سورة البقرة مدنية، نزلت في مُدَدٍ شتى. وقيل : هي أول سورة نزلت بالمدينة، إلا قوله تعالى :" واتقوا يوما ترجعون١ فيه إلى الله " [ البقرة : ٢٨١ ] فإنه آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن.
وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها جسيم. ويقال لها : فسطاط القرآن، قاله خالد بن معدان. وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبد الله في ثماني سنين كما تقدم.
قال ابن العربي : سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة، وقال له :( اذهب فأنت أميرهم ) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه. وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة )، قال معاوية٢ : بلغني أن البطلة : السحرة. وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ). وروى الدارمي عن عبد الله قال : ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله صراط. وقال : إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصل. قال أبو محمد الدارمي. اللباب : الخالص. وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ). قال أبو حاتم البستي : قوله صلى الله عليه وسلم :( لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ) أراد : مردة الشياطين. وروى الدارمي في مسنده عن الشعبي قال : قال عبد الله : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربعا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثا خواتيمها، أولها :" لله ما في السموات " [ البقرة : ٢٨٤ ]. وعن الشعبي عنه : لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وقال المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبد الله - : لم ينس القرآن. وقال إسحاق بن عيسى : لم ينس ما قد حفظ. قال أبو محمد الدارمي : منهم من يقول : المغيرة بن سميع.
وفي كتاب الاستيعاب لابن عبد البر : وكان لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر٣ بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في الإسلام، سأل عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال : إنما سألتك عن شعرك، فقال : ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الأخبار : إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم. وقال بعضهم : لم يقل في الإسلام إلا قوله :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي | حتى اكتسيت من الإسلام سربالاَ |
ما عاتب المرءَ الكريمَ كنفسه | والمرء يصلحه القرين الصالحُ |
٢ معاوية هذا، هو أحد رواة سند الحديث..
٣ الزيادة عن كتاب الاستيعاب (ج ١ ص ٢٣٥) طبع الهند..
٤ راجع ج ٣ ص ٢٦٨، ٤٣١..
٥ راجع ج ٤ ص ٢..
ﰡ
[سورة البقرة (٢): الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)[بيان الأقوال الواردة في الحروف المقطعة التي في أوائل السور]
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أوائل السور، فَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ: هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ سِرٌّ. فَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَلَا يَجِبُ «١» أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَقْرَأُ كَمَا جَاءَتْ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ نَجِدِ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي أَوَائِلِ السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بِهَا. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ «٢» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ، وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ، فَأَمَّا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبَرُونَ «٣» بِهِ، وَمَا بِكُلِ الْقُرْآنِ تَعْلَمُونَ، وَلَا بِكُلِ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّ حُرُوفًا مِنَ الْقُرْآنِ سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ، اخْتِبَارًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا، فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ، وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ. حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا آمَنَ مُؤْمِنٌ أَفْضَلُ مِنْ إِيمَانٍ بغيب، ثم قرأ:" الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [البقرة: ٣].
(٢). قال صاحب تهذيب التهذيب: (في التقريب الربيع بن خثيم، بضم المعجمة وفتح المثلثة. ولكن في الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة. [..... ]
(٣). في نسخة من الأصل: (تجزون به).
فَقُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
أَرَادَ: قَالَتْ وَقَفْتُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإِنْ شَرًّا فَا | وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٥٦
نَادَوْهُمْ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا | قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا |
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ | تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا «٢» |
(٢). يأطر: يثنى.
(٣). سورة الانعام آية ٨٣.
(٤). سورة البقرة آية ٢٥٢.
(٥). سورة الممتحنة آية ١٠
(٦). ثبج البحر: وسطه ومعظمه.
لَا تَأْمَنَنَّ فَزَارِيًا حللت به | على قلوصك واكتبها بأسيار |
(٢). آية ٦٨ راجع ص ٤٤٨ من هذا الجزء.
وَفْرَاءُ غَرْفِيَّةٌ أَثَأَى خَوَارِزُهَا | مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ «١» |
تُؤُمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وَفِيهَا | كِتَابٌ مِثْلَ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ |
يا ابنة عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي | عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا |
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ | إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْجَهُولُ |
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَبْتَنِي | فَقُلْتُ كِلَانَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ |
قَضَيْنَا مِنْ تَهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ | وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا |
[الكلام على هداية القرآن وفيه ست مسائل]
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فِيهِ سِتُّ مسائل:
(٢). هو كعب بن مالك الأنصاري، كما في اللسان مادة (ريب).
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٨٥.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٦٠.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢٩٩.
(٥). راجع ج ١٦ ص ٢٣٠.
(٦). راجع ج ١٥ ص ٧٣.
(٧). راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.
(٨). راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.
(٩). راجع ج ٧ ص ٢٠٨
حَتَّى اسْتَبَنْتُ الْهُدَى وَالْبِيدُ هَاجِمَةٌ | يَخْشَعْنَ فِي الْآلِ غُلْفًا أَوْ يُصَلِّينَا «١» |
سَقَطَ النَّصِيفُ «٢» وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ | فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ |
فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ | بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمِ |
(٢). النصيف: ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمى نصيفا لأنه نصف بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها.
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا | وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى |
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ | ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى |
لَا تُحَقِرَنَّ صَغِيرَةً | إِنَّ الجبال من الحصى |
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ | وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا |
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي | وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا |
[سورة البقرة (٢): آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
فِيهَا سِتٌّ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْأُولَى قَوْلُهُ: (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ نَعْتٌ" لِلْمُتَّقِينَ"، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ. (يُؤْمِنُونَ) يُصَدِّقُونَ. وَالْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ، وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَما أَنْتَ «١» بِمُؤْمِنٍ لَنا" أَيْ بِمُصَدِّقٍ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَاللَّامِ، كَمَا قَالَ:
" وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ «٢» " | " فَما آمَنَ لِمُوسى «٣» " وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ حجاج |
(٢). سورة آل عمران آية ٧٣.
(٣). سورة يونس آية ٨٣
(٢). العج: رفع الصوت بالتلبية.
(٣). سورة الأعراف آية ٧.
(٤). سورة الأنبياء آية ٤٩.
وَبِالْغَيْبِ آمَنَّا وَقَدْ كَانَ قَوْمُنَا | يُصَلُّونَ لِلْأَوْثَانِ قَبْلَ مُحَمَّدِ |
وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقٍ
وَقَالَ آخَرُ:
وَإِذَا يُقَالُ أَتَيْتُمْ لَمْ يَبْرَحُوا | حَتَّى تُقِيمَ الْخَيْلُ سُوقَ طِعَانِ |
(٢). سورة الجمعة آية ٩
(٢). سورة البقرة آية ٢٠٠
(٢). الأسطوانة: العامود.
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرُبْتُ مُرْتَحِلًا | يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا |
عَلَيْكَ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي | نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا |
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا | وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمَ |
(٢). سورة التوبة آية ١٠٣.
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا علم اللَّ | هـ وَإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِ |
فَلَا تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ وَاسْتَدِمْهُ | فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ «٣» |
(٢). كذا في جميع الأصول وفي اللسان والتاج مادة (صلا): (.. قيس بن زهير).
(٣). كذا في جميع الأصول. وفي اللسان: (عصاه). [..... ]
(٤). سورة الأنفال آية ٣٥.
(٥). سورة طه آية ١٣٢.
(٦). سورة الصافات آية ١٤٣.
(٧). سورة البقرة آية ٣٠.
(٨). سورة الاسراء آية ١١٠.
(٢). التهجير: التبكير إلى كل شي والمبادرة إليه.
(٣). حزبه الامر: نابه واشتد عليه، وقيل: ضغطه.
(٤). راجع ج ٥ ص ٢٠٤ فما بعد.
(٥). راجع ج ٦ ص ٨٠ فما بعد.
(٦). راجع ج ٧ ص ١٨٢ فما بعد.
(٢). العرايا: نخل كانت توهب ثمارها للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر. [..... ]
(٣). المزابنة: بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر كيلا، وبيع الزبيب بالكرم.
(٤). القراض (بالكسر): إجارة على التجر في مال بجزء من ربحه.
وَيَرَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ بِضَرْطَةٍ | أَيْنَ الضُّرَاطُ مِنَ السَّلَامِ عَلَيْكُمُ |
رأيت الله أكبر كل شي | مُحَاوَلَةً وَأَعْظَمُهُ جُنُودًا |
(٢). راجع ج ٩ ص ١٠٩ فما بعد.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٠٣ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٤ ص ١٤ فما بعد.
(٥). راجع ج ١٩ ص ٥١ فما بعد.
(٦). راجع ج ٧ ص ٣٥٧ فما بعد.
(٧). راجع ج ١٥ ص ١٨٣.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٥٥.
(٣). راجع ج ٩ ص ٦ فما بعد. [..... ]
(٤). راجع ص ١٤٠ فما بعدها من هذا الجزء.
(٥). راجع ج ١٤ ص ٢٨٤.
(٦). الزيادة عن اللسان مادة (رزق).
(٧). ج ١٧ ص ٢٢٨ فما بعد.
(٨). راجع ج ١٠ ص ٣٣٥
(٢). مثل قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية. ج ٨ ص ٢٤٤ فقد قال ابن العربي إنها ناسخة لآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية انظر صفحة ٣٨١ من الجزء الأول من تفسيره المطبوع بمصر سنة ١٣٣١ هـ. وكذلك روى الجصاص نسخها بها عن عمر بن عبد العزيز.
[سورة البقرة (٢): آية ٤]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)قِيلَ: الْمُرَادُ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَفِيهِ نَزَلَتْ، وَنَزَلَتِ الْأُولَى فِي مُؤْمِنِي الْعَرَبِ. وَقِيلَ: الْآيَتَانِ جَمِيعًا فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَيْهِ فَإِعْرَابُ" الَّذِينَ" خَفْضٌ عَلَى الْعَطْفِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ وَهُمُ الَّذِينَ. وَمَنْ جَعَلَهَا فِي صِنْفَيْنِ فَإِعْرَابُ" الَّذِينَ" رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ" أُولئِكَ عَلى هُدىً" وَيُحْتَمَلُ الْخَفْضُ عَطْفًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يَعْنِي الْكُتُبَ السَّالِفَةَ، بِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَسْبَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «١» قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا" [البقرة: ٩١] الْآيَةَ. وَيُقَالُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ آمَنَّا بالغيب، فلما قال:" وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ" [البقرة: ٣] قَالُوا: نَحْنُ نُقِيمُ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا قَالَ" وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" قَالُوا: نَحْنُ نُنْفِقُ وَنَتَصَدَّقُ، فَلَمَّا قَالَ:" وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" نَفَرُوا مِنْ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَ اللَّهُ؟ قَالَ: (مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى شِيثَ خمسين صحيفة وعلى أخنوخ (٢) ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ (. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْحُسَيْنُ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الْبَسْتِيُّ. وَهُنَا مَسْأَلَةٌ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِهَا مَعَ تَنَافِي أَحْكَامِهَا؟ قِيلَ لَهُ فِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِأَنَّ جَمِيعَهَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَسْقَطَ التَّعَبُّدَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ. الثَّانِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ التزام الشرائع المتقدمة، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أَيْ وَبِالْبَعْثِ وَالنَّشْرِ هُمْ عَالِمُونَ. وَالْيَقِينُ: الْعِلْمُ دُونَ الشَّكِّ، يُقَالُ مِنْهُ: يَقِنْتُ الْأَمْرَ (بِالْكَسْرِ) يَقْنًا، وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى،
تَحَسَّبَ هَوَّاسٌ وَأَيْقَنَ أَنَّنِي... بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ وَاحِدٍ لَا أُغَامِرُهْ
يَقُولُ: تَشَمَّمَ الْأَسَدُ نَاقَتِي، يَظُنُّ أَنَّنِي مُفْتَدٍ بِهَا مِنْهُ، وَأَسْتَحْمِي نَفْسِي فَأَتْرُكُهَا لَهُ وَلَا أَقْتَحِمُ الْمَهَالِكَ بِمُقَاتَلَتِهِ فَأَمَّا الظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ فَوَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ وَهُوَ فِي الشِّعْرِ كَثِيرٌ، وَسَيَأْتِي. وَالْآخِرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّأَخُّرِ لِتَأَخُّرِهَا عَنَّا وَتَأَخُّرِنَا عَنْهَا، كَمَا أَنَّ الدُّنْيَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدُّنُوِّ، على ما يأتي.
[سورة البقرة (٢): آية ٥]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
قَالَ النَّحَّاسُ أَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: ألاك، وبعضهم يقول: ألا لك، والكاف لِلْخِطَابِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَنْ قَالَ أُولَئِكَ فَوَاحِدُهُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ أُلَاكَ فَوَاحِدُهُ ذَاكَ، وَأُلَالِكَ مثل أولئك، وأنشد ابن السكيت:
ألا لك قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً «٢»... وَهَلْ يَعِظُ الضَّلِيلَ إِلَّا أُلَالِكَا
وَرُبَّمَا قَالُوا: أُولَئِكَ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وَقَالَ تَعَالَى:" إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «٣» " [الاسراء: ٣٦] وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" مِنْ رَبِّهِمْ" رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: يَخْلُقُونَ إِيمَانَهُمْ وَهُدَاهُمْ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَقَالَ:" مِنْ أَنْفُسِهِمْ"، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ «٤» وَفِي الْهُدَى «٥» فَلَا مَعْنَى لاعادة ذلك. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)... " رَبِّهِمْ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً ثَانِيًا وَخَبَرُهُ" الْمُفْلِحُونَ"، وَالثَّانِي وَخَبَرُهُ خَبَرُ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" رَبِّهِمْ" زَائِدَةً يُسَمِّيهَا الْبَصْرِيُّونَ فَاصِلَةً وَالْكُوفِيُّونَ عِمَادًا وَ" الْمُفْلِحُونَ" خبر" أُولئِكَ".
(٢). الاشابة من الناس: الأخلاط. والاشابة في الكسب: ما خالطه الحرام الذي لا خير فيه والسحت.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢٥٩.
(٤). راجع المسألة الحادية والثلاثين ص ١٤٩.
(٥). راجع المسألة الثانية ص ١٦٠ من هذا الجزء.
إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ
أَيْ يُشَقُّ، وَمِنْهُ فِلَاحَةُ الْأَرَضِينَ إِنَّمَا هُوَ شَقُّهَا لِلْحَرْثِ، قال أَبُو عُبَيْدٍ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْأَكَّارُ «١» فَلَّاحًا. وَيُقَالُ لِلَّذِي شُقَّتْ شَفَتُهُ السُّفْلَى أَفْلَحُ، وَهُوَ بَيِّنُ الْفَلْحَةِ، فَكَأَنَّ الْمُفْلِحَ قَدْ قَطَعَ الْمَصَاعِبَ حَتَّى نَالَ مَطْلُوبَهُ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَوْزِ وَالْبَقَاءِ، وَهُوَ أَصْلُهُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِاِمْرَأَتِهِ: اسْتَفْلِحِي بِأَمْرِكِ، مَعْنَاهُ فُوزِي بِأَمْرِكِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ كَانَ حَيٌّ مُدْرِكُ الْفَلَاحِ | أَدْرَكَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ |
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سِعَهْ | وَالْمُسْيُّ وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ |
نَحِلُّ بِلَادًا كُلَّهَا حُلَّ قَبْلَنَا | وَنَرْجُو الْفَلَاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرَ |
أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ فَقَدْ يُدْرَكُ بِالضَّ | عْفِ وَقَدْ يُخَدَّعُ الْأَرِيبُ |
لَهَا رِطْلٌ تَكِيلُ الزَّيْتَ فِيهِ | وَفَلَّاحٌ يَسُوقُ لَهَا حِمَارًا |
(٢). هو عمرو بن أحمد الباهلي، كما في اللسان مادة (فلح).
[سورة البقرة (٢): آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)
بيان حال الكافرين ومآلهم ومعنى الكفر
لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالَهُمْ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَآلَهُمْ. وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى جُحُودِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النِّسَاءِ فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: (وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) قِيلَ: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (بِكُفْرِهِنَّ)، قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الْكُفْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
أَيْ سَتَرَهَا. وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا، لِأَنَّهُ يُغَطِّي كل شي بسواده، قال الشاعر: «١»
فتذكرا ثقلا رثيدا بعد ما | أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ |
فوردت قبل انبلاج الفجر | وابن ذكاء كامن فِي كَفْرِ |
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٥٥
وَلَيْلٍ يَقُولُ النَّاسُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ | سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا |
أَنْذَرْتَ عَمْرًا وَهُوَ فِي مهل | قبل الصباح فَقَدْ عَصَى عَمْرُو |
(٢). هو أعشى قيس الملقب بالاعشى الأكبر.
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ | وَبَيْنَ النَّقَا آنْتَ أَمْ أُمُّ سَالٍمِ |
تَطَالَلْتُ فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ | فَقُلْتُ لَهُ آنْتَ زَيْدُ الْأَرَانِبِ |
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تبتكر | وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ |
[سورة البقرة (٢): آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَتَمَ اللَّهُ) بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ:" خَتَمَ اللَّهُ". وَالْخَتْمُ مَصْدَرٌ خَتَمْتُ الشَّيْءَ خَتْمًا فَهُوَ مَخْتُومٌ وَمُخَتَّمٌ، شُدِّدَ لِلْمُبَالَغَةِ، ومعناه
(٢). السواد من الناس هم الجمهور الأعظم.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٨٨.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٠٠.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٤٨.
(٥). راجع ج ١ ص ٤٦٢.
(٦). راجع ج ٧ ص ٧٨.
(٧). راجع ج ٦ ص ٤١٨ [..... ]
(٨). راجع ج ١٩ ص ٢٥٧
(٩). راجع ج ٧ ص ٨١.
(١٠). راجع ج ١٨ ص ١٢٤.
(١١) راجع ج ٦ ص ٧
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ | فَاحْذَرْ عَلَى القلب من قلب وتحويل |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٧ و٢٧١.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٧ و٢٧١.
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٥٧.
(٢). ويروي: (مربد) أي اختلط سواده بكدرة.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٨.
(٤). راجع ج ٢٠ ص ١٠٤.
(٥). راجع ج ١٧ ص ٢٣. [..... ]
(٦). راجع ج ٦ ص ٤٢٧.
(٧). راجع ج ١٠ ص ١٥١
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا | فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ |
لَا تُنْكِرِ الْقَتْلَ وَقَدْ سُبِينَا | فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا |
كَأَنَّهُ وَجْهُ تُرْكِيَّيْنِ قَدْ غَضِبَا | مُسْتَهْدَفٌ لِطِعَانٍ غَيْرُ تَذْبِيبِ |
وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ | بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سمعه كذب |
(٢). هو المسيب بن زيد مناة الغنوي، كما في كتاب سيبويه.
هَلَّا سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانِ مَا حَسْبِي | إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الْأَشْمَطَ الْبَرَمَا «١» |
صَحِبْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ | فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا |
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وَقَوْلُ الْآخَرِ «٣»:
يَا لَيْتَ زَوْجَكَ قَدْ غَدَا | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا |
(٢). هو الحارث بن خالد المخزومي، كما في اللسان مادة (غشا).
(٣). هو عبد الله بن الزبعري، كما في الكامل للمبرد ص ١٨٩ طبع أوربا.
[سورة البقرة (٢): آية ٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَاثْنَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:" وَمِنَ النَّاسِ" قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ: النَّاسُ اسْمُ جِنْسٍ، وَاسْمُ الْجِنْسِ لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ. الثَّانِيَةُ وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي لَفْظِ النَّاسِ، فَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، جَمْعُ إِنْسَانٍ وَإِنْسَانَةٍ، عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ، وَتَصْغِيرُهُ نُوَيْسٌ. فَالنَّاسُ مِنَ النَّوْسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ، يُقَالُ: نَاسَ يَنُوسُ أَيْ تَحَرَّكَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ:" أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ". وقيل: أصله من نسي، فأصل
لَا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا | سُمِّيتَ إِنْسَانًا لِأَنَّكَ نَاسِي |
فَإِنْ نَسِيتَ عُهُودًا مِنْكَ سَالِفَةً | فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ |
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِأُنْسِهِ | وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ |
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٦٠
[سورة البقرة (٢): آية ٩]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى" يُخادِعُونَ اللَّهَ" أَيْ يُخَادِعُونَهُ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى ظَنِّهِمْ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِعَمَلِهِمْ عَمَلَ الْمُخَادِعِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَجَعَلَ خِدَاعَهُمْ لِرَسُولِهِ خِدَاعًا لَهُ، لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ بِرِسَالَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَادَعُوا الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ خَادَعُوا اللَّهَ. وَمُخَادَعَتُهُمْ: مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ
أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ | طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ «١» |
«٢» ". [النساء: ١٤٢] وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ مَخْدَعُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْرَزُ فِيهِ الشَّيْءُ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: انْخَدَعَ الضَّبُّ فِي جُحْرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) نَفْيٌ وَإِيجَابٌ، أَيْ مَا تَحِلُّ عَاقِبَةُ الْخَدْعِ إِلَّا بِهِمْ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَنْ خَدَعَ مَنْ لَا يُخْدَعُ فَإِنَّمَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ. وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْخِدَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْبَوَاطِنَ، وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الْبَوَاطِنَ فَمَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْخِدَاعِ فَإِنَّمَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ إِذْ لَوْ عَرَفُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُخْدَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يَخْدَعُهُ اللَّهُ وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ يَشْعُرُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخَادِعُ اللَّهَ؟ قَالَ: (تَعْمَلُ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَتَطْلُبُ بِهِ غَيْرَهُ). وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْخِدْعِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ" [البقرة: ١٥]. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو:" يُخَادِعُونَ" فِي الْمَوْضِعَيْنِ، لِيَتَجَانَسَ اللَّفْظَانِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ:" يَخْدَعُونَ" الثَّانِي. وَالْمَصْدَرُ خِدْعٌ (بِكَسْرِ الْخَاءِ) وَخَدِيعَةٌ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ. وَقَرَأَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ:" يُخَدِّعُونَ اللَّهَ" (بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ) عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ أَبُو طَالُوتَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ شَدَّادٍ وَالْجَارُودُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ، عَلَى مَعْنَى وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ" [الأعراف: ١٥٥] أي من قومه.
(٢). راجع ج ٥ ص ٤٢٢
[سورة البقرة (٢): آية ١٠]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْمَرَضُ عِبَارَةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِلْفَسَادِ الَّذِي فِي عَقَائِدِهِمْ. وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَكًّا وَنِفَاقًا، وَإِمَّا جَحْدًا وَتَكْذِيبًا. وَالْمَعْنَى: قُلُوبُهُمْ مَرْضَى لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِصْمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: الْمَرَضُ كُلُّ مَا خَرَجَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِنْ عِلَّةٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي أَمْرٍ. وَالْقُرَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى فَتْحِ الرَّاءِ مِنْ" مَرَضٌ" إِلَّا مَا رَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ سَكَّنَ الرَّاءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) قِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: زَادَهُمُ اللَّهُ شَكًّا وَنِفَاقًا جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَعْفًا عَنْ الِانْتِصَارِ وَعَجْزًا عَنِ الْقُدْرَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا مُرْسِلَ الرِّيحِ جَنُوبًا وَصَبَا | إِذْ غَضِبَتْ زَيْدٌ فَزِدْهَا غَضَبَا |
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٩٩ [..... ]
وَنَرْفُعُ مِنْ صُدُورٍ شَمَرْدَلَاتٍ | يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ «١» |
مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وردهم على الله عز وجل وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِهِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ بِكَذِبِهِمْ وَقَوْلِهِمْ آمَنَّا وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. مَسْأَلَةٌ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِمْسَاكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِنِفَاقِهِمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ أَحَدٌ سِوَاهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بَكْرَةِ «٢» أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مُنْتَقَضٌ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذَّرِ بْنِ زِيَادٍ الْحَارِثُ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، لِأَنَّ الْمُجَذَّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثٍ «٣»، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَتَلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً «٤»، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ فَلَيْسَ بِمُنْتَقَضٍ بِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ بِوَحْيٍ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا أَوْ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(٢). قوله: (على بكرة أبيهم) هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفير العدد.
(٣). بعاث: موضع في نواحي المدينة، كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج.
(٤). راجع هذه القصة في سيرة ابن هشام ص ٣٥٦، ٥٧٩ (طبع أوربا.
(٢). كذا في الأصول وكاتب الأحكام لابن العربي. ولعل صواب العبارة: (إن استتابة الزنديق واجبة).
(٣). راجع ج ١٤ ص ٢٤٥.
(٤). سيذكر الامام القرطبي قصته عند تفسير سورة (المنافقون).
(٥). كان متهما بالنفاق، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا) الآية. وستأتي قصته عند تفسير هذه الآية فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقد أوردها ابن هشام في سيرته ص ٣٥٥ طبع أوربا، وابن عبد البر في الاستيعاب ج ١ ص ٩٧ طبع الهند.
[سورة البقرة (٢): آية ١١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)
(إِذَا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهَا" قالُوا"، وَهِيَ تُؤْذِنُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُنْتَظَرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:" إِذا" اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ إلا مضافة إلى
إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا | خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبِ «٢» |
فَقَامَ أَبُو لَيْلَى إِلَيْهِ ابْنُ ظَالِمٍ | وَكَانَ إِذَا مَا يَسْلُلِ السَّيْفَ يَضْرِبِ |
وَإِذَا مَا تَشَاءُ تَبْعَثُ مِنْهَا | مَغْرِبَ الشَّمْسِ نَاشِطًا مَذْعُورَا «٣» |
(٢). يقول: إذا قصرت أسيافنا في اللقاء عن الوصول إلى الاقران وصلناها بخطانا مقدمين عليهم حتى تنالهم.
(٣). وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كله، فشبهها في انبعاثها مسرعة بناشط قد ذعر من صائد أو سبع. والناشط: الثور يخرج من بلد إلى بلد، فذلك أوحش له وأذعر.
