُ عَنِ السَّيْرِ، مِنْ حَسَرَهُ السَّفَرُ إِذَا بَلَغَ مِنْهُ، وَالْبَعِيرُ الْحَسِيرُ: هُوَ الَّذِي ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلَا انْبِعَاثَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «١»، أَيْ: كَلَيْلٌ مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَادِمًا عَلَى مَا سَلَفَ، فَجَعَلَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنَ الْحَسْرَةِ الَّتِي هِيَ النَّدَامَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مِنَ الْحَسْرَةِ حَسْرَانٌ، وَلَا يُقَالُ مَحْسُورٌ إِلَّا لِلْمَلُومِ ثُمَّ سَلَّى رَسُولَهُ والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة لَيْسَ لِهَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ لِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ عَلَى بَعْضٍ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى بَعْضٍ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، لَا لِكَوْنِ مَنْ وَسَّعَ لَهُ رِزْقُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ، وَمَنْ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ هَائِنًا لَدَيْهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ الْبَسْطَ وَالْقَبْضَ إِنَّمَا هُمَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي لَا تَفْنَى خَزَائِنُهُ، فَأَمَّا عِبَادُهُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتَصِدُوا، ثُمَّ عَلَّلَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْبَسْطِ لِلْبَعْضِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ:
إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أَيْ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ، فَهُوَ الْخَبِيرُ بِأَحْوَالِهِمُ، الْبَصِيرُ بِكَيْفِيَّةِ تَدْبِيرِهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أَمْلَقَ الرَّجُلُ: لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْمَلَقَاتُ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْعِظَامُ الْمُلْسُ. قَالَ الْهُذَلِيُّ يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو حشيف إذا سامت على الملقات ساما
(١). الملك: ٤.
264
الأقيدر: تصغير الأقدر وهو الرجل القصير، والحشيف مِنَ الثِّيَابِ: الْخَلِقُ، وَسَامَتْ: مَرَّتْ، وَيُقَالُ: أَمْلَقَ إِذَا افْتَقَرَ وَسَلَبَ الدَّهْرُ مَا بِيَدِهِ. قَالَ أَوْسٌ:
...................
وَأَمْلَقُ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تِنْبَلُ «١»
نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْفَقْرِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ الْأَوْلَادِ لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّازِقُ لِعِبَادِهِ، يَرْزُقُ الْأَبْنَاءَ كَمَا يَرْزُقُ الْآبَاءَ فَقَالَ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وَلَسْتُمْ لَهُمْ بِرَازِقِينَ حَتَّى تَصْنَعُوا بِهِمْ هَذَا الصُّنْعَ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَبِالْهَمْزِ الْمَقْصُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، خَطَأً، بِفَتْحِ الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال: خطىء في ذنبه خطأ إدا أَثِمَ، وَأَخْطَأَ: إِذَا سَلَكَ سَبِيلَ خَطَأٍ عَامِدًا أو غير عامد. قال الأزهري: خطىء يخطأ خِطَئًا مِثْلُ أَثِمَ يَأْثَمُ إِثْمًا إِذَا تَعَمَّدَ الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمّد، إخطاء وخطأ، قال الشاعر:
دعيني إنما خطئي وصوبي عليّ وإنّ ما أهلكت مال «٢»
وَالْخَطَأُ الِاسْمُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَخْطَاءِ، وَفِيهِ لُغَتَانِ الْقَصْرُ، وَهُوَ الْجَيِّدُ، وَالْمَدُّ وَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَمَدِّ الْهَمْزِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهًا، وَكَذَلِكَ جَعَلَهَا أَبُو حَاتِمٍ غَلَطًا.
وَقَرَأَ الحسن «خطىّ» بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همزة. وَلَمَّا نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ الْمُسْتَدْعِي لِإِفْنَاءِ النَّسْلِ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا الْمُفْضِي إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وَفِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهِ بِمُبَاشَرَةِ مُقَدَّمَاتِهِ نَهْيٌ عَنْهُ بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى الشَّيْءِ إِذَا كَانَتْ حَرَامًا كَانَ المتوسل إليه حراما بفحوى الخطاب، والزنى فِيهِ لُغَتَانِ: الْمَدُّ، وَالْقَصْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ كَمَا كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ
ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أَيْ: قَبِيحًا مُتَبَالِغًا فِي الْقُبْحِ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ وَساءَ سَبِيلًا أَيْ: بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى النَّارِ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَقْبِيحِهِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ لِخُصُوصِ الْأَوْلَادِ وَعَنِ النَّهْيِ عَنِ الزِّنَا الَّذِي يُفْضِي إِلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَتْلُ الْأَوْلَادِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا، نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَقَالَ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ والمراد بالتي
(١). وصدره: لما رأيت العدم قيد نائلي.
