يقول تعالى منبهاً على شرف إبراهيم خليلة عليه السلام، وأن الله تعالى جعله إماماً للناس يقتدى به في التوحيد، حين قام به كلّفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي، ولهذا قال :
﴿ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذي ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها... واذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي اختباره لهم بما كلفه به من الأوامر والنواهي
﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ أي قام بهن كلهن كما قالت تعالى
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ [ النجم : ٣٧ ] أي وفى جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه. وقال تعالى :
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ النحل : ١٢٠-١٢١ ] وقال تعالى :
﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين * إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾ [ آل عمران : ٦٧-٦٨ ].
وقوله تعالى
﴿ بِكَلِمَاتٍ ﴾ أي بشرائع وأوامر ونواه،
﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ أي قام بهن، قال :
﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ أي جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة وإماماً يقتدى به ويحتذى حذوه.
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام، فروي عن ابن عباس قال : ابتلاه الله بالمناسك، وروي عنه قال : ابتلاه بالطهارة خمسٌ في الرأس، وخمسٌ في الجسد، في الرأس : قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد : تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء. وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :
« الفطرة خمس : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط ».
وقال عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم، قال الله تعالى :
﴿ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾، قلت له : وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال : الإسلام ثلاثون سهماً منها عشر آيات في براءة :
﴿ التائبون العابدون ﴾ [ الآية : ١١٢ ] إلى آخر الآية، وعشر آيات في أول سورة
﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾ [ المؤمنون : ١ ] وعشر آيات من الأحزاب :
﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات ﴾ [ الآية : ٣٥ ] إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة.
قال الله تعالى :
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ [ النجم : ٣٧ ]. وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من ووطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم، وما أمر به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له :
133
﴿ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين ﴾ [ البقرة : ١٣١ ] على ما كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن جرير : كان الحسن يقول : إي والله، لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه، ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه، والختان، فصبر على ذلك. وعن الربيع بن أنس قال : الكلمات
﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾، وقوله :
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقوله :
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقوله :
﴿ وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] الآية، وقوله :
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ [ البقرة : ١٢٧ ] الآية. قال : فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من ضاف الضيف، وأول من قلم أظفاره، وأول من قص الشارب، وأول من شاب. فلما رأى الشيب قال : ما هذا؟ قال : وقار، قال : يا رب زدني وقاراً.
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله : إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجاز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع. قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
ولما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك، وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمةً فلا يقتدى بهم
﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت :
﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ﴾ [ الآية : ٢٧ ] فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزه الله بعد إبراهيم، ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه، وأما قوله تعالى
﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ فقد اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد : لا يكون إمام ظالم يقتدى به. وعنه قال : أما من كان منهم صالحاً فأجعله إماماً يقتدى به، وأما من كان ظالماً فلا ولا نعمة عين. وعن ابن عباس قال، قال الله لإبراهيم : إني جاعلك للناس إماماً، قال : ومن ذريتي، فأبى أن يفعل، ثم قال
﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾. وروي عن قتادة في قوله
﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ قال : لا ينال عهدُ الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش.
134
وقال الربيع بن أنس : عهدُ الله الذي عهد إلى عباده دينهُ، يقول : لا ينال دينه الظالمين ألا ترى أنه قال :
﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [ الصافات : ١١٣ ] يقول ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق. وعن النبي ﷺ قال :
﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ قال :
« لا طاعة إلا في المعروف » وقال السُّدي
﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ : يقول عهدي نبوتي. فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير. وقال ابن خويز منداد : الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً.
135
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى... ﴾.
عن ابن عباس
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ﴾ قال : يثوبون إليه ثم يرجعون. وحدث عبدة بن أبي لبابة قال : لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً. قال الشاعر :
جعل البيت مثاباً لهم | ليس منه الدهرَ يقضون الوَطَر |
وقال سعيد بن جبير في الرواية الأُخرى وعكرمة وقتادة
﴿ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ﴾ : أي مجمعاً
﴿ وَأَمْناً ﴾ أي أمناً للناس، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبون.
ومضمون هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابةً للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام، في قوله :
﴿ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] إلى أن قال :
﴿ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٠ ]، ويصفه تعالى بأنه جعله أمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً. فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له. وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً وهو خليل الرحمن كما قال تعالى :
﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ﴾ [ الحج : ٢٦ ].
وقال تعالى :
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٦-٩٧ ]. وفي هذه الآية الكريمة نبّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال :
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾. وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال مجاهد عن ابن عباس : مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل : مقام إبراهيم الحج كله ( منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة )، وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير :
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ قال : الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، وقال السدي : المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. عن جعفر بن محمد عن أبيه : سمع جابراً يحدث عن حجة النبي ﷺ قال : لما طاف النبي ﷺ قال له عمر : هذا مقام أبينا؟ قال :
« نعم »، قال : أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله عزّ وجلّ :
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وقال البخاري : باب قوله
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ مثابة يثوبون : يرجعون. قال عمر بن الخطّاب : وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب.
136
قال : وبلغني معاتبة النبي ﷺ بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت : يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل الله
﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ ﴾ [ التحريم : ٥ ] الآية.
وقال أنس : قال عمر رضي الله عنه : وافقت ربي عزّ وجلّ في ثلاث، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت :
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾، وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله ﷺ نساؤه في الغيرة فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيرا منكن فنزلت كذلك. ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم.
وروى ابن جريج عن جابر : أن رسول الله ﷺ رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ :
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وقال ابن جرير عن جابر قال : استلم رسول الله ﷺ الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ :
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه. فهذا كلهم مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر، الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأُخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية :
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة | على قدميه حافياً غير ناعل |
وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب، مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب، في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله ﷺ :
137
« اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر »، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله ﷺ وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وعن مجاهد قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام، فأنزل
﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ فكان المقام عند البيت فحوَّله رسول الله ﷺ إلى موضعه هذا. وهو مخالف لما تقدم أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم.