وَلَمْ يُقَلِّبْ أَرْضَهَا البيطار | ولا لحبليه بها حبار |
(٢). رويس (كزبير) محمد بن المتوكل القارئ، راوي يعقوب ابن إسحاق.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٢٦
إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مِنْ سَنَابِكِهَا | أَوْ كَانَ صَاحِبَ أَرْضٍ أَوْ بِهِ الْمُومُ «١» |
(٢). راجع ج ١٦ ص ٨٣
وَصَلَاحٌ مِنْ أَسْمَاءِ مَكَّةَ. وَالصِّلْحُ (بِكَسْرِ الصَّادِ): نَهَرٌ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِمْ، لِأَنَّ إِفْسَادَهُمْ عِنْدَهُمْ إِصْلَاحٌ، أَيْ أَنَّ مُمَالَأَتَنَا لِلْكُفَّارِ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
[سورة البقرة (٢): آية ١٢]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢)
قوله عز وجل: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لِقَوْلِهِمْ. قَالَ أَرْبَابُ الْمَعَانِيَ: مَنْ أَظْهَرَ الدَّعْوَى كَذَبَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ" وَهَذَا صَحِيحٌ. وكسرت" إن" لأنها مبتدأة، قال النَّحَّاسُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ. يَجُوزُ فَتْحُهَا «١»، كَمَا أَجَازَ سِيبَوَيْهِ: حَقًّا أَنَّكَ مُنْطَلِقٌ، بِمَعْنَى أَلَا. وَ" هُمْ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَ" الْمُفْسِدُونَ" خَبَرُهُ وَالْمُبْتَدَأُ وَخَبَرُهُ خَبَرُ" إِنَّ". وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" هُمْ" تَوْكِيدًا لِلْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي" إِنَّهُمْ". وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ عِمَادًا وَ" الْمُفْسِدُونَ" خَبَرُ" إِنَّ"، وَالتَّقْدِيرْ أَلَا إِنَّهُمُ الْمُفْسِدُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:" وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [لقمان: ٥]. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ يُقَالُ: مَا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُفْسِدٌ مِنَ الذَّمِّ، إِنَّمَا يُذَمُّ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُفْسِدٌ ثُمَّ أَفْسَدَ عَلَى عِلْمٍ، قَالَ: فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْفَسَادَ سِرًّا وَيُظْهِرُونَ الصَّلَاحَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ يَظْهَرُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ فَسَادُهُمْ عِنْدَهُمْ صَلَاحًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ فَسَادٌ، وَقَدْ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي تَرْكِهِمْ تَبْيِينَ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ." وَلكِنْ" حَرْفُ تَأْكِيدٍ وَاسْتِدْرَاكٍ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، إِنْ كَانَ قَبْلَهُ نَفْيٌ كَانَ بَعْدَهُ إِيجَابٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ إِيجَابٌ كَانَ بَعْدَهُ نَفْيٌ. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بَعْدَهُ عَلَى اسْمٍ وَاحِدٍ إِذَا تقدم الإيجاب، ولكنك تذكر جملة
[سورة البقرة (٢): آية ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ" يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِ مُقَاتِلٍ وَغَيْرِهِ." آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ" أَيْ صَدِّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرْعِهِ، كَمَا صَدَّقَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ «١» مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ. وَأَلِفُ" آمِنُوا" أَلِفُ قَطْعٍ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: يُؤْمِنُ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِيمَانًا كَإِيمَانِ النَّاسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي خَفَاءٍ وَاسْتِهْزَاءٍ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَرَّرَ أَنَّ السَّفَهَ وَرِقَّةَ الْحُلُومِ وَفَسَادَ الْبَصَائِرِ إِنَّمَا هِيَ فِي حَيِّزِهِمْ وَصِفَةٌ لَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ لِلرَّيْنِ الَّذِي عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ، أَيْ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ يَعْنِي الْيَهُودَ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ، قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ يَعْنِي الْجُهَّالَ وَالْخُرَقَاءَ. وَأَصْلُ السَّفَهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخِفَّةُ وَالرِّقَّةُ، يُقَالُ: ثَوْبٌ سفيه إذا كان ردئ النَّسْجِ خَفِيفَهُ، أَوْ كَانَ بَالِيًا رَقِيقًا. وَتَسَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ: مَالَتْ بِهِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ | أَعَالِيَهَا مَرُّ الرياح النواسم «٢» |
(٢). وصف نساء فيقول: إذا مشين اهتززن في مشيهن وتثنين فكأنهن رماح نصبت فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت. والنواسم: الخفيفة الهبوب.
[سورة البقرة (٢): آية ١٤]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)
قوله تعالى: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ. أَصْلُ لَقُوا: لَقِيُوا، نُقِلَتِ الضَّمَّةُ إِلَى الْقَافِ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ الْيَمَانِيُّ:" لَاقَوُا الَّذِينَ آمَنُوا". وَالْأَصْلُ لَاقَيُوا، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَقَبْلَهَا فَتْحَةٌ انْقَلَبَتْ أَلِفًا، اجْتَمَعَ سَاكِنَانِ الْأَلِفُ وَالْوَاوُ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ثم حركت الواو بالضم. وإن فيل: لِمَ ضُمَّتِ الْوَاوُ فِي لَاقَوُا فِي الْإِدْرَاجِ وَحُذِفَتْ مِنْ لَقُوا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ قَبْلَ الْوَاوِ الَّتِي فِي لَقُوا ضَمَّةً فَلَوْ حُرِّكَتِ الْوَاوُ بِالضَّمِّ لَثَقُلَ عَلَى اللِّسَانِ النُّطْقُ بِهَا فَحُذِفَتْ لِثِقَلِهَا، وَحُرِّكَتْ فِي لَاقَوُا لِأَنَّ قَبْلَهَا فَتْحَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) إِنْ قِيلَ: لِمَ وُصِلَتْ" خَلَوْا" بِ" إِلَى" وَعُرْفُهَا أَنْ تُوصَلَ بِالْبَاءِ؟ قِيلَ لَهُ:" خَلَوْا" هُنَا بِمَعْنَى ذَهَبُوا وَانْصَرَفُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
كَيْفَ تَرَانِي قَالِبًا مِجَنِّي | [أَضْرِبُ أَمْرِي ظَهْرَهُ لِبَطْنِ] «٢» |
(٢). الزيادة عن كتاب النقائض. وزياد، هو زياد بن أبيه. والمجن: الترس.
قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ | قَالَتْ أَرَاهُ مُعْدَمًا لَا مَالَ لَهْ |
قَدِ اسْتَهْزَءُوا مِنْهُمْ بألفي مدجج | سراتهم وسط الصحاصح جثم «٣» |
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أَيْ يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ وَيُعَاقِبُهُمْ، وَيَسْخَرُ بِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، فَسَمَّى الْعُقُوبَةَ بِاسْمِ الذَّنْبِ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا |
(٢). هو صخر الغي الهلالي. والبيت كما ذكره القالي في أماليه (ج ٢ ص ٢٨٤) طبع دار الكتب المصرية:
تهزأ مني أخت آل طيسله | قالت أراه مبلطا لا شي له |
" [النساء: ١٤٢]." فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ" [التوبة: ٧٩]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَلَا يَسْأَمُ حَتَّى تَسْأَمُوا). قِيلَ: حَتَّى بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ وَتَمَلُّوا. وَقِيلَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَمَلُّونَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْطَعُ عَنْكُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ حَتَّى تَقْطَعُوا الْعَمَلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِمْ أَفْعَالًا هِيَ فِي تَأَمُّلِ الْبَشَرِ هُزْءٌ وَخَدْعٌ وَمَكْرٌ، حَسْبَ مَا رُوِيَ: (إِنَّ النَّارَ تَجْمُدُ كَمَا تَجْمُدُ الْإِهَالَةُ «١» فَيَمْشُونَ عَلَيْهَا وَيَظُنُّونَهَا مَنْجَاةً فَتُخْسَفُ بِهِمْ). وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا" هُمْ مُنَافِقُو أَهْلِ الْكِتَابِ، فَذَكَرَهُمْ وَذَكَرَ اسْتِهْزَاءَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يَعْنِي رُؤَسَاءَهُمْ فِي الْكُفْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَالُوا: إِنَّا معكم على دينكم" إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ" بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ" فِي الْآخِرَةِ، يُفْتَحُ لَهُمْ بَابُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: تَعَالَوْا، فَيُقْبِلُونَ يَسْبَحُونَ فِي النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ سُدَّ عَنْهُمْ، فَيَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ" أَيْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ حِينَ غُلِّقَتْ دُونَهُمُ الْأَبْوَابُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ «٢». عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ" [المطففين: ٣٥ ٣٤] إِلَى أَهْلِ النَّارِ" هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ" [المطففين: ٣٦]. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخِدَاعُ مِنَ اللَّهِ وَالِاسْتِهْزَاءُ هُوَ اسْتِدْرَاجُهُمْ بِدُرُورِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِمْ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُظْهِرُ لَهُمْ مِنَ الْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا يَغِيبُ عَنْهُمْ، وَيَسْتُرُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ رَاضٍ عَنْهُمْ، وَهُوَ تعالى
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٦٦ [..... ]
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٢٩.
(٣). راجع ج ٤ ص ٢٨٧.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢١٧.
(٥). راجع ج ١٧ ص ٦٨.
(٦). الزيادة عن اللسان مادة (مد).
(٧). راجع ج ١٤ ص ٧٦.
(٨). راجع ج ٤ ص ١٩٠.
(٩). راجع ج ١٨ ص ٢٦٣.
(١٠). راجع ج ١٩ ص ١٩٩
[سورة البقرة (٢): آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) قَالَ سِيبَوَيْهِ: ضُمَّتِ الْوَاوُ فِي" اشْتَرَوُا" فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَاوِ الْأَصْلِيَّةِ، نَحْوَ:" وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ". [الجن: ١٦]. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الضَّمَّةُ فِي الْوَاوِ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حُرِّكَتْ بِالضَّمِّ كَمَا فُعِلَ فِي" نَحْنُ". وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ «٢» بِكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ قَعْنَبٍ أَبِي السِّمَالِ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ وَإِنْ كَانَ «٣» مَا قَبْلَهَا مَفْتُوحًا. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ هَمْزَ الْوَاوِ وَضَمَّهَا كَأَدْؤُرٍ. وَاشْتَرَوْا: مِنَ الشِّرَاءِ. وَالشِّرَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ. وَالْمَعْنَى اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، كما قال:" فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى " [فصلت: ١٧] فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالشِّرَاءِ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُحِبُّهُ مُشْتَرِيهِ. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى شِرَاءِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَيَبِيعُونَ إِيمَانَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى. وَمَعْنَاهُ اسْتَبْدَلُوا وَاخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ تَوَسُّعًا، لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ رَاجِعَانِ إِلَى الِاسْتِبْدَالِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنِ اسْتَبْدَلَ شَيْئًا بِشَيْءٍ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فِيكُمْ | فَإِنِّي شَرَيْتُ «٤» الْحِلْمَ بَعْدَكِ بِالْجَهْلِ |
(٢). قال صاحب تهذيب التهذيب: (في التقريب بفتح التحتانية والميم وبينهما مهملة ساكنة. وفي المغني بفتح الميم وضمها).
(٣). في بعض الأصول: (وإن ما قبلها مفتوحا) وفي البعض الآخر: (وإن كان قبلها مفتوحا).
(٤). ويروي: (اشتريت) كما في ديوان أبي ذؤيب. ويقول: إن كنت تزعمين أنى كنت أجهل في هواى لكم وصبوني إليكم فقد شريت بذلك الجهل والصبا حلما وعقلا، ورجعت عما كنت عليه. (عن شرح الشواهد). [..... ]
نَهَارُكَ هَائِمٌ وَلَيْلُكَ نَائِمُ | كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ |
[سورة البقرة (٢): آية ١٧]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) فمثلهم رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ فِي الْكَافِ، فَهِيَ اسْمٌ، كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ | كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفُتُلُ «٤» |
وَرُحْنَا بِكَابِنِ الْمَاءِ يُجْنَبُ وَسَطُنَا | تُصَوَّبُ فِيهِ الْعَيْنُ طَوْرًا وَتَرْتَقِي «٥» |
(٢). راجع ج ١٤ ص ٩١.
(٣). راجع ص ١٦٠ من هذا الجزء.
(٤). المعنى: لا ينهى أصحاب الجور مثل طعن جائف، أي نافذ إلى الجوف، يغيب فيه الزيت والفتل. (عن خزانة الأدب).
(٥). يقول رجعنا بفرس كأنه ابن ماء (طير ماء) خفة وحسنا وطول عنق. وهو يجنب: أي يقاد فلا يركب.
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفِلْجٍ دِمَاؤُهُمْ | هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ «١» |
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى | فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٥٦.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٠١.
(٤). هو كعب بن سعد الغنوي ير؟ ى أخاه أبا المغوار (عن اللسان).
(٥). راجع ج ١٧ ص ٢٤٦
أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ | دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزَعَ ثَاقِبُهُ «٣» |
[سورة البقرة (٢): آية ١٨]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٤٥.
(٣). الجزع (بفتح الجيم وكسرها): ضرب من الخرز. وقيل: هو الخرز اليماني، وهو الذي فيه بياض وسواد، فشبه به الأعين.
سَقَوْنِي الْخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي | عُدَاةَ اللَّهِ مِنْ كَذِبٍ وَزُورٍ |
فَلَيْتَ لِسَانِي كَانَ نِصْفَيْنِ مِنْهُمَا | بَكِيمٌ وَنِصْفٌ عِنْدَ مَجْرَى الْكَوَاكِبِ |
أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَعَوْرَاءِ الْكَلَامِ صَمَمْتُ عَنْهَا | وَلَوْ أَنِّي أَشَاءُ بِهَا سَمِيعُ |
أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ | حَتَّى يُوَارِيَ جارتي الجدر |
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٢٣٩.
(٣). هو عروة بن الورد. وصف ما كان من فعل قوم امرأته حين احتالوا عليه وسقوه الخمر حتى أجابهم إلى مفاداتها وكانت سبية عنده (عن شرح الشواهد).
(٤). راجع ج ١٣ ص ٣٠٤
ادْخُلْ إِذَا مَا دَخَلْتَ أَعْمَى | وَاخْرُجْ إِذَا مَا خَرَجْتَ أَخْرَسَ |
[سورة البقرة (٢): آية ١٩]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) قَالَ الطَّبَرِيُّ:" أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَأَنْشَدَ:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ | لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا «٣» |
نَالَ الْخِلَافَةَ «٥» أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا | كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ |
فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ | سَقَتْكِ رَوَايَا الْمُزْنِ حَيْثُ تصوب «٦» |
(٢). راجع ج ١٤ ص ٣٠٢.
(٣). البيت من قصيدة لتوبة الخفاجي قالها في ليلى الأخيلية.
(٤). هو جرير بن عطية يمدح عمر بن عبد العزيز.
(٥). في ديوانه المخطوط: (إذ) بدل (أو).
(٦). المغمر والغمر: الجاهل الذي لم يجرب الأمور، كأن الجهل غمره واستولى عليه. وروايا المزن: التي. تروى بكثرة مائها.
تَلُفُّهُ الرِّيَاحُ وَالسُّمِيُّ «٢»
وَالسَّمَاءُ: كُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِسَقْفِ الْبَيْتِ: سَمَاءٌ. وَالسَّمَاءُ: الْمَطَرُ، سُمِّيَ بِهِ لِنُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ... تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ والسماء
وقال آخر: «٣»
إِذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا
وَيُسَمَّى الطِّينُ وَالْكَلَأُ أَيْضًا سَمَاءً، يُقَالُ: مَا زِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ. يُرِيدُونَ الْكَلَأَ وَالطِّينَ. وَيُقَالُ لِظَهْرِ الْفَرَسِ أَيْضًا سماء لعلوه، قال: «٤»
وَأَحْمَرُ كَالدِّيبَاجِ أَمَّا سَمَاؤُهُ... فَرَيَّا وَأَمَّا أَرْضُهُ فَمُحُولُ
وَالسَّمَاءُ: مَا عَلَا. وَالْأَرْضُ: مَا سَفَلَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فِيهِ ظُلُماتٌ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ" وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: ظُلُمَاتٌ بِالْجَمْعِ إِشَارَةً إِلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ الدُّجْنِ، وَهُوَ الْغَيْمُ، وَمِنْ حَيْثُ تَتَرَاكَبُ وَتَتَزَايَدُ جُمِعَتْ. وَقَدْ مَضَى مَا فِيهِ مِنَ اللُّغَاتِ «٥» فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَا تَقَدَّمَ إن شاء الله تعالى.
(٢). السمي: يريد الأمطار.
(٣). هو معاوية بن مالك.
(٤). القائل هو طفيل الغنوي، كما في اللسان مادة (سما)
(٥). راجع ص ٢١٣ من هذا الجزء. [..... ]
فَجَّعَنِي الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ بِالْ | فَارِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ |
يَا جُلَّ مَا بَعُدَتْ عَلَيْكَ بِلَادُنَا | وطلابنا فأبرق بأرضك وأرعد |
أَبْرِقْ وَأَرْعِدْ يَا يَزِي | دُ فَمَا وَعِيدُكَ لِي بِضَائِرْ |
فَائِدَةٌ:
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي سَفْرَةٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَمَعَنَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ، قَالَ: فَأَصَابَتْنَا رِيحٌ وَأَصَابَنَا رَعْدٌ وَمَطَرٌ شَدِيدٌ وَبَرْدٌ، وَفَرِقَ النَّاسُ. قَالَ فَقَالَ لِي كَعْبٌ: إِنَّهُ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، عُوفِيَ مِمَّا يَكُونُ فِي ذَلِكَ السَّحَابِ وَالْبَرْدِ وَالصَّوَاعِقِ. قَالَ: فَقُلْتُهَا أَنَا وَكَعْبٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا وَاجْتَمَعَ النَّاسُ قُلْتُ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّا كُنَّا فِي غَيْرِ مَا كَانَ فِيهِ النَّاسُ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَ كَعْبٍ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَفَلَا قُلْتُمْ لَنَا فَنَقُولُ كَمَا قُلْتُمْ! فِي رِوَايَةٍ فَإِذَا «١» بَرَدَةٌ قَدْ أَصَابَتْ أَنْفَ عُمَرَ فَأَثَّرَتْ بِهِ. وَسَتَأْتِي هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي سُورَةِ" الرَّعْدِ" «٢» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ فِي رِوَايَاتِ الصَّحَابَةِ عَنِ التَّابِعِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: (اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) جَعْلُهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ وَالْكُفْرُ مَوْتٌ. وَفِي وَاحِدِ الْأَصَابِعِ خَمْسُ لُغَاتٍ: إِصْبَعٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَأَصْبِعٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، وَيُقَالُ بِفَتْحِهِمَا جَمِيعًا، وَضَمِّهِمَا جَمِيعًا، وَبِكَسْرِهِمَا جَمِيعًا، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ. وَكَذَلِكَ الْأُذُنُ وَتُخَفَّفُ وَتُثَقَّلُ وَتُصَغَّرُ، فَيُقَالُ: أُذَيْنَةٌ. وَلَوْ سَمَّيْتَ بِهَا رَجُلًا ثُمَّ صَغَّرْتَهُ قُلْتَ: أُذَيْنٌ، فَلَمْ تُؤَنَّثْ لِزَوَالِ التَّأْنِيثِ عَنْهُ بِالنَّقْلِ إِلَى الْمُذَكَّرِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أُذَيْنَةٌ فِي الِاسْمِ الْعَلَمِ فَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ مُصَغَّرًا، وَالْجَمْعُ آذَانٌ. وَتَقُولُ: أَذَنْتُهُ إِذَا ضَرَبْتُ أُذُنَهُ. وَرَجُلٌ أُذُنٌ: إِذَا كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ كُلِّ أحد، يستوي فيه الواحد
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٩٥
يَحْكُونَ بِالْمَصْقُولَةِ الْقَوَاطِعِ | تَشَقُّقَ الْبَرْقِ عَنِ الصَّوَاقِعِ |
تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ | أُحَادَ وَمَثْنَى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهُ «٣» |
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٧٩
(٣). النعرة (مثال الهمزة): ذباب ضخم أزرق العين أخضر، له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحافر خاصة. واللبان: الصدر، وقيل: وسطه، وقيل: ما بين الثديين، ويكون للإنسان وغيره. وأصعقتها صواهله: أي قتلها صهيله.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٧٩.
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الْكَرِيمِ ادِّخَارَهُ | وَأَعْرِضْ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا «١» |
بُنَيَّتِي سَيِّدَةَ الْبَنَاتِ | عِيشِي وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي |
فعروة مات موتا مستريحا | فها أنا ذا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ |
الْمُسْتَمِيتُ أَيْضًا: الْمُسْتَقْتِلُ الَّذِي لَا يُبَالِي فِي الْحَرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: (أَرَى الْقَوْمَ مُسْتَمِيتِينَ) وَهُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْمَوْتِ. وَالْمُوتَةُ (بِالضَّمِّ): جِنْسٌ مِنَ الْجُنُونِ وَالصَّرَعِ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ، فَإِذَا أَفَاقَ عَادَ إِلَيْهِ كَمَالُ عَقْلِهِ كَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ. وَمُؤْتَةُ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَهَمْزِ الْوَاوِ): اسْمُ أَرْضٍ «٢» قُتِلَ بِهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ لَا يَفُوتُونَهُ. يُقَالُ: أَحَاطَ السُّلْطَانُ بِفُلَانٍ إِذَا أَخَذَهُ أَخْذًا حَاصِرًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَحَطْنَا بِهِمْ حَتَّى إِذَا مَا تَيَقَّنُوا... بِمَا قَدْ رَأَوْا مالوا جميعا إلى السلم
ومنه قول تعالى:" وَأُحِيطَ «٣» بِثَمَرِهِ" [الكهف: ٤٢]. وَأَصْلُهُ مُحْيِطٌ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ إِلَى الْحَاءِ فَسُكِّنَتْ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، أَيْ هِيَ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، كَمَا قَالَ:" وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «٤» " [الزمر: ٦٧]. وَقِيلَ:" مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ" أَيْ عَالِمٌ بِهِمْ. دَلِيلُهُ:" وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «٥» " [الطلاق: ١٢]. وَقِيلَ: مُهْلِكُهُمْ وَجَامِعُهُمْ. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «٦» " [يوسف: ٦٦] أَيْ إِلَّا أَنْ تَهْلَكُوا جَمِيعًا. وَخَصَّ الْكَافِرِينَ بِالذِّكْرِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ فِي الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
وزبد البحر له كتيت... تراه والحوت له نئيت
كلاهما مغتمس مغتوت... وكلكل الماء له مبيت
والليل فوق الماء مستميت... يدفع عنه جوفه المسحوت
الكتيت: الهدير. والنئيت والزحير والطحير والانيت كله الزحير (إخراج الصوت أو النفس عند عمل بانين أو شدة). المغتوت: المغموم. والمسحوت: الذي لا يشبع.
(٢). وقيل إنها قرية من قرى البلقاء في حدود الشام. وقيل: إنها بمشارف الشام وعلى اثنى عشر ميلا من أذرح. راجع تاج العروس مادة (مات).
(٣). راجع ج ١٠ ص ٤٠٩.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٧٧.
(٥). راجع ج ١٨ ص ١٧٦.
(٦). راجع ج ٩ ص ٢٢٥ [..... ]
قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا «١»
مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْحِ وَهُوَ الدَّرْسُ. وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ" أَنْ"، لِأَنَّهَا لِمُقَارَبَةِ الْحَالِ، وَ" أَنْ" تَصْرِفُ الْكَلَامَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَهَذَا مُتَنَافٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" يَكادُ سَنا بَرْقِهِ «٢» يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ" [النور: ٤٣]. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: كَادَ النَّعَامُ يَطِيرُ، وَكَادَ الْعَرُوسُ يَكُونُ أَمِيرًا، لِقُرْبِهِمَا مِنْ تِلْكَ الْحَالِ. وَكَادَ فِعْلٌ مُتَصَرِّفٌ عَلَى فَعِلَ يَفْعَلُ. وَقَدْ جاء خبره بالاسم وهو قليل، قال:" وما كدت «٣» آئبا". وَيَجْرِي مَجْرَى كَادَ كَرَبَ وَجَعَلَ وَقَارَبَ وَطَفِقَ، فِي كَوْنِ خَبَرِهَا بِغَيْرِ" أَنْ"، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَطَفِقا «٤» يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ" [الأعراف: ٢٢] لِأَنَّهَا كُلَّهَا بِمَعْنَى الْحَالِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَالْحَالُ لَا يَكُونُ مَعَهَا" أَنْ"، فَاعْلَمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ" الْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّيْرُ خَطَّافًا لِسُرْعَتِهِ. فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ مَثَلًا لِلتَّخْوِيفِ فَالْمَعْنَى أَنَّ خَوْفَهُمْ مِمَّا يَنْزِلُ بِهِمْ يَكَادُ يُذْهِبُ أَبْصَارَهُمْ. وَمَنْ جَعَلَهُ مَثَلًا لِلْبَيَانِ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيَانِ مَا بَهَرَهُمْ. وَيَخْطَفُ وَيَخْطِفُ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا. وَقَدْ خَطِفَهُ (بِالْكَسْرِ) يَخْطَفُهُ خَطْفًا، وَهِيَ اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ، وَاللُّغَةُ الْأُخْرَى حَكَاهَا الْأَخْفَشُ: خَطَفَ يَخْطِفُ. الْجَوْهَرِيُّ: وَهِيَ قَلِيلَةٌ رَدِيئَةٌ لَا تَكَادُ تُعْرَفُ. وَقَدْ قَرَأَ بِهَا يُونُسُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى" يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ" وَقَالَ النَّحَّاسُ: فِي" يَخْطَفُ" سَبْعَةُ أَوْجُهٍ، الْقِرَاءَةُ الْفَصِيحَةُ: يَخْطَفُ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: يَخْطِفُ بِكَسْرِ الطَّاءِ، قَالَ سَعِيدٌ الْأَخْفَشُ: هِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْخَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِإِسْكَانِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: يَجُوزُ" يِخِطِفُ" بِكَسْرِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَالطَّاءِ. فَهَذِهِ ستة أوجه موافقة للخط.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢٩٠.
(٣). قائله تأبط شرا. والبيت بتمامه:
فَأُبْتُ إِلَى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آئِبًا | وَكَمْ مثلها فارقتها وهي تصفر |
(٢). ج ١٢ ص ١٧.
[سورة البقرة (٢): آية ٢١]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) قَالَ عَلْقَمَةُ وَمُجَاهِدٌ: كُلُّ آيَةٍ أَوَّلُهَا" يَا أَيُّهَا النَّاسُ" فَإِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَكُلِّ آيَةٍ أَوَّلُهَا" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فَإِنَّمَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا يَرُدُّهُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَالنِّسَاءَ مَدَنِيَّتَانِ وَفِيهِمَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ. وَأَمَّا قولهما في" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" [النساء: ١٩] فَصَحِيحٌ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا كَانَ مِنْ حَدٍّ أَوْ فَرِيضَةٍ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ وَالْعَذَابِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَهَذَا وَاضِحٌ. وَ" يَا" فِي قَوْلِهِ:" يَا أَيُّهَا" حَرْفُ نِدَاءٍ" أَيُّ" مُنَادَى مُفْرَدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، لِأَنَّهُ مُنَادًى فِي اللَّفْظِ، وَ" هَا" لِلتَّنْبِيهِ." النَّاسُ" مَرْفُوعٌ صِفَةٌ لِأَيٍّ عِنْدَ جَمَاعَةِ النَّحْوِيِّينَ، مَا عَدَا الْمَازِنِيَّ فَإِنَّهُ أَجَازَ النَّصْبَ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِهِ فِي: يَا هَذَا الرَّجُلَ. وَقِيلَ: ضُمَّتْ" أَيٌّ" كَمَا ضُمَّ الْمَقْصُودُ الْمُفْرَدُ، وَجَاءُوا بِ" هَا" عِوَضًا عَنْ يَاءٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْتُوا بِيَاءٍ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ الْكَلَامُ فَجَاءُوا بِ" هَا" حَتَّى يَبْقَى الْكَلَامُ مُتَّصِلًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: كَأَنَّكَ كَرَّرْتَ" يَا" مَرَّتَيْنِ وَصَارَ الِاسْمُ بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالُوا: هَا هُوَ ذَا. وَقِيلَ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمُ الْجَمْعُ بَيْنَ حَرْفَيْ تَعْرِيفٍ أَتَوْا فِي الصُّورَةِ بِمُنَادًى مُجَرَّدٍ عَنْ حَرْفِ تَعْرِيفٍ، وَأَجْرَوْا عَلَيْهِ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ الْمَقْصُودَ بِالنِّدَاءِ، وَالْتَزَمُوا رَفْعَهُ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ، فَجَعَلُوا إِعْرَابَهُ بِالْحَرَكَةِ الَّتِي كَانَ يَسْتَحِقُّهَا لَوْ بَاشَرَهَا النِّدَاءُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ الْمُنَادَى، فَاعْلَمْهُ. وَاخْتُلِفَ مِنَ الْمُرَادِ بِالنَّاسِ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدِهِمَا: الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ" [البقرة: ٢٣]. الثَّانِي أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، فَيَكُونُ خِطَابُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِدَامَةِ الْعِبَادَةِ، وَلِلْكَافِرِينَ بِابْتِدَائِهَا. وَهَذَا حَسَنٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" اعْبُدُوا" أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ لَهُ. وَالْعِبَادَةُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَالْتِزَامِ شَرَائِعِ دِينِهِ. وَأَصْلُ الْعِبَادَةِ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدَةٌ إِذَا كَانَتْ مَوْطُوءَةً بِالْأَقْدَامِ.
وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدٍ «١»
وَالْعِبَادَةُ: الطَّاعَةُ. وَالتَّعَبُّدُ: التَّنَسُّكُ. وَعَبَّدْتُ فُلَانًا: اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَكُمْ) خَصَّ تَعَالَى خَلْقَهُ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ صِفَاتِهِ إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ مُقِرَّةً بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ. وَقِيلَ: لِيُذَكِّرَهُمْ بِذَلِكَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي أَصْلِ الْخَلْقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: خَلَقْتُ الْأَدِيمَ لِلسِّقَاءِ إِذَا قَدَّرْتُهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، قَالَ الشَّاعِرُ: «٢»
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ | ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي |
... ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ... ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
... ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" فيه ثلاث تأويلات.
تبارى عناقا ناجيات أتبعت
تبارى: تعارض، يقال: هما يتباريان في السير، إذا فعل هذا شيئا فعل هذا مثله. والعتاق: الكرام من الإبل البيض. والناجيات: السراع. والوظيف: عظم الساق. وقوله: أتبعت وظيفا وظيفا، أي اتبعت هذه الناقة وظيف رجلها وظيف يدها، ويستحب من الناقة أن تجعل رجلها في موضع يدها إذا سارت. والمسور: الطريق (عن شرح المعلقات).
(٢). هو زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان. يقول: أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته. وغيرك يقدر ما لا يقطعه، لأنه ليس بماضي العزم وأنت مضاء على ما عزمت عليه. (عن اللسان).
(٣). راجع ج ١٣ ص ٣٣٥
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا | نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوَثَّقِ |
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ | كَلَمْعِ سَرَابٍ فِي الْمَلَا مُتَأَلِّقِ |
وَلَقَدْ كَرَرْتُ الْمُهْرَ يَدْمَى نَحْرُهُ | حَتَّى اتَّقَتْنِي الخيل بابني حذيم |
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
وَقَدْ جَعَلْتُ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ | لِضَغْمِهِمَا هَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا |
وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةً | وَالْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَرُ |
نَاطَ أَمْرَ الضِّعَافِ وَاجْتَعَلَ اللَّيْ | لَ كَحَبْلِ الْعَادِيَّةِ الْمَمْدُودِ" فِرَاشًا" |
(٢). راجع ج ١٦ ص ٦١ و٦٩ و٧١.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٦١ و٦٩ و٧١. [..... ]
(٤). راجع ج ١٦ ص ٦١ و٦٩ و٧١.
(٥). هو مغلس بن لقيط الأسدي. وصف شدة أصابه بها رجلان من قومه، فيقول: قد جعلت نفسي تطيب لاصابتهما بمثل الشدة التي أصاباني بها. وضرب الضغمة مثلا ثم وصف الضغمة فقال: يقرع العظم نابها. فجعل لها نابا على السعة. والمعنى: يصل الناب فيها إلى العظم فيقرعه. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(٦). هو أبو زبيد الطائي يرثى اللجلاج ابن أخته. يقول: جعل يسير الليل كله مستقيما كاستقامة حبل البئر إلى الماء. ناط: علق. والعادية: البئر القديمة. (عن اللسان).
(٧). راجع ج ١٩ ص ١٦٩.
(٨). راجع ج ٢ ص ١٩٤.
(٢). راجع ص ٢١٦ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ٧ ص ٤٩.
(٤). راجع ج ١٩ ص ٢١٨.
(٥). راجع ص ١٧٧ و١٧٨ من هذا الجزء.
نَحْمَدُ اللَّهَ وَلَا نِدَّ لَهُ | عِنْدَهُ الْخَيْرُ وَمَا شَاءَ فَعَلْ |
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ | فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ |
(٢). راجع ج ٢ ص ٣٠٨
ليكلا يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتِي | وَأَجْعَلَ أَقْوَامًا عُمُومًا عَمَاعِمَا «١» |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أَيْ فِي شَكٍّ. (مِمَّا نَزَّلْنا) يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ تَحَدَّوْا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَالُوا: ما يشبه هذا كلام الله،
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣١١. [..... ]
إِلَى أَنْ تَحَامَتْنِي الْعَشِيرَةُ كُلُّهَا | وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ الْبَعِيرِ الْمُعَبَّدِ |
يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ | يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي |
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا | فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي |
(٢). راجع ص ٧٨ ٦٩ من هذا الجزء.
إِذَا مَا عَلَا الْمَرْءُ رَامَ الْعُلَاءَ | وَيَقْنَعُ بِالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) يَعْنِي فِيمَا مَضَى (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أَيْ تُطِيقُوا ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي. وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى" صادِقِينَ" تَامٌّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى الْآيَةِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ تَفْعَلُوا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ. فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عَلَى" صادِقِينَ".
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٩٧
فَلَنْ «١» أُعَرِّضْ أَبْيَتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حِينَ ذُهِبَ بِهِ إِلَى النَّارِ فِي مَنَامِهِ: فَقِيلَ لِي" لَنْ تُرَعْ". هَذَا عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ. وَفِي قَوْلِهِ:" وَلَنْ تَفْعَلُوا" إِثَارَةٌ لِهِمَمِهِمْ، وَتَحْرِيكٌ لِنُفُوسِهِمْ، لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْدَعَ، وَهَذَا مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الْقُرْآنُ قَبْلَ وُقُوعِهَا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:" وَلَنْ تَفْعَلُوا" تَوْقِيفًا لَهُمْ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا صَادِقِينَ فِيمَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَأَنَّهُ مُفْتَرًى وَأَنَّهُ سِحْرٌ وَأَنَّهُ شِعْرٌ، وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ وَلَا يَأْتُونَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وَقَوْلُهُ: (فَاتَّقُوا النَّارَ) جَوَابُ" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا" أَيِ اتَّقُوا النَّارَ بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّقْوَى «٢» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا. وَيُقَالُ: إِنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ" فَتَقُوا النَّارَ". وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: تَقَى يَتْقِي، مِثْلَ قَضَى يَقْضِي." النَّارَ" مَفْعُولَةٌ." الَّتِي" مِنْ نَعْتِهَا. وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ: التي والت (بكسر التاء) والت (بِإِسْكَانِهَا). وَهِيَ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِلْمُؤَنَّثِ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يَجُوزُ نَزْعُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْهَا لِلتَّنْكِيرِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِصِلَةٍ. وَفِي تَثْنِيَتِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ أَيْضًا: اللَّتَانِ وَاللَّتَا (بِحَذْفِ النُّونِ) وَاللَّتَانِّ (بتشديد النون). وفي جمعها خمس لغات:
هذا الثناء فإن تسمع به حسنا
وقوله: أبيت اللعن. تحية كانوا يحيون بها الملوك. والصفد: العطاء، معناه: أبيت أن تأتي من الأمور ما تلعن عليه وتذم. يقول: هذا الثناء الصحيح الصادق فمن الحق أن تقبله مني، فلم أمدحك متعرضا لعطائك، لكن امتدحتك إقرارا بفضلك. (عن شرح الديوان).
(٢). راجع ص ١٦١ من هذا الجزء.
مِنَ اللَّوَاتِي وَاللَّتِي وَاللَّاتِي | زَعَمْنَ أَنْ قَدْ كَبِرَتْ لِدَاتِي |
بَعْدَ اللُّتَيَّا وَاللَّتَيَّا وَالَّتِي | إِذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ |
مِنْ أَجْلِكِ يَا الَّتِي تَيَّمْتِ قَلْبِي | وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالْوُدِّ عَنِّي |
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٤٣
(٢). الزيادة عن هامش بعض نسخ الأصل.
(٣). الزيادة عن كتاب (إعراب القرآن للنحاس).
(٤). كذا في الأصول. وفي صحيح مسلم: (عن أبي هريرة).
(٥). الوجبة: صوت الشيء يسقط فيسمع له، كالهدة.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
(٢). يلاحظ أن راوي الحديث المتقدم في صحيحي مسلم والبخاري أبو هريرة.
(٣). راجع ج ٥ ص ٣٠٩.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٣٥٣.
(٥). راجع ج ٤ ص ٢٠٢.
نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ | وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ |
مَلَكْتُ «٣» بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا | يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا |
أَقَامَتْ بِهِ فَابْتَنَتْ خَيْمَةً | عَلَى قَصَبٍ وفرات نهر «٤» |
(٢). هو مهلهل أخو كليب.
(٣). ملكت: أي شددت وقويت.
(٤). قال الأصمعي: (قصب البطحاء مياه تجري إلى عيون الركايا (الآبار). يقول: أقامت بين قصب أي ركايا وماء عذب، وكل فرات فهو عذب). (عن اللسان وشرح الديوان).
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي | كَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا «٢» |
(٢). الشرى: مأسدة جانب الفرات يضرب بها المثل. يتبيلها؟: أي يأخذ بولها في يده.
أَلَا لَا أَرَى عَلَى الْحَوَادِثِ بَاقِيًا | وَلَا خَالِدًا إِلَّا الْجِبَالَ الرَّوَاسِيَا |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَيْنَ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ: يَعْنِي" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً" [البقرة: ١٧] وقوله:" أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ" [البقرة: ١٩] قَالُوا: اللَّهُ أَجَلُّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:" وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ «١» مِنْهُ" [الحج: ٧٣] وذكر كيد الآلهة
يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْنًا إِلَى قَدَمٍ | وَلَا حِبَالَ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلُ |
يَذْهَبْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا «٥» غَائِرًا | فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جوائرا |
(٢). راجع ج ١٤ ص ٩١.
(٣). راجع ص ١٥٠.
(٤). أي بمعنى الخارج من طاعة الله، وهو بهذا المعنى حقيقة شرعية.
(٥). غورا، منصوب بفعل محذوف، أي ويسلكن. (راجع كتاب سيبويه ج ١ ص ٤٩ طبع بولاق).
[سورة البقرة (٢): آية ٢٧]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
فِيهِ سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِينَ) " الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِلْفَاسِقِينَ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أنه خبر ابتدا مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَنْقُضُونَ) النَّقْضُ: إِفْسَادُ مَا أَبْرَمْتُهُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ عَهْدٍ. وَالنُّقَاضَةُ. مَا نُقِضَ مِنْ حَبْلِ الشَّعْرِ. وَالْمُنَاقَضَةُ فِي الْقَوْلِ: أَنْ تَتَكَلَّمَ بِمَا تَنَاقَضَ مَعْنَاهُ. وَالنَّقِيضَةُ فِي الشِّعْرِ: مَا يُنْقَضُ بِهِ. وَالنِّقْضُ: الْمَنْقُوضُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْعَهْدِ، فَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى خَلْقِهِ، وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَهْيُهُ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ. وَقِيلَ: بَلْ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الصَّنْعَةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَهْدِ، وَنَقْضُهُمْ تَرْكُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا عَهِدَهُ إِلَى مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ أَنْ يُبَيِّنُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَكْتُمُوا أَمْرَهُ. فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا فِي أَهْلِ الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده عز وجل مَا أَخَذَهُ عَلَى النَّبِيِّينَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ أَلَّا يَكْفُرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَدَلِيلُ ذلك:" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ «٢» النَّبِيِّينَ" [آل عمران: ٨١] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي" [آل عمران: ٨١] أَيْ عَهْدِي. قُلْتُ: وَظَاهِرُ مَا قَبْلُ وَمَا بَعْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ. فَهَذِهِ خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها.
(٢). راجع ج ٤ ص ١٢٤
حِمًى لَا يُحَلُّ الدَّهْرَ إِلَّا بِإِذْنِنَا | وَلَا نَسْأَلُ الْأَقْوَامَ عَهْدَ «١» الْمَيَاثِقِ |
(٢). البهر (بالضم): تتابع النفس من الإعياء. وقيل انقطاعه.
إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهُ | أَوْلَادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ «٢» |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
... " كَيْفَ" سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ، وَهِيَ اسْمٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"- تَكْفُرُونَ"، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْفَتْحِ وَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةً، لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ فَأَشْبَهَتِ الْحُرُوفَ، وَاخْتِيرَ لَهَا الْفَتْحُ لِخِفَّتِهِ، أَيْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ حِينَ كَفَرُوا وَقَدْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ؟ فَالْجَوَابُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُثْبِتُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ فقد
(٢). سليط. أبو قبيلة والقن: الذي ملك هو وأبواه.
(٣). راجع ج ٦ ص ٣٢.
(٤). راجع ج ٨ ص ٣١
[سورة البقرة (٢): آية ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
(٢). راجع ج ٦ ص ١٨
(٣). راجع ج ١١ ص ٣٤٨
مَنْ كَانَ يَخْلُقُ مَا يَقُو | لُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ |
(٢). راجع ج ١٦ ص ١٦٠
أَنْفِقْ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالَا
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ لِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بِذَلِكَ أُمِرْتُ). قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: فَخَوْفُ الْإِقْلَالِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا لِوَلَدِ آدَمَ، وَقَالَ فِي تَنْزِيلِهِ:" خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً"" وسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ" [الجاثية: ١٣]. فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُسَخَّرَةٌ لِلْآدَمِيِّ قَطْعًا لِعُذْرِهِ وَحُجَّةً عَلَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ عَبْدًا كَمَا خَلَقَهُ عَبْدًا، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ لَمْ يَخَفِ الْإِقْلَالَ لِأَنَّهُ يُخْلِفُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «١» " [سبأ: ٣٩] وقال:" فَإِنَّ رَبِّي «٢» غَنِيٌّ كَرِيمٌ" [النمل: ٤٠]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي يَا بن آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى «٣» سحا لا يغيضها شي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا (. وَكَذَا فِي الْمَسَاءِ عِنْدَ الْغُرُوبِ يُنَادِيَانِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَمَنَ اسْتَنَارَ صَدْرُهُ، وَعَلِمَ غِنَى رَبِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْفَقَ وَلَمْ يَخَفِ الْإِقْلَالَ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَتْ شَهَوَاتُهُ عَنِ الدُّنْيَا وَاجْتَزَأَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقُوتِ الْمُقِيمِ لِمُهْجَتِهِ، وَانْقَطَعَتْ مَشِيئَتُهُ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا يُعْطِي مِنْ يُسْرِهِ وَعُسْرِهِ وَلَا يَخَافُ إِقْلَالًا. وَإِنَّمَا يَخَافُ الْإِقْلَالَ مَنْ لَهُ مَشِيئَةٌ فِي الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا أَعْطَى الْيَوْمَ وَلَهُ غَدًا مشيئة في شي خَافَ أَلَّا يُصِيبَ غَدًا، فَيَضِيقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفَقَةِ الْيَوْمِ لِمَخَافَةِ إِقْلَالِهِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (انْفَحِي أَوِ انْضَحِي «٤» أَوْ أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِي اللَّهُ عَلَيْكِ وَلَا تُوعِي «٥» فَيُوعِي عَلَيْكِ). وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٠٦.
(٣). أي دائمة الصب والهطل بالعطاء.
(٤). قال النووي: (والنفح والنضح العطاء، ويطلق النضح أيضا على الصب فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح).
(٥). الايعاء: جعل الشيء في الوعاء، أي لا؟ تجمعي وتشحى بالنفقة فيشح عليك.
فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ... وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
أَيِ ارْتَفَعَ وَعَلَا، وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي وَاسْتَوَتِ الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي، بِمَعْنَى عَلَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، وَالنَّاسُ فِيهَا وَفِيمَا شَاكَلَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْرَؤُهَا وَنُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُفَسِّرُهَا، وَذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ «١»
اسْتَوى " [طه: ٥] قَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَأَرَاكَ رَجُلَ سَوْءٍ! أَخْرِجُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْرَؤُهَا وَنُفَسِّرُهَا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ ظَاهِرُ اللُّغَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُشَبِّهَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْرَؤُهَا وَنَتَأَوَّلُهَا وَنُحِيلُ حَمْلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ" قَالَ: الِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا: أَنْ يَسْتَوِيَ الرَّجُلُ وَيَنْتَهِيَ شَبَابُهُ وَقُوَّتُهُ، أَوْ يَسْتَوِيَ عَنِ اعْوِجَاجٍ. فَهَذَانَ وَجْهَانِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنْ تَقُولَ: كَانَ «٢» فُلَانٌ مُقْبِلًا عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيَّ وَإِلَيَّ يُشَاتِمُنِي. عَلَى مَعْنَى أَقْبَلَ إِلَيَّ وَعَلَيَّ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:" ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ" وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ صَعِدَ. وَهَذَا كَقَوْلِكَ: كَانَ قَاعِدًا فَاسْتَوَى قَائِمًا، وَكَانَ قَائِمًا فَاسْتَوَى قَاعِدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ جَائِزٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: قَوْلُهُ:
(٢). عبارة الأصول: (... كان مقبلا على يشاتمني وإلي سواء، على معنى.. إلخ) وبها لا يستقيم المعنى. والتصويب عن اللسان وشرح القاموس وتفسير الطبري.
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ | مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ |
(٢). راجع ج ٧ ص ٢١٩.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٤٣. [..... ]
(٤). راجع ج ١٩ ص ٢٠١.
(٥). راجع ج ٦ ص ٣٨٤.
(٦). دحا الشيء: بسطه.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٢٣.
(٣). تكملة عن تفسير الطبري وتاريخه.
(٤). الصفاة: العريض من الحجارة الأملس.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٩٠.
(٦). راجع ج ١٥ ص ٣٤٢.
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٠٢
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٧٤
(٢) الرقيع: اسم سماء الدنيا.
(٣) زيادة عن صحيح الترمذي.
(٤) زيادة عن صحيح الترمذي.
(٥) زيادة عن صحيح الترمذي.
(٢). في نسخة من الأصل: (متابعا).
«٣» إِلَّا هُوَ" [الانعام: ٥٩] الْآيَةَ. وَسَنَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ عِلْمِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ:" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «٤» " [البقرة: ١٨٥] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ مِنْ: هُوَ وَهِيَ، إِذَا كَانَ قَبْلَهَا فَاءٌ أَوْ وَاوٌ أَوْ لَامٌ أَوْ ثُمَّ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو عَمْرٍو إِلَّا مَعَ ثُمَّ. وَزَادَ أَبُو عَوْنٍ عَنِ الْحَلْوَانِيِّ عَنْ قَالُونَ إِسْكَانَ الْهَاءِ مِنْ" أَنْ يُمِلَّ هُوَ" والباقون بالتحريك.
[سورة البقرة (٢): آية ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى" وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ" إِذْ وَإِذَا حَرْفَا تَوْقِيتٍ، فَإِذْ لِلْمَاضِي، وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ تُوضَعُ إِحْدَاهُمَا مَوْضِعَ الْأُخْرَى. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا جَاءَ" إِذْ" مَعَ مُسْتَقْبَلٍ كَانَ مَعْنَاهُ مَاضِيًا، نَحْوَ قَوْلِهِ:" وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ" [الأنفال: ٣٠] " وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ" [الأحزاب: ٣٧] معناه إذ مَكَرُوا، وَإِذْ قُلْتَ. وَإِذَا جَاءَ" إِذَا" مَعَ الْمَاضِي كَانَ مَعْنَاهُ مُسْتَقْبَلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ" [النازعات: ٣٤] " فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ" [عبس: ٣٣] و" إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ" [النصر: ١]
(٢). راجع ج ٦ ص ١٩.
(٣). راجع ج ٧ ص ١
(٤). راجع ج ٢ ص ٣٠١
فَإِذْ «١» وَذَلِكَ لَا مَهَاةَ لِذِكْرِهِ | وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بِفَسَادِ |
فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا | فَسَوْفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا |
وَغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ | بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ |
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكًا | إِنَّنِي قَدْ طَالَ حَبْسِي وانتظاري |
(٢). راجع المسألة الثامنة وما بعدها ص ١٣٦ من هذا الجزء.
(٣). هو عدى بن زيد، كما في اللسان مادة (ألك). ويروي (إنه) بدل: (إنني)
فَلَسْتَ لَإِنْسِيٌّ وَلَكِنْ لَمَلْأَكٌ | تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ |
(٢). الأصم: من كبار المعتزلة واسمه أبو بكر.
ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(٢). في تفسير العلامي: (مبتدع).
(٣). الستة: هم الذين نصح عمر- رضي الله عنه- للمسلمين أن يختاروا واحدا منهم لولاية الامر بعده حين طلب إليه أن يعهد عهدا. وهم: علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة ابن عبيد الله. راجع قصة الشورى في تاريخ ابن الأثير (ج ٣ ص ٥٠) طبع أوروبا.
(٢). الزيادة عن صحيح مسلم (ج ٦ ص ١٧) طبع الآستانة. و (بواحا) أي جهارا، من باح بالشيء يبوح به إذا أعلته.
أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَتَكُونَ بَيْنِي | وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالْإِخَاءُ |
فَلَوْ أَنَّا عَلَى حجر ذبحنا | جرى الدميان بالخبر اليقين |
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ | سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ |
قَبَّحَ الْإِلَهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا | سَبَّحَ «٤» الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إِهْلَالَا |
(٢). راجع ص ٢٠٣ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٥ ص ١٢٣.
(٤). في ديوان جرير: (شبح). وفسر الشبح بأنه رفع الأيدي بالدعاء. راجع اللسان مادة (شبح) وديوان جرير المخطوط المحفوظ بدار الكتب المصرية رقم ١ أدب ش.
(٥). زيادة عن صحيح مسلم (ج ٨ ص ٨٦ طبع الآستانة).
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنَّسَا | كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ |
(٢). (راجع ج ٦) ص ١٢٥
(٣). (راجع ج ١٨ ص ٤٥)
(٤). (راجع ج ١١ ص ١٧٥)
(٥). (هو امرؤ القيس. والهاء في (أدركنه) ضمير الثور، والنون ضمير الكلاب. والنسا: عرق في الفخذ. والشبرقة: تقطيع الثوب وغيره. والمقدس (بكسر الدال وتشديدها): الراهب. وبالفتح: المبارك. يقول: أدركت الكلاب الثور يأخذن بساقه وفخذه: وشبرقت جلده كما شبرق ولدان النصارى ثوب الراهب المسبح لله عز وجل إذا نزل من صومعته فقطعوا ثيابه تبركا به. (عن شرح الديوان واللسان).
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ | عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أَوَّلُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٣١]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)... " عَلَّمَ" معناه عَرَّفَ. وَتَعْلِيمُهُ هُنَا إِلْهَامُ عِلْمِهِ ضَرُورَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام على ما يأتي. وقرى:" وَعُلِّمَ" غَيْرَ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ: عَلِمَهَا بِتَعْلِيمِ الْحَقِّ إِيَّاهُ وَحَفِظَهَا بِحِفْظِهِ عَلَيْهِ وَنَسِيَ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ، لِأَنْ وَكَلَهُ فِيهِ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ:" وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «١» ". [طه: ١١٥]. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: لَوْ لَمْ يَكْشِفْ لِآدَمَ عِلْمَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ لَكَانَ أَعْجَزَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهَا. وَهَذَا وَاضِحٌ. وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكَنَّى أَبَا الْبَشَرِ. وَقِيلَ: أَبَا مُحَمَّدٍ، كُنِّيَ بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقِيلَ: كُنْيَتُهُ فِي الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَفِي الْأَرْضِ أَبُو الْبَشَرِ. وَأَصْلُهُ بِهَمْزَتَيْنِ، لِأَنَّهُ أَفْعَلُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَيَّنُوا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا احْتَجْتَ إِلَى تَحْرِيكِهَا جَعَلْتَهَا وَاوًا فَقُلْتَ: أَوَادِمُ فِي الْجَمْعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْيَاءِ مَعْرُوفٌ، فَجَعَلْتَ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْوَاوَ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَدَمَةِ الْأَرْضِ وَأَدِيمِهَا وَهُوَ وَجْهُهَا، فَسُمِّيَ بِمَا خُلِقَ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُدْمَةِ وَهِيَ السُّمْرَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُدْمَةِ، فَزَعَمَ الضَّحَّاكُ أَنَّهَا السُّمْرَةُ، وَزَعَمَ النَّضْرُ أَنَّهَا الْبَيَاضُ، وَأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَبْيَضَ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ أَدْمَاءُ، إِذَا كَانَتْ بَيْضَاءَ. وَعَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ جَمْعُهُ أُدْمٌ وَأَوَادِمُ، كَحُمْرٍ وَأَحَامِرَ، وَلَا يَنْصَرِفُ بِوَجْهٍ. وَعَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَدَمَةِ جَمْعُهُ آدَمُونَ، وَيَلْزَمُ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ صَرْفُهُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ إِنْسَانًا لِأَنَّهُ نَسِيَ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ. وَرَوَى
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣
(٣). راجع ج ١٧ ص ١٦٠ [..... ]
النَّاسُ أَخْيَافٌ «٣» وَشَتَّى فِي الشِّيَمْ | وَكُلُّهُمْ يَجْمَعُهُمْ وَجْهُ الْأَدَمْ |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣
(٣). الاخياف: المختلفون في الأخلاق والاشكال.
(٤). راجع ج ٦ ص ٣٨٧ وج ٧ ص ١٦٨
(٢). أنحى: صرف. وفي الطبري: (ألجأ).
(٣). في التقريب بضم المعجمة وفتح المثلثة. وفي الخلاصة (خيثم) بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة.
هَؤُلَا ثُمَّ هَؤُلَا كُلًّا أَعْطَيْ | تَ نِعَالًا مَحْذُوَّةً بِمِثَالِ |
(٢). في قوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.... ) راجع ص ٤٣١ من هذا الجزء.
[سورة البقرة (٢): آية ٣٢]
قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" سُبْحانَكَ" أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أَنْ يَعْلَمَ الْغَيْبَ أَحَدٌ سِوَاكَ. وَهَذَا جَوَابُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ:" أَنْبِئُونِي" فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَلَمْ يَتَعَاطَوْا مَا لَا عِلْمَ لهم به كما يفعله الجهال منا. و" ما" فِي" مَا عَلَّمْتَنا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ إِلَّا الَّذِي عَلَّمْتَنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً بِمَعْنَى إِلَّا تَعْلِيمَكَ إِيَّانَا. الثَّانِيَةُ- الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا أَدْرِي، اقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْفُضَلَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ قَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ أَنَّ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ يُقْبَضُ الْعِلْمُ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتُونَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَرَوَى الْبُسْتِيُّ «٢» فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ لَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ: (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَسَأَلَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّهَا الْأَسْوَاقُ. وَقَالَ الصِّدِّيقُ لِلْجَدَّةِ: ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: وَابَرْدَهَا عَلَى الْكَبِدِ، ثَلَاثَ مَرَّاتً. قَالُوا وَمَا ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَنْ يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: نِعْمَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِهِ! ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وَفِي صحيح مسلم عن أبي عقيل
(٢). في نسخة (النسائي).
(٢). القاسم هذا، هو ابن عبيد الله بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وام القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه، فأبو بكر جده الأعلى لامه، وعمر جده الأعلى لأبيه، وابن عمر جده الحقيقي لأبيه. رضي الله عنهم أجمعين. (عن شرح النووي على صحيح مسلم).
(٣). الفطس (بالتحريك): انخفاض قصبة الأنف وتطامنها وانتشارها. [..... ]
إِذَا مَا تَحَدَّثْتُ فِي مَجْلِسٍ | تَنَاهَى حَدِيثِي إِلَى مَا عَلِمْتُ |
وَلَمْ أُعْدِ عِلْمِي إِلَى غَيْرِهِ | وكان إذا ما تناهى سكت |
(٢). مجتابي النمار، أي لابسها. يقال: اجتبت القميص والظلام دخلت فيهما.
(٣). وهي كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنما أخذت من لون النمر.
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ | إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا |
الْقَائِدُ الْخَيْلَ مَنْكُوبًا دَوَابِرُهَا «١» | قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتُ الْقَدِّ وَالْأَبَقَا |
[سورة البقرة (٢): آية ٣٣]
قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ" أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بَعْدَ أَنْ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِهِ وَعُلُوِّ شَأْنِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بِأَنْ قَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَأَسْجَدَهُمْ لَهُ وَجَعَلَهُمْ تَلَامِذَتَهُ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْهُ. فَحَصَلَتْ لَهُ رُتْبَةُ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ بِأَنْ جَعَلَهُ مَسْجُودًا لَهُ، مُخْتَصًّا بِالْعِلْمِ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: (وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ) أَيْ تَخْضَعُ وَتَتَوَاضَعُ وإنما تفعل ذلك «٣» لأهل العلم خاصة
(٢). القنب (بكسر القاف وضمها): ضرب من الكتان.