(٢). في المطبوع:
دَعِينِي إِنَّمَا خَطَّاءً وَصَدًّا عَلِيَّ وَإِنَّمَا أَهْلَكْتُ مالي
والمثبت من اللسان والشعر والشعراء لابن قتيبة.
265
حَرَّمَ اللَّهُ الَّتِي جَعَلَهَا مَعْصُومَةً بِعِصْمَةِ الدِّينِ أَوْ عِصْمَةِ الْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ هُوَ مَا يُبَاحُ بِهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ كَالرِّدَّةِ وَالزِّنَا مِنَ الْمُحْصَنِ، وَكَالْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا عُدْوَانًا وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا تَقْتُلُوهَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِسَبَبِ مُتَلَبِّسٍ بِالْحَقِّ، أَوْ إِلَّا مُتَلَبِّسِينَ بِالْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أَيْ: لَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَوِّغَةِ لِقَتْلِهِ شَرْعًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أَيْ: لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ مَنْ وَرَثَتِهِ إِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ، أَوْ مِمَّنْ لَهُ سُلْطَانٌ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ، وَالسُّلْطَانُ: التَّسَلُّطُ عَلَى الْقَاتِلِ إِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ إِبَاحَةَ الْقِصَاصِ لِمَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِدَمِ الْمَقْتُولِ، أَوْ مَا هُوَ عِوَضٌ عَنِ الْقِصَاصِ نَهَاهُ عَنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فَقَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أَيْ: لَا يُجَاوِزْ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ فَيَقْتُلْ بِالْوَاحِدِ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةً، أَوْ يُمَثِّلْ بِالْقَاتِلِ، أَوْ يُعَذِّبْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا يُسْرِفْ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أي: الولي، وقرأ حمز وَالْكِسَائِيُّ تُسْرِفْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ الْأَوَّلِ، وَنَهْيٌ لَهُ عَنِ الْقَتْلِ، أَيْ: فَلَا تُسْرِفُ أَيُّهَا الْقَاتِلُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّ عَلَيْكَ الْقِصَاصَ مَعَ مَا عَلَيْكَ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَلَعْنَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ: لَا تَقْتُلْ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَ الْقَاتِلِ وَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَكَ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «وَلَا تُسْرِفُوا» ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ السَّرَفِ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أَيْ: مُؤَيَّدًا مُعَانًا، يَعْنِي الْوَلِيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَصَرَهُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ لَهُ بِمَا أَبْرَزَهُ مِنَ الْحُجَجِ، وَأَوْضَحَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْوِلَايَاتِ بِمَعُونَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْمَقْتُولِ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ نَصَرَهُ بِوَلِيِّهِ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قَالَ: تَكُونُ الْبَادِرَةُ مِنَ الْوَلَدِ إِلَى الْوَالِدِ، فَقَالَ اللَّهُ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ إِنْ تَكُنِ النِّيَّةُ صَادِقَةً فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً لِلْبَادِرَةِ الَّتِي بَدَرَتْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً قَالَ: الرَّجَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الرَّجَّاعِينَ مِنَ الذَّنْبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَمِنَ السَّيِّئَاتِ إِلَى الْحَسَنَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِلْأَوَّابِينَ قَالَ: لِلْمُطِيعِينَ الْمُحْسِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ قَالَ: لِلتَّوَّابِينَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قَالَ: أَمَرَهُ بِأَحَقِّ الْحُقُوقِ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَقَالَ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها قال: إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رِزْقًا مِنَ اللَّهِ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً يقول: إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ شِبْهَ الْعِدَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعِدَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ أَنْ تَصِلَ ذَا الْقَرَابَةِ وَتُطْعِمَ الْمِسْكِينَ وَتُحْسِنَ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا قَرَأْتَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ؟ قَالَ:
266
وَإِنَّكُمْ لَلْقَرَابَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُؤْتَى حَقُّهُمْ. قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ. قَالَ:
وَالْقُرْبَى قُرْبَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يُفِيدُ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَلَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَاضِحٌ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمْرُ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْ صِلَةِ قَرَابَتِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ حَقَّهُمْ، وَهُوَ الصِّلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ لِأُمَّتِهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ مِنْ دُونِ تَعْرِيضٍ، فَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ، فَالْأَمْرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ أَمْرٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً- إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: تُخْرِجُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقَارِبَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْلِلْ لِي؟ قَالَ: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. قَالَ: حَسْبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ». وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فَأَعْطَاهَا فَدَكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فَدَكَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا مَا لَفْظُهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ لَوْ صَحَّ إِسْنَادُهُ، لَأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفْدَكُ إِنَّمَا فُتِحَتْ مَعَ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا مَعَ هَذَا؟ انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً قَالَ:
التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَتَحَدَّثُ أَنَّ التَّبْذِيرَ النَّفَقَةُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الْمَالَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا أَنْفَقْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ وَمَا تَصَدَّقْتَ فَلَكَ، وَمَا أَنْفَقْتَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَذَلِكَ حَظُّ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً قَالَ: الْعِدَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَيَّارِ أَبِي الْحَكَمِ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرٌّ مِنَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ مِعْطَاءً كَرِيمًا، فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالُوا: إِنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْأَلُهُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قَالَ: مَحْبُوسَةً وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً يَلُومُكَ النَّاسُ مَحْسُوراً لَيْسَ بِيَدِكَ شَيْءٌ.
267
أَقُولُ: وَلَا أَدْرِي كَيْفَ هَذَا؟ فَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ عَرَبٌ يَقْصِدُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِرَاقِ وَلَا مِمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ فَتْحَ الْعِرَاقِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو «بَعَثَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنِهَا فَقَالَتْ: قُلْ لَهُ اكْسُنِي ثَوْبًا. فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَقَالَتْ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ اكْسُنِي قَمِيصَكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ، فَنَزَلَتْ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ لِعَائِشَةَ وَضَرَبَ بِيَدِهِ: أَنْفِقِي مَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّي، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ. قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الْآيَةَ» وَيَقْدَحُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِعَائِشَةَ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْبُخْلَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا فِي النَّفَقَةِ يَقُولُ: لَا تَجْعَلْهَا مغلولة لا تبسطها بِخَيْرٍ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، يَعْنِي التَّبْذِيرَ فَتَقْعُدَ مَلُوماً، يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ مَالِهِ مَحْسُوراً ذَهَبَ مَالُهُ كُلُّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ قَالَ: يَنْظُرُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْغِنَى خَيْرًا لَهُ أَغْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْفَقْرُ خَيْرًا لَهُ أَفْقَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قَالَ: مَخَافَةَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
خِطْأً قَالَ: خَطِيئَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى قَالَ: يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ حُدُودٌ، فَجَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُدُودُ فِي سُورَةِ النُّورِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبيّ ابن كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كان فاحشة ومقتا وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» فَذُكِرَ لِعُمَرَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أَخَذْتُهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لَكَ عَمَلٌ إِلَّا الصَّفْقَ بِالْبَقِيعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْهِيبِ عَنْ فَاحِشَةِ الزِّنَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا بِمَكَّةَ وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَغْتَالُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ: مَنْ قَتَلَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ قَتْلُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ تَقْتُلُوا لَهُ أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ وَاحِدًا مِنْ عَشِيرَتِهِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَلَا تَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَكُمْ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ براءة، وقبل أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً يَقُولُ: لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِكَ، وَهِيَ الْيَوْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمِ: أَنَّ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ مِنَ الْقَوْمِ رَجُلًا لَمْ يَرْضَوْا حَتَّى يَقْتُلُوا بِهِ رَجُلًا شَرِيفًا، إِذَا كَانَ قَاتِلُهُمْ غَيْرَ شَرِيفٍ، لَمْ يَقْتُلُوا قَاتِلَهُمْ وَقَتَلُوا غَيْرَهُ، فَوُعِظُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ إِلَى قَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً قَالَ: بَيِّنَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْزَلَهَا يَطْلُبُهَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الْقَوْدُ أَوِ الْعَقْلُ، وَذَلِكَ السُّلْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قَالَ: لَا يُكْثِرْ فِي الْقَتْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ أَيْضًا: لَا يَقْتُلْ إِلَّا قَاتِلَ رحمه.
268
ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال :﴿ وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ ﴾ والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله :﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] والمراد بذي القربى : ذو القرا