﴿... وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم * رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم ﴾.
قال الحسن البصري : قوله تعالى
﴿ وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ : أمرهما الله أن يطهرهاه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء. وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره. والظاهر أن هذا الحرف إنما عدّي بإلى لأنه في معنى أوحينا، قوله :
﴿ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين ﴾ أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال مجاهد وعطاء وقتادة :
﴿ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ أي بلا إله إلا الله من الشرك، وأما قوله تعالى :
﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال :
﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ يعني من أتاه من غربة
﴿ والعاكفين ﴾ المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنَس أنَّهما فسَّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه. وعن ابن عباس قال : إذا كان جالساً فهو من العاكفين، وعن ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون.
138
( قلت ) : وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول ﷺ وهو عزب، وأما قوله تعالى :
﴿ والركع السجود ﴾ فقال عطاء عن ابن عباس إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود.
قال ابن جرير رحمه الله فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهيرُ الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ فالجواب من وجهين :( أحدهما ) : أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به. ( قلت ) : وهذا الجواب مفرّعٌ على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد ﷺ. ( الثاني ) : أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جلّ ثناؤه :
﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ [ التوبة : ١٠٩ ] ؟ قال فكذلك قوله :
﴿ وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى :
﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود ﴾ [ الحج : ٢٦ ] الآيات.
وقد اختلف الفقهاء أَيَّمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله : الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين، الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى :
﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة ( قيامها وركوعها وسجودها ) ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم
﴿ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام، وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين ( اليهود والنصارى ) لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى
139
﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى ﴾ [ النجم : ٤ ].
وتقدير الكلام إذن :
﴿ وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل
﴿ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود ﴾ أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى :
﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ [ النور : ٣٦ ]، ومن السنّة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام :
« إنما بنيت المساجد لما بنيت له »، وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة ولله الحمد والمنة. وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة؟ فقيل : الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة، وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها. وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
وقوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر ﴾ قال ابن جرير عن جابر بن عبد الله : قال رسول الله ﷺ :
« إن إبراهيم حرَّم بيت الله وأَمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله ﷺ، فإذا أخذه رسول الله ﷺ قال :
« اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه » ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله ﷺ لأبي طلحة :
« التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني »، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله ﷺ كلما نزل.
140
وقال في الحديث : ثم أقبل حتى بدا له أحد قال :
« هذا جبلٌ يحبنا ونحبه » فلما أشرف على المدينة قال :
« اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم »، وفي لفظ لهما :
« اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم » زاد البخاري يعني : أهل المدينة. وعن أنَس أن رسول الله ﷺ قال :
« اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة » وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :
« اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدّنا اللهم اجعل مع البركة بركتين »، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل : إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى والله أعلم.
وقد وردت أحاديث أُخر تدل على أن الله تعالى حرّم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة :
« إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها »، فقال العباس : يا رسول الله الإذخر فإنه لقَيْنهم ولبيوتهم، فقال :
« إلا الإذخر » وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله ﷺ الغد من يوم الفتح، سمعْته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
« إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله ﷺ فقولوا : إنَّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب »
141
، فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث، الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة عى أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلّغ عن الله حكمه فيها، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله ﷺ مكتوباً عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام :
﴿ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٢٩ ] وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل :
﴿ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ﴾ أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً كقوله تعالى :
﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، وقوله :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ] إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله ﷺ يقول :
« لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح »، وقال في هذه السورة :
﴿ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ﴾ أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هذا لأنه هذا هناك لأنه - والله أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا في آخر الدعاء :
﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء ﴾ [ إبراهيم : ٣٩ ].
وقوله تعالى :
﴿ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾. قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب
﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ ﴾ الآية هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله، قال : وقرأ آخرون :
﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾ فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم. قال ابن عباس :
« كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير » ثم قرأ ابن عباس :
142
﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾ [ الإسراء : ٢٠ ]، وهذا كقوله تعالى :
﴿ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩-٧٠ ]، وكقوله تعالى :
﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]، وقوله :
﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾ أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها
﴿ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾ ومعناه أن الله تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى :
﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير ﴾ [ الحج : ٤٨ ] وفي الصحيح :
« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »، ثم قرأ تعالى :
﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ].
وأما قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان :
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين : الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته إم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم، قالت : إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال :
﴿ رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] حتى بلغ
﴿ يَشْكُرُونَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ].
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنُّها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس : قال النبي ﷺ :
143
« فلذلك سعى الناس بينهما »، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت :
« صه » - تريد نفسها - ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس : قال النبي ﷺ :
« يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً ».
قال : فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيّع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في اسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال : وأُم إسماعيل عند الماء، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء عندنا، قالوا : نعم، قال ابن عباس قال النبي ﷺ :
« فألقى ذلك أُم إسماعيل وهي تحب الأنس »، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة منهم.
وماتت ( أُم إسماعيل ) فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتعي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال : إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبةَ بابه فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غيِّرْ عتبة بابك، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وتزوج منهم بأُخرى. فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا، قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت : نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عزّ وجلّ، قال : ما طعامكم؟ قالت : اللحم، قال : فما شرابكم؟ قالت : الماء، قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي ﷺ :
144
« ولم يكن لهم يومئذٍ حَب ولو كان لهم لدعا لهم فيه »، قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال : فأوصاك بشيء؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن ثبِّت عتبة بابك، قال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاصنع ما أمرك ربك، قال : وتعينني؟ قال : وأعينك، قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان :
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾. قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان :
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾.
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أُم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال : إلى الله، قالت : رضيت بالله. قال : فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبناها على صبيها حتى لما فني الماء. قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت هل تحس أحداً؟ فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها، فقالت : لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت : أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل عليه السلام قال : فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض، قال : فانبثق الماء.
145
فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال : فقال أبو القاسم ﷺ :
« لو تركته لكان الماء ظاهراً »، قال : فجعلت تشرب من الماء ويدرُّ لبنها على صبيها. قال : فمرّ ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا : ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل أتاذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟
فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة. قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ﷺ فقال لأهله : إني مطلع تركتي، قال : فجاءهم فسلّم فقال : أين إسماعيل؟ قالت امرأته : ذهب يصيد، قال : قولي له إذا جاء غيِّرْ عتبةَ بابك، فلما أخبرته قال : أنتِ ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال : ثم إنه بدا لإبراهيم فقال : إني مطلع تركتي، قال فجاء فقال : أين إسماعيل؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد، فقالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال : ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال : فقال أبو القاسم ﷺ :
« بركة بدعوة إبراهيم » قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ﷺ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي فجاء فوفق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال : يا إسماعيل إن ربك عزّ وجلّ أمرني أن أبني له بيتاً، فقال : أطع ربك عزّ وجلّ، قال : إنه أمرني أن تعينني عليه، فقال : إذن افعل - أو كما قال - فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان :
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ قال : حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان :
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾.
قال محمد بن إسحاق عن مجاهد وغيره من أهل العلم : إن الله بوأ إبراهيم مكان البيت، خرج إليه من الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أُمرتُ يا جبريل؟ فيقول جبريل : امضه، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه ( سلم وسمر ) وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذٍ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر ( هاجر ) أُم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً فقال :
146
﴿ رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] إلى قوله :
﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ]. وقال عبد الرزاق عن مجاهد : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة.
وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ الآية : القواعد أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة، عن عائشة زوج النبي ﷺ، أن رسول الله ﷺ قال :
« ألم تريْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ » فقلت : يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال :
« لولا حدثان قومك بالكفر »، فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله ﷺ ما أرى رسول الله ﷺ ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواع إبراهيم عليه السلام. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عن عائشة عن النبي ﷺ قال :
« لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر ».
( ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام وقبل مبعث رسول الله ﷺ بخمس سنين )
وقد نقل معهم الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. قال محمد بن إسحاق في السيرة : ولما بلغ رسول الله ﷺ خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزأَلَّت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش : إنّا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب بن عمرو بن عائذ فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
147
ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا : ننظر فإن أُصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله. فهدم، وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلا الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاَ. قال : فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني ( الحجر الأسود ) فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا إيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا
« لَعَقةَ الدم »، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة - وكان عامئذٍ أسنَّ قريش كلهم - قال : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله ﷺ فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا... هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال ﷺ :
« هلمَّ إليَّ بثوب، فأُتي به، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ثم قال :» لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده ﷺ، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله ﷺ قبل أن ينزل عليه الوحي ( الأمين ) «.
148
قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي ﷺ ثماني عشر ذراعاً، وكان تكسى القباطي، ثم كسيت بعدُ البرود، وأول من كساها الديباج الحجّاج بن يوسف. ( قلت ) : ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ( ابن الزبير ) إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله ﷺ. ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجّاج، فردّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم عن عطاء :
« لمَّا احترق البيت زمن ( يزيد بن معاوية ) حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهَى منها؟ قال ابن عباس : إنه قد خرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهَى منها وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها النبي ﷺ، فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدِّده فكيف بيت ربكم عزّ وجلّ؟ إني مستخير ربي ثلاثاً ثم عازم على أمري. فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة. فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : إن النبي ﷺ قال :» لولا أن الناس حديثٌ عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه «، قال : فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس. قال : فزاد خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أساً فنظر الناس إليه فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قُتِلَ ابن الزبير كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسٍّ نظر إليه العدول من أهل المكة.
149
فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فردّه إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه
«.
وقد كانت السُنَّة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي ودّه رسول الله ﷺ، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السنة على ( عبد الملك بن مروان ) ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله ﷺ قال :» وددنا أنا تركناه وما تولى. فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير فلو ترك لكان جيداً.
ولكن بعدما رجع الامر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغيَّر عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي، أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها!! فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي. ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ( ذو السُّويقتين ) من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :
« يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة » وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال :
« كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً » وعن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :
« يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها. حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أُصَيْلع، أُفَيْدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله ».
وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحجيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
« ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج ».
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام :
﴿ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ قال ابن جرير : يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك. وقال عكرمة :
﴿ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ قال الله : قد فعلت
﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ قال الله : قد فعلت. وقال السدي :
﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ يعنيان العرب. قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى :
150
﴿ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ].
( قلت ) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده :
﴿ رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٢٩ ] الآية. والمراد بذلك محمد ﷺ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى :
﴿ هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ [ الجمعة : ٢ ]، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى :
﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله :
﴿ والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ [ الفرقان : ٧٤ ]. وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده. لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام :
﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] قال :
﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، وهو قوله :
﴿ واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ] وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال :
« إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له ».
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ قال عطاء : أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد :
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ مذابحنا. وقال أبو داود الطيالسي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال :
« إن إبراهيم لما أُري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به ( منى ) فقال : هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى ( جمرة العقبة ) تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى ( الجمرة الوسطى ) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى ( الجمرة القصوى ) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعاً فقال : هذا المشعر، ثم أتى به عرفة فقال : هذه عرفة، فقال له جبريل : أعرفت؟ ».
151
قيل : المراد بالسفهاء هاهنا مشركو العرب قاله الزجاج، وقيل : أحبار يهود قاله مجاهد، وقيل : المنافقون قاله السُّدي، والآية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم. عن البراء رضي الله عنه : أن رسول الله ﷺ صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ قِبَل مكة، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله :
﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
وعن البراء قال : كان رسول الله ﷺ يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله :
﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ]. فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله :
﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ وقال السفهاء من الناس - وهم أهل الكتاب - ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله :
﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس ﴾ إلى آخر الآية. وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً. وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عزّ وجلّ :
﴿ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله :
﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة. وحاصل الأمر : أنه قد كان رسول الله ﷺ أُمِر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور.
والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه ﷺ المدينة واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يُوَجَّه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول الله ﷺ الناس فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدّم في الصحيحين.
160
وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة : فسمي ( مسجد القبلتين ) وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال :
« بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت فقال : إن رسول الله ﷺ قد أُنْزِل عليه الليلة قرآن وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة »، ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتيابٌ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالو :
﴿ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ أي قالوا : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله :
﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب ﴾ أي الحكم والتصرف والأمر كله لله،
﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مراتٍ إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأُمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال :
﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
عن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ، يعني في أهل الكتاب :
« إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ».
وقوله تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾، يقول تعالى إنما حولناكم على قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأُمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأُمم، لان الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسطُ هاهنا : الخيار والأجود، كما يقال : قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها، وكان رسول الله وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه ( الصلاة الوسطى ) وهي العصر، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى :
﴿ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ الحج : ٧٨ ].
161
عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ﷺ :
« يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلَّغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأُمته، قال فذلك قوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ قال : والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم » وعن أبي سعيد الخدري قال : قال قال رسول الله ﷺ :
« يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال : هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون : لا فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول نعم : فيقال من يشهد لك، فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته : فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم. فيقال وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عزّ وجلّ :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ قال عدلاً ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ » عن النبي ﷺ قال :
« أنا وأُمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزّ وجلّ ».
وقوله :
﴿ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله ﴾، يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي مرتداً عن دينه
﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾ أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديق، كما قال الله تعالى :
﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٤-١٢٥ ] وقال تعالى :
﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]. وقال تعالى :
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ] ولهذا كان - من ثبت على تصديق الرسول ﷺ واتباعه في ذلك، وتوجّه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب - من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين.
162
عن ابن عمر قال :
« بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال : قد أنزل على النبي ﷺ قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة »، وفي رواية أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عزّ وجلّ رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله :
﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس : ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾، وقال ابن إسحاق عن ابن عباس :
﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي بالقبلة الأُولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأُخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعاً
﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. وقال الحسن البصري : وما كان ليضيع إيمانكم : أي ما كان الله ليضيع محمداً ﷺ وانصرافكم معه حيث انصرف
﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول الله ﷺ :
« أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه »؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال :
« فواللَّهِ، للَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها ».
163
اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة، وقواعد عميقة، وعقيدة مستقيمة، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجُّه إلى بيت المقدس، ثم حوّلهم إلى الكعبة، شقَّ ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عزّ وجلّ، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجّه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال :
﴿ ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر ﴾ كما قال في الأضاحي والهدايا :
﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ ﴾ [ الحج : ٣٧ ]. وقال ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلُّوا ولا تعلموا، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وقال أبو العالية : كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب، وكانت النصارى تُقْبل قبل المشرق، فقال الله تعالى
﴿ لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ﴾ يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عزّ وجلّ،
﴿ والكتاب ﴾ وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله تعالى :
﴿ وَآتَى المال على حُبِّهِ ﴾ أي أخرجه وهو محبٌ له راغب فيه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً :
« أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر » وقال رسول الله ﷺ :
« ﴿ وَآتَى المال على حُبِّهِ ﴾ أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر »، وقال تعالى :
﴿ وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ [ الإنسان : ٨-٩ ]، وقال تعالى :
﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ] وقوله :
﴿ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [ الحشر : ٩ ] نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له.
وقوله تعالى :
﴿ ذَوِي القربى ﴾ وهم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت في الحديث :
« الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة، فهم أولى الناس بك وبِبرَّك وإعطائك » وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز
﴿ واليتامى ﴾ هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ، والقدرة على التكسب، وقد قال رسول الله ﷺ :
187
« لا يتم بعد حلم » ﴿ والمساكين ﴾ وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيُعْطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :
« ليس المسكين بهذ الطوّاف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه »،
﴿ وابن السبيل ﴾ وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطي ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف كما قال ابن عباس
﴿ ابن السبيل ﴾ : هو الضيف الذي ينزل،
﴿ والسآئلين ﴾ وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، قال رسول الله ﷺ :
« للسائل حق وإن جاء على فرس »،
﴿ وَفِي الرقاب ﴾ وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم، عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله ﷺ :
« في المال حق سوى الزكاة »، ثم قرأ :
﴿ لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب - إلى قوله - وَفِي الرقاب ﴾.
وقوله تعالى :
﴿ وَأَقَامَ الصلاة ﴾ أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها، على الوجه الشرعي المرضي، وقوله :
﴿ وَآتَى الزكاة ﴾ كقوله :
﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة ﴾ [ فصلت : ٦-٧ ] والمراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين، إنما هو التطوع والبر والصلة، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله تعالى :
﴿ والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾ كقوله :
﴿ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق ﴾ [ الرعد : ٢٠ ] وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث :
« آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان »، وفي الحديث الآخر :
« وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر »، وقوله تعالى :
﴿ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ﴾ أي في حال الفقر وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء،
﴿ وَحِينَ البأس ﴾ أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس. وإنما نصب
﴿ الصابرين ﴾ على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم. وقوله :
﴿ أولئك الذين صَدَقُواْ ﴾ أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا
﴿ وأولئك هُمُ المتقون ﴾ لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
188
يقول تعالى : كتب عليكم العدل في القصاص - أيها المؤمنون - حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيّروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك ( قريظة والنضير ) فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به بل يُفَادى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر، ضعف دية القرظي، فأمر الله تعالى بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين، المخالفين لأحكام الله فيهم كفراً وبغياً فقال تعالى :
﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾ وذكر عن سعيد ابن جبير في قول الله تعالى :
﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ يعني إذا كان عمداً الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم :
﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾. وعن ابن عباس في قوله :
﴿ والأنثى بالأنثى ﴾ أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل الله النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله :
﴿ النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : ٤٥ ].
