قَالَ عَطَاء وَغَيْره : وَاجِب عَلَى الْكَاتِب أَنْ يَكْتُب، وَقَالَهُ الشَّعْبِيّ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُوجَد كَاتِب سِوَاهُ فَوَاجِب عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُب.
السُّدِّيّ : وَاجِب مَعَ الْفَرَاغ.
وَحُذِفَتْ اللَّام مِنْ الْأَوَّل وَأُثْبِتَتْ فِي الثَّانِي ; لِأَنَّ الثَّانِيَ غَائِب وَالْأَوَّل لِلْمُخَاطَبِ.
وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي الْمُخَاطَب، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" فَلْتَفْرَحُوا " بِالتَّاءِ.
مُحَمَّد تَفْدِ نَفْسك كُلّ نَفْس إِذَا مَا خِفْت مِنْ شَيْء تَبَالَا
كَاتِبٌ
أَيْ بِالْحَقِّ وَالْمَعْدِلَة، أَيْ لَا يَكْتُب لِصَاحِبِ الْحَقّ أَكْثَر مِمَّا قَالَهُ وَلَا أَقَلّ.
وَإِنَّمَا قَالَ " بَيْنكُمْ " وَلَمْ يَقُلْ أَحَدكُمْ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي لَهُ الدَّيْن يَتَّهِم فِي الْكِتَابَة الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْن وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ شَرَعَ اللَّه سُبْحَانه كَاتِبًا غَيْرهمَا يَكْتُب بِالْعَدْلِ لَا يَكُون فِي قَلْبه وَلَا قَلَمه مَوَادَّة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر.
وَقِيلَ : إِنَّ النَّاس لَمَّا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ، حَتَّى لَا يَشِذّ أَحَدهمْ عَنْ الْمُعَامَلَة، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُب وَمَنْ لَا يَكْتُب، أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه أَنْ يَكْتُب بَيْنهمْ كَاتِب بِالْعَدْلِ.
الْبَاء فِي قَوْله تَعَالَى " بِالْعَدْلِ " مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ :" وَلْيَكْتُبْ " وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَة ب " كَاتِب " لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَم أَلَّا يَكْتُب وَثِيقَة إِلَّا الْعَدْل فِي نَفْسه، وَقَدْ يَكْتُبهَا الصَّبِيّ وَالْعَبْد وَالْمُتَحَوِّط إِذَا أَقَامُوا فِقْههَا.
أَمَّا الْمُنْتَصِبُونَ لِكَتْبِهَا فَلَا يَجُوز لِلْوُلَاةِ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ إِلَّا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ.
قَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : لَا يَكْتُب الْوَثَائِق بَيْن النَّاس إِلَّا عَارِف بِهَا عَدْل فِي نَفْسه مَأْمُون، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كَاتِب بِالْعَدْلِ ".
قُلْت : فَالْبَاء عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَة ب " كَاتِب " أَيْ لِيَكْتُب بَيْنكُمْ كَاتِب عَدْل، ف " بِالْعَدْلِ " فِي مَوْضِع الصِّفَة.
بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
نَهَى اللَّه الْكَاتِب عَنْ الْإِبَاء وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي وُجُوب الْكِتَابَة عَلَى الْكَاتِب وَالشَّهَادَة عَلَى الشَّاهِد، فَقَالَ الطَّبَرِيّ وَالرَّبِيع : وَاجِب عَلَى الْكَاتِب إِذَا أُمِرَ أَنْ يَكْتُب.
وَقَالَ الْحَسَن : ذَلِكَ وَاجِب عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِع الَّذِي لَا يَقْدِر عَلَى كَاتِب غَيْره، فَيَضُرّ صَاحِب الدَّيْن إِنْ اِمْتَنَعَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فَرِيضَة، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى كَاتِب غَيْره فَهُوَ فِي سَعَة إِذَا قَامَ بِهِ غَيْره.
السُّدِّيّ : وَاجِب عَلَيْهِ فِي حَال فَرَاغه، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ الرَّبِيع وَالضَّحَّاك أَنَّ قَوْله " وَلَا يَأْبَ " مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ " وَلَا يُضَارّ كَاتِب وَلَا شَهِيد ".
قُلْت : هَذَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْل مَنْ رَأَى أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ وَجَبَ فِي الْأَوَّل عَلَى كُلّ مَنْ اِخْتَارَهُ الْمُتَبَايِعَانِ أَنْ يَكْتُب، وَكَانَ لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَمْتَنِع حَتَّى نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى :" وَلَا يُضَارّ كَاتِب وَلَا شَهِيد " وَهَذَا بَعِيد، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُت وُجُوب ذَلِكَ عَلَى كُلّ مَنْ أَرَادَهُ الْمُتَبَايِعَانِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
وَلَوْ كَانَتْ الْكِتَابَة وَاجِبَة مَا صَحَّ الِاسْتِئْجَار بِهَا ; لِأَنَّ الْإِجَارَة عَلَى فِعْل الْفُرُوض بَاطِلَة، وَلَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء فِي جَوَاز أَخْذ الْأُجْرَة عَلَى كَتْب الْوَثِيقَة.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح أَنَّهُ أَمْر إِرْشَاد فَلَا يَكْتُب حَتَّى يَأْخُذهُ حَقّه.
وَأَبَى يَأْبِي شَاذّ، وَلَمْ يَجِئْ إِلَّا قَلَى يَقْلَى وَأَبَى يَأْبَى وَغَسَى يَغْسَى وَجَبَى الْخَرَاج يَجْبَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَوْله تَعَالَى :" كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه فَلْيَكْتُبْ " الْكَاف فِي " كَمَا " مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " أَنْ يَكْتُب " الْمَعْنَى كَتْبًا كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه.
وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون مُتَعَلِّقَة بِمَا فِي قَوْله " وَلَا يَأْبَ " مِنْ الْمَعْنَى، أَيْ كَمَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْكِتَابَة فَلَا يَأْبَ هُوَ وَلْيُفْضِلْ كَمَا أَفْضَلَ اللَّه عَلَيْهِ.
وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْكَلَام عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَامًّا عِنْد قَوْله " أَنْ يَكْتُب " ثُمَّ يَكُون " كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه " اِبْتِدَاء كَلَام، وَتَكُون الْكَاف مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " فَلْيَكْتُبْ ".
اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
" وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " وَهُوَ الْمَدْيُون الْمَطْلُوب يُقِرّ عَلَى نَفْسه بِلِسَانِهِ لِيُعْلِم مَا عَلَيْهِ.
وَالْإِمْلَاء وَالْإِمْلَال لُغَتَانِ، أَمَلّ وَأَمْلَى، فَأَمَلّ لُغَة أَهْل الْحِجَاز وَبَنِي أَسَد، وَتَمِيم تَقُول : أَمْلَيْت.
وَجَاءَ الْقُرْآن بِاللُّغَتَيْنِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ :" فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة وَأَصِيلًا " [ الْفُرْقَان : ٥ ].
وَالْأَصْل أَمْلَلْت، أُبْدِلَ مِنْ اللَّام يَاء لِأَنَّهُ أَخَفّ.
فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ بِالْإِمْلَاءِ ; لِأَنَّ الشَّهَادَة إِنَّمَا تَكُون بِسَبَبِ إِقْرَاره.
وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّقْوَى فِيمَا يُمِلّ، وَنَهَى عَنْ أَنْ يَبْخَس شَيْئًا مِنْ الْحَقّ.
وَالْبَخْس النَّقْص.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى :" وَلَا يَحِلّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّه فِي أَرْحَامهنَّ " [ الْبَقَرَة : ٢٢٨ ].
شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ
قَالَ بَعْض النَّاس : أَيْ صَغِيرًا.
وَهُوَ خَطَأ فَإِنَّ السَّفِيه قَدْ يَكُون كَبِيرًا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
" أَوْ ضَعِيفًا " أَيْ كَبِيرًا لَا عَقْل لَهُ.
" أَوْ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ " جَعَلَ اللَّه الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ أَرْبَعَة أَصْنَاف : مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ يُمِلّ، وَثَلَاثَة أَصْنَاف لَا يُمِلُّونَ وَتَقَع نَوَازِلهمْ فِي كُلّ زَمَن، وَكَوْن الْحَقّ يَتَرَتَّب لَهُمْ فِي جِهَات سِوَى الْمُعَامَلَات كَالْمَوَارِيثِ إِذَا قُسِمَتْ وَغَيْر ذَلِكَ، وَهُمْ السَّفِيه وَالضَّعِيف وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ.
فَالسَّفِيه الْمُهَلْهَل الرَّأْي فِي الْمَال الَّذِي لَا يُحْسِن الْأَخْذ لِنَفْسِهِ وَلَا الْإِعْطَاء، مِنْهَا، مُشَبَّه بِالثَّوْبِ السَّفِيه وَهُوَ الْخَفِيف النَّسْج.
وَالْبَذِيء اللِّسَان يُسَمَّى سَفِيهًا ; لِأَنَّهُ لَا تَكَاد تَتَّفِق الْبَذَاءَة إِلَّا فِي جُهَّال النَّاس وَأَصْحَاب الْعُقُول الْخَفِيفَة.
وَالْعَرَب تُطْلِق السَّفَه عَلَى ضَعْف الْعَقْل تَارَة وَعَلَى ضَعْف الْبَدَن أُخْرَى، قَالَ الشَّاعِر :
نَخَاف أَنْ تَسْفَه أَحْلَامنَا وَيَجْهَل الدَّهْر مَعَ الْحَالِم
وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : مَشَيْنَ كَمَا اِهْتَزَّتْ رِمَاح تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرَّ الرِّيَاح النَّوَاسِم
أَيْ اِسْتَضْعَفَهَا وَاسْتَلَانَهَا فَحَرَّكَهَا.
وَقَدْ قَالُوا : الضُّعْف بِضَمِّ الضَّاد فِي الْبَدَن وَبِفَتْحِهَا فِي الرَّأْي، وَقِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ.
وَالْأَوَّل أَصَحّ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْتَاع وَفِي عَقْله ضَعْف فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه، اُحْجُرْ عَلَى فُلَان فَإِنَّهُ يَبْتَاع وَفِي عَقْله ضَعْف.
فَدَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنْ الْبَيْع، فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، إِنِّي لَا أَصْبِر عَنْ الْبَيْع سَاعَة.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنْ كُنْت غَيْر تَارِك الْبَيْع فَقُلْ هَا وَهَا وَلَا خِلَابَة ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بْن عِيسَى السُّلَمِيّ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس وَقَالَ : هُوَ صَحِيح، وَقَالَ : إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِي عَقْله ضَعْف، وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَقَالَ فِيهِ :( إِذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَة وَأَنْتَ فِي كُلّ سِلْعَة اِبْتَعْتهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاث لَيَالٍ ).
وَهَذَا الرَّجُل هُوَ حِبَّان بْن مُنْقِذ بْن عَمْرو الْأَنْصَارِيّ وَالِد يَحْيَى وَوَاسِع اِبْنَيْ حِبَّان : وَقِيلَ : وَهُوَ مُنْقِذ جَدّ يَحْيَى وَوَاسِع شَيْخَيْ مَالِك وَوَالِده حِبَّان، أَتَى عَلَيْهِ مِائَة وَثَلَاثُونَ سَنَة، وَكَانَ شُجَّ فِي بَعْض مَغَازِيه مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُومَة خُبِلَ مِنْهَا عَقْله وَلِسَانه : وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ : كَانَ حِبَّان بْن مُنْقِذ رَجُلًا ضَعِيفًا ضَرِير الْبَصَر وَكَانَ قَدْ سُفِعَ فِي رَأْسه مَأْمُومَة، فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْخِيَار فِيمَا يَشْتَرِي ثَلَاثَة أَيَّام، وَكَانَ قَدْ ثَقُلَ لِسَانه، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( بِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَة ) فَكُنْت، أَسْمَعهُ يَقُول : لَا خِذَابَة لَا خِذَابَة.
أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث اِبْن عَمْرو.
الْخِلَابَة : الْخَدِيعَة، وَمِنْهُ قَوْلهمْ :[ إِذَا لَمْ تَغْلِب فَاخْلُبْ ].
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ يُخْدَع فِي الْبُيُوع لِقِلَّةِ خِبْرَته وَضَعْف عَقْله فَهَلْ يُحْجَر عَلَيْهِ أَوْ لَا فَقَالَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ أَحْمَد وَإِسْحَاق.
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُحْجَر عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلَانِ فِي الْمَذْهَب، وَالصَّحِيح الْأَوَّل، لِهَذِهِ الْآيَة، وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث :( يَا نَبِيّ اللَّه اُحْجُرْ عَلَى فُلَان ).
وَإِنَّمَا تَرَكَ الْحَجْر عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ :( يَا نَبِيّ اللَّه إِنِّي لَا أَصْبِر عَنْ الْبَيْع ).
فَأَبَاحَ لَهُ الْبَيْع وَجَعَلَهُ خَاصًّا بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ يُخْدَع فِي الْبُيُوع يَنْبَغِي أَنْ يُحْجَر عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِخَبَلِ عَقْله.
وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى الْخُصُوصِيَّة مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن حِبَّان قَالَ : هُوَ جَدِّي مُنْقِذ بْن عَمْرو وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسه فَكَسَرَتْ لِسَانه وَنَازَعَتْهُ عَقْله، وَكَانَ لَا يَدَع التِّجَارَة وَلَا يَزَال يُغْبَن، فَأَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ :( إِذَا بِعْت فَقُلْ لَا خِلَابَة ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلّ سِلْعَة تَبْتَاعهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاث لَيَالٍ فَإِنْ رَضِيت فَأَمْسِكْ وَإِنْ سَخِطْت فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبهَا ).
وَقَدْ كَانَ عَمَّرَ عُمُرًا طَوِيلًا، عَاشَ ثَلَاثِينَ وَمِائَة سَنَة، وَكَانَ فِي زَمَن عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين فَشَا النَّاس وَكَثُرُوا، يَبْتَاع الْبَيْع فِي السُّوق وَيَرْجِع بِهِ إِلَى أَهْله وَقَدْ غُبِنَ غَبْنًا قَبِيحًا، فَيَلُومُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ تَبْتَاع ؟ فَيَقُول : أَنَا بِالْخِيَارِ، إِنْ رَضِيت أَخَذْت وَإِنْ سَخِطْت رَدَدْت، قَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا.
فَيَرُدّ السِّلْعَة عَلَى صَاحِبهَا مِنْ الْغَد وَبَعْد الْغَد، فَيَقُول : وَاَللَّه لَا أَقْبَلهَا، قَدْ أَخَذْت سِلْعَتِي وَأَعْطَيْتنِي دَرَاهِم، قَالَ فَيَقُول : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا.
فَكَانَ يَمُرّ الرَّجُل مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول لِلتَّاجِرِ : وَيْحك ! إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا.
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب وَقَالَ : ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ عَنْ عَيَّاش بْن الْوَلِيد عَنْ عَبْد الْأَعْلَى عَنْ اِبْن إِسْحَاق.
قَوْله تَعَالَى :" أَوْ ضَعِيفًا " الضَّعِيف هُوَ الْمَدْخُول الْعَقْل النَّاقِص الْفِطْرَة الْعَاجِز عَنْ الْإِمْلَاء، إِمَّا لِعَيِّهِ أَوْ لِخَرَسِهِ أَوْ جَهْله بِأَدَاءِ الْكَلَام، وَهَذَا أَيْضًا قَدْ يَكُون وَلِيّه أَبًا أَوْ وَصِيًّا.
وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ هُوَ الصَّغِير، وَوَلِيّه وَصِيّه أَوْ أَبُوهُ وَالْغَائِب عَنْ مَوْضُوع الْإِشْهَاد، إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُذْر.
وَوَلِيّه وَكِيله.
وَأَمَّا الْأَخْرَس فَيَسُوغ أَنْ يَكُون مِنْ الضُّعَفَاء، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيع.
فَهَذِهِ أَصْنَاف تَتَمَيَّز، وَسَيَأْتِي فِي " النِّسَاء " بَيَانهَا وَالْكَلَام عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ
ذَهَبَ الطَّبَرِيّ إِلَى أَنَّ الضَّمِير فِي " وَلِيّه " عَائِد عَلَى " الْحَقّ " وَأُسْنِدَ فِي ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيع، وَعَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَقِيلَ : هُوَ عَائِد عَلَى " الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " وَهُوَ الصَّحِيح.
وَمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس لَا يَصِحّ.
وَكَيْف تَشْهَد الْبَيِّنَة عَلَى شَيْء وَتُدْخِل مَالًا فِي ذِمَّة السَّفِيه بِإِمْلَاءِ الَّذِي لَهُ الدَّيْن ! هَذَا شَيْء لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة.
إِلَّا أَنْ يُرِيد قَائِله : إِنَّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَر سِنّ لِثِقَلِ لِسَانه عَنْ الْإِمْلَاء أَوْ لِخَرَسٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى الْمَرِيض وَمَنْ ثَقُلَ لِسَانه عَنْ الْإِمْلَاء لِخَرَسٍ وَلِيّ عِنْد أَحَد الْعُلَمَاء، مِثْل مَا ثَبَتَ عَلَى الصَّبِيّ وَالسَّفِيه عِنْد مَنْ يُحْجَر عَلَيْهِ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِيُمِلّ صَاحِب الْحَقّ بِالْعَدْلِ وَيُسْمِع الَّذِي عَجَزَ، فَإِذَا كَمُلَ الْإِمْلَاء أَقَرَّ بِهِ.
وَهَذَا مَعْنًى لَمْ تَعْنِ الْآيَة إِلَيْهِ : وَلَا يَصِحّ هَذَا إِلَّا فِيمَنْ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلّ لِمَرَضٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ.
لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُؤْتَمَن فِيمَا يُورِدهُ وَيُصْدِرهُ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ قَبُول قَوْل الرَّاهِن مَعَ يَمِينه إِذَا اِخْتَلَفَ هُوَ وَالْمُرْتَهِن فِي مِقْدَار الدَّيْن وَالرَّهْن قَائِم، فَيَقُول الرَّاهِن رَهَنْت بِخَمْسِينَ وَالْمُرْتَهِن يَدَّعِي مِائَة، فَالْقَوْل قَوْل الرَّاهِن وَالرَّهْن قَائِم، وَهُوَ مَذْهَب أَكْثَر الْفُقَهَاء : سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر قَالَ : لِأَنَّ الْمُرْتَهِن مُدَّعٍ لِلْفَضْلِ، وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ).
وَقَالَ مَالِك : الْقَوْل قَوْل الْمُرْتَهِن فِيمَا بَيْنه وَبَيْن قِيمَة الرَّهْن وَلَا يَصْدُق عَلَى أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ.
فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الرَّهْن وَيَمِينه شَاهِد، لِلْمُرْتَهِنِ، وَقَوْله تَعَالَى :" فَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ " رَدّ عَلَيْهِ.
فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ هُوَ الرَّاهِن.
وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة.
وَإِنْ قَالَ قَائِل : إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الرَّهْن بَدَلًا عَنْ الشَّهَادَة وَالْكِتَاب، وَالشَّهَادَة دَالَّة عَلَى صِدْق الْمَشْهُود لَهُ فِيمَا بَيْنه وَبَيْن قِيمَة الرَّهْن، فَإِذَا بَلَغَ قِيمَته فَلَا وَثِيقَة فِي الزِّيَادَة.
قِيلَ لَهُ : الرَّهْن لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ قِيمَته تَجِب أَنْ تَكُون مِقْدَار الدَّيْن، فَإِنَّهُ رُبَّمَا رَهَنَ الشَّيْء بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِير.
يُصَدَّق الْمُرْتَهِن مَعَ الْيَمِين فِي مِقْدَار الدَّيْن إِلَى أَنْ يُسَاوِيَ قِيمَة الرَّهْن.
وَلَيْسَ الْعُرْف عَلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا نَقَصَ الدَّيْن عَنْ الرَّهْن وَهُوَ الْغَالِب، فَلَا حَاصِل لِقَوْلِهِمْ هَذَا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَاد الْوَلِيّ فَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ إِقْرَاره جَائِز عَلَى يَتِيمه ; لِأَنَّهُ إِذَا أَمْلَاهُ فَقَدْ نَفَذَ قَوْله عَلَيْهِ فِيمَا أَمْلَاهُ.
وَتَصَرُّفُ السَّفِيه الْمَحْجُور عَلَيْهِ دُون إِذْن وَلِيّه فَاسِد إِجْمَاعًا مَفْسُوخ أَبَدًا لَا يُوجِب حُكْمًا وَلَا يُؤَثِّر شَيْئًا.
فَإِنْ تَصَرَّفَ سَفِيه وَلَا حَجْر عَلَيْهِ فَفِيهِ خِلَاف يَأْتِي بَيَانه فِي [ النِّسَاء ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
بِالْعَدْلِ
" وَاسْتَشْهِدُوا " الِاسْتِشْهَاد طَلَب الشَّهَادَة.
وَاخْتَلَفَ النَّاس هَلْ هِيَ فَرْض أَوْ نَدْب، وَالصَّحِيح أَنَّهُ نَدْبٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَاسْتَشْهِدُوا
رَتَّبَ اللَّه سُبْحَانه الشَّهَادَة بِحِكْمَتِهِ فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة وَالْبَدَنِيَّة وَالْحُدُود وَجَعَلَ فِي كُلّ فَنّ شَهِيدَيْنِ إِلَّا فِي الزِّنَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة [ النِّسَاء ].
وَشَهِيد بِنَاء مُبَالَغَة، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَة عَلَى مَنْ قَدْ شَهِدَ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى الْعَدَالَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
شَهِيدَيْنِ مِنْ
نَصّ فِي رَفْض الْكُفَّار وَالصِّبْيَان وَالنِّسَاء، وَأَمَّا الْعَبِيد فَاللَّفْظ يَتَنَاوَلهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِد : الْمُرَاد الْأَحْرَار، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاق وَأَطْنَبَ فِيهِ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي شَهَادَة الْعَبِيد، فَقَالَ شُرَيْح وَعُثْمَان الْبَتِّيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَأَبُو ثَوْر : شَهَادَة الْعَبْد جَائِزَة إِذَا كَانَ عَدْلًا، وَغَلَّبُوا لَفْظ الْآيَة.
وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء : لَا تَجُوز شَهَادَة الْعَبْد، وَغَلَّبُوا نَقْص الرِّقّ، وَأَجَازَهَا الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ فِي الشَّيْء الْيَسِير.
وَالصَّحِيح قَوْل الْجُمْهُور ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ " [ الْبَقَرَة : ٢٨٢ ] وَسَاقَ الْخِطَاب إِلَى قَوْله " مِنْ رِجَالكُمْ " فَظَاهِر الْخِطَاب يَتَنَاوَل الَّذِينَ يَتَدَايَنُونَ، وَالْعَبِيد لَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ دُون إِذْن السَّادَة.