(٣). في نسخة من الأصل: (لأجل).
«٣» " [النساء: ١٧٢] وَقَوْلَهُ:" قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «٤» " [الانعام: ٥٠]. وَفِي الْبُخَارِيِّ: (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" مَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ). وَهَذَا نَصٌّ. احْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خير البريئة «٥» " [البينة: ٧] بِالْهَمْزِ، مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السلام: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لِطَالِبِ الْعِلْمِ) الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَبِمَا جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتَ الْمَلَائِكَةَ، وَلَا يُبَاهِي إِلَّا بِالْأَفْضَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرُ رسوله أو إجماع الامة، وليس ها هنا شي مِنْ ذَلِكَ، خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالشِّيعَةِ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: الْمَسْجُودُ لَهُ لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ السَّاجِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَعْبَةَ مَسْجُودٌ لَهَا وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْخَلْقُ يَسْجُدُونَ نَحْوَهَا، ثُمَّ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ الْكَعْبَةِ بِاتِّفَاقِ الامة. ولا خلاف أن السجود
(٢). في نسخة: (ورضى الله عنهم... إلخ).
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٦.
(٤). راجع ج ٦ ص ٤٢٩.
(٥). راجع ج ٢٠ ص ١٤٥
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣٠٩.
(٣). زيادة عن تفسير الطبري. [..... ]
(٤). راجع ص ٢٧٨
[سورة البقرة (٢): آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنا) أَيْ وَاذْكُرْ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ" إِذْ" زَائِدَةٌ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ، لِأَنَّ إِذْ ظَرْفٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَقَالَ" قُلْنا" وَلَمْ يَقُلْ قُلْتُ لِأَنَّ الْجَبَّارَ الْعَظِيمَ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِفِعْلِ الْجَمَاعَةِ تَفْخِيمًا وَإِشَادَةً بِذِكْرِهِ. وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعُ مَلَكٍ، وقد تقدم «٢». وتقدم القول أيضا في آدم واشتقاقه «٣» فلا معنى لإعادته. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَنَّهُ ضَمَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِتْبَاعًا لِضَمِّ الْجِيمِ فِي" اسْجُدُوا". وَنَظِيرُهُ" الْحَمْدُ لِلَّهِ". الثَّانِيَةُ- قوله تعالى (اسْجُدُوا) السُّجُودُ مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، قال الشاعر:
يجمع تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ | تَرَى الْأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ |
فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسَجَدَتْ | سُجُودَ النَّصَارَى لِأَحْبَارِهَا |
وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا
يَعْنِي الْبَعِيرَ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَدَرَاهِمُ الْإِسْجَادِ: دَرَاهِمُ كَانَتْ عَلَيْهَا صُوَرٌ كَانُوا يَسْجُدُونَ لَهَا، قَالَ:
وَافَى بها كدراهم الاسجاد
(٢). راجع المسألة الثانية ص ٢٦٢.
(٣). راجع المسألة الاولى ص ٢٧٩.
(٤). هو حميد بن ثور يصف نساء. يقول: لما ارتحلن ولوين فضول أزمة جمالهن على معاصمهن أسجدت- طأطأت رءوسها- لهن. (عن اللسان وشرح القاموس).
(٢). راجع ج ١٦ ص ٦٢.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٨٢
(٢). القتب: رحل صغير على قدر السنام.
لَيْسَ عَلَيْكَ عَطَشٌ وَلَا جُوعْ | إِلَّا الرُّقَادَ وَالرُّقَادُ مَمْنُوعْ |
(٢). في نسخ:" معاشر".
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً | قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ |
(٢). هو أعشى قيس، كما في تفسير الطبري وأبي حيان. [..... ]
(٣). الزيادة من صحيح مسلم.
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا | قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كانت فراخا بيوضها |
(٢). راجع ج ٧ ص ١٧٠.
(٣). هو ابن أحمر كما في اللسان مادة" كون".
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٢٨
[سورة البقرة (٢): آية ٣٥]
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى-: (وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ) لَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ إِبْلِيسَ عِنْدَ كُفْرِهِ وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْجَنَّةِ، وَبَعْدَ إِخْرَاجِهِ قَالَ لِآدَمَ: اسْكُنْ، أَيْ لَازِمِ الْإِقَامَةَ وَاتَّخِذْهَا مَسْكَنًا، وَهُوَ مَحَلُّ السُّكُونِ. وَسَكَنَ إِلَيْهِ يَسْكُنُ سُكُونًا. وَالسَّكَنُ: النَّارُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانِ
وَالسَّكَنِ: كُلُّ مَا سُكِنَ إِلَيْهِ. وَالسِّكِّينُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَكِّنُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ، وَمِنْهُ الْمِسْكِينُ لِقِلَّةِ تَصَرُّفِهِ وَحَرَكَتِهِ. وَسُكَّانُ «٢» السَّفِينَةِ عَرَبِيُّ، لِأَنَّهُ يُسَكِّنُهَا عَنَ الاضطراب.
(٢). السكان (بالضم): ذنب السفينة التي به تعدل.
(٢). راجع ج ٩ ص ٥٧
هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا | وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يَغْلُوا |
قُلْتُ إِذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى | كَنِعَاجِ الْمَلَا تَعَسَّفْنَ رملا «١» |
(٢). الضلع كعنب وجذع.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٣٧ [..... ]
هِيَ الضِّلَعُ الْعَوْجَاءُ لَيْسَتْ تُقِيمُهَا | أَلَا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا |
أَتَجْمَعُ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى | أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا |
(٢). راجع ج ٥ ص ٦٥.
(٣). راجع ص ٢٣٩ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٦٨.
(٥). راجع ج ١٩ ص ١٨٢.
(٦). راجع ج ١٧ ص ٢٠٦.
(٧). راجع ج ١٠ ص ٣٤
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمًا | يَأْمَنُ الْأَحْدَاثَ فِي عَيْشِ رَغَدْ «١» |
(٢). في الأصول: (مجلس النظر يقول). والتصويب والزيادة عن كتاب البحر لابي حيان. وقد عقب عليه بقوله: (وفي هذه الحكاية عن ابن العربي من التخطيط ما يتعجب من حاكيها، وهو قوله: سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وبين النضر والشاشي من السنين مئون إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر بن شميل فيمكن). والشاشي هنا هو محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر المعروف بأبي بكر الشاشي ولد بميافارقين سنة ٤٢٩ هـ وتوفى سنة ٥٠٧ هـ (راجع طبقات الشافعية ج ٤ ص ٥٧). أما النصر بن شميل فقد توفى سنة ثلاث وقيل أربع ومائتين (راجع بغية الوعاة ووفيات الأعيان). وولد أبو بكر بن العربي سنة ٤٦٨ وتوفى سنة ٥٤٣ هـ (راجع طبقات المفسرين).
(٢). الزيادة من ابن العربي.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٥١ وص ٢٥٣ [..... ]
(٢). هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني. وفي الأصول: (عند الأستاذ أبي بكر) وهو تحريف. (راجع الكلام في عصمة الأنبياء في شرح المواقف).
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا | عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ |
إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا | وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ «١» |
فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ «٢» | على العيش مردود عليها ظليمها |
(٢). الاشاحة: الحذر والخوف لمن حاول أن يدفع الموت. قال صاحب اللسان: (يعني حفرة القبر يرد ترابها عليه بعد دفن الميت فيها).
... ظَلَّامُونَ لِلْجُزُرِ «١»
وَيُقَالُ: سَقَانَا ظَلِيمَةً طَيِّبَةً، إِذَا سَقَاهُمُ اللَّبَنَ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ. وَقَدْ ظَلَمَ «٢» وَطْبَهُ، إِذَا سَقَى مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ وَيَخْرُجَ زُبْدُهُ. وَاللَّبَنُ مَظْلُومٌ وَظَلِيمٌ. قَالَ:
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي | وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ «٣» |
عاد الأذلة في دار وكان بها | هرت الشقاشق ظلامون للجزر |
(٣). ظلمت سقائي: سقيتهم إياه قبل أن يروب. والعكد (بضم العين وفتحها وفتح الكاف جمع العكدة والعكدة): أصل اللسان.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٦٢.
(٥). راجع المسألة السادسة ص ٣٠٣ من هذا الجزء.
(٦). آية ١٨٢ سورة الأعراف. و٤٤ سورة القلم.
خَلِيلَيَّ لَوْلَا سَاكِنُ الدَّارِ لَمْ أَقُمْ | بِتَا الدَّارِ إِلَّا عَابِرَ ابْنِ سَبِيلِ |
[سورة البقرة (٢): آية ٣٦]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ) فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها" قَرَأَ الْجَمَاعَةُ" فَأَزَلَّهُمَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ، مِنَ الزَّلَّةِ وَهِيَ الْخَطِيئَةُ، أَيِ اسْتَزَلَّهُمَا وَأَوْقَعَهُمَا فِيهَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ" فَأَزَالَهُمَا" بِأَلِفٍ، مِنَ التَّنْحِيَةِ، أَيْ نَحَّاهُمَا. يُقَالُ: أَزَلْتُهُ فَزَالَ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فَأَزَالَهُمَا مِنَ الزَّوَالِ، أَيْ صَرَفَهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى، إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى. يُقَالُ مِنْهُ: أَزْلَلْتُهُ فَزَلَّ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا «٢» " [آل عمران: ١٥٥]، وقوله:
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٤٣
يُزِلُّ الْغُلَامُ الْخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ | وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ الْعَنِيفِ الْمُثَقَّلِ «١» |
كُمَيْتٍ يُزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ | كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالْمُتَنَزِّلِ «٢» |
(٢). الكميت: لون ليس بأشقر ولا أدهم. والحال: موضع اللبد من ظهر الفرس. والصفواء (جمع صفاة): الصخرة الملساء. والمتنزل: الذي ينزل عليها فيزلق عنها. [..... ]
(٣). سخنت عينه: نقيض قرت.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٥٧
(٢). أي انقضوا عهده وذمامه.
(٣). في التقريب: (بفتح أولها وتشديد الراء المهملة مع المد). وفي أسد الغابة: (بفتح السين وإمالة الراء المشددة، وآخره ياء ساكنة).
(٢). الضمير للحديث، أي لم يبق هذا الحديث إلخ.
(٢). الزيادة عن سنن أبي داود.
(٣). جنان (بتشديد النون الاولى، جمع جان): ضرب من الحيات الدقيق الخفيف يضرب إلى الصفرة ليس بسام، وهو كثير في بيوت الناس.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٢١٠.
(٥). راجع ج ١٩ ص ١ فما بعد.
(٦). في هامش نسخة من الأصل: (التحريج هو أن يقول لها: أنت في حرج- أي في ضيق- إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتل (. وكذلك هو في نهاية ابن الأثير واللسان.
(٢). في صحيح مسلم: (لصاحبكم).
(٣). العوامر: الحيات التي تكون في البيوت، واحدها عامر وعامرة.
قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ... رَجِ سعد بن عباده
ورميناه بسهمين... فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهُ
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا) لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ وَيَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ. رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَتْ جَانًّا فَأُرِيَتْ فِي الْمَنَامِ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهَا: لَقَدْ قَتَلْتِ مُسْلِمًا، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَعَلَيْكِ ثِيَابُكِ. فَأَصْبَحَتْ فَأَمَرَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَأَنْتِ مُسْتَتِرَةٌ، فَتَصَدَّقَتْ وَأَعْتَقَتْ رِقَابًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ: الْجَانُّ مِنَ الْحَيَّاتِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا هِيَ الَّتِي تَمْشِي وَلَا تَلْتَوِي، وَعَنْ عَلْقَمَةَ نَحْوُهُ. الثَّامِنَةُ- فِي صِفَةِ الْإِنْذَارِ، قَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ إِلَيَّ أَنْ يُنْذَرُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَهُ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْيَوْمِ مِرَارًا. وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى إِنْذَارِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَكُونَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: يَكْفِي ثَلَاثَ مِرَارٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا)، وَقَوْلِهِ: (حَرِّجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا) وَلِأَنَّ ثَلَاثًا لِلْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ). وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ مُقَيِّدٌ لِتِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَيُحْمَلُ ثَلَاثًا عَلَى إِرَادَةِ لَيَالِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ، فَغَلَّبَ اللَّيْلَةَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي بَابِ التَّارِيخِ فَإِنَّهَا تُغَلِّبُ فِيهَا التَّأْنِيثَ. قَالَ مَالِكٌ: وَيَكْفِي فِي الْإِنْذَارِ أَنْ يَقُولَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا تَبْدُوا لَنَا وَلَا تُؤْذُونَا. وَذَكَرَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا: أَنْشُدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نوح
(٢). في اللسان والقاموس ومعجم البلدان ومروج الذهب: (راهون).
(٢). بيسان: بلدة بمرو وبالشام وموضع باليمامة.
(٣). سجستان (بكسر أوله وثانيه وقد يفتح أوله): اسم مدينة من مدن خراسان. (عن شرح القاموس).
(٤). العربد (بكسر العين وسكون الراء وفتح الباء وكسرها وتشديد الدال): حية تنفخ ولا يؤذي.
(٥). راجع ج ١١ ص ١٦٠.
(٦). راجع ج ١٣ ص ٢٤١.
(٧). راجع ج ١٠ ص ٤٢٠.
(٨). راجع ج ١٨ ص ١٢٥
وَقَفْتُ عَلَى قَبْرٍ غَرِيبٍ بِقَفْرَةٍ | مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ |
كَابِي «٣» الرَّمَادِ عَظِيمُ الْقِدْرِ جَفْنَتُهُ | حِينَ الشِّتَاءِ كَحَوْضِ الْمَنْهَلِ اللَّقِفِ |
الْعَاطِفُونَ تَحِينُ مَا مِنْ عَاطِفٍ | وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ أين المطعم |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٢٨.
(٣). كابي الرماد: أي عظيم الرماد.
وَإِنَّ سُلُوِّيَ عَنْ جَمِيلٍ لَسَاعَةٌ | مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلَا حَانَ حِينُهَا |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٧٢.
(٣). راجع ج ١٢ ص ١٣٠.
(٤). راجع ج ٩ ص ٣٦٠.
(٥). راجع ج ١٤ ص ١٤
(٦). راجع ج ١٤ ص ١٤
[سورة البقرة (٢): آية ٣٧]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ" تَلَقَّى قِيلَ مَعْنَاهُ: فَهِمَ وَفَطِنَ. وَقِيلَ: قَبِلَ وَأَخَذَ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ أَيْ يَسْتَقْبِلُهُ وَيَأْخُذُهُ وَيَتَلَقَّفُهُ تَقُولُ: خَرَجْنَا نَتَلَقَّى الْحَجِيجَ أَيْ نَسْتَقْبِلُهُمْ وَقِيلَ: مَعْنَى تَلَقَّى تَلَقَّنَ. وهذا فِي الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّلَقِّي مِنَ التَّلَقُّنِ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ إِنَّمَا يُقْلَبُ يَاءً إِذَا تَجَانَسَا مِثْلَ تَظَنَّى مِنْ تَظَنَّنَ وَتَقَصَّى مِنْ تَقَصَّصَ وَمِثْلُهُ تَسَرَّيْتُ مِنْ تَسَرَّرْتُ وَأَمْلَيْتُ مِنْ أَمْلَلْتُ وَشَبَهُ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: تَقَبَّى مِنْ تَقَبَّلَ وَلَا تَلَقَّى مِنْ تَلَقَّنَ فَاعْلَمْ وَحَكَى مَكِّيٌّ أَنَّهُ أُلْهِمَهَا فَانْتَفَعَ بِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ: قَبُولُهَا تَعَلُّمُهُ لَهَا وَعَمَلُهُ بِهَا
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٦١.
(٣). راجع ج ١١ ص ٣٣٣.
(٤). راجع ص ٦٧ من هذا الجزء.
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي | بَرِيئًا وَمِنْ فَوْقِ «٣» الطَّوِيِّ رَمَانِي |
(٢). هو عمرو بن أحمر الباهلي. [..... ]
(٣). الذي في شرح شواهد سيبويه: (ومن أجل الطوي). والطوي: البئر المطوية بالحجارة. قال الشنتمري: (وصف في البيت رجلا كانت بينه وبينه مشاجرة في بئر فذكر أنه رماه بأمر يكرهه ورمى أباه بمثله على براءتهما منه من أجل المشاجرة التي كانت بينهما).
(٤). راجع ج ٨ ص ١٩٣.
(٥). راجع ج ٣ ص ٩١.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٦.
(٣). راجع ج ٧ ص ٩٦
لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ | إِذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أَوْ زَمِيرُ «١» |
[سورة البقرة (٢): آية ٣٨]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْنَا اهْبِطُوا) كَرَّرَ الْأَمْرَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ وَتَأْكِيدِهِ، كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ: قُمْ قُمْ. وَقِيلَ: كَرَّرَ الْأَمْرَ لَمَّا عَلَّقَ بِكُلِ أَمْرِ مِنْهُمَا حُكْمًا غَيْرَ حُكْمِ الْآخَرِ فَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ الْعَدَاوَةَ وَبِالثَّانِي إِتْيَانَ الْهُدَى. وَقِيلَ: الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي «٢». (جَمِيعاً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا هَبَطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ إِبْلِيسُ لِلسِّبَاعِ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكُمْ فَأَهْلِكُوهُ فَاجْتَمَعُوا وولوا أمرهم إلى الكلب
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٠٥
سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ | فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِ جنب مصرع «٥» |
(٢). لهث الكلب: إِذَا أَخْرَجَ لِسَانَهُ مِنَ التَّعَبِ أَوِ الْعَطَشِ.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٢٣.
(٤). راجع المسألة الثالثة ص ١٨٦ من هذا الجزء.
(٥). (هوي): يريد هواى أي ماتوا قبلي وكنت أحب أن أموت قبلهم. (وأعنقوا لهواهم) جعلهم كأنهم هووا الذهاب إلى المنية لسرعتهم إليها وهم لم يهووها. (فتخرموا) أي أخذوا واحدا واحدا.
[سورة البقرة (٢): آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
[سورة البقرة (٢): آية ٤٠]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي إِسْرائِيلَ) نِدَاءٌ مُضَافٌ عَلَامَةُ النَّصْبِ فِيهِ الْيَاءُ وَحُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ. الْوَاحِدُ ابْنُ وَالْأَصْلُ فِيهِ بَنِي وَقِيلَ: بَنُو فَمَنْ قَالَ: الْمَحْذُوفُ مِنْهُ وَاوٌ احْتَجَّ بِقَوْلِهِمُ: الْبُنُوَّةُ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: الْفُتُوَّةُ وَأَصْلُهُ الْيَاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَحْذُوفُ مِنْهُ عِنْدِي يَاءٌ كَأَنَّهُ مِنْ بَنَيْتُ. الْأَخْفَشُ: اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِنْهُ الْوَاوَ لِأَنَّ حَذْفَهَا أَكْثَرُ لِثِقَلِهَا. وَيُقَالُ: ابْنٌ بَيِّنُ الْبُنُوَّةِ وَالتَّصْغِيرُ بُنَيٌّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ: يَا بُنَيِّ وَيَا بُنَيَّ لُغَتَانِ مِثْلَ يَا أَبَتِ ويا أبت وقرى بِهِمَا. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ وَالِابْنُ فَرْعٌ لِلْأَبِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ. وَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاءِ مَنْ لَهُ اسْمَانِ غَيْرُهُ إِلَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ لَهُ أَسْمَاءً كَثِيرَةً. ذَكَرَهُ فِي كتاب" الْآثَارِ" لَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَسِيحِ إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ رُوحًا وَكَلِمَةً، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ أَبِيلَ الْأَبِيلِينَ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي" دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ: خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ذَوُو اسْمَيْنِ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِيسَى وَالْمَسِيحُ وَإِسْرَائِيلُ وَيَعْقُوبُ وَيُونُسُ وَذُو النُّونِ وَإِلْيَاسُ وَذُو الْكِفْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٦٧
(٢). راجع ص ٤٣٧ من هذا الجزء
(٣). راجع ج ٦ ص ١١٢.
(٤). راجع ج ٤ ص ٣٠٤
[سورة البقرة (٢): آية ٤١]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) أَيْ صَدِّقُوا، يَعْنِي بِالْقُرْآنِ. (مُصَدِّقاً) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي" أَنْزَلْتُ"، التَّقْدِيرُ بِمَا أَنْزَلْتُهُ مُصَدِّقًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ أَنْزَلْتُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَا وَالْعَامِلُ فِيهِ آمِنُوا التَّقْدِيرُ آمِنُوا بِالْقُرْآنِ مُصَدِّقًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً التَّقْدِيرُ آمِنُوا بِإِنْزَالٍ. (لِما مَعَكُمْ) يَعْنِي مِنَ التَّوْرَاةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) الضَّمِيرُ فِي" بِهِ" قِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ إِذْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ:" بِما أَنْزَلْتُ". وَقِيلَ: عَلَى التَّوْرَاةِ، إِذْ تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ:" لِما مَعَكُمْ". فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ" كافِرٍ" وَلَمْ يَقُلْ كَافِرِينَ قِيلَ: التَّقْدِيرُ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ فَرِيقٍ كَافِرٍ بِهِ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ هُوَ أَظْرَفُ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلُهُ وَكَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ هُوَ أَظْرَفُ فَتًى وَأَجْمَلُهُ. وَقَالَ:" أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" وَقَدْ كَانَ قَدْ كَفَرَ قَبْلَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ هُمْ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُمْ حُجَّةٌ مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ. وَ" أَوَّلَ" عِنْدَ سِيبَوَيْهِ نُصِبَ عَلَى خَبَرِ كَانَ. وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُنْطَقْ مِنْهُ بِفِعْلٍ وَهُوَ عَلَى أَفْعَلَ عَيْنُهُ وَفَاؤُهُ وَاوٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُنْطَقْ مِنْهُ بِفِعْلٍ لِئَلَّا يَعْتَلَّ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْعَيْنِ وَالْفَاءِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مِنْ وَأَلَ إِذَا نَجَا فَأَصْلُهُ أَوْأَلُ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُبْدِلَتْ وَاوًا وَأُدْغِمَتْ
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ ذَنْبًا أَوْ ظَفِرْتَ بِهِ | فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ |
(١). في نسخة من الأصل. ( | لان النقل منه أعظم). |
تَرَى الْجَلِيسَ يَقُولُ الْحَقَّ تَحْسَبُهُ | رُشْدًا وَهَيْهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا |
صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ | وَالْبَسْ عليه أمورا مثل ما لبسا |
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٢٠.
(٣). راجع ص ١٦١ وما بعدها.
(٤). العبارة هاهنا غير واضحة. والذي في البحر لابي حيان: (وقال سهل:) وإياي فارهبون) موضع اليقين بمعرفته (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج.
(٥). راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٥٤.
(٦). راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٥٤.
(٧). راجع ج ٦ ص ٣٩٤.
لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي | غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي |
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ
أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللِّبَاسِ. وَقَدْ قِيلَ هَذَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، أَيْ لَا تُغَطُّوا. وَمِنْهُ لَبِسَ الثَّوْبَ يُقَالُ لَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ وَلِبَاسُ الرَّجُلِ زَوْجَتُهُ وَزَوْجُهَا لِبَاسُهَا قَالَ الْجَعْدِيُّ:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا | تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسَا |
وَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الْأَمْرِ أَعْصُرَهُ | حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلَا |
أَلَا إِنَّ بَعْدَ الْعُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْوَةً «٢» | وَبَعْدَ الْمَشِيبِ طُولَ عُمَرٍ وَمَلْبَسَا |
ألا كل شي مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ
وَبَطَلَ الشَّيْءُ يَبْطُلُ بُطْلًا وَبُطُولًا وَبُطْلَانًا [ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخَسَرًا «٣»] وَأَبْطَلَهُ غَيْرُهُ. وَيُقَالُ ذَهَبَ دَمُهُ بُطْلًا أَيْ هَدَرًا وَالْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ وَالْبَطَلُ الشُّجَاعُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ شَجَاعَةَ صَاحِبِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
لَهُمْ لِوَاءٌ بِأَيْدِي مَاجِدٍ بَطَلٍ | لَا يَقْطَعُ الْخِرَقَ إِلَّا طرفه سامي |
(٢). القنوة (بكسر الأول وضمه): الكسبة.
(٣). الزيادة عن اللسان.
[سورة البقرة (٢): آية ٤٣]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
فيه أربع وثلاثون مسألة:
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٦
(٣). ص ٣٦٥. [..... ]
كَانُوا خَسًا أَوْ زَكًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ | لَمْ يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِجُ |
(٢). في نسخة: (أو الأنفال) وكذا في تفسير ابن عطية.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٤٤.
أخبِّر أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ | أدبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ |
وَلَا تُعَادِ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أن | تركع يوما والدهر قد رفعه |
(٢). الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع. وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر. واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها.
(٣). العثري (بفتح المهملة والثاء المثلثة المخففة وكسر الراء وتشديد الياء). قال ابن الأثير: (هو من النخيل الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة. وقيل: هو العذي (الزرع الذي لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده من المياه وقيل فيه غير ذلك). وقيل: هو ما يسقى سيحا والأول أشهر.
(٤). النضح (بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة): ما سقى من الآبار.
(٥). راجع ج ٧ ص ٩٩.
(٦). راجع ج ٨ ص ٢٤٤.
(٧). راجع ج ٢٠ ص ٢١.
(٢). الإشخاص: الرفع والتصويب: الخفض.
(٣). هصر ظهره: إي ثناه إلى الأرض.
(٤). راجع ج ١٢ ص ٩٨ [..... ]
(٢). قوله: (ولا نكفت): أي لا نضمها ونجمعها. يريد جمع الثوب باليدين عند الركوع والسجود.
(٢). الفذ: المنفرد.
(٢). النهز: الدفع. أي لا يقيمه من موضعه وهو بمعنى قوله بعده:" لا يريد إلا الصلاة".
(٢). يقر (بقاف مفتوحة) من القرار. وفي رواية (يقرا) بألف مقصورة أي يجمع، أو بهمزة من القراءة. وفي رواية (يغري) أي يلصق.
(٣). تلوم: تنتظر.
(٤). في الأصول: (ألا تغطوا... ) بحذف النون ولا مقتضى له.
قَبْلَ الْإِمَامِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: السُّنَّةُ فِيمَنْ سَهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي رُكُوعٍ أَوْ فِي سُجُودٍ أَنْ يَرْجِعَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا وَيَنْتَظِرَ الْإِمَامَ وَذَلِكَ خَطَأٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ به
(٢). الهيشة (مثل الهوشة): الاختلاط والمنازعة وارتفاع الأصوات.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢٠
[سورة البقرة (٢): آية ٤٤]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)
فيه تسع مسائل:
(٢). راجع ج ٣ ص ٢١٣.
(٣). راجع ج ٤ ص ٣١١.
(٤). راجع ج ٥ ص ٣٥١.
(٥). راجع ج ١١ ص ٨٥
(٢). سيأتي معنى (القصب). [..... ]
إِنَّ قَوْمًا يَأْمُرُونَا | بِالَّذِي لَا يَفْعَلُونَا |
لَمَجَانِينٌ وَإِنْ هُمْ | لَمْ يَكُونُوا يُصْرَعُونَا |
وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقًى | وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثيابك تسطع |
(٢). الزيادة من صحيح مسلم.
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ | عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمٌ |
وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا | فَإِنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ |
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى | بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ |
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى | طَبِيبٌ يُدَاوِي وَالطَّبِيبُ مَرِيضُ |
مَا أَقْبَحَ التَّزْهِيدَ مِنْ وَاعِظٍ | يُزَهِّدُ النَّاسَ وَلَا يَزْهَدُ |
لَوْ كَانَ فِي تَزْهِيدِهِ صَادِقًا | أَضْحَى وَأَمْسَى بَيْتُهُ الْمَسْجِدُ |
إِنْ رَفَضَ الدُّنْيَا فَمَا بَالُهُ | يَسْتَمْنِحُ النَّاسَ وَيَسْتَرْفِدُ |
وَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ عَلَى مَنْ تَرَى | يَنَالُهُ «٤» الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ |
(٢). راجع ج ٩ ص ٨٩.
(٣). كذا في الأصول. والصحيح أن الأبيات للجماز، وهو ابن أخت سلم بن عمرو الخاسر. يراجع الأغاني (ج ٤ ص ٧٦) طبع دار الكتب المصرية.
(٤). كذا في الأغاني. وفي الأصول: (يسعى له).
لَا هُمَّ رَبِّ إِنَّ بِكْرًا «٢» دُونَكَا | يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا |
أَكُونُ مَكَانَ الْبِرِّ مِنْهُ وَدُونَهُ «٣» | وَأَجْعَلُ مَالِي دُونَهُ وَأُوَامِرُهُ |
نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ | وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرًا |
(٢). كذا في البحر المحيط لابي حيان. وفي الأصول: (بكوا) بالواو. وفي تفسير الشوكاني: (إن يكونوا).
(٣). كذا في الأصول واللسان مادة (برر). وفي شرح القاموس: يكون مكان البر مني ودونه
(٤). راجع ج ٨ ص ١٩٩.
(٥). راجع ج ٦ ص ٤٢٦.
(٦). راجع ج ٣ ص ٢٠٨.
(٧). راجع ج ١٥ ص ٢٦٠
تسيل على حد السيوف «٢» نُفُوسُنَا | وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ |
نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا | أَبْيَاتَهُمْ تَامُورَ نَفْسِ الْمُنْذِرِ |
عَقْلًا وَرَقْمًا تَكَادُ الطَّيْرُ تَخْطَفُهُ | كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الْأَجْوَافِ مَدْمُومُ |
(٢). في اللسان: (حد الظبات).
(٣). هو أوس بن حجر يحرض عمرو بن هند على بني حنيفة وهم قتلة أبيه المنذر بن ماء السماء. أي حملوا دمه إلى أبياتهم. (عن اللسان).
[سورة البقرة (٢): آية ٤٥]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الصَّبْرُ: الْحَبْسُ فِي اللُّغَةِ وَقُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا أَيْ أُمْسِكَ وَحُبِسَ حَتَّى أُتْلِفَ وَصَبَّرْتُ نَفْسِي عَلَى الشَّيْءِ حَبَسْتُهَا. وَالْمَصْبُورَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمَحْبُوسَةُ عَلَى الْمَوْتِ وَهِيَ الْمُجَثَّمَةُ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً | تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ |
(٢). راجع ج ٢ ص ١٩١.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٤.
(٤). حزبه: أي نزل به مهم أو أصابه غم.
" [الزمر: ١٠] وَقَالَ" وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" «٣» [الشورى: ٤٣] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّابِرِينَ فِي قَوْلِهِ" إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ" [الزمر: ١٠] أَيِ الصَّائِمُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) فَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا مُقَدَّرًا كَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الصَّبْرِ. وَاللَّهُ أعلم.
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٠٢.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٤٤.
إن شرخ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الْأَسْ | وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كان جنونا |
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٠٩.
(٣). راجع ج ٨ ص ١٩٣.
(٤). هو حسان بن ثابت.
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ | فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بها لغريب |
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ | وَالصُّبْحُ وَالْمُسْيُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ |
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ | وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ |
(٢). هو ضابئ البرجمي كما في اللسان مادة (قير) والكامل للمبرد (ج ١ ص ١٨١ طبع أوربا.
(٣). هو الأضبط بن قريع السعدي عن اللسان مادة (مسا).
(٤). الذي في نهاية ابن الأثير مادة (خشع): (كانت الكعبة خشعة على الماء فدحيت منها الأرض).
[سورة البقرة (٢): آية ٤٦]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) " الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى النَّعْتِ لِلْخَاشِعِينَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ. وَالظَّنُّ هُنَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى" إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ" «٣» [الحاقة: ٢٠] وقوله:" فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها" «٤» [الكهف: ٥٣]. قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألفي مدجج | سراتهم في الفارسي المسرد |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٤٨.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٧٠.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣
رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتَهُ بِغَرِيمٍ | وَغُيُوبٍ كَشَفْتَهَا بِظُنُونِ |
[سورة البقرة (٢): آية ٤٧]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) تقدم «١» و (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) يُرِيدُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، وَأَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ عَالَمٌ. وَقِيلَ: عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ بِمَا جُعِلَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.
[سورة البقرة (٢): آية ٤٨]
وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
يوما شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا «٢»
أَيْ شَهِدْنَا فِيهِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هَذَا خَطَأٌ لَا يَجُوزُ حَذْفُ" فِيهِ" وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِيهِ نَفْسٌ ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُ الْهَاءِ لِأَنَّ الظُّرُوفَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ هَذَا رَجُلًا قَصَدْتُ وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَرْغَبُ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَصَدْتُ إِلَيْهِ وَأَرْغَبُ فِيهِ قَالَ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الَّذِي تَكَلَّمْتُ زَيْدٌ بِمَعْنَى تَكَلَّمْتُ فِيهِ زَيْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ يَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ الْهَاءُ وَفِيهِ وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَائِزَانِ عِنْدَ سيبويه والأخفش والزجاج وَمَعْنَى" لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً": أَيْ لَا تُؤَاخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ أُخْرَى وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا شَيْئًا تَقُولُ جَزَى عَنِّي هَذَا الْأَمْرُ يَجْزِي كَمَا تَقُولُ قَضَى عَنِّي وَاجْتَزَأْتُ بِالشَّيْءِ اجْتِزَاءً إِذَا اكْتَفَيْتُ بِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الْغَدْرَ فِي الْأَقْوَامِ عَارٌ | وَإِنَّ الْحُرَّ يَجْزَأُ بِالْكُرَاعِ |
(٢). سليم وعامر: قبيلتان من قيس عيلان
وَأَجْزَأْتَ أَمْرَ الْعَالَمِينَ وَلَمْ يَكُنْ | لِيُجْزِئَ إِلَّا كَامِلٌ وَابْنُ كَامِلِ |
(٢). يلاحظ أن جميع نسخ الأصل التي بأيدينا لم تذكر المسألة الاولى والثانية في هذه الآية.
" النَّفْسُ الْكَافِرَةُ لَا كُلُّ نَفْسٍ. وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِعُمُومِ الْعَذَابِ لِكُلِّ ظَالِمٍ عَاصٍ فَلَا نَقُولُ إِنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِّينَاهَا وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ" وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" «٥» [النساء: ٤٨] وَقَوْلِهِ" إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ" [يوسف: ٨٧]. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى " وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُرْتَضًى قُلْنَا لَمْ يَقُلْ لِمَنْ لَا يَرْضَى وَإِنَّمَا قَالَ" لِمَنِ ارْتَضى " وَمَنَ ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِلشَّفَاعَةِ هُمُ الْمُوَحِّدُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ" لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «٦» " [مريم ٨٧]. وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَهْدُ اللَّهِ مَعَ خَلْقِهِ قَالَ (أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِلَّا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنْ قَالُوا الْمُرْتَضَى هُوَ التَّائِبُ الَّذِي اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ اسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَقَالَ" فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ" [غافر: ٧] وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ التَّوْبَةِ دُونَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا: عِنْدَكُمْ يجب على الله تعالى قبول التوبة
(٢). راجع ج ١٩ ص ٨٦. [..... ]
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٨١.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٢٩٥.
(٥). راجع ج ٥ ص ٢٤٥.
(٦). راجع ج ١١ ص ١٥٣
(٢). راجع ج ١٨ ص ٨٩
(٣). هو الراعي يخاطب خيلا (عن اللسان).
ويوما شهدناه سُلَيْماً وعامرا٢
أي شهدنا فيه. وقال الكسائي : هذا خطأ لا يجوز حذف " فيه " ولكن التقدير : واتقوا يوما لا تجزيه نفس، ثم حذف الهاء. وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها قال : لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت، ولا رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال : ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد. وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه. وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. ومعنى " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول : جزى عني هذا الأمر يجزي، كما تقول : قضى عني واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به، قال الشاعر :
فإن الغدر في الأقوام عارٌ | وأن الحر يَجْزَأُ بالكُرَاعِ |
وأجزأت أمرَ العالمين ولم يكن | ليجزئ إلا كاملٌ وابنُ كامل |
فالشفاعة إذاً ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع.
الرابعة : مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق، وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب، والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين.
وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين، أحدهما : الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى.
والثاني : الإجماع من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول ولم يبد من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة.
فإن قالوا : قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " [ غافر : ١٨ ] قالوا : وأصحاب الكبائر ظالمون وقال " من يعمل سوءا يجز٥ به " [ النساء : ١٢٣ ] " ولا يقبل منها شفاعة " [ البقرة : ٤٨ ] قلنا : ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له، فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك، وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين " فما تنفعهم شفاعة الشافعين٦ " [ المدثر : ٤٨ ] وقال " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى٧ " [ الأنبياء : ٢٨ ] وقال " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له٨ " [ سبأ : ٢٣ ] فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة " النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها وبدليل قوله " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء٩ " [ النساء : ٤٨ ] وقوله " انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " [ يوسف : ٨٧ ].
فإن قالوا : فقد قال تعالى :" ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال " لمن ارتضى " ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون، بدليل قوله " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا١٠ " [ مريم ٨٧ ] وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما عهد الله مع خلقه قال ( أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا ) وقال المفسرون : إلا من قال لا إله إلا الله.
فإن قالوا : المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم، وقال " فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " [ غافر : ٧ ] وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا : عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله " فاغفر للذين تابوا " أي من الشرك " واتبعوا سبيلك " أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء : ٤٨ ].
فإن قالوا : جميع الأمة يرغبون في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم.
قلنا : إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص، فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم ( لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل : ولا أنت يا رسول الله فقال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ).
الخامسة : قوله تعالى :" ولا يقبل " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " تقبل " بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء على التذكير ؛ لأنها بمعنى الشفيع. وقال الأخفش : حسن التذكير لأنك قد فرقت، كما تقدم في قوله " فتلقى آدم من ربه كلمات١١ " [ البقرة : ٣٧ ].
السادسة : قوله تعالى :" ولا يؤخذ منها عدل " أي فداء. والعدل ( بفتح العين ) الفداء و( بكسرها ) المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر. ويقال : عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل ( بالكسر ) هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير.
قوله تعالى :" ولا هم ينصرون " أي يعانون والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه قوله " من أنصاري إلى الله١٢ " [ آل عمران : ٥٢ ] أي من يضم نصرته إلى نصرتي وانتصر الرجل أنتقم والنصر الإتيان يقال نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر١٣ :
إذا دخل الشهر الحرام فودِّعي | بلاد تميم وانصري أرضَ عامر |
إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْرا | لقائلٌ يا نصرُ نصراً نصرَا |
٢ سليم وعامر: قبيلتان من قيس عيلان..
٣ راجع صحيح مسلم، باب تحريم الظلم (ج ٢ ص ٢٨٣) طبع بولاق..
٤ راجع ج ١٨ ص ٢٧٠. يلاحظ أن جميع نسخ الأصل التي بأيدينا لم تذكر المسألة الأولى والثانية في هذه الآية..
٥ راجع ج ٥ ص ٣٩٦.
٦ راجع ج ١٩ ص ٨٦.
٧ راجع ج ١١ ص ٢٨١..
٨ راجع ج ١٤ ص ٢٩٥.
٩ راجع ج ٥ ص ٢٤٥.
١٠ راجع ج ١١ ص ١٥٣.
١١ راجع ص ٣٢٦.
١٢ راجع ج ١٨ ص ٨٩.
١٣ هو الراعي يخاطب خيلا (عن اللسان)..
إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي | بِلَادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ |
إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا | لَقَائِلٌ يَا نَصْرُ نَصْرًا نَصْرَا |
[سورة البقرة (٢): آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) " إِذْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفٌ عَلَى" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ". وَهَذَا وَمَا بَعْدَهُ تَذْكِيرٌ بِبَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي بِإِنْجَائِكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ فِيكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمَوْجُودِينَ وَالْمُرَادُ مَنْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ كَمَا قَالَ" إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ
" «١» [الحاقة: ١١] أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ" نَجَّيْناكُمْ" لِأَنَّ نَجَاةَ الْآبَاءِ كَانَتْ سَبَبًا لِنَجَاةِ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ وَمَعْنَى" نَجَّيْناكُمْ" أَلْقَيْنَاكُمْ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ فَائِزٍ نَاجِيًا. فَالنَّاجِي من خرج من ضيق إلى سعة وقرى" وَإِذْ نَجَّيْتُكُمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) " آلُ فِرْعَوْنَ" قَوْمُهُ وَأَتْبَاعُهُ وَأَهْلُ دِينِهِ. وَكَذَلِكَ آلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ فِي عَصْرِهِ وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ سَوَاءٌ كَانَ نَسِيبًا لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْ آلِهِ وَلَا أَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ نَسِيبَهُ وَقَرِيبَهُ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ حَيْثُ قَالَتْ إِنَّ آلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة
(٢). راجع ج ٩ ص ٤٦.
(٣). الزيادة عن صحيح مسلم.
(٤). قوله: يعني فلانا. وروى" ألا إن آل أبي فلان". قال النووي: (هذه الكناية هي من بعض الرواة خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة... قال القاضي عياض: قيل إن المكنى عنه هاهنا هو الحكم بن أبي العاص". والحكم هذا من النفر الذين كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته. راجع سيرة ابن هشام (ج ١ ص ٢٧٦) طبع أوربا.
(٥). الزيادة عن صحيح مسلم.
لاهمّ إن العبد يمن... ع رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ «١»
وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِي... بِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ
وَقَالَ نُدْبَةُ:
أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي... وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا
الْحَقِيقَةُ (بِقَافَيْنِ): مَا يَحِقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَحْمِيَهُ أَيْ تَجِبُ عَلَيْهِ حِمَايَتُهُ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَصْلِ آلِ فَقَالَ النَّحَّاسُ أَصْلُهُ أَهْلٌ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ الْهَاءِ أَلِفًا فَإِنْ صَغَّرْتَهُ رَدَدْتَهُ إِلَى أَصْلِهِ فَقُلْتَ: أُهَيْلٌ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَصْلُهُ أَوْلٌ. وَقِيلَ: أَهْلٌ قُلِبَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا. وَجَمْعُهُ آلُوَنَ وَتَصْغِيرُهُ أُوَيْلٌ فِيمَا حَكَى الْكِسَائِيُّ. وحكى غيره أهيل وقد ذكرناه عَنِ النَّحَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: إِذَا جَمَعْتَ آلًا قُلْتَ آلُونَ فَإِنْ جَمَعْتَ آلًا الَّذِي هُوَ السَّرَابُ قُلْتَ آوَالٌ مِثْلَ مَالٍ وَأَمْوَالٍ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِرْعَوْنَ) " فِرْعَوْنَ" قِيلَ إِنَّهُ اسْمُ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِعَيْنِهِ. وَقِيلَ اسْمُ كُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَمَالِقَةِ مِثْلَ كِسْرَى لِلْفُرْسِ وَقَيْصَرَ لِلرُّومِ وَالنَّجَاشِيِّ لِلْحَبَشَةِ وَإِنَّ اسْمَ فِرْعَوْنَ مُوسَى قَابُوسٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ الكتاب. وقال وهب أسمه الوليد ابن مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ وَيُكَنَّى أَبَا مُرَّةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عِمْلِيقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ الْقِبْطَ وَمِصْرَ فَهُوَ فِرْعَوْنُ. وَكَانَ فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ لَا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالْعَرَبِيَّةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فِرْعَوْنُ لَقَبُ الْوَلِيدِ بْنِ مُصْعَبٍ مَلِكُ مِصْرَ وَكُلُّ عَاتٍ فِرْعَوْنُ وَالْعُتَاةُ الْفَرَاعِنَةُ وَقَدْ تفر عن
إِذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا | أبينا أن نقر الخسف فِينَا |
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا | تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا |
(٢). راجع ج ١٣ ص ٧٦.) (
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى
أَيْ قَدِ انْتَحَى وَقَالَ آخَرُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ | وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ |
وامتحان. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ أَبْلَاهُ اللَّهُ وَبَلَاهُ وَأَنْشَدَ
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ | وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو «١» |
[سورة البقرة (٢): آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) " إِذْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَ" فَرَقْنَا" فَلَقْنَا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَأَصْلُ الْفَرْقِ الْفَصْلُ وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ وَمِنْهُ الْفُرْقَانُ لِأَنَّهُ يَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيْ يَفْصِلُ وَمِنْهُ" فَالْفارِقاتِ فَرْقاً" «٢» [المرسلات: ٤] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ومنه" يَوْمَ الْفُرْقانِ" «٣» [الأنفال: ٤١] يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ الحق والباطل ومنه" وَقُرْآناً فَرَقْناهُ" «٤» [الاسراء: ١٠٦] أَيْ فَصَّلْنَاهُ وَأَحْكَمْنَاهُ وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ:" فَرَّقْنَا" بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ جَعَلْنَاهُ فِرَقًا وَمَعْنَى" بِكُمُ" أَيْ لَكُمْ فَالْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ وَقِيلَ الْبَاءُ فِي مَكَانِهَا أَيْ فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ أَيْ صَارُوا بَيْنَ الْمَاءَيْنِ فَصَارَ الْفَرْقُ بِهِمْ وَهَذَا أولى يبينه" فَانْفَلَقَ"
(٢). راج ج ١٩ ص ١٥٣.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٠.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٣٣٩
وَقَدْ عَادَ مَاءُ الْأَرْضِ بَحْرًا فَزَادَنِي | إِلَى مَرَضِي أَنْ أَبْحَرَ الْمَشْرَبُ الْعَذْبُ |
وَأَغْرَقَهُ غَيْرُهُ وَغَرَّقَهُ فَهُوَ مُغْرَّقٌ وَغَرِيقٌ. وَلِجَامٌ مُغَرَّقٌ بِالْفِضَّةِ أَيْ مُحَلًّى. وَالتَّغْرِيقُ: الْقَتْلُ قَالَ الْأَعْشَى:
ألا ليت قيسا عرقته الْقَوَابِلُ «٣»
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَابِلَةَ كَانَتْ تُغَرِّقُ الْمَوْلُودَ فِي مَاءِ السَّلَى عَامَ الْقَحْطِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة
(٢). صدر البيت:
فأصبحوا في الماء والخنادق
(٣). المراد به قيس بن مسعود الشيباني. وصدر البيت:
أطورين في عام غزاة ورحلة
إِذَا غَرَّقَتْ أَرْبَاضُهَا ثِنْيَ بَكْرَةٍ | بِتَيْهَاءَ لَمْ تُصْبِحْ رَءُومًا سَلُوبُهَا |
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ إِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يُسْرِيَ مِنْ مِصْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرَهُمْ مُوسَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا الْحُلِيَّ وَالْمَتَاعَ مِنَ الْقِبْطِ وَأَحَلَّ اللَّهُ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَرَى بِهِمْ مُوسَى مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ فَأُعْلِمَ فِرْعَوْنُ فَقَالَ: لَا يَتْبَعُهُمْ أَحَدٌ حَتَّى تَصِيحَ الدِّيَكَةُ فَلَمْ يَصِحْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِمِصْرَ دِيكٌ وَأَمَاتَ اللَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَثِيرًا مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ فَاشْتَغَلُوا فِي الدَّفْنِ وَخَرَجُوا فِي الْأَتْبَاعِ مشرقين كما قال تعالى" فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ" «١» [الشعراء: ٦٠]. وَذَهَبَ مُوسَى إِلَى نَاحِيَةِ الْبَحْرِ حَتَّى بَلَغَهُ. وَكَانَتْ عِدَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَيِّفًا عَلَى سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ وَكَانَتْ عِدَّةُ فِرْعَوْنَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ. وَقِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ اتَّبَعَهُ فِي أَلْفِ أَلْفِ حِصَانٍ سِوَى الْإِنَاثِ وَقِيلَ دَخَلَ إِسْرَائِيلُ- وَهُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِصْرَ فِي سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ نَفْسًا مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ فَأَنْمَى اللَّهُ عَدَدَهُمْ وَبَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ حَتَّى خَرَجُوا إِلَى الْبَحْرِ يَوْمَ فِرْعَوْنَ وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ سِوَى الشُّيُوخِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حين أسرى إِسْرَائِيلَ بَلَغَ فِرْعَوْنَ فَأَمَرَ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا يُفْرَغُ مِنْ سَلْخِهَا حَتَّى تَجْتَمِعَ لِي سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ قَالَ: فَانْطَلَقَ مُوسَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ لَهُ افْرُقْ فَقَالَ لَهُ الْبَحْرُ: لَقَدِ اسْتَكْبَرْتَ يَا مُوسَى! وَهَلْ فَرَقْتُ لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ فَأَفْرُقَ لَكَ! قَالَ: وَمَعَ مُوسَى رَجُلٌ عَلَى حِصَانٍ لَهُ قَالَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قال ما أمر ت إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ: فَأَقْحَمَ فَرَسَهُ فَسَبَحَ فَخَرَجَ. فَقَالَ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِبْتَ ثُمَّ اقْتَحَمَ الثَّانِيَةَ فَسَبَحَ بِهِ حَتَّى خَرَجَ فَقَالَ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ مَا أُمِرْتُ
فَصْلٌ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْجَاءَ وَالْإِغْرَاقَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَوْمَ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ فِيهِ
فَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ) فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ) فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ (أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى منهم فصوموا).
مسألة [في صوم يوم عاشوراء]
ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا صَامَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ اقْتِدَاءً بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ما أخبر بِهِ الْيَهُودُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ صِيَامَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٧٧ وج ١٢ ص ١٠٥.
مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ هَلْ هُوَ التَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَوِ الْعَاشِرُ؟
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ التَّاسِعُ لِحَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبَحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا. قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ؟ قَالَ نَعَمْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ الْعَاشِرُ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ الْحَكَمِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِصِحَّةٍ وَلَا حُسْنٍ ثُمَّ أَرْدَفَهُ: أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ. وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ. قَالَ غَيْرُهُ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلسَّائِلِ: (فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا) لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ صَوْمِ الْعَاشِرِ بَلْ وَعَدَ أَنْ يَصُومَ التَّاسِعَ مُضَافًا إِلَى الْعَاشِرِ. قَالُوا: فَصِيَامُ الْيَوْمَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْحَكَمِ لَمَّا قَالَ لَهُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ؟ قَالَ نَعَمْ مَعْنَاهُ أَنْ لَوْ عَاشَ وَإِلَّا فَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ التَّاسِعَ قَطُّ. يُبَيِّنُهُ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ اليوم التاسع).
- رَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَا نَعْلَمُ في شي مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ) إِلَّا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ بِأَبْصَارِكُمْ فَيُقَالُ إِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ طَفَوْا عَلَى الْمَاءِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ يَغْرَقُونَ وَإِلَى أَنْفُسِهِمْ يَنْجُونَ فَفِي هَذَا أَعْظَمُ الْمِنَّةِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ أُخْرِجُوا لَهُمْ حَتَّى رَأَوْهُمْ فَهَذِهِ مِنَّةٌ بَعْدَ مِنَّةٍ وَقِيلَ الْمَعْنَى" وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" أَيْ بِبَصَائِرِكُمُ الِاعْتِبَارُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي شُغْلٍ عَنِ الْوُقُوفِ وَالنَّظَرِ بِالْأَبْصَارِ وَقِيلَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ بِحَالِ مَنْ يَنْظُرُ لَوْ نَظَرَ كَمَا تُقُولُ هَذَا الْأَمْرُ مِنْكَ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ أَيْ بِحَالٍ تَرَاهُ وَتَسْمَعُهُ إِنْ شِئْتَ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَوَالِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ فِيمَا صَدَرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْجَاهُمْ وَغَرَّقَ عَدُوَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ قُلُوبَنَا لَا تَطْمَئِنُّ إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ غَرِقَ! حَتَّى أَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَلَفَظَهُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ. ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَتْ: مَا مَاتَ فِرْعَوْنُ وَمَا كَانَ لِيَمُوتَ أَبَدًا! قَالَ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ «١» اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَمَى بِهِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَأَنَّهُ ثَوْرٌ أَحْمَرُ يَتَرَاءَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا وَبُعِثُوا مِنْ طَرِيقِ الْبَرِّ إِلَى مَدَائِنِ فِرْعَوْنَ حَتَّى نَقَلُوا كُنُوزَهُ وَغَرِقُوا فِي النِّعْمَةِ رَأَوْا قَوْمًا يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ حَتَّى زَجَرَهُمْ مُوسَى وَقَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي كَانَتْ مَسَاكِنَ آبَائِهِمْ وَيَتَطَهَّرُوا مِنْ أَرْضِ فِرْعَوْنَ. وَكَانَتِ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ فِي أَيْدِي الْجَبَّارِينَ قَدْ غُلِبُوا عَلَيْهَا فَاحْتَاجُوا إِلَى دَفْعِهِمْ عَنْهَا بِالْقِتَالِ فَقَالُوا أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَنَا لُحْمَةً لِلْجَبَّارِينَ! فَلَوْ أَنَّكَ تَرَكْتَنَا فِي يَدِ فرعون كان خيرا لنا قال" يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ" [المائدة: ٢١] إِلَى قَوْلِهِ" قاعِدُونَ" حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسْقِينَ فَبَقُوا فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَةً ثُمَّ رَحِمَهُمْ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّلْوَى وَبِالْغَمَامِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ ثُمَّ سَارَ مُوسَى إِلَى طور سيناء
[سورة البقرة (٢): آية ٥١]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١)
فِيهِ سِتُّ مسائل:
(٢). الأدرة (بالضم): نفخة في الخصية.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٢٥٠.
(٤). راجع ج ٦ ص ١٣٠
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢٩٧
(٢). كذا في الأصول واسم الجلالة زائد ولا يبعد أن يكون الأصل: عبد الله وهو معنى إسرائيل. راجع ص ٣٣١ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٣٦.
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٧٤ وص ٢٨٤.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٣٥
أَسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أَشْيَاعِهِمْ خَبَرًا | أَمْ رَاجَعَ الْقَلْبَ مِنْ أَطْرَابِهِ طَرَبُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٥٢]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) العفو: عفو الله عز وجل عَنْ خَلْقِهِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ وَقَبْلَهَا بِخِلَافِ الْغُفْرَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ عُقُوبَةٌ الْبَتَّةَ. وَكُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةً فَتُرِكَتْ لَهُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ فَالْعَفْوُ: مَحْوُ الذَّنْبِ أَيْ مَحَوْنَا ذُنُوبَكُمْ وَتَجَاوَزْنَا عَنْكُمْ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ أَيْ أَذْهَبَتْهُ وَعَفَا الشَّيْءُ كَثُرَ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" حَتَّى عَفَوْا". [الأعراف ٩٥]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ. وَسُمِّيَ الْعِجْلُ عِجْلًا لِاسْتِعْجَالِهِمْ عِبَادَتَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. وَالْعِجَّوْلُ مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ الْعَجَاجِيلُ وَالْأُنْثَى عِجْلَةٌ. عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كَيْ تَشْكُرُوا عَفْوَ اللَّهِ عَنْكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى لَعَلَّ «٣». وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الظهور من قول دَابَّةٌ شَكُورٌ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ وَحَقِيقَتُهُ الثَّنَاءُ على الإنسان بمعروف يوليكه. كما تقدم
(٢). راجع ص ٣٠٩. [..... ]
(٣). راجع ص ٢٢٧ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٧٦
[سورة البقرة (٢): آية ٥٣]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)" إذا" اسْمٌ لِلْوَقْتِ الْمَاضِي وَ" إِذَا" اسْمٌ لِلْوَقْتِ المستقبل و" آتينا" أَعْطَيْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا «١». وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْفُرْقَانِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: الْمَعْنَى آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ وَمُحَمَّدًا عليه السلام الفرقان قال النحاس: هذا خطاء الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّيْءِ مِثْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّيْءِ خِلَافَهُ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ تَعَالَى" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: يَكُونُ الْفُرْقَانُ هُوَ الْكِتَابَ أعيد ذكره ياسمين تَأْكِيدًا. وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَدَّمْتِ «٢» الْأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ | وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا |
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ | وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ |
حُيِّيَتِ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ | أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ |
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ | وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المزدحم |
(٢). الرواية المشهورة في البيت: (فقددت الأديم) وهو لعدي بن زيد. والقد: القطع. والأديم: الجلد. والراهشان: عرفان في باطن الذراع.
(٣). هو الحطيئة.
[سورة البقرة (٢): آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ" [الحجرات: ١١] ثم قال" وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ" [الحجرات: ١١] وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي | أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ |
(٢). راجع ص ١٦٠ من هذا الجزء.
إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوِّمِ | بِالدَّوِّ أَمْثَالَ السَّفِينِ الْعُوَّمِ «٢» |
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ | إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ «٣» |
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا
وَقَالَ الْآخَرُ:
رُحْتِ وَفِي رِجْلَيْكِ مَا فيهما | وقد بدا هنك من المئزر |
(٢). الدو (بفتح الدال وتشديد الواو): الصحراء. وأراد بأمثال السفين رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفن البحر.
(٣). المستحقب: المتكسب. والواغل: الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه. يقول هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به فلما أدرك ثأره حلت له بزعمه فلا يأثم بشربها إذ وفى بنذره فيها.
[سورة البقرة (٢): الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ) مَعْطُوفٌ" يَا مُوسى " نِدَاءٌ مُفْرَدٌ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ" أَيْ نُصَدِّقَكَ" حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً" قِيلَ: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَسْمَعَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ" [البقرة: ٥٥] وَالْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاجِبٌ بَعْدَ ظُهُورِ مُعْجِزَاتِهِمْ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَهُمْ ثُمَّ دَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَحْيَاهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى" ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ" [البقرة: ٥٦] وَسَتَأْتِي قِصَّةُ السَّبْعِينَ فِي الْأَعْرَافِ «٢» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ابْنُ فُورَكَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُعَاقَبَتُهُمْ لِإِخْرَاجِهِمْ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ عَنْ طَرِيقِهِ بقولهم لموسى" أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً" [النساء: ١٥٣] وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقْدُورِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَكْثَرُ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَى إِنْكَارِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَلَى جَوَازِهَا فِيهِمَا وَوُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَطْلُبُوا مِنَ الرؤية
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٩٤
(٢). راجع ص ٢١٩ من هذا الجزء.
وَفَتَيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ «١» | فَقَامُوا جَمِيعًا بَيْنَ عَاثٍ وَنَشْوَانَ |
وَصَحَابَةٍ شُمِّ الْأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ | لَيْلًا وَقَدْ مَالَ الْكَرَى بِطِلَاهَا «٢» |
[سورة البقرة (٢): آية ٥٧]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أَيْ جَعَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ كَالظُّلَّةِ. وَالْغَمَامُ جَمْعُ غَمَامَةٍ كَسَحَابَةٍ وَسَحَابٍ قَالَهُ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ غَمَائِمُ وَهِيَ السَّحَابُ لِأَنَّهَا تَغُمُّ السَّمَاءَ أَيْ تَسْتُرُهَا وَكُلُّ مُغَطًّى فَهُوَ مَغْمُومٌ وَمِنْهُ الْمَغْمُومُ على عقله. وغم الهلال
(٢). الطلى (بضم ففتح): الأعناق.
(٣). راجع ج ٣ ص ٢٣٠
(٢). الفحص: كل موضع يسكن. وفي حديث كعب:
(إن الله بارك في الشام وخص بالتقديس من فحص الأردن إلى رفح | ) وفحصه ما بسط منه وكشف من نواحيه. (عن القاموس والنهاية). |
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ | أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا |
لَوْ أَشْرَبُ السُّلْوَانَ مَا سَلَيْتُ | مَا بِي غِنًى عَنْكِ وإن غنيت «٥» |
(٢). هو خالد بن زهير.
(٣). هو مؤرج بن عمر السدوسي ويكنى أبا فيد. كان من أصحاب الخليل بن أحمد مات سنة خمس وتسعين ومائة.
(٤). عين السلوان: عين نضاخة يتبرك بها ويستشفى منها بالبيت المقدس. (عن معجم ياقوت).
(٥). البيت لرؤبة.
أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وَلَمْ يَذْكُرْ غَلَطًا. وَالسُّلْوَانَةُ (بِالضَّمِّ): خَرَزَةٌ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا صُبَّ عَلَيْهَا مَاءُ الْمَطَرِ فَشَرِبَهُ الْعَاشِقُ سَلَا قَالَ:
شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءَ مُزْنَةٍ... فَلَا وَجَدِيدُ الْعَيْشِ يَا مَيَّ مَا أَسْلُو
وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ السُّلْوَانُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السُّلْوَانُ دَوَاءٌ يُسْقَاهُ الْحَزِينُ فَيَسْلُو وَالْأَطِبَّاءُ يُسَمُّونَهُ الْمُفَرِّحَ. يُقَالُ: سَلَيْتُ وَسَلَوْتُ لُغَتَانِ. وَهُوَ فِي سَلْوَةٍ مِنَ الْعَيْشِ أَيْ فِي رَغَدٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي السَّلْوَى هَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ فَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ سَلْوَى مِثْلُ جَمَاعَتِهِ كَمَا قَالُوا: دِفْلَى «١» لِلْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَسُمَانَى وَشُكَاعَى «٢» فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُهُ سلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هِزَّةٌ «٣»... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوِي. السَّادِسَةُ-" السَّلْوَى" عَطْفٌ عَلَى" الْمَنِّ" وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الْإِعْرَابُ لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ. وَوَجَبَ هَذَا فِي الْمَقْصُورِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِهِ أَلِفٌ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَالْأَلِفُ حَرْفٌ هَوَائِيٌّ لَا مُسْتَقَرَّ لَهُ فَأَشْبَهَ الْحَرَكَةَ فَاسْتَحَالَتْ حَرَكَتُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ حُرِّكَتِ الْأَلِفُ صَارَتْ هَمْزَةً. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ)... " كُلُوا" فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَقُلْنَا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظَّاهِرِ عَلَيْهِ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا قَدْ جَمَعَتِ الْحَلَالَ واللذيذ.
(٢). الشكاعى (كحبارى وقد تفتح) من دق النبات وهي دقيقة العيدان صغيرة خضراء والناس يتداوون بها. [..... ]
(٣). في الأصول: (سلوة) وهو تحريف.
[سورة البقرة (٢): آية ٥٨]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) حُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ" قُلْنَا" لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا وَالْأَلِفُ الَّتِي يُبْتَدَأُ بِهَا قَبْلَ الدَّالِ أَلِفُ وَصْلٍ لِأَنَّهُ مِنْ يَدْخُلُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هذِهِ الْقَرْيَةَ) أَيْ الْمَدِينَةَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقَرَّتْ أَيْ اجْتَمَعَتْ وَمِنْهُ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ قِرًى (بِكَسْرِ الْقَافِ) مَقْصُورٌ. وَكَذَلِكَ مَا قُرِيَ بِهِ الضَّيْفُ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْمِقْرَاةُ لِلْحَوْضِ. وَالْقَرِيُّ لِمَسِيلِ الْمَاءِ. وَالْقَرَا لِلظَّهْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ «١»:
لَاحِقُ بَطْنٍ بِقَرًا سَمِينِ
وَالْمَقَارِي: الْجِفَانُ الْكِبَارُ قَالَ:
عِظَامُ الْمَقَارِي ضَيْفُهُمْ لَا يُفَزَّعُ
وَوَاحِدُ الْمَقَارِي مِقْرَاةٌ وَكُلُّهُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَالْقِرْيَةُ (بِكَسْرِ الْقَافِ) لُغَةُ الْيَمَنِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: أَرِيحَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ: كَانَتْ قَاعِدَةَ وَمَسْكَنَ مُلُوكٍ. ابْنُ كَيْسَانَ الشَّامُ. الضَّحَّاكُ: الرَّمْلَةُ وَالْأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ وَتَدْمُرُ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ أَبَاحَ لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبْوِبَةٍ... يَخْلِطُ بِالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّينَا
وَلَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَجُزْ. وَمِثْلُهُ قول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ- أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى). وَتَبَوَّبْتُ بَوَّابًا اتَّخَذْتُهُ وَأَبْوَابٌ مبوبة كما قالوا أصناف مصنفة. وهذا شي مِنْ بَابَتِكَ أَيْ يَصْلُحُ لَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السُّجُودِ «٢» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. والباب الذي أمروا بدخول هُوَ بَابٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِ"- بَابِ حِطَّةٍ" عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: بَابُ الْقُبَّةِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي إِلَيْهَا مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ وَ" سُجَّداً" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: منحنين ركوعا. وقيل متواضعين خشوعا لا على هية مُتَعَيِّنَةٍ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُولُوا) عَطْفٌ عَلَى ادْخُلُوا. (حِطَّةٌ) بِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ أَوْ يَكُونُ حِكَايَةً. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقُرِئَتْ" حِطَّةً" بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَحْطِطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً. قَالَ النَّحَّاسُ: الْحَدِيثُ «٣» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهُ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا مَغْفِرَةً تَفْسِيرٌ لِلنَّصْبِ أَيْ قُولُوا شَيْئًا يَحُطُّ ذُنُوبَكُمْ كَمَا يُقَالُ قُلْ خَيْرًا وَالْأَئِمَّةُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ وَهُوَ أَوْلَى فِي اللُّغَةِ لِمَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى بَدَّلَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: يُقَالُ بَدَّلْتُهُ أَيْ غَيَّرْتُهُ وَلَمْ أُزِلْ عَيْنَهُ. وَأَبْدَلْتُهُ أَزَلْتُ عَيْنَهُ وَشَخْصَهُ كَمَا قَالَ «٤»:
عزل الأمير للأمير المبدل
(٢). راجع ص ٣٤٥.
(٣). في الأصول: (قال النحاس جاء الحديث... ) والتصويب عن إعراب القرآن للنحاس. و (الحديث) مبتدأ وخبره (تفسير).
(٤). هو أبو النجم. (عن إعراب القرآن للنحاس).
فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّ | هُـ بِهَا ذَنْبَ عَبْدِهِ مَغْفُورًا |
(٢). الزيادة عن صحيح مسلم.
والقاتل إِذْ كُنْتَ لَا تُفِيدُ بِهِ إِلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ. وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: هَذَا رَسُولُ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى عَمْرٍو وَهَذَا قَتِيلُ زَيْدٍ الَّذِي قَتَلَهُ بِالْأَمْسِ أَوْ فِي وَقْعَةِ كَذَا. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
[سورة البقرة (٢): آية ٥٩]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا)... " الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ فَبَدَّلَ الظَّالِمُونَ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا حِطَّةٌ فَقَالُوا حِنْطَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَزَادُوا حَرْفًا فِي الْكَلَامِ فَلَقُوا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَقُوا تَعْرِيفًا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الشَّرِيعَةِ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ شَدِيدَةُ الضَّرَرِ. هَذَا فِي تَغْيِيرِ كَلِمَةٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ أَوْجَبَتْ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ فَمَا ظَنُّكَ بِتَغْيِيرِ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ! هَذَا وَالْقَوْلُ أَنْقَصُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَيْفَ بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَدَّلَ) تَقَدَّمَ مَعْنَى بَدَّلَ وَأَبْدَلَ وقرى" عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا" عَلَى الْوَجْهَيْنِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَبْدَلْتُ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ. وَبَدَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الخوف
تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ نَهْسًا وَحَزَّا «٢» | وَأَوْجَعَنِي الدَّهْرُ قَرْعًا وَغَمْزَا |
لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبًا | كَانَ الْغُرَابُ مُقَطَّعُ الْأَوْدَاجِ |
(٢). في بعض الأصول: (نهشا) بالشين المعجمة. والنهش: أن يتناول المرء الشيء بفمه لبعضه فيؤثر فيه ولا يجرحه. والنهس: القبض على اللحم ونتره أي جذبه.
لا أرى الموت يسبق الموت شي | نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا |
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ | وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
فِيهِ ثمان مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) كُسِرَتِ الذَّالُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالسِّينُ سِينُ السُّؤَالِ مِثْلُ: اسْتَعْلَمَ وَاسْتَخْبَرَ وَاسْتَنْصَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَيْ طَلَبَ وَسَأَلَ السَّقْيَ لِقَوْمِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال: «٣»
(٢). يراجع ص ٢٤٥ من هذا الجزء.
(٣). هو لبيد (كما في اللسان).
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى | نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ |
عَلَى عصويها «٣» سابري مشبرق
(٢). هو ذو الرمة. وصدر البيت:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه
(٣). عصويها: عرقوتي الدلو وهما الخشبتان اللتان يعترضان على الدلو كالصليب. والسابري: الدقيق من الثياب. والمشبرق: المخرق.
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى | كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ |
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا | فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ |
(٢). الذي في القاموس أن الياء تحرك وتسكن في العين بهذا المعنى.
[سورة البقرة (٢): آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فِي التِّيهِ حِينَ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَتَذَكَّرُوا عَيْشَهُمُ الْأَوَّلَ بِمِصْرَ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا نَتَانَى أَهْلَ كُرَّاثٍ وَأَبْصَالٍ وَأَعْدَاسٍ فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ «١» عِكْرِ السُّوءِ وَاشْتَاقَتْ طِبَاعُهُمْ إِلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فَقَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ. وَكَنَّوْا عَنِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِطَعَامٍ وَاحِدٍ وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَلِذَلِكَ قَالُوا: طَعَامٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: لِتَكْرَارِهِمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ غِذَاءً كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ هُوَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لِمُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى الْغِنَى فَيَكُونُ جَمِيعُنَا أَغْنِيَاءُ فَلَا يَقْدِرُ بَعْضُنَا عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَعْضٍ لِاسْتِغْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ كَانُوا فَهُمْ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْعَبِيدَ وَالْخَدَمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلى طَعامٍ) الطَّعَامُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُطْعَمُ وَيُشْرَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي" وَقَالَ" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" [المائدة: ٩٣] أَيْ مَا شَرِبُوهُ مِنَ الْخَمْرِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «٢». وَإِنْ كَانَ السَّلْوَى الْعَسَلُ- كَمَا حَكَى الْمُؤَرِّجُ- فَهُوَ مَشْرُوبٌ أَيْضًا. وَرُبَّمَا خُصَّ بِالطَّعَامِ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٩٣.
أَرُدُّ شُجَاعَ الْبَطْنِ لَوْ «١» تَعْلَمِينَهُ | وَأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بِالطُّعْمِ |
وَأَغْتَبِقُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ فَأَنْتِهِي | إِذَا الزَّادُ أَمْسَى لِلْمُزَلَّجِ «٢» ذَا طَعْمِ |
نَعَامًا بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُو | دِ مَا تَطْعَمُ النوم إلا صياما «٤» |
" مجزوم في مَعْنَى سَلْهُ وَقُلْ لَهُ: أَخْرِجْ يُخْرِجُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ
(٢). المزلج: من معانيه البخيل. والملزق بالقوم وليس منهم. وكلاهما محتمل.
(٣). أي يشبع الإنسان إذا شرب ماءها كما يشبع من الطعام.
(٤). كذا في نسخ الأصل. ووجرة (بفتح فسكون): موضع بين مكة والبصرة. والذي في كتب اللغة ومعاجم البلدان:
نعاما بخطمه صفر الخدو | د لا تطعم الماء إلا صياما |
فأما بنو عامر بالنسار | غداة لقونا فكانوا نعاما |
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا | وَنَفْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلَا |
كانت منازلهم إذ ذال ظَاهِرَةً | فِيهَا الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ |
وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ | طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ |
قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاجِدًا | وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ |
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي كَأَغْنَى وَاجِدٍ | نَزَلَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ «٢» |
وَقَالَ رَبِيئُهُمْ «٣» لَمَّا أَتَانَا | بِكَفِّهْ فُومَةٌ أَوْ فومتان |
(٢). في الأغاني (ج ٢١ ص ٢١١) طبع أوربا: (عن زراعة فول). وقيل البيت:
ولقد نظرت إلى الشموس ودونها | حرج من الرحمن غير قليل |
(٣). في بعض الأصول: (وقال رئيسهم). الربى. (ومثله الربيئة): العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه.
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ | نَجَوْتِ وَهَذَا تحملين طليق «١» |
أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلَامِ وَلَمْ أَزَلْ | أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوسًا إِلَيَّ وَعَادِسًا |
(٢). في بعض نسخ الأصل: (بملح).
لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا | دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ فِي الْعُلَبِ «٤» |
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ | بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ الليل قد فصلا |
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٣٦.
(٣). راجع ص ٣١٩.
(٤). البيت لجرير. والعلب: أقداح من جلود يحلب فيها اللبن ويشرب. يقول هي حضريه رقيقة العيش لا تلبس لبس الاعراب ولا تتغذى غذاءهم. (شرح الشواهد).
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ
وَضَرَبَ الْحَاكِمُ عَلَى الْيَدِ، أَيْ حَمَلَ وَأَلْزَمَ. وَالذِّلَّةُ: الذُّلُّ وَالصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ: الْفَقْرُ. فَلَا يُوجَدُ يَهُودِيٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا خَالِيًا مِنْ زِيِّ الْفَقْرِ وَخُضُوعِهِ وَمَهَانَتِهِ. وَقِيلَ: الذِّلَّةُ فَرْضُ الْجِزْيَةِ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَالْمَسْكَنَةُ الْخُضُوعُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّكُونِ، أَيْ قَلَّلَ الْفَقْرُ حَرَكَتَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذِّلَّةُ الصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْقَبَالَاتِ «١». قوله تعالى: (وَباؤُ) أَيِ انْقَلَبُوا وَرَجَعُوا، أَيْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قول عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ: (أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ) أَيْ أُقِرُّ بِهَا وَأُلْزِمُهَا نَفْسِي. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ، يُقَالُ بَاءَ بِكَذَا، أَيْ رَجَعَ بِهِ، وَبَاءَ إِلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَنْزِلُ أَيْ رَجَعَ. وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ بِالْقَوَدِ. وَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَوَاءٌ، أَيْ سَوَاءٌ، يَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: «٢»
أَلَا تَنْتَهِي عَنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي... مَحَارِمَنَا لَا يَبْوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ
أَيْ لَا يَرْجِعُ الدَّمُ بِالدَّمِ فِي الْقَوَدِ. وَقَالَ:
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا... وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ «٣» مُصَفَّدِينَا
أَيْ رَجَعُوا وَرَجَعْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ معنى الغضب في الفاتحة «٤».
(٢). هو جابر بن جبير التغلبي (عن شرح الشواهد).
(٣). البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي ولا شاهد فيه إذ الرواية فيه: (فآبوا... وأبنا) ومادة (آب) غير مادة (باء) وإن كان معنى المادتين واحدا.
(٤). راجع ص ١٤٩. [..... ]
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ | بِالْحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا |
لَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاقُ الْحَصَى | مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ |
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ...
وَلَمْ يُؤْثَرْ في ذلك إنكار.
(٢). هو أوس بن حجر (كما في اللسان).
[سورة البقرة (٢): الآيات ٦٢ الى ٦٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥)
فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ. كَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ جَمِيعِهِمْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هادُوا) مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودًا، نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَلَبَتِ الْعَرَبُ الذَّالَ دَالًا، لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّةَ إِذَا عُرِّبَتْ غُيِّرَتْ
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ
أَيْ تائب. وفى التنزيل:" إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ" [الأعراف: ١٥٦] أَيْ تُبْنَا. وَهَادَ الْقَوْمُ يَهُودُونَ هَوْدًا وَهِيَادَةً إِذَا تَابُوا. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ:" هُدْنا إِلَيْكَ" أَيْ سَكَنَّا إِلَى أَمْرِكَ. وَالْهَوَادَةُ السُّكُونُ وَالْمُوَادَعَةُ. قال: ومنه قول تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا". وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ:" هَادَوْا" بِفَتْحِ الدَّالِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالنَّصارى) جَمْعٌ وَاحِدُهُ نَصْرَانِيٌّ. وَقِيلَ: نَصْرَانُ بِإِسْقَاطِ الْيَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالْأُنْثَى نَصْرَانَةٌ، كَنَدْمَانَ وَنَدْمَانَةٍ. وَهُوَ نَكِرَةٌ يُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ «١»:
صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ | سَاقِي نَصَارَى قُبَيْلَ الْفِصْحِ «٢» صُوَّامُ |
تَرَاهُ إِذَا دَارَ الْعِشَا مُتَحَنِّفًا | وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شَامِسُ |
فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا | كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ «٣» |
(٢). في نسخ الأصل: (الصبح) بالباء. والتصويب عن كتاب سيبويه. والفصح. فطر النصارى وهو عيد لهم.
(٣). البيت لابي الاخرز الحمائي يصف ناقتين طأطأتا رءوسهما من الإعياء. فشبه رأس الناقة برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. (عن شرح القاموس واللسان).
لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارًا | شمرت عن ركبتي الإزار |
وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ:" مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ" [آل عمران: ٥٢]. الرباعة- قوله تعالى: (وَالصَّابِئِينَ) جمع صَابِئٍ، وَقِيلَ: صَابٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي هَمْزِهِ، وَهَمَزَهُ الْجُمْهُورُ إِلَّا نَافِعًا. فَمَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ من صبأت النجوم إذا طلعت، وصابت ثَنِيَّةُ الْغُلَامِ إِذَا خَرَجَتْ. وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ جَعَلَهُ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ. فَالصَّابِئُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ. فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ. الْخَامِسَةُ- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ وَلِأَجْلِ كِتَابِهِمْ جَازَ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَأَكْلُ طَعَامِهِمْ- عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمَائِدَةِ «١» - وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي، سُورَةِ" بَرَاءَةَ" «٢» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَهُ إِسْحَاقُ بن رَاهْوَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا بَأْسَ بِذَبَائِحِ الصَّابِئِينَ لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَةِ نِسَائِهِمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى، إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوُ مَهَبِّ الْجَنُوبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: هُمْ قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَقْرَءُونَ الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد
(٢). راجع ج ٨ ص ١١٠.
أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا | وَقُولَا لَهَا عُوجِيَ عَلَى مَنْ تخلفوا |
تعال فإن عاهدتني لَا تَخُونُنِي | نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ |
[تفسير]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) هَذِهِ الْآيَةُ تُفَسِّرُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" «١» [الأعراف: ١٧١]. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى زَعْزَعْنَاهُ فَاسْتَخْرَجْنَاهُ مِنْ مكانه. قال: وكل شي قَلَعْتَهُ فَرَمَيْتَ بِهِ فَقَدْ نَتَقْتَهُ. وَقِيلَ: نَتَقْنَاهُ رَفَعْنَاهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّاتِقُ الرَّافِعُ، وَالنَّاتِقُ الْبَاسِطُ، وَالنَّاتِقُ الْفَاتِقُ. وَامْرَأَةٌ نَاتِقٌ وَمُنْتَاقٌ: كَثِيرَةُ الْوَلَدِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ نَتْقِ السِّقَاءِ، وَهُوَ نَفْضُهُ حَتَّى تُقْتَلَعَ الزُّبْدَةَ مِنْهُ. قَالَ وَقَوْلُهُ:" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" قَالَ: قُلِعَ مِنْ أَصْلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الطُّورِ، فَقِيلَ: الطُّورُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ التَّوْرَاةَ دُونَ غَيْرِهِ، رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ أَنَّ الطُّورَ مَا أَنْبَتَ مِنَ الْجِبَالِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يُنْبِتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيُّ جَبَلٍ كَانَ. إِلَّا أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ مُفْرَدَةٌ غَيْرُ مُعَرَّبَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «٢». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَزَعَمَ الْبَكْرِيُّ أَنَّهُ سُمِّيَ بِطُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْقَوْلُ فِي سَبَبِ رَفْعِ الطُّورِ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ قَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا. فَقَالُوا: لَا! إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا كَمَا كَلَّمَكَ. فَصُعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا. فَقَالُوا لَا. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا من جبال فلسطين طوله
(٢). راجع ص ٦٨ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ٢ ص ٤١.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٧٠)
(
[تفسير]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) " عَلِمْتُمُ" مَعْنَاهُ عَرَفْتُمْ أَعْيَانَهُمْ. وَقِيلَ: عَلِمْتُمْ أَحْكَامَهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى ذَاتِ الْمُسَمَّى. وَالْعِلْمُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُسَمَّى. فَإِذَا قُلْتَ: عَرَفْتُ زَيْدًا، فَالْمُرَادُ شَخْصُهُ. وَإِذَا قُلْتَ: عَلِمْتُ زَيْدًا، فَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ مِنْ فَضْلٍ وَنَقْصٍ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ:" عَلِمْتُمُ" بِمَعْنَى عَرَفْتُمْ. وَعَلَى الثَّانِي إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ زَيْدًا وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُهُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ" [الأنفال: ٦٠]. كُلُّ هَذَا بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، فَاعْلَمْ." الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ" [البقرة: ٦٥] صِلَةُ" الَّذِينَ". وَالِاعْتِدَاءُ. التَّجَاوُزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». الثَّانِيَةُ- رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ لَوْ سَمِعَكَ! فَإِنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَعْيُنٍ «٣». فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَقَالَ لَهُمْ: (لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تمشوا ببري إِلَى سُلْطَانٍ وَلَا تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَةَ وَلَا تُوَلُّوا يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةُ يَهُودَ أَلَّا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ (. فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قال:) فما
(٢). راجع ص ٤٣٢.
(٣). الذي في نسخة النسائي: (لو سمعك كان له أربعة أعين) مع تأنيث العدد أيضا.
(٢). الوهق (بالتحريك وتسكن الهاء): الحبل في طرفيه أنشوطة تطرح في عنق الدابة أو الإنسان حتى تؤخذ. والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها كعقدة التكة عند جذبها. راجع ج ٧ ص ٣٠٦.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٠٧
(٢). في الأصول: (ممسوخهم). والتصويب عن أحكام القرآن لابن العربي.
[سورة البقرة (٢): آية ٦٦]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَعَلْناها نَكالًا) نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَفِي الْمَجْعُولِ نَكَالًا أَقَاوِيلُ، قِيلَ: الْعُقُوبَةُ. وَقِيلَ: الْقَرْيَةُ، إِذْ مَعْنَى الْكَلَامِ يَقْتَضِيهَا. وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الَّتِي مُسِخَتْ. وَقِيلَ: الْحِيتَانُ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالنَّكَالُ: الزَّجْرُ وَالْعِقَابُ. وَالنِّكْلُ وَالْأَنْكَالُ: الْقُيُودُ. وَسُمِّيَتِ الْقُيُودُ أَنْكَالًا لِأَنَّهَا يُنْكَّلُ بِهَا، أَيْ يُمْنَعُ. وَيُقَالُ لِلِّجَامِ الثَّقِيلِ: نَكْلٌ «٣» وَنِكْلٌ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ تُمْنَعُ بِهِ. وَنَكَلَ عَنِ الْأَمْرِ يَنْكُلُ، وَنَكِلَ يَنْكَلُ إِذَا امْتَنَعَ. وَالتَّنْكِيلُ: إِصَابَةُ الْأَعْدَاءِ بِعُقُوبَةٍ تُنَكِّلُ مَنْ وَرَاءَهُمْ، أَيْ تُجَبِّنُهُمْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النَّكَالُ الْعُقُوبَةُ. ابْنُ دُرَيْدٍ: وَالْمَنْكَلُ: الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال: «٤»
فارم على أقفائهم بمنكل
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٥٣.
(٣). هذه الكلمة موجودة في بعض نسخ الأصل، ومعاجم اللغة لا تؤيده. والذي بها إنما هو بالكسر لا غير.
(٤). القائل رياح المؤملي. وقبله:
يا رب أشقاني بنو مؤمل
وبعده:
بصخرة أو عرض جيش جحفل
(عن شرح القاموس).
[سورة البقرة (٢): آية ٦٧]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ" يَأْمُرْكُمْ" بِالسُّكُونِ، وَحَذْفِ الضَّمَّةِ مِنَ الرَّاءِ لِثِقَلِهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفُ الْإِعْرَابِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَخْتَلِسُ الْحَرَكَةَ." أَنْ تَذْبَحُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" يَأْمُرُكُمْ" أَيْ بِأَنْ تَذْبَحُوا." بَقَرَةً" نَصْبٌ بِ" تَذْبَحُوا". وَقَدْ تَقَدَّمَ «١» مَعْنَى الذبح فلا معنى لإعادته.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٤٦.
(٣). راجع ج ٦ ص ٥٤
(٢). سيتكلم المؤلف رحمه الله على القسامة وحكمها عند قوله تعالى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) راجع ص ٤٥٧ من هذا الجزء.
(٣). راجع ص ٢٠٧.
[سورة البقرة (٢): آية ٦٨]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) هَذَا تَعْنِيتٌ مِنْهُمْ وَقِلَّةُ طَوَاعِيَةٍ، وَلَوِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلُغَةُ بَنِي عَامِرٍ" ادْعُ". وقد تقدم «١». و (يبينن) مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (مَا هِيَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَمَاهِيَّةُ الشَّيْءِ: حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِبَقَرَةٍ اقْتَضَى أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَلَمَّا زَادَ فِي الصِّفَةِ نَسَخَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِابْنَةِ لَبُونٍ أَوْ حِقَّةٍ. وَكَذَلِكَ ها هنا لَمَّا عَيَّنَ الصِّفَةَ صَارَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْفَارِضُ: الْمُسِنَّةُ. وَقَدْ فَرَضَتْ تَفْرِضُ فُرُوضًا، أَيْ أَسَنَّتْ. وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْقَدِيمِ فَارِضٌ، قَالَ الرَّاجِزُ:
شَيَّبَ أَصْدَاغِي فَرَأْسِي أَبْيَضُ | مَحَامِلُ «٢» فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ |
لَعَمْرُكَ «٣» قَدْ أَعْطَيْتَ جَارَكَ فَارِضًا | تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ |
يا رب ذي ضغن علي فارض | له قروء كقروء الحائض |
(٢). في الصحاح للجوهري: (محافل) بالفاء وفيه رواية أخرى رواها ابن الاعرابي هي:
محامل بيض وقوم فرض
يريد أنهم ثقال كالمحامل. راجع اللسان مادة (فرض).
(٣). رواية اللسان: (لعمري لقد) وذكر أنه لعلقمة بن عوف، وقد عنى بقرة هرمة.
يَا بِكْرُ بِكْرَيْنِ وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ | أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرَاعٍ مِنْ عَضُدْ |
كُمَيْتٌ بَهِيمُ اللَّوْنِ لَيْسَ بِفَارِضٍ | وَلَا بِعَوَانٍ ذَاتُ لَوْنٍ مُخَصَّفٍ فَرَسٌ |
إِذَا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ | ضَرُوسٌ تُهِرُّ «١» النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٦٩]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها) " مَا" اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأَةٌ وَ" لَوْنُها" الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ نَصْبُ" لَوْنُهَا" بِ"- يُبَيِّنُ"، وَتَكُونُ" مَا" زَائِدَةٌ. وَاللَّوْنُ وَاحِدُ الْأَلْوَانِ وَهُوَ هَيْئَةٌ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ. وَاللَّوْنُ: النَّوْعُ. وَفُلَانٌ مُتَلَوِّنٌ: إِذَا كَانَ لا يثبت على خلق وَاحِدٍ وَحَالٍ وَاحِدٍ، قَالَ:
كُلُّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنُ | غَيْرَ هَذَا بِكَ أَجْمَلُ |
تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي | هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ |
[سورة البقرة (٢): آية ٧٠]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) سَأَلُوا سُؤَالًا رَابِعًا، وَلَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ بَعْدَ الْبَيَانِ. وَذَكَرَ الْبَقَرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:" إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا" فَذَكَّرَهُ لِلَّفْظِ تَذْكِيرِ الْبَقَرِ. قَالَ قُطْرُبٌ: جَمْعُ الْبَقَرَةِ بَاقِرٌ وَبَاقُورٌ وَبَقَرٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْبَاقِرُ جَمْعُ بَاقِرَةٍ، قَالَ: وَيُجْمَعُ بَقَرٌ عَلَى بَاقُورَةٍ، حَكَاهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنَّ جِنْسَ الْبَقَرِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ، وَالْأَعْرَجُ فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ" إِنَّ الْبَقَرَ تَشَّابَهَ" بِالتَّاءِ وَشَدِّ الشِّينِ، جَعَلَهُ فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا وَأَنَّثَهُ. وَالْأَصْلُ تَتَشَابَهُ، ثُمَّ أُدْغِمَ التَّاءُ فِي الشِّينِ. وَقَرَأَ مجاهد" تشبه" كقراءتهما،
[سورة البقرة (٢): آية ٧١]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ" لَا ذَلُولٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ:" لَا ذَلُولٌ" نَعْتُهُ وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ" لَا ذَلُولَ" بِالنَّصْبِ عَلَى النَّفْيِ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ. وَيَجُوزُ لَا هِيَ ذَلُولٌ، لَا هِيَ تَسْقِي الْحَرْثَ، هِيَ مُسَلَّمَةٌ. وَمَعْنَى" لَا ذَلُولٌ" لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ، يُقَالُ: بَقَرَةٌ مُذَلَّلَةٌ بَيِّنَةُ الذِّلِّ (بِكَسْرِ الذَّالِ). وَرَجُلٌ ذَلِيلٌ بَيِّنُ الذُّلِّ (بِضَمِّ الذَّالِ). أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ صَعْبَةٌ غَيْرُ رَيِّضَةٍ لَمْ تُذَلَّلْ بالعمل.
يُهِيلُ وَيُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ | إِثَارَةَ نَبَّاثِ «١» الْهَوَاجِرِ مُخْمِسِ |
(٢). في نهاية ابن الأثير: (فإن فيه).
(٣). راجع ص ٤٤٩.
[سورة البقرة (٢): آية ٧٢]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) هَذَا الْكَلَامُ مُقَدَّمٌ عَلَى أَوَّلِ الْقِصَّةِ، التَّقْدِيرُ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا. فَقَالَ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً" [الكهف: ٢ ١] أي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَوَّلَ القصة.
[سورة البقرة (٢): آية ٧٣]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها)
قِيلَ: بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ آلَةُ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بِعَجْبِ الذَّنَبِ، إِذْ فِيهِ يُرَكَّبُ خَلْقُ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: بِالْفَخِذِ. وَقِيلَ: بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَلَمَّا ضُرِبَ بِهِ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ. مَسْأَلَةٌ: اسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي. وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالُوا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي، خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ دَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْصُومٌ مَمْنُوعٌ إِبَاحَتُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ قَوْلِ الْمَقْتُولِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. وَأَمَّا قَتِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانَتْ مُعْجِزَةً وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِقَاتِلِهِ خَبَرًا جَزْمًا لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ، فَافْتَرَقَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُعْجِزَةُ كَانَتْ فِي إِحْيَائِهِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ إِلَّا مَالِكٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ، فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: كَيْفَ يُقْبَلُ قوله في الدم وهؤلاء لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دِرْهَمٍ. مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحُكْمِ بِالْقَسَامَةِ، فَرُوِيَ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ «١» التَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ بِهَا. وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِحَدِيثِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ بِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَبْدَأُ فِيهَا الْمُدَّعُونَ بِالْأَيْمَانِ فَإِنْ حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا، وَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِءُوا. هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت
(٢). كذا ورد هذا الحديث في بعض نسخ الأصل وصحيح مسلم. قال ابن الملك: إنما ذكر اليمين فقط لأنها هي الحجة في الدعوى آخرا وإلا فعلى المدعى إقامة البينة أولا.
واختاره ابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِيهِ يَمِينٌ. ثُمَّ مَقْصُودُ هَذِهِ
أَيْ كَمَا أَحْيَا هَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ)
أَيْ عَلَامَاتِهِ وَقُدْرَتَهُ. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
كَيْ تَعْقِلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». أَيْ تَمْتَنِعُونَ مِنْ عِصْيَانِهِ. وَعَقَلْتُ نَفْسِي عَنْ كَذَا أَيْ منعتها منه والمعاقل: الحصون.
[سورة البقرة (٢): آية ٧٤]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ وَالشِّدَّةُ وَالْيُبْسُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّهَا مِنَ الْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ لِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وغيرهما:
(٢). راجع ص ٢٢٦ من هذا الجزء
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا
أَيْ وَكَانَتْ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَلْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ" «٢» [الصافات: ١٤٧] الْمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى | وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ «٣» |
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا | وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا |
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ | وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيًّا |
(٢). راجع ١٥ ص ١٣٠.
(٣). راجع البيت في خزانة الأدب في الشاهد ٨٩٥. [..... ]
(٤). راجع ج ١٤ ص ٢٩٨
(٢). الوظيف: مستدق الذراع والساق. وقيل: ما فوق الرسغ إلى الساق.
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ | سُوَرُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ |
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) " بِغافِلٍ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَعَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. والياء تَوْكِيدٌ." عَمَّا تَعْمَلُونَ" أَيْ عَنْ عَمَلِكُمْ حَتَّى لَا يُغَادِرَ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ،" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" «٥» [الزلزلة: ٧، ٨]. وَلَا تَحْتَاجُ" مَا" إِلَى عَائِدٍ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَيُحْذَفُ الْعَائِدُ لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ عَنِ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" يَعْمَلُونَ" بِالْيَاءِ، وَالْمُخَاطَبَةُ عَلَى هَذَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السلام.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٥٣.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٤٤.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٦٧.
(٥). راجع ج ٢٠ ص ١٥٠.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
[تتمة تفسير سورة البقرة][سورة البقرة (٢): آية ٧٥]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ" هَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ أَيْأَسَهُمْ مِنْ إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْيَهُودِ، أَيْ إِنْ كَفَرُوا فَلَهُمْ سَابِقَةٌ فِي ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ لَهُمْ حِرْصٌ عَلَى إِسْلَامِ الْيَهُودِ لِلْحِلْفِ وَالْجِوَارِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّوءِ الَّذِينَ مَضَوْا. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا، نُصِبَ بِأَنْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ. يُقَالُ: طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعِيَةً- مُخَفَّفٌ- فَهُوَ طَمِعٌ، عَلَى وَزْنِ فَعِلٌ. وَأَطْمَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَيُقَالُ فِي التَّعَجُّبِ: طَمُعَ الرَّجُلُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- أَيْ صَارَ كَثِيرَ الطَّمَعِ. وَالطَّمَعُ: رِزْقُ الْجُنْدِ، يُقَالُ: أَمَرَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بِأَطْمَاعِهِمْ، أَيْ بِأَرْزَاقِهِمْ. وَامْرَأَةٌ مِطْمَاعٌ: تُطْمِعُ وَلَا تُمَكِّنُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ" الْفَرِيقُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَجَمْعُهُ فِي أَدْنَى الْعَدَدِ أَفْرِقَةٌ، وَفِي الْكَثِيرِ أَفْرِقَاءُ." يَسْمَعُونَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ خَبَرُ" كانَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ" مِنْهُمْ"، وَيَكُونَ" يَسْمَعُونَ" نَعْتًا لِفَرِيقٍ، وَفِيهِ بُعْدٌ." كَلامَ اللَّهِ" قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" كَلِمَ اللَّهِ" عَلَى جَمْعِ كَلِمَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ نَاسًا مِنْ رَبِيعَةَ يَقُولُونَ" مِنْهِمْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْمِيمِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسَكَّنُ حَاجِزًا حَصِينًا عِنْدَهُ." كَلامَ اللَّهِ" مَفْعُولٌ بِ" يَسْمَعُونَ". وَالْمُرَادُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ
(٢). الشبور (على وزن التنور): البوق.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٨٠.
(٤). راجع ج ١١ ص ١٧٢.
[سورة البقرة (٢): الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا" هذا الْمُنَافِقِينَ. وَأَصْلُ" لَقُوا" لَقِيُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢»." وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ" الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبَ بِهِ آبَاؤُهُمْ، فَقَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ:" أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ" أَيْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، لِيَقُولُوا نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا نَازَلَ قُرَيْظَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَمِعَ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَبْلُغْ إِلَيْهِمْ، وَعَرَضَ لَهُ، فَقَالَ:" أَظُنُّكَ سَمِعْتَ شَتْمِي مِنْهُمْ لَوْ رَأَوْنِي لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ" وَنَهَضَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمْسَكُوا، فَقَالَ لَهُمْ: (أَنَقَضْتُمُ الْعَهْدَ يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَخْزَاكُمُ الله وأنزل بكم نقمته) فقالوا:
(٢). راجع ج ١ ص ٢٠٦ طبعه ثانية
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٥١.
(٣). راجع ص ٢٦ من هذا الجزء
(٤). راجع ج ٧ ص ٣٨٦.
(٥). راجع ج ١٥ ص ٢٥٤
[سورة البقرة (٢): آية ٧٨]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ" أَيْ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ أُمِّيُّونَ، أَيْ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَاحِدُهُمْ أُمِّيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ أُمَّهَاتِهَا لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَةَ وَلَا قِرَاءَتَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأُمِّ الْكِتَابِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ أُمِّيُّونَ لِنُزُولِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ. عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، رُفِعَ كِتَابُهُمْ لِذُنُوبٍ ارْتَكَبُوهَا فَصَارُوا أُمِّيِّينَ. عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ الْمَجُوسُ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى" لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ"" إِلَّا" هَا هُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ" «١». وَقَالَ النَّابِغَةُ:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ «٢» | وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ |
وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أَوْ يَكْشِفُ الْعَمَى | ثَلَاثُ الأثافي والرسوم البلاقع «٤» |
(٢). المثنوية: الاستثناء في اليمين
(٣). هو ذو الرمة، كما في ديوانه.
(٤). الأثافي (جمع أثفية، بضم الهمزة وكسرها وسكون الثاء وتشديد الياء): الحج الذي توضع عليه القدر. والرسوم: بقايا الأبنية. والبانقع (جمع بلقع)؟؟: الخراب.
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ | وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ |
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ | تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ |
لَا تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ فِي حَرَمٍ | حَتَّى تُلَاقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ الْمَانِي «٢» |
(٢). نسب شارح القاموس هذا البيت لسويد بن عامر المصطلقي.
[سورة البقرة (٢): آية ٧٩]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ:" فَوَيْلٌ" اخْتُلِفَ فِي الْوَيْلِ «٥» مَا هُوَ، فَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ الْوَيْلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بين
(٢). راجع ص ١٠ من هذا الجزء. [..... ]
(٣). راجع ج ١١ ص ١٥٣.
(٤). راجع ص ١١ من هذا الجزء.
(٥). قال أبو حيان في البحر المحيط بعد أن ذكر الأقوال التي وردت في معنى الويل:" لو صح في التفسير الويل شي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجب المصير إليه، وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظ الويل قبل أن يجئ القرآن ولم تطلقه على شي من هذا التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره به أهل اللغة".
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمَّ هَاشِمٍ
وَقَالَ أَيْضًا:
فَقَالَتْ لك الويلات إنك مرجلى
وارتفع" فَوَيْلٌ" بِالِابْتِدَاءِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ وَيْلًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَصْلُ فِي الْوَيْلِ" وَيْ" أَيْ حُزْنٌ، كَمَا تَقُولُ: وَيْ لِفُلَانٍ، أَيْ حُزْنٌ لَهُ، فَوَصَلَتْهُ الْعَرَبُ بِاللَّامِ وَقَدَّرُوهَا مِنْهُ فَأَعْرَبُوهَا. وَالْأَحْسَنُ فِيهِ إِذَا فُصِلَ عَنِ الْإِضَافَةِ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُقُوعَ. وَيَصِحُّ النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ يُسْمَعْ عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا وَيْحُ وَوَيْسُ وَوَيْهُ وَوَيْكُ وَوَيْلُ وَوَيْبُ، وَكُلُّهُ يَتَقَارَبُ فِي الْمَعْنَى. وقد فرق بينها انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، إذا أَدْخَلْتَ اللَّامَ رَفَعْتَ فَقُلْتَ: وَيْلٌ لَهُ، وَوَيْحٌ له. الثانية- قوله تعالى:" لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ" الكأبة مَعْرُوفَةٌ. وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ وَخَطَّ بِهِ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، خَرَّجَهُ الْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ الْخَطَّ فَصَارَ وراثة في ولده.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٤١٨
[سورة البقرة (٢): آية ٨٠]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠)فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" يَعْنِي الْيَهُودَ." لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً" اخْتُلِفَ، فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، فَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ: (مَنْ أَهْلُ النَّارِ). قَالُوا: نَحْنُ، ثُمَّ تَخْلُفُونَا أَنْتُمْ. فَقَالَ: (كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنا لا نخلفكم) فنزلت هذه الآية، قال ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافٍ، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ النَّاسُ فِي النَّارِ لِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمٌ وَاحِدٌ فِي النَّارِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً حَتَّى يُكْمِلُوهَا وَتَذْهَبَ جَهَنَّمُ. وَرَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: زَعَمَ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا أَنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ. وَقَالُوا: إِنَّمَا نُعَذَّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَتَذْهَبَ جَهَنَّمُ وَتَهْلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ النَّارَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَدَدَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ حَيْثُ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ) فِي أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ مَا يُسَمَّى أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ يُسَمَّى يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يُقَالُ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا يُقَالُ فِيهِ أَيَّامٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَيَّامٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ «١» "" تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «٢» "،" سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «٣» "
(٢). راجع ج ٩ ص ٣
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٥٩.
[سورة البقرة (٢): الآيات ٨١ الى ٨٢]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:" بَلى " أي الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ" بَلَى" وَ" نَعَمْ" اسْمَيْنِ. وَإِنَّمَا هُمَا حَرْفَانِ مِثْلُ" بل" وغيره، وهي رد لقولهم: إن تَمَسَّنَا النَّارُ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهَا بَلِ الَّتِي لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْأَوَّلِ، زِيدَتْ عَلَيْهَا الْيَاءُ لِيَحْسُنَ الْوَقْفُ، وَضُمِّنَتِ الْيَاءُ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِنْعَامِ. فَ" بَلْ" تَدُلُّ عَلَى رَدِّ الْجَحْدِ، وَالْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ لِمَا بَعْدُ. قَالُوا: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَمْ تَأْخُذْ دِينَارًا؟ فَقُلْتَ: نَعَمْ، لَكَانَ الْمَعْنَى لَا، لَمْ آخُذْ، لِأَنَّكَ حَقَّقْتَ النَّفْيَ وَمَا بَعْدَهُ. فَإِذَا قُلْتَ: بَلَى، صَارَ الْمَعْنَى قَدْ أَخَذْتُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لصاحبه: ما لك علي شي، فَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ، كَانَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا، لِأَنَّ لا شي
(٢). راجع ج ١ ص ٣٩٦ طبعه ثانية.
". وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، قَالَا: وَالْخَطِيئَةُ الْكَبِيرَةُ. الثَّالِثَةُ- لَمَّا قَالَ تَعَالَى:" بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ" دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَتِمُّ بِأَقَلِّهِمَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «٣» " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «٤» ". وَقَرَأَ نَافِعٌ" خَطِيئَاتُهُ" بِالْجَمْعِ، الْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْمَعْنَى الْكَثْرَةُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «٥» ".
[سورة البقرة (٢): آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ «٦». وَاخْتُلِفَ فِي الْمِيثَاقِ هُنَا، فَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ حِينَ أُخْرِجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَالذَّرِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِيثَاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عُقَلَاءُ في حياتهم على ألسنة أنبيائهم.
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٤٥.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٥٧.
(٤). راجع ج ١ ص ٣٠٤. [..... ]
(٥). راجع ج ٩ ص ٣٦٧.
(٦). راجع ج ١ ص ٢٤٦، ٣٣٠.
ألا أيها ذا الزاجري أخضر الْوَغَى | وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي «٢» |
(٢). البيت لطرفة بن العبد في معلقته.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٦٥.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٣٨
(٢). راجع ج ٥ ص ٨.
(٣). مالك: أحد رواة سند هذا الحديث.
(٤). لأنه ربيب دينار.
(٥). في تهذيب التهذيب:" بكسر أوله وتشديد المهملة آخره نون" وهو ابن كاهم ويقال ابن كاهن، كان أبوه كاهنا في الجاهلية".
(٦). الرحبي (بفتح الراء والحاء المهملين وباء موحدة): منسوب إلى رحبة بن زرعة.
(٧). يبن: يتزوجن.
(٢). راجع ج ١١ ص ١٩٩.
(٣). في بعض نسخ الأصل:" فكيف في غيرهما".
(٤). راجع ج ٥ ص ٢٥١.
(٢). يراجع ج ١ ص ١٦٤، ٣٤٣ طبعه ثانية.
(٣). الشنشنة (بالكسر): الطبيعة والخليقة والسجية. قال الأصمعي: وهذا بيت رجز تمثل به لابن أخزم الطائي، وهو:
إن بنى زملوني بالدم | شنشنة أعرفها من أخزم |
قال ابن برى: كان أخزم عاقا لأبيه فمات وترك بنين وعقوا جدهم وضربوه وأموه، فقال ذلك. (عن اللسان).
[سورة البقرة (٢): آية ٨٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ" تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «١»." لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ" الْمُرَادُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى مَنْ بَعْدَهُمْ." لَا تَسْفِكُونَ" مِثْلُ" لَا تَعْبُدُونَ" «٢» فِي الْإِعْرَابِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَأَبُو نَهِيكٍ" تُسَفِّكُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وفتح السين. والسفك: الصب. وقد تقدم «٣»." وَلا تُخْرِجُونَ" مَعْطُوفٌ." أَنْفُسَكُمْ" النَّفْسُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّفَاسَةِ، فَنَفْسُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مَا فِيهِ. وَالدَّارُ: الْمَنْزِلُ الَّذِي فِيهِ أَبْنِيَةُ الْمَقَامِ بِخِلَافِ مَنْزِلِ الِارْتِحَالِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ مَوْضِعٍ حَلَّهُ قَوْمٌ فَهُوَ دَارٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ أَبْنِيَةٌ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دَارًا لِدَوْرِهَا عَلَى سُكَّانِهَا، كَمَا سُمِّيَ الْحَائِطُ حَائِطًا لِإِحَاطَتِهِ عَلَى مَا يحويه. و" أَقْرَرْتُمْ" مِنَ الْإِقْرَارِ، أَيْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَوَائِلِكُمْ." وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ" مِنَ الشَّهَادَةِ، أَيْ شُهَدَاءُ بِقُلُوبِكُمْ عَلَى هَذَا وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، أَيْ تَحْضُرُونَ سَفْكَ دِمَائِكُمْ، وَإِخْرَاجَ أَنْفُسِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ. الثَّانِيَةُ- فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَسْفِكُ أَحَدٌ دَمَهُ وَيُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ دَارِهِ؟ قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَتْ مِلَّتُهُمْ وَاحِدَةً وَأَمْرُهُمْ واحد وَكَانُوا فِي الْأُمَمِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ جُعِلَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا قَتْلًا لِأَنْفُسِهِمْ وَنَفْيًا لَهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقِصَاصُ، أَيْ لَا يَقْتُلْ أَحَدٌ فَيُقْتَلَ قِصَاصًا، فَكَأَنَّهُ سَفَكَ دَمَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَزْنِي وَلَا يَرْتَدَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبِيحُ الدَّمَ. وَلَا يُفْسِدْ فَيُنْفَى، فَيَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ دِيَارِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِيهِ بُعْدٌ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ مِيثَاقًا أَلَّا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَنْفِيَهُ وَلَا يَسْتَرِقَّهُ، وَلَا يَدَعَهُ يَسْرِقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ.
(٢). راجع ص ١٣ من هذا الجزء
(٣). راجع ج ١ ص ٢٧٥ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): الآيات ٨٥ الى ٨٦]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ"" أَنْتُمْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يُعْرَبُ، لِأَنَّهُ مُضْمَرٌ. وَضُمَّتِ التَّاءُ مِنْ" أَنْتُمْ" لِأَنَّهَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً إِذَا خاطبت واحدا مذكرا، ومكسورة
تَظَاهَرْتُمْ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ «١» | عَلَى وَاحِدٍ لَا زِلْتُمْ قِرْنَ وَاحِدِ |
تظاهرتم من كل أوب ووجهة
... إلخ
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٨٩.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٦١.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٩١ [..... ]
وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ فِي بَيْتِهِ | كَمَا قَيَّدَ الْآسِرَاتُ الْحِمَارَا «٢» |
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ | وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ |
(٢). الحمار: من معانيه أنه خشبة في مقدم الرحل تقبض؟ المرأة. وقيل: العود الذي يحمل عليه الأقتاب. والاسرات: النساء اللواتي يؤكدون الرحال بالقد ويوثقنها.
(٣). راجع ج ١٩ ص ١٤٩
قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إِنَّ قَوْمِي | وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا |
فَهْوَ لا تنمى «٢» رميته | ما له لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهِ وَكَذَلِكَ |
(٢). أنميت الصيد فنمى يمنى، وذلك أن ترميه فتصيبه ويذهب عنك فيموت بعد ما يغيب.
(٣). يراجع ج ١ ص ٢٦١ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَقَفَّيْنا" أَيْ أَتْبَعْنَا. وَالتَّقْفِيَةُ: الْإِتْبَاعُ وَالْإِرْدَافُ، مَأْخُوذٌ مِنْ إِتْبَاعِ الْقَفَا وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ. تَقُولُ اسْتَقْفَيْتُهُ إِذَا جِئْتَ مِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ قَافِيَةُ الشِّعْرِ، لِأَنَّهَا تَتْلُو سَائِرَ الْكَلَامِ. وَالْقَافِيَةُ: الْقَفَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ). وَالْقَفِيُّ وَالْقَفَاوَةُ: مَا يُدَّخَرُ مِنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ لِمَنْ تُرِيدُ إِكْرَامَهُ. وَقَفَوْتُ الرَّجُلَ: قَذَفْتَهُ بِفُجُورٍ. وَفُلَانٌ قِفْوَتِي أَيْ تُهَمَتِي. وَقِفْوَتِي أَيْ خِيرَتِي. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ كَأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قوله تعالى:" ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا «٤» ". وَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى فَإِنَّمَا جَاءَ بإثبات التوراة والامر
(٢). راجع ج ١ ص ٤٦٦.
(٣). راجع ج ١ ص ٢١٠ طبعه ثانية.
(٤). راجع ج ١٢ ص ١٢٥.
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا | وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ |
فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ | لَا يُبْصِرُ الْكَلْبُ فِي ظَلْمَائِهَا الطنبا «٤» |
(٢). راجع ج ١٦ ص ٥٤.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٧٧ طبعه ثانية.
(٤). الطنب (بضم الطاء وسكون النون وضمها): حبل الخباء والسرادق وغيرهما. [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ٨٨]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" يَعْنِي الْيَهُودَ" قُلُوبُنا غُلْفٌ" بِسُكُونِ اللَّامِ جَمْعُ أَغْلَفَ، أي عليها أغطية. وهو مثل قول:" قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ «٢» " أَيْ فِي أَوْعِيَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ:" غُلْفٌ" عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا طَابَعٌ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ غَلَّفْتُ السَّيْفَ جَعَلْتَ لَهُ غِلَافًا، فَقُلِبَ أَغْلَفَ، أَيْ مَسْتُورٌ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" غُلُفٌ" بِضَمِّ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ قُلُوبُنَا مُمْتَلِئَةٌ عِلْمًا لَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ غِلَافٍ. مِثْلَ خِمَارٍ وَخُمُرٍ، أَيْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَمَا بَالُهَا لَا تَفْهَمُ عَنْكَ وَقَدْ وَعَيْنَا عِلْمًا كَثِيرًا! وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَكَيْفَ يَعْزُبُ عَنْهَا عِلْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:" بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ" ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ فِي نُفُورِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُمْ لُعِنُوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الذَّنْبِ بِأَعْظَمَ مِنْهُ. وَأَصْلُ اللَّعْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ. وَيُقَالُ لِلذِّئْبِ: لَعِينٌ. وَلِلرَّجُلِ الطَّرِيدِ: لَعِينٌ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ | مقام الذئب كالرجل اللعين |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٣٩.
[سورة البقرة (٢): آية ٨٩]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَهُمْ" يَعْنِي الْيَهُودَ." كِتابٌ" يَعْنِي الْقُرْآنَ." مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ" نَعْتٌ لِكِتَابٍ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالنَّصْبِ فِيمَا رُوِيَ." لِما مَعَهُمْ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا فيهما." وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ" أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ. وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ. اسْتَفْتَحْتُ: اسْتَنْصَرْتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ، أَيْ يَسْتَنْصِرُ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ «١». وَمِنْهُ" فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ «٢» ". والنصر: فتح شي مُغْلَقٍ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَتَحْتُ الْبَابَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «٣» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إنما نَصَرَ «٤» اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضُعَفَائِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ). وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
(٢). راجع ج ٦ ص ٢١٧.
(٣). يلاحظ أن راوي هذا الحديث هو سعد بن أبى وقاص، ففي سنن النسائي (ج ١ ص ٦٥ طبع المطبعة الميمنية) باب الاستبصار بالضعيف: أخبرنا محمد بن إدريس... عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه ظن... " إلخ.
(٤). الذي في سنن النسائي:" إنما ينصر الله هذه الامة بضعيفها".
[سورة البقرة (٢): آية ٩٠]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِئْسَمَا اشْتَرَوْا" بِئْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُسْتَوْفِيَةٌ لِلذَّمِّ، كَمَا أَنَّ" نِعْمَ" مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْمَدْحِ. وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ: بِئْسَ بَئْسَ بَئِسَ بِئِسَ. نِعْمَ نَعْمَ نَعِمَ نِعِمَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ" مَا" فَاعِلَةُ بِئْسَ، وَلَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَالنَّكِرَاتِ. وَكَذَا نِعْمَ، فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَنِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، فَإِذَا كَانَ مَعَهَا اسْمٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فَهُوَ نَصْبٌ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ فَهُوَ رَفْعٌ أَبَدًا، وَنَصْبُ رَجُلٍ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَفِي نِعْمَ مُضْمَرٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَزَيْدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَنِ الْمَمْدُوحِ؟ قُلْتَ هُوَ زَيْدٌ، وَالْآخَرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرُهُ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ تَلِيَهَا" مَا" مَوْصُولَةً وَغَيْرَ مَوْصُولَةٍ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُبْهَمَةً تقع على الكثرة ولا تخص واحدا
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١٨.
(٣). راجع ج ١ ص ٤٣٠.
(٤). راجع ج ١ ص ١٤٩ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): آية ٩١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا" أَيْ صَدِّقُوا" بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" يَعْنِي الْقُرْآنَ" قالُوا نُؤْمِنُ" أَيْ نُصَدِّقُ" بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا" يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ" أَيْ بِمَا سِوَاهُ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقَتَادَةَ: بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَرَاءَ بِمَعْنَى خَلْفَ، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى قُدَّامَ. وَهِيَ مِنَ الْأَضْدَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «٢» " أي أمامهم، وتصغيرها ورئية (بِالْهَاءِ) وَهِيَ شَاذَّةٌ. وَانْتَصَبَ" وَراءَهُ" عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ لَقِيتُهُ مِنْ وَرَاءُ، فَتَرْفَعُهُ عَلَى الْغَايَةِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُضَافٍ تَجْعَلُهُ اسْمًا وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، كَقَوْلِكَ: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَأَنْشَدَ:
إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ | لِقَاؤُكَ إِلَّا مِنْ وَرَاءُ وراء «٣» |
" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ." لِما مَعَهُمْ" مَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِاللَّامِ، وَ" مَعَهُمْ" صِلَتُهَا، وَ" مَعَهُمْ" نُصِبَ بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٤.
(٣). البيت لعي بن مالك العقيلي. (عن اللسان). [..... ]
(٤). الذي في النهاية واللسان مادة (روى):" إنى كنت، إلخ، وفيهما: هكذا يروى مبيتا على الفتح، أي من خلف حجاب".
شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ | أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ |
[سورة البقرة (٢): آية ٩٢]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ" اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ. وَالْبَيِّنَاتُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «٢» " وَهِيَ الْعَصَا، وَالسُّنُونَ، وَالْيَدُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَاتُ التَّوْرَاةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ" توبيخ، وثم أَبْلَغُ مِنَ الْوَاوِ فِي التَّقْرِيعِ، أَيْ بَعْدَ النظر في الآيات، أو الإتيان بِهَا اتَّخَذْتُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا فعلوا ذلك بعد مهلة من
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٣٥.
[سورة البقرة (٢): آية ٩٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا" تَقَدَّمَ «١» الْكَلَامُ فِي هَذَا وَمَعْنَى" اسْمَعُوا" أَطِيعُوا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِإِدْرَاكِ الْقَوْلِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اعْمَلُوا بِمَا سَمِعْتُمْ وَالْتَزِمُوهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَيْ قَبِلَ وَأَجَابَ. قَالَ:
دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَلَّا | يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ |
وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّسْلِيمُ | خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمِ |
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي | مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي |
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حب داخل | والحب تشربه فؤادك داء |
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي | فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ |
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ | وَلَا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ |
أَكَادُ إِذَا ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا | أَطِيرُ لَوَ انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ |
[سورة البقرة (٢): الآيات ٩٤ الى ٩٥]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)
لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ دَعَاوَى بَاطِلَةً حَكَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً"، وَقَوْلُهُ:" وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى "
(٢). راجع ص ٢٧ من هذا الجزء.
(٢). في بعض نسخ الأصل:" مقاعدهم".
[سورة البقرة (٢): آية ٩٦]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ" يَعْنِي الْيَهُودَ." وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا" قِيلَ: الْمَعْنَى وَأَحْرَصُ، فَحُذِفَ" مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا" لِمَعْرِفَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَلَّا خَيْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ، ألا ترى قول شاعرهم:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فَانِ | مِنَ النَّشَوَاتِ وَالنِّسَاءِ الْحِسَانِ «١» |
يَا قَابِضُ الرُّوحِ مِنْ نَفْسٍ إِذَا احْتُضِرَتْ | وَغَافِرُ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ |
يَا قَابِضَ الرُّوحِ عَنْ جِسْمٍ عَصَى زَمَنًا | وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ |
خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لَا يَتَزَحْزَحُ | وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لَا يَتَوَضَّحُ |
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي | بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ |
(٢). راجع ج ١٦ ص ١١٥.
[سورة البقرة (٢): آية ٩٧]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا يَأْتِيهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالرِّسَالَةِ وَبِالْوَحْيِ، فَمَنْ صَاحِبُكَ حَتَّى نُتَابِعَكَ؟ قَالَ: (جِبْرِيلُ) قَالُوا: ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَبِالْقِتَالِ، ذَاكَ عَدُوُّنَا! لَوْ قُلْتَ: مِيكَائِيلُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْقَطْرِ وَبِالرَّحْمَةِ تَابَعْنَاكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:" لِلْكافِرِينَ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ" الضَّمِيرُ فِي" إِنَّهُ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ عَلَى قَلْبِكَ. الثَّانِي: فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِكَ. وَخُصَّ الْقَلْبُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَتَلَقِّي الْمَعَارِفِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى شَرَفِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَمِّ مُعَادِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" بِإِذْنِ اللَّهِ" أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ." مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ" تَقَدَّمَ معناه «١»، والحمد لله.
[سورة البقرة (٢): آية ٩٨]
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ" شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ" فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ". وَهَذَا وَعِيدٌ وَذَمٌّ لِمُعَادِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِعْلَانُ أَنَّ عَدَاوَةَ الْبَعْضِ تَقْتَضِي عَدَاوَةَ اللَّهِ لَهُمْ. وَعَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ هي معصيته واجتناب طاعته، ومعادات أَوْلِيَائِهِ. وَعَدَاوَةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ تَعْذِيبُهُ وَإِظْهَارُ أَثَرِ الْعَدَاوَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ اللَّهُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ قَدْ عَمَّهُمَا؟ قِيلَ لَهُ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمَا، كَمَا قَالَ:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «٢» ". وَقِيلَ: خُصًّا لِأَنَّ الْيَهُودَ ذَكَرُوهُمَا، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمَا، فَذِكْرُهُمَا وَاجِبٌ لِئَلَّا تَقُولَ الْيَهُودُ: إِنَّا لم نعاد
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٨٥.
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا
الثَّانِيَةُ- جَبْرِيلُ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقْرَأُ جَبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ فَلَا أَزَالَ أَقْرَؤُهُمَا أَبَدًا كَذَلِكَ. الثَّالِثَةُ- جَبْرَئِيلُ (بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، مِثَالُ جَبْرَعِيلُ)، كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَنْشَدُوا:
شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ | مَدَى الدَّهْرِ إِلَّا جَبْرَئِيلُ أَمَامُهَا «١» |
وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا مَدَدٌ | فِيهِ مَعَ النصر ميكال وجبريل |
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ | وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالَا |
(٢). هو جرير، كما في ديوانه.
(٣). راجع ج ٨ ص ٧٩
فإن قيل : لم خص الله جبريل وميكائيل بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما ؟
قيل له : خصهما بالذكر تشريفا لهما، كما قال :﴿ فيهما فاكهة ونخل ورمان١ ﴾ [ الرحمن : ٦٨ ]. وقيل : خصا لأن اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود : إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص. ولعلماء اللسان في جبريل وميكائيل عليهما السلام لغات، فأما التي في جبريل فعشر :
الأولى : جبريل، وهي لغة أهل الحجاز، قال حسان بن ثابت :
وجبريل رسول الله فينا
الثانية : جبريل ( بفتح الجيم ) وهي قراءة الحسن وابن كثير، وروي عن ابن كثير أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك.
الثالثة : جبرئيل ( بياء بعد الهمزة، مثال جبرعيل )، كما قرأ أهل الكوفة، وأنشدوا :
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة | مدى الدهر إلا جبرئيلُ أمامها٢ |
الرابعة : جبرئل ( على وزن جبرعل ) مقصور، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم.
الخامسة : مثلها، وهي قراءة يحيى بن يعمر، إلا أنه شدد اللام.
السادسة : جبرائل ( بألف بعد الراء ثم همزة ) وبها قرأ عكرمة.
السابعة : مثلها، إلا أن بعد الهمزة ياء.
الثامنة : جبرييل ( بياءين بغير همزة ) وبها قرأ الأعمش ويحيى بن يعمر أيضا.
التاسعة : جبرئين ( بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون ).
العاشرة : جبرين ( بكسر الجيم وتسكين الباء بنون من غير همزة ) وهي لغة بني أسد. قال الطبري : ولم يقرأ بها. قال النحاس - وذكر قراءة ابن كثير - :" لا يعرف في كلام العرب فَعليل، وفيه فِعليل، نحو دهليز وقطمير وبرطيل، وليس ينكر أن يكون في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب، وليس ينكر أن يكثر تغيره، كما قالوا : إبراهيم وإبرهم وإبراهم وإبراهام ". قال غيره : جبريل اسم أعجمي عربته العرب، فلها فيه هذه اللغات ولذلك لم ينصرف.
قلت : قد تقدم في أول الكتاب٣ أن الصحيح في هذه الألفاظ عربية نزل بها جبريل بلسان عربي مبين. قال النحاس : ويجمع جبريل على التكسير جباريل. وأما اللغات التي في ميكائيل فست :
الأولى : ميكاييل، قراءة نافع.
الثانية : وميكائيل ( بياء بعد الهمزة ) قراءة حمزة.
الثالثة : ميكال، لغة أهل الحجاز، وهي قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم. وروي عن ابن كثير الثلاثة أوجه، قال كعب بن مالك :
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد | فيه مع النصر ميكالٌ وجبريل |
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد | وبجبرئيل وكذبوا ميكالا |
الخامسة : ميكاييل ( بياءين ) وهي قراءة الأعمش باختلاف عنه.
السادسة : ميكاءل، كما يقال ( إسراءل بهمزة مفتوحة )، وهو اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف. وذكر ابن عباس أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى : عبد ومملوك. وإيل : اسم الله تعالى، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إل، وفي التنزيل :﴿ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ﴾ في أحد التأويلين، وسيأتي٥. قال الماوردي : إن جبريل وميكائيل اسمان، أحدهما عبدالله، والآخر عبيدالله، لأن إيل هو الله تعالى، وجبر هو عبد، وميكا هو عبيد، فكأن جبريل عبدالله، وميكائيل عبيدالله، هذا قول ابن عباس، وليس له في المفسرين مخالف.
قلت : وزاد بعض المفسرين : وإسرافيل عبدالرحمن. قال النحاس : ومن تأول الحديث " جبر " عبد، و " إل " الله وجب عليه أن يقول : هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبرئل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمى بهذا. قال غيره : ولو كان كما قالوا لكان مصروفا، فترك الصرف يدل على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف. وروى عبدالغني الحافظ من حديث أفلت بن خليفة - وهو فليت العامري وهو أبو حسان - عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم رب جبريل وميكايل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر ".
٢ البيت لكعب بن مالك، كما في شرح القاموس..
٣ راجع ج ١ ص ٦٨ طبعة ثانية..
٤ هو جرير؛ كما في ديوانه..
٥ راجع ج ٨ ص ٧٩.
[سورة البقرة (٢): آية ٩٩]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَذَا جَوَابٌ لِابْنِ صُورِيَّا «١» حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتَّبِعَكَ بِهَا؟ فأنزل الله هذه الآية، ذكره الطبري.
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٠]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً" الْوَاوُ وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ:" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ «٢» "،" أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ «٣» "،" أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ «٤» ". وَعَلَى ثُمَّ كَقَوْلِهِ:" أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ «٥» " هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ. وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّهَا أَوْ، حُرِّكَتِ الْوَاوُ مِنْهَا تَسْهِيلًا. وَقَرَأَهَا قَوْمٌ أَوْ، سَاكِنَةَ الْوَاوِ فَتَجِيءُ بِمَعْنَى بَلْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَأَضْرِبَنَّكَ، فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: أَوْ يَكْفِي اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُتَكَلَّفٌ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ." كُلَّما" نصب على الظرف، والمعني
(٢). راجع ج ٦ ص ٢١٤.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٤٦.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٤٢٠.
(٥). راجع ج ٨ ص ٣٥١.
١ " [ المائدة : ٥٠ ]، ﴿ أفأنت تسمع الصم٢ ﴾ [ الزخرف : ٤٠ ]، ﴿ أفتتخذونه وذريته٣ ﴾ [ الكهف : ٥٠ ]. وعلى ثم كقوله :﴿ أثم إذا ما وقع٤ ﴾[ يونس : ٥١ ] هذا قول سيبويه. وقال الأخفش : الواو زائدة. ومذهب الكسائي أنها أو، حركت الواو منها تسهيلا. وقرأها قوم أو، ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، كما يقول القائل : لأضربنك، فيقول المجيب : أو يكفي الله. قال ابن عطية : وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه. " كلما " نصب على الظرف، والمعني في الآية مالك بن الصيف، ويقال فيه ابن الضيف٥، كان قد قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق، فنزلت الآية. وقيل : إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمن به ولنكونن معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به. وقال عطاء : هي العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، دليله قوله تعالى :﴿ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون٦ ﴾[ الأنفال : ٥٦ ].
قوله تعالى :﴿ نبذه فريق منهم ﴾ النبذ : الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، قال أبو الأسود :
وخبرني من كنت أرسلت إنما | أخذت كتابي معرضاً بشمالكا |
نظرت إلى عنوانه فنبذته | كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا |
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا | نبذوا كتابك واستحلوا المَحْرَما |
تميمَُ بنَُ زيد لا تكونن حاجتي | بظهر فلا يعيا علي جوابها٨ |
٢ راجع ج ٨ ص ٣٤٦.
٣ راجع ج ١٠ ص ٤٢٠.
٤ راجع ج ٨ ص ٣٥١..
٥ في ١، ب، ح: "الصيت" بالتاء المثناة، وفي ج: "الصيب" بالباء. والتصويب عن سيرة ابن هشام ص ٣٥٢ طبع أوربا..
٦ ج ٨ ث ٣٠..
٧ ج ٩ ص ٩١.
٨ البيت للفرزدق يخاطب تميم بن زيد القيني وكان على السند. (عن النقائض ص ٣٨١) طبع أوربا..
وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ إِنَّمَا | أَخَذْتَ كِتَابِي مُعْرِضًا بِشِمَالِكَا |
نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتَهُ | كَنَبْذِكَ نَعْلًا أَخَلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا |
إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا | نَبَذُوا كِتَابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَمَا |
تَمِيمُ بْنُ زَيْدٍ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي | بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا «٤» |
[سورة البقرة (٢): آية ١٠١]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)
(٢). ج ٨ ص ٣٠.
(٣). ج ٩ ص ٩١.
(٤). البيت للفرزدق، يخاطب تميم بن زيد القينى وكان على السند. (عن النقائض ص ٣٨١) طبع أوربا.
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٢]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ" هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الطَّائِفَةِ الَّذِينَ نَبَذُوا الْكِتَابَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا السِّحْرَ أَيْضًا، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَارَضَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفِ وَبِسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَيْمَانَ فِي الْمُرْسَلِينَ قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ ابْنَ داود
وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ | كُومَ الْهِجَانِ «٢» وَكُلَّ طَرَفٍ سَابِحِ |
وَانَضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِهِ بِدِمَائِهَا | فلقد يكون أخادم وذبائح |
(٢). الكوم (بالضم): جمع كوماء، وهى الناقة العظيمة السنام. والهجان من الإبل: البيض الكرام.
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلِي | وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانًا |
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا | عصافير من هذا الأنام المسحر |
(٢). راجع ج ١ ص ٩٠ طبعه ثانية.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٨٤.
أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ «٢» | وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ |
عَصَافِيرٌ وَذِبَّانٌ وَدُودٌ | وَأَجْرَأُ مِنْ مُجَلِّحَةِ «٣» الذِّئَابِ |
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا | تَ فِي عِضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ |
(٢). موضعين: مسرعين. لأمر غيب: يريد الموت. وأنه قد غيب عنا وقته، ونحن؟ عنه بالطعام والشراب.
(٣). ذئب مجلح: جريء.
يَتَوَلَّجَ فِي الْكُوَّاتِ وَالْخَوْخَاتِ وَالِانْتِصَابِ عَلَى رَأْسِ قَصَبَةٍ، والجري على
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٥٩.
(٢). النشرة (بالضم): ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن، لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال.
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا... تَ..............
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ اثْنَانِ بَدَلًا مِنْ جَمْعٍ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يكون على حد المبدل منه، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاثْنَيْنِ قد يطلق عليهما اسم
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٢٥٧. [..... ]
(٢). راجع ج ١٩ ص ٧٧.
(٣). راجع ج ١٧ ص ١٨٥.
(٤). راجع ج ٤ ص ١٠٩.
(٥). في بعض نسخ الأصل:" ناهيد" بالدال المهملة بدل اللام.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٩٦.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٨١، ٢٧٨.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٨١، ٢٧٨.
(٥). راجع ج ١١ ص ٢٨١، ٢٧٨.
(٦). كذا في أ، ب، ج. وفي ح، ز:" عوده". وكتب على هامش الازهرية:" لعله: تقديره". وقد تكون هذه الكلمة محرفة عن" غوره" وغور كل شي: عمقه وبعده.
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي | وَأَنَّ وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ |
تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا | وَأَنَّ لِذَلِكَ الْغَيِّ انْقِشَاعَا |
تَعَلَّمْنَ هَا لَعَمْرُ اللَّهِ ذَا قَسَمًا | فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ «٢» |
تَعَلَّمْ أَنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا | عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ |
(٢). في البيت شاهد آخر، وهو تقديم" ها" التي للتنبيه على" ذا" وقد حال بينهما بقوله:" لعمر الله" والمعنى تعلمن الله هذا ما أقسم به. وفى الديوان:" فاقصد بذرعك".
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٣]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا" أَيِ اتَّقَوْا السِّحْرَ." لَمَثُوبَةٌ" الْمَثُوبَةُ الثَّوَابُ، وَهِيَ جَوَابُ" وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا" عند قوم. وقال الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: لَيْسَ لِ" لَوْ" هُنَا جَوَابٌ في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لا ثيبوا. وَمَوْضِعُ" أَنَّ" مِنْ قَوْلِهِ:" وَلَوْ أَنَّهُمْ" مَوْضِعُ رَفْعٍ، أَيْ لَوْ وَقَعَ إِيمَانُهُمْ، لِأَنَّ" لَوْ" لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ الشَّرْطِ إِذْ كَانَ لَا بدله مِنْ جَوَابٍ، وَ" أَنَّ" يَلِيهِ فِعْلٌ. قَالَ محمد بن يزيد:
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا" ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِ الْيَهُودِ وَالْمَقْصُودُ نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَحَقِيقَةُ" راعِنا" فِي اللُّغَةِ ارْعَنَا وَلْنَرْعَكَ، لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ مِنَ اثْنَيْنِ، فَتَكُونُ مِنْ رَعَاكَ اللَّهُ، أَيِ احْفَظْنَا وَلْنَحْفَظْكَ، وَارْقُبْنَا وَلْنَرْقُبْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرِعْنَا سَمْعَكُ، أَيْ فَرِّغْ سَمْعَكُ لِكَلَامِنَا. وَفِي الْمُخَاطَبَةِ بِهَذَا جَفَاءٌ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَيَّرُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَحْسَنَهَا وَمِنَ الْمَعَانِي أَرَقَّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاعِنَا. عَلَى جِهَةِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ- مِنَ الْمُرَاعَاةِ- أَيِ الْتَفِتْ إِلَيْنَا، وَكَانَ هَذَا بِلِسَانِ الْيَهُودِ سَبًّا، أَيِ اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، فَاغْتَنَمُوهَا وَقَالُوا: كُنَّا نَسُبُّهُ سِرًّا فَالْآنَ نَسُبُّهُ جَهْرًا، فَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَسَمِعَهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ، فَقَالَ لِلْيَهُودِ: عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ! لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَقَالُوا: أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَنُهُوا عَنْهَا لِئَلَّا تَقْتَدِي بِهَا الْيَهُودُ فِي اللَّفْظِ وَتَقْصِدُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ فِيهِ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا- عَلَى تَجَنُّبِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعْرِيضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا فَهْمُ الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا حِينَ قَالُوا: التَّعْرِيضُ مُحْتَمِلٌ لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَسَيَأْتِي فِي" النُّورِ «١» " بَيَانُ هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الدَّلِيلُ الثَّانِي- التَّمَسُّكُ بِسَدِ الذَّرَائِعِ «٢» وَحِمَايَتِهَا وَهُوَ مذهب مالك وأصحابه وأحمد ابن حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالذَّرِيعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ أمر
(٢). الذرائع (جمع الذريعة) وهى لغة: الوسيلة والسبب إلى الشيء.
(٢). راجع ج ٧ ص ٦١ وص ٣٠٤.
(٣). راجع ج ١ ص ٣٠٤.
(٤). زيادة عن صحيح البخاري.
(٥). ورد هذا في صحيح مسلم كتاب البيوع ببعض اختلاف في ألفاظه.
لَوْلَا ابْنُ عُتْبَةَ عَمْرٌو وَالرَّجَاءُ لَهُ | مَا كَانَتِ الْبَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنًا |
ظَاهِرَاتِ الْجَمَالِ وَالْحُسْنُ يَنْظُرْ | نَ كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ |
فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً | مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعُنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ |
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا | وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا |
(٢). هو عمرو بن كلثوم.
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٥]
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا يَوَدُّ" أَيْ مَا يَتَمَنَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ «١»." الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ" مَعْطُوفٌ عَلَى" أَهْلِ". وَيَجُوزُ: وَلَا الْمُشْرِكُونَ، تَعْطِفُهُ عَلَى الَّذِينَ، قَالَهُ النَّحَّاسُ." أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ،" خَيْرٌ" اسْمُ مَا لَمْ يسم فاعله. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ بِأَنْ يُنَزَّلَ." وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ" أَيْ بِنُبُوَّتِهِ، خَصَّ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الرَّحْمَةُ الْقُرْآنُ وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا الَّتِي قَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ عِبَادَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يُقَالُ: رَحِمَ يَرْحَمُ إِذَا رَقَّ. وَالرُّحْمُ وَالْمَرْحَمَةُ وَالرَّحْمَةُ بِمَعْنًى، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ. وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَفْوُهُ لَهُمْ." وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"" ذو" بمعنى صاحب.
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٦]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
فِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها"" نُنْسِها" عَطْفٌ عَلَى" نَنْسَخْ" وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِلْجَزْمِ. وَمَنْ قَرَأَ" نَنْسَأْهَا" حَذَفَ الضَّمَّةَ مِنَ الْهَمْزَةِ لِلْجَزْمِ، وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ." نَأْتِ" جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهَذِهِ آيَةٌ عُظْمَى فِي الْأَحْكَامِ. وَسَبَبُهَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَطَعَنُوا فِي الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، فَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلِهَذَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:" وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ «٢» " وأنزل" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ".
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٧٦.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٧٩. [..... ]
(٢). ص ٣٠٨ من هذا الجزء.
(٣). ج ٦ ص ٤٢٣.
(٤). وهو أن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته لاثنين.
(٥). ص ٢٧٥ من هذا الجزء.
(٢). ج ٨ ص ٢٥٩.
(٣). يريد قوله تعالى:
" مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ | " فإنه قد نسخ حكمها وبقيت تلاوتها. راجع ج ٣ ص ٢٢٦. |
(٥). ج ١٥ ص ١٠٧.
(٢). في ح:" فلا تكن نسخا".
إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أقضيها | لست بناسيها ومنسيها «٣» |
(٢). سيأتي الكلام عليها في ص ١٢٧ من هذا الجزء.
(٣). العقبة (بضم فسكون) من معانيها: الإبل يرعاها الرجل ويسقها، أي أنا أسوق عقبى وأحسن رعيها.
الثانية : معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال : دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس، فقال : ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس، فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ ! فقال : لا، قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا، قال : هلكت وأهلكت !. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الثالثة : النسخ في كلام العرب على وجهين :
[ أحدهما ] النقل، كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى :﴿ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون٢ ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ] أي نأمر بنسخه وإثباته.
الثاني : الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين : أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله تعالى :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ﴾. وفي صحيح مسلم :" لم تكن نبوة قط إلا تناسخت "، أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الأمة. قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب، والنسخ : أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه، يقال : انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب. وتناسخ الورثة : أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون.
الثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم : نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى﴿ فينسخ الله ما يلقي الشيطان٣ ﴾ [ الحج : ٥٢ ] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله. وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب.
قلت : ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة " الأحزاب " كانت تعدل سورة البقرة في الطول، على ما يأتي مبينا هناك٤ إن شاء الله تعالى. ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الأنباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم : قمت الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها، فقام الآخر فقال : وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقام الآخر فقال : وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنها مما نسخ الله البارحة " . وفي إحدى الروايات : وسعيد بن المسيب يسمع ما يحدث به أبو أمامة فلا ينكره.
الرابعة : أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له : لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه، ثم تