ﰡ
﴿الم﴾ ونظائرها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم فالقاف تدل على أول حروف قال والألف تدل على أوسط حروف قال واللام تدل على الحرف الأخير منه وكذلك ما أشبهها والدليل على أنها أسماء أن كلاً منها يدل على معنى في نفسه ويتصرف فيها بالإمالة والتفخيم وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير وهي معربة وإنما سكنت سكون زيد وغيره من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وقيل إنها مبنية كالأصوات نحو غاق في حكاية صوت الغراب ثم الجمهور على أنها أسماء السور وقال ابن عباس رضى الله عنهما أقسم الله بهذه الحروف وقال ابن مسعود رضى الله عنه إنها اسم الله الأعظم وقيل إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله وما سميت معجمة إلا لإعجامها وإبهامها وقيل ورود هذه الأسماء على نمط التعديد كالإيقاظ لمن تحدى بالقران وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه من آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن
فإنه مختص بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم وكان مستعبدا من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التي لم تكن قريش ومن يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي وشاهد لصحة نبوته واعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامي حروف المعجم وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم وهي مشتملة على أنصاف أجناس الحروف فمن المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ومن المفخمة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياءء والنون ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء ومن
توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله الم الله اى هذه الم ثم ابتدأ فقال الله لا إله إلا هو الحى القيوم ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الابتداء أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين ومن لم يجعلها أسماء للسور
البقرة (٢)
وللمفردات المعدودة
﴿ذلك الكتاب﴾ أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما السلام أو ذلك إشارة إلى الم وإنما ذكّر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه ومسماه مسماه فجاز إجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث وإن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحاً لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له تقول هند ذلك الإنسان أو ذلك الشخص فعل كذا ووجه تأليف ذلك الكتاب مع الم إن جعلت الم إسماً للسورة أن يكون الم مبتدأ وذلك مبتدأ ثانيا والكتاب خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص كما تقول هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف أي هذه الم جملة وذلك الكتاب جملة أخرى وإن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ﴿لاَ رَيْبَ﴾ لا شك وهو مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه وإنما نفى الريب على سبيل الاستفراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة له وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحداً لا يرتاب وإنما لم يقل لا فيه ريب كما قال لا فيها غول
المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة لأن الهاء خفية والخفي قريب من الساكن والياء بعدها والهدى مصدر على فعل كالبكا وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة فى مقابلة في قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وإنما قيل هدى ﴿لّلْمُتَّقِينَ﴾ والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم أعزك الله وأكرمك تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله اهدنا الصراط المستقيم ولأنه سماهم عند مشارفتهم لا كتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام
الذين (٣)
من قتل قتيلاً فله سلبه وقول ابن عباس رضى الله عنهما إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً ولم يقل هدى للضالين لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب فلو جئ بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل هدى للمتقين مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى
﴿الذين﴾ في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون أو هو مبتدأ وخبره أولئك على هدى أو جر على أنه صفة للمتقين وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك زيد الفقيه المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر
البقرة (٣ _ ٤)
ما هو كالعنوان لها مع مافى ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك زيد الفقيه المتكلم الطبيب ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيئات ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم آمنه أي صدقه وحقيقته أمنه التكذيب والمخالفة وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف ﴿بالغيب﴾ بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك غاب الشئ غيباً هذا إن جعلته صلة للإيمان وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه والدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشئ النافق الذي تتوجه إليه الرغبات
﴿والذين يُؤْمِنُونَ﴾ هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه ن أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل هدى للمتقين وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك أو المارد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد وقوله... إلى الملك القرم وابن الهمام... وليث الكتيبة في المزدحم...
والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه ﴿بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ﴾ يعني القرآن والمراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم لأن الإيمان بالجميع واجب وإنما عبر عنه بلفظ
البقرة (٤ _ ٦)
الماضي وان كان بعضه مترقبا تغليبا على ما لم يوجد ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول
﴿أولئك على هُدًى﴾ الجملة في موضع الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ وإلا فلا محل لها ويجوز أن يجري الموصول الأول على المتقين وأن يرتفع الثاني على الابتداء وأولئك خبره ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله ﷺ وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله ومعنى الاستعلاء في على هدى مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشئ وركبه ونحوه هو على الحق وعلى الباطل وقد صرحوا بذلك في قولهم جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى ومعنى هدى ﴿مّن رَّبّهِمُ﴾ أي أوتوه من عنده ونكر هدى ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه لقد وقعت على لحم أي على لحم عظيم ﴿وأولئك هُمْ المفلحون﴾ أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلى وجاء بالعطف هنا بخلاف قوله ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أضل أولئك هم الغافلون﴾ لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل وهم فصل وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لاصفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره أو هو مبتدأ
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ الكفر ستر الحق بالجحود والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع
البقرة (٦ _ ٧)
كافراوكذا الليل ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لفى جحيم لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه وإن كان مبتدأ على تقدير فهو كالجاري عليه والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وابى لهب وأضرابهما ﴿سواء عليهم أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ بهمزتين كوفي وسواء بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى إلى كلمة سواء أي مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإن وأنذرتهم أم لم تنذرهم مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل أن الذين كفورا مستو
﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ﴾ قال الزجاج الختم التغطية لأن فى الاستيثاق من الشئ بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه وقال ابن عباس طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير يعني أن الله طبع عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن مادامت تلك الظلمة في قلبه وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير وقال بعضهم إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز والخاتم في الحقيقة الكافر إلا أنه تعالى لما كان هو الذى أفدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال بنى الأمير المدينة لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فإسناده إلى الفاعل حقيقة وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازا لمضاهاتا الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾ وحد السمع كما وحد البطن فى قوله
البقرة (٧ _ ٨)
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
لأمن اللبس ولأن السمع مصدر فى أصله يقال سمعت الشئ سمعاً وسماعاً والمصدر
﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الأخر﴾ افتتح سبحانه وتعالى بذكر
البقرة (٨ _ ٩)
ويشهد لأصله إنسان وأناس وإنس وسموا به لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صغة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانيين على صفة الصحة والاستحكام إنما طابق قوله ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه
﴿يخادعون الله﴾ أي رسول الله فحذف المضاف كقوله ﴿واسأل القرية﴾ كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره أى يظهرون غير مافى أنفسهم فالخداع إظهار غير ما في النفس وقد رفع الله منزلة النبي ﷺ حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فوق أيديهم﴾ وقيل معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك عاقبت اللص وقد قرئ يخدعون الله وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل ولم يدعون الإيمان كاذبين ومامنفعتهم فى ذلك فقيل يخادعون الله ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار وإجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك قال صاحب الوقوف الوقف لازم على بمؤمنين لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمينن مخادعين فينتفى الوصف كقولك ما هو برجل كاذب
البقرة (٩ _ ١١)
والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم ومن جعل يخادعون حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها يقول والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في بمؤمنين والعامل فيها اسم الفاعل
﴿فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد في الحديث مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين والمريض متردد بين الحياة والموت ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا﴾ أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار وقيل المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ كوفي أي بكذبهم في قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر فما مع الفعل بمعنى
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ معطوف على يكذبون ويجوز أن يعطف على يقول آمنا لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم ﴿لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ لكان صحيحاً والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية وكان فساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار وممالئونهم على المسلمين بافشاء أسرارهم إليهم واغرائهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم
البقرة (١١ _ ١٤)
﴿قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ بين المؤمنين والكافرين بالمدارة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد لأن إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشئ على حكم كقولك إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب وما كافة لأنها تكفها عن العمل
﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أنهم مفسدون فحذف المفعول للعلم به ألا مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفى لاعطاء معنى التنبيه على تحقيق ما بعدها والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها الامصدرة بنحو ما يتلقى به القسم وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه
﴿وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء﴾ نصحوهم من وجهين أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسَدَََّ من اتباع ذوي الأحلام فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة وإنما صح اسنادقيل إلى لاتفسدوا وآمنوا مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب وما في كما كافة كما في ربما أو مصدرية كما في بِمَا رحبت واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول ومن معه وهم ناس معهودون أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم والكاف فى كما آمن في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء والاستفهام فى أنؤمن للانكار واللام فى السفهاء مشاربها إلى الناس وانما سفهوهم وهم العقلاء المراجيم لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم هم السفهاء وإنما ذكرهنا لا يعلمون وفيما تقدم لا يشعرون لأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة أما الفساد في الأرض فأمر مبني
﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ وقرأ أبو حنيفة رحمه الله وإذا لاقوا يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا
البقرة (١٤ _ ١٦)
منه الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نف وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم﴾ خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم ويجوز أن يكون من خلا بمعنى وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم تشيطن وعنه أنها زائدة واشتقاقه من شطن إذا بعد لبعده من الصلاح والخبر أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل ﴿قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ﴾ إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم وإنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالإسمية محققة بأن لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أو حديون في الإيمان إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة وكيف يطعمون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد وقوله ﴿إِنَّمَا نحن مستهزؤون﴾ تأكيد لقوله إنا معكم لأن معناه الثبات على اليهودية وقوله إنما نحن مستهزئون رد للاسلام ودفع له منهم لأن المستهزئ بالشئ
﴿الله يستهزئ بِهِمُ﴾ أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتدوا وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه قال الزجاج هو الوجه المختار واستئناف قوله الله يستهزىء بهم من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل الله يستهزىء بهم ولم يقل الله مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله إنما نحن مستهزئون ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ أي يمهلهم عن الزجاج ﴿فِي طغيانهم﴾ في غلوهم في كفرهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح
﴿أولئك﴾ مبتدأ خبره ﴿الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ أى استبدلوها به واختاروها
البقرة (١٦ _ ١٧)
عليه وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد ﷺ فلما جاءهم كفروا به أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا بلفظ الشرا ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم وسمي ذلك
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح وقيل الذين صفة أولئك وفما ربحت تجارتهم إلى آخر الآية في محل الرفع خبر أولئك
﴿مّثْلُهُمْ كَمِثْلِِ الذي استوقد نَاراً﴾ لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول السائر المثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً وكذلك قوله مَّثَلُ الجنة التى وعد المتقون أي فيما قصصنا
البقرة (١٧ _ ١٨)
استوقد أوقد ووقود النار سطوعها والنار جوهر لطيف مضى حار محرق واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً وهي في الآية متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء وجواب فلما ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل إذا وما موصولة وحوله نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله وجمع الضمير وتوحيد للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى والنور ضوء النار وضوء كل نير ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به والمعنى أخذ الله بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله فلما أضاءت لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ألا ترى كيف ذكر عقيبه ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات﴾ والظلمة عرض ينافي النور وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا تراءى فيها شبحان وهو قوله ﴿لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ وترك بمعنى طرح
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ﴾ أي هم صم كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وان ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كائما إيفت مشاعرهم وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم هم ليوث للشجعان وبحور الاسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ لا يعودون إلى الهدى
البقرة (١٩)
بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشئ وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون
﴿أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإضاح شبه المنافق فى التمثيل الأول المستوقد نارا وإظهار الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف مثل لدلالة العطف عليه وذوي لدلالة يجعلون عليه والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا فهذا تشبيه أشياء بأسشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء﴾ وقول امرئ القيس... كأن قلوب الطير رطباً ويابسا... لدى وكرها العناب والحشف البالي...
بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه به بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرئ القيس وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى ﴿مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لم يحملوها﴾ الآية فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة
البقرة (١٩)
فأنت مصيب وإن مثلها بهما جميعاً فكذلك والصيب المطر الذي يصوب أى ينزل ويقع ويقال للسحاب صيب أيضاً وتنكير صيب لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول والسماء هذه المظلة وعن الحسن أنها موج مكفوف والفائدة في ذكر السماء والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق لأن كل أفق من آفاقها سماء ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب
من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة نار قالوا تنقدح من السحاب إذا اصطكت أحرامه وهى نار لطيفة جديدة لا تمر بشئ إلاَّ أتت عليه إلاَّ أنها مع حدتها سريعة الخمود يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت ويقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق ﴿حَذَرَ الموت﴾ مفعول له والموت فساد بنية الحيوان أو
البقرة (١٩ _ ٢١)
عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾ يعني أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز هذه الجملة اعتراض لا محل لها
﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم﴾ الخطف الأخذ بسرعة وكاد يستعمل لتقريب الفعل جداً وموضع يخطف نصب لأنه خبر كاد ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم﴾ كل ظرف وما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف أي كل وقت أضاء لهم فيه والعامل فيه جوابها وهو ﴿مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أي في ضوئه وهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وماا هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين وأضاء متعد أى كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه والمفعول محذوف أو غير متعدٍ أي كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره والمشي جنس الحركة المخصوصة فإذا اشتد فهو سعي فإذا ازداد فهو عدوٌ ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾ أظلم غير متعدٍ وذكر مع أضاء كلما ومع أظلم إذا لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف ﴿قَامُواْ﴾ وقفوا وثبتوا
وقوله تعالى لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً وَلَوْ أَرَاد الله أن يتخذْ وَلَدًا ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي إن الله قادر على كل شيء
لما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند الله ويرديها أقبل عليهم بالخطاب وهو من الالتفات المذكور فقال ﴿يا أَيُّهَا الناس﴾ قال علقمة ما في القرآن يا أيها الناس فهو خطاب لأهل مكة وما فيه يا أيها الذين آمنوا فهو خطاب لأهل المدينة وهذا خطاب لمشركى مكة ويا حرف وضع لنداء البعيد وأي والهمزة للقريب ثم استعمل فى مناداة من غفل وسها وإن قرب ودنا تنزيلاً له منزلة من بعد ونأى فإذا نودي به القريب المقاطن فذاك للتوكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جداً وقول الداعي يا رب ووهأفرب إليه من حبل الوريد استقصار منه لنفسه واستبعاد لها عن مظان الزلفى هظما لنفسه
البقرة (٢١ _ ٢٢)
وإقراراً عليها بالتفريط مع فرط التهالك على استجابة دعوته وأى وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن ذو والذى وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهمامه فلا بد أن
﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض﴾ أي صير ومحل الذي نصب على المدح أو رفع بإضمار هو ﴿فراشاً﴾ بساطاً تقعدون عليها وتنامون وتتقلبون وهو مفعول ثانٍ لجعل وليس فيه دليل على أن الأرض مسطحة أو كرية إذ الافتراش ممكن على التقديرين ﴿والسماء بِنَاءً﴾ سقفاً كقوله تعالى وجعلنا
البقرة (٢٢ _ ٢٣)
كثيراً لأن المراد جماعة الثمرة ولأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية ﴿لَكُمْ﴾ صفة جارية على الرزق إن أريد به العين وإن جعل اسماً للمعنى فهو مفعول به كأنه قيل رزقا إياكم ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾ هو متعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد وأن لا يجعل له ند ولا شريك ويجوز أن يكون الذي رفعاً على الابتداء وخبره فلا تجعلوا ودخول الفاء لأن الكلام يتضمن الجزاء أي الذي حفكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تتخذوا له شركاء والند المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف والمناوئ ومعنى قولهم ليس لله ند ولا ضد نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنها لا تخلق شيئاً ولا ترزق والله الخالق الرازق أو مفعول تعلمون متروك أي وأنتم من أهل العلم وجعل الأصنام لله أنداداً غاية الجهل والجملة حال من الضمير في فلا تجعلوا
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك لخلقهم أحياء قادرين وخلق الأرض التي هي مثواهم ومستقرهم وخلق السماء التي هي
البقرة (٢٣ _ ٢٤)
أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ وهي أيضاً في نفسها مرتبة
محمد عليه السلام وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا أنتم بمثله واستعينوا بآلهتكم على ذلك
﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ لما أرشدهم إلى الجهة التى منها يتعرفون صدق النبي عله السلام قال لهم فإذا لم تعارضوه وبان عجزكم ووجب تصديقه فآمنوا وخافوا العذاب المعَدَّ لمن كذب وعاند وفيه دليلا على إثبات النبوة صحة كون المتحدى به معجزاً والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله
البقرة (٢٤ _ ٢٥)
ولما كان العجز عن المعارضة قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لا تكالهم على فصاحتهم واعتمادهم على بلاغتهم سيق الكلام معهم على حسب حسبانهم فجئ بان الذي للشك دون إذا الذي للوجوب وعبَّر عن الإتيان بالفعل لأنه فعل من الأفعال والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية ٢ التي تعطيك اختصاراً إذ لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله ولا محل لقوله ولن تفعلوا لأنها جملة اعتراضية وحسّن هذا الاعتراض أن لفظ الشرط للتردد فقطع التردد بقوله ولت تفعلوا ولا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في لن تأكيداً وعن الخليل أصلها لا أن وعند الفراء لا أبدلت ألفها نوناً وعند سيبويه حرف موضع لتأكيد نفي المستقبل وإنما علم أنه إخبار عن الغيب على ما هو به حتى صار معجزة لانهم لو عارضوه بشئ لاشتهر فكيف والطاعنون فيه أكثر عدداً من الذابين عنه وشرط في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله لأنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق الرسول وإذا صح
كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب تنشيطا لا كتساب ما يزلف وتثبيطا عن اقثراف ما يتلف
فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه بذكر المؤمنين وأعمالهم وتبشيرهم بقوله {وبشر
البقرة (٢٥)
وصف عقاب الكافرين كقولك زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومن ثم قال العلماء إذا قال لعبده أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين ولو قال أخبرني مكان بشرني عتقوا جميعاً لأنهم أخبروه ومنه البشرى لظاهر الجلد وتباشير الصبح ما ظهر من اوائل ضوئه واما فبشرهم بعذاب اليم فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد فى غيظ المستهزأبه كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك والصالحة نحوالحسنة في جريها مجرى الاسم والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام للجنس والآية حجة على من جعل الأعمال إيماناً لأنه عطف الأعمال الصالحة على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه ولا يقال إنكم تقولون يجوز أن يدخل المؤمن الجنة بدون الأعمال الصالحة والله تعالى بشر بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً لأن البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان ولا نجعل لصاحب الكبيرة البشارة المطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة ﴿أَنَّ لَهُمْ جنات﴾ أي بأن لهم جنات وموضع أن وما عملت فيه النصب يبشر عند سيبويه خلافاً للخليل وهو كثير في التنزيل والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف والتركيب دائر على
أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى ﴿فيها أنهار من ماء غير آسن﴾ الآية والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها ﴿كُلَّمَا رزقوا﴾ صفة ثانية لجنات أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس فقيل إن ثمارها أشباه
البقرة (٢٥)
ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله ﴿مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي﴾ أي كلما رزقوا من الجنات من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة ونظيره أن تقول رزقني فلان فيقال لك من أين فتقول من بستانه فيقال من أي ثمرة رزقك من بستانه فتقول من الرمان وليس المراد من الثمرة التفاحة الواحدة
يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس ولم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان ولم يقل طاهرة لأن مُّطَهَّرَةٌ أبلغ لأنها تكون للتكثير وفيها إشعار أنهما بأن مطهّراً طهرهن وما ذلك إلا الله عز وجل ﴿وَهُمْ فِيهَا خالدون﴾ الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع وفيه بطلان قول الجهمية فإنهم يقولون بفناء الجنة وأهلها لأنه تعالى
البقرة (٢٦)
وصف بأنه الأول والآخر وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق احمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة ولأنه تعالى باقٍ وأوصفافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال قلنا الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده والآخر هو الذي لا انتهاء له وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه وأنى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باقٍ لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود
لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلاً ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذاكلام الله فنزل ﴿إن الله لا يستحيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾ أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم ولا يجوز على القديم التغير وخوف الذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة
البقرة (٢٦)
صفة له وليس كذلك وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا مثلاً استحقار كما قالت عائشة رضى الله عنها فى عبد الله
والإضلال خلق فعل الضلال في العبد والهداية خلق فعل الاهتداء
البقرة (٢٦ _ ٢٧)
استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب في تمثيله محق في قوله سائق للمثل على قضية مضربه ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الانصاف والنظر فى الأمور بناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحق وأن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار وأن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا أجمع من ذرة وأجرأ من الذباب وأسمع من قراد وأضعف من فراشة وآكل من السوس وأضعف من البعوضة وأعز من مخ البعوض ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ هو مفعول يضل وليس بمنصوب على الاستثناء لأن يضل لم يستوف مفعوله والفسق الخروج عن القصد والفاسق في الشريعة الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء الله
﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ النقض الفسخ وفك التركيب والعهد الموثق والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله أحبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعاً وعهد الله ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه ولم يكتموا ذكره أو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ولا يبغي بعضهم على بعض ولا يقطعوا أرحامهم وقيل عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته وهو قوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ ربك من بني آدم﴾ الآية وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين وهو قوله تعالى ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم﴾ وعهد خص به العلماء وهو قوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ ﴿مِن بَعْدِ ميثاقه﴾ أصله من الوثاقة وهي إحكام الشئ والضمير للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم ويجوز أن يكون بمعنى ثوثقته كما أن الميعاد بمعنى الوعد أو الله تعالى أى من بعد توثقته عليهم ومن لا بتداء الغاية ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ هو قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين أو قطعهم ما بين الانيباء من الوصلة والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض والأمر طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء وما نكرة موصوفة أو بمعنى الذى وأن يوصل في موضع جر بدل من الهاء أى نوصله أو في موضع رفع أي هو أن يوصل ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾ بقطع السبيل والتعويق عن الإيمان ﴿أولئك﴾ مبتدأ ﴿هُمْ﴾ فصل والخبر ﴿الخاسرون﴾ أى المغبونون حيث
البقرة (٢٨ _ ٢٩)
استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ معنى الهمزة التي في كيف مثله في قولك أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الانكار والتعجب ونظيره أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح ﴿وكنتم أمواتا﴾ نطفا فى أصلاب آبائكم والواو للحال وقد مضمرة والاموات جمع ميت كالأقوال جمع قول ويقال لعادم الحياة أصلاً ميت أيضاً كقوله تعالى ﴿بلدة ميتا﴾ ﴿فأحياكم﴾ في الأرحام ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ للبعث ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ تصبرون إلى الجزاء أو ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور وإنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخٍ وأما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن ريد النشور وإن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن النشور وإنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ولأنها تشتمل على نعمٍ جسام حقها أن تشكر ولا تكفر
﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾ أى لأجلكم ولا نتفاعكم به في دنياكم ودينكم أما الأول فظاهر وأما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم وما فيه من التذكير بالآخرة لأن ملاذها تذكر ثوابها ومكارهها تذكر عقابها وقد استدل الكرخي وأبو بكر الرازي والمعتزلة بقوله خلق لكم على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل ﴿جَمِيعاً﴾ نصب على الحال من ما ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السماء﴾ الاستواء الاعتدال والاستقامة يقال استوى العود أي قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى ثم استوى إلى السماء أي أقبل وعمد إلى خلق
البقرة (٢٩ _ ٣١)
منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى ﴿كانتا رتقا﴾ وهو الالتزاق ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم وهو وأخواته مدني غير ورش وَهُوَ هو وأبو عمرو وعلي جعلوا الواو كأنها من نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد وهم يقولون فى عضد عضد بالسكون
لما خلق الله تعالى الأرض أسكن فيها الجن وأسكن في السماء الملائكة فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورءوس الجبال وأقاموا مكانهم فأمر نبيه عليه السلام أن يذكر قصتهم فقال ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة﴾ إذ نصب بإضمار اذكر والملائكة جمع ملاك كالشمائل جمع شمأل والحاق التاء بتأنيث الجمع ﴿إِنّي جَاعِلٌ﴾ أي مصير من جعل الذي له مفعولان وهما ﴿فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ وهو من يخلف غيره فعيلة بمعنى فاعلة وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى خليفة منكم
﴿وعلم آدم﴾ هو اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر واشتقاقهم آدم من أديم الأرض أو من الأدمة كاشتقاقهم يعقوب من العقب وإدريس من الدرس وإبليس من
البقرة (٣١ _ ٣٤)
الإبلاس ﴿الأسماء كُلَّهَا﴾ أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء إذ الإسم يدل على المسمى وعوض منه اللام كقوله تعالى
﴿قَالُواْ سبحانك﴾ تنزيهاً لك أن يخفى عليك شيء أو عن الاعتراض عليك في تدبيرك وأفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق النخلى للعبادة فكيف بعلم الشريعة انتصابه على المصدر تقديره سبحت الله تسبيحاً ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾ وليس فيه علم الاسماء وما بمعنى الذي والعلم بمعنى المعلوم أي لا معلوم لنا إلى الذي علمتنا ﴿إِنَّكَ أَنتَ العليم﴾ غير المعلم ﴿الحكيم﴾ فيما قضيت وقدرت والكاف اسم إن وأنت مبتدا وما بعده خبره والجملة خبران أو أنت فصل والخبر العلم والحكيم خبر ثان
﴿قال يا آدم أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم﴾ سمى كل شيء باسمه ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أعلم غيب السماوات والأرض﴾ أي أعلم ما غاب فيهما عنكم
﴿وإذ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ﴾ أي اخضعوا له وأقروا بالفضل له عن أبي بن كعب وعن ابن عباس رضى الله عنهما كان ذلك انحناء ولم يكن خروراً على الذقن والجمهور على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلا لله تعالى ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ الاستثناء متصل لأنه كان من الملائكة كذا قاله على وابن عباس وابن
البقرة (٣٤ _ ٣٦)
مسعود رضى الله عنهم ولأن الأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ولهذا قال مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تسجد إذ أمرتك وقوله كان من الجن معناه صار من الجن كقوله فَكَانَ مِنَ المغرقين وقيل الاستثناء منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور ولأنه أبى وعصى واستكبر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ولا يستكبرون عن عبادته ولأنه قال أَفَتَتَّخِذُونَهُ وذريته أولياء من دونى ولا نسل للملائكة وعن الجاحظ أن الجن والملائكة جنس واحد فمن طهر منهم فهو ملك ومن خبث فهو شيطان ومن كان بين بين فهو جن ﴿أبى﴾ امتنع مما أمر به ﴿واستكبر﴾ تكبر عنه ﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر لا بترك العمل بالأمر لأن ترك السجود لا يخرج من الإيمان ولا يكون كفراً عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج أو كان من الكافرين في علم الله أي وكان في علم الله أنه يكفر بعد إيمانه لا أنه كان
﴿وقلنا يا آدم اسكن﴾ أمر من سكن الدار يسكنها سكنى إذا أقام فيها ويقال سكن المتحرك سكوناً ﴿أَنتَ﴾ تأكيد للمستكن في اسكن ليصح عطف ﴿وَزَوْجُكَ﴾ عليه ﴿الجنة﴾ هي جنة الخلد التي وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف وقالت المعتزلة كانت بستاناً باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها قلنا إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء وقد دخل النبي عليه السلام ليلة المعراج ثم خرج منها وأهل الجنة يكلفون المعروفة والتوحيد ﴿وَكُلاَ مِنْهَا﴾ من ثمارها فحذف المضاف ﴿رَغَدًا﴾ وصف للمصدر أي أكلاً رغداً واسعاً ﴿حيث شئتما﴾ وبابه بغير همز أبو عمرو وحيث للمكان المبهم أي أيَّ مكان من الجنة شئتما ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ أي الحنطة ولذا قيل كيف لا يعصي الإنسان وقوته من شجرة العصيان أو الكرمة لأنها أصل كل فتنة أو التينة ﴿فَتَكُونَا﴾ جزم عطف على تقربا أو نصب جواب للنهي ﴿مِنَ الظالمين﴾ من الذين ظلموا أنفسهم أو من الضارين انفسهم
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا﴾ أي عن الشجرة أي فحملها الشيطان على الزلة بسببها وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها أو فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما فأزالهما حمزة وزلة آدم بالخطأ في التأويل إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم أو بحمل اللام على تعريف العهد وكأن الله تعالى أراد الجنس والأول الوجه وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال مشايخ بخارى فإنه اسم الفعل يقع على خلاف الأمر من غير قصد إلى الخلاف كزلة الماشي في الطين وقال مشايخ سمرقند لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا
البقرة (٣٦ _ ٣٨)
عليه ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من النعيم والكرامة أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في عنها وقد توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له أخرج منها فإنك رجيم لأنه منع عن
﴿فتلقى آدم مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها وبنصب آدم ورفع كلمات مكي على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به وهن قوله تعالى ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ وفيه موعظة لذريتهما حيث عرفوا كيفية السبيل إلى التنصل من الذنوب وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن أحب الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حيث اقترف الخطيئة سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال يا رب ألم تنفخ فيَّ من روحك ألم تسبق رحمتك غضبك ألم تسكنى جنتك وهو تعالى يقول بلى بلى قال فلم أخرجتني من الجنة قال بشؤم معصيتك قال تبت أراجعي أنت إليها قال نعم ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ فرجع عليه بالرحمة والقبول واكتفى بذكر توبة آدم
﴿قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ حال أي مجتمعين وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد أو لأن الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض أو لما نيط به من زيادة قوله ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ أي رسول أبعثه إليكم أو كتاب أنزله عليكم بدليل قوله تعالى ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا﴾ في مقابلة قوله ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ أى بالقبول والإيمان به
البقرة (٣٨ _ ٤١)
﴿فلا خوف عليهم﴾ فى المستقبل فلا خوف بالفتح فى كل القرآن ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما خلفوا والشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول كقولك إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك فلا خوفَ بالفتح في كل القرآن يعقوب.
﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك﴾ مبتدأ والخبر ﴿أصحاب النار﴾ أي أهلها ومستحقوها والجملة في موضع الرفع خبر المتبدأ أعني والذين ﴿هُمْ فِيهَا خالدون﴾
﴿يا بني إسرائيل﴾ هو يعقوب عليه السلام وهو لقب له ومعناه في لسانهم صفوة الله أو عبد الله فإسرا هو العبد أو الصفوة وإيل هو الله بالعبرية وهو غير منصرف لوجود العليمة والعجمة ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ذكرهم النعمة أن لا يخلوا بشكرها ويطيعوا مانحها وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل والتوبة عليهم وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد ﷺ المبشر به فى التوراة والإنجيل ﴿وأوفوا﴾ أدواوافيا تاماً يقال وفيت له بالعهد فأنا وافٍ به وأوفيت له بالعهد فأنا موف به والاختيار أوفيت وعليه نزل التنزيل ﴿بِعَهْدِي﴾ بما عهاد تمونى عليه من الإيمان بي والطاعة لي أو من الإيمان بنبي الرحمة والكتاب المعجز ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بما
﴿وآمنوا بما أنزلت﴾ يعنى القرآن ﴿مصدقا﴾ حال مؤكد من الهاء المحذوفة كأنه قيل أنزلته مصدقاً ﴿لِّمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة يعني في العبادة والتوحيد والنبوة وأمر محمد عليه السلام ﴿وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي أول من كفر به أو أول حزب أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته والضمير في به يعود إلى القرآن ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ﴾ ولا تستبدلوا
البقرة (٤١ _ ٤٥)
﴿بآياتي﴾ بتغييرها وتحريفها ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ قال الحسن هو الدنيا بحذافيرها وقيل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا عليها الفوات لو اتبعوا رسول الله ﴿وإياى فاتقون﴾ فخافوني فارهبوني فاتقوني بالياء في الحالين وكذلك كل ياء محذوفة في الخط يعقوب
﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾ لبس الحق بالباطل خلطه والباء إن كانت صلة مثلها في قولك لبست الشئ بالشئ خلطته به كان المعنى ولا تكتيوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذى كتبتم حتى لايميز بين حقها وباطلكم وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك
﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ أي صلاة المسلمين وزكاتهم ﴿واركعوا مَعَ الراكعين﴾ منهم لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم أي أسملوا وعملوا عمل أهل الإسلام وجاز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنا بالسجود وأن يكون أمر بالصلاة مع المصلين يعني في الجماعة أي صلوها مع المصلين لا منفردين
والهمزة في ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس﴾ للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم ﴿بالبر﴾ أي سعة الخير والمعورف ومنه البر لسعته ويتناول كل خير ومنه قولهم صدقت وبررت وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد عليه السلام ولا يتبعونه وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وإذا أتوا بالصدقات ليفرقوها خانوا فيها ﴿وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ وتتركونها من البر كالمنسيات ﴿وأنتم تتلون الكتاب﴾ تبكيت أى تتلون التوراة وفيها نعت محمد عليه السلام أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أفلا تفطنون لقبيح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم
﴿واستعينوا﴾ على حوائجكم إلى الله ﴿بالصبر والصلاة﴾ أي بالجمع
البقرة (٤٥ _ ٤٩)
والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها وكان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه نعى إليه أخوه وقثم وهو في سفر فاسترجع وصلى ركعتين ثم قال واستعينوا بالصبر والصلاة وقيل الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ومنه قيل لشهر رمضان شهر الصبر وقيل الصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله في دفعه ﴿وَإِنَّهَا﴾ الضمير للصلاة أو للاستعانة ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ لشاقة ثقيلة من قولك كبر عَلَيَّ هذا الأمر ﴿إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم ألا ترى إلى قوله
﴿الذين يظنون أنهم ملاقو رَبّهِمْ﴾ أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ويطمعون فيه وفسر يظنون بيتيقنون لقراءة عبد الله يعلمون أي يعلمون أنه لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة خالصة والخشوع الاخبات والتظامن وأما الخضوع فاللين والانقياد وفسر اللقاء بالرؤية وملاقوا ربهم بمعاينوه بلا كيف ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون﴾ لا يملك أمرهم في الآخرة أحد سواه
﴿يا بني إسرائيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ التكرير للتأكيد ﴿وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ نصب عطف على نعمتي أي اذكروا نعمتي وتفضيلي ﴿عَلَى العالمين﴾ على الجم الغفير من الناس يقال رأيت عالماً من الناس والمراد الكثرة
﴿واتقوا يَوْمًا﴾ أي يوم القيامة وهو مفعول به لا ظرف ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ﴾ مؤمنة ﴿عَن نَّفْسٍ﴾ كافرة ﴿شَيْئاً﴾ أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق التى لزمتها وشيئا مفعول به أو مصدر أي قليلاً من الجزاء والجملة منصوبة المحل صفة يوما والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره لا تجزى فيه ﴿ولا يقبل منها شفاعةٌ﴾ ولا تقبل بالتاء مكى وبصرى والضمير فى منها يرجع إن النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة وقيل كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا فهو كقوله فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة مردود لأن المنفي شفاعة الكفار وقد قال عليه السلام شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي من كذب بها لم ينلها ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ أي فدية لأنها معادلة للمفدى ﴿ولا هم ينصرون﴾ يعانون وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة وذكّر لمعنى العباد أو الأناسي
﴿وإذ نجيناكم من آل فِرْعَوْنَ﴾ أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفا وخص استعمال
البقرة (٤٩ _ ٥١)
بأولى الخطر كالملوك وأشباههم فلا يقال آل الإسكاف والحجام وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ حال من آل فرعون أي يولونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنها بمعنى يبغونكم ﴿سوء العذاب﴾ ويريدونكم عليه ومساومة البيع مزايدة أو مطالبة وسوء مفعول ثان ليسومونكم وهو مصدر سئ يقال اعود بالله من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما ومعنى سوء العذاب والعذاب
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا﴾ فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرئ فرّقنا أي فصلنا يقال فرق بين الشيئين وفَرَّقَ بين الأشياء لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط ﴿بِكُمُ البحر﴾ كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم أو فرقناه بسببكم أو فرقناه ملتبساً بكم فيكون في موضع الحال رُوي أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام أين أصحبانا فنحن لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم ﴿فأنجيناكم وَأَغْرَقْنَا آل فِرْعَونَ وَأَنتُم تَنظُرونَ﴾ إلى ذلك وتشاهدونه ولا تشكون فيه
وإنما قال ﴿وَإِذْ واعدنا موسى﴾ لأن الله تعالى وعده بالوحي ووعده هو المجئ للميقات إلى الطور وعدنا حيث كان بصري لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وقال ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ لأن الشهور غررها بالليالى وأربعين مفعول ثان لو اعدنا
﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ﴾ محونا ذنوبكم عنكم ﴿مِن بَعْدِ ذلك﴾ من بعد اتخاذكم العجل ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ لكي
البقرة (٥٣ _ ٥٥)
تشكروا النعمة فى العفو عنكم
﴿وإذ آتينا مُوسَى الكتاب والفرقان﴾ يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ونظيره رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام وقيل الفرقان انفلاق البحر أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ لكي تهتدوا
﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ﴾ للذين عبدوا العجل ﴿يا قوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل﴾ معبوداً ﴿فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ﴾ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت وفيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم إبرياء من التفاوت إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة والبلادة ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ قيل هو على الظاهر وهو البخع وقيل معناه قتل بعضهم بعضاً وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة فقتل سبعون ألفاً
﴿وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ عياناً وانتصابها على المصدر كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس أو على الحال من نرى أي ذوي جهرة ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة﴾ أي الموت قيل هي نار جاءت من السماء فأحرقتهم روي أن السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الانطلاق إلى الجبل قالوا له نحن لم نعبد العجل كما عبده هؤلاء فأرنا الله جهرة فقال موسى سألته ذلك فأباه عليّ فقالوا إنك رأيت الله تعالى فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فبعث الله عليهم صاعقة فأحرقتهم وتعلقت المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت قلنا إنما عوقبوا بكفرهم لأن قولهم إنك رأيت الله فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كفر منهم ولأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يروا ربهم جهرة والإيمان بالانبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم ولأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد
البقرة (٥٥ _ ٥٨)
﴿وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ إليها حين نزلت
﴿ثُمَّ بعثناكم﴾ أحييناكم وأصله الإثارة ﴿مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمة البعث بعد الموت
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام﴾ جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى ﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن﴾ الترنجبين وكان ينزل عليهم مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ﴿والسلوى﴾ كان يبعث الله عليهم الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه وقلنا لهم ﴿كُلُواْ مِن طيبات﴾ لذيذات أو حلالات ﴿مَا رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا﴾ يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا ﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أنفسهم مفعول يظلمون وهو خبر كان
﴿وإذ قلنا﴾ لهم بعد ما خرجوا من التيه ﴿ادخلوا هذه القرية﴾ أي بيت المقدس أو أريحاء والقرية المجتمع من قريت لأنها تجمع الخلق أمروا بدخولها بعد التيه ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ من طعام القرية وثمارها ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ واسعاً ﴿وادخلوا الباب﴾ باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلوا الباب في حياته ودخلوا بيت المقدس بعده ﴿سُجَّدًا﴾ حال وهو جمع ساجد أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً له ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ فعلة من الحط كالجلسة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب وقد قرئ به بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات وقيل أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها وعن على رضى الله عنه هو بسم الله الرحمن الرحيم وعن عكرمة هو لا إله إلا الله ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم﴾ جمع خطيئة وهي الذنب يغفر مدني تغفر شامي ﴿وَسَنَزِيدُ المحسنين﴾ أي من كان محسناً منكم
﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾ فيه حذف وتقديره فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم فبدل يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بالباء فالذي مع الباء متروك والذي بغير باء موجود يعني وضعوا مكان حطة قولاً غيرها أي أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار
البقرة (٥٩ _ ٦١)
فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله وقيل قالوا مكان حطة حنطة وقيل قالوا بالنبطية حطا سمقاثا أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا﴾ عذاباً وفي تكرير الذين ظلموا زيادة في تقبيح امرهم وإيزان بإنزال الرجز عليهم لظملهم ﴿مِّنَ السماء﴾ صفة لرجز ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ بسبب فسقهم روي أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً وقيل سبعون ألفا
﴿وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ﴾ موضع إذ نصب كأنه قيل واذكروا إذا استسقى أي استدعي أن يسقي قومه ﴿فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر﴾ عطشوا في التيه فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر واللام للعهد والإشارة إلى حجر معلوم فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر إثنا عشر ميلاً أو للجنس أى اضرب الشئ الذي يقال له الحجر وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة ﴿فانفجرت﴾ الفاء متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أي سالت بكثرة أو فإن ضربت فقد انفرجت وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ ﴿مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عينا﴾ على عدد الأسباط وقرئ بكسر الشين وفتحها وهما لغتان وعيناً تمييز ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ﴾ كل سبط ﴿مَّشْرَبَهُمْ﴾ عينهم التي
﴿وإذ قلتم يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد﴾ هو ما رزقوا في التيه من المن والسلوى وإنما قالوا على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ويراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف أو أرادوا أنهما ضرب واحد لأنهما معا من طعام أهل التلذد والتترف وكانوا من أهل الزراعات فأرادوا ما ألفوا من البقول والحبوب وغير ذلك ﴿فادع لَنَا ربك﴾ سله
البقرة (٦٠)
وقل له أخرج لنا ﴿يُخْرِجْ لَنَا﴾ يظهر لنا ويوجد ﴿مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا﴾ هو ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايب البقول كالنعناع والكرفس والكراث ونحوهما مما يأكل الناس ﴿وَقِثَّآئِهَا﴾ يعني الخيار ﴿وَفُومِهَا﴾ هو الحنطة أو الثوم لقراءة ابن مسعود وثومها ﴿وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى﴾ أقرب منزلة وأدون مقداراً والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار ﴿بالذي هُوَ خَيْرٌ﴾ أرفع وأجل ﴿اهبطوا مِصْرًا﴾ من الأمصار أي انحدروا إليه من التيه وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ أو مصر فرعون وإنما صرفه مع وجود السببين وهما التأنيث والتعريف لإرادة البلد أو لسكون وسطه كنوح ولوط وفيهما العجمة والتعريف ﴿فَإِنَّ لَكُم﴾ فيها ﴿مَّا سَأَلْتُمْ﴾ أي فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في التيه ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ أي الهوان والفقر يعني جعلت الذلة محيطة بهم
في السبت ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود
البقرة (٦١ _ ٦٥)
الآيات وقتلهم الأنبياء أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا
﴿إن الذين آمنوا﴾ بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون ﴿والذين هادوا﴾ تهودا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية وهو
﴿وإذ أخذنا ميثاقكم﴾ بقبول ما التوراة ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ أي الجبل حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى إن قبلتم وإلا ألقي عليكم حتى قبلوا وقلنا لكم ﴿خذوا ما آتيناكم﴾ من الكتاب أي التوراة ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجدٍ وعزيمة ﴿واذكروا مَا فِيهِ﴾ واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسون ولا تغفلوا عنه ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ رجاء منكم أن تكونوا متقين
﴿ثمّ تولّيتم﴾ ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به ﴿مِن بَعْدِ ذلك﴾ من بعد القبول ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بتأخير العذاب عنك أو
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ عرفتم فيتعدى إلى مفعول واحد ﴿الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت﴾ هو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وقد اعتدوا فيه أى جاوزوا ماحدلهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد وذلك أن الله تعالى نهاهم أن يصيدوا في السبت ثم ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت فإذا مضى تفرقت فحفورا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لأمنها من الصيد فكانوا يسدون مشارعها من
البقرة (٦٥ _ ٦٨)
البحر فيصطادونها يوم الأحد فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ﴾ بتكويننا إياكم ﴿قِرَدَةً خاسئين﴾ خبر كان أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد
﴿فجعلناها﴾ يعنى المسخة ﴿نكالا﴾ عبرة تنكل من اعتبربها أى تمنعه ﴿لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ لما قبلها ﴿وَمَا خلفها﴾ وما بعدها من الأمم والقرود لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين ﴿وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ﴾ الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متقٍ سمعها
﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ﴾ أي واذكروا إذ قال موسى وهو معطوف على نعمتي في قوله اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم كأنه قال اذكروا ذاك واذكروا إذ قال موسى وكذلك هذا في الظروف التي مضت أي اذكروا نعمتي واذكروا وقت إنجائنا إياكم واذكروا وقت فرقنا واذكروا نعمتي واذكروا وقت استسقاء موسى ربه لقومه والظروف التي تأتي إلى قوله وإذ ابتلى إبرااهيم ربه ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن﴾ أي بأن
﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هِىَ﴾ سؤال عن حالها وصفتها لأنهم كانوا عاملين بماهيتا لأن ما وإن كانت سؤالاً عن الجنس وكيف عن الوصف ولكن قد تقع ما موقع كيف وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن وما هي خبر ومبتدأ ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ﴾ مسنة وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخر ها وارتفع فارض لأنه صفة لبقرة وقوله ﴿وَلاَ بِكْرٌ﴾ فتية عطف عليه ﴿عَوَانٌ﴾ نصف ﴿بَيْنَ ذلك﴾ بين الفارض والبكر ولم يقل بين ذينك مع أن بين يقتضي شيئين فصاعداً لأنه أراد بين هذا المذكور وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا قال أبو عبيدة قلت لرؤية فى قوله
البقرة (٦٨ _ ٧١)
... فيها خطوط من سواد وبلق... كأنه في الجلد توليع البهق...
إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما
﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لَوْنُهَا﴾ موضع ما رفع لأن معناه الاستفهام تقديره ادع لنا ربك يبين لنا أي شيء لونها ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾ الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع وهوتو كيد لصفراء وليس خبراً عن اللون إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل ولا فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها وفي ذكر اللون فائدة التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جدجدة ﴿تَسُرُّ الناظرين﴾ لحسنها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه عن علي رضى الله عنه من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله تعالى تسر الناظرين
﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هِىَ﴾ تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها وعن النبي عليه السلام لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم والاستقصاء شؤم ﴿إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا﴾ إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علنا ﴿وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل وإن شاء الله اعتراض بين اسم إن وخبرها وفي الحديث لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد أي لو لم يقولوا إن شاء الله
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تثير الأرض﴾ لاذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ﴿وَلاَ تَسْقِي الحرث﴾ ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقى الحروث ولا الاولى نافية والثانة مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أي تقلبها للزراعة وتسقي الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية ﴿مُّسَلَّمَةٌ﴾ عن العيوب وآثار العمل ﴿لا شية فيها﴾ لالمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها وهي فى الأصل مصدر وشاه وشياوشية إذا خلط بلونه لونا آخر ﴿قالوا الآن جئت بالحق﴾ أى بحقيقة وصف البقرة
البقرة (٧١ _ ٧٣)
وما بقي إشكال في أمرها جئت وبابه بغير همز أبو عمرو ﴿فَذَبَحُوهَا﴾ فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها ﴿وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة في ظهور القاتل روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وكان براً بوالديه فشبت البقرة وكانت من أحسن البقر وأسمنه فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة وهذا البيان من قبيل تقييد المطلق فكان نسخاً والنسخ قبل الفعل جائز وكذا قبل التمكن منه عندنا خلافاً للمعتزلة
﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ بتقدير واذكروا خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ
﴿فَقُلْنَا﴾ والضمير في ﴿اضربوه﴾ يرجع إلى النفس والتذكير بتأويل الشخص والإنسان أو إلى القتيل لما دل عليه ما كنتم تكتمون ﴿بِبَعْضِهَا﴾ ببعض البقرة وهو لسانها أو فخذها اليمنى أو عجبها والمعنى فضربوه فحي فحذف ذلك لدلالة ﴿كذلك يُحْيىِِ الله الموتى﴾ عليه روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله تعالى وقال قتلنى فلان وفلان لا بنى عمه ثم سقط ميتا فأخذاوقتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك وقوله كذلك يحيي الله الموتى إما أن يكون خطاباً للمنكرين في زمن النبي عليه السلام وإما أن يكون خطاباً للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة ﴿ويريكم آياته﴾ دلالة على أنه قادر على كل شيء ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فتعملون على قضية عقولكم وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص والحكمة في ذبح البقرة وضربه ببعضها وإن قدر على إحيائه بلا واسطة
البقرة (٧٣)
يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها وأن يقال وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ولكنه تعالى إنما قص قصص بنى اسرئيل تعديداً لما وجد منهم من الجنايات وتقريعاً لهم عليها وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد في تثنية التقريع ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها إن وصلت بالأولى بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله اضربوه ببعضها ليعلم أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وقصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة وقيل هذه القصة تشير إلى أن من أراد إحياء قلبه بالمشاهدات فليمت نفسه بأنواع المجاهدات
ومعنى ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ استبعاد القسوة ﴿مِن بَعْدِ﴾ ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها وصفة القلوب بالقسوة مثل لنبوها عن الاعبتار والاتعاظ من بعد ﴿ذلك﴾ إشارة إلى إحياء القتيل أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة ﴿فَهِىَ كالحجارة﴾ فهي في قسوتها مثل الحجارة ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ منها وأشد معطوف على الكاف تقديره أو مثل أشد قسوة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو هي في أنفسها أشد قسوة يعني أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة
البقرة (٧٣ _ ٧٨)
لا تخشى ﴿وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وبالياء مكي وهو وعيد
﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ الخطاب لرسول الله والمؤمنين ﴿أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ أن يؤمنوا لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم كقوله تعالى فآمن له لوط يعني اليهود ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ﴾ طائفة فيمن سلف منهم ﴿يَسْمَعُونَ كلام الله﴾ أي التوراة ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ كما حرفوا صفة رسول الله ﷺ وآية الرجم ﴿مِن بَعْدِِ مَا عَقَلُوهُ﴾ من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كاذبون مفترون والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك
﴿وإذا لقوا﴾ أى المنافقين أو اليهود ﴿الذين آمنوا﴾ أى
﴿أو لا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ﴾ جميع ﴿مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان
﴿وَمِنْهُمُ﴾ ومن اليهود ﴿أُمِّيُّونَ﴾ لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها ﴿لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب﴾ التوراة ﴿إلا أماني﴾ الاماهم عليه من أمانيهم وأن الله يعفوا عنهم ويرحمهم ولا تمسهم النار إلا أياماً معدودة أو إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد ومنه قول عثمان رضى الله عنه ما تمنيت منذ أسلمت أو إلا ما يقرءون من قوله... تمنى كتاب الله أول ليلة... وآخرها لا في حمام المقادر...
البقرة (٧٩ _ ٨٣)
عئائدوا بالتحريف مع العلم ثم العوام الذين قلدوهم
﴿فَوَيْلٌ﴾ في الحديث ويل واد في جهنم ﴿لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب﴾ المحرف ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون منزلاً وذكر الأيدي للتأكيد وهو من مجاز التأكيد ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ عوضاً يسيراً ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ من الرشا
﴿وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة﴾ أربعين يوماً عدد أيام عبادة العجل وعن مجاهد رضى الله عنه كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا﴾ أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار ﴿فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ﴾ متعلق بمحذوف تقديره إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أم إما أن تكون معادلة أي أتقولون على الله ما تعلمون أم تقولون عليه مالا تعلمون أو منقطعة أي بل أتقولون على الله مالا تعلمون
﴿بلى﴾ إثبات لما بعد النفي وهو لن تمسنا النار أى بل تمسكم أبداً بدليل قوله هم فيها خالدون ﴿مَن كَسَبَ سَيّئَةً﴾ شركاً عن
﴿والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون﴾
﴿وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾ الميثاق العهد المؤكد غاية التأكيد ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ إخبار في معنى النهي كما تقول تذهب إلى فلان تقول له كذا تريد الأمر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء وهو يخبر عنه وتنصره قراءة أبيّ لا تعبدوا وقوله وقولوا والقول مضمر لا يعبدون مكي وحمزة وعلي لأن بني إسرائيل اسم ظاهر والأسماء الظاهرة كلها غيب ومعناه ألا يعبدوا فلما حذفت أن رفع ﴿وبالوالدين إحسانا﴾
البقرة (٨٣ _ ٨٥)
أى وأحسنو ليلتئم عطف الأمر وهو قوله وقولوا عليه ﴿وَذِي القربى﴾ القرابة ﴿واليتامى﴾ جمع يتيم وهو الذي فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم لقوله عليه السلام لا يتم بعد البلوغ ﴿والمساكين﴾ جمع مسكين وهو الذي أسكنته الحاجة ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ قولاً هو حسن في نفسه لا فراط حسنه
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم﴾ أي لا يفعل ذلك بعضكم ببعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلاً أو ديناً وقيل إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه ﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ عليها كما تقول فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها أو وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق
﴿ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء﴾ استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم واقرارهم وشهادتهم أنتم مبتدأ هؤلاء بمعنى الذين ﴿تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ صلة هؤلاء وهؤلاء مع صلته خبر أنتم ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم﴾ غير مراقبين ميثاق الله ﴿تظاهرون علَيْهِم﴾ بالتخفيف كوفي أي تتعاونون وبالتشديد غيرهم فمن خفف فقد حذف احدى التاءين ثم قيل هي الثانية لأن الثقل بها وقيل الأولى ومن شدد قلب التاء الثانية ظاء وأدغم ﴿بالإثم والعدوان﴾ بالمعصية والظلم ﴿وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم﴾ تفدوهم أبو عمرو أسرى تفدوهم مكي وشامي أسرى تفدوهم حمزة أسارى تفادوهم على فدى وفادى بمعنى وأسارى حال وهو جمع أسير وكذلك أسرى والضمير في ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾ للشأن أو هو ضمير مبهم تفسيره {إِخْرَاجُهُمْ
البقرة (٨٥ _ ٨٨)
إلا الفداء ﴿فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك﴾ هو إشارة إلى الإيمان ببعض والكفر ببعض ﴿مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ﴾ فضيحة وهوان ﴿فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب﴾ وهو الذي لا روح فيه ولا فرح أو إلى أشد من عذاب الدنيا ﴿وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بالياء مكي ونافع وأبو بكر
﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة﴾ اختاروها على الآخرة اختيار المشتري ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم
﴿ولقد آتينا موسى الكتاب﴾ التوراة أتاه جملة ﴿وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل﴾ يقال قفاه إذا اتبعه من القفا نحو ذنبه من الذنب وقفاه به إذا أتبعه إياه يعني وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل وهم يوشع واشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البينات﴾ هي بمعنى الخادم ووزن مريم عند النحويين مفعل لأن فعيلاً لم يثبت في الأبنية البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات ﴿وأيدناه بِرُوحِ القدس﴾ أي الطهارة وبالسكون حيث كان مكي أي بالروح المقدسة كما
﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع أغلف أي هي خلقة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد عليه السلام ولا تفقهه
البقرة (٨٨ _ ٩١)
مستعار من الأغلف الذى لم يختن ﴿بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ﴾ فرد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم ﴿فقليلا ما يؤمنون﴾ فقليلا صفة مصدر محذوف أي فإيماناً قليلاً يؤمنون وما مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل القلة بمعنى العدم وقيل غلف تخفيف غلف وقرىء به جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا من غيره أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقاً لقبلنا
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ أي اليهود ﴿كتاب مّنْ عِندِ الله﴾ أي القرآن ﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ من كتابهم لا يخالفه ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ﴾ يعني القرآن ﴿يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ﴾ يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا اللهم انصرنا يا لنبى المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته فى التوراة ويقولون لأعدائهم المشكرين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عادو إرم ﴿فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ﴾ ما موصولة أي ما عرفوه وهو فاعل جاء ﴿كَفَرُواْ بِهِ﴾ بغياً وحسداً وحرصاً على الرياسة ﴿فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ أي عليهم وضعاً للظاهر موضع المضمر للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم واللام للعهد أو للجنس ودخلوا فهي دخلولا فيه دخولاً أولياً وجواب لما الأولى مضمر وهو نحو كذبوا به وأنكروه أو كفروا جواب الأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد
وما في ﴿بِئْسَمَا﴾ نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس أى بئس شيئا بئسما وبابه غير مهموز أبو عمرو ﴿اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ﴾ أي باعوه والمخصوص بالذم ﴿أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله﴾ يعني القرآن ﴿بَغِيّاً﴾ مفعول له أي حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علة اشتروا ﴿أَن يُنَزِّلَ الله﴾ لأن ينزل أو على أن ينزل أى حسده على أن ينزل الله ينزل بالتخفيف مكى وبصرى ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ الذي هو الوحي ﴿على مَن يشاء من عباده﴾ وهومحمد عليه السلام ﴿فباؤوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ﴾ فصاروا أحقاء بغضب مترادف لأنهم كفورا بنبي الحق وبغوا عليه أو كفروا بمحمد بعد عيسى عليهما السلام أو بعد قولهم عزير ابن الله وقولهم يد الله مغلولة وغير ذلك ﴿وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ مذل
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ لهؤلاء اليهود ﴿آمِنُواْ بِمَا أنزل الله﴾ يعنى القرآن أو هو مطلق بتناول كل كتاب ﴿قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ أى
البقرة (٩١ _ ٩٤)
التوراة ﴿وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ﴾ أي قالوا ذلك والحال ٢ أنهم يكفرون بما وراء التوراة ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا لّمَا مَعَهُمْ﴾ غير مخالف له وفيه رد لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ومصدقا حال مؤكدة ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله﴾ أي فلم قتلتم فوضع المستقبل موضع الماضي ويدل عليه قوله ﴿مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي من قبل محمد عليه السلام اعتراض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء قيل قتلوا في يوم واحد ثلثمائة نبي في بيت المقدس
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُم موسى بالبينات﴾ بالآيات التسع وأدغم الدال في الجيم حيث كان أبو عمرو وحمزة وعلي ﴿ثُمَّ اتخذتم العجل﴾ إلهاً ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ من بعد خروج موسى عليه السلام إلى الطور ﴿وَأَنتُمْ ظالمون﴾ هو حال أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها أو اعتراض أي وأنتم قوم عادتكم الظلم
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ ما آتيناكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ كرر ذكر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى ﴿واسمعوا﴾ ما أمرتم به في التوراة ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك وطابق قوله جوابهم من حيث إنه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة
﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة﴾ أي الجنة ﴿عند الله﴾ ظرف ولكم خبر كان ﴿خَالِصَةً﴾ حال من الدار الآخرة أي سالمة لكم ليس لأحد سواكم فيها حق إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ﴿مّن دُونِ الناس﴾ هو للجنس ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين﴾ فيما تقولون لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصاً من الدار ذات الشوائب كما نقل عن العشرة
البقرة (٩٥ _ ٩٧)
المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه
﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ هو نصب على الظرف أي لن يتمنوه ما عاشوا ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بما أسلفوا من الكفر بمحمد عليه السلام وتحريف كتاب الله وغير ذلك وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله ولن تفعلوا ولن تمنوه لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ تهديد لهم
﴿ولتجدنهم أحرص الناس﴾ مفعولا وجدهم وأحرص ﴿على حياة﴾ التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وهى الحياة المتطاولة ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي على الحياة ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ هو محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس أحرص من الناس نعم قد دخل الذين أشركوا تحت الناس ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد كما أن جبريل وميكائيل خصا بالذكر وإن دخلا تحت الملائكة أو أريد وأحرص من الذين أشركوا فحذف لدلالة أحرص الناس عليه وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لعلمهم بحالهم والمشركون لا يعلمون ذلك وقوله ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم عش ألف نيروز وعن ابن عباس رضى الله عنهما هو قول الأعاجم زي هزارسال وقيل ومن الذين أشركوا كلام مبتدأ أي ومنهم ناسٌ يود أحدهم على حذف الموصوف والذين أشركوا على هذا مشار به إلى اليهود لأنهم قالوا عزير ابن الله والضمير في ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب﴾ لأحدهم وقوله ﴿أَن يُعَمَّرَ﴾ فاعل بمزحزحه أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره ويجوز أن يكون هو مبهماً وأن يعمر موضحة والزحزحة التبعيد والإنحناء قال في جامع العلوم وغيره لو يعمر بمعنى أن يعمر فلو هنا نائبة عن أن وأن مع الفعل في تأويل المصدر وهو مفعول يود أي يود أحدهم تعمير ألف سنة ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي بعمل هؤلاء الكفار فيجازيهم عليه وبالتاء يعقوب
﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ﴾ بفتح الجيم وكسر الراء بلا همزة مكي وبفتح الراء والجيم والهمز مشبعاً كوفي غير حفص وبكسر الراء والجيم بلا همز غيرهم ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ومعناه عبد الله لأن جبر هو العبد بالسريانية وايل اسم الله روي أَن ابن صوريا من أحبار اليهود حاج النبى ﷺ وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال جبريل فقال ذاك عدونا
البقرة (٩٧ _ ١٠١)
ولو كان غيره لآمنا وقد عادانا مراراً وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريل وقال إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه وإن لم يكن إياه فعلى أي ذنب تقتلونه ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ فإن جبريل نزل القرآن ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ﴿على قَلْبِكَ﴾ أي حفظه إياك وخص القلب لأنه محل الحفظ كقوله نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ وكان حق الكلام أن يقال على قلبي ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به وإنما استقام أن يقع فإنه نزله جزاء للشرط لأن تقديره إن عادى جبريل احد من أهل الكتاب فلاوجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه فى انزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليه وقيل جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدواً لجبريل فليمت غيظاً فإنه نزل الوحي على قلبك ﴿بِإِذْنِ الله﴾ بأمره ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ رد على اليهود حين قالوا إن جبريل ينزل بالحرب والشدة فقيل فإنه ينزل
﴿مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال﴾ بصرى وحفص وميكائل باختلاس الهمزة كميكاعل مدنى وميكائيل بالمد وكسر الهمزة مشبعة غيرهم وخص الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر إذ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين﴾ أي لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء ومن عاداهم عاداه الله
﴿ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون﴾ المتمردون من الكفرة واللام للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال ابن صوريا لرسول الله ﷺ ما جئتنا بشئ نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك بها فنزلت الواو فى
﴿أو كلما﴾ للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات البينات وكلما ﴿عاهدوا عهدا نبذه﴾ نقضه ورفضه قال ﴿فَرِيقٌ مّنْهُمُ﴾ لأن منهم من لم ينقض ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بالتوراة وليسوا من الدين في
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله﴾ محمد ﷺ ﴿مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أوتوا الكتاب﴾
أي التوراة والذين أوتوا الكتاب اليهود ﴿كتاب الله﴾ يعني التوراة لأنهم بكفرهم برسول الله ﷺ المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها أو كتاب الله القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول ﴿وَرَاء ظُهُورِهِمْ﴾ مثل لتركهم وإعراضهم عنه مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه ﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنه كتاب الله
﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ أي نبذ اليهود كتاب الله واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها ﴿على مُلْكِ سليمان﴾ أي على عهد ملكه وفى زمانه وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها فى كتب يقرءونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الجن والإنس والريح ﴿وَمَا كَفَرَ سليمان﴾ تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به ﴿ولكن الشياطين﴾ هم الذين ﴿كفروا﴾ باستعمال السحر وتدوينه ولكن بالتخفيف الشياطين بالرفع شامي وحمزة وعلي ﴿يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾ في موضع الحال أي كفروا معلمين الناس السحر قاصدين به إغواءهم وإضلالهم ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين﴾ الجمهور على أن ما بمعنى الذى وهو نصب عطف على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أو على ما تتلوا أي واتبعوا ما أنزل على الملكين ﴿بِبَابِلَ هاروت وماروت﴾
البقرة (١٠٢ _ ١٠٤)
﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ وما يعلم الملكان أحداً ﴿حتى يَقُولاَ﴾ حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ابتلاء واختبار من الله ﴿فلا تكفر﴾ بتعلمه والعلم به على وجه يكون كفراً ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ الفاء عطف على قوله يعلمون الناس السحر أي يعلمونهم فيتعلمون من السحر والكفر اللذين دل عليهما قوله كفروا ويعلمون الناس السحر أو على مضمر والتقدير فيأتون فيتعلمون والضمير لما دل عليه من أحد أي فيتعلم الناس من الملكين ﴿ما يفرِّقون به بين المرء وزوجه﴾ أي علم السحر الذى يكن سبباً في
﴿ولو أنهم آمنوا﴾ برسول الله والقرآن ﴿واتقوا﴾ الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله وابتاع كتب الشياطين ﴿لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أن ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا لكنه جهلهم لما تركوا العمل بالعلم والمعنى لأثيبوا من عند الله ما هو خير وأوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو لما فيها من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها ولم يقل لمثوبة الله خير لأن المعنى لشئ من الثواب خير لهم وقيل لو بمعنى التمني كأنه قيل وليتهم آمنوا ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَقُولُواْ راعنا وَقُولُواْ انظرنا﴾ كان المسلمون يقولون لرسول الله ﷺ إذا ألقي عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله أي راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه وكانت لليهود كلمة يتسابون بها
البقرة (١٠٤ _ ١٠٧)
به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو انظرنا من نظره إذا انتظره ﴿واسمعوا﴾ وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله ﷺ ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا ﴿وللكافرين﴾ ولليهود الذين سبو رسول الله ﷺ ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم
﴿مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم﴾ وبالتخفيف مكي وأبو عمرو ﴿مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبِّكُمْ﴾ من الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون والثانة مزيدة لاستغراق الحير والثالثة لابتداء الغاية والخير الوحي وكذلك الرحمة ﴿والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء﴾ يعني أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحى والله يختص بالنبوة من يشاء ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ فيه إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم لما طعنوا في النسخ فقالوا ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غدا نزل
﴿ما ننسخ من آية أَوْ نُنسِهَا﴾ تفسير النسخ لغة التبديل وشريعة بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ فهو يملك أموركم ويدبرها وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ
البقرة (١٠٧ _ ١١١)
﴿وما لكم من دون الله من ولي﴾ بلى أمركم ﴿وَلاَ نَصِيرٍ﴾ ناصر يمنعكم من العذاب
﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ أم منقطعة وتقديره بل أتريدون ﴿أن تسألوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ﴾ روي أن قريشاً قالوا يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً ووسع لنا أرض مكة فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه حين قال اجعل لنا إلهاً ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان﴾ ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل﴾ قصده ووسطه
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم﴾ أن يردوكم ﴿مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا﴾ حال من كم أي يردونكم عن دينكم كافرين نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة أحد ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق لما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم ﴿حَسَدًا﴾ مفعول له أي لأجل الحسد وهو الأسف على الخير عند الغير ﴿من عند أنفسهم﴾ يتعلق بود أي ودوا من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق لأنهم ودوا ذلك ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق﴾ أي من بعد علمهم بأنكم على الحق أو بحسدا أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم ﴿فاعفوا واصفحوا﴾ فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة ﴿حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ﴾ بالقتال ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو يقدر على الانتقام منهم
﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ﴾ من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما ﴿تَجِدُوهُ عِندَ الله﴾ تجدوا ثوابه عنده ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فلا يضيع عنده عمل عامل
والضمير في ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى﴾ لأهل الكتاب من اليهود والنصارى أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فلفّ بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمناً من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه ألا ترى إلى قوله تعالى وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء
البقرة (١١١ _ ١١٤)
وعوذ ووحد اسم كان للفظ من جمع الخبر لمعناه ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ أشير بها إلى الأمانى المذكورة وهى أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم والأمنية أفعولة من التمني مثل الأضحوكة ﴿قُلْ هَاتُواْ برهانكم﴾ هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة وهات بمنزلة هاء بمعنى أحضر وهو متصل بقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتلك أمانيهم اعتراض ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في دعواكم
﴿بلى﴾ إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ مصدق بالقرآن ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ﴾ جواب من أسلم وهو كلام مبتدأ متضمن لمعنى الشرط وبلى رد لقولهم ﴿عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
﴿وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء﴾ أي على شيء يصح ويعتد به والواو في ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب﴾ للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للآخر ﴿كذلك﴾ مثل ذلك القول الذي سمعت به ﴿قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ أي الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ موضع من رفع على الابتداء وهو استفهام واظلم خبره والمعنى أى أحد أظلم ووأن يذكر ثاني مفعولي منع لأنك تقول منعته كذا ومثله وما منعنا أن نرسل بالآيات وما منع الناس أن يؤمنوا ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن أي من أن يذكر وأن تنصبه مفعولاً له بمعنى منعها كراهة أن يذكر وهو حكم عام لجنس مساجد الله وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم والسبب فيه طرح النصارى في بيت المقدس الأذى ومنعهم الناس أن يصلوا
البقرة (١١٤ _ ١١٦)
فيه أو منع المشركين رسول الله أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية وإنما قيل مساجد الله وكان المنع على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم ورد عاماً وإن كان السبب خاصاً كقوله تعالى ويل لكل همزة والمنزول فيه الأخنس بن شريق ﴿وسعى فِى خرابها﴾ بانقطاع الذكر والمراد عن العموم كما أريد العموم بمساجد الله ﴿أولئك﴾ المانعون ﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا﴾ أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله ﴿إِلاَّ خَائِفِينَ﴾ حال من الضمير في يدخلوها أى على حالى التهيب وارتعاد الفرائض من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها والمعنى ما كان الحق إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم رُوي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً خيفة أن يقتل وقال قتادة لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا بولغ ضرباً ونادى رسول الله ﷺ ألا لا يحجن بعد هذا العام
﴿وَلِلَّهِ المشرق والمغرب﴾ أي بلاد المشرق والمغرب كلها له وهو مالكها ومتوليها ﴿فَأَيْنَمَا﴾ شرط ﴿تَوَلُّوْاْ﴾ مجزوم به أي ففي أي مكان فعلتم التولية يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره والجواب ﴿فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ أي جهته التي أمر بها ورضيها والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان ﴿إِنَّ الله واسع عَلِيمٌ﴾ أي وهو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده وهو عليم بمصالحهم وعن ابن عمر رضى الله عنهما نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت وقيل عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذرواهو حجة على الشافعى رحمه الله فيما إذا استدبر وقيل فأينما تولوا للدعاء والذكر
﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا﴾ يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله قالوا شامي فإثبات الواو باعتبار أنه قصة معطوفة على ما قبلها وحذفه باعتبار أنه استئناف قصة أخرى ﴿سبحانه﴾ تنزيه له عن ذلك وتبعيد ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ أي هو خالقه ومالكه ومن جملته المسيح وعزير والولادة تنافي الملك ﴿كُلٌّ لَّهُ قانتون﴾ منقادون
البقرة (١١٧ _ ١١٩)
لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه أى كل مافى
﴿بَدِيعُ السماوات والأرض﴾ أي مخترعهما ومبدعهما لا على مثال سبق وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له أبدعت ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة مبتدع لأنه يأتي في دين الإسلام ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضى الله عنهم ﴿وَإِذَا قضى أَمْرًا﴾ أي حكم أو قدر ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو من كان التامة أي أحدث فيحدث وهذا مجاز عن سرعة التكوين وتمثيل ولا قول ثُمَّ وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أن المأمور المطبع الذى يؤمر فيمتثل ولا يكون منه إباء وأكد بهذا استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدر كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثمّ والوجه الرفع في فيكون وهو قراءة العامة على الاستئناف أي فهو يكون أو على العطف على يقول ونصبه ابن عامر على لفظ كن لأنه أمر وجواب الأمر بالفاء نصب وقلنا إن كن ليس بأمر حقيقة إذ لا فرق بين أن يقال وإذا قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون وإذا كان كذلك فلا معنى للنصب وهذا لأنه لو كان أمراً فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب بكن أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب
﴿وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ من المشركين أو من أهل الكتاب ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به ﴿لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله﴾ هلا يكلمنا كما يكلم
﴿إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا﴾ للمؤمنين بالثواب ﴿وَنَذِيرًا﴾ للكافرين بالعقاب ﴿ولا تسأل عَنْ أصحاب الجحيم﴾ ولا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبلغت جهدك فى دعوتهم وهو حال كنذير أو بشير أو بالحق أى وغير مسئول أو مستأنف قراءة نافع ولا تسئل عن النهى ومعناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول كيف فلان سائلاً عن الواقع في بلية فيقال لك لا تسأل
البقرة (١٢٠ _ ١٢٤)
عنه وقيل نهى الله نبيه عن السؤال عن أحوال الكفرة حين قال ليت شعري ما فعل أبواي
﴿وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تتبع ملتهم﴾ كأنهم قالوا لن ترضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم فى الإسلام فذكر الله عز وجل كلامهم ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله﴾ الذي رضي لعباده ﴿هُوَ الهدى﴾ أي الإسلام وهو الهدى كله ليس وراءه هدى والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى إنما هو هوى ألا ترى إلى قوله ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم﴾ أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع ﴿بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم﴾ أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم
﴿الذين﴾ مبتدأ ﴿آتيناهم الكتاب﴾ صلته وهم مؤمنو أهل الكتاب وهو التوراة والإنجيل أو أصحاب النبي عليه السلام والكتاب القرآن ﴿يَتْلُونَهُ﴾ حال مقدرة من هم لأنهم لم يكونوا تالين له وقت إيتائه ونصب على المصدر ﴿حق تلاوته﴾ أى يقرءونه حق قراءته في الترتيل وأداء الحروف والتدبر والتفكر أو يعملون به ويؤمنون بما فى مضمونه ولا يغيرون ما فيه من نعت النبي ﷺ ﴿أولئك﴾ مبتدأ خبره ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ والجملة خبر الذين ويجوز أن يكون يتلونه خبراً والجملة خبر آخر ﴿وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون﴾ حيث اشتروا الضلالة بالهدى
﴿يا بني إسرائيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أي أنعمتها عليكم ﴿وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ وتفضيلي إياكم على عالمي زمانكم
﴿واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ هم رفع بالابتداء والخبر ينصرون والجمل الأربع وصف ليوما أي واتقوا يوماً لا تجزى فيه ولا يقبل فيه ولا ينفعها فيه ولا هم ينصرون فيه وتكرير هاتين الآيتين لتكرار المعاصي منهم وختم قصة بني إسرائيل بما بدأ به
﴿وَإِذْ﴾ أي واذكر إذ ﴿ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات﴾ اختبره بأوامر ونواه والاختبار منه لظهور مالم نعلم ومن الله لإظهار ما قد علم وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً فلذا تجوز إضافته إلى الله
البقرة (١٢٤ _ ١٢٥)
برفع إبراهيم وهى قراءة ابن عباس رضى الله عنهما أي دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أم لا ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي قام بهن حق القيام وأدّاهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ ونحوه وإبراهيم الذى وفى ومعناه فى قراءة ابى حنيفة رحمه الله فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً والكلمات على هذا ما سأل إبراهيم ربه في قوله رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا واجعلنا مسلمين لك وابعث فيهم رسولا منهم ربنا تقبل منا والكلمات على القراءة المشهورة خمس في الرأس الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق وخمس فى الجسد الختان وتقليم الأظافار ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء وعن ابن عباس رضى الله عنهما هي ثلاثون سهماً من الشرائع عشر في براءة التائبون الآية وعشر في الأحزاب إِنَّ المسلمين والمسلمات الآية وعشر فى المؤمنين والمعارج إلى قوله يُحَافِظُونَ وقيل هي مناسك الحج ﴿قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ هو اسم
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت﴾ أي الكعبة وهو اسم غالب لها كالنجم للثريا ﴿مَثَابَةً لّلنَّاسِ﴾ مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه ﴿وَأَمْناً﴾ وموضع أمن فإن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج وهو دليل لنا فى المتجىء إلى الحرم ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى﴾ وقلنا أتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه وعنه عليه السلام أنه أخذ بيد عمر فقال هذا مقام إبراهيم فقال عمر أفلا نتخذه مصلى فقال عليه السلام لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت وقيل مصلى مدعى ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه
البقرة (١٢٥ _ ١٢٨)
﴿للطائفين﴾ للدائرين حوله ﴿والعاكفين﴾ المجورين الذين عكفوا عنده أي أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين وقيل للطائفين للنزّاع إليه من البلاد والعاكفين والمقيمين من أهل مكة ﴿والركع السجود﴾ والمصلين جمعاً راكع وساجد
﴿وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِ اجعل هذا﴾ أي اجعل هذا اليلد أو هذا المكان ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ ذا أمن كعيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك ليل نائم فهذا مفعول أول وبلدا مفعول ثان وآمنا صفة له ﴿وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات﴾ لأنه لم يكن لهم ثمرة ثم أبدل من آمن منهم بالله واليوم الآخر من أهل بدل البعض من الكل أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة قاس الرزق على الإمامة فخص المؤمنين به قال الله تعالى جواباً له ﴿قال وَمَن كَفَرَ﴾ أي وارزق من كفر ﴿فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً﴾ تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إلى حين أجله فأمتعه شامي ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ ألجئه ﴿إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير﴾ المرجع الذي يصير إليه النار فالمخصوص بالذم محذوف
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ حكاية حال ماضية ﴿إبراهيم القواعد﴾ هي جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ﴿مِنَ البيت﴾ بيت الله وهو الكعبة
﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك﴾ مخلصين لك أو جهنا من قوله أسلم وجهه لله أو مستسلمين يقال أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن والمعنى زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك ﴿وَمِن ذُرّيَّتِنَا﴾ واجعل من ذريتنا ﴿أُمَّةً مُّسْلِمَةً لك﴾ ومن للتبعيض أو للنبيين وقيل أراد بالأمة أمة محمد عليه السلام وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة كقوله تعالى ﴿قوا أنفسكم وأهليكم نارا﴾ ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرف ولذا لم يتجاوز مفعولين أي وبصرنا متعبداتنا في الحج أو عرفناها وواحد المناسك منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك وأرنا مكي قاسه على فخذ فى فخذ وأبو عمر ويشم الكسرة ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ ما فرط منا من التقصير
البقرة (١٢٨ _ ١٣٢)
أو استتاباً لذريتهما ﴿إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم﴾
﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ﴾ في الأمة المسلمة ﴿رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ من أنفسهم فبعث الله فيهم محمداً عليه السلام قال عليه السلام أنا دعوة ابى إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا امى ﴿يتلو عَلَيْهِمْ آياتك﴾ يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك
﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم﴾ استفهام بمعنى الجحد وإنكار أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم والملة السنة والطريقة كذا عن الزجاج ﴿إِلاَّ مَنْ﴾ في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وصح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك هل جاءك أحد إلا زيد والمعنى وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي جهل نفسه أي لم يفكر في نفسه فوضع سفه موضع جهل وعدي كما عدي أو معناه سفه في نفسه فحذف في كما حذف من في قوله واختار موسى قومه أي من قومه وعلى في قوله وَلا تعزموا عقدة النكاح أي على عقدة النكاح والوجهان عن الزجاج وقال الفراء هو منصوب على التمييز وهو ضعف لكونه معرفة ﴿وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ بيان الخطأ رأي من يرغب عن ملته لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة فى طريقته منه
﴿إذ قال﴾ ظرف لاصطفيناه وانتصب بإضمار اذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب من ملة مثله ﴿لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ أذعن أو اطلع أو أخلص دينك لله ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ أى أخلصت اوانقدت
﴿ووصى﴾ وأوصى مدني وشامي ﴿بِهَا﴾ بالملة أو بالكلمة وهي أسلمت لرب العالمين ﴿إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً ﴿يَا بَنِىَّ﴾
البقرة (١٢٣ _ ١٣٦)
الإسلام إذا ماتوا كقولك لا تصلّ إلا وأنت خاشع فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته
﴿أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت﴾ أو منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت أي حين احتضر والخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك إنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي أو متصله ويقدر قبلها محذوف والخطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية كأنه قيل أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ﴿إذ قال﴾ يدل من إذ الأولى والعامل فيهما شهداء أو ظرف لحضر ﴿لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾ ما استفهام في محل النصب بتعبدون أى أى شيء تعبدون وما عام في كل شيء أو هو سؤال عن صفة المعبود كما تقول ما زيد تريد أفقيه أم طبيب ﴿مِن بَعْدِى﴾ من بعد موتي ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ﴾ أعيد ذكر الإله لئلا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ﴿إبراهيم وإسماعيل وإسحاق﴾ عطف بيان لآبائك وجعل إسماعيل من جملة آبائه وهو عمه لأن العم أب قال عليه السلام في العباس هذا بقية آبائي ﴿إلها واحدا﴾ بدل من إله آبائك كقوله بالناصية ناصية كاذبة أو نصب على الاختصاص أي نريد بإله آبائك إلهاً واحداً ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون ﴿أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم﴾ أي إن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لا فتخار هم بآبائهم ﴿ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾ ولا تؤاخذون بسيآتهم
﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى﴾ أي قالت اليهود كونوا هوداً وقالت النصارى كونوا نصارى وجزم ﴿تَهْتَدُواْ﴾ لأنه جواب الأمر ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم﴾ بل نتبع ملة إبراهيم ﴿حَنِيفاً﴾ حال من المضاف إليه نحو رأيت وجه هند قائمة والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلاًّ منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك
﴿قُولُواْ﴾ هذا خطاب للمؤمنين أو للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل ﴿آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ أي القرآن ﴿وما أنزل إلينا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾
السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله ﷺ والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر ويعدى أنزل بالى وعلى فلذا ورد هنا بالى وفى آل عمران بعلى ﴿وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى وأحد في معنى الجماعة ولذا صح دخول بين عليه ﴿وَنَحْنُ لَهُ مسلمون﴾ لله مخلصون
﴿فإن آمنوا بمثل ما آمنتم بِهِ فَقَدِ اهتدوا﴾ ظاهر الآية مشكل لأنه يوجب أن يكون الله تعالى مثل وتعالى عن ذلك فقيل الباء زائدة ومثل صفة مصدر محذوف تقديره فإن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم والهاء يعود إلى الله عز وجل وزيادة الباء غير عزيز قال الله تعالى والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والتقدير جزاء سيئة مثلها كقوله في الآية الاخرى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقيل المثل زيادة أي فإن آمنوا بما آمنتم به يؤيده قراءة ابن مسعود رضى الله عنه بما آمنتم به وما بمعنى الذي بدليل قراءة أبي بالذي آمنتم به وقيل الباء للاستعانة كقولك كتبت بالقلم أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها ﴿وإن تَوَلَّوْا﴾ عما تقولون لهم ولم ينصفوا أو إن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها ﴿فإنّما هم في شقاقٍ﴾ أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم وقد أنجز وعده بقتل بعضهم وإجلاء بعضهم ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين ﴿وَهُوَ السميع﴾ لما ينطقون به ﴿العليم﴾ بما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه فهو وعيد لهم أو وعد لرسول الله ﷺ أى بسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك
﴿صِبْغَةَ الله﴾ دين الله وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله آمنا بالله وهي فعلة من صيغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً حقا فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم قولوا آمنا بالله وصبغنا الله
البقرة (١٣٨ _ ١٤١)
تمييز أي لا صبغة أحسن من صبغته يريد الدين أو التطهير ﴿وَنَحْنُ لَهُ عابدون﴾ عطف على آمنا بالله وهذا العطف يدل على أن قوله صبغة الله داخل في مفعول قولوا آمنا أي قولوا هذا وهذا ونحن له عابدون ويردّ قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام
﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ﴾ أي أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وربكم﴾ نشترك جميعاً في أننا عباده وهو ربنا وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده ﴿وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم﴾ يعني أن العمل هو أساس الأمر وكما أن لكم أعمالاً فلنا كذلك ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ أي نحن له موحدون نخلصه بالإيمان وأنتم به مشركون والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالنبوة من غيره
﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ بالتاء شامي وكوفي غير أبي بكر وأم على هذا معادلة للهمزة في أتحاجوننا يعني أي الأمرين تأتون المحاجة في حكم الله أم إدعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء أو منقطعة أى بل أيقولون غيرهم بالياء وعلى هذا لا تكون الهمزة إلا منقطعة ﴿إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى﴾ ثم أمر نبيه عليه السلام أن
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾ كررت للتأكيد ولأن المراد بالأول الأنبياء عليهم
البقرة (١٤٢ _ ١٤٣)
السلام وبالثاني أسلاف اليهود والنصارى
﴿سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس﴾ الخفاف الأحلام فأصل السفه الخفة وهم اليهود لكراهتمهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء اوالمشركون لقولهم رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها والله ليرجعن إلى دينهم وفائدة الإخبار بقولهم قبل وقوعه توطين النفس إذ المفاجأة بالمكروه أشد وعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم فقيل الرمي يراش السهم ﴿مَا ولاهم﴾ ما صرفهم ﴿عَن قِبْلَتِهِمُ التى كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ يعنون بيت المقدس والقبلة الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة لأن المصلي يقابلها ﴿قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب﴾ أى بلاد الشرق والمغرب والأرض كلها له ﴿يَهْدِى مَن يَشَآءُ﴾ من أهلها ﴿إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريق مستوٍ أي يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهي الكعبة التي أمرنا بالتوجه
﴿وكذلك جعلناكم﴾ ومثل ذلك الجعل جعلناكم فالكاف للتشبيه وذاجر بالكاف واللام للفرق بين الإشارة إلى القريب والإشارة إلى البعيد والكاف للخطاب لا محل لها من الإعراب ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ خياراً وقيل للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية أي كما جعلت قبلتكم خير القبل جعلتكم خير الأمم أو عدولاً لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم أمة وسطاً بين العلو والتقصير فانكم لم تغلو غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا ﴿لّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ﴾ غير منصرف لمكان ألف التأنيث ﴿عَلَى الناس﴾ صلة شهداء ﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ عطف على لتكونوا روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء البينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد عليه السلام فيشهدون فيقول الأمم من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد عليه السلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم والشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الأشياء المعروفة ولما كان الشهيد كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء كقوله تعالى ﴿كُنتَ أَنتَ الرقيب عليهم﴾ وقيل ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول
البقرة (١٤٣ _ ١٤٤)
لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله وأخرت صلة الشهادة أو لا وقدمت آخراً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا﴾ أي وما جعلنا القبلة الجهة كنت عليها وهي الكعبة فالتي كنت عليها ليست بصفة للقبلة بل هي ثانى مفعول جعل روى أن رسول الله ﷺ كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾ أي وما جعلنا القبلة التي تحب أن تستقبلها الجهة التى كنت عليها أو لا بمكة إلا امتحانا للناس وابتلاء لنعلم الثابث على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقلته يرجع فيرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة قال الشيخ أبو منصور رحمه الله معنى قوله لنعلم أي لنعلم كائناً أو موجوداً ما قد علمناه أنه يكون ويوجد فالله تعالى عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيه ولا يوصف بأنه عالم في الأزل بأنه موجود كائن لأنه ليس بموجود في الأزل فكيف يعلمه موجوداً فإذا صار موجوداً يدخل تحت علمه الأزلي فيصير معلوما له موجودا كائنا والتغير عل المعلوم لا على العلم أو لتميز النابع من الناكص كما قال تعالى لِيَمِيزَ الله الخبيث من الطيب فوضع العلم موضع التميز لأن العلم به يقع التميز أو ليعلم رسول الله عليه الصلاة والسلام والمؤمنون وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم
لَرَؤُوفٌ﴾ مهموز مشبع حجازى وشامى وحفص رءوف غيرهم بوزن فعل وهما المبالغة ﴿رَّحِيمٌ﴾ لا يضيع أجورهم والرأفة أشد من الرحمة وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم
﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء﴾ تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء وكان رسول
البقرة (١٤٤ _ ١٤٥)
صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومحالفة لللهيود ولأنهاء ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياء له أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس ﴿قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ أى نحوه وشطر نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائي وذكر المسجد
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ أراد ذوي العناد منهم ﴿بكل آية﴾ برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق وجواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط ﴿وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ حسم لأطماعهم إذ كانوا اضطربوا فى ذلك وقالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم ووحدت القبلة وإن كان لهم قبلتان فلليهود قبلة وللنصارى قبلة لاتحادهم في البطلان ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك فاليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى مطلع الشمس ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم﴾ أي من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هي الكعبة وأن دين الله هو
البقرة (١٤٦ _ ١٥٠)
وتهييج للثبات على الحق وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى وقيل الخطاب في الظاهر للنبي عليه السلام والمراد أمته ولزم الوقف على الظالمين إذ لو وصل لصار
﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ صفة للظالمين وهو مبتدأ والخبر ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي محمداً عليه السلام أو القرآن أو تحويل القبلة والأول أظهر لقوله ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ قال عبد الله بن سلام أنا اعلم به منى يا بنى فقال له عمر ولم قال لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ﴾ أي الذين لم يسلموا ﴿لَيَكْتُمُونَ الحق﴾ حسدا وعنادا ﴿وهم يعلمون﴾ أن الله تعالى بينه في كتابهم
﴿الحق﴾ مبتدأ خبره ﴿مِن رَبَِكَ﴾ واللام للجنس أي الحق من الله لا من غيره يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل أو للعهد والإشارة إلى الحق الذى عليه رسول الله ﷺ أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ومن ربك خير بعد خبر أو حال ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ الشاكين في أنه من ربك
﴿وَلِكُلٍّ﴾ من أهل الأديان المختلفة ﴿وِجْهَةٌ﴾ قبلة وقرئ بها والضمير في ﴿هُوَ﴾ لكل وفي ﴿مُوَلِّيهَا﴾ للوجهة أي هو موليها وجهة فحذف أحد المفعولين أو هو لله تعالى أي الله موليها إياه هو مولاها شامي أي هو مولى تلك الجهة قد وليها والمعنى ولكل أمة قبلة يتوجه إليها منكم ومن غيركم ﴿فَاسْتَبِقُوا﴾ أنتم ﴿الخَيْرَاتِ﴾ فاستبقوا إليها غيركم من
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ ومن أي بلد خرجت للسفر ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ إذا صليت ﴿وَإِنَّهُ﴾ وإن هذا المأمور به ﴿لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وبالياء أبو عمرو
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ وهذا التكرير
البقرة (١٤٩ _ ١٥٤)
لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة فكرر عليهم ليثبتوا على أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوايدها ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي قد عرّفكم الله جل ذكره أمر الاحتجاج في القبلة بما قد بين فى قوله ولكل وجهة هوموليها لئلا يكون للناس لليهود عليكم حجة في خلاف ما في التوراة من تحويل القبلة وأطلق اسم الحجة على قول المعائدين لأنهم يسوقونه سياق الحجة ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ استثناء من الناس أي لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام أو معناه لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التى هى قبلة إبراهيم وإسمعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون بداله فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى
الكاف في ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ إما أن يتعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول أو بما بعده أي كما ذكر تكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب فعلى هذا يوقف على تهتدون وعلى الأول لا ﴿رسولا منكم﴾ نم العرب ﴿يتلو عليكم﴾ يقرا عليكم ﴿آياتنا﴾ القرآن ﴿وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب﴾ القرآن ﴿والحكمة﴾ السنة والفقه ﴿ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ مالا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي
﴿فاذكروني﴾ بالمعذرة ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بالمغفرة أو بالثناء والعطاء أو بالسؤال والنوال أو بالتوبة وعفو الحوبة أو بالاخلاص والخلاص أو بالمناجاة أو النجاة ﴿واشكروا لِي﴾ ما أنعمت به عليكم ﴿وَلاَ تكفرون﴾ ولا تجحدوا نعمائى
﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر﴾ فيه تنال كل فضيلة ﴿والصلاة﴾ فإنها تنهى عن كل رذيلة ﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾ بالنصر والمعونة
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله﴾ نزلت فى شهداء
البقرة (١٥٤ _ ١٥٨)
بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ﴿أَمْوَاتٌ﴾ أي هم أمواتٍ ﴿بَلْ أَحْيَاء﴾ أي هم أحياء ﴿وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ لا تعلمون ذلك لأن حياة الشهيد لا تعلم حساً عن الحسن
﴿ولنبلونكم﴾ ولنصيبنكم بدلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون على ما أنتم عليه من الطاعة أم لا ﴿بِشَىْءٍ﴾ بقليل من كل واحدة من هذه البلايا وطرف منه وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل اليه ويريهم أن رحمته معهم في كل حال وأعلمهم بوقوع البلواء قبل وقوعها ليوطنو نفوسهم عليها ﴿مِّنَ الخوف﴾ خوف الله والعدو ﴿والجوع﴾ أي القحط أو صوم شهر رمضان ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال﴾ بموت المواشي أو الزكاة وهو عطف على شيء وعلى الخوف أى وشئ من نقص الأموال ﴿والأنفس﴾ بالقتل والموت أو بالمرض والشيب ﴿والثمرات﴾ ثمرات الحرث أو موت الأولاد لأن الولد ثمرة الفؤاد ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾ على هذه البلايا أو المسترجعين عند البلايا لأن الاسترجاع تسليم وإذعان وفي الحديث من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه وطفئ سراج رسول الله ﷺ فقال إنا لله وإنا إليه راجعون فقيل أمصيبة هي قال نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة والخطاب لرسول الله ﷺ أو لكل من يأتى منه البشارة
﴿الذين﴾ نصب صفة للصابرين ولا وقف عليه بل يوقف على
﴿وأولئك هُمُ المهتدون﴾ لطريق الصواب حيث استرجعوا وأذعنوا لأمر الله قال عمر رضى الله عنه نعم العدلان ونعم العلاوة أي الصلاة والرحمة والاهتداء
﴿إِنَّ الصفا والمروة﴾ هما علمان للجبلين ﴿مِن شعائر الله﴾ من
البقرة (١٥٨ _ ١٦٢)
أعلام مناسكه متعبداته جمع شعيرة وهي العلامة ﴿فَمَنْ حَجَّ البيت﴾ قصد الكعبة ﴿أَوِ اعتمر﴾ زار الكعبة فالحج القصد والاعتمار الزيارة ثم غلبا على قصد البيت زيارته للنسكين المعروفين وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ فلا إثم عليه ﴿أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي يتطوف فأدغم التاء في الطاء وأصل الطوف المشي حول الشئ والمراد هنا السعي بينهما قيل كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلة هما ضمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله وكان أهل الجاهلية إذا سعو امسحوا هما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح بقوله فلا جناح وهو دليل على أنه
﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ﴾ من أحبار اليهود ﴿مَا أَنَزَلْنَا﴾ في التوراة ﴿مِنَ البينات﴾ من الآيات الشاهدة على أمر محمد عليه السلام ﴿والهدى﴾ الهداية إلى الإسلام بوصفه عليه السلام ﴿مِن بَعْدِ مَا بيناه﴾ أوضحناه ﴿لِلنَّاسِ فِي الكتاب﴾ في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين فكتموه ﴿أولئك يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ الذين يتأتى منهم اللعن وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ عن الكتمان وترك الإيمان ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم ﴿وَبَيَّنُواْ﴾ وأظهروا ما كتموا ﴿فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أقبل توبتهم ﴿وَأَنَا التواب الرحيم﴾
﴿إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا ﴿أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً والمراد بالناس المؤمنون أو المؤمنون والكافرون إذ بعضهم يلعن بعضاً يوم القيامة قال الله تعالى كلما دخلت أمة لعنت أختها
﴿خالدين﴾ حال من هم في عليهم ﴿فِيهَا﴾ في اللعنة أو في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب ولا هم ينظرون﴾
البقرة (١٦٣ _ ١٦٥)
من الإنظار أي لا يمهلون أو لا ينتظرن ليعتذروا أو لا ينظر
﴿وإلهكم إله واحد﴾ فرد في ألوهيته لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غيره إلها ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ تقرير للوحدانية بنفى غيره وإثباته وموضع هو رفع لأنه بدل من موضع لا إله ولا يجوز النصب هنا لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني والمعنى في الآية على ذلك والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول ورفع ﴿الرحمن الرّحيم﴾ أي المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه بهذه الصفة فما سواه إما نعمة وإما منعم عليه ورفع على أنه خبر مبتدأ أو على البدل من هولا على الوصف لأن المضمر لا يوصف
ولما عجب المشركون من إله واحد وطلبوا آية على ذلك نزل ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار﴾ في اللون والطول والقصر وتعاقبهما فى الذهاب والمجئ ﴿والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنفَعُ الناس﴾ بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو بنفع الناس ومن في ﴿وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء﴾ لابتداء الغاية وفى ﴿من ماء﴾ مطر ومن لبيان الجنس لأن ما ينزل من السماء مطر وغيره ثم عطف على أنزل ﴿فَأَحْيَا بِهِ﴾ بالماء ﴿الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يبسها ثم عطف على فأحيا ﴿وَبَثَّ﴾ وفرق ﴿فِيهَا﴾ في الأرض ﴿مِن كُلِّ دَابَّةٍ﴾ هي كل ما يدب ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ الريح حمزة وعلي أي وتقليبها في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح وقيل تارة بالرحمة وطوراً بالعذاب ﴿والسحاب المسخر﴾ المذلل المنقاد لمشيئة الله تعالى فيمطر حيث شاء ﴿بَيْنَ السماء والأرض﴾ في الهواء ﴿لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ينظرون بعيون عقولهم
﴿ومن النّاس﴾ أي ومع هذا البرهان النير من الناس ﴿مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا﴾ أمثالاً من الأصنام ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب ﴿كَحُبّ الله﴾ كتعظيم الله والخضوع له أي يحبون الأصنام كما يحبون الله يعني يسوون بينهم وبينه في محبتهم لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه وقيل يحبونهم كحب المؤمنين الله ﴿والذين آمنوا أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ﴾ من المشركين لآلهتهم لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بحال والمشركون يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد
البقرة (١٦٥ _ ١٦٨)
فيفزعون إليه ويخضعون له ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ ترى نافع وشامي على خطاب الرسول أو كل مخاطب أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً ﴿الذين ظَلَمُواْ﴾ إشارة إلى متخذي الأنداد ﴿إِذْ يَرَوْنَ﴾ يرون شامي ﴿العذاب أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ حال ﴿وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب﴾ شديد عذابه أي ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم مالا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة فحذف الجواب لأن لو إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما يوصل بجواب ليذهب القلب فيه كل مذهب ولو يليها الماضى وكذا إذ وضعها لتدل على الماضى إنما دخلتا على المستقبل هنا لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقه كالماضي
﴿إِذْ تَبَرَّأَ﴾ مدغمة الذال في التاء حيث وقعت عراقي غير عاصم
﴿وَقَالَ الذين اتبعوا﴾ أي الاتباع ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ رجعة إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ﴾ نصب على جواب التمني لأن لو في معنى التمنى ولمعنى ليت لنا كرة فنتبرأ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا الآن ﴿كذلك﴾ مثل ذلك الإراء الفظيع ﴿يُرِيهِمُ الله أعمالهم﴾ أي عبادتهم الأوثان ﴿حسرات عليهم﴾ ندامات وهى مفعول ثالث ليريهم ومعناه أن اعمالهم تقلب عليهم حسرات فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم ﴿وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار﴾ بل هم فيها دائمون ونزل فيمن حرموا على أنفسهم البحائر ونحوها
﴿يا أيها الناس كُلُواْ﴾ أمر إباحة ﴿مِمَّا فِى الأرض﴾ من للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول ﴿حلالا﴾ مفعول كلوا أو حال مما في الأرض ﴿طَيِّباً﴾ طاهراً من كل شبهة ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان﴾ طرقه التي يدعوكم إليها بسكون الطاء أبو عمرو غير عباس ونافع وحمزة وأبو بكر والخطوة في الأصل ما بين قدمي الخاطي يقال اتبع خطواته إذا افتدى به واسن بسنته ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهر العداوة لاخفاء به
البقرة (١٦٩ _ ١٧٢)
وأبان متعدٍ ولازم ولا يناقض هذه الآية قوله تعالى ﴿والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت﴾ أى الشيطان لأنه عدوا للناس
﴿إنما يأمركم﴾ بيان لوجوب لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم ﴿بالسوء﴾ بالقبيح ﴿والفحشاء﴾ وما يتجاوز الحد في القبح من العظائم وقيل السوء مالا حد فيه والفحشاء ما فيه حد ﴿وَأَن تَقُولُواْ﴾ في موضع الجر بالعطف على بالسوء أي وبأن تقولوا ﴿عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ هو قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله﴾ الضمير للناس وعدل بالخطاب عنهم على طريق الالتفات قيل هم المشركون وقيل طائفة من اليهود لما دعاهم رسول الله ﷺ إلى الإيمان واتباع القرآن ﴿قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفينا﴾ وجدنا ﴿عليه آباءنا﴾ فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم فرد الله عليهم بقوله ﴿أَوَلَوْ كَانَ آباؤُهُمْ﴾ الواو للحال والهمزة بمعنى الرد والتعجب معناه أيتبعونهم ولو كان آباؤهم ﴿لا يعقلون شيئا﴾ من الدين ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ للصواب
ثم ضرب لهم مثلاً فقال ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ﴾ المضاف محذوف أي ومثل داعي الذين كفروا ﴿كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ﴾ يصيح والمراد ﴿بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ البهائم والمعنى ومثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ولا تفقه شيئاً آخر كما يفهم العقلاء والنعيق التصويت يقال نعق المؤذن ونعق الراعى بالظأن
ثم بين أن ما حرمه المشركون حلال بقوله ﴿يا أيها الذين آمنوا كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم﴾ من مستلذاته أو من حلالاته ﴿واشكروا لِلَّهِ﴾ الذي رزقكموها ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه معطى النعم
البقرة (١٧٣ _ ١٧٥)
ثم بين المحرم فقال ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه أي ما حرم عليكم إلا الميتة ﴿والدم﴾ يعني السائل لقوله في موضع آخر أو دما مسفوحا وقد حلت الميتتان والدمان بالحديث أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ﴿وَلَحْمَ الخنزير﴾ يعني الخنزير بجميع أجزائه وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ أي ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله وأصل الإهلال رفع الصوت أي رفع به الصوت للصنم وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى ﴿فمن اضطر﴾ أى ألجئ بكسر النون بصري وحمزة وعاصم لالتقاء الساكنين أعني النون والضاد وبضمها غيرهم لضمة الطاء ﴿غير﴾ حال أى فأكل غير ﴿بَاغٍ﴾ للذة وشهوة ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ متعد مقدار الحاجة وقول من قال غير باغ على الإمام ولا عادٍ في سفر حرام ضعيف لأن سفر الطاعة لا يبيح بلا ضرورة والحبس بالحضر يبيح بلا سفر ولأن بغيه لا يخرج عن الإيمان فلا يستحق الحرمان
﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب﴾ في صفة محمد عليه السلام ﴿وَيَشْتَرُونَ به ثمنا قليلا﴾ أى عوضا أو إذ ثمن ﴿أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ ملء بطونهم تقول أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه ﴿إِلاَّ النار﴾ لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار ومنه قولهم أكل فلان الدم إذا أكل الدية التي هي بدل منه قال... يأكلن كل ليلة إكافاً...