فَإِنْ قَالُوا : إِنَّ خُصُوص أَوَّل الْآيَة لَا يَمْنَع التَّعَلُّق بِعُمُومِ آخِرهَا.
قِيلَ لَهُمْ : هَذَا يَخُصّهُ قَوْله تَعَالَى :" وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
وَقَوْله " مِنْ رِجَالكُمْ " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى مِنْ أَهْل الشَّهَادَة لَكِنْ إِذَا عُلِمَ يَقِينًا، مِثْل مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهَادَة فَقَالَ :( تَرَى هَذِهِ الشَّمْس فَاشْهَدْ عَلَى مِثْلهَا أَوْ دَعْ ).
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى اِشْتِرَاط مُعَايَنَة الشَّاهِد لِمَا يَشْهَد بِهِ، لَا مَنْ يَشْهَد بِالِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يَجُوز أَنْ يُخْطِئ.
نَعَمْ يَجُوز لَهُ وَطْء اِمْرَأَته إِذَا عَرَفَ صَوْتهَا ; لِأَنَّ الْإِقْدَام عَلَى الْوَطْء جَائِز بِغَلَبَةِ الظَّنّ، فَلَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ اِمْرَأَة وَقِيلَ : هَذِهِ اِمْرَأَتك وَهُوَ لَا يَعْرِفهَا جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا، وَيَحِلّ لَهُ قَبُول هَدِيَّة جَاءَتْهُ بِقَوْلِ الرَّسُول.
وَلَوْ أَخْبَرَهُ مُخْبِر عَنْ زَيْد بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيْع أَوْ قَذْف أَوْ غَصْب لَمَا جَازَ لَهُ إِقَامَة الشَّهَادَة عَلَى الْمُخْبَر عَنْهُ، لِأَنَّ سَبِيل الشَّهَادَة الْيَقِين، وَفِي غَيْرهَا يَجُوز اِسْتِعْمَال غَالِب الظَّنّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُف : إِذَا عَلِمَهُ قَبْل الْعَمَى جَازَتْ الشَّهَادَة بَعْد الْعَمَى، وَيَكُون الْعَمَى الْحَائِل بَيْنه وَبَيْن الْمَشْهُود عَلَيْهِ كَالْغَيْبَةِ وَالْمَوْت فِي الْمَشْهُود عَلَيْهِ.
فَهَذَا مَذْهَب هَؤُلَاءِ.
وَاَلَّذِي يَمْنَع أَدَاء الْأَعْمَى فِيمَا تَحَمَّلَ بَصِيرًا لَا وَجْه لَهُ، وَتَصِحّ شَهَادَته بِالنَّسَبِ الَّذِي يَثْبُت بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيض، كَمَا يُخْبِر عَمَّا تَوَاتَرَ حُكْمه مِنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ قَبِلَ شَهَادَة الْأَعْمَى فِيمَا طَرِيقه الصَّوْت، لِأَنَّهُ رَأَى الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ يَتَرَقَّى إِلَى حَدّ الْيَقِين، وَرَأَى أَنَّ اِشْتِبَاه الْأَصْوَات كَاشْتِبَاهِ الصُّوَر وَالْأَلْوَان.
وَهَذَا ضَعِيف يَلْزَم مِنْهُ جَوَاز الِاعْتِمَاد عَلَى الصَّوْت لِلْبَصِيرِ.
قُلْت : مَذْهَب مَالِك فِي شَهَادَة الْأَعْمَى عَلَى الصَّوْت جَائِزَة فِي الطَّلَاق وَغَيْره إِذَا عَرَفَ الصَّوْت.
قَالَ اِبْن قَاسِم : قُلْت لِمَالِك : فَالرَّجُل يَسْمَع جَاره مِنْ وَرَاء الْحَائِط وَلَا يَرَاهُ، ، يَسْمَعهُ يُطَلِّق اِمْرَأَته فَيَشْهَد عَلَيْهِ وَقَدْ عَرَفَ الصَّوْت ؟ قَالَ : قَالَ مَالِك : شَهَادَته جَائِزَة.
وَقَالَ ذَلِكَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَشُرَيْح الْكِنْدِيّ وَالشَّعْبِيّ وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَيَحْيَى بْن سَعِيد وَرَبِيعَة وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَمَالِك وَاللَّيْث.
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
الْمَعْنَى إِنْ لَمْ يَأْتِ الطَّالِب بِرَجُلَيْنِ فَلْيَأْتِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، هَذَا قَوْل الْجُمْهُور.
" فَرَجُل " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، " وَامْرَأَتَانِ " عَطْف عَلَيْهِ وَالْخَبَر مَحْذُوف.
أَيْ فَرَجُل وَامْرَأَتَانِ يَقُومَانِ مَقَامهمَا.
وَيَجُوز النَّصْب فِي غَيْر الْقُرْآن، أَيْ فَاسْتَشْهِدُوا رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ.
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : إِنْ خِنْجَرًا فَخِنْجَرًا.
وَقَالَ قَوْم : بَلْ الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلَانِ، أَيْ لَمْ يُوجَدَا فَلَا يَجُوز اِسْتِشْهَاد الْمَرْأَتَيْنِ إِلَّا مَعَ عُدْم الرِّجَال.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف، فَلَفْظ الْآيَة لَا يُعْطِيه، بَلْ الظَّاهِر مِنْهُ قَوْل الْجُمْهُور، أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَشْهَد رَجُلَيْنِ، أَيْ إِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ صَاحِب الْحَقّ أَوْ قَصَدَهُ لِعُذْرٍ مَا فَلْيَسْتَشْهِدْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ.
فَجَعَلَ تَعَالَى شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُل جَائِزَة مَعَ وُجُود الرَّجُلَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَة، وَلَمْ يَذْكُرهَا فِي غَيْرهَا، فَأُجِيزَتْ فِي الْأَمْوَال خَاصَّة فِي قَوْل الْجُمْهُور، بِشَرْطِ أَنْ يَكُون مَعَهُمَا رَجُل.
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال دُون غَيْرهَا ; لِأَنَّ الْأَمْوَال كَثَّرَ اللَّه أَسْبَاب تَوْثِيقهَا لِكَثْرَةِ جِهَات تَحْصِيلهَا وَعُمُوم الْبَلْوَى بِهَا وَتَكَرُّرهَا، فَجَعَلَ فِيهَا التَّوَثُّق تَارَة بِالْكَتْبَة وَتَارَة بِالْإِشْهَادِ وَتَارَة بِالرَّهْنِ وَتَارَة بِالضَّمَانِ، وَأَدْخَلَ فِي جَمِيع ذَلِكَ شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال.
وَلَا يَتَوَهَّم عَاقِل أَنَّ قَوْله تَعَالَى :" إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ " يَشْتَمِل عَلَى دَيْن الْمَهْر مَعَ الْبُضْع، وَعَلَى الصُّلْح عَلَى دَم الْعَمْد، فَإِنَّ تِلْكَ الشَّهَادَة لَيْسَتْ شَهَادَة عَلَى الدَّيْن، بَلْ هِيَ شَهَادَة عَلَى النِّكَاح.
وَأَجَازَ الْعُلَمَاء شَهَادَتهنَّ مُنْفَرِدَات فِيمَا لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ غَيْرهنَّ لِلضَّرُورَةِ.
وَعَلَى مِثْل ذَلِكَ أُجِيزَتْ شَهَادَة الصِّبْيَان فِي الْجِرَاح فِيمَا بَيْنهمْ لِلضَّرُورَةِ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي شَهَادَة الصِّبْيَان فِي الْجِرَاح،
فَأَجَازَهَا مَالِك مَا لَمْ يَخْتَلِفُوا وَلَمْ يَفْتَرِقُوا.
وَلَا يَجُوز أَقَلّ مِنْ شَهَادَة اِثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى صَغِير لِكَبِيرٍ وَلِكَبِيرٍ عَلَى صَغِير.
وَمِمَّنْ كَانَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الصِّبْيَان فِيمَا بَيْنهمْ مِنْ الْجِرَاح عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر.
وَقَالَ مَالِك : وَهُوَ الْأَمْر عِنْدنَا الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ.
وَلَمْ يُجِزْ الشَّافِعِيّ، وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه شَهَادَتهمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" مِنْ رِجَالكُمْ " وَقَوْله :" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ " وَقَوْله :" ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ " [ الطَّلَاق : ٢ ] وَهَذِهِ الصِّفَات لَيْسَتْ فِي الصَّبِيّ.
لَمَّا جَعَلَ اللَّه سُبْحَانه شَهَادَة اِمْرَأَتَيْنِ بَدَل شَهَادَة رَجُل وَجَبَ أَنْ يَكُون حُكْمهمَا حُكْمه، فَكَمَا لَهُ أَنْ يَحْلِف مَعَ الشَّاهِد عِنْدنَا، وَعِنْد الشَّافِعِيّ كَذَلِكَ، يَجِب أَنْ يَحْلِف مَعَ شَهَادَة اِمْرَأَتَيْنِ بِمُطْلَقِ هَذِهِ الْعِوَضِيَّة.
وَخَالَفَ فِي هَذَا أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه فَلَمْ يَرَوْا الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد وَقَالُوا : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَسَمَ الشَّهَادَة وَعَدَّدَهَا، وَلَمْ يَذْكُر الشَّاهِد وَالْيَمِين، فَلَا يَجُوز الْقَضَاء بِهِ لِأَنَّهُ يَكُون قَسْمًا زَائِدًا عَلَى مَا قَسَمَهُ اللَّه، وَهَذِهِ زِيَادَة عَلَى النَّصّ، وَذَلِكَ نَسْخ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْل الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَالْحَكَم بْن عُتَيْبَة وَطَائِفَة.
قَالَ بَعْضهمْ : الْحُكْم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد مَنْسُوخ بِالْقُرْآنِ.
وَزَعَمَ عَطَاء أَنَّ أَوَّل مَنْ قَضَى بِهِ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان، وَقَالَ : الْحَكَم : الْقَضَاء بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد بِدْعَة، وَأَوَّل مَنْ حَكَمَ بِهِ مُعَاوِيَة.
وَهَذَا كُلّه غَلَط وَظَنّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقّ شَيْئًا، وَلَيْسَ مَنْ نَفَى وَجَهِلَ كَمَنْ أَثْبَتَ وَعَلِمَ وَلَيْسَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى :" وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالكُمْ " الْآيَة، مَا يُرَدّ بِهِ قَضَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد وَلَا أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّل إِلَى الْحُقُوق وَلَا تُسْتَحَقّ إِلَّا بِمَا ذُكِرَ فِيهَا لَا غَيْر، فَإِنَّ ذَلِكَ يَبْطُل بِنُكُولِ الْمَطْلُوب وَيَمِين الطَّالِب، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَقّ بِهِ الْمَال إِجْمَاعًا وَلَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا قَاطِع فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ.
قَالَ مَالِك : فَمِنْ الْحُجَّة عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْل أَنْ يُقَال لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا اِدَّعَى عَلَى رَجُل مَالًا أَلَيْسَ يَحْلِف الْمَطْلُوب مَا ذَلِكَ الْحَقّ عَلَيْهِ ؟ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ الْحَقّ عَنْهُ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِين حَلَفَ صَاحِب الْحَقّ، أَنَّ حَقّه لَحَقّ، وَثَبَتَ حَقّه عَلَى صَاحِبه.
فَهَذَا مِمَّا لَا اِخْتِلَاف فِيهِ عِنْد أَحَد مِنْ النَّاس وَلَا بِبَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَان، فَبِأَيِّ شَيْء أَخَذَ هَذَا وَفِي أَيّ كِتَاب اللَّه وَجَدَهُ ؟ فَمَنْ أَقَرَّ فَلْيُقِرَّ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ثُمَّ الْعَجَب مَعَ شُهْرَة الْأَحَادِيث وَصِحَّتهَا بَدَّعُوا مَنْ عَمِلَ بِهَا حَتَّى نَقَضُوا حُكْمه وَاسْتَقْصَرُوا رَأْيه، مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَأُبَيّ بْن كَعْب وَمُعَاوِيَة وَشُرَيْح وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز - وَكَتَبَ بِهِ إِلَى عُمَّاله -، وَإِيَاس بْن مُعَاوِيَة وَأَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن وَأَبُو الزِّنَاد وَرَبِيعَة، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِك : وَإِنَّهُ لَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى مِنْ عَمَل السُّنَّة، أَتَرَى هَؤُلَاءِ تُنْقَض أَحْكَامهمْ، وَيُحْكَم بِبِدْعَتِهِمْ ! هَذَا إِغْفَال شَدِيد، وَنَظَر غَيْر سَدِيد.
رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
قَالَ عَمْرو بْن دِينَار : فِي الْأَمْوَال خَاصَّة، رَوَاهُ سَيْف بْن سُلَيْمَان عَنْ قَيْس بْن سَعْد بْن دِينَار عَنْ اِبْن عَبَّاس.
قَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا أَصَحّ إِسْنَاد لِهَذَا الْحَدِيث، وَهُوَ حَدِيث لَا مَطْعَن لِأَحَدٍ فِي إِسْنَاده، وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْمَعْرِفَة بِالْحَدِيثِ فِي أَنَّ رِجَاله ثِقَات.
قَالَ يَحْيَى الْقَطَّان : سَيْف بْن سُلَيْمَان ثَبْت، مَا رَأَيْت أَحْفَظَ مِنْهُ.
وَقَالَ النَّسَائِيّ : هَذَا إِسْنَاد جَيِّد، سَيْف ثِقَة، وَقَيْس ثِقَة.
وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِم حَدِيث اِبْن عَبَّاس هَذَا.
قَالَ أَبُو بَكْر الْبَزَّار : سَيْف بْن سُلَيْمَان وَقَيْس بْن سَعْد ثِقَتَانِ، وَمَنْ بَعْدهمَا يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرهمَا لِشُهْرَتِهِمَا فِي الثِّقَة وَالْعَدَالَة.
وَلَمْ يَأْتِ عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ أَنْكَرَ الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد، بَلْ جَاءَ عَنْهُمْ الْقَوْل بِهِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم بِالْمَدِينَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَابْن شِهَاب، فَقَالَ مَعْمَر : سَأَلْت الزُّهْرِيّ عَنْ الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد فَقَالَ : هَذَا شَيْء أَحْدَثَهُ النَّاس، لَا بُدّ مِنْ شَاهِدَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّل مَا وَلِيَ الْقَضَاء حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِين، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأَتْبَاعه وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الْأَثَر، وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوز عِنْدِي خِلَافه، لِتَوَاتُرِ الْآثَار بِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَل أَهْل الْمَدِينَة قَرْنًا بَعْد قَرْن.
وَقَالَ مَالِك : يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد فِي كُلّ الْبُلْدَان، وَلَمْ يَحْتَجّ فِي مُوَطَّئِهِ لِمَسْأَلَةٍ غَيْرهَا.
وَلَمْ يُخْتَلَف عَنْهُ فِي الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد وَلَا عَنْ أَحَد مِنْ أَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ وَمِصْر وَغَيْرهمَا، وَلَا يَعْرِف الْمَالِكِيُّونَ فِي كُلّ بَلَد غَيْر ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبهمْ إِلَّا عِنْدنَا بِالْأَنْدَلُسِ، فَإِنَّ يَحْيَى بْن يَحْيَى زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ اللَّيْث يُفْتِي بِهِ وَلَا يَذْهَب إِلَيْهِ.
وَخَالَفَ يَحْيَى مَالِكًا فِي ذَلِكَ مَعَ مُخَالَفَته السُّنَّة وَالْعَمَل بِدَارِ الْهِجْرَة.
ثُمَّ الْيَمِين مَعَ الشَّاهِد زِيَادَة حُكْم عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا وَعَلَى خَالَتهَا مَعَ قَوْل اللَّه تَعَالَى :" وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٤ ].
وَكَنَهْيِهِ عَنْ، أَكْل لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة، وَكُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع مَعَ قَوْله :" قُلْ لَا أَجِد " [ الْأَنْعَام : ١٤٥ ].
وَكَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالْقُرْآن إِنَّمَا وَرَدَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَسْحهمَا، وَمِثْل هَذَا كَثِير.
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَال : إِنَّ الْقُرْآن نَسَخَ حُكْم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، لَجَازَ أَنْ يُقَال : إِنَّ الْقُرْآن فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَأَحَلَّ اللَّه الْبَيْع وَحَرَّمَ الرِّبَا " [ الْبَقَرَة : ٢٧٥ ] وَفِي قَوْله :" إِلَّا أَنْ تَكُون تِجَارَة عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٩ ] نَاسِخ لِنَهْيِهِ عَنْ الْمُزَابَنَة وَبَيْع الْغَرَر وَبَيْع مَا لَمْ يُخْلَق، إِلَى سَائِر مَا نَهَى عَنْهُ فِي الْبُيُوع، وَهَذَا لَا يَسُوغ لِأَحَدٍ ; لِأَنَّ السُّنَّة مُبَيِّنَة لِلْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْحَدِيث قَضِيَّة فِي عَيْن فَلَا عُمُوم.
قُلْنَا : بَلْ ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ تَقْعِيد هَذِهِ الْقَاعِدَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَوْجَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
وَمِمَّا يَشْهَد لِهَذَا التَّأْوِيل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِين فِي الْحُقُوق، وَمِنْ جِهَة الْقِيَاس وَالنَّظَر أَنَّا وَجَدْنَا الْيَمِين أَقْوَى مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا لَا مَدْخَل لَهُمَا فِي اللِّعَان وَالْيَمِين تَدْخُل فِي اللِّعَان.
وَإِذَا صَحَّتْ السُّنَّة فَالْقَوْل بِهَا يَجِب، وَلَا تَحْتَاج السُّنَّة إِلَى مَا يُتَابِعهَا ; لِأَنَّ مَنْ خَالَفَهَا مَحْجُوج بِهَا.
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
إِذَا تَقَرَّرَ وَثَبَتَ الْحُكْم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْوَهَّاب : ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال وَمَا يَتَعَلَّق بِهَا دُون حُقُوق الْأَبْدَان، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كُلّ قَائِل بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
قَالَ : لِأَنَّ حُقُوق الْأَمْوَال أَخْفَض مِنْ حُقُوق الْأَبْدَان، بِدَلِيلِ قَبُول شَهَادَة النِّسَاء فِيهَا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي جِرَاح الْعَمْد، هَلْ يَجِب الْقَوَد فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَجِب بِهِ التَّخْيِير بَيْن الْقَوَد وَالدِّيَة.
وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِب بِهِ شَيْء ; لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوق الْأَبْدَان.
قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيح.
قَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ : وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال خَاصَّة، وَقَالَهُ عَمْرو بْن دِينَار.
وَقَالَ الْمَازِرِيّ : يُقْبَل فِي الْمَال الْمَحْض مِنْ غَيْر خِلَاف، وَلَا يُقْبَل فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق الْمَحْضَيْنِ مِنْ غَيْر خِلَاف.
وَإِنْ كَانَ مَضْمُون الشَّهَادَة، مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَال، كَالشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاح بَعْد الْمَوْت، حَتَّى لَا يُطْلَب مِنْ ثُبُوتهَا إِلَّا الْمَال إِلَى غَيْر ذَلِكَ، فَفِي قَبُوله اِخْتِلَاف، فَمَنْ رَاعَى الْمَال قَبِلَهُ كَمَا يَقْبَلهُ فِي الْمَال، وَمَنْ رَاعَى الْحَال لَمْ يَقْبَلهُ.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود غَيْر جَائِزَة فِي قَوْل عَامَّة الْفُقَهَاء، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا، وَإِنَّمَا يَشْهَدْنَ فِي الْأَمْوَال.
وَكُلّ مَا لَا يَشْهَدْنَ فِيهِ فَلَا يَشْهَدْنَ عَلَى شَهَادَة غَيْرهنَّ فِيهِ، كَانَ مَعَهُنَّ رَجُل أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَنْقُلْنَ شَهَادَة إِلَّا مَعَ رَجُل نَقَلْنَ عَنْ رَجُل وَامْرَأَة.
وَيُقْضَى بِاثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي كُلّ مَا لَا يَحْضُرهُ غَيْرهنَّ كَالْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَال وَنَحْو ذَلِكَ.
هَذَا كُلّه مَذْهَب مَالِك، وَفِي بَعْضه اِخْتِلَاف.
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى الصِّفَة لِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
قَالَ اِبْن بُكَيْر وَغَيْره : هَذِهِ مُخَاطَبَة لِلْحُكَّامِ.
اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا غَيْر نَبِيل، وَإِنَّمَا الْخِطَاب لِجَمِيعِ النَّاس، لَكِنْ الْمُتَلَبِّس بِهَذِهِ الْقَضِيَّة إِنَّمَا هُمْ الْحُكَّام، وَهَذَا كَثِير فِي كِتَاب اللَّه يَعُمّ الْخِطَاب فِيمَا يَتَلَبَّس بِهِ الْبَعْض.
لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى :" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاء " دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي الشُّهُود مَنْ لَا يُرْضَى، فَيَجِيء مِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّاس لَيْسُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الْعَدَالَة حَتَّى تَثْبُت لَهُمْ، وَذَلِكَ مَعْنًى زَائِد عَلَى الْإِسْلَام، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : كُلّ مُسْلِم ظَاهِر الْإِسْلَام مَعَ السَّلَامَة مِنْ فِسْق ظَاهِر فَهُوَ عَدْل وَإِنْ كَانَ مَجْهُول الْحَال.
وَقَالَ شُرَيْح وَعُثْمَان الْبَتِّيّ وَأَبُو ثَوْر : هُمْ عُدُول الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا.
قُلْت فَعَمَّمُوا الْحُكْم، وَيَلْزَم مِنْهُ قَبُول شَهَادَة الْبَدْوِيّ عَلَى الْقَرَوِيّ إِذَا كَانَ عَدْلًا مَرْضِيًّا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَهُوَ مِنْ رِجَالنَا وَأَهْل دِيننَا.
وَكَوْنه بَدْوِيًّا كَكَوْنِهِ مِنْ بَلَد آخَر وَالْعُمُومَات فِي الْقُرْآن الدَّالَّة عَلَى قَبُول شَهَادَة الْعُدُول تُسَوِّي بَيْن الْبَدْوِيّ وَالْقَرَوِيّ، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاء " وَقَالَ تَعَالَى :" وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ " ف " مِنْكُمْ " خِطَاب لِلْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا يَقْتَضِي قَطْعًا أَنْ يَكُون مَعْنَى الْعَدَالَة زَائِدًا عَلَى الْإِسْلَام ضَرُورَة ; لِأَنَّ الصِّفَة زَائِدَة، عَلَى الْمَوْصُوف، وَكَذَلِكَ " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ " مِثْله، خِلَاف مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة، ثُمَّ لَا يُعْلَم كَوْنه مَرْضِيًّا حَتَّى يُخْتَبَر حَاله، فَيَلْزَمهُ أَلَّا يَكْتَفِيَ بِظَاهِرِ الْإِسْلَام.
وَذَهَبَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَمَالِك فِي رِوَايَة اِبْن وَهْب عَنْهُ إِلَى رَدّ شَهَادَة الْبَدْوِيّ عَلَى الْقَرَوِيّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( لَا تَجُوز شَهَادَة بَدْوِيّ عَلَى صَاحِب قَرْيَة ).
وَالصَّحِيح جَوَاز شَهَادَته إِذَا كَانَ عَدْلًا مَرْضِيًّا، عَلَى مَا يَأْتِي فِي " النِّسَاء " و " بَرَاءَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَلَيْسَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فَرْق بَيْن الْقَرَوِيّ فِي الْحَضَر أَوْ السَّفَر، وَمَتَى كَانَ فِي السَّفَر فَلَا خِلَاف فِي قَبُوله.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْعَدَالَة هِيَ الِاعْتِدَال فِي الْأَحْوَال الدِّينِيَّة، وَذَلِكَ يَتِمّ بِأَنْ يَكُون مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ مُحَافِظًا عَلَى مُرُوءَته وَعَلَى تَرْك الصَّغَائِر، ظَاهِر الْأَمَانَة غَيْر مُغَفَّل.
وَقِيلَ : صَفَاء السَّرِيرَة وَاسْتِقَامَة السِّيرَة فِي ظَنّ الْمُعَدِّل، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
لَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَة وِلَايَة عَظِيمَة وَمَرْتَبَة مُنِيفَة، وَهِيَ قَبُول قَوْل الْغَيْر عَلَى الْغَيْر، شَرَطَ تَعَالَى فِيهَا الرِّضَا وَالْعَدَالَة.
فَمِنْ حُكْم الشَّاهِد.
أَنْ تَكُون لَهُ شَمَائِل يَنْفَرِد بِهَا وَفَضَائِل يَتَحَلَّى بِهَا حَتَّى تَكُون لَهُ مَزِيَّة عَلَى غَيْره، تُوجِب لَهُ تِلْكَ الْمَزِيَّة رُتْبَة الِاخْتِصَاص بِقَبُولِ قَوْله، وَيُحْكَم بِشُغْلِ ذَمّه الْمَطْلُوب بِشَهَادَتِهِ.
وَهَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَات عِنْد عُلَمَائِنَا عَلَى مَا خَفِيَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَام.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا فِي سُورَة " يُوسُف " زِيَادَة بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَفِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى تَفْوِيض الْأَمْر إِلَى اِجْتِهَاد الْحُكَّام، فَرُبَّمَا تَفَرَّسَ فِي الشَّاهِد غَفْلَة أَوْ رِيبَة فَيَرُدّ شَهَادَته لِذَلِكَ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَام فِي الْأَمْوَال دُون الْحُدُود.
وَهَذِهِ مُنَاقَصَة تُسْقِط كَلَامه وَتُفْسِد عَلَيْهِ مَرَامه، لِأَنَّنَا نَقُول : حَقّ مِنْ الْحُقُوق.
فَلَا يُكْتَفَى فِي الشَّهَادَة عَلَيْهِ بِظَاهِرِ الدَّيْن كَالْحُدُودِ، قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَإِذْ قَدْ شَرَطَ اللَّه تَعَالَى الرِّضَا وَالْعَدَالَة فِي الْمُدَايَنَة كَمَا بَيَّنَّا فَاشْتِرَاطهَا فِي النِّكَاح أَوْلَى، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة حَيْثُ قَالَ : إِنَّ النِّكَاح يَنْعَقِد.
بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ.
فَنَفَى، الِاحْتِيَاط الْمَأْمُور بِهِ فِي الْأَمْوَال عَنْ النِّكَاح، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا يَتَعَلَّق بِهِ مِنْ الْحِلّ وَالْحُرْمَة وَالْحَدّ وَالنَّسَب.
قُلْت : قَوْل أَبِي حَنِيفَة فِي هَذَا الْبَاب ضَعِيف جِدًّا، لِشَرْطِ اللَّه تَعَالَى الرِّضَا وَالْعَدَالَة، وَلَيْسَ يُعْلَم كَوْنه مَرْضِيًّا بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا يُعْلَم بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَاله حَسَب مَا تَقَدَّمَ.
وَلَا يُغْتَرّ بِظَاهِرِ قَوْله : أَنَا مُسْلِم.
فَرُبَّمَا اِنْطَوَى عَلَى مَا يُوجِب رَدّ شَهَادَته، مِثْل قَوْله تَعَالَى :" وَمِنْ النَّاس مَنْ يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيُشْهِد اللَّه عَلَى مَا فِي قَلْبه " [ الْبَقَرَة : ٢٠٤ ] إِلَى قَوْله :" وَاَللَّه لَا يُحِبّ الْفَسَاد " [ الْبَقَرَة : ٢٠٥ ] وَقَالَ :" وَإِذَا رَأَيْتهمْ تُعْجِبك أَجْسَامهمْ " [ الْمُنَافِقِينَ : ٤ ] الْآيَة.
الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ
قَالَ أَبُو عُبَيْد : مَعْنَى تَضِلّ تَنْسَى.
وَالضَّلَال عَنْ الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ نِسْيَان جُزْء مِنْهَا وَذِكْر جُزْء، وَيَبْقَى الْمَرْء حَيْرَان بَيْنَ ذَلِكَ ضَالًّا.
وَمَنْ نَسِيَ الشَّهَادَة جُمْلَة فَلَيْسَ يُقَال : ضَلَّ فِيهَا.
وَقَرَأَ حَمْزَة " إِنْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة عَلَى مَعْنَى الْجَزَاء، وَالْفَاء فِي قَوْله :" فَتُذَكِّر " جَوَابه، وَمَوْضِع الشَّرْط وَجَوَابه رَفْعٌ عَلَى الصِّفَة لِلْمَرْأَتَيْنِ وَالرَّجُل، وَارْتَفَعَ " تُذَكِّر " عَلَى الِاسْتِئْنَاف، كَمَا اِرْتَفَعَ قَوْله :" وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِم اللَّه مِنْهُ " [ الْمَائِدَة : ٩٥ ] هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ.
وَمَنْ فَتَحَ " أَنْ " فَهِيَ مَفْعُول لَهُ وَالْعَامِل فِيهَا مَحْذُوف.
وَانْتَصَبَ " فَتُذَكِّر " عَلَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة عَطْفًا عَلَى الْفِعْل الْمَنْصُوب بِأَنْ.
قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز " تَضَلّ " بِفَتْحِ التَّاء وَالضَّاد، وَيَجُوز تِضَلّ بِكَسْرِ التَّاء وَفَتْح الضَّاد.
فَمَنْ قَالَ :" تَضِلّ " جَاءَ بِهِ عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : ضَلَلْت.
وَعَلَى هَذَا تَقُول تِضَلّ فَتَكْسِر التَّاء لِتَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمَاضِيَ فَعَلْت.
وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ وَعِيسَى بْن عُمَر " أَنْ تُضَلّ " بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الضَّاد بِمَعْنَى تُنْسَى، وَهَكَذَا حَكَى عَنْهُمَا أَبُو عَمْرو الدَّانِيّ.
وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ الْجَحْدَرِيّ ضَمّ التَّاء وَكَسْر الضَّاد بِمَعْنَى أَنْ تُضِلّ الشَّهَادَة.
تَقُول : أَضْلَلْت الْفَرَس وَالْبَعِير إِذَا تَلِفَا لَك وَذَهَبَا فَلَمْ تَجِدهُمَا.
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
خَفَّفَ الذَّال وَالْكَاف اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو، وَعَلَيْهِ فَيَكُون الْمَعْنَى أَنْ تَرُدّهَا ذَكَرًا فِي الشَّهَادَة ; لِأَنَّ شَهَادَة الْمَرْأَة نِصْف شَهَادَة، فَإِذَا شَهِدَتَا صَارَ مَجْمُوعهمَا كَشَهَادَةِ ذَكَر، قَالَهُ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة وَأَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء.
وَفِيهِ، بُعْد، إِذْ لَا يَحْصُل فِي مُقَابَلَة الضَّلَال الَّذِي مَعْنَاهُ النِّسْيَان إِلَّا الذِّكْر، وَهُوَ مَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة " فَتُذَكِّر " بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ تُنَبِّههَا إِذَا غَفَلَتْ وَنَسِيَتْ.
قُلْت : وَإِلَيْهَا تَرْجِع قِرَاءَة أَبِي عَمْرو، أَيْ إِنْ تَنْسَ إِحْدَاهُمَا فَتُذْكِرهَا الْأُخْرَى، يُقَال : تَذَكَّرْت الشَّيْء وَأَذْكَرْته وَذَكَّرْته بِمَعْنًى، قَالَهُ فِي الصِّحَاح.
الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
قَالَ الْحَسَن : جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَة أَمْرَيْنِ، وَهُمَا أَلَّا تَأْبَى إِذَا دُعِيت إِلَى تَحْصِيل الشَّهَادَة، وَلَا إِذَا دُعِيت إِلَى أَدَائِهَا، وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَابْن عَبَّاس : أَيْ لِتَحَمُّلِهَا وَإِثْبَاتهَا فِي الْكِتَاب.
وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَى الْآيَة إِذَا دُعِيت إِلَى أَدَاء شَهَادَة وَقَدْ حَصَلَتْ عِنْدك.
وَأُسْنِدَ النِّقَاش إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَة بِهَذَا، قَالَ مُجَاهِد : فَأَمَّا إِذَا دُعِيت لِتَشْهَد أَوَّلًا فَإِنْ شِئْت فَاذْهَبْ وَإِنْ شِئْت فَلَا، وَقَالَهُ أَبُو مِجْلَز وَعَطَاء وَإِبْرَاهِيم وَابْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ.
وَعَلَيْهِ فَلَا يَجِب عَلَى الشُّهُود الْحُضُور عِنْد الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمُتَدَايِنَيْنِ أَنْ يَحْضُرَا عِنْد الشُّهُود، فَإِذَا حَضَرَاهُمْ وَسَأَلَاهُمْ إِثْبَات شَهَادَتهمْ فِي الْكِتَاب فَهَذِهِ الْحَالَة الَّتِي يَجُوز أَنْ تُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَة فَإِذَا ثَبَتَتْ شَهَادَتهمْ ثُمَّ دُعُوا لِإِقَامَتِهَا عِنْد الْحَاكِم فَهَذَا الدُّعَاء هُوَ بِحُضُورِهِمَا عِنْد الْحَاكِم، عَلَى مَا يَأْتِي.
وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْآيَة كَمَا قَالَ الْحَسَن جَمَعَتْ أَمْرَيْنِ عَلَى جِهَة النَّدْب، فَالْمُسْلِمُونَ مَنْدُوبُونَ إِلَى مَعُونَة إِخْوَانهمْ، فَإِذَا كَانَتْ الْفُسْحَة لِكَثْرَةِ الشُّهُود وَالْأَمْن مِنْ تَعْطِيل الْحَقّ فَالْمَدْعُوّ مَنْدُوب، وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّف لِأَدْنَى عُذْر، وَإِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا ثَوَاب لَهُ.
وَإِذَا كَانَتْ الضَّرُورَة وَخِيفَ تَعَطُّل الْحَقّ أَدْنَى خَوْف قَوِيَ النَّدْب وَقَرُبَ مِنْ الْوُجُوب، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقّ يَذْهَب وَيَتْلَف بِتَأَخُّرِ الشَّاهِد عَنْ الشَّهَادَة فَوَاجِب عَلَيْهِ الْقِيَام بِهَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُحَصَّلَة وَكَانَ الدُّعَاء إِلَى أَدَائِهَا، فَإِنَّ هَذَا الظَّرْف آكَد ; لِأَنَّهَا قِلَادَة فِي الْعُنُق وَأَمَانَة تَقْتَضِي الْأَدَاء.
قُلْت : وَقَدْ يُسْتَخْرَج مِنْ هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ جَائِزًا لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيم لِلنَّاسِ شُهُودًا وَيَجْعَل لَهُمْ مِنْ بَيْت الْمَال كِفَايَتهمْ، فَلَا يَكُون لَهُمْ شُغْل إِلَّا تَحَمُّل حُقُوق النَّاس حِفْظًا لَهَا، وَإِنْ لَمْ، يَكُنْ ذَلِكَ ضَاعَتْ الْحُقُوق وَبَطَلَتْ.
فَيَكُون الْمَعْنَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا أَخَذُوا حُقُوقهمْ أَنْ يُجِيبُوا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ شَهَادَة بِالْأُجْرَةِ، قُلْنَا : إِنَّمَا هِيَ شَهَادَة خَالِصَة مِنْ قَوْم اِسْتَوْفَوْا حُقُوقهمْ مِنْ بَيْت الْمَال، وَذَلِكَ كَأَرْزَاقِ الْقُضَاة وَالْوُلَاة وَجَمِيع الْمَصَالِح الَّتِي تَعِنّ لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتهَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :" وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا " [ التَّوْبَة : ٦٠ ] فَفَرَضَ لَهُمْ.
لَمَّا قَالَ تَعَالَى :" وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّاهِد هُوَ الَّذِي يَمْشِي إِلَى الْحَاكِم، وَهَذَا أَمْر بُنِيَ عَلَيْهِ الشَّرْع وَعُمِلَ بِهِ فِي كُلّ زَمَان وَفَهِمَتْهُ كُلّ أُمَّة، وَمِنْ أَمْثَالهمْ :" فِي بَيْته يُؤْتَى الْحَكَم ".
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْعَبْد خَارِج عَنْ جُمْلَة الشُّهَدَاء، وَهُوَ يَخُصّ عُمُوم قَوْله :" مِنْ رِجَالكُمْ " لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُ أَنْ يُجِيب، وَلَا يَصِحّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ ; لِأَنَّهُ لَا اِسْتِقْلَال لَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّف بِإِذْنِ غَيْره، فَانْحَطَّ عَنْ مَنْصِب الشَّهَادَة كَمَا اِنْحَطَّ عَنْ مَنْزِل الْوِلَايَة.
نَعَمْ ! وَكَمَا اِنْحَطَّ عَنْ فَرْض الْجُمُعَة وَالْجِهَاد وَالْحَجّ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا فِي حَال الدُّعَاء إِلَى الشَّهَادَة.
فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْده شَهَادَة لِرَجُلٍ لَمْ يَعْلَمهَا مُسْتَحِقّهَا الَّذِي يَنْتَفِع بِهَا، فَقَالَ قَوْم : أَدَاؤُهَا نُدِبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا " فَفَرَضَ اللَّه الْأَدَاء عِنْد الدُّعَاء، فَإِذَا لَمْ يُدْعَ كَانَ نَدْبًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( خَيْر الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة.
وَالصَّحِيح أَنَّ أَدَاءَهَا فَرْض وَإِنْ لَمْ يُسْأَلهَا إِذَا خَافَ عَلَى الْحَقّ ضَيَاعه أَوْ فَوْته، أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْق عَلَى مَنْ أَقَامَ عَلَى تَصَرُّفه عَلَى الِاسْتِمْتَاع بِالزَّوْجَةِ وَاسْتِخْدَام الْعَبْد إِلَى غَيْر ذَلِكَ، فَيَجِب عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَدَاء تِلْكَ الشَّهَادَة، وَلَا يَقِف أَدَاؤُهَا عَلَى أَنْ تُسْأَل مِنْهُ فَيُضَيِّع الْحَقّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :" وَأَقِيمُوا الشَّهَادَة لِلَّهِ " [ الطَّلَاق : ٢ ] وَقَالَ :" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " [ الزُّخْرُف : ٨٦ ].
وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ).
فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ نَصْره بِأَدَاءِ الشَّهَادَة الَّتِي لَهُ عِنْده إِحْيَاء لِحَقِّهِ الَّذِي أَمَاتَهُ الْإِنْكَار.
لَا إِشْكَال فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَة عَلَى أَحَد الْأَوْجُه الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَلَمْ يُؤَدِّهَا أَنَّهَا جُرْحَة فِي الشَّاهِد وَالشَّهَادَة، وَلَا فَرْق فِي هَذَا بَيْن حُقُوق اللَّه تَعَالَى وَحُقُوق الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا قَوْل اِبْن الْقَاسِم وَغَيْره.
وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَة إِنْ كَانَتْ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ كَانَ ذَلِكَ جُرْحَة فِي تِلْكَ الشَّهَادَة نَفْسهَا خَاصَّة، فَلَا يَصْلُح لَهُ أَدَاؤُهَا بَعْد ذَلِكَ.
وَالصَّحِيح الْأَوَّل، لِأَنَّ الَّذِي يُوجِب جُرْحَته إِنَّمَا هُوَ فِسْقه بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْقِيَام بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْر عُذْر، وَالْفِسْق يَسْلُب أَهْلِيَّة الشَّهَادَة مُطْلَقًا، وَهَذَا وَاضِح.
لَا تَعَارُض بَيْن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( خَيْر الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا ) وَبَيْن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْن :( إِنَّ خَيْركُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - ثُمَّ قَالَ عِمْرَان : فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد قَرْنه مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ يَكُون بَعْدهمْ قَوْم يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَر فِيهِمْ السِّمَن ) أَخْرَجَهُمَا الصَّحِيحَانِ.
وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا : أَنْ يُرَاد بِهِ شَاهِد الزُّور، فَإِنَّهُ يَشْهَد بِمَا لَمْ يُسْتَشْهَد، أَيْ بِمَا لَمْ يَتَحَمَّلهُ وَلَا حَمَلَهُ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَطَبَ بِبَابِ الْجَابِيَة فَقَالَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا كَمَقَامِي فِيكُمْ.
ثُمَّ قَالَ :( يَا أَيُّهَا النَّاس اِتَّقُوا اللَّه فِي أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِب وَشَهَادَة الزُّور ).
الْوَجْه الثَّانِي : أَنْ يُرَاد بِهِ الَّذِي يَحْمِلهُ الشَّرَه عَلَى تَنْفِيذ مَا يَشْهَد بِهِ، فَيُبَادِر بِالشَّهَادَةِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا، فَهَذِهِ شَهَادَة مَرْدُودَة، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى هَوًى غَالِب عَلَى الشَّاهِد.
الثَّالِث مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ رَاوِي طُرُق بَعْض هَذَا الْحَدِيث : كَانُوا يَنْهَوْنَنَا وَنَحْنُ غِلْمَان عَنْ الْعَهْد وَالشَّهَادَات.
دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى
" تَسْأَمُوا " مَعْنَاهُ تَمَلُّوا.
قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال سَئِمْت أَسْأَم سَأَمًا وَسَآمَة وَسَآمًا وَسَأْمَة وَسَأَمًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
سَئِمْت تَكَالِيف الْحَيَاة وَمَنْ يَعِشْ ثَمَانِينَ حَوْلًا - لَا أَبَالك - يَسْأَم
" أَنْ تَكْتُبُوهُ " فِي مَوْضِع نَصْب بِالْفِعْلِ.
" صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا " حَالَانِ مِنْ الضَّمِير فِي " تَكْتُبُوهُ " وَقَدَّمَ الصَّغِير اِهْتِمَامًا بِهِ.
وَهَذَا النَّهْي عَنْ السَّآمَة إِنَّمَا جَاءَ لِتَرَدُّدِ الْمُدَايَنَة عِنْدهمْ فَخِيفَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمَلُّوا الْكَتْب، وَيَقُول أَحَدهمْ : هَذَا قَلِيل لَا أَحْتَاج إِلَى كَتْبه، فَأَكَّدَ تَعَالَى التَّحْضِيض فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قِيرَاط وَنَحْوه لِنَزَارَتِهِ وَعَدَم تَشَوُّف النَّفْس إِلَيْهِ إِقْرَارًا وَإِنْكَارًا.
أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ
مَعْنَاهُ أَعْدَل، يَعْنِي أَنْ يُكْتَب الْقَلِيل وَالْكَثِير وَيُشْهَد عَلَيْهِ.
اللَّهِ وَأَقْوَمُ
أَيْ أَصَحّ وَأَحْفَظ.
و " وَأَقْوَم لِلشَّهَادَةِ " دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّاهِد إِذَا رَأَى الْكِتَاب وَلَمْ يَذْكُر الشَّهَادَة لَا يُؤَدِّيهَا لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّيبَة فِيهَا، وَلَا يُؤَدِّي إِلَّا مَا يَعْلَم لَكِنَّهُ يَقُول : هَذَا خَطِّي وَلَا أَذْكُر الْآن مَا كَتَبْت فِيهِ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَكْثَر مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم يَمْنَع أَنْ يَشْهَد الشَّاهِد عَلَى خَطّه إِذَا لَمْ يَذْكُر الشَّهَادَة.
وَاحْتَجَّ مَالِك عَلَى جَوَاز ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا " [ يُوسُف : ٨١ ].
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَمَّا نَسَبَ اللَّه تَعَالَى الْكِتَابَة إِلَى الْعَدَالَة وَسِعَهُ أَنْ يُشْهِد عَلَى خَطّه وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّر.
ذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ مَعْمَر عَنْ اِبْن طَاوُس عَنْ أَبِيهِ فِي الرَّجُل يَشْهَد عَلَى شَهَادَة فَيَنْسَاهَا قَالَ : لَا بَأْس أَنْ يَشْهَد إِنْ وَجَدَ عَلَامَته فِي الصَّكّ أَوْ خَطّ يَده.
قَالَ اِبْن الْمُبَارَك : اِسْتَحْسَنْت هَذَا جِدًّا.
وَفِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَار عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي أَشْيَاء غَيْر وَاحِدَة بِالدَّلَائِلِ وَالشَّوَاهِد، وَعَنْ الرُّسُل مِنْ قَبْله مَا يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا الْمَذْهَب.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي [ الْأَحْقَاف ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
لِلشَّهَادَةِ
مَعْنَاهُ أَقْرَب.
وَأَدْنَى أَلَّا
تَشُكُّوا.
تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
" أَنَّ " فِي مَوْضِع نَصْب اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل.
قَالَ الْأَخْفَش أَبُو سَعِيد : أَيْ إِلَّا أَنْ تَقَع تِجَارَة، فَكَانَ بِمَعْنَى وَقَعَ وَحَدَثَ.
وَقَالَ غَيْره :" تُدِيرُونَهَا " الْخَبَر.
وَقَرَأَ عَاصِم وَحْده " تِجَارَة "، عَلَى خَبَر كَانَ وَاسْمهَا مُضْمَر فِيهَا.
" حَاضِرَة " نَعْت لِتِجَارَةٍ، وَالتَّقْدِير إِلَّا أَنْ تَكُون التِّجَارَة تِجَارَة، أَوْ إِلَّا أَنْ تَكُون الْمُبَايَعَة تِجَارَة، هَكَذَا قَدَّرَهُ مَكِّيّ وَأَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِره وَالِاسْتِشْهَاد عَلَيْهِ.