مسألة
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وهو مروي عن ( عليّ ) و ( ابن مسعود ) قال البخاري : يقتل السيد بعبده لعموم حديث :
« من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه »، وخالفهم الجمهور فقالوا : لا يقتل الحر بالعبد، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، وذهب الجمهور إلى ان المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله ﷺ :
« لا يقتل مسلم بكافر »، ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة
قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام :
« المسلمون تتكافأ دماؤهم »، وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال :( لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم )، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة.
189
وقوله تعالى :
﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ قال مجاهد : العفو : أن يقبل الدية في العمد. وعن ابن عباس :
﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو
﴿ فاتباع بالمعروف ﴾، يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية
﴿ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ يعني من القاتل من غير ضرر يؤدي المطلوب إليه بإحسان،
﴿ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ يقول تعالى إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد، تخفيفاً من الله عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوماً على أمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال مجاهد عن ابن عباس : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل ومن كان قبلكم
﴿ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ وقال قتادة :
﴿ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبله، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص. وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وقوله تعالى :
﴿ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يقول تعالى فمن قَتَل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله، أليم : موجع شديد، لحديث :
« من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها ».
وقوله تعالى :
﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ﴾، يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل، انكف على صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، واشتهر قولهم :
« القتل أنفى للقتل » فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز
﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ﴾ قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل،
﴿ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه. والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
190
يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع : أن رسول الله ﷺ قال :
« أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان »، وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى :
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ]، وقال :
﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [ الدخان : ٣ ]، ثم نزل بعد مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله ﷺ، هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال : وقع في قلبي الشك قول الله تعالى :
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ﴾، وقوله :
﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [ الدخان : ٣ ]، وقوله :
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ] وقد أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع!! فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام.
وقوله تعالى :
﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ﴾ هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدّقه واتبعه،
﴿ وَبَيِّنَاتٍ ﴾ أي دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال :( رمضان ) ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت، وقد انتصر البخاري لهذا فقال : باب - يقال رمضان - وساق أحاديث في ذلك، منها :
« من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » ونحو ذلك.
وقوله تعالى :
﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ هذا إيجاب حتمٌ على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه. ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال :
﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ معناه : ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه، أو كان على سفر أي في حالة السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام، ولهذا قال :
﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾ أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح السليم تيسيراً عليكم ورحمة بكم.
195
وهاهنا مسائل تتعلق بهذا الآية ( إحداها ) : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيماً في أول الشهر ثم سافر في اثنائه فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله :
﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر، وهذا قول غريب نقله ابن حزم في كتابه ( المحلى ) عن جماعة من الصحابة والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر، فإنه قد ثبتت السنّة عن رسول الله ﷺ أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر، ( الثانية ) : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله تعالى :
﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير، وليس بحتم، لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان قال : فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله ﷺ أنه كان في مثل هذه الحالة صائماً، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء، قال : خرجنا مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ وعبد الله بن رواحة. ( الثالثة ) : قالت طائفة، منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبي ﷺ كما تقدم، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل أخذاً بالرخصة، وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة
« أن حمزة بن عمرو الأسلمي، قال : يا رسول الله إني كثير الصيام أفأصوم في السفر؟ فقال :» إن شئت فصم وإن شئت فأفطر
«، وقيل : إن شقَّ الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر :» أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً قد ظلّل عليه فقال :
« ما هذا »؟ قالوا : صائم، فقال :
« ليس من البر الصيام في السفر » أخرجاه. ( الرابعة ) : القضاء هل يجب متتابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان :( أحدهما ) : أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكي الأداء ( والثاني ) : لا يجب التتابع بل إن شاء فرق وإن شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر، ولهذا قال تعالى :
﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، ثم قال تعالى :
﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾.
196
وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن :
« بشّرا ولا تنفرا ويسّرا ولا تعسّرا وتطاوعا ولا تختلفا » وفي السنن والمسانيد أن رسول الله ﷺ قال :
« بعثت بالحنيفية السمحة » ومعنى قوله
﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر وَلِتُكْمِلُواْ العدة ﴾ أي إنما أرخص لكم في الإفطار لمرض والسفر ونحوهما من الأعذار، لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم، وقوله :
﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ ﴾، أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال :
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] وقال :
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير، ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية :
﴿ وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ ﴾، وقوله :
﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته، بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.
197
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة، والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقوله :
﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ قال ابن عباس : يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن، وقال الربيع : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن، وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا.
وكان السبب في نزول هذه الآية ما روي أن أصحاب النبي ﷺ إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وإن ( قيس بن صرمة ) الأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ولكنْ أنطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار؟ غشي عليه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت هذه الآية :
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ - إلى قوله - وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ﴾ ففرحوا بها فرحاً شديداً، ولفظ البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله :
﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾. وعن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلُّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى :
﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ ﴾ الآية.
وعن أبي هريرة في قول الله تعالى :
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلُّوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وإن ( صرمة بن قيس ) الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام، ولم يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله ﷺ العشاء فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك فأنزل الله عند ذلك :
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ يعني بالرفث مجامعة النساء،
﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء،
﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ ﴾ يعني جامعوهن
﴿ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ﴾ يعني : الولد
﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ فكان ذلك عفواً من الله ورحمة، وقال ابن جرير : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي ﷺ ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت : إني قد نمت، فقال : ما نمت، ثم وقع بها.
200
وصنع ( كعب بن مالك ) مثل ذلك، فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي ﷺ فأخبره، فأنزل الله :
﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ ﴾ الآية. فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقاً.
وقوله تعالى :
﴿ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ﴾، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : يعني الولد، وقال عبد الرحمن ابن زيد بن اسلم :
﴿ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ﴾ يعني الجماع، وقال قتادة : ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم، يقول ما أحل الله لكم. واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله.