أي ثمن إكاف فسماه إكافاً لتلبسه به بكونه ثمناً له ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة﴾ كلاما يسرهم ولكن بنحو قوله اخسؤا فيها ولا تكلمون ﴿وَلاَ يُزَكّيهِمْ﴾ ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم أو لا يثني عليهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم فحرف النفي مع الفعل خبر أولئك وأولئك مع خبره خبران والجمل الثلاث معطوفة على خبر إن فقد صار لأن أربعة أخبار من الجمل
﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة﴾
البقرة (١٧٥ _ ١٧٧)
يكتمان نعت محمد عليه السلام ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار﴾ فأي شيء أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار وهذا استفهام معناه التوبيخ
﴿ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق﴾ أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزل من الكتب بالحق ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا﴾ أي أهل الكتاب ﴿فِى الكتاب﴾ هو للجنس أي في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل ﴿لَفِى شِقَاقٍ﴾ خلاف ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحق أو كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون وإن الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد عن الهدى
﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ﴾ أي ليس البر توليتكم ﴿وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب﴾ والخطاب لأهل الكتاب لأن قبلة النصارى مشرق بيت المقدس وقبلة اليهود مغربه وكل واحد من الفريقين يزعم أن البر التوجه إلى قبلته فرد عليهم بأن البر ليس فيما أنتم عليه فإنه منسوخ ﴿ولكن البر﴾ بر ﴿من آمن بالله﴾ أو ذا البر من آمن والقولان على حذف المضاف والأول أجود والبر اسم للخير ولكل فعل مرضي وقيل كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ولكن البر الذي يجب الاهتمام به بر من آمن وقام بهذه الأعمال ليس البر بالنصب على أنه خبر ليس واسمه أن تولوا حمزة وحفص ولكن البر نافع وشامي وعن المبرد لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر وقرئ ولكن البار ﴿واليوم الآخر﴾ أي يوم البعث ﴿والملائكة والكتاب﴾ أي جنس كتب الله أو القرآن ﴿والنبيين وآتى المال على حُبِّهِ﴾ أي على حب الله أو حب المال أو حب الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه ﴿ذَوِى القربى﴾ أي القرابة وقدمهم لأنهم أحق قال عليه الصلاة والسلام صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك صدقة
البقرة (١٧٧ _ ١٧٨)
﴿والصابرين﴾ نصب على المدح والاختصاص أظهار الفضل في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال ﴿فِى البأساء﴾ الفقر والشدة ﴿والضراء﴾ المرض والزمانة ﴿وَحِينَ البأس﴾ وقت القتال ﴿أولئك الذين صَدَقُوا﴾ أي أهل هذه الصفة هم الذين صدقوا في الدين ﴿وأولئك هُمُ المتقون﴾
روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول الله ﷺ حين جاء الله بالإسلام فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ﴾ أي فرض ﴿عَلَيْكُمُ القصاص﴾ وهو عبارة عن المساواة وأصله من قص أثره واقتصه إذا اتبعه ومنه القاص لأنه يتبع
البقرة (١٧٨ _ ١٨١)
الورثة تم العفو وسقط القصاص ومن فسر عُفى بترك جعل شيء مفعولاً به وكذا من فسره بأعطى يعني أن الولي إذا أعطى له شيء من مال أخيه يعني القاتل بطريق الصلح فليأخذه بمعروف من غير تعنيف وليؤده القاتل إليه بلا تسويف وارتفاع اتباع بأنه خبر مبتدأ مضمر أي فالواجب اتباع ﴿ذلك﴾ الحكم المذكور من العفو وأخذ الدية ﴿تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ فإنه كان في التوراة القتل لا غير وفي الإنجيل العفو بغير بدل لا غير وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيراً والآية تدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن للوصف بالإيمان بعد وجود القتل ولبقاء الأخوّة الثابتة بالإيمان ولا ستحقاق التخفيف والرحمة ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك﴾ التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد أخذ الدية ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ نوع من العذاب شديد الألم فى الاخرة
﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياة﴾ كلام فصيح لما فيه من الغرابة إذ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفاً للحياة وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بينة لأن المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو اختصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا فكان القصاص حياة وأي حياة أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالقصاص من القاتل لأنه إذا هم بالقتل فتذكر الاقتصاص ارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فكان شرع القصاص سبب حياة نفسين ﴿يا أولي الألباب﴾ يا ذوى العقل ﴿لعلكم تتقون﴾ القتل حذرا من القصاص
﴿كتب﴾ فرض ﴿عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ أي إذا دنا منه فظهرت أمارته ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ مالاً كثيراً لما روي عن علي رضى الله عنه إن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه وقال قال الله تعالى ﴿إن ترك خيراً﴾ والخير هو المال الكثير وليس لك مال وفاعل كتب ﴿الوصية للوالدين والأقربين﴾ وكانت للوارث في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث كما بيناه في شرح المنار وقيل هي غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه والإسلام قطع الإرث فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء الحق القرابة ندباً وعلى هذا لا يراد بكتب فرض ﴿بالمعروف﴾ بالعدل وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث ﴿حَقّاً﴾ مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً ﴿عَلَى المتقين﴾ على الذين يتقون الشرك
﴿فَمَن بَدَّلَهُ﴾ فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود ﴿بعد ما سمعه﴾ أى الإيصاء
البقرة (١٨١ _ ١٨٤)
﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ﴾ فما إثم التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنهما بريئان من الحيف ﴿إن الله سميع﴾ لقول الموصى ﴿عليم﴾ يجور المبدل
﴿فَمَنْ خَافَ﴾ علم وهذا شائع في كلامهم يقولون أخاف أن ترسل السماء ويريدون الظن الغالب الجاري مجرى العلم ﴿مِن مُّوصٍ﴾ موصّ كوفي غير حفص ﴿جَنَفًا﴾ ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية ﴿أَوْ إِثْماً﴾ تعمداً للحيف ﴿فأصلح بينهم﴾ بين الموصى لهم وهم الولدان والأجر اقربون بإئهم على طريق الشرع ﴿فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ حينئذ لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم
﴿يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ﴾ أي فرض ﴿عَلَيْكُمُ الصيام﴾ هو مصدر صام والمراد صيام شهر رمضان ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ أي كتابة مثل ما كتب فهو صفة مصدر محذوف ﴿عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ على الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم فهو عبادة قديمة والتشبيه باعتبار أن كل أحد له صوم أيام أي أنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تعبد من كان قبلكم ﴿لعلكم تتقون﴾ الماصى بالصيام لأن الصيام أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السواء أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم
وانتصاب ﴿أَيَّامًا﴾ بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا اباما ﴿معدودات﴾ موقتات بعدد معلوم أي قلائل وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد لا الكثير ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا﴾ يخاف من الصوم زيادة المرض ﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ أو راكب سفر ﴿فَعِدَّةٌ﴾ فعليه عدة أي فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره والعدة بمعنى المعدود أي أمر أن يصوم أياماً معدودة مكانها ﴿مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ سوى أيام مرضه وسفره وأخر لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام لأن لأصل في فعلى صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر والصغرى الصغر ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ﴾ وعلى المطيقين للصيام الذين لاعذرلهم إن أفطروا ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ نصف صاع من بر أو صاع من غيره فطعام بدل من فدية طعام مساكين مدني وابن ذكوان وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم
البقرة (١٨٤ _ ١٨٥)
مذكوراً مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم وقيل معناه لا يطيقونه فأضمر لا لقراءة حفصة كذلك وعلى هذا لا يكون منسوخاً ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فزاد على مقدار الفدية ﴿فهو خيرٌ لّه﴾ فالتطوع أو الخير خير له يطوع بمعنى يتطوع حمزة وعلي ﴿وَأَن تَصُومُواْ﴾ أيها المطيقون ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من الفدية وتطوع الخير وهذا في الابتداء وقيل وأن تصوموا في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ شرط محذوف الجواب
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ مبتدأ خبره ﴿الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن﴾ أى ابتدى فيه إنزاله وكان ذلك في ليلة القدر أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى ﴿كتب عليكم الصيام﴾ وهو بدل من الصيام أو خبر مبتدأ محذوف أي هو شهر والرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ومنع الصرف للتعريف والألف والنون وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته ولأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فإن قلت ما وجه ما جاء في الحديث من صام رمضان إيماناً واحتساباً من أن التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعا قلت هو من باب الحذف لا من الإلباس القران حيث كان غير مهموز مكي وانتصب ﴿هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان﴾ على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق
البقرة (١٨٦ _ ١٨٧)
عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله لتكملوا علة الأمر بمراعاة العدة ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر ولعلكم تشكرون علة الترخيص وهذا نوع من اللف اللطيف المسلك وعدي التكبير بعلى لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل لتكبروا الله أي لتعظموه حامدين على ما هداكم إليه ولتكملوا بالتشديد أبو بكر
ولما قال اعرابى لرسول الله ﷺ أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه نزل ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ﴾ علماً وإجابة لتعاليه عن القرب
كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة ثم إن عمر رضى الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي عليه السلام وأخبره بما فعل فقال عليه السلام ما كنت جديراً بذلك فنزل ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث﴾ إي الجماع ﴿إلى نسائكم﴾ عدى بالى لتضمنه معنى الإفضاء وإنما كنى عنه بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يقل الإفضاء إلى نسائكم استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختياناً لأنفسهم ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه شبه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ وقيل لباس أي ستر عن الحرام وهن لباس لكم استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخ الطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخص لكم في مباشرتهن {عَلِمَ
البقرة (١٨٧ _ ١٨٨)
﴿وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ﴾ واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أى لا تباشروالقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل أو وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض﴾ هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ﴿مِنَ الخيط الأسود﴾ وهو ما يمتد من سواد الليل شبهاً بخيطين أبيص وأسوج لامتدادهما ﴿مِنَ الفجر﴾ بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر أو من للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله وقوله من الفجر أخرجه من باب الاستعارة وصيره تشبيهاً بليغاً كما أن قولك رأيت أسد امجازا فاذا ازدت من فلان رجع تشبيها وعن عدى بن حاتم قال عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتى فنظرت الهيما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود فأخبرت النبي عليه السلام بذلك فقال إنك لعريض القفا أي سليم القلب لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل وفي قوله ﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾ أى الكف عن هذه الأشياء وفيه دليل على جدواز النية بالنهار في صوم رمضان وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر وعلى نفي الوصال وعلى وجوب الكفارة في الأكل
﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم﴾ أي لا يأكل بعضكم مال بعض ﴿بالباطل﴾ بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه ﴿وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام﴾ ولا تدلوا بها فهو مجزوم داخل في حكم النهي يعني ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام ﴿لِتَأْكُلُواْ﴾ بالتحاكم ﴿فَرِيقاً﴾ طائفة ﴿مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم﴾ بشهادة الزور أو بالأيمان الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم وقال عليه السلام للخصمين إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإن ما أقضى له قطعة من نار فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي وقيل وتدلوا بها وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه
البقرة (١٨٨ _ ١٩٠)
الرشوة يقال أدلى دلوه أي ألقاه في البئر للاستسقاء ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق
قال معاذ بن جبل يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا
﴿وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله﴾ المقاتلة في سبيل الله الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين ﴿الذين يقاتلونكم﴾ يناجزونكم القتال دون المحاجزين وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين﴾ كافة وقيل هي أول آية نزلت في القتال فكان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتل ويكف عمن كف أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل
البقرة ((١٩٠ _ ١٩٤)
المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلهم لأنهم قاصدون لمقاتلة المسلمين فهم في حكم المقاتلة ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ في ابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عنه من النساء والشيوخ ونحوهما أو بالمثلة ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾
﴿واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ وجدتموهم والثقف الوجود على وجه الأخذ والغلبة ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي من مكة وعدهم الله تعالى فتح مكة بهذه الآية وقد فعل رسول الله ﷺ بمن لم يسلم منهم يوم الفتح ﴿والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل﴾ أي شركهم بالله أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم وقيل الفتنة عذاب الآخرة وقيل المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان فيعذب به أشد عليه من القتل وقيل لحكيم ما أشد من الموت قال الذي يتمنى فيه الموت فقد جعل الإخراج من الوطن من الفتن التي يتمنى عندها الموت {وَلاَ
﴿فَإِنِ انْتَهَوْاْ﴾ عن الشرك والقتال ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ﴾ لما سلف من طغيانهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بقبول توبتهم وإيمانهم
﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة﴾ شرك وكان تامة وحتى بمعنى كي أو إلى أن ﴿وَيَكُونَ الدين للَّهِ﴾ خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب أي لا يعبدونه شيء ﴿فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين﴾ فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين ولم يبقوا ظالمين أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المتهين سمى جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة كقوله فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتم القتال وذلك في ذي القعدة
﴿الشهر الحرام﴾ مبتدأ خبره ﴿بالشهر الحرام﴾ أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم ﴿والحرمات قصاص﴾
قِصَاصٌ أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أى حرمة كان اقتص منه بأن تهتك له حرمه فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا وأكد ذلك بقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ
﴿وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ تصدقوا في رضا الله وهو عام في الجهاد وغيره ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ أي أنفسكم والباء زائدة أو ولا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال أهلك فلان نفسه بيده إذا تسبب لهلاكها والمعنى النهى عن ترك الاتفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله أو عن الإخطار بالنفس أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو والتهلكة والهلاك والهلك واحد ﴿وَأَحْسِنُواْ﴾ الظن بالله في الإخلاف ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾ إلى المحتاجين
﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ﴾ وأدوهما تأمين بشرائطهما وفرائضمها لوجه الله تعالى بلا توان ولا نقصان وقيل الإتمام يكون بعد الشروع فهو دليل على أن من شرع فيهما لزمه إتمامهما وبه تقول إن العمرة تلزم بالشروع ولا تمسك للشافعي رحمه الله بالآية على لزوم العمرة لأنه أمر بإتمامها وقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع أو إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل واحد منهما سفراً أو أن تنفق فيهما حلالا أو ألا تتجر معهما ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز وحصر إذا حبسه عدو عن المضي وعندنا الإحصار يثبت بكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما لظاهر النص وقد جاء في الحديث من كسر أو عرج فقد حل أي جاز له أن يحل وعليه الحج من قابل وعند الشافعي رحمه الله الإحصار بالعدو وحده وظاهر النص يدل على أن
البقرة (١٩٦ _ ١٩١)
الخطاب للمحصرين أي لا تحلوا بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب نحره فيه وهو الحرم وهو حجة لنا في أن دم الإحصار لا يذبح إلا فى الحرم على الشافعى رحمه الله إذ عنده يجوز في غير الحرم ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا﴾ فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ﴾ وهو القمل أو الجراحة ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ فعليه إذا حلق فدية ﴿مِّن صِيَامٍ﴾ ثلاثة أيام ﴿أَوْ صَدَقَةٍ﴾ على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر ﴿أَوْ نُسُكٍ﴾ شاة وهو مصدر أو جمع نسيكة ﴿فَإِذَا أَمِنتُمْ﴾ الإحصار أي فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ استمتع ﴿بالعمرة إِلَى الحج﴾ واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج وقيل إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرماً عليه إلى أن يحرم بالحج ﴿فَمَا استيسر مِنَ الهدى﴾ هو هدي المتعة وهو نسك يؤكل منه ويذبح يوم النحر ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ الهدي ﴿فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج﴾ فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ في وقوعها بدلا عن الهدي أو في الثواب أو المراد رفع الإبهام فلا يتوهم في الواو أنها بمعنى الإباحة كما في جالس الحسن وابن سيرين ألا ترى أنه لو جالسهما أو واحد منهما كان ممتثلاً ﴿ذلك﴾ إشارة إلى التمتع عندنا إذلا تمتع
﴿الحج﴾ أي وقت الحج كقولك البرد شهران ﴿أَشْهُرٌ معلومات﴾ معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم وهى شوال وذوا القعدة وعشر ذى الحجة وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها وكذا الإحرام عند الشافعى رحمه الله وعندنا وإن انعقد لكنه مكروه وجمعت أي الأشهر لبعض الثالث أو لأن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى فقد صغت قلوبكما ﴿فمن فرض﴾ ألزمه على نفسه بالإحرام ﴿فِيهِنَّ الحج﴾ في هذه الأشهر ﴿فَلاَ رَفَثَ﴾ هو الجماع أو ذكره عند النساء أو
البقرة (١٩٧ _ ١٩٨)
الكلام الفاحش ﴿وَلاَ فُسُوقَ﴾ هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام سباب المؤمن فسوق أو التنابز بالألقاب لقوله تعالى ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق﴾ ﴿ولا جدال في الحج﴾ ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن والمراد بالنفي وجوب انتفائها وانها حقيقة بأن لا تكون وقرأ أبو عمرو ومكي الأولين بالرفع فحملاهما على معنى النهي كأنه قيل فلا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالنصب على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل ولا شك ولا خلاف في الحج ثم حث على الخير
ونزل في قوم زعموا أن لا حج لجمال وتاجر وقالوا هؤلاء الداجّ وليسوا بالحاج ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ﴾ في أن تبتغوا في مواسم الحج ﴿فَضْلاً مّن رَّبِّكُمْ﴾ عطاء وتفضيلا وهو النفع والربح بالتجارة والكراء ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم﴾ دفعتم بكثرة من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول ﴿مّنْ عرفات﴾ هي علم للموقف سمي بجمع كازرعات وإنما صرفت لأن التاء فيها ليست للتأنيث بل هي مع الألف قبلها علامة جمع المؤنث وسميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما رآها عرفها وقيل التقى فيها آدم وحواء فتعارفا وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده ﴿فاذكروا الله﴾ بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات أو
البقرة (١٩٨ _ ٢٠١)
كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه ﴿وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ﴾ من قبل الهدى ﴿لَمِنَ الضالين﴾ الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه وإن مخففة من الثقيلة واللام فارقة
﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ولا تكن من المزدلفة قالوا هذا أمر لقريش بالإفاضة من عرفات إلى جمع وكانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفات ويقولون نحن قطان حرمه فلا نخرج منه وقيل الإفاضة من عرفات مذكورة فهي الإفاضة من جمع إلى منى والمراد بالناس على هذا الحمس ويكون الخطاب للمؤمنين ﴿واستغفروا الله﴾ من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم أو من تقصيركم في أعمال الحج ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بكم
﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم﴾ فإذا فرغتم من عباداتكم التي أمرتم
﴿وَمِنْهُمُ﴾ ومن الذين يشهدون الحج ﴿مَّن يَقُولُ ربنا آتنا فِى الدنيا حَسَنَةً﴾ نعمة وعافية أو علماً وعبادة ﴿وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ عفواً ومغفرة أو المال والجنة أو ثناء الخلق ورضا الحق أو الإيمان والأمان أو الإخلاص والخلاص أو السنة والجنة أو القناعة والشفاعة أو المرأة الصالحة والحور العين أو العيش على سعادة والبعث من القبور على بشارة ﴿وَقِنَا عَذَابَ النار﴾ احفظنا من عذاب جهنم أو عذاب النار امرأة السوء
﴿أولئك﴾ أى الداعون بالحسنتين
البقرة (٢٠١ _ ٢٠٥)
﴿لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ﴾ من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة أو من أجل ما كسبوا وسمى الدعاء كسباً لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب ويجوز أن يكون أولئك للفريقين أو أن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا ﴿والله سَرِيعُ الحساب﴾ يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر من نقمته وروي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة وروي في مقدار لمحة
﴿واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات﴾ هي أيام التشريق وذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار ﴿فَمَن تَعَجَّلَ﴾ فمن عجل فى الفر أو استعجل النفر وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل للذهاب واستعجله والمطاوعة اوفق بقوله ومن تأخر ﴿فِى يَوْمَيْنِ﴾ من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة ﴿فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فلا يأثم بهذا التعجيل ﴿وَمَن تَأَخَّرَ﴾ حتى رمى في اليوم الثالث ﴿فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى﴾ الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير فى التعجيل والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل وقيل كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما ﴿واتقوا الله﴾ في جميع الأمور ﴿واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ حين يبعثكم من القبور
كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقى رسول الله ﷺ ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم الله أني صادق فنزل فيه ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ يروقك ويعظم فى قلبك ومنه الشئ العجيب الذي يعظم في النفس ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ في يتعلق بالقول أي يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة أو بيعجبك أي يعجبك حلو كلامه في الدنيا لا في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ﴿وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ﴾ أي يحلف ويقول الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾ شديد الجدال والعداوة للمسلمين والخصام المخاصمة والإضافة بمعنى في لأن أفعل يضاف إلى ما هو بعضه تقول زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد في الخصومة أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير وهو أشد الخصوم خصومة
﴿وَإِذَا تولى﴾ عنك وذهب بعد إلانة القول واحلاء المطنق
البقرة (٢٠٥ _ ٢١٠)
﴿سعى في الأرض ليفسد فيها﴾ كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم ﴿وَيُهْلِكَ الحرث والنسل﴾ أي الزرع والحيوان أو إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل وقيل يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل ﴿والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ﴾ للأخنس ﴿اتق الله﴾ في الإفساد والإهلاك ﴿أخذته العزة بالإثم﴾ حملته الخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه أو الباء للسبب أي أخذته العزة من أجل الإثم الذي في
﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ﴾ يبيعها ﴿ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد﴾ حيث أثابهم على ذلك
﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فِي السلم﴾ وبفتح السين حجازي وعلي وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا لله وأطيعوه أو الإسلام والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم ﴿كافة﴾ لا يخرج أحدمنكم يده عن طاعته حال من الضمير في ادخلوا أي جميعاً أو من السلم لأنها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان﴾ وساوسه ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهر العداوة
﴿فإن زللتم﴾ ملتم عن الدخول فيه هو الحق ﴿فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ﴾ غالب لا يمنعه شيء من عذابكم ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يعذب إلا بحق ورُوي أن قارئاً قرأ غفور رحيم فسمعه
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظرون ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله﴾ أي أمر الله وبأسه كقوله أَوْ يأتى أمر ربك فجاءها بأسنا أو المأتي به محذوف بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه للدلالة عليه بقوله إن الله
البقرة (٢١٠ _ ٢١٣)
عزيز ﴿فِي ظُلَلٍ﴾ جمع ظلة وهي ما أظلك ﴿من الغمام﴾ السحاب وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة فإذا أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول ﴿والملائكة﴾ أي وتأتي الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة ﴿وَقُضِىَ الأمر﴾ أي وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي أنه ملّك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور ترجع الأمور حيث كان شامي وحمزة وعلي
﴿سَلْ﴾ أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغني عن همزة الوصل فصار سل وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسئل الكفرة يوم القيامة ﴿بني إسرائيل كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام وكم استفهامية أو خبرية ﴿وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله﴾ هي آياته وهي أجل نعمة من الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها إن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رجسهم أى وحرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام ﴿مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ﴾ من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه ﴿فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ لمن استحقه
﴿زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا﴾ المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا
﴿كَانَ الناس أُمَّةً واحدة﴾ متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام أو هم نوح ومن كان معه في السفينة فاختلفوا ﴿فَبَعَثَ الله النبيين﴾ ويدل على حذفه قوله تعالى لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فيه وقراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا وقوله تعالى
البقرة (٢١٣ _ ٢١٤)
﴿وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا﴾ أو كان النا أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه ﴿مُبَشّرِينَ﴾ بالثواب للمؤمنين ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ بالعقاب للكافرين وهما حالان ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب﴾ أي مع كل واحد منهم كتابه ﴿بالحق﴾ بتبيان الحق ﴿ليحكم﴾ الله او الكتاب اوالنبى المنزل عليه ﴿بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ﴾ في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق ﴿وَمَا اختلف فِيهِ﴾ في الحق ﴿إِلاَّ الذين أُوتُوهُ﴾ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل
﴿أم حسبتم﴾ أم منقطة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك أعندك زيد أم عمرو أى أيهما عندك وجوابه زيدان كان عند زيد أو عمرو إن كان عنده عمرو وأما أم المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة والتقدير بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجئ البينات تشجيعا لرسول الله ﷺ والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴿أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ أي ولم يأتكم وفي لما معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر ﴿مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ﴾ مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدة ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ من النبيين والمؤمنين ﴿مَسَّتْهُمْ﴾ بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال كيف كان ذلك المثل فقيل مستهم ﴿البأساء﴾ أي البؤس ﴿والضراء﴾ المرض والجوع ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ وحركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة ﴿حتى يَقُولَ الرسول والذين آمنوا مَعَهُ﴾ إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين ﴿متى نَصْرُ الله﴾ أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة
البقرة (٢١٥ _ ٢١٧)
إلى طلبهم من عاجل النصر يقول بالرفع نافع على حكاية حال ماضية نحو شربت الابل حتى يجئ البعير يجر بطنه وغيره بالنصب على إضمار أن ومعنى الاستقبال لأن أن علم له
ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم ماذا ننفق من اموالنا وأين نضعها نزل ﴿يسألونك مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ فقد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها عن الحسن هي في التطوع ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ فيجزى عليه
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال﴾ فرض عليكم جهاد الكفار ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ من الكراهة فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقولها... فإنما هي إقبال وإدبار...
كأنه فى نفسه كراهة لفرط كراهتم له أو هو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أي وهو مكروه لكم ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وهو خير لكم﴾ فأنتم تكروهون الغزو وفيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة ﴿وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا﴾ وهو القعود عن الغزو ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر ﴿والله يَعْلَمُ﴾ ما هو خير لكم ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم
ونزل فى سرية بعثها رسول الله ﷺ فقاتلوا المشركين وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك فقالت قريش قد استحل محمد عليه السلام الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف ﴿يسألونك عَنِ الشهر الحرام﴾ أي يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ بدل الاشتمال من الشهر وقرىء عن قتال فيه على تكرير العامل كقوله للذين استضعفوا لمن آمن منهم ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي إثم كبير قتال مبتدأ وكبير خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وقد وصفت بغيه وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي منع المشركين رسول الله ﷺ وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو متبدأ ﴿وكفر به﴾
أى بالله عطف عليه ﴿والمسجد الحرام﴾ عطف على سبيل الله أي وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في به أي كفر به وبالمسجد الحرام ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فلا تقول مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام ﴿وإخراج أهله﴾ أى أهل المسجد الحرم وهم رسول الله ﷺ والمؤمنون وهو عطف عليه أيضاً ﴿مِنْهُ﴾ من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة ﴿أَكْبَرُ عِندَ الله﴾ أي مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن ﴿والفتنة﴾ الإخراج أو الشرك ﴿أَكْبَرُ مِنَ القتل﴾ في الشهر الحرام أو تعذيب الكفار المسلمين أشد قبحاً من قتل هؤلاء المسلمين في الشهر الحرام ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ﴾ أي إلى الكفر وهو إخبار
ولما قالت السرية أيكون لنا أجر المجاهدين فى سبيل الله نزل ﴿إن الذين آمنوا والذين هَاجَرُواْ﴾ تركوا مكة وعشائرهم ﴿وجاهدوا فِي سبيل الله﴾ مع المشركين ولا وقف عليه لأن ﴿أولئك يَرْجُونَ رحمة الله﴾ خبر إن قيل من رجا طلب ومن خاف هرب {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ
! نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكة وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ثم إن عمر ونفراً من الصحابة قالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل
البقرة (٢١٩ _ ٢٢٠)
مسلبة للمال فنزل ﴿يسألونك عَنِ الخمر والميسر﴾ فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن ابن عوف جماعة فشربوا وسكروا وأم بعضهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزل لاَ تَقْرَبُواْ
اسماً واحدا فى موضع النصب بينفقون والتقدير قل ينفقون العفو ومن رفعه جعل ما مبتدأ وخبره ذا مع صلته فذا بمعنى الذي وينفقون صلته أي ما الذي ينفقون فجاء الجواب العفو أي هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال ﴿كذلك﴾ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين ﴿يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لعلكم تتفكرون﴾
﴿فِى الدنيا﴾ أي في أمر الدنيا ﴿والآخرة﴾ وفي يتعلق بتتفكرون أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين
البقرة (٢٢٠ _ ٢٢١)
فتاخذون بما هو أصلح لكم أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع ويجوز أن يتعلق بيبين أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون ولما نزل أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزل ﴿ويسألونك عَنِ اليتامى قُلْ إصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾ أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأمواهم خير من مجانبتهم ﴿وَإِن تُخَالِطُوهُمْ﴾ وتعاشروهم ولم تجانبوهم ﴿فَإِخوَانُكُمْ﴾ فهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه ﴿والله يَعْلَمُ المفسد﴾ لأموالهم ﴿من المصلح﴾ لهم فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح ﴿وَلَوْ شَاءَ الله﴾ إعناتكم
ولما سأل مرثد النبى ﷺ عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ أي لا تتزوجوهن يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها ﴿وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين﴾ ولا تزوجوهم بمسلمة كدا قاله الزجاج وقال جامع العلوم حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين ﴿حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ ثم بين علة ذلك فقال ﴿أولئك﴾ وهو إشارة إلى المشركات والمشركين ﴿يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ إلى الكفر الذي هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ﴿والله يدعو إِلَى الجنة والمغفرة﴾ أي وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بعلمه أو بأمره ﴿وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يتذكرون﴾ يتعظون
كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود والمجوس فسأل أبو الدحداح رسول الله ﷺ عن ذلك وقال يارسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن فنزل
البقرة (٢٢٢ _ ٢٢٣)
﴿ويسألونك عَنِ المحيض﴾
كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة أتى الولد أحول فنزل ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحاريث تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التى منها النسل بالبذور والولد
البقرة (٢٢٣ _ ٢٢٦)
الولد أو والتسمية على الوطء ﴿واتقوا الله﴾ فلا تجترءوا على المناهي ﴿واعلموا أَنَّكُم ملاقوه﴾ صائرون إليه فاستعدوا للقائه ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ بالثواب يا محمد وإنما جاء يسئلونك ثلاث مرات بلا واو ثم مع واو ثلاثا لأن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ وسألوا عن الحوادث الأخر فى وقت واحد فجئ بحرف الجمع لذلك
﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم﴾ العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه تقول فلان عرضة دون الخير وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أو عبادة ثم يقول أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البرّ إرادة البر في يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم
﴿لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم﴾ اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه والأمر بخلاقه والمعنى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم وعندالشافعى رحمه الله هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف نحو لا والله وبلى والله ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم﴾ ولكن يعاقبكم ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ بما اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس وتعلق الشافعي بهذا النص على وجوب الكفارة في الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت في المائدة فكان البيان ثمة بياناً هنا وقلنا المؤاخذة هنا مطللقة وهي في دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض ﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم
﴿للذين يؤلون﴾ يقسمون وهى
البقرة (٢٢٦ _ ٢٢٨)
قراءة ابن عباس رضى الله عنه ومن في ﴿مِن نّسَائِهِمْ﴾ يتعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول لك متى نصرة ولك مني معونة أي للمؤلين من نسائهم ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ أي استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا بيؤلون لأن آلى بعدى بعلى يقال آلى فلان على امرأته وقول القائل آلى فلان من امرأته وهم توهمه من هذه الآية ولك أن تقول عدى بمن لما فى هذا القسم من معنى فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مؤلين ﴿فإن فاؤوا﴾ في الأشهر لقراءة عبد الله فإن فاءوا فيهن أي رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ حيث شرع الكفارة
﴿وإن عزموا الطلاق﴾ بترك الفئ فتربصوا إلى مضي المدة ﴿فَإِنَّ الله سَمِيعٌ﴾ لإبلائه ﴿عَلِيمٌ﴾ بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة وعند الشافعى رحمه الله معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة لأن الفاء للتعقيب وقلنا قوله فإن فاءوا وإن عزموا تفصيل لقوله للذين يؤلون من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل كما تقول أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول
﴿والمطلقات﴾ أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾ خبر في معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ونحوه قولهم في الدعاء رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها وبناءه على المتبدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام واثبات بخلاف الفعلية وفي ذكر الأنفس تهييج لهن
البقرة (٢٢٨ _ ٢٢٩)
لاشتراكهما في الجمعية اتساعاً ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ﴾ من الولد أو من دم الحيض أو منهما وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض قد طهرت استعجالاً للطلاق ثم عظم فعلهن فقال ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر﴾ لأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أى أزواجهن أولى برجعتهن
﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم أى التطيلق الشرعى تطيلقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله ﴿ثم ارجع البصر كرتين﴾ أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين وهو دليل لنا في أن الجمع بين الطلقتين والثلاثة بدعة في طهر واحد لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق لأنه وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر ولا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى لأن الطلاق على وجه الجمع قد يوجد وقيل قالت أنصارية إن زوجي قال لا أزال أطلقك ثم أراجعك فنزلت الطلاق مرتان أي الطلاق الرجعي مرتان لأنه لا رجعة بعد الثالث ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ برجعة
البقرة (٢٢٩ _ ٢٣١)
فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان في الإسلام ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ﴾ أيها الأزواج أو الحكام لأنهم الآمرون الأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون ﴿أن تَأخُذُواْ مِمَّآ آتَيتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ مما أعطيتموهن من المهور ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ إلا أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أيها الولاة وجاز أن يكون أول الخطاب للأزواج وآخره للحكام ﴿أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت ﴿فِيمَا افتدت بِهِ﴾ فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر إلا أن يخافا حمزة على البناء للمفعول وإبدال ألا يقيما من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال نحو خيف زيد تركه إقامة حدود الله ﴿تِلْكَ حُدُودَ الله﴾ أي ما حد من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ فلا تجاوزوها بالمخالفة ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون﴾ الضارون أنفسهم
﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ مرة ثالثة بعد المرتين فإن قلت الخلق طلاق عندنا وكذا عند الشافعى رحمه الله في قول فكأن هذه تطليقة رابعة قلت الخلع طلاق ببدل فيكون طلقة ثالثة وهذا بيان للتلك أي فإن طلقها الثالثة ببدل فحكم التحليل كذا ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ من بعد التطليقة الثالثة {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها يقال لعمر الإنسان أجل وللموت الذى ينتهى
البقرة (٢٣١ _ ٢٣٢)
به أجل ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة وإما أن يخليها حتى تنقضي عدتها وتبين من غير ضرار ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ مفعول له أو حال أي مضارين وكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجة ولكن ليطوّل العدة عليها فهو الإمساك ضراراً ﴿لتعتدوا﴾ لتظلموهن أو لتلجئهون إلى الاقتداء ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ يعني الإمساك للضرار ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ بتعريضها لعقاب الله ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزوا﴾ أى جدوا فى الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد اتخذتموها هزواً يقال لمن لم يجد فى الامر إنما أنت لاعب وهازئ ﴿واذكروا نعمة الله عَلَيْكُمْ﴾
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي انقضت عدتهن فدل سياق الكلامين على اقتران البلوغين لأن النكاح يعقبه هنا وذا يكون بعد العدة الأولى الرجعة وذا يكون في العدة ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ فلا تمنعوهن العضل المنع والتضييق ﴿أَن يَنكِحْنَ﴾ من أن ينكحن ﴿أزواجهن﴾ الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن وفيه إشارة إلى انعقاد النكاح بعبارة النساء والخطاب للازواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً ولا يتركونهن يتزوجهن من شئن من الأزواج سموا أزواجاً باسم ما يؤول إليه أو للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجاً لهن سموا أزواجاً باعتبار ما كان نزلت فى معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول أو للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين ﴿إِذَا تراضوا بَيْنَهُم﴾ إذا تراضى الخطاب والنساء ﴿بالمعروف﴾ بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط أو بمهر المثل والكفء لأن عند عدم أحدهما للأولياء أن يتعرضوا والخطاب في ﴿ذلك﴾ للنبى ﷺ أو لكل واحد ﴿يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ منكم يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ فالمواعظ
البقرة (٢٣٢ _ ٢٣٣)
إنما تنجح فيهم ﴿ذلكم﴾ أي ترك العضل والضرار ﴿أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أي لكم من أدناس الآثام أو أزكى وأطهر أفضل وأطيب ﴿والله يَعْلَمُ﴾ ما في ذلك من الزكاء والطهر ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك
﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن﴾ خبر في معنى الأمر المؤكد كيتربصن وهذا الأمر على وجه الندب أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدى امه أو لم توجد له ظئرا وكان الأب عاجزاً عن الاستئجار أو أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع ﴿حَوْلَيْنِ﴾ ظرف ﴿كَامِلَيْنِ﴾ تأمين وهو تأكيد لأنه مما يتسامح فيه فإنك تقول أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ بيان لمن توجه إليه الحكم أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدة ﴿وَعلَى المولود له﴾ الهاء يعود إلى اللام بمعنى الذي والتقدير وعلى الذي يولد له وهو الوالد وله في محل الرفع على الفاعلية كعليهم في المغضوب عليهم وإنما قيل على المولود له دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله ﴿واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف﴾ بلا إسراف ولا تقتير وتفسيره ما يعقبه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ وجدها أو قدر إمكانها ولتكليف إلزام ما يؤثره في الكلفة وانتصاب وسعها على أنه مفعول ثان لتكلف لاعلى الاستثناء ودخلت إلا بين المفعولين ﴿لاَ تُضَارَّ﴾ مكي وبصري بالرفع على الإخبار ومعناه النهي وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول وأن يكون الأصل تضار بكسر الراء أو
تريد إرضاعه وإذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد أو تضار بمعنى تضر والباء من صلته أى لا تضر والدة ولدها فلا تسئ غذاءه
البقرة (٢٣٣ _ ٢٤٣)
وتعهده ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر فى حقها فتقصرهى فى حق الولد وإنما قيل بولدها وبولده لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وكذلك الوالد ﴿وَعَلَى الوارث﴾ عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وعلى وارث الصبي عند عدم الأب ﴿مثل ذلك﴾ أي مثل الذي كان على أبيه في حياته من الرزق والكسوة واختلف فيه فعند ابن أبي ليلى كل من ورثه وعندنا من كان ذا رحم محرم منه لقراءة ابن مسعود رضى الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك وعند الشافعى رحمه الله لا نفقة فيما عدا الولاد ﴿فَإِنْ أَرَادَا﴾ يعني الأبوين ﴿فِصَالاً﴾ فطاماً صادراً ﴿عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ بينهما ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ في ذلك زاد على الحولين أو نقصا وهذه توسعة بعد التحديد والتشاور استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته وذكره ليكون التراض عن تفكر فلا يضر الرضيع فسبحان الذي
﴿والذين يتوفون منكم﴾ تقول توفيت الشئ واستوفيته إذا أخذته وافياً تاماً أي تستوفى أرواحهم ﴿وَيَذَرُونَ﴾ ويتركون ﴿أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾ أي وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن أي يعتددن أو معناه يتربصن بعدهم بأنفسهن فحذف بعد هم للعلم به وإنما احتيج إلى تقديره لأنه لا بد من عائد يرجع إلى المبتدأ في الجملة التي وقعت خبراً يتوفون المفضل أي يستوفون آجالهم ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ أي وعشر ليال والأيام داخلة معها ولا يستعمل التذكير فيه ذهاباً إلى الأيام تقول صمت عشراً ولو ذكرت لخرجت من كلامهم ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ فإذا انقضت عدتهن ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها الأئمة والحكام ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِى أنفسهن﴾ من التعرض للخطاب ﴿بالمعروف﴾ بالوجه الذى لا ينكره الشرع
البقرة (٢٣٤ _ ٢٦٣)
﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ عالم بالبواطن
﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء﴾ الخطبة الاستنكاح والتعريض أن تقول لها إنك بجميلة أو صالحة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح فلا يقول إني أريد أن أتزوجك والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشئ بغير لفظه الموضوع له والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا... وحسبك بالتسليم مني تقاضيا...
فكأنه إمالة الكلام إلى غرض يدل على الغرض ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ﴾ أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ لا محالة ولا تنفكون عن النطق النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن ﴿ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سرا﴾ جماعا لأنه مما يسر أي لا تقولوا في العدة إني قادر على هذا العمل ﴿إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا وإلا متعلق بلا تواعدوهن أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة ﴿وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح﴾ من عزم الأمر وعزم عليه وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح أو ولا تقطعوا عقدة النكاح لأن حقيقة العزم القطع ومنه الحديث لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وروي لمن لم يبيت الصيام أي ولا تعزموا على عقدة النكاح ﴿حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ﴾ حتى
ونزل فيمن طلق امرأته ولم يكن سمى لها مهراً ولا جامعها ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أى لا تبعة عليكم من إيجاب مهر ﴿إِن طَلَّقْتُمُ النساء﴾ شرط ويدل على جوابه لا جناح عليكم والتقدير إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ ما لم تجامعوهن
البقرة (٢٣٦ _ ٢٣٧)
وما شرطية أي إن لم تمسوهن تماسوهن حمزة وعلي حيث وقع لأن الفعل واقع بين اثنين ﴿أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا وفرض الفريضة تسمية المهر وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر وإن لم يسم لها مهر فليس لها نصب مهر المثل بل تجب المتعة والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله ﴿وإن طلقتموهن﴾ إلى قوله ﴿فنصف ما فرضتم﴾ فقوله فنصف ما فرضتم إثبات للجناح المنفي ثمة ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ معطوف على فعل محذوف تقديره فطلقوهن ومتعهون والمتعة درع وملحفة وخمار ﴿عَلَى الموسع﴾ الذي له سعة ﴿قدره﴾ مقدراه الذي يطيقه قدره فيهما كوفي غير أبي بكر وهما لغتان ﴿وَعَلَى المقتر﴾ الضيق الحال ﴿قدره﴾ ولا تجب المتعة عندنا إلا لهذه وتستحب لسائر المطلقات ﴿متاعا﴾ تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً ﴿بالمعروف﴾ بالوجه الذي يحسن فى الشرع والمروءة ﴿حقا﴾ صفة لمتاعا أي متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً ﴿عَلَى المحسنين﴾ على المسلمين أو على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع وسماهم قبل الفعل محسنين كقوله عليه السلام من قتل قتيلاً فله سلبه وليس هذا
ثم بين حكم التي سمى لها مهراً في الطلاق قبل المس فقال ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ أن مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الجر أي من قبل مسكم إياهن ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ﴾ في موضع الحال ﴿لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ مهراً ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ يريد المطلقات وأن مع الفعل في موضع النصب على الاستثناء كأنه قيل فعليكم نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من المهر والفرق بين الرجال يعفون والنساء يعفون أن الواو في الأول ضميرهم والنون علم الرفع والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل ﴿أو يعفو﴾ عطف على محله ﴿الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ هو الزوج كذا فسره على رضى الله عنه وهو قول سعيد بن جبير وشريح ومجاهد وأبي حنيفة والشافعي على الجديد رضى الله عنهم وهذا لأن الطلاق بيده فكان بقاء العقد بيده والمعنى أن الواجب شرعاً هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل تفضلاً وعند مالك والشافعي في القديم هو الولي قلنا هو لا يملك التبرع بحق الصغير فكيف يجوز حمله عليه ﴿وَأَن تَعْفُواْ﴾ مبتدأ خبره ﴿أَقْرَبُ للتقوى﴾ والخطاب للأزواج والزوجات على سبيل التغليب ذكره الزجاج أي عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له وعفو المرأة بإسقاط كله خير لها أو للأزواج ﴿وَلاَ تنسوا الفضل﴾ التفضيل ﴿بينكم﴾
البقرة (٢٣٧ _ ٢٤٠)
أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم على تفضلكم
﴿حافظوا عَلَى الصلوات﴾ داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها ﴿والصلاة الوسطى﴾ بين الصلوات أي الفضلى من قولهم
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره ﴿فَرِجَالاً﴾ حال أي فصلوا راجلين وهو جمع راجل كقائم وقيام ﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾ وحداناً بإيماء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة ﴿فَإِذَا أَمِنتُمْ﴾ فإذا زال خوفكم ﴿فاذكروا الله﴾ فصلوا صلاة الأمن ﴿كَمَا عَلَّمَكُم﴾ أي ذكراً مثل ما علمكم ﴿مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ من صلاة الأمن
﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم﴾ بالنصب شامي وأبو عمرو وحمزة وحفص أي فليوصوا وصية عن الزجاج غيرهم بالرفع أي فعليهم وصيةٌ ﴿متاعا﴾ نصب بالوصية لأنها مصدر أو
البقرة (٢٤٠ _ ٢٤٥)
التزين والتعرض للخطاب ﴿مِن مَّعْرُوفٍ﴾ مما ليس بمنكر شرعاً ﴿والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾ فيما حكم
﴿وللمطلقات متاع﴾ أي نفقة العدة ﴿بالمعروف حَقّا﴾ نصب على المصدر ﴿عَلَى المتقين﴾
﴿كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ هو في موضع الرفع لأنه خبر لعل ووأن اريد به المتعة فالمراد غير المطلقة المذكروة وهي على سبيل الندب
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجيب من شأنهم ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب ﴿إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم﴾ من قرية قيل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم بدعاء حزقيل عليه السلام وقيل هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم
﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ فحرض على الحهاد بعد الاعلام بأن الفرار من الموت لا يغني وهذا الخطاب لأمة محمد عليه السلام أو لمن أحياهم ﴿واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ﴾ يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرونه
﴿مِنْ﴾ استفهام في موضع رفع بالابتداء ﴿ذَا﴾ خبره ﴿الذي﴾ نعت لذا أو بدل منه ﴿يُقْرِضُ الله﴾ صلة الذي سمى ما ينفق في سبيل الله قرضاً لأن القرض ما يقبض ببدل ببدل مثله من بعد سمى به لأن المقرض يقطعه من ماله
البقرة (٢٤٥ _ ٢٤٧)
فيدفعه إليه والقرض القطع منه المفراض وقرض الفأر والانقراض فنبههم بذلك على أنه لا يضيع عنده وأنه يجزيهم عليه لا محالة ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ بطيبة النفس من المال الطيب والمراد النفقة في الجهاد لأنه لما أمر بالقتال في
﴿ألم تر إلى الملإ﴾ الأشراف لأنهم يملئون القلوب جلالة والعيون مهابة ﴿من بني إسرائيل﴾ من للتبعيض ﴿مِن بَعْدِ موسى﴾ من بعد موته ومن لابتداء الغاية ﴿إِذْ قَالُواْ﴾ حين قالوا ﴿لِنَبِىّ لهم﴾ هو شمعون أو يوشع أو اشمويل ﴿ابعث لَنَا مَلِكًا﴾ أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره ﴿نقاتل﴾ بالنون والجزم على الجواب ﴿فِى سَبِيلِ الله﴾ صلة نقاتل ﴿قَالَ﴾ النبي ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ عسيتم حيث كان نافع ﴿إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال﴾ شرط فاصل بين اسم عسى وخبره وهو ﴿أَلاَّ تقاتلوا﴾ والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجبنون فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِى سَبِيلِ الله﴾ وأي داعٍ لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا﴾ الواو في وقد للحال وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ﴾ هو اسم أعجمي كجالوت وداود ومنع من الصرف
البقرة (٢٤٧ _ ٢٤٨)
للتعريف والعجمة ﴿مَلِكًا﴾ حال ﴿قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا﴾ أي كيف ومن أين وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ﴾ الواو للحال ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال﴾ أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام والملك في سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين وكان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً وروي أنه نبيهم دعا الله حيث طلبوا منه ملكاً فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت ﴿قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ﴾ الطاء في اصطفاه بدل من التاء لمكان الصاد الساكنة أي اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العم المبسوط والجسامة فقال ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً﴾ مفعول ثانٍ ﴿فِي العلم والجسم﴾ قالوا كان أعلم بني إسرائيل بالحرب والديانات في وقته وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه والبسطة السعة والامتداد والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدري غير منتفع به وأن يكون حسيما لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب {والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن
فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء الله طالوت ﴿وقال لهم نبيهم إن آية مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت﴾ أي صندوق التوراة وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ﴾ سكون وطمأنينة ﴿وَبَقِيَّةٌ﴾ هى رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشئ من التوارة ونعلا موسى وعمامة هرون عليهما السلام ﴿مما ترك آل موسى وآل هارون﴾ أى مما تركه موسى وهرون والآل مقحم لتفخيم شأنهما ﴿تَحْمِلُهُ الملائكة﴾ يعني التابوت وكان رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه والجملة في موضع الحال وكذا فيه سكينة ومن ربكم نعت لسكينة ومما ترك نعت لبقية ﴿إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ إن في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم
البقرة (٢٤٩ _ ٢٥١)
إن كنتم مصدقين
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾ خرج ﴿بالجنود﴾ عن بلده إلى جهاد العدو وبالجنود في موضع الحال أي مختلطاً بالجنود وهم ثمانون ألفاً وكان الوقت قيظاً وسألوا أن يجري الله لهم نهراً ﴿قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم﴾ مختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر ﴿بِنَهَرٍ﴾ وهو نهر فلسطين ليتميز المحق في الجهاد من المعذر ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ﴾ كريما ﴿فَلَيْسَ مِنّي﴾ فليس من أتباعي
﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ خرجوا لقتالهم ﴿قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ﴾ أصبب ﴿عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ على القتال ﴿وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا﴾ بتقوية قلوبنا وإلقاء الرعب في صدور عدونا ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ أعنا عليهم
﴿فَهَزَمُوهُم﴾ أي طالوت والمؤمنون جالوت وجنوده {بِإِذُنِ
البقرة (٢٥١ _ ٢٥٣)
مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له إنك تقتل بنا جالوت فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله وزوجه طالوت بنته ثم حسده وأراد قتله ثم مات تائباً ﴿وآتاه الله الملك﴾ في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها وما اجتمعت بنوإسرائيل على ملك قط قبل داود ﴿والحكمة﴾ والنبوة ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء﴾ من صنعة الدروع وكلام الطيور والدواب وغير ذلك ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس﴾ هو مفعول به ﴿بَعْضُهُمْ﴾ بدل من الناس دفاع مدني مصدر دفع أو دافع ﴿بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾ أي ولولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها من الحرث والنسل أو ولولا أن الله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفار وقتل الأبرار وتخريب البلاد وتعذيب العباد ﴿ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين﴾ بإزالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح
﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ خبره ﴿آيَاتُ الله﴾ يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة على يد صبي ﴿نَتْلُوهَا﴾ حال من آيات الله والعامل فيه معنى الإشارة أو آيات الله بدل من تلك ونتلوها الخبر ﴿عَلَيْكَ بالحق﴾ باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ حيث تحير بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب أو سماع من أهله
﴿تِلْكَ الرسل﴾ إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة من آدم إلى داود أو التي ثبت علمها عند رسول الله عليه السلام ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان ثم بين ذلك بقوله ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ أي كلمه الله حذف العائد من الصلة يعني منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ﴾ مفعول أول ﴿درجات﴾ مفعول ثانٍ أي بدرجات أو إلى درجات يعني ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد ﷺ لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة وبأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر وفي هذا الإبهام تفخيم وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد والمتميز الذي لا يلتبس وقيل أريد به محمد وإبراهيم وغيرهما من
البقرة (٢٥٣ _ ٢٥٥)
أولى العزم من الرسل ﴿وآتينا عيسى ابن مَرْيَمَ البينات﴾ كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك ﴿وأيدناه بِرُوحِ القدس﴾ قويناه بجبريل أو بالإنجيل ﴿وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتل﴾ أي ما اختلف لأنه سببه ﴿الذين مِن بَعْدِهِم﴾ من بعد الرسل ﴿مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات﴾ المعجزات الظاهرات ﴿ولكن اختلفوا﴾ بمشيئتى ثم بين الاختلاف فقال ﴿فمنهم من آمن ومنهم من كفر﴾ بمشيئتى يقول الله تعالى أجريت أمور رسلي على هذا أي لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته في حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر ﴿وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا﴾ كرره للتأكيد أي لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا
﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من ما رزقناكم﴾ في الجهاد في سبيل الله أو هو عام في كل صدقة واجبة ﴿مّن قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه﴾ أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه ﴿وَلاَ خُلَّةٌ﴾ حتى يسامحكم أخلاؤكم به ﴿وَلاَ شفاعة﴾ أي للكافرين فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة مكي وبصري
﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ لا مع اسمه وخبره وما أبدل من موضعه في موضع الرفع خبر المبتدأ وهو الله ﴿الحى﴾ الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء ﴿القيوم﴾ الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور ﴿وَلاَ نَوْمٌ﴾ عن المفضل السنة ثقل في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب وهو تأكيد للقيوم لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً وقد أوحى إلى موسى عليه السلام قل لهؤلاء أنى أمسك السموات بقدرتى فلوا أخذني نوم أو نعاس لزالتا ﴿لَّهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض﴾
ملكاً وملكاً ﴿مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما كان قبلهم وما يكون
آية الكرسي عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح وقال من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح وإن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي آية
البقرة (٢٥٦ _ ٢٥٨)
الكرسي وأول حم المؤمن إلى إِلَيْهِ المصير لاشتمالهما على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم أن أشرف العلوم علم التوحيد
﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدين﴾ أي لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام وقيل هو إخبار في معنى النهي ورُوي أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصما إلى رسول الله ﷺ فقال الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما قال ابن مسعود وجماعة كان هذا في الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾ قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت﴾ بالشيطان أو الأصنام {وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ
﴿الله ولي الذين آمنوا﴾ أرادوا أن يؤمنوا أي ناصرهم ومتولي أمورهم ﴿يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات﴾ من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها ﴿إِلَى النور﴾ إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان ﴿والذين كَفَرُواْ﴾ مبتدأ والجملة هى ﴿أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت﴾ خبره ﴿يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات﴾ وجمع لأن الطاغوت في معنى الجمع يعني والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذي يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة ﴿أولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون﴾
ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذي كان يدعي الربوبية بقوله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ﴾ في معارضته ربوبية ربه والهاء في ربه يرجع إلى إبراهيم أو الذى حاج فهو ربهما
البقرة (٢٥٨ _ ٢٥٩)
﴿أَنْ آتاه الله الملك﴾ لأنّ آتاه الله يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك وهو دليل على المعتزلة في الأصلح أو حاج وقت أن أتاه الله الملك ﴿إِذْ قَالَ﴾ نصب يحاج أو بدل من أن آتاه إذا جعل بمعنى الوقت ﴿إبراهيم ربي﴾ حمزة ﴿الذى يُحِْيى وَيُمِيتُ﴾ كأنه قال له من ربك قال
﴿أَوْ كالذى مَرَّ﴾ معناه أو أرأيت مثل الذى فحذف لدلالة ألم تر عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر وقال صاحب
البقرة (٢٥٩ _ ٢٦٠)
مع سفوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان كل مر عرش ﴿قال أنى يحيي﴾ أي كيف ﴿هذه﴾ أي أهل هذه ﴿الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ أي أحياه ﴿قَالَ﴾ له ملك ﴿كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ بناء على الظن وفيه دليل جواز الاجتهاد روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس يوماً ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال أو بعض يوم ﴿قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ﴾ روي أن طعامه كان تيناً وعنباً وشرابه عصيراً ولبناً فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ لم يتغير والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين لأن لا مهاهاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت يقال سانهت فلاناً أي عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وبإثباتها في الوقف حمزة وعلي ﴿وانظر إلى حِمَارِكَ﴾ كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه أو وانظر ليه سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه
﴿وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى﴾ بصرني ﴿كَيْفَ تحيي الموتى﴾ موضع كيف نصب تبحي ﴿قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾
البقرة (٢٦٠ _ ٢٦١)
وإنما قال له أو لم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين وبلى إيجابا لما بعد النفي معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير﴾ طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة
ولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق في سبيل الله وأعلم أن من أنفق في سبيله فله في نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال ﴿مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله﴾ لا بد من حذف مضاف أي مثل نفقتهم ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ أو مثلهم كمثل باذر حبة ﴿أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ﴾ المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر والممثل به موجود في الدخن والذرة وربما
البقرة (٢٦١ _ ٢٦٤)
يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء يضعف شامى ويضعف مكي ﴿والله واسع﴾ واسع الفضل والجود ﴿عَلِيمٌ﴾ بنيات المنفقين
﴿الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا﴾ هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها ﴿وَلا أَذًى﴾ هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه ومعنى ثم إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله ثم استقاموا ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ﴾ أي ثواب إنفاقهم ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من بخس الأجر ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ من فوته أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوات الثواب ووإنما قال هنا لهم أجرهم وفيما بعد فلهم أجرهم لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة
﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ رد جميل ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل ﴿خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾ وصح الاخبار على المبتدأ الكرة لاختصاصه بالصفة ﴿والله غَنِىٌّ﴾ لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذي ﴿حَلِيمٌ﴾ عن معاجلته بالعقوبة وهذ وعيد له
ثم أكد ذلك بقوله ﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى كالذى﴾ الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير بطلا مثل إبطال الذي ﴿يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر﴾ أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا الله ولا ثواب الآخرة ورئاء مفعول له ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ مثّله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بحجر أملس عليه تراب ﴿فَأَصَابَهُ وَابِلٌ﴾ مطر عظيم القطر ﴿فَتَرَكَهُ صَلْدًا﴾ أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ﴾ لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا أو الكاف في محل النصب على الحال
البقرة (٢٦٤ _ ٢٦٦)
أى لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق وإنما قال لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق لأنه أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ﴿والله لا يهدي القوم الكافرين﴾ ماداموا مختارين الكفر
﴿وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ أي وتصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن اخلاص قلبه ومن لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أي للإبتغاء والتثبيت والمعنى ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ﴾ بستان ﴿بِرَبْوَةٍ﴾ مكان مرتفع وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً بربوة عاصم وشامي ﴿أَصَابَهَا وابل فآتت أُكُلُهَا﴾
وإخلاص الهمزة في ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ﴾ للإنكار أَن تَكُونَ لَهُ ﴿جَنَّةٌ﴾ بستان ﴿مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ﴾ لصاحب البستان ﴿فِيهَا﴾ في الجنة ﴿مِن كُلّ الثمرات﴾ يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منها وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات ﴿وَأَصَابَهُ الكبر﴾ الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقدأصابه به الكبر والواو في ﴿وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء﴾ أولاد صغار للحال أيضاً والجملة في موضع الحال من الهاء في أصابه ﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾ ريح تستدير فى الأرض ثم تسطع نحوالسماء كالعمود ﴿فِيهِ﴾ في الإعصار وارتفع ﴿نَّارٌ﴾ بالظرف إذ جرى الظرف وصفاً لإعصار ﴿فاحترقت﴾ الجنة وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة
البقرة (٢٦٦ _ ٢٧٠)
وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة ﴿كذلك﴾ كهذا البيان الذي بين فيما تقدم ﴿يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ في التوحيد والدين ﴿لعلكم تتفكرون﴾ فتنتبهوا
﴿يا أيها الذين آمنوا أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ﴾ من جياد مكسوباتكم وفيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة ﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض﴾ من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ ولا تقصدوا المال الردئ ﴿مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾ تخصونه بالإنفاق وهو في محل الحال أي ولا تيمموا الخبيث منفقين أي مقدرين النفقة ﴿وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ﴾ وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم ﴿إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك أعمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر وعن ابن عباس رضى الله عنهما كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه ﴿واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ﴾ عن صدقاتكم ﴿حَمِيدٌ﴾ مستحق للحمد أو محمود
﴿الشيطان يَعِدُكُمُ﴾ في الإنفاق ﴿الفقر﴾ ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفقروا والوعد يستعمل في الخير والشر ﴿وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء﴾ ويغريكم على البخل ومنع الصدقات واغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل ﴿والله يَعِدُكُم﴾ في الإنفاق ﴿مَّغْفِرَةً مّنْهُ﴾ لذنوبكم وكفارة لها ﴿وَفَضْلاً﴾ وأن يخلف عليكم أفضل مما انفقتم أو ثوابا عليه في الآخرة ﴿والله واسع﴾ يوسع على من يشاء ﴿عَلِيمٌ﴾ بأفعالكم ونياتكم
﴿يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء﴾ علم القرآن والسنة أو العلم النافع الموصل إلى رضا الله والعمل به والحكيم عند الله هو العالم العامل ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ﴾ ومن يؤت يعقوب أي ومن يؤته الله الحكمة ﴿فَقَدْ أُوتِىَ خيرا كثيرا﴾ تكير تعظيم أي أوتي خيراً أيّ خير كثير {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ
﴿وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ﴾
في سبيل الله أو في سبيل الشيطان ﴿أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ﴾ في طاعة الله أو في معصيته ﴿فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ﴾ لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه ﴿وَمَا للظالمين﴾ الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي أو ينذرون في المعاصي أو لا يفون بالنذور ﴿مِنْ أَنصَارٍ﴾ ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه
﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي﴾ فنعم شيأ ابداؤها وما نكرة غير موصلة ولا موصوفة والمخصوص بالمدح هي فنعما هي بكسر النون وإسكان العين أبو عمرو ومدني غير ورش وبفتح النون وكسر العين شامي وحمزة وعلي وبكسر النون والعين غيرهم ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء﴾ وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ فالإخفاء خير لكم قولوا المراد صدقات التطوع والجهر في الفرائض أفضل لنفى التهمة حتى إذا كان المزكى من لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل والمتطوع إن أراد أن يفتدى به كان إظهاره أفضل ﴿ونكفر﴾ بالنون وجزم الراء مدنى وحمزة وعلى وبالياء ورفع الراء شامي وحفص وبالنون والرفع غيرهم فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر الله ﴿عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ﴾ والنون على معنى نحن نكفر ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الإبداء والإخفاء ﴿خبير﴾ عالم
﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب ﴿ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء﴾ أو ليس عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى وإنما ذلك إلى الله ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ من مال ﴿فَلأَِنفُسِكُمْ﴾ فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله﴾ وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله أي رضا الله ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله أو هذا نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ ثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها ﴿وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾
ولا تنقصون كقوله ولم تظلم منه شيأ أي لم تنقص
الجار في لِلْفُقَرَاء متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه الصدقات للفقراء ﴿الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ هم الذين أحصرهم الجهاد فمنعهم من التصرف ﴿ولا يَسْتَطِيعُونَ﴾ لاشتغالهم به ﴿ضَرْبًا فِى الأرض﴾ للكسب وقيل هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم تكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل
﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً﴾ هما حالان أي مسرين ومعلنين يعنى يعممون الاولقات والاحوال بالصدقة لحصرهم على الخير فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه حيث تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة في السر وعشرة في العلانية أو فى على رضى الله عنه لم يملمك إلا أربعة دراهم تصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم
﴿الذين يَأْكُلُونَ الربا﴾ هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال وكتب الربوا بالواو على لغة من يفخم كماكتبت الصلوة والزكوة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع ﴿لاَ يَقُومُونَ﴾ إذا بعثوا من قبورهم ﴿إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان﴾ أي المصروع لأنه تخبط فى المعاملة فجوزى
البقرة (٢٧٥ _ ٢٧٨)
على المقابلة والخبط الضرب على غير استواء كحبط العشواء ﴿مِنَ المس﴾ من الجنون وهو يتعلق بلا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع أو بيقوم أي كما يقوم المصروع من جنونه والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون الاأكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض ﴿ذلك﴾ العقاب ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا﴾ ولم يقل إنما الربا مثل البيع مع أن الكلام في الربا لا في البيع لأنه جيء به على طريقة المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا﴾ إنكار لتسويتهم بينهما إذ الحل مع الحرمة ضدان فأنى يتماثلان ودلالة على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ﴾ فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا ﴿فانتهى﴾ فتبع
﴿يَمْحَقُ الله الربا﴾ يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ﴿وَيُرْبِى الصدقات﴾ ينميها ويزيدها أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه وفي الحديث ما نقصت زكاة من مال قط ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ عظيم الكفر باستحلال الربا ﴿أَثِيمٍ﴾ متمادٍ فى الاثم بأكله
﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ قيل المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا﴾ أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها روى أنها
البقرة (٢٧٨ _ ٢٨٢)
نزلت في ثقيف وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ كاملي الإيمان فإن دليل كماله امتثال المأمور به
﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله ورسوله﴾ فاعلموا بها من أذن بالشئ إذا علم يؤيده قراءة الحسن فأيقنوا فآذنوا حمزة وأبو بكر غير ابن غالب فأعلموا بها غيركم ولم يقل بحرب الله ورسوله لأن هذا أبلغ لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ﴿وَإِن تُبتُمْ﴾ من الارتباء ﴿فلكم رؤوس أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ﴾ المديونين بطلب الزيادة عليها ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ بالنقصان منها
﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ فالحكم أو فالأمر نظرة أي إنظار ﴿إلى مَيْسَرَةٍ﴾ يسار ميسرة نافع وهما لغتان ﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ﴾ بالتخفيف عاصم أى تتصدقوا برؤس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم وبالتشديد غيره فالتخفيف على حذف إحدى التاءين والتشديد على الإدغام ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ في القيامة وقيل أريد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه
﴿واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾ ترجعون أبو عمرو فرجع لازم ومتعدٍ قيل هي آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقر وعاش رسول الله ﷺ بعدها أحداً وعشرين يوماً أو أحداً وثمانين أو سبعة أيام أو ثلاث ساعات {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا
﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾ أي إذا داين بعضكم بعضاً يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ مدة معلومة كالحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج ووإنما احتيج إلى ذكر الدين ولم يقل إذا تداينتم إلى اجل مسمى ليترجع الضمير إليه في قوله ﴿فاكتبوه﴾ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود والمعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه والأمر
البقرة (٢٨٢)
للندب وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلف المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية وفيه دليل على اشتراط الأجل في السلم ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم﴾ بين المتداينين ﴿كاتب بالعدل﴾ هو متعلق بكاتب صفة له أي كاتب مأمون على ما يكتب يكتب بالاحتياط لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص وفيه دليل أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط حتى يجئ مكتوبه معدلا بالشرع وهو أمر للمتدينين بتخير الكاتب وألا يستكتبوا إلا فقيهاً ديناً حتى يكتب ما هو متفق عليه ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ ولا يمتنع واحد من الكتاب ﴿أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله﴾ مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير وكما متعلق بأن يكتب ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ تلك الكتابة لا يعدل عنها ﴿وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق﴾ ولا يكن المملي إلا من وجب عليه
البقرة (٢٨٢)
فَتُذْكِر بالنصب مكي وبصري من الذّكرُ لا من الذَّكر ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ﴾ لأداء الشهادة أو للتحمل لئلا تتوى حقوقهم وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن فالأوّل للفرض والثاني للندب ﴿ولا تسأموا﴾ ولا تملوا قال الشاعر...
والضمير في ﴿أَن تَكْتُبُوهُ﴾ للدين أو الحق ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ على أي حال كان الحق من صغر أو كبر وفيه دلالة جواز السلم في الثياب لأن ما يكال أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير وإنما يقال في الذرعي ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن يكتبوه مختصرا أو مشبعا ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾ إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته ﴿ذلكم﴾ إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب ﴿أَقْسَطُ﴾ أعدل من القسط وهو العدل ﴿عَندَ الله﴾ ظرف لا قسط ﴿وَأَقْوَمُ للشهادة﴾ وأعون على إقامة الشهادة وبنى أفعلا التفضيل أى أقسط وأقوم من اقسط وأقام على مذهب سيبويه ﴿وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ﴾ وأقرب من انتفاء الريب للشاهد والحاكم وصاحب الحق فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات وإذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك وألف أدنى منقلبة من واو لأنه من الدنو ﴿إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً﴾ عاصم أي إلا أن تكون التجارة تجارة أو إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة غيره تجارة حاضرة على كان التامة أي إلا أن تقع تجارة حاضرة أو هي ناقصة والاسم تجارة حاضرة والخير ﴿تديرونها﴾ وقوله ﴿بينكم﴾ ظرف لتديرونها ومعنى إدارتها بينهم تعاطيها يداً بيد ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ يعني إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس ألا تكتبوها لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين ﴿وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً لأنه أحوط وأبعد من وقوع الاختلاف أو أريد به وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة والأمر للندب ﴿وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ يحتمل البناء للفاعل لقراءة عمر رضى الله عنه ولا يضارر وللمفعول
البقرة (٢٨٢ _ ٢٨٤)
الضرار ﴿فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ مأثم ﴿واتقوا الله﴾ في مخالفة أ ﴿وَيُعَلّمُكُمُ الله﴾ شرائع دينه ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يلحقه سهو ولا قصور
﴿وَإِن كُنتُمْ﴾ أيها المتداينون ﴿على سَفَرٍ﴾ مسافرين ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان﴾ فرهان مكي وأبو عمرو أي فالذي يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن كقف وسقف وبغل وبغال ورهن في الأصل مصدر سمي به ثم كسر تكسير الأسماء ولما كان السفر مظنة لا عواز الكتب والإشهاد أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لأن السفر شرط تجويز الارتهان وقوله ﴿مَّقْبُوضَةٌ﴾ يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا﴾ فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن ﴿فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته﴾ دينه وائتمن افتعل من الأمن وهو حث للمدين على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه ﴿وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾ في إنكار حقه
﴿لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ خلقاً وملكاً ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أو تخفوه﴾
يعني من السوء ﴿يُحَاسِبْكُم بِهِ الله﴾ يكافئكم ويجازيكم ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا قيل لا لقوله عليه السلام إن الله عفى عن أمتي ما حدثت به أنفسها
﴿آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون﴾ إن عطف المؤمنون على الرسول كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في ﴿كُلٌّ﴾ راجعاً إلى الرسول والمؤمنون أى كلهم ﴿آمن بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ ووقف عليه وإن كان مبتدأ كان عليه كل مبتدأ ثانياً والتقدير كل منهم وآمن خبر المبتدأ
البقرة (٢٨٥ _ ٢٨٦)
من واحد تقول المال بين القوم ولا تقول المال بين زيد ﴿وَقَالُواْ سَمِعْنَا﴾ أجبنا قولك ﴿أطعنا﴾ أمرك ﴿غُفْرَانَكَ﴾ أي اغفر لنا غفرانك فهو منصوب بفعل مضمر ﴿رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير﴾ المرجع وفيه إقرار بالبعث والجزاء والآية تدل على بطلان الاستثناء في الإيمان وعلى بقاء الإيمان لمرتكب الكبائر
﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا﴾ محكي عنهم أو مستأنف ﴿إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف كذا في شرح التأويلات وقال صاحب الكشاف الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشهر ويحج أكثر من حجة ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر وخص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الافتعال للانكماش والنفس تنكمش في الشر وتتكلف للخير ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا﴾ تركنا أمراً من أوامرك سهواً ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ ودل هذا على جواز المؤاخذة فى النسيان والخطأ خلافا للمعتزلة لا مكان التحرز عنهما في الجملة ولولا جواز المؤاخذة بهما لم يكن للسؤال معنى ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ عبأ يأصر حامله أي يحبسه مكانه لثقله استعير للتكليف الشاق من نحو قتل الأنفس وقطع
سورة آل عمران نزلت بالمدينة وهى مائتا آية
بسم الله الرحمن الرحيم