وَلَمَّا عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مَشَقَّة الْكِتَاب عَلَيْهِمْ نَصَّ عَلَى تَرْك ذَلِكَ وَرَفَعَ الْجُنَاح فِيهِ فِي كُلّ مُبَايَعَة بِنَقْدٍ، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَب إِنَّمَا هُوَ فِي قَلِيل كَالْمَطْعُومِ وَنَحْوه لَا فِي كَثِير كَالْأَمْلَاكِ وَنَحْوهَا.
وَقَالَ السُّدِّيّ وَالضَّحَّاك : هَذَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.
قَوْله تَعَالَى :" تُدِيرُونَهَا بَيْنكُمْ " يَقْتَضِي التَّقَابُض وَالْبَيْنُونَة بِالْمَقْبُوضِ.
وَلَمَّا كَانَتْ الرُّبَاع وَالْأَرْض وَكَثِير مِنْ الْحَيَوَان لَا يَقْبَل الْبَيْنُونَة وَلَا يُغَاب عَلَيْهِ، حَسُنَ الْكَتْب فِيهَا وَلَحِقَتْ فِي ذَلِكَ مُبَايَعَة الدَّيْن، فَكَانَ الْكِتَاب تَوَثُّقًا لِمَا عَسَى أَنْ يَطْرَأ مِنْ اِخْتِلَاف الْأَحْوَال وَتَغَيُّر الْقُلُوب.
فَأَمَّا إِذَا تَفَاصَلَا فِي الْمُعَامَلَة وَتَقَابَضَا وَبَانَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا اِبْتَاعَهُ مِنْ صَاحِبه، فَيَقِلّ فِي الْعَادَة خَوْف التَّنَازُع إِلَّا بِأَسْبَابٍ غَامِضَة.
وَنَبَّهَ الشَّرْع عَلَى هَذِهِ الْمَصَالِح فِي حَالَتَيْ النَّسِيئَة وَالنَّقْد وَمَا يُغَاب عَلَيْهِ وَمَا لَا يُغَاب، بِالْكِتَابِ وَالشَّهَادَة وَالرَّهْن.
قَالَ الشَّافِعِيّ : الْبُيُوع ثَلَاثَة : بَيْع بِكِتَابٍ وَشُهُود، وَبَيْع بُرْهَان، وَبَيْع بِأَمَانَةٍ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة.
وَكَانَ اِبْن عُمَر إِذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ.
تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا
قَالَ الطَّبَرِيّ : مَعْنَاهُ وَأَشْهِدُوا عَلَى صَغِير ذَلِكَ وَكَبِيره.
وَاخْتَلَفَ النَّاس هَلْ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب أَوْ النَّدْب، فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَابْن عُمَر وَالضَّحَّاك وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَجَابِر بْن زَيْد وَمُجَاهِد وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَابْنه أَبُو بَكْر.
هُوَ عَلَى الْوُجُوب، وَمِنْ أَشَدّهمْ فِي ذَلِكَ عَطَاء قَالَ : أَشْهِدْ إِذَا بِعْت وَإِذَا اِشْتَرَيْت بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْف دِرْهَم أَوْ ثُلُث أَوْ أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :" وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ".
وَعَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ : أَشْهِدْ إِذَا بِعْت وَإِذَا اِشْتَرَيْت وَلَوْ دَسْتَجَة بَقل.
وَمِمَّنْ كَانَ يَذْهَب إِلَى هَذَا وَيُرَجِّحهُ الطَّبَرِيّ، وَقَالَ : لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ إِذَا بَاعَ وَإِذَا اِشْتَرَى إِلَّا أَنْ يُشْهِد، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا إِنْ كَانَ إِلَى أَجَل فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتُب وَيُشْهِد إِنْ وَجَدَ كَاتِبًا.
وَذَهَبَ الشَّعْبِيّ وَالْحَسَن إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّدْب وَالْإِرْشَاد لَا عَلَى الْحَتْم.
وَيُحْكَى أَنَّ هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي.
وَزَعَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ هَذَا قَوْل الْكَافَّة، قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيح.
وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَد مِمَّنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ إِلَّا الضَّحَّاك.
قَالَ وَقَدْ بَاعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ.
قَالَ : وَنُسْخَة كِتَابه :( بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم.
هَذَا مَا اِشْتَرَى الْعَدَّاء بْن خَالِد بْن هَوْذَة مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اِشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا - أَوْ أَمَة - لَا دَاء وَلَا غَائِلَة وَلَا خَبَثَة بَيْع الْمُسْلِم الْمُسْلِم ).
وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِد، وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعه عِنْد يَهُودِيّ وَلَمْ يُشْهِد.
وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَاد أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْن لِخَوْفِ الْمُنَازَعَة.
قُلْت : قَدْ ذَكَرْنَا الْوُجُوب عَنْ غَيْر الضَّحَّاك.
وَحَدِيث الْعَدَّاء هَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو دَاوُد.
وَكَانَ إِسْلَامه بَعْد الْفَتْح وَحُنَيْن، وَهُوَ الْقَائِل : قَاتَلْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حُنَيْن فَلَمْ يُظْهِرنَا اللَّه وَلَمْ يَنْصُرنَا، ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامه.
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر، وَذَكَرَ حَدِيثه هَذَا، وَقَالَ فِي آخِره : قَالَ الْأَصْمَعِيّ : سَأَلْت سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ الْغَائِلَة فَقَالَ : الْإِبَاق وَالسَّرِقَة وَالزِّنَا، وَسَأَلْته عَنْ الْخَبَثَة فَقَالَ : بَيْع أَهْل عَهْد الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : وَالْوُجُوب فِي ذَلِكَ قَلِق، أَمَّا فِي الدَّقَائِق فَصَعْب شَاقّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِد التَّاجِر الِاسْتِئْلَاف بِتَرْكِ الْإِشْهَاد، وَقَدْ يَكُون عَادَة فِي بَعْض الْبِلَاد، وَقَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ الْعَالِم وَالرَّجُل الْكَبِير الْمُوَقَّر فَلَا يُشْهِد عَلَيْهِ، فَيَدْخُل ذَلِكَ كُلّه فِي الِائْتِمَان وَيَبْقَى الْأَمْر بِالْإِشْهَادِ نَدْبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَة فِي الْأَغْلَب مَا لَمْ يَقَع عُذْر يَمْنَع مِنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ وَالنَّحَّاس وَمَكِّيّ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا :" وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ " مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ :" فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا " [ الْبَقَرَة : ٢٨٣ ] وَأَسْنَدَهُ النَّحَّاس عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ، وَأَنَّهُ تَلَا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَل مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ " إِلَى قَوْله :" فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَته " [ الْبَقَرَة : ٢٨٣ ]، قَالَ : نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة مَا قَبْلهَا.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل الْحَسَن وَالْحَكَم وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد.
قَالَ الطَّبَرِيّ : وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّ هَذَا حُكْم غَيْر، الْأَوَّل، وَإِنَّمَا هَذَا حُكْم مَنْ لَمْ يَجِد كَاتِبًا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَان مَقْبُوضَة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا - أَيْ فَلَمْ يُطَالِبهُ بِرَهْنٍ - فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَته " [ الْبَقَرَة : ٢٨٣ ].
قَالَ : وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُون هَذَا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لَجَازَ أَنْ يَكُون قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " [ النِّسَاء : ٤٣ ] الْآيَة نَاسِخًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة " [ الْمَائِدَة : ٥ ] الْآيَة وَلَجَازَ أَنْ يَكُون قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " [ النِّسَاء : ٩٢ ] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :" فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤْمِنَة " [ النِّسَاء : ٩٢ ] وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ قَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُمْ بَعْضًا " لَمْ يَتَبَيَّن تَأَخُّر نُزُوله عَنْ صَدْر الْآيَة الْمُشْتَمِلَة عَلَى الْأَمْر بِالْإِشْهَادِ، بَلْ وَرَدَا مَعًا.
وَلَا يَجُوز أَنْ يَرِد النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ مَعًا جَمِيعًا فِي حَالَة وَاحِدَة.
قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : إِنَّ آيَة الدَّيْن مَنْسُوخَة قَالَ : لَا وَاَللَّه إِنَّ آيَة الدَّيْن مُحْكَمَة لَيْسَ فِيهَا نَسْخ قَالَ : وَالْإِشْهَاد إِنَّمَا جُعِلَ لِلطُّمَأْنِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ لِتَوْثِيقِ الدَّيْن طُرُقًا، مِنْهَا الْكِتَاب، وَمِنْهَا الرَّهْن، وَمِنْهَا الْإِشْهَاد.
وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْأَمْصَار أَنَّ الرَّهْن مَشْرُوع بِطَرِيقِ النَّدْب لَا بِطَرِيقِ الْوُجُوب.
فَيُعْلَم مِنْ ذَلِكَ مِثْله فِي الْإِشْهَاد.
وَمَا زَالَ النَّاس يَتَبَايَعُونَ حَضَرًا وَسَفَرًا وَبَرًّا وَبَحْرًا وَسَهْلًا وَجَبَلًا مِنْ غَيْر إِشْهَاد مَعَ عِلْم النَّاس بِذَلِكَ مِنْ غَيْر نَكِير، وَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَاد مَا تَرَكُوا النَّكِير عَلَى تَارِكه.
قُلْت : هَذَا كُلّه اِسْتِدْلَال حَسَن، وَأَحْسَن مِنْهُ مَا جَاءَ مِنْ صَرِيح السُّنَّة فِي تَرْك الْإِشْهَاد، وَهُوَ مَا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ طَارِق بْن عَبْد اللَّه الْمُحَارِبِيّ قَالَ :( أَقْبَلْنَا فِي رَكْب مِنْ الرَّبْذَة وَجَنُوب الرَّبْذَة : حَتَّى نَزَلْنَا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَة وَمَعَنَا ظَعِينَة لَنَا.
فَبَيْنَا نَحْنُ قُعُود إِذْ أَتَانَا رَجُل عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْم ؟ فَقُلْنَا : مِنْ الرَّبْذَة وَجَنُوب الرَّبْذَة.
قَالَ : وَمَعَنَا جَمَل أَحْمَر، فَقَالَ : تَبِيعُونِي جَمَلكُمْ هَذَا ؟ فَقُلْنَا نَعَمْ.
قَالَ بِكَمْ ؟ قُلْنَا : بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْر.
قَالَ : فَمَا اِسْتَوْضَعَنَا شَيْئًا وَقَالَ : قَدْ أَخَذْته، ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْسِ الْجَمَل حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَة فَتَوَارَى عَنَّا، فَتَلَاوَمْنَا بَيْننَا وَقُلْنَا : أَعْطَيْتُمْ جَمَلكُمْ مَنْ لَا تَعْرِفُونَهُ ! فَقَالَتْ الظَّعِينَة : لَا تَلَاوَمُوا فَقَدْ رَأَيْت وَجْه رَجُل مَا كَانَ لِيَخْفِركُمْ.
مَا رَأَيْت وَجْه رَجُل أَشْبَه بِالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر مِنْ وَجْهه.
فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاء أَتَانَا رَجُل فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ، أَنَا رَسُول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا حَتَّى تَشْبَعُوا، وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا.
قَالَ : فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا، وَاكْتَلْنَا حَتَّى اِسْتَوْفَيْنَا ).
وَذَكَرَ الْحَدِيث الزُّهْرِيّ عَنْ عُمَارَة بْن خُزَيْمَة أَنَّ عَمّه حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيّ، الْحَدِيث.
وَفِيهِ : فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيّ يَقُول : هَلُمَّ شَاهِدًا يَشْهَد أَنِّي بِعْتُك - قَالَ خُزَيْمَة بْن ثَابِت : أَنَا أَشْهَد أَنَّك قَدْ بِعْته.
فَأَقْبَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَة فَقَالَ :( بِمَ تَشْهَد ) ؟ فَقَالَ : بِتَصْدِيقِك يَا رَسُول اللَّه.
قَالَ : فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَة خُزَيْمَة بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ.
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَغَيْره.
تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا
لَا يَكْتُب الْكَاتِب مَا لَمْ يُمَلّ عَلَيْهِ، وَلَا يَزِيد الشَّاهِد فِي شَهَادَته وَلَا يُنْقِص مِنْهَا.
قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة وَطَاوُس وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعَطَاء أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِع الْكَاتِب أَنْ يَكْتُب وَلَا الشَّاهِد أَنْ يَشْهَد.
" وَلَا يُضَارّ " عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَصْله يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاء، ثُمَّ وَقَعَ الْإِدْغَام، وَفُتِحَتْ الرَّاء فِي الْجَزْم لِخِفَّةِ الْفَتْحَة.
قَالَ النَّحَّاس : وَرَأَيْت أَبَا إِسْحَاق يَمِيل إِلَى هَذَا الْقَوْل، قَالَ : لِأَنَّ بَعْده.
" وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوق بِكُمْ " [ الْبَقَرَة : ٢٨٢ ] فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُون، مَنْ شَهِدَ بِغَيْرِ الْحَقّ أَوْ حَرَّفَ فِي الْكِتَابَة أَنْ يُقَال لَهُ : فَاسِق، فَهُوَ أَوْلَى بِهَذَا مِمَّنْ سَأَلَ شَاهِدًا أَنْ يَشْهَد وَهُوَ مَشْغُول.
وَقَرَأَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عَبَّاس وَابْن أَبِي إِسْحَاق يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاء الْأُولَى.
وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَطَاوُس وَالسُّدِّيّ وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس : مَعْنَى الْآيَة ( وَلَا يُضَارّ كَاتِب وَلَا شَهِيد ) بِأَنْ يُدْعَى الشَّاهِد إِلَى الشَّهَادَة وَالْكَاتِب إِلَى الْكَتْب وَهُمَا مَشْغُولَانِ، فَإِذَا اِعْتَذَرَا بِعُذْرِهِمَا أَخْرَجَهُمَا وَآذَاهُمَا، وَقَالَ : خَالَفْتُمَا أَمْر اللَّه، وَنَحْو هَذَا مِنْ الْقَوْل، فَيُضِرّ بِهِمَا.
وَأَصْل " يُضَارّ " عَلَى هَذَا يُضَارَرْ بِفَتْحِ الرَّاء، وَكَذَا قَرَأَ اِبْن مَسْعُود " يُضَارَرْ " بِفَتْحِ الرَّاء الْأُولَى، فَنَهَى اللَّه سُبْحَانه عَنْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ لَكَانَ فِيهِ شَغْل لَهُمَا عَنْ أَمْر دِينهمَا وَمَعَاشهمَا.
وَلَفْظ الْمُضَارَّة، إِذْ هُوَ مِنْ اِثْنَيْنِ، يَقْتَضِي هَذِهِ الْمَعَانِي.
وَالْكَاتِب وَالشَّهِيد عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ رُفِعَ بِفِعْلِهِمَا، وَعَلَى الْقَوْل الثَّالِث رُفِعَ عَلَى الْمَفْعُول الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِله.
شَهِيدٌ وَإِنْ
يَعْنِي الْمُضَارَّة.
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
أَيْ مَعْصِيَة، عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ.
فَالْكَاتِب وَالشَّاهِد يَعْصِيَانِ بِالزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَان، وَذَلِكَ مِنْ الْكَذِب الْمُؤْذِي فِي الْأَمْوَال وَالْأَبْدَان، وَفِيهِ إِبْطَال الْحَقّ.
وَكَذَلِكَ إِذَايَتهُمَا إِذَا كَانَا مَشْغُولَيْنِ مَعْصِيَة وَخُرُوج عَنْ الصَّوَاب مِنْ حَيْثُ الْمُخَالَفَة لِأَمْرِ اللَّه.
وَقَوْله " بِكُمْ " تَقْدِيره فُسُوق حَالّ بِكُمْ.
بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
وَعْد مِنْ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ اِتَّقَاهُ عَلَّمَهُ، أَيْ يَجْعَل فِي قَلْبه نُورًا يَفْهَم بِهِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ، وَقَدْ يَجْعَل اللَّه فِي قَلْبه اِبْتِدَاء فُرْقَانًا، أَيْ فَيْصَلًا يَفْصِل بِهِ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّه يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَانًا " [ الْأَنْفَال : ٢٩ ].
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ
لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى النَّدْب إِلَى الْإِشْهَاد وَالْكَتْب لِمَصْلَحَةِ حِفْظ الْأَمْوَال وَالْأَدْيَان، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَال الْأَعْذَار الْمَانِعَة مِنْ الْكَتْب، وَجَعَلَ لَهَا الرَّهْن، وَنَصَّ مِنْ أَحْوَال الْعُذْر عَلَى السَّفَر الَّذِي هُوَ غَالِب الْأَعْذَار، لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِكَثْرَةِ الْغَزْو، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى كُلّ عُذْر.
فَرُبَّ وَقْت يَتَعَذَّر فِيهِ الْكَاتِب فِي الْحَضَر كَأَوْقَاتِ أَشْغَال النَّاس وَبِاللَّيْلِ، وَأَيْضًا فَالْخَوْف عَلَى خَرَاب ذِمَّة الْغَرِيم عُذْر يُوجِب طَلَب الرَّهْن.
وَقَدْ رَهَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعه عِنْد يَهُودِيّ طَلَب مِنْهُ سَلَف الشَّعِير فَقَالَ : إِنَّمَا يُرِيد مُحَمَّد أَنْ يَذْهَب بِمَالِي.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كَذَبَ إِنِّي لَأَمِين فِي الْأَرْض أَمِين فِي السَّمَاء وَلَوْ اِئْتَمَنَنِي لَأَدَّيْت اِذْهَبُوا إِلَيْهِ بِدِرْعِي ) فَمَاتَ وَدِرْعه مَرْهُونَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه آنِفًا.
قَالَ جُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء : الرَّهْن فِي السَّفَر بِنَصِّ التَّنْزِيل، وَفِي الْحَضَر ثَابِت بِسُنَّةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا صَحِيح.
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازه فِي الْحَضَر مِنْ الْآيَة بِالْمَعْنَى، إِذْ قَدْ تَتَرَتَّب الْأَعْذَار فِي الْحَضَر، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَد مَنْعه فِي الْحَضَر سِوَى مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَدَاوُد، مُتَمَسِّكِينَ بِالْآيَةِ.
وَلَا حُجَّة فِيهَا ; لِأَنَّ هَذَا الْكَلَام وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَج الشَّرْط فَالْمُرَاد بِهِ غَالِب الْأَحْوَال.
وَلَيْسَ كَوْن الرَّهْن فِي الْآيَة فِي السَّفَر مِمَّا يُحْظَر فِي غَيْره.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَرَى مِنْ يَهُودِيّ طَعَامًا إِلَى أَجَل وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيد.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ : تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعه مَرْهُونَة عِنْد يَهُودِيّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِير لِأَهْلِهِ.
وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا
قَرَأَ الْجُمْهُور " كَاتِبًا " بِمَعْنَى رَجُل يَكْتُب.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَعِكْرِمَة وَأَبُو الْعَالِيَة " وَلَمْ تَجِدُوا كِتَابًا ".
قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : فَسَّرَهُ مُجَاهِد فَقَالَ : مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مِدَادًا يَعْنِي فِي الْأَسْفَار.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " كُتَّابًا ".
قَالَ النَّحَّاس : هَذِهِ الْقِرَاءَة شَاذَّة وَالْعَامَّة عَلَى خِلَافهَا.
وَقَلَّمَا يَخْرُج شَيْء عَنْ قِرَاءَة الْعَامَّة إِلَّا وَفِيهِ مَطْعَن، وَنَسَق الْكَلَام عَلَى كَاتِب، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَبْل هَذَا :" وَلْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كَاتِب بِالْعَدْلِ " وَكُتَّاب يَقْتَضِي جَمَاعَة.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : كُتَّابًا يَحْسُن مِنْ حَيْثُ لِكُلِّ نَازِلَة كَاتِب، فَقِيلَ لِلْجَمَاعَةِ : وَلَمْ تَجِدُوا كُتَّابًا.
وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَة أَنَّهُ قَرَأَ " كُتُبًا " وَهَذَا جَمْع كِتَاب مِنْ حَيْثُ النَّوَازِل مُخْتَلِفَة.
وَأَمَّا قِرَاءَة أُبَيّ وَابْن عَبَّاس " كِتَابًا " فَقَالَ النَّحَّاس وَمَكِّيّ : هُوَ جَمْع كَاتِب كَقَائِمٍ وَقِيَام.
مَكِّيّ : الْمَعْنَى وَإِنْ عُدِمَتْ الدَّوَاة وَالْقَلَم وَالصَّحِيفَة.
وَنَفْي وُجُود الْكَاتِب يَكُون بِعُدْمِ أَيّ آلَة اِتَّفَقَ، وَنَفْي الْكَاتِب أَيْضًا يَقْتَضِي نَفْي الْكِتَاب، فَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ إِلَّا مِنْ جِهَة خَطّ الْمُصْحَف.
فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ
فِيهَا ثَلَاثَة عَشَر مَسْأَلَة :
الْأُولَى : وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير " فَرُهُن " بِضَمِّ الرَّاء وَالْهَاء، وَرُوِيَ عَنْهُمَا تَخْفِيف الْهَاء.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ : تَأَوَّلَ قَوْم أَنَّ " رُهُنًا " بِضَمِّ الرَّاء وَالْهَاء جَمْع رِهَان، فَهُوَ جَمْع جَمْعٍ، وَحَكَاهُ الزَّجَّاج عَنْ الْفَرَّاء.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ :" فَرِهَان " اِبْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف.
وَالْمَعْنَى فَرِهَان مَقْبُوضَة يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ النَّحَّاس : وَقَرَأَ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود " فَرَهْن " بِإِسْكَانِ الْهَاء، وَيُرْوَى عَنْ أَهْل مَكَّة.
وَالْبَاب فِي هَذَا " رِهَان "، كَمَا يُقَال : بَغْل وَبِغَال، وَكَبْش وَكِبَاش، وَرُهُن سَبِيله أَنْ يَكُون جَمْع رِهَان، مِثْل كِتَاب وَكُتُب.
وَقِيلَ : هُوَ جَمْع رَهْن، مِثْل سَقْف وَسُقُف، وَحَلْق وَحُلُق، وَفَرْش وَفُرُش، وَنَشْر وَنُشُر، وَشَبَهه.
" وَرَهْن " بِإِسْكَانِ الْهَاء سَبِيله أَنْ تَكُون الضَّمَّة حُذِفَتْ لِثِقَلِهَا.
وَقِيلَ : هُوَ جَمْع رُهُن، مِثْل سَهْم حَشْر أَيْ دَقِيق، وَسِهَام حَشْر.
وَالْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّ الْأَوَّل لَيْسَ بِنَعْتٍ وَهَذَا نَعْت.