قوله تعالى :
﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾، أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع، في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله :
﴿ مِنَ الفجر ﴾، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ
﴿ مِنَ الفجر ﴾ فعلموا أنما يعني الليل والنهار. وعن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية
﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود ﴾ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض، قال : فجعلتهما تحت وسادتي، قال : فجعلت أنظر إليهما فلما تبيَّن لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بالذي صنعت فقال :
« إن وسادك إذن لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل » وجاء في بعض الألفاظ :
« إنك لعريض القفا » ففسره بعضهم بالبلادة، ويفسره رواية البخاري أيضاً قال :
« إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال : لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار ».
201
فصل
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر، دليل على استحباب السحور، لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب ولهذا وردت السنّة الثابتة عن رسول الله ﷺ بالحث على السحور. ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ :
« تسحروا فإن في السحور بركة »، وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :
« إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور »، وقال رسول الله ﷺ :
« السحور أكلة بركة فلا تَدَعوه ولو أن أحدكم تجرَّع جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين » ويستحب تأخيره كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال : تسحرنا مع رسول الله ﷺ ثم قمنا إلى الصلاة، فقال أنس قلت لزيدٍ : كم كان بين الأذان والسحور؟ قال : قدر خمسين آية. وقال رسول الله ﷺ :
« لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور ».
وحكى ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها. ( قلت ) : وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نص القرآن في قوله :
﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾، وقد ورد في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :
« لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر » وقال رسول الله ﷺ :
« لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير » وعن عطاء : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب، وقال عطاء : فأما إذا سطع سطوعاً في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء، وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله.
مسألة
ومن جعْله تعالى الفجرَ غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام، يستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأُم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا : كان رسول الله ﷺ يصبح جنباً من جماع من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم، وفي حديث ( أُم سلمة ) عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي.
202
وقوله تعالى :
﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ يقتضي الإفطار عند غروب الشمس كما جاء في الصحيحين :
« إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم » وقال رسول الله ﷺ :
« لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر » وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ :
« يقول الله عزّ وجلّ : أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطراً » ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال، وهو أن يصل يوماً بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئاً، عن أبي هريرة قال :
« قال رسول الله ﷺ :» لا تواصلوا
«، قالوا : يا رسول الله! إنك تواصل، قال :» فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني
« قال فلم ينتهو عن الوصال فواصل بهم النبي ﷺ يومين وليلتين، ثم رأوا الهلال فقال :» لو تأخر الهلال لزدتكم
« كالمنكل لهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت : نهى رسول الله ﷺ عن الوصال رحمة لهم، فقالوا : إنك تواصل، قال :» إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني
«، فقد ثبت النهي عنه من غير وجه، وثبت أنه من خصائص النبي ﷺ وأنه كان يقوى على ذلك ويعان، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان ( معنوياً ) لا ( حسياً ) وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي ولكن كما قال الشاعر :لها أحاديث من ذكراك تشغلها | عن الشراب وتلهيها عن الزاد |
وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :» « لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ». قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال :
« إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعمٌ يطعمني وساقٍ يسقيني » «.
وقوله تعالى :
﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد ﴾، قال ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه، وقال الضحّاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامَع إن شاء، فقال الله تعالى :
﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد ﴾، أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره.
203
وهذا الذي حكاه هو الأمر المتفق عليه عند العلماء، أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بُدّ له منها، فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، من قضاء الغائط أو الأكل، وليس له أن يقبِّل امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعود المريض لكن يسأل عنه مارّ في طريقه، وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه.
وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام، إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام، كما ثبت في السنّة عن رسول الله ﷺ أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عزّ وجلّ، ثم اعتكف أزواجه من بعده. وفي الصحيحين : أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي ﷺ وهو معتكف في المسجد، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها، وكان ذلك ليلاً، فقام النبي ﷺ يمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبيَّ ﷺ أسرعا ( وفي رواية ) تواريا - أي حياءً من النبي ﷺ لكون أهله معه - فقال لهما ﷺ :
« » على رسلكما إنها صفية بنت حيي
« ( أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي ) فقالا : سبحان الله يا رسول الله! فقال ﷺ :» إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً «، قال الشافعي رحمه الله : أراد عليه السلام أن يعلِّم أمته التبري من التهمة في محلها، لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي ﷺ شيئاً والله أعلم. ثم المراد ( بالمباشرة ) إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله ﷺ يدني إليَّ رأسه فأرجّله وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. قالت عائشة : ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة.
وقوله تعالى :
﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ أي هذا الذي بيّناه وفرضناه وحدّدناه من الصيام وأحكامه، وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه
﴿ حُدُودُ الله ﴾ أي شرعها الله وبيَّنها بنفسه
﴿ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾ أي لا تجاوزوها وتتعدوها. وقيل في قوله :
﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ أي المباشرة في الاعتكاف،
﴿ كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ﴾ أي كما بيَّن الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد ﷺ،
﴿ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى :
﴿ هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الحديد : ٩ ].
204
هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة كذا قال ابن أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله :
﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ] وفي هذا نظر، لأن قوله :
﴿ الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذي همتهم قتال الإسلام وأهله، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال :
﴿ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ [ التوبة : ٣٦ ]، ولهذا قال في هذه الآية :
﴿ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً.
وقوله تعالى :
﴿ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾ أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله ﷺ كان يقول :
« اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع » وعن ابن عباس قال : كان رسول الله ﷺ إذا بعث جيوشه قال :
« اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع » وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة في بعض مغازي النبي ﷺ مقتولة فأنكر رسول الله ﷺ قتل النساء والصبان.
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبّه تعالى على ان ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغُ وأشدُّ وأعظم وأطم من القتل، ولهذا قال :
﴿ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل ﴾. قال ابو العالية ومجاهد وعكرمة : الشرك أشد من القتل، وقوله :
﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام ﴾ كما جاء في الصحيحين :
« إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل إلا ساعة من نهار - وإنها ساعتي هذه - فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم » يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة وقيل : صلحاً لقوله :
« من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن » وقوله :
﴿ حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين ﴾ يقول تعالى : ولا تقاتلوهم عن المسجد الحرام إلا ان يبدأوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل، كما بايع النبي ﷺ أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف الله القتال بينهم فقال :
207
﴿ وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الفتح : ٢٤ ].
وقوله تعالى :
﴿ فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه، ثم أمر الله بقتال الكفار
﴿ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ أي شرك قاله ابن عباس والسدي
﴿ وَيَكُونَ الدين للَّهِ ﴾، أي : يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال :
« من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».
وقوله تعالى :
﴿ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾، يقول تعالى : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول ( مجاهد ) أن لا يقاتل إلا من قاتل، أو يكون تقديره
﴿ فَإِنِ انتهوا ﴾ فقد تخلصوا من الظلم والشرك فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة كقوله :
﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] وقوله :
﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]،
﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] قال عكرمة وقتادة : الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله، وقال البخاري قوله :
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾. عن ابن عمر قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي ﷺ فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا : ألم يقل الله :
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله. وعن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال : يا ابن أخي بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله، والصلاة الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت.
208
قالوا : يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه :
﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ]،
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، قال : فعلنا على عهد رسول الله ﷺ وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه وإما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال : فما قولك في علي وعثمان؟ قال : أمّا ( عثمان ) فكان الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه، وأمّا ( علي ) فابن عم رسول الله ﷺ وختنه، فأشار بيده فقال : هذا بيته حيث ترون.
209
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد، شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، ولهذا قال بعده :
﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها. عن عبد الله بن سلمة عن علي أنه قال في هذه الآية :
﴿ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ﴾ قال : أن تحرم من دويرة أهلك. وعن سفيان الثوري أنه قال : إتمامهما أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريباً من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزىء ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره، وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات، عن الزهري قال : بلغنا أن عمر قال : من تمامهما أن تُفرد كل واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج، إن الله تعالى يقول :
﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] وقد ثبت أن رسول الله ﷺ اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة ( عمرة الحديبية ) في ذي القعدة سنة ست و ( عمرة القضاء ) في ذي القعدة سنة سبع و ( عمرة الجعرانة ) في ذي القعدة سنة ثمان و ( عمرته التي مع حجته ) أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر، وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانىء :
« عمرة في رمضان تعدل حجة معي »، وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري، ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها، والله أعلم.
وقال ابن عباس من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه :
« من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة »، وقال في الصحيح أيضاً :
« دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ».
وقوله تعالى :
﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله ﷺ وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظاراً للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصَّر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال ﷺ :
212
« » رحم الله المحلقين
«، قالوا : والمقصرين يا رسول الله، فقال في الثالثة :» والمقصرين
«، وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل : بل كانوا على طرف الحرم. فالله أعلم.
وقد اختلف العلماء - هل يختص الحصر بالعدو؟ فلا يتحلل إلا من حصره عدو، لا مرض ولا غيره - على قولين : عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله تعالى :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ فليس الأمن حصراً. والقول الثاني : أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق لحديث :» من كسر أو وجع أو عرج فقد حلَّ وعليه حجة أُخرى
« وروي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أنهم قالوا : الإحصار من عدو أو مرض أو كسر. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ﷺ دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال :» حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني «.
وقوله تعالى :
﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾، عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول :
﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ شاة، والهدي من الأزواج الثمانية من ( الإبل، والبقر، والمعز، والضأن ) وهو مذهب الأئمة الأربعة. وروي عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر، وروي مثله عن سعيد بن جبير.
( قلت ) : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسول الله ﷺ أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة، وعن ابن عباس في قوله :
﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ قال : بقدر يسارته، وقال العوفي عن ابن عباس : إن كان موسراً فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هدياً، والهديُ من بهيمة الأنعام وهي ( الإبل والبقر والغنم ) كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله ﷺ، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها قالت : أهدى النبي ﷺ مرة غنماً.
213
وقوله تعالى :
﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ ﴾ معطوف على قوله :
﴿ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ﴾، وليس معطوفاً على قوله :
﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ كما زعمه ابن جرير رحمه الله، لأن النبي ﷺ وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حالة الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق
﴿ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ ﴾ ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارناً، أو من فعل أحدهما إن كان مفرداً أو متمتعاً كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت :
« يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال :» إني لبدت رأس وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر
« ».
وقوله تعالى :
﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾. روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال :
« قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فسألته عن فدية من صيام فقال : حُملتُ إلى النبي ﷺ والقملُ يتناثر على وجهي فقال :» ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟
« قلت : لا، قال :» صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك
«، فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة »، وعن كعب بن عجرة قال :
« أتى عليّ النبي ﷺ وأنا أوقد تحت قدر، والقملُ يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال :» يؤذيك هوام رأسك
«؟ قلتُ : نعم، قال :» فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة «، قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ.
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله :
﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾، قال : إذا كان ( أو ) فأية أخذت أجزأ عنك. وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاووس نحو ذلك. ( قلت ) : وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء، أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء، أيَّ ذلك فعل أجزأه، ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل
﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ ولما أمر النبي ﷺ ( كعب ابن عجرة ) بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال :
214
« انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام » وقال ابن جرير عن الحسن في قوله :
﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرةُ أيام، والصدقة على عشرة مساكين كل مسكين مكوكين مكوكاً من تمر ومكوكاً من بر، والنسك شاة، وقال الحسن وعكرمة في قوله :
﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ قال : إطعام عشرة مساكين، وهذان القولان من سعيد بن جبير والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر، لأنه قد ثبتت السنّة في حديث ( كعب بن عجرة ) الصيام ثلاثة أيام لا ستة أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن، وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا، والله أعلم. وقال طاووس : ما كان من دم أو طعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء، وقال عطاء : ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
وقوله تعالى :
﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ : أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح.
﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة وله أن يذبح البقر، لأن رسول الله ﷺ ذبح عن نسائه البقر، وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران ابن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله ﷺ، ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء، قال البخاري : يقال إنه عمر، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحاً به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول : إنْ نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله :
﴿ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ﴾، وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها محرماً لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه.
وقوله تعالى :
﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾، يقول تعالى : فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج أي في أيام المناسك.
215
قال العلماء : والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر، أو حين يحرم، ومنهم من يجوز صيامها من أول شوّال، وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين. وقال العوفي عن ابن عباس : إذا لم يجد هدياً فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله، وعن ابن عمر قال : يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة. فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء، الأول : أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي. وعن علي أنه كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق لعموم قوله :
﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج ﴾، والثاني : أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم، قال رسول الله ﷺ :
« أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزّ وجلّ ».
وقوله تعالى :
﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ فيه قولان :( أحدهما ) : إذا رجعتم إلى رحالكم و ( الثاني ) : إذا رجعتم إلى أوطانكم. وقد روى البخاري عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، فأهلَّ بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله ﷺ، وبدأ رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي ﷺ مكة قال للناس :
« من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصِّرْ وليحلِّل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله » وقوله :
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ قيل : تأكيد، كما تقول العرب : رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وكتبت بيدي. وقال الله تعالى :
﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، وقال :
﴿ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ]، وقال :
﴿ وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ]. وقيل : معنى
﴿ كَامِلَةٌ ﴾ الأمر بإكمالها وإتمامها واختاره ابن جرير. وقيل : معنى
﴿ كَامِلَةٌ ﴾ أي مجزئة عن الهدي.
وقوله تعالى :
﴿ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ﴾، قال ابن جرير : واختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله :
﴿ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ﴾ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم فقال بعضهم عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
216
قال ابن عباس : هم أهل الحرم. وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم وادياً أو قال : يجعل بينه وبين الحرم وادياً ثم يهل بعمرة. وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت - كما قال عطاء - من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع، وقال عبد الله بن المبارك : من كان دون الميقات، وقال عبد الرزاق : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع، وفي رواية عنه : اليوم واليومين، واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة، لأن من كان كذلك يعد حاضراً لا مسافراً، والله أعلم. وقوله :
﴿ واتقوا الله ﴾ أي فيما أمركم ونهاكم
﴿ واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾ أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره.
217
اختلف أهل العربية في قوله تعالى :
﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ فقال بعضهم : تقديره الحج حج أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحاً، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد واحتج لهم بقوله تعالى :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] وبأنه أحد النسكين فصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة، وذهب الشافعي إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عمرة؟ فيه قولان عنه، والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلى في أشهره مروي عن ابن عباس وجابر ومجاهد رحمهم الله، والدليل عليه قوله :
﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة، وهو أن وقت الحج أشهر معلومات، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة، فدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة.
عن ابن عباس أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى :
﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾، وعنه أنه قال : من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، وقول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيراً للقرآن وهو ترجمانه.
وقوله تعالى :
﴿ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ قل البخاري : قال ابن عمر : هي ( شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ) وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، واختار هذا القول ابن جرير، قال : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب : رأيته العام ورأيته اليوم وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم، وقال الإمام مالك والشافعي في القديم : هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر أيضاً. وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر، وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم.
وقوله تعالى :
﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ﴾ أي وأجب بإحرامه حجاً، قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام، وقال ابن عباس :
﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ﴾ من أحرم بحج أو عمرة، وقال عطاء : الفرض الإحرام، وقوله :
﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾ أي من أحرم بالحج أو العمرة، فليجتنب الرفث وهو الجماع كما قال تعالى :
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء.
218
قال عبد الله بن عمر : الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
وقال ابن عباس : إنما الرفث ما قيل عند النساء، وقال طاووس : سألت ابن عباس عن قول الله عزّ وجلّ :
﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ قال : الرفث التعريض بذكر الجماع وهي العرابة في كلام العرب وهو أدنى الرفث، وقال عطاء : الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش، وقال أبو العالية عن ابن عباس : الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز، وأن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك.
وقوله تعالى :
﴿ وَلاَ فُسُوقَ ﴾، عن ابن عباس : هي المعاصي، وعن ابن عمر قال : الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيداً أو غيره، وقال آخرون : الفسوق هاهنا السباب قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح :
« سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »، وقال الضحّاك : الفسوق التنابز بالألقاب. والذين قالوا : هو جميع المعاصي الصواب معهم، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهياً عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد - ولهذا قال :
﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] - وقال في الحرم :
﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ]، واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد، وحلق الشعر، وقلم الأظفار، ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر، وما ذكرناه أولى، وقد ثبت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :
« من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ».
وقوله تعالى :
﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ فيه قولان :( أحدهما ) : ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه، وقد بيّنه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح ( والقول الثاني ) : أن المراد بالجدال هاهنا المخاصمة. قال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود في قوله :
﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وقال ابن عباس :
﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ المراء والملاحاة حتى تُغْضب أخاك وصاحبك. وعن نافع أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب والمراء والخصومات. قال رسول الله ﷺ :
« من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه ».
وقوله تعالى :
﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله ﴾ : لما نهاهم عن إيتان القبيح قولاً وفعلاً، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة. وقوله :
﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾، عن عكرمة أن أناساً كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله :
﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾، وعن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل الله :
﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾.
219
وقوله تعالى :
﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾ لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا، فأرشدهم إلى زاد الآخرة وهواستصحاب التقوى إليها، كما قال :
﴿ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ﴾ [ الأعراف : ٢٦ ]، لما ذكر اللباس الحسي، نبه مرشداً إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع والطاعة والتقوى، وذكر أنه خير من هذا وأنفع. قال عطاء : يعني زاد الآخرة، وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية :
﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ قام رجل من فقراء المسليمن فقال : يا رسول الله ما نجد ما نتزوده، فقال رسول الله ﷺ :
« تزودْ ما تكفّ به وجهك عن الناس وخير ما تزودتم التقوى » وقوله :
﴿ واتقون ياأولي الألباب ﴾، يقول : واتقوا عقابي ونكالي وعذابي، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام.
220