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : وَتَكْسِير " رَهْن " عَلَى أَقَلّ الْعَدَد لَمْ أَعْلَمهُ جَاءَ، فَلَوْ جَاءَ كَانَ قِيَاسه أَفْعُلًا كَكَلْبٍ وَأَكْلُب، وَكَأَنَّهُمْ اِسْتَغْنَوْا بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِير، كَمَا اُسْتُغْنِيَ بِبِنَاءِ الْكَثِير عَنْ بِنَاء الْقَلِيل فِي قَوْلهمْ : ثَلَاثَة شُسُوع، وَقَدْ اُسْتُغْنِيَ بِبِنَاءِ الْقَلِيل عَنْ الْكَثِير فِي رَسْن وَأَرْسَان، فَرَهْن يُجْمَع عَلَى بِنَاءَيْنِ وَهُمَا فُعُل وَفِعَال.
الْأَخْفَش : فُعُل عَلَى فِعْل قَبِيح وَهُوَ قَلِيل شَاذّ، قَالَ : وَقَدْ يَكُون " رُهُن " جَمْعًا لِلرِّهَانِ، كَأَنَّهُ يُجْمَع رَهْن عَلَى رِهَان، ثُمَّ يُجْمَع رِهَان عَلَى رُهُن، مِثْل فِرَاش وَفُرُش.
الثَّانِيَة : مَعْنَى الرَّهْن : اِحْتِبَاس الْعَيْن وَثِيقَة بِالْحَقِّ لِيُسْتَوْفَى الْحَقّ مِنْ ثَمَنهَا أَوْ مِنْ ثَمَن مَنَافِعهَا عِنْد تَعَذُّر أَخْذه مِنْ الْغَرِيم، وَهَكَذَا حَدَّهُ الْعُلَمَاء، وَهُوَ فِي كَلَام الْعَرَب بِمَعْنَى الدَّوَام وَالِاسْتِمْرَار.
وَقَالَ اِبْن سِيدَه : وَرَهَنَهُ أَيْ أَدَامَهُ، وَمِنْ رَهَنَ بِمَعْنَى دَامَ قَوْل الشَّاعِر :
الْخُبْز وَاللَّحْم لَهُمْ رَاهِن وَقَهْوَة وَمَا رَاوُوقهَا سَاكِب
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَرَهَنَ الشَّيْء رَهْنًا أَيْ دَامَ.
وَأَرْهَنْت لَهُمْ الطَّعَام وَالشَّرَاب أَدَمْته لَهُمْ، وَهُوَ طَعَام رَاهِن.
وَالرَّاهِن : الثَّابِت، وَالرَّاهِن : الْمَهْزُول مِنْ الْإِبِل وَالنَّاس، قَالَ :
إِمَّا تَرَيْ جِسْمِي خَلًّا قَدْ رَهَنَ هَزْلًا وَمَا مَجْد الرِّجَال فِي السِّمَنْ/
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُقَال فِي مَعْنَى الرَّهْن الَّذِي هُوَ الْوَثِيقَة مِنْ الرَّهْن : أَرْهَنْت إِرْهَانًا، حَكَاهُ بَعْضهمْ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : أَرْهَنْت فِي الْمُغَالَاة، وَأَمَّا فِي الْقَرْض وَالْبَيْع فَرَهَنْت.
وَقَالَ أَبُو زَيْد : أَرْهَنْت فِي السِّلْعَة إِرْهَانًا : غَالَيْت بِهَا، وَهُوَ فِي الْغَلَاء خَاصَّة.
قَالَ :
عِيدِيَّة أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِير
يَصِف نَاقَة.
وَالْعِيد بَطْن مِنْ مَهْرَة وَإِبِل مَهْرَة مَوْصُوفَة بِالنَّجَابَةِ.
وَقَالَ الزَّجَّاج : يُقَال فِي الرَّهْن : رَهَنْت وَأَرْهَنْت، وَقَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَالْأَخْفَش.
قَالَ عَبْد اللَّه بْن هَمَّام السَّلُولِيّ :
فَلَمَّا خَشِيت أَظَافِيرهمْ نَجَوْت وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكًا
قَالَ ثَعْلَب : الرُّوَاة كُلّهمْ عَلَى أَرْهَنْتُهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوز رَهَنْته وَأَرْهَنْتُهُ، إِلَّا الْأَصْمَعِيّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ وَأَرْهَنهُمْ، عَلَى أَنَّهُ عَطْف بِفِعْلٍ مُسْتَقْبَل عَلَى فِعْل مَاضٍ، وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِمْ : قُمْت وَأَصُكّ وَجْهه، وَهُوَ مَذْهَب حَسَن ; لِأَنَّ الْوَاو وَاو الْحَال، فَجَعَلَ أَصُكّ حَالًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّل عَلَى مَعْنَى قُمْت صَاكًّا وَجْهه، أَيْ تَرَكْته مُقِيمًا عِنْدهمْ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَال : أَرْهَنْت الشَّيْء، وَإِنَّمَا يُقَال : رَهَنْته.
وَتَقُول : رَهَنْت لِسَانِي بِكَذَا، وَلَا يُقَال فِيهِ : أَرْهَنْت.
وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : أَرْهَنْت فِيهَا بِمَعْنَى أَسْلَفْت.
وَالْمُرْتَهِن : الَّذِي يَأْخُذ الرَّهْن.
وَالشَّيْء مَرْهُون وَرَهِين، وَالْأُنْثَى رَهِينَة.
وَرَاهَنْت فُلَانًا عَلَى كَذَا مُرَاهَنَة : خَاطَرْته.
وَأَرْهَنْت بِهِ وَلَدِي إِرْهَانًا : أَخْطَرْتهمْ بِهِ خَطَرًا.
وَالرَّهِينَة وَاحِدَة، الرَّهَائِن، كُلّه عَنْ الْجَوْهَرِيّ.
اِبْن عَطِيَّة : وَيُقَال بِلَا خِلَاف فِي الْبَيْع وَالْقَرْض : رَهَنْت رَهْنًا، ثُمَّ سُمِّيَ بِهَذَا الْمَصْدَر الشَّيْء الْمَدْفُوع تَقُول : رَهَنْت رَهْنًا، كَمَا تَقُول رَهَنْت ثَوْبًا.
الثَّالِثَة : قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَلَمَّا كَانَ الرَّهْن بِمَعْنَى الثُّبُوت، وَالدَّوَام فَمِنْ ثَمَّ بَطَلَ الرَّهْن عِنْد الْفُقَهَاء إِذَا خَرَجَ مِنْ يَد الْمُرْتَهِن إِلَى الرَّاهِن بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; لِأَنَّهُ فَارَقَ مَا جُعِلَ بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِن لَهُ.
قُلْت : هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَد عِنْدنَا فِي أَنَّ الرَّهْن مَتَى رَجَعَ إِلَى الرَّاهِن بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِن بَطَلَ الرَّهْن، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَة، غَيْر أَنَّهُ قَالَ : إِنْ رَجَعَ بِعَارِيَةٍ أَوْ وَدِيعَة لَمْ يَبْطُل.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنَّ رُجُوعه إِلَى يَد الرَّاهِن مُطْلَقًا لَا يُبْطِل حُكْم الْقَبْض الْمُتَقَدِّم، وَدَلِيلنَا " فَرِهَان مَقْبُوضَة "، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ يَد الْقَابِض لَمْ يَصْدُق ذَلِكَ اللَّفْظ عَلَيْهِ لُغَة، فَلَا يَصْدُق عَلَيْهِ حُكْمًا، وَهَذَا وَاضِح.
الرَّابِعَة : إِذَا رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضهُ فِعْلًا لَمْ يُوجِب ذَلِكَ، حُكْمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَرِهَان مَقْبُوضَة " قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمْ يَجْعَل اللَّه الْحُكْم إِلَّا بِرَهْنٍ مَوْصُوف بِالْقَبْضِ، فَإِذَا عُدِمَتْ الصِّفَة وَجَبَ أَنْ يُعْدَم الْحُكْم، وَهَذَا ظَاهِر جِدًّا.
وَقَالَتْ الْمَالِكِيَّة : يَلْزَم الرَّهْن بِالْعَقْدِ وَيُجْبَر الرَّاهِن عَلَى دَفْع الرَّهْن لِيَحُوزَهُ الْمُرْتَهِن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَوْفُوا بِالْعُقُودِ " [ الْمَائِدَة : ١ ] وَهَذَا عَقْد، وَقَوْله " بِالْعَهْدِ " [ الْإِسْرَاء : ٣٤ ] وَهَذَا عَهْد.
وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شُرُوطهمْ ) وَهَذَا شَرْط، فَالْقَبْض عِنْدنَا شَرْط فِي كَمَالِ فَائِدَته.
وَعِنْدهمَا شَرْط فِي لُزُومه وَصِحَّته.
الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى :" مَقْبُوضَة " يَقْتَضِي بَيْنُونَة الْمُرْتَهِن بِالرَّهْنِ.
وَأَجْمَعَ النَّاس عَلَى صِحَّة قَبْض الْمُرْتَهِن، وَكَذَلِكَ عَلَى قَبْض وَكِيله.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبْض عَدْل يُوضَع الرَّهْن عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ مَالِك وَجَمِيع أَصْحَابه وَجُمْهُور الْعُلَمَاء : قَبْض الْعَدْل قَبْض.
وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَة وَالْحَكَم وَعَطَاء : لَيْسَ بِقَبْضٍ، وَلَا يَكُون مَقْبُوضًا إِلَّا إِذَا كَانَ عِنْد الْمُرْتَهِن، وَرَأَوْا ذَلِكَ تَعَبُّدًا.
وَقَوْل الْجُمْهُور أَصَحّ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ عِنْد الْعَدْل صَارَ مَقْبُوضًا لُغَة وَحَقِيقَة، لِأَنَّ الْعَدْل نَائِب عَنْ صَاحِب الْحَقّ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَكِيل، وَهَذَا ظَاهِر.
السَّادِسَة : وَلَوْ وَضَعَ الرَّهْن عَلَى يَدَيْ عَدْل فَضَاعَ لَمْ يَضْمَن الْمُرْتَهِن وَلَا الْمَوْضُوع عَلَى يَده ; لِأَنَّ الْمُرْتَهِن لَمْ يَكُنْ فِي يَده شَيْء يَضْمَنهُ.
وَالْمَوْضُوع عَلَى يَده أَمِين وَالْأَمِين غَيْر ضَامِن.
السَّابِعَة : لَمَّا قَالَ تَعَالَى :" مَقْبُوضَة " قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِيهِ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقه جَوَاز رَهْن الْمَشَاع.
خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه، لَا يَجُوز عِنْدهمْ أَنْ يَرْهَنهُ ثُلُث دَار وَلَا نِصْفًا مِنْ عَبْد وَلَا سَيْف، ثُمَّ قَالُوا : إِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُل مَال هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ فَرَهَنَهُمَا بِذَلِكَ أَرْضًا فَهُوَ جَائِز إِذَا قَبَضَاهَا.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا إِجَازَة رَهْن الْمَشَاع ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مُرْتَهِن نِصْف دَار.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : رَهْن الْمَشَاع جَائِز كَمَا يَجُوز بَيْعه.
الثَّامِنَة : وَرَهْن مَا فِي الذِّمَّة جَائِز عِنْد عُلَمَائِنَا ; لِأَنَّهُ مَقْبُوض خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَمِثَاله رَجُلَانِ تَعَامَلَا لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر دَيْن فَرَهَنَهُ دَيْنه الَّذِي عَلَيْهِ.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَكُلّ عَرْض جَازَ بَيْعه جَازَ رَهْنه، وَلِهَذِهِ الْعِلَّة جَوَّزْنَا رَهْن مَا فِي الذِّمَّة ; لِأَنَّ بَيْعه جَائِز، وَلِأَنَّهُ مَال تَقَع الْوَثِيقَة بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُون رَهْنًا، قِيَاسًا عَلَى سِلْعَة مَوْجُودَة.
وَقَالَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ : لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّق إِقْبَاضه وَالْقَبْض شَرْط فِي لُزُوم الرَّهْن ; لِأَنَّهُ لَا بُدّ أَنْ يُسْتَوْفَى الْحَقّ مِنْهُ عِنْد الْمَحِلّ، وَيَكُون الِاسْتِيفَاء مِنْ مَالِيَّته لَا مِنْ عَيْنه وَلَا يُتَصَوَّر ذَلِكَ فِي الدَّيْن.
التَّاسِعَة : رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الظَّهْر يُرْكَب بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَن الدَّرّ يُشْرَب بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَب وَيَشْرَب النَّفَقَة ).
وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود وَقَالَ بَدَل ( يُشْرَب ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ :( يُحْلَب ).
قَالَ الْخَطَّابِيّ : هَذَا كَلَام مُبْهَم لَيْسَ فِي نَفْس اللَّفْظ بَيَان مَنْ يَرْكَب وَيَحْلُب، هَلْ الرَّاهِن أَوْ الْمُرْتَهِن أَوْ الْعَدْل الْمَوْضُوع عَلَى يَده الرَّهْن ؟.
قُلْت : قَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا مُفَسَّرًا فِي حَدِيثَيْنِ، وَبِسَبَبِهِمَا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ذَكَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِذَا كَانَتْ الدَّابَّة مَرْهُونَة فَعَلَى الْمُرْتَهِن عَلْفهَا وَلَبَن الدَّرّ يُشْرَب وَعَلَى الَّذِي يَشْرَب نَفَقَته ).
أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن الْعَلَاء حَدَّثَنَا زِيَاد بْن أَيُّوب حَدَّثَنَا هُشَيْم حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة.
وَهُوَ قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق : أَنَّ الْمُرْتَهِن يَنْتَفِع مِنْ الرَّهْن بِالْحَلْبِ وَالرُّكُوب بِقَدْرِ النَّفَقَة.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر : إِذَا كَانَ الرَّاهِن يُنْفِق عَلَيْهِ لَمْ يَنْتَفِع بِهِ الْمُرْتَهِن.
وَإِنْ كَانَ الرَّاهِن لَا يُنْفِق عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ، فِي يَد الْمُرْتَهِن فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ فَلَهُ رُكُوبه وَاسْتِخْدَام الْعَبْد.
وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث.
الْحَدِيث الثَّانِي خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَاده مَقَال وَيَأْتِي بَيَانه - مِنْ حَدِيث إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يُغْلَق الرَّهْن وَلِصَاحِبِهِ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ).
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَالشَّعْبِيّ وَابْن سِيرِينَ.
وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه.
قَالَ الشَّافِعِيّ : مَنْفَعَة الرَّهْن لِلرَّاهِنِ، وَنَفَقَته عَلَيْهِ، وَالْمُرْتَهِن لَا يَنْتَفِع بِشَيْءٍ مِنْ الرَّهْن خَلَا الْإِحْفَاظ لِلْوَثِيقَةِ.
قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَهُوَ أَوْلَى الْأَقْوَال وَأَصَحّهَا، بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يُغْلَق الرَّهْن مِنْ صَاحِبه الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ).
قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَقَوْله :( مِنْ صَاحِبه أَيْ لِصَاحِبِهِ ).
وَالْعَرَب تَضَع " مِنْ " مَوْضِع اللَّام، كَقَوْلِهِمْ :
أَمِنْ أُمّ أَوْفَى دِمْنَة لَمْ تُكَلَّم
قُلْت : قَدْ جَاءَ صَرِيحًا ( لِصَاحِبِهِ ) فَلَا حَاجَة لِلتَّأْوِيلِ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : كَانَ ذَلِكَ وَقْت كَوْن الرِّبَا مُبَاحًا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ قَرْض جَرَّ مَنْفَعَة، وَلَا عَنْ أَخْذ الشَّيْء بِالشَّيْءِ وَإِنْ كَانَا غَيْر مُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ حَرَّمَ الرِّبَا بَعْد ذَلِكَ.
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْأَمَة الْمَرْهُونَة لَا يَجُوز لِلرَّاهِنِ أَنْ يَطَأهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوز لَهُ خِدْمَتهَا.
وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيّ : لَا يُنْتَفَع مِنْ الرَّهْن بِشَيْءٍ.
فَهَذَا الشَّعْبِيّ رَوَى الْحَدِيث وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ، وَلَا يَجُوز عِنْده ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مَنْسُوخ.
وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ لَبَن الرَّهْن وَظَهْره لِلرَّاهِنِ.
وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُون اِحْتِلَاب الْمُرْتَهِن لَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِن أَوْ بِغَيْرِ إِذْنه، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنه فَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَد مَاشِيَة أَحَد إِلَّا بِإِذْنِهِ ) مَا يَرُدّهُ وَيَقْضِي بِنَسْخِهِ.
وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَفِي الْأُصُول الْمُجْتَمَع عَلَيْهَا فِي تَحْرِيم الْمَجْهُول وَالْغَرَر وَبَيْع مَا لَيْسَ عِنْدك وَبَيْع مَا لَمْ يُخْلَق، مَا يَرُدّهُ أَيْضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل نُزُول تَحْرِيم الرِّبَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلَوْ شَرَطَ الْمُرْتَهِن الِانْتِفَاع بِالرَّهْنِ فَلِذَلِكَ حَالَتَانِ : إِنْ كَانَ مِنْ قَرْض لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْع أَوْ إِجَارَة جَازَ ; لِأَنَّهُ يَصِير بَائِعًا لِلسِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُور وَمَنَافِع الرَّهْن مُدَّة مَعْلُومَة فَكَأَنَّهُ بَيْع وَإِجَارَة، وَأَمَّا فِي الْقَرْض فَلِأَنَّهُ يَصِير قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَة، وَلِأَنَّ مَوْضُوع الْقَرْض أَنْ يَكُون قُرْبَة، فَإِذَا دَخَلَهُ نَفْع صَارَ زِيَادَة فِي الْجِنْس وَذَلِكَ رِبًا.
الْعَاشِرَة : لَا يَجُوز غَلْق الرَّهْن، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِط الْمُرْتَهِن أَنَّهُ لَهُ بِحَقِّهِ إِنْ لَمْ يَأْتِهِ بِهِ عِنْد أَجَله.
وَكَانَ هَذَا مِنْ فِعْل الْجَاهِلِيَّة فَأَبْطَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ :( لَا يَغْلَق الرَّهْن ) هَكَذَا قَيَّدْنَاهُ بِرَفْعِ الْقَاف عَلَى الْخَبَر، أَيْ لَيْسَ يَغْلَق الرَّهْن.
تَقُول : أَغْلَقْت الْبَاب فَهُوَ مُغْلَق.
وَغَلَقَ الرَّهْن فِي يَد مُرْتَهِنه إِذَا لَمْ يَفْتَكّ، قَالَ الشَّاعِر :
أَجَارَتنَا مَنْ يَجْتَمِع يَتَفَرَّق وَمَنْ يَكُ رَهْنًا لِلْحَوَادِثِ يُغْلَق
وَقَالَ زُهَيْر : وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاك لَهُ يَوْم الْوَدَاع فَأَمْسَى الرَّهْن قَدْ غَلِقَا
الْحَادِيَة عَشْرَة : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ زِيَاد بْن سَعْد عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا يَغْلَق الرَّهْن لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ).
زِيَاد بْن سَعْد أَحَد الْحُفَّاظ الثِّقَات، وَهَذَا إِسْنَاد حَسَن.
وَأَخْرَجَهُ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب مُرْسَلًا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا يَغْلَق الرَّهْن ).
قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَكَذَا رَوَاهُ كُلّ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأ عَنْ مَالِك فِيمَا عَلِمْت، إِلَّا مَعْن بْن عِيسَى فَإِنَّهُ وَصَلَهُ، وَمَعْن ثِقَة، إِلَّا أَنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُون الْخَطَأ فِيهِ مِنْ عَلِيّ بْن عَبْد الْحَمِيد الْغَضَائِرِيّ عَنْ مُجَاهِد بْن مُوسَى عَنْ مَعْن بْن عِيسَى.
وَزَادَ فِيهِ أَبُو عَبْد اللَّه عَمْرو عَنْ الْأَبْهَرِيّ بِإِسْنَادِهِ :( لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه ).
وَهَذِهِ اللَّفْظَة قَدْ اِخْتَلَفَ الرُّوَاة فِي رَفْعهَا، فَرَفَعَهَا اِبْن أَبِي ذِئْب وَمَعْمَر وَغَيْرهمَا.
وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَقَالَ : قَالَ يُونُس قَالَ اِبْن شِهَاب : وَكَانَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : الرَّهْن مِمَّنْ رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمه وَعَلَيْهِ غُرْمه، فَأَخْبَرَ اِبْن شِهَاب أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْل سَعِيد لَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِلَّا أَنَّ مَعْمَرًا ذَكَرَهُ عَنْ اِبْن شِهَاب مَرْفُوعًا، وَمَعْمَر أَثْبَت النَّاس فِي اِبْن شِهَاب.
وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعه يَحْيَى بْن أَبِي أَنِيسَة وَيَحْيَى لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَأَصْل هَذَا الْحَدِيث عِنْد أَهْل الْعِلْم بِالنَّقْلِ مُرْسَل، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ مِنْ جِهَات كَثِيرَة فَإِنَّهُمْ يُعَلِّلُونَهَا.
وَهُوَ مَعَ هَذَا حَدِيث لَا يَرْفَعهُ أَحَد مِنْهُمْ وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيله وَمَعْنَاهُ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا.
قَالَ أَبُو عُمَر : لَمْ يَسْمَعهُ إِسْمَاعِيل مِنْ اِبْن أَبِي ذِئْب وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ عَبَّاد بْن كَثِير عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب، وَعَبَّاد عِنْدهمْ ضَعِيف لَا يُحْتَجّ بِهِ.
وَإِسْمَاعِيل عِنْدهمْ أَيْضًا غَيْر مَقْبُول الْحَدِيث إِذَا حَدَّثَ عَنْ غَيْر أَهْل بَلَده، فَإِذَا حَدَّثَ عَنْ الشَّامِيِّينَ فَحَدِيثه مُسْتَقِيم، وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرهمْ فَفِي حَدِيثه خَطَأ كَثِير وَاضْطِرَاب.
الثَّانِيَة عَشْرَة : نَمَاء الرَّهْن دَاخِل مَعَهُ إِنْ كَانَ لَا يَتَمَيَّز كَالسِّمَنِ، أَوْ كَانَ نَسْلًا كَالْوِلَادَةِ وَالنِّتَاج، وَفِي مَعْنَاهُ فَسِيل النَّخْل، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ غَلَّة وَثَمَرَة وَلَبَن وَصُوف فَلَا يَدْخُل فِيهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطهُ.
وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الْأَوْلَاد تَبَع فِي الزَّكَاة لِلْأُمَّهَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَصْوَاف وَالْأَلْبَان وَثَمَر الْأَشْجَار ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي الزَّكَاة وَلَا هِيَ فِي صُوَرهَا وَلَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا تَقُوم مَعَهَا، فَلَهَا حُكْم نَفْسهَا لَا حُكْم الْأَصْل خِلَاف الْوَلَد وَالنِّتَاج.
وَاَللَّه أَعْلَم بِصَوَابِ ذَلِكَ.
الثَّالِثَة عَشْرَة : وَرَهْن مَنْ أَحَاطَ الدَّيْن بِمَالِهِ جَائِز مَا لَمْ يُفْلِس، وَيَكُون الْمُرْتَهِن أَحَقّ بِالرَّهْنِ مِنْ الْغُرَمَاء، قَالَهُ مَالِك وَجَمَاعَة مِنْ النَّاس.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِك خِلَاف هَذَا - وَقَالَهُ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة - إِنَّ الْغُرَمَاء يَدْخُلُونَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحْجَر عَلَيْهِ فَتَصَرُّفَاته صَحِيحَة فِي كُلّ أَحْوَاله مِنْ بَيْع وَشِرَاء، وَالْغُرَمَاء عَامَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ يَبِيع وَيَشْتَرِي وَيَقْضِي، لَمْ يَخْتَلِف قَوْل مَالِك فِي هَذَا الْبَاب، فَكَذَلِكَ الرَّهْن.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
شَرْط رُبِطَ بِهِ وَصِيَّة الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ بِالْأَدَاءِ وَتَرْك الْمَطْل.
يَعْنِي إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ أَمِينًا عِنْد صَاحِب الْحَقّ وَثَّقَهُ فَلْيُؤَدِّ لَهُ مَا عَلَيْهِ اُؤْتُمِنَ.
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ
" فَلْيُؤَدِّ " مِنْ الْأَدَاء مَهْمُوز، وَهُوَ جَوَاب الشَّرْط وَيَجُوز تَخْفِيف هَمْزه فَتُقْلَب الْهَمْزَة وَاوًا وَلَا تُقْلَب أَلِفًا وَلَا تُجْعَل بَيْن بَيْن ; لِأَنَّ الْأَلِف لَا يَكُون، مَا قَبْلهَا إِلَّا مَفْتُوحًا.
وَهُوَ أَمْر مَعْنَاهُ الْوُجُوب، بِقَرِينَةِ الْإِجْمَاع عَلَى وُجُوب أَدَاء الدُّيُون، وَثُبُوت حُكْم الْحَاكِم بِهِ وَجَبْرِهِ الْغُرَمَاء عَلَيْهِ، وَبِقَرِينَةِ الْأَحَادِيث الصِّحَاح فِي تَحْرِيم مَال الْغَيْر.
" أَمَانَته " الْأَمَانَة مَصْدَر سُمِّيَ بِهِ الشَّيْء الَّذِي فِي الذِّمَّة، وَأَضَافَهَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْن مِنْ حَيْثُ لَهَا إِلَيْهِ نِسْبَة، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ " [ النِّسَاء : ٥ ].
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
أَيْ فِي أَلَّا يَكْتُم مِنْ الْحَقّ شَيْئًا.
وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ
تَفْسِير لِقَوْلِهِ :" وَلَا يُضَارِرْ " بِكَسْرِ الْعَيْن.
نَهَى الشَّاهِد عَنْ أَنْ يَضُرّ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَة، وَهُوَ نَهْي عَلَى الْوُجُوب بِعِدَّةِ قَرَائِن مِنْهَا الْوَعِيد.
وَمَوْضِع النَّهْي هُوَ حَيْثُ يَخَاف الشَّاهِد ضَيَاع حَقّ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : عَلَى الشَّاهِد أَنْ يَشْهَد حَيْثُمَا اُسْتُشْهِدَ، وَيُخْبِر حَيْثُمَا اُسْتُخْبِرَ، قَالَ : وَلَا تَقُلْ أُخْبِر بِهَا عِنْد الْأَمِير بَلْ أَخْبِرْهُ بِهَا لَعَلَّهُ يَرْجِع وَيَرْعَوِي.
وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن " وَلَا يَكْتُمُوا " بِالْيَاءِ، جَعَلَهُ نَهْيًا لِلْغَائِبِ.
إِذَا كَانَ عَلَى الْحَقّ شُهُود تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا عَلَى الْكِفَايَة، فَإِنْ أَدَّاهَا اِثْنَانِ وَاجْتَزَأَ الْحَاكِم بِهِمَا سَقَطَ الْفَرْض عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يُجْتَزَأ بِهَا تَعَيَّنَ الْمَشْي إِلَيْهِ حَتَّى يَقَع الْإِثْبَات.
وَهَذَا يُعْلَم بِدُعَاءِ صَاحِبهَا، فَإِذَا قَالَ لَهُ : أَحْيِ حَقِّي بِأَدَاءِ مَا عِنْدك لِي مِنْ الشَّهَادَة تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
خَصَّ الْقَلْب بِالذِّكْرِ إِذْ الْكَتْم مِنْ أَفْعَاله، وَإِذْ هُوَ الْمُضْغَة الَّتِي بِصَلَاحِهَا يَصْلُح الْجَسَد كُلّه كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْ الْجُمْلَة، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة.
وَقَالَ الْكِيَا : لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَلَّا يُؤَدِّيَهَا وَتَرَكَ أَدَاءَهَا بِاللِّسَانِ رَجَعَ الْمَأْثَم إِلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
فَقَوْله " آثِم قَلْبه " مَجَاز، وَهُوَ آكَد مِنْ الْحَقِيقَة فِي الدَّلَالَة عَلَى الْوَعِيد، وَهُوَ مِنْ بَدِيع الْبَيَان وَلَطِيف الْإِعْرَاب عَنْ الْمَعَانِي.
يُقَال : إِثْم الْقَلْب سَبَب مَسْخه، وَاَللَّه تَعَالَى إِذَا مَسَخَ قَلْبًا جَعَلَهُ مُنَافِقًا وَطَبَعَ عَلَيْهِ، نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة.
و " قَلْبه " رُفِعَ ب " آثِم " و " آثِم " خَبَر، " إِنَّ "، وَإِنْ شِئْت رَفَعْت آثِمًا بِالِابْتِدَاءِ، و " قَلْبه " فَاعِل يَسُدّ مَسَدّ الْخَبَر وَالْجُمْلَة خَبَر إِنَّ.
وَإِنْ شِئْت رَفَعْت آثِمًا عَلَى أَنَّهُ خَبَر الِابْتِدَاء تَنْوِي بِهِ التَّأْخِير.
وَإِنْ شِئْت كَانَ " قَلْبه " بَدَلًا مِنْ " آثِم " بَدَل الْبَعْض مِنْ الْكُلّ.
وَإِنْ شِئْت كَانَ بَدَلًا مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي " آثِم ".
وَهُنَا ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : اِعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنْ الشَّهَادَة وَالْكِتَابَة لِمُرَاعَاةِ صَلَاح ذَات الْبَيْن وَنَفْي التَّنَازُع الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَاد ذَات الْبَيْن، لِئَلَّا يُسَوِّل لَهُ الشَّيْطَان جُحُود الْحَقّ وَتَجَاوُز مَا حَدَّ لَهُ الشَّرْع، أَوْ تَرَكَ الِاقْتِصَار عَلَى الْمِقْدَار الْمُسْتَحَقّ، وَلِأَجْلِهِ حَرَّمَ الشَّرْع الْبِيَاعَات الْمَجْهُولَة الَّتِي اِعْتِيَادهَا يُؤَدِّي إِلَى الِاخْتِلَاف وَفَسَاد ذَات الْبَيْن وَإِيقَاع التَّضَاغُن وَالتَّبَايُن.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّه مِنْ الْمَيْسِر وَالْقِمَار وَشُرْب الْخَمْر بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْر وَالْمَيْسِر " [ الْمَائِدَة : ٩١ ] الْآيَة.
فَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّه فِي أَوَامِره وَزَوَاجِره حَازَ صَلَاح الدُّنْيَا وَالدِّين، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَلَوْ إِنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ " [ النِّسَاء : ٦٦ ] الْآيَة.
الثَّانِيَة : رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَنْ أَخَذَ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّه عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيد إِتْلَافهَا أَتْلَفَهُ اللَّه ) وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مَيْمُونَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا اِسْتَدَانَتْ، فَقِيلَ : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ، تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدك وَفَاء ؟ قَالَتْ : إِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( مَنْ أَخَذَ دَيْنًا وَهُوَ يُرِيد أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَعَانَهُ اللَّه عَلَيْهِ ).
وَرَوَى الطَّحَاوِيّ وَأَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَالْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة فِي مُسْنَده عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا تُخِيفُوا الْأَنْفُس بَعْد أَمْنهَا ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ :( الدَّيْن ).
وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاء ذَكَرَهُ :( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِك مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَن وَالْعَجْز وَالْكَسَل وَالدَّيْن وَالْبُخْل وَضَلَع الدَّيْن وَغَلَبَة الرِّجَال ).
قَالَ الْعُلَمَاء : ضَلَع الدَّيْن هُوَ الَّذِي لَا يَجِد دَائِنه مِنْ حَيْثُ يُؤَدِّيه.
وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْل الْعَرَب : حِمْل مُضْلِع أَيْ ثَقِيل، وَدَابَّة مُضْلِعٌ لَا تَقْوَى عَلَى الْحَمْل، قَالَهُ صَاحِب الْعَيْن.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الدَّيْن شَيْن الدِّين ).
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :( الدَّيْن هَمّ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّة بِالنَّهَارِ ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا كَانَ شَيْنًا وَمَذَلَّة لِمَا فِيهِ مِنْ شَغْل الْقَلْب وَالْبَال وَالْهَمّ اللَّازِم فِي قَضَائِهِ، وَالتَّذَلُّل لِلْغَرِيمِ عِنْد لِقَائِهِ، وَتَحَمُّل مِنَّته بِالتَّأْخِيرِ إِلَى حِين أَوَانه.
وَرُبَّمَا يَعِد مِنْ نَفْسه الْقَضَاء فَيُخْلِف، أَوْ يُحَدِّث الْغَرِيم بِسَبَبِهِ فَيَكْذِب، أَوْ يَحْلِف لَهُ فَيَحْنَث، إِلَى غَيْر ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَتَعَوَّذ مِنْ الْمَأْثَم وَالْمَغْرَم، وَهُوَ الدَّيْن.
فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه، مَا أَكْثَر مَا تَتَعَوَّذ مِنْ الْمَغْرَم ؟ فَقَالَ :( إِنَّ الرَّجُل إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ ).
وَأَيْضًا فَرُبَّمَا قَدْ مَاتَ وَلَمْ يَقْضِ الدَّيْن فَيُرْتَهَن بِهِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( نَسَمَة الْمُؤْمِن مُرْتَهَنَة فِي قَبْره بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ).
وَكُلّ هَذِهِ الْأَسْبَاب مَشَائِن فِي الدِّين تُذْهِب جَمَاله وَتُنْقِص كَمَاله.
وَاَللَّه أَعْلَم
الثَّالِثَة : لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْكَتْبِ وَالْإِشْهَاد وَأَخْذ الرِّهَان كَانَ ذَلِكَ نَصًّا قَاطِعًا عَلَى مُرَاعَاة حِفْظ الْأَمْوَال وَتَنْمِيَتهَا، وَرَدًّا عَلَى الْجَهَلَة الْمُتَصَوِّفَة وَرِعَاعهَا الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ، فَيُخْرِجُونَ عَنْ جَمِيع أَمْوَالهمْ وَلَا يَتْرُكُونَ كِفَايَة لِأَنْفُسِهِمْ وَعِيَالهمْ، ثُمَّ إِذَا اِحْتَاجَ وَافْتَقَرَ عِيَاله فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَتَعَرَّض لِمِنَنِ الْإِخْوَان أَوْ لِصَدَقَاتِهِمْ، أَوْ أَنْ يَأْخُذ مِنْ أَرْبَاب الدُّنْيَا وَظَلَمَتهمْ، وَهَذَا الْفِعْل مَذْمُوم مَنْهِيّ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : وَلَسْت أَعْجَب مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذَا مَعَ قِلَّة عِلْمهمْ، إِنَّمَا أَتَعَجَّب مِنْ أَقْوَام لَهُمْ عِلْم وَعَقْل كَيْف حَثُّوا عَلَى هَذَا، وَأَمَرُوا بِهِ مَعَ مُضَادَّته لِلشَّرْعِ وَالْعَقْل.
فَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيّ فِي هَذَا كَلَامًا كَثِيرًا، وَشَيَّدَهُ أَبُو حَامِد الطَّوْسِيّ وَنَصَرَهُ.
وَالْحَارِث عِنْدِي أَعْذَر مِنْ أَبِي حَامِد ; لِأَنَّ أَبَا حَامِد كَانَ أَفْقَه، غَيْر أَنَّ دُخُوله فِي التَّصَوُّف أَوْجَبَ عَلَيْهِ نُصْرَة مَا دَخَلَ فِيهِ.
قَالَ الْمُحَاسِبِيّ فِي كَلَام طَوِيل لَهُ : وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف قَالَ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَخَاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَن فِيمَا تَرَكَ.
فَقَالَ كَعْب : سُبْحَان اللَّه ! وَمَا تَخَافُونَ عَلَى عَبْد الرَّحْمَن ؟ كَسَبَ طَيِّبًا وَأَنْفَقَ طَيِّبًا وَتَرَك طَيِّبًا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا ذَرّ فَخَرَجَ مُغْضَبًا يُرِيد كَعْبًا، فَمَرَّ بِلَحْيِ بَعِير فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ اِنْطَلَقَ يَطْلُب كَعْبًا، فَقِيلَ لِكَعْبٍ : إِنَّ أَبَا ذَرّ يَطْلُبك.
فَخَرَجَ هَارِبًا حَتَّى، دَخَلَ عَلَى عُثْمَان يَسْتَغِيث بِهِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَر.
فَأَقْبَلَ أَبُو ذَرّ يَقُصّ الْأَثَر فِي طَلَب كَعْب حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى دَار عُثْمَان، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ كَعْب فَجَلَسَ خَلْف عُثْمَان هَارِبًا مِنْ أَبِي ذَرّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرّ : يَا بْن الْيَهُودِيَّة، تَزْعُم أَلَّا بَأْس بِمَا تَرَكَهُ عَبْد الرَّحْمَن ! لَقَدْ خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ :( الْأَكْثَرُونَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا ).
قَالَ الْمُحَاسِبِيّ : فَهَذَا عَبْد الرَّحْمَن مَعَ فَضْله يُوقَف فِي عَرْصَة يَوْم الْقِيَامَة بِسَبَبِ مَا كَسَبَهُ مِنْ حَلَال، لِلتَّعَفُّفِ وَصَنَائِع الْمَعْرُوف فَيُمْنَع السَّعْي إِلَى الْجَنَّة مَعَ الْفُقَرَاء وَصَارَ يَحْبُو فِي آثَارهمْ حَبْوًا، إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ كَلَامه.
ذَكَرَهُ أَبُو حَامِد وَشَيَّدَهُ وَقَوَّاهُ بِحَدِيثِ ثَعْلَبَة، وَأَنَّهُ أُعْطِيَ الْمَال فَمَنَعَ الزَّكَاة.
قَالَ أَبُو حَامِد : فَمَنْ رَاقَبَ أَحْوَال الْأَنْبِيَاء وَالْأَوْلِيَاء وَأَقْوَالهمْ لَمْ يَشُكّ فِي أَنَّ فَقْد الْمَال أَفْضَل مِنْ وُجُوده، وَإِنْ صُرِفَ إِلَى الْخَيْرَات، إِذْ أَقَلّ مَا فِيهِ اِشْتِغَال الْهِمَّة بِإِصْلَاحِهِ عَنْ ذِكْر اللَّه.
فَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يُخْرِج عَنْ مَاله حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا قَدْر ضَرُورَته، فَمَا بَقِيَ لَهُ دِرْهَم يَلْتَفِت إِلَيْهِ قَلْبه فَهُوَ مَحْجُوب عَنْ اللَّه تَعَالَى.
قَالَ الْجَوْزِيّ : وَهَذَا كُلّه خِلَاف الشَّرْع وَالْعَقْل، وَسُوء فَهُمْ الْمُرَاد بِالْمَالِ، وَقَدْ شَرَّفَهُ اللَّه وَعَظَّمَ قَدْره وَأَمَرَ بِحِفْظِهِ، إِذْ جَعَلَهُ قِوَامًا لِلْآدَمِيِّ وَمَا جُعِلَ قِوَامًا لِلْآدَمِيِّ الشَّرِيف فَهُوَ شَرِيف، فَقَالَ تَعَالَى :" وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّه لَكُمْ قِيَامًا " [ النِّسَاء : ٥ ] وَنَهَى جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُسَلَّم الْمَال إِلَى غَيْر رَشِيد فَقَالَ :" فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالهمْ " [ النِّسَاء : ٦ ].
وَنَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَة الْمَال، قَالَ لِسَعْدٍ :( إِنَّك أَنْ تَذَر وَرَثَتك أَغْنِيَاء خَيْر مِنْ أَنْ تَذَرهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس ).
وَقَالَ :( مَا نَفَعَنِي مَال كَمَالِ أَبِي بَكْر ).
وَقَالَ لِعَمْرِو بْن الْعَاص :( نِعْمَ الْمَال الصَّالِح لِلرَّجُلِ الصَّالِح ).
وَدَعَا لِأَنَسٍ، وَكَانَ فِي آخِر دُعَائِهِ :( اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَاله وَوَلَده وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ ).
وَقَالَ كَعْب : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِع مِنْ مَالِي صَدَقَة إِلَى اللَّه وَإِلَى رَسُوله.
فَقَالَ :( أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْض مَالِك فَهُوَ خَيْر لَك ).
قَالَ الْجَوْزِيّ : هَذِهِ الْأَحَادِيث مُخَرَّجَة فِي الصِّحَاح، وَهِيَ عَلَى خِلَاف مَا تَعْتَقِدهُ الْمُتَصَوِّفَة مِنْ أَنَّ إِكْثَار الْمَال حِجَاب وَعُقُوبَة، وَأَنَّ حَبْسه يُنَافِي التَّوَكُّل، وَلَا يُنْكَر أَنَّهُ يُخَاف مِنْ فِتْنَته، وَأَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا اِجْتَنَبُوهُ لِخَوْفِ ذَلِكَ، وَأَنَّ جَمْعه مِنْ وَجْهه لَيَعِزّ، وَأَنَّ سَلَامَة الْقَلْب مِنْ الِافْتِتَان بِهِ تَقِلّ، وَاشْتِغَال الْقَلْب مَعَ وُجُوده بِذِكْرِ الْآخِرَة يَنْدُر، فَلِهَذَا خِيفَ فِتْنَته.
فَأَمَّا كَسْب الْمَال فَإِنَّ مَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى كَسْب الْبُلْغَة مِنْ حِلّهَا فَذَلِكَ أَمْر لَا بُدّ مِنْهُ وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ جَمْعه وَالِاسْتِكْثَار مِنْهُ مِنْ الْحَلَال نُظِرَ فِي مَقْصُوده، فَإِنْ قَصَدَ نَفْس الْمُفَاخَرَة وَالْمُبَاهَاة فَبِئْسَ الْمَقْصُود، وَإِنْ قَصَدَ إِعْفَاف نَفْسه وَعَائِلَته، وَادَّخَرَ لِحَوَادِث زَمَانه وَزَمَانهمْ، وَقَصَدَ التَّوْسِعَة عَلَى الْإِخْوَان وَإِغْنَاء الْفُقَرَاء وَفِعْل الْمَصَالِح أُثِيبَ عَلَى قَصْده، وَكَانَ جَمْعه بِهَذِهِ النِّيَّة أَفْضَل مِنْ كَثِير مِنْ الطَّاعَات.
وَقَدْ كَانَتْ نِيَّات خَلْق كَثِير مِنْ الصَّحَابَة فِي جَمْع الْمَال سَلِيمَة لِحُسْنِ مَقَاصِدهمْ بِجَمْعِهِ، فَحَرَصُوا عَلَيْهِ وَسَأَلُوا زِيَادَته.
وَلَمَّا أَقْطَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْر حُضْر فَرَسه أَجْرَى الْفَرَس حَتَّى قَامَ ثُمَّ رَمَى سَوْطه، فَقَالَ :( أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ سَوْطه ).
وَكَانَ سَعْد بْن عُبَادَة يَقُول فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ وَسِّعْ عَلَيَّ.
وَقَالَ إِخْوَة يُوسُف :" وَنَزْدَاد كَيْل بَعِير ".
وَقَالَ شُعَيْب لِمُوسَى :" فَإِنْ أَتْمَمْت عَشْرًا فَمِنْ عِنْدك ".
وَإِنَّ أَيُّوب لَمَّا عُوفِيَ نُثِرَ عَلَيْهِ رِجْل مِنْ جَرَاد مِنْ ذَهَب، فَأَخَذَ يَحْثِي فِي ثَوْبه وَيَسْتَكْثِر مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ : أَمَا شَبِعْت ؟ فَقَالَ : يَا رَبّ فَقِير يَشْبَع مِنْ فَضْلك ؟.
وَهَذَا أَمْر مَرْكُوز فِي الطِّبَاع.
وَأَمَّا كَلَام الْمُحَاسِبِيّ فَخَطَأ يَدُلّ عَلَى الْجَهْل بِالْعِلْمِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيث كَعْب وَأَبِي ذَرّ فَمُحَال.
مِنْ وَضْع الْجُهَّال وَخَفِيَتْ عَدَم صِحَّته عَنْهُ لِلُحُوقِهِ بِالْقَوْمِ.
وَقَدْ رُوِيَ بَعْض هَذَا وَإِنْ كَانَ طَرِيقه لَا يَثْبُت ; لِأَنَّ فِي سَنَده اِبْن لَهِيعَة وَهُوَ مَطْعُون فِيهِ.
قَالَ يَحْيَى : لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ.
وَالصَّحِيح فِي التَّارِيخ أَنَّ أَبَا ذَرّ تُوُفِّيَ سَنَة خَمْس وَعِشْرِينَ، وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف تُوُفِّيَ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فَقَدْ عَاشَ بَعْد أَبِي ذَرّ سَبْع سِنِينَ.
ثُمَّ لَفْظ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَدِيثهمْ يَدُلّ عَلَى أَنَّ حَدِيثهمْ مَوْضُوع، ثُمَّ كَيْف تَقُول الصَّحَابَة : إِنَّا نَخَاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَن ! أَوَلَيْسَ الْإِجْمَاع مُنْعَقِدًا عَلَى إِبَاحَة جَمْع الْمَال مِنْ حِلّه، فَمَا وَجْه الْخَوْف مَعَ الْإِبَاحَة ؟ أَوَيَأْذَن الشَّرْع فِي شَيْء ثُمَّ يُعَاقِب، عَلَيْهِ ؟ هَذَا قِلَّة فَهْم وَفِقْه.
ثُمَّ أَيُنْكِرُ أَبُو ذَرّ عَلَى عَبْد الرَّحْمَن، وَعَبْد الرَّحْمَن خَيْر مِنْ أَبِي ذَرّ بِمَا لَا يَتَقَارَب ؟ ثُمَّ تَعَلُّقه بِعَبْدِ الرَّحْمَن وَحْده دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبُر سَيْر الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ قَدْ خَلَّفَ طَلْحَة ثَلَاثمِائَةِ بُهَار فِي كُلّ بُهَار ثَلَاثَة قَنَاطِير.
وَالْبُهَار الْحِمْل.
وَكَانَ مَال الزُّبَيْر خَمْسِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أَلْف.
وَخَلَّفَ اِبْن مَسْعُود تِسْعِينَ أَلْفًا.
وَأَكْثَر الصَّحَابَة كَسَبُوا الْأَمْوَال وَخَلَّفُوهَا وَلَمْ يُنْكِر أَحَد مِنْهُمْ عَلَى أَحَد.
وَأَمَّا قَوْله :" إِنَّ عَبْد الرَّحْمَن يَحْبُو حَبْوًا يَوْم الْقِيَامَة " فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ مَا عَرَفَ الْحَدِيث، وَأَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ يَحْبُو عَبْد الرَّحْمَن فِي الْقِيَامَة، أَفَتَرَى مَنْ سَبَقَ وَهُوَ أَحَد الْعَشَرَة الْمَشْهُود لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمِنْ أَهْل بَدْر وَالشُّورَى يَحْبُو ؟ ثُمَّ الْحَدِيث يَرْوِيه عُمَارَة بْن زَاذَان، وَقَالَ الْبُخَارِيّ : رُبَّمَا اِضْطَرَبَ حَدِيثه.
وَقَالَ أَحْمَد : يُرْوَى عَنْ أَنَس أَحَادِيث مَنَاكِير، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ : لَا يُحْتَجّ بِهِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : ضَعِيف.
وَقَوْله :" تَرْك الْمَال الْحَلَال أَفْضَل مِنْ جَمْعه " لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَتَى صَحَّ الْقَصْد فَجَمْعه أَفْضَل بِلَا خِلَاف عِنْد الْعُلَمَاء.
وَكَانَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يَقُول : لَا خَيْر فِيمَنْ لَا يَطْلُب الْمَال، يَقْضِي بِهِ دَيْنه وَيَصُونَ بِهِ عِرْضه، فَإِنْ مَاتَ تَرَكَهُ مِيرَاثًا لِمَنْ بَعْده.
وَخَلَّفَ اِبْن الْمُسَيِّب أَرْبَعمِائَةِ دِينَار، وَخَلَّفَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ مِائَتَيْنِ، وَكَانَ يَقُول : الْمَال فِي هَذَا الزَّمَان سِلَاح.
وَمَا زَالَ السَّلَف يَمْدَحُونَ الْمَال وَيَجْمَعُونَهُ لِلنَّوَائِبِ وَإِعَانَة الْفُقَرَاء، وَإِنَّمَا تَحَامَاهُ قَوْم مِنْهُمْ إِيثَارًا لِلتَّشَاغُلِ بِالْعِبَادَاتِ، وَجَمْع الْهَمّ فَقَنَعُوا بِالْيَسِيرِ.
فَلَوْ قَالَ هَذَا الْقَائِل : إِنَّ التَّقْلِيل مِنْهُ أَوْلَى قُرْب الْأَمْر وَلَكِنَّهُ زَاحَمَ بِهِ مَرْتَبَة الْإِثْم.
قُلْت : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى حِفْظ الْأَمْوَال وَمُرَاعَاتهَا إِبَاحَة الْقِتَال دُونهَا وَعَلَيْهَا، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ قُتِلَ دُون مَاله فَهُوَ شَهِيد ).
وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أَيْ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع، وَالْمُلْك وَالسُّلْطَان، وَنُفُوذ الْأَمْر وَالْإِرَادَة.
و " مَا " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر فِي الْمَجْرُور، أَيْ كُلّ ذَلِكَ لَهُ مِلْك بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاع.
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
اِخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه " عَلَى أَقْوَال خَمْسَة :
[ الْأَوَّل ] إِنَّهَا مَنْسُوخَة، قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَالشَّعْبِيّ وَعَطَاء وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَمُوسَى بْن عُبَيْدَة وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَأَنَّهُ بَقِيَ هَذَا التَّكْلِيف حَوْلًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه الْفَرَج بِقَوْلِهِ :" لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " [ الْبَقَرَة : ٢٨٦ ].
وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَعَطَاء وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَغَيْرهمْ وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه " قَالَ : دَخَلَ قُلُوبهمْ مِنْهَا شَيْء لَمْ يَدْخُل قُلُوبهمْ مِنْ شَيْء، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا ) قَالَ : فَأَلْقَى اللَّه الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ :( قَدْ فَعَلْت ) رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلنَا قَالَ :( قَدْ فَعَلْت ) " رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " [ الْبَقَرَة : ٢٨٦ ] قَالَ :( قَدْ فَعَلْت ) : فِي رِوَايَة فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّه ثُمَّ أَنْزَلَ تَعَالَى :" لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " وَسَيَأْتِي.
[ الثَّانِي ] قَالَ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد : إِنَّهَا مُحْكَمَة مَخْصُوصَة، وَهِيَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَة الَّتِي نَهَى عَنْ كَتْمهَا، ثُمَّ أَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْكَاتِم لَهَا الْمُخْفِي مَا فِي نَفْسه مُحَاسَب.
[ الثَّالِث ] أَنَّ الْآيَة فِيمَا يَطْرَأ عَلَى النُّفُوس مِنْ الشَّكّ وَالْيَقِين، وَقَالَهُ مُجَاهِد أَيْضًا.
[ الرَّابِع ] أَنَّهَا مُحْكَمَة عَامَّة غَيْر مَنْسُوخَة، وَاَللَّه مُحَاسِب خَلْقه عَلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلُوهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي نُفُوسهمْ وَأَضْمَرُوهُ وَنَوَوْهُ وَأَرَادُوهُ، فَيَغْفِر لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَأْخُذ بِهِ أَهْل الْكُفْر وَالنِّفَاق، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم، وَأُدْخِلَ عَنْ اِبْن عَبَّاس مَا يُشْبِه هَذَا.
رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : لَمْ تُنْسَخ، وَلَكِنْ إِذَا جَمَعَ اللَّه الْخَلَائِق يَقُول :( إِنِّي أُخْبِركُمْ بِمَا أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسكُمْ ) فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرهُمْ ثُمَّ يَغْفِر لَهُمْ، وَأَمَّا أَهْل الشَّكّ وَالرَّيْب فَيُخْبِرهُمْ بِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ التَّكْذِيب، فَذَلِكَ قَوْله :" يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه فَيَغْفِر لِمَنْ يَشَاء وَيُعَذِّب مَنْ يَشَاء " [ الْبَقَرَة : ٢٨٤ ] وَهُوَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبكُمْ " [ الْبَقَرَة : ٢٢٥ ] مِنْ الشَّكّ وَالنِّفَاق.
وَقَالَ الضَّحَّاك : يُعْلِمهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة بِمَا كَانَ يُسِرّهُ لِيُعْلِم أَنَّهُ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ.
وَفِي الْخَبَر :( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة هَذَا يَوْم تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِر وَتُخْرَج الضَّمَائِر وَأَنَّ كُتَّابِي لَمْ يَكْتُبُوا إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالكُمْ وَأَنَا الْمُطَّلِع عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُخْبَرُوهُ وَلَا كَتَبُوهُ فَأَنَا أُخْبِركُمْ بِذَلِكَ وَأُحَاسِبكُمْ عَلَيْهِ فَأَغْفِر لِمَنْ أَشَاء وَأُعَذِّب مَنْ أَشَاء ) فَيَغْفِر لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُعَذِّب الْكَافِرِينَ، وَهَذَا أَصَحّ مَا فِي الْبَاب، يَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث النَّجْوَى عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه، لَا يُقَال : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ ).
فَإِنَّا نَقُول : ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى أَحْكَام الدُّنْيَا، مِثْل الطَّلَاق وَالْعَتَاق وَالْبَيْع الَّتِي لَا يَلْزَمهُ حُكْمهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّم بِهِ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَة فِيمَا يُؤَاخَذ الْعَبْد بِهِ بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَة.
وَقَالَ الْحَسَن : الْآيَة مُحْكَمَة لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
قَالَ الطَّبَرِيّ : وَقَالَ آخَرُونَ نَحْو هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ الْعَذَاب الَّذِي يَكُون جَزَاء لِمَا خَطَرَ فِي النُّفُوس وَصَحِبَهُ الْفِكْر إِنَّمَا هُوَ بِمَصَائِب الدُّنْيَا وَآلَامهَا وَسَائِر مَكَارِههَا.
ثُمَّ أُسْنِدَ عَنْ عَائِشَة نَحْو هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ [ الْقَوْل الْخَامِس ] : وَرَجَّحَ الطَّبَرِيّ أَنَّ الْآيَة مُحْكَمَة غَيْر مَنْسُوخَة : قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ " مَعْنَاهُ مِمَّا هُوَ فِي وُسْعكُمْ وَتَحْت كَسْبكُمْ، وَذَلِكَ اِسْتِصْحَاب الْمُعْتَقَد وَالْفِكْر، فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظ مِمَّا يُمْكِن أَنْ تَدْخُل فِيهِ الْخَوَاطِر أَشْفَقَ الصَّحَابَة وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ اللَّه لَهُمْ مَا أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى، وَخَصَّصَهَا وَنَصَّ عَلَى حُكْمه أَنَّهُ لَا يُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا، وَالْخَوَاطِر لَيْسَتْ هِيَ وَلَا دَفْعهَا فِي الْوُسْع، بَلْ هِيَ أَمْر غَالِب وَلَيْسَتْ مِمَّا يُكْتَسَب، فَكَانَ فِي هَذَا الْبَيَان فَرَجهمْ وَكَشْف كُرَبهمْ، وَبَاقِي الْآيَة مُحْكَمَة لَا نَسْخ فِيهَا : وَمِمَّا يَدْفَع أَمْر النَّسْخ أَنَّ الْآيَة خَبَر وَالْأَخْبَار لَا يَدْخُلهَا النَّسْخ، فَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِب إِلَى تَقْدِير النَّسْخ فَإِنَّمَا يَتَرَتَّب لَهُ فِي الْحُكْم الَّذِي لَحِقَ الصَّحَابَة حِين فَزِعُوا مِنْ الْآيَة، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَهُمْ :( قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) يَجِيء مِنْهُ الْأَمْر بِأَنْ يَثْبُتُوا عَلَى هَذَا وَيَلْتَزِمُوهُ وَيَنْتَظِرُوا لُطْف اللَّه فِي الْغُفْرَان.
فَإِذَا قُرِّرَ هَذَا الْحُكْم فَصَحِيح وُقُوع النَّسْخ فِيهِ، وَتُشْبِه الْآيَة حِينَئِذٍ قَوْله تَعَالَى :" إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ " [ الْأَنْفَال : ٦٥ ] فَهَذَا لَفْظه الْخَبَر وَلَكِنْ مَعْنَاهُ اِلْتَزِمُوا هَذَا وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ وَاصْبِرُوا بِحَسْبِهِ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْد ذَلِكَ.
وَأَجْمَعَ النَّاس فِيمَا عَلِمْت عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة فِي الْجِهَاد مَنْسُوخَة بِصَبْرِ الْمِائَة لِلْمِائَتَيْنِ.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الْآيَة فِي " الْبَقَرَة " أَشْبَه شَيْء بِهَا.
وَقِيلَ : فِي الْكَلَام إِضْمَار وَتَقْيِيد، تَقْدِيره يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه إِنْ شَاءَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخ.
وَقَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْآيَة وَأَشْبَه بِالظَّاهِرِ قَوْل اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا عَامَّة، ثُمَّ أُدْخِلَ حَدِيث اِبْن عُمَر فِي النَّجْوَى، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا، وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ( يُدْنَى الْمُؤْمِن يَوْم الْقِيَامَة مِنْ رَبّه جَلَّ وَعَزَّ حَتَّى يَضَع عَلَيْهِ كَنَفه فَيُقْرِرْهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُول هَلْ تَعْرِف فَيَقُول أَيْ رَبّ أَعْرِف قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرهَا لَك الْيَوْم فَيُعْطَى صَحِيفَة حَسَنَاته وَأَمَّا الْكُفَّار وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوس الْخَلَائِق هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّه ).
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَإِنْ تُعْلِنُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ وِلَايَة الْكُفَّار أَوْ تُسِرُّوهَا يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه، قَالَهُ الْوَاقِدِيّ وَمُقَاتِل.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ( آل عِمْرَان ) " قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُوركُمْ أَوْ تُبْدُوهُ " مِنْ وِلَايَة الْكُفَّار " يَعْلَمهُ اللَّه " [ آل عِمْرَان : ٢٩ ] يَدُلّ عَلَيْهِ مَا قَبْله مِنْ قَوْله :" لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ " [ آل عِمْرَان : ٢٨ ].
قُلْت : وَهَذَا فِيهِ بُعْد، لِأَنَّ سِيَاق الْآيَة لَا يَقْتَضِيه، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بَيِّن فِي " آل عِمْرَان " وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : بَلَغَنِي أَنَّ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام كَانُوا يَأْتُونَ قَوْمهمْ بِهَذِهِ الْآيَة " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه ".
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
قَرَأَ اِبْن كَثِير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " فَيَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ " بِالْجَزْمِ عَطْف عَلَى الْجَوَاب.
وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم بِالرَّفْعِ، فِيهِمَا عَلَى الْقَطْع، أَيْ فَهُوَ يَغْفِر وَيُعَذِّب.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْأَعْرَج وَأَبِي الْعَالِيَة وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى إِضْمَار " أَنْ ".
وَحَقِيقَته أَنَّهُ عَطْف عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى :" فَيُضَاعِفهُ لَهُ " وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَالْعَطْف عَلَى اللَّفْظ أَجْوَد لِلْمُشَاكَلَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
وَمَتَى مَا يَعِ مِنْك كَلَامًا يَتَكَلَّم فَيُجِبْك بِعَقْلِ
قَالَ النَّحَّاس : وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه يَغْفِر " بِغَيْرِ فَاء عَلَى الْبَدَل.
اِبْن عَطِيَّة : وَبِهَا قَرَأَ الْجُعْفِيّ وَخَلَّاد.
وَرُوِيَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود.
قَالَ اِبْن جِنِّي : هِيَ عَلَى الْبَدَل مِنْ " يُحَاسِبكُمْ " وَهِيَ تَفْسِير الْمُحَاسَبَة، وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِر :
رُوَيْدًا بَنِي شَيْبَان بَعْض وَعِيدكُمْ تُلَاقُوا غَدًا خَيْلِي عَلَى سَفَوَان تُلَاقُوا جِيَادًا لَا تَحِيد عَنْ الْوَغَى إِذَا مَا غَدَتْ فِي الْمَأْزِق الْمُتَدَانِي
فَهَذَا عَلَى الْبَدَل.
وَكَرَّرَ الشَّاعِر الْفِعْل ; لِأَنَّ الْفَائِدَة فِيمَا يَلِيه مِنْ الْقَوْل.
قَالَ النَّحَّاس : وَأَجْوَد مِنْ الْجَزْم لَوْ كَانَ بِلَا فَاء الرَّفْع، يَكُون فِي مَوْضِع الْحَال، كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْء نَاره تَجِد خَيْر نَار عِنْدهَا خَيْر مُوقِد
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
عُمُوم وَمَعْنَاهُ عِنْد الْمُتَكَلِّمِينَ فِيمَا يَجُوز وَصْفه تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَسْمِيَة اللَّه تَعَالَى بِالْقَدِيرِ، فَهُوَ سُبْحَانه قَدِير قَادِر مُقْتَدِر.
وَالْقَدِير أَبْلَغ فِي الْوَصْف مِنْ الْقَادِر، قَالَ الزَّجَّاجِيّ.
وَقَالَ الْهَرَوِيّ : وَالْقَدِير وَالْقَادِر بِمَعْنًى وَاحِد، يُقَال : قَدَرْت عَلَى الشَّيْء أَقْدِر قَدْرًا وَقَدَرًا وَمَقْدِرَة وَمَقْدُرَة وَقُدْرَانًا، أَيْ قُدْرَة وَالِاقْتِدَار عَلَى الشَّيْء الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَاَللَّه جَلَّ وَعَزَّ قَادِر مُقْتَدِر قَدِير عَلَى كُلّ مُمْكِن يَقْبَل الْوُجُود وَالْعَدَم.
فَيَجِب عَلَى كُلّ مُكَلَّف أَنْ يَعْلَم أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِر، لَهُ قُدْرَة بِهَا فَعَلَ وَيَفْعَل مَا يَشَاء عَلَى وَفْق عِلْمه وَاخْتِيَاره وَيَجِب عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَعْلَم أَنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَة يَكْتَسِب بِهَا مَا أَقْدَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَة، وَأَنَّهُ غَيْر مُسْتَبِدّ بِقُدْرَتِهِ
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة كَانَتْ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَقَالَ بَعْضهمْ : جَمِيع الْقُرْآن نَزَلَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْآيَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ الَّذِي سَمِعَ لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج ; لِأَنَّ لَيْلَة الْمِعْرَاج كَانَتْ بِمَكَّة وَهَذِهِ السُّورَة كُلّهَا مَدَنِيَّة، فَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ لَيْلَة الْمِعْرَاج قَالَ : لَمَّا صَعِدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَ فِي السَّمَوَات فِي مَكَان مُرْتَفِع وَمَعَهُ جِبْرِيل حَتَّى جَاوَزَ سِدْرَة الْمُنْتَهَى فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : إِنِّي لَمْ أُجَاوِز هَذَا الْمَوْضِع وَلَمْ يُؤْمَر بِالْمُجَاوَزَةِ أَحَد هَذَا الْمَوْضِع غَيْرك فَجَاوَزَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِع الَّذِي شَاءَ اللَّه، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيل بِأَنْ سَلِّمْ عَلَى رَبّك، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : التَّحِيَّات لِلَّهِ وَالصَّلَوَات وَالطَّيِّبَات.
قَالَ اللَّه تَعَالَى : السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُون لِأُمَّتِهِ حَظّ فِي السَّلَام فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ، فَقَالَ جِبْرِيل وَأَهْل السَّمَوَات كُلّهمْ : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" آمَنَ الرَّسُول " عَلَى مَعْنَى الشُّكْر أَيْ صَدَّقَ الرَّسُول " بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَارِك أُمَّته فِي الْكَرَامَة وَالْفَضِيلَة فَقَالَ :" وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْ رُسُله " يَعْنِي يَقُولُونَ آمَنَّا بِجَمِيعِ الرُّسُل وَلَا نَكْفُر بِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا نُفَرِّق بَيْنهمْ كَمَا فَرَّقَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ رَبّه كَيْف قَبُولهمْ بِآيِ الَّذِي أَنْزَلْتهَا ؟ وَهُوَ قَوْله :" إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير يَعْنِي الْمَرْجِع.
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى عِنْد ذَلِكَ :" لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " يَعْنِي طَاقَتهَا وَيُقَال : إِلَّا دُون طَاقَتهَا.
" لَهَا مَا كَسَبَتْ " مِنْ الْخَيْر " وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " مِنْ الشَّرّ، فَقَالَ جِبْرِيل عِنْد ذَلِكَ : سَلْ تُعْطَهُ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا " يَعْنِي إِنْ جَهِلْنَا " أَوْ أَخْطَأْنَا " يَعْنِي إِنْ تَعَمَّدْنَا، وَيُقَال : إِنْ عَمِلْنَا بِالنِّسْيَانِ، وَالْخَطَأ.
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : قَدْ أُعْطِيت ذَلِكَ قَدْ رُفِعَ عَنْ أُمَّتك الْخَطَأ وَالنِّسْيَان.
فَسَلْ شَيْئًا آخَر فَقَالَ :" رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا " يَعْنِي ثِقَلًا " كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلنَا " وَهُوَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الطَّيِّبَات بِظُلْمِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا أَذْنَبُوا بِاللَّيْلِ وَجَدُوا ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابهمْ، وَكَانَتْ الصَّلَوَات عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ، فَخَفَّفَ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَحَطَّ عَنْهُمْ بَعْدَمَا فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاة.
ثُمَّ قَالَ :" رَبّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ " يَقُول : لَا تُثْقِلنَا مِنْ الْعَمَل مَا لَا نُطِيق فَتُعَذِّبنَا، وَيُقَال : مَا تَشُقّ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِخَمْسِينَ صَلَاة لَكَانُوا يُطِيقُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَشُقّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُونَ الْإِدَامَة عَلَيْهِ " وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ ذَلِكَ كُلّه " وَاغْفِرْ لَنَا " وَتَجَاوَزْ عَنَّا، وَيُقَال :" وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ الْمَسْخ " وَاغْفِرْ لَنَا " مِنْ الْخَسْف " وَارْحَمْنَا " مِنْ الْقَذْف ; لِأَنَّ الْأُمَم الْمَاضِيَة بَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْمَسْخ وَبَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْخَسْف وَبَعْضهمْ الْقَذْف ثُمَّ قَالَ :" أَنْتَ مَوْلَانَا " يَعْنِي وَلِيّنَا وَحَافِظنَا " فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَته.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَة شَهْر ) وَيُقَال إِنَّ الْغُزَاة : إِذَا خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَة وَضَرَبُوا بِالطَّبْلِ وَقَعَ الرُّعْب وَالْهَيْبَة فِي قُلُوب الْكُفَّار مَسِيرَة شَهْر فِي شَهْر، عَلِمُوا بِخُرُوجِهِمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ أَوْحَى اللَّه هَذِهِ الْآيَات، لِيُعْلِم أُمَّته بِذَلِكَ.
وَلِهَذِهِ الْآيَة تَفْسِير آخَر، قَالَ الزَّجَّاج : لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَة فَرْض الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَبَيَّنَ أَحْكَام الْحَجّ وَحُكْم الْحَيْض وَالطَّلَاق وَالْإِيلَاء وَأَقَاصِيص الْأَنْبِيَاء وَبَيَّنَ حُكْم الرِّبَا، ذَكَرَ تَعْظِيمه سُبْحَانه بِقَوْلِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى :" لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض " ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيق نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيق الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ :" آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " أَيْ صَدَّقَ الرَّسُول بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي جَرَى ذِكْرهَا وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كُلّهمْ صَدَّقُوا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله.
وَقِيلَ سَبَب نُزُولهَا الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا وَهِيَ :" لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه فَيَغْفِر لِمَنْ يَشَاء وَيُعَذِّب مَنْ يَشَاء وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " [ الْمَائِدَة : ٢٨٤ ] فَإِنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ هَذَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَب فَقَالُوا : أَيْ رَسُول اللَّه، كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَال مَا نُطِيق : الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْجِهَاد وَالصَّدَقَة، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك هَذِهِ الْآيَة وَلَا نُطِيقهَا.
قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير ) فَقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير.
فَلَمَّا اِقْتَرَأَهَا الْقَوْم ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتهمْ فَأَنْزَلَ اللَّه فِي إِثْرهَا :" آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْ رُسُله وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير " [ الْبَقَرَة : ٢٨٥ ].
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّه، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " " رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " قَالَ :( نَعَمْ " رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلنَا " قَالَ :( نَعَمْ ) " رَبّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ " قَالَ :( نَعَمْ ) " وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " قَالَ :( نَعَمْ ).
أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى ( قَدْ فَعَلْت ) وَهُنَا قَالَ :( نَعَمْ ) دَلِيل عَلَى نَقْل الْحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَلَمَّا تَقَرَّرَ الْأَمْر عَلَى أَنْ قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، مَدَحَهُمْ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَة، وَرَفَعَ الْمَشَقَّة فِي أَمْر الْخَوَاطِر عَنْهُمْ، وَهَذِهِ ثَمَرَة الطَّاعَة وَالِانْقِطَاع إِلَى اللَّه تَعَالَى، كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيل ضِدّ ذَلِكَ مِنْ ذَمّهمْ وَتَحْمِيلهمْ الْمَشَقَّات مِنْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة وَالِانْجِلَاء إِذْ قَالُوا : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَهَذِهِ ثَمَرَة الْعِصْيَان وَالتَّمَرُّد عَلَى اللَّه تَعَالَى، أَعَاذَنَا اللَّه مِنْ نِقَمه بِمَنِّهِ وَكَرَمه.
وَفِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : إِنَّ بَيْت ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس، يَزْهَر كُلّ لَيْلَة بِمَصَابِيح.
قَالَ :( فَلَعَلَّهُ يَقْرَأ سُورَة الْبَقَرَة ) فَسُئِلَ ثَابِت قَالَ : قَرَأْت مِنْ سُورَة الْبَقَرَة " آمَنَ الرَّسُول " نَزَلَتْ حِين شَقَّ عَلَى أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَوَعَّدَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنْ مُحَاسَبَتهمْ.
عَلَى مَا أَخْفَتْهُ نُفُوسهمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيل ) قَالُوا : بَلْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ثَنَاء عَلَيْهِمْ :" آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَحَقّ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا ).
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
" آمَنَ " أَيْ صَدَّقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَاَلَّذِي أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآن.
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ " عَلَى اللَّفْظ، وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن " آمَنُوا " عَلَى الْمَعْنَى.
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَابْن عَامِر " وَكُتُبه " عَلَى الْجَمْع.
وَقَرَءُوا فِي " التَّحْرِيم " كِتَابه، عَلَى التَّوْحِيد.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو هُنَا وَفِي " التَّحْرِيم " و " كُتُبه " عَلَى الْجَمْع.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَكِتَابه " عَلَى التَّوْحِيد فِيهِمَا.
فَمَنْ جَمَعَ أَرَادَ جَمْع كِتَاب، وَمَنْ أَفْرَدَ أَرَادَ الْمَصْدَر الَّذِي يَجْمَع كُلّ مَكْتُوب كَانَ نُزُوله مِنْ عِنْد اللَّه.
وَيَجُوز فِي قِرَاءَة مَنْ وَحَّدَ أَنْ يُرَاد بِهِ الْجَمْع يَكُون الْكِتَاب اِسْمًا لِلْجِنْسِ فَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَبَعَثَ اللَّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَاب " [ الْبَقَرَة : ٢١٣ ].
قَرَأَتْ الْجَمَاعَة " وَرُسُله " بِضَمِّ السِّين، وَكَذَلِكَ " رُسُلنَا وَرُسُلكُمْ وَرُسُلك "، إِلَّا أَبَا عَمْرو فَرُوِيَ عَنْهُ تَخْفِيف " رُسْلنَا وَرُسْلكُمْ "، وَرُوِيَ عَنْهُ فِي " رُسُلك " التَّثْقِيل وَالتَّخْفِيف.
قَالَ أَبُو عَلِيّ : مَنْ قَرَأَ " رُسُلك " بِالتَّثْقِيلِ فَذَلِكَ أَصْل الْكَلِمَة، وَمَنْ خَفَّفَ فَكَمَا يُخَفِّف فِي الْآحَاد، مِثْل عُنْق وَطُنْب.
وَإِذَا خَفَّفَ فِي الْآحَاد فَذَلِكَ أَحْرَى فِي الْجَمْع الَّذِي هُوَ أَثْقَل، وَقَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيّ.
وَقَرَأَ جُمْهُور النَّاس " لَا نُفَرِّق " بِالنُّونِ، وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ لَا نُفَرِّق، فَحَذَفَ الْقَوْل، وَحَذْف الْقَوْل كَثِير، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَالْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَاب.
سَلَام عَلَيْكُمْ " [ الرَّعْد : ٢٣ ] : أَيْ يَقُولُونَ سَلَام عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ :" وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض رَبّنَا مَا خَلَقْت هَذَا بَاطِلًا " [ آل عِمْرَان : ١٩١ ] أَيْ يَقُولُونَ، رَبّنَا، وَمَا كَانَ مِثْله.
وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَيَحْيَى بْن يَعْمُر وَأَبُو زُرْعَة بْن عَمْرو بْن جَرِير وَيَعْقُوب " لَا يُفَرِّق " بِالْيَاءِ، وَهَذَا عَلَى لَفْظ كُلّ.
قَالَ هَارُون : وَهِيَ فِي حَرْف اِبْن مَسْعُود " لَا يُفَرِّقُونَ ".
وَقَالَ " بَيْن أَحَد " عَلَى الْإِفْرَاد وَلَمْ يَقُلْ آحَاد، لِأَنَّ الْأَحَد يَتَنَاوَل الْوَاحِد وَالْجَمِيع، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ " [ الْحَاقَّة : ٤٧ ] ف " حَاجِزِينَ " صِفَة لِأَحَدٍ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْع.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا أُحِلَّتْ الْغَنَائِم لِأَحَدِ سُود الرُّءُوس غَيْركُمْ ) وَقَالَ رُؤْبَة :
إِذَا أُمُور النَّاس دِينَتْ دِينَكَا لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا مِنْ دُونِكَا
وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَة : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
فِيهِ حَذْف، أَيْ سَمِعْنَا سَمَاع قَابِلِينَ.
وَقِيلَ : سَمِعَ بِمَعْنَى قَبِلَ، كَمَا يُقَال : سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ فَلَا يَكُون فِيهِ حَذْف.
وَعَلَى الْجُمْلَة فَهَذَا الْقَوْل يَقْتَضِي الْمَدْح لِقَائِلِهِ.
وَالطَّاعَة قَبُول الْأَمْر.
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا
مَصْدَر كَالْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَان، وَالْعَامِل فِيهِ فِعْل مُقَدَّر، تَقْدِيره : اِغْفِرْ غُفْرَانك، قَالَهُ الزَّجَّاج.
وَغَيْره : نَطْلُب أَوْ أَسْأَل غُفْرَانك.
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
إِقْرَار بِالْبَعْثِ وَالْوُقُوف بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة قَالَ لَهُ جِبْرِيل :( إِنَّ اللَّه قَدْ أَحَلَّ الثَّنَاء عَلَيْك وَعَلَى أُمَّتك فَسَلْ تُعْطَهُ ) فَسَأَلَ إِلَى آخِر السُّورَة.
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
التَّكْلِيف هُوَ الْأَمْر بِمَا يَشُقّ عَلَيْهِ وَتَكَلَّفْت الْأَمْر تَجَشَّمْته، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ.
وَالْوُسْع : الطَّاقَة وَالْجِدَة.
وَهَذَا خَبَر جُزِمَ.
نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلِّف الْعِبَاد مِنْ وَقْت نُزُول الْآيَة عِبَادَة مِنْ أَعْمَال الْقَلْب أَوْ الْجَوَارِح إِلَّا وَهِيَ فِي وُسْع الْمُكَلَّف وَفِي مُقْتَضَى إِدْرَاكه وَبِنْيَته، وَبِهَذَا اِنْكَشَفَتْ الْكُرْبَة عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي تَأَوُّلهمْ أَمْر الْخَوَاطِر.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة مَا حَكَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : مَا وَدِدْت أَنَّ أَحَدًا وَلَدَتْنِي أُمّه إِلَّا جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب، فَإِنِّي تَبِعْته يَوْمًا وَأَنَا جَائِع فَلَمَّا بَلَغَ، مَنْزِله لَمْ يَجِد فِيهِ سِوَى نِحْي سَمْن قَدْ بَقِيَ فِيهِ أَثَارَة فَشَقَّهُ بَيْن أَيْدِينَا، فَجَعَلْنَا نَلْعَق مَا فِيهِ مِنْ السَّمْن وَالرُّبّ وَهُوَ يَقُول :
مَا كَلَّفَ اللَّه نَفْسًا فَوْق طَاقَتهَا وَلَا تَجُود يَد إِلَّا بِمَا تَجِد
اِخْتَلَفَ النَّاس فِي جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فِي الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا، بَعْد اِتِّفَاقهمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرْع، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَة أَذِنَتْ بِعَدَمِهِ، قَالَ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عَقْلًا، وَلَا يَخْرِم ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ عَقَائِد الشَّرْع، وَيَكُون ذَلِكَ أَمَارَة عَلَى تَعْذِيب الْمُكَلَّف وَقَطْعًا بِهِ، وَيُنْظَر إِلَى هَذَا تَكْلِيف الْمُصَوِّر أَنْ يَعْقِد شَعِيرَة.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ هَلْ وَقَعَ فِي رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا ؟ فَقَالَ فِرْقَة : وَقَعَ فِي نَازِلَة أَبِي لَهَب، لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَة، وَمِنْ جُمْلَتهَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِن ; لِأَنَّهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِتَبِّ الْيَدَيْنِ وَصَلْي النَّار وَذَلِكَ مُؤْذِن بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن، فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِن بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن.
وَقَالَتْ فِرْقَة : لَمْ يَقَع قَطُّ.
وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْله تَعَالَى :" سَيَصْلَى نَارًا " [ الْمَسَد : ٣ ] مَعْنَاهُ إِنْ وَافَى، حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة.
" وَيُكَلِّف " يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا مَحْذُوف، تَقْدِيره عِبَادَة أَوْ شَيْئًا.
فَاَللَّه سُبْحَانه بِلُطْفِهِ وَإِنْعَامه عَلَيْنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ كَلَّفَنَا بِمَا يَشُقّ وَيَثْقُل كَثُبُوتِ الْوَاحِد لِلْعَشْرَةِ، وَهِجْرَة الْإِنْسَان وَخُرُوجه مِنْ وَطَنه وَمُفَارَقَة أَهْله وَوَطَنه وَعَادَته، لَكِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفنَا بِالْمَشَقَّاتِ الْمُثْقِلَة وَلَا بِالْأُمُورِ الْمُؤْلِمَة، كَمَا كَلَّفَ مَنْ قَبْلنَا بِقَتْلِ أَنْفُسهمْ وَقَرْض مَوْضِع الْبَوْل مِنْ ثِيَابهمْ وَجُلُودهمْ، بَلْ سَهَّلَ وَرَفَقَ وَوَضَعَ عَنَّا الْإِصْر وَالْأَغْلَال الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلنَا.
فَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة، وَالْفَضْل وَالنِّعْمَة.
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
يُرِيد مِنْ الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات قَالَهُ السُّدِّيّ.
وَجَمَاعَة الْمُفَسِّرِينَ لَا خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ، قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة.
وَهُوَ مِثْل قَوْله :" وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " [ الْأَنْعَام : ١٦٤ ] " وَلَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا " [ الْأَنْعَام : ١٦٤ ].
وَالْخَوَاطِر وَنَحْوهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْب الْإِنْسَان.
وَجَاءَتْ الْعِبَارَة فِي الْحَسَنَات ب " لَهَا " مِنْ حَيْثُ هِيَ مِمَّا، يَفْرَح الْمَرْء بِكَسْبِهِ وَيُسَرّ بِهَا، فَتُضَاف إِلَى مِلْكه وَجَاءَتْ فِي السَّيِّئَات ب " عَلَيْهَا " مِنْ حَيْثُ هِيَ أَثْقَال وَأَوْزَار وَمُتَحَمَّلَات صَعْبَة، وَهَذَا كَمَا تَقُول : لِي مَال وَعَلَيَّ دَيْن.
وَكَرَّرَ فِعْل الْكَسْب فَخَالَفَ بَيْن التَّصْرِيف حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَام، كَمَا قَالَ :" فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا " [ الطَّارِق : ١٧ ].
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَظْهَر لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَات هِيَ مِمَّا تُكْتَسَب دُون تَكَلُّف، إِذْ كَاسِبهَا عَلَى جَادَّة أَمْر اللَّه تَعَالَى وَرَسْم شَرْعه، وَالسَّيِّئَات تُكْتَسَب بِبِنَاءِ الْمُبَالَغَة، إِذْ كَاسِبهَا يَتَكَلَّف فِي أَمْرهَا خَرْق حِجَاب نَهْي اللَّه تَعَالَى وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا، فَيَحْسُن فِي الْآيَة مَجِيء التَّصْرِيفَيْنِ إِحْرَازًا، لِهَذَا الْمَعْنَى.
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى صِحَّة إِطْلَاق أَئِمَّتنَا عَلَى أَفْعَال الْعِبَاد كَسْبًا وَاكْتِسَابًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطْلِقُوا عَلَى ذَلِكَ لَا خَلق وَلَا خَالِق، خِلَافًا لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ مِنْ مُجْتَرِئَة الْمُبْتَدِعَة.
وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَئِمَّتنَا ذَلِكَ عَلَى الْعَبْد، وَأَنَّهُ فَاعِل فَبِالْمَجَازِ الْمَحْض.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ وَغَيْره : وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَة لَا يُؤَاخَذ أَحَد بِذَنْبِ أَحَد.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا صَحِيح فِي نَفْسه وَلَكِنْ مِنْ غَيْر هَذِهِ الْآيَة.
قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : قَوْله تَعَالَى :" لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْره بِمُثْقَلٍ أَوْ بِخَنْقٍ أَوْ تَغْرِيق فَعَلَيْهِ ضَمَانه قِصَاصًا أَوْ دِيَة، فَخِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ دِيَته عَلَى الْعَاقِلَة، وَذَلِكَ يُخَالِف الظَّاهِر، وَيَدُلّ عَلَى أَنَّ سُقُوط الْقِصَاص عَنْ الْأَب لَا يَقْتَضِي سُقُوطه عَنْ شَرِيكه.
وَيَدُلّ عَلَى وُجُوب الْحَدّ عَلَى الْعَاقِلَة إِذَا مَكَّنَتْ مَجْنُونًا مِنْ نَفْسهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ :" ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَة فِي أَنَّ الْقَوَد وَاجِب عَلَى شَرِيك الْأَب خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة، وَعَلَى شَرِيك الْخَاطِئ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا قَدْ اِكْتَسَبَ الْقَتْل.
وَقَالُوا : إِنَّ اِشْتَرَاك مَنْ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْقِصَاص مَعَ مَنْ يَجِب عَلَيْهِ الْقِصَاص لَا يَكُون شُبْهَة فِي دَرْء مَا يُدْرَأ بِالشُّبْهَةِ ".
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
الْمَعْنَى : اُعْفُ عَنْ إِثْم مَا يَقَع مِنَّا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ أَحَدهمَا، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ) أَيْ إِثْم ذَلِكَ.
وَهَذَا لَمْ يُخْتَلَف فِيهِ أَنَّ الْإِثْم مَرْفُوع، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّق عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام، هَلْ ذَلِكَ مَرْفُوع لَا يَلْزَم مِنْهُ شَيْء أَوْ يَلْزَم أَحْكَام ذَلِكَ كُلّه ؟ اِخْتَلَفَ فِيهِ.
وَالصَّحِيح أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِف بِحَسَبِ الْوَقَائِع، فَقِسْم لَا يَسْقُط بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ وَالدِّيَات وَالصَّلَوَات الْمَفْرُوضَات.
وَقِسْم يَسْقُط بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْق بِكَلِمَةِ الْكُفْر.
وَقِسْم ثَالِث يُخْتَلَف فِيهِ كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَان أَوْ حَنِثَ سَاهِيًا، وَمَا كَانَ مِثْله مِمَّا يَقَع خَطَأ وَنِسْيَانًا، وَيُعْرَف ذَلِكَ فِي الْفُرُوع.
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
أَيْ ثِقْلًا قَالَ مَالِك وَالرَّبِيع : الْإِصْر الْأَمْر الْغَلِيظ الصَّعْب.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْإِصْر شِدَّة الْعَمَل.
وَمَا غَلُظَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ الْبَوْل وَنَحْوه، قَالَ الضَّحَّاك : كَانُوا يَحْمِلُونَ أُمُورًا شِدَادًا، وَهَذَا نَحْو قَوْل مَالِك وَالرَّبِيع، وَمِنْهُ قَوْل النَّابِغَة :
يَا مَانِع الضَّيْم أَنْ يَغْشَى سَرَاتهمْ وَالْحَامِل الْإِصْر عَنْهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا
عَطَاء : الْإِصْر الْمَسْخ قِرَدَة وَخَنَازِير، وَقَالَهُ اِبْن زَيْد أَيْضًا.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ الذَّنْب الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوْبَة وَلَا كَفَّارَة.
وَالْإِصْر فِي اللُّغَة الْعَهْد، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ".
[ آل عِمْرَان : ٨١ ] وَالْإِصْر : الضِّيق وَالذَّنْب وَالثِّقَل.
وَالْإِصَار : الْحَبْل الَّذِي تُرْبَط بِهِ الْأَحْمَال وَنَحْوهَا، يُقَال : أَصَرَ يَأْصِر أَصْرًا حَبَسَهُ.
وَالْإِصْر - بِكَسْرِ الْهَمْزَة - مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْمَوْضِع مَأْصِر وَمَأْصَر وَالْجَمْع مَآصِر، وَالْعَامَّة تَقُول مَعَاصِر.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَيُمْكِن أَنْ يُسْتَدَلّ بِهَذَا الظَّاهِر فِي كُلّ عِبَادَة اِدَّعَى الْخَصْم تَثْقِيلهَا، فَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى :" وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٧٨ ] وَكَقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الدِّين يُسْر فَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ).
اللَّهُمَّ شُقَّ عَلَى مَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْت : وَنَحْوه قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ قَالَ : يُحْتَجّ بِهِ فِي نَفْي الْحَرَج وَالضِّيق الْمُنَافِي ظَاهِره لِلْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة، وَهَذَا بَيِّن.
رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة كَانَتْ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَقَالَ بَعْضهمْ : جَمِيع الْقُرْآن نَزَلَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْآيَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ الَّذِي سَمِعَ لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي قِصَّة الْمِعْرَاج ; لِأَنَّ لَيْلَة الْمِعْرَاج كَانَتْ بِمَكَّة وَهَذِهِ السُّورَة كُلّهَا مَدَنِيَّة، فَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ لَيْلَة الْمِعْرَاج قَالَ : لَمَّا صَعِدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَ فِي السَّمَوَات فِي مَكَان مُرْتَفِع وَمَعَهُ جِبْرِيل حَتَّى جَاوَزَ سِدْرَة الْمُنْتَهَى فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : إِنِّي لَمْ أُجَاوِز هَذَا الْمَوْضِع وَلَمْ يُؤْمَر بِالْمُجَاوَزَةِ أَحَد هَذَا الْمَوْضِع غَيْرك فَجَاوَزَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِع الَّذِي شَاءَ اللَّه، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيل بِأَنْ سَلِّمْ عَلَى رَبّك، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : التَّحِيَّات لِلَّهِ وَالصَّلَوَات وَالطَّيِّبَات.
قَالَ اللَّه تَعَالَى : السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُون لِأُمَّتِهِ حَظّ فِي السَّلَام فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ، فَقَالَ جِبْرِيل وَأَهْل السَّمَوَات كُلّهمْ : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" آمَنَ الرَّسُول " عَلَى مَعْنَى الشُّكْر أَيْ صَدَّقَ الرَّسُول " بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّه " فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَارِك أُمَّته فِي الْكَرَامَة وَالْفَضِيلَة فَقَالَ :" وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْ رُسُله " يَعْنِي يَقُولُونَ آمَنَّا بِجَمِيعِ الرُّسُل وَلَا نَكْفُر بِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا نُفَرِّق بَيْنهمْ كَمَا فَرَّقَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ رَبّه كَيْف قَبُولهمْ بِآيِ الَّذِي أَنْزَلْتهَا ؟ وَهُوَ قَوْله :" إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانك رَبّنَا وَإِلَيْك الْمَصِير يَعْنِي الْمَرْجِع.
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى عِنْد ذَلِكَ :" لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " يَعْنِي طَاقَتهَا وَيُقَال : إِلَّا دُون طَاقَتهَا.
" لَهَا مَا كَسَبَتْ " مِنْ الْخَيْر " وَعَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ " مِنْ الشَّرّ، فَقَالَ جِبْرِيل عِنْد ذَلِكَ : سَلْ تُعْطَهُ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" رَبّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا " يَعْنِي إِنْ جَهِلْنَا " أَوْ أَخْطَأْنَا " يَعْنِي إِنْ تَعَمَّدْنَا، وَيُقَال : إِنْ عَمِلْنَا بِالنِّسْيَانِ، وَالْخَطَأ.
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : قَدْ أُعْطِيت ذَلِكَ قَدْ رُفِعَ عَنْ أُمَّتك الْخَطَأ وَالنِّسْيَان.
فَسَلْ شَيْئًا آخَر فَقَالَ :" رَبّنَا وَلَا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا " يَعْنِي ثِقَلًا " كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا " وَهُوَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الطَّيِّبَات بِظُلْمِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا أَذْنَبُوا بِاللَّيْلِ وَجَدُوا ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابهمْ، وَكَانَتْ الصَّلَوَات عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ، فَخَفَّفَ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَحَطَّ عَنْهُمْ بَعْدَمَا فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاة.
ثُمَّ قَالَ :" رَبّنَا وَلَا تُحَمِّلنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ " يَقُول : لَا تُثْقِلنَا مِنْ الْعَمَل مَا لَا نُطِيق فَتُعَذِّبنَا، وَيُقَال : مَا تَشُقّ عَلَيْنَا ; لِأَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِخَمْسِينَ صَلَاة لَكَانُوا يُطِيقُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَشُقّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُونَ الْإِدَامَة عَلَيْهِ " وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ ذَلِكَ كُلّه " وَاغْفِرْ لَنَا " وَتَجَاوَزْ عَنَّا، وَيُقَال :" وَاعْفُ عَنَّا " مِنْ الْمَسْخ " وَاغْفِرْ لَنَا " مِنْ الْخَسْف " وَارْحَمْنَا " مِنْ الْقَذْف ; لِأَنَّ الْأُمَم الْمَاضِيَة بَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْمَسْخ وَبَعْضهمْ أَصَابَهُمْ الْخَسْف وَبَعْضهمْ الْقَذْف ثُمَّ قَالَ :" أَنْتَ مَوْلَانَا " يَعْنِي وَلِيّنَا وَحَافِظنَا " فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ " فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَته.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
-
© 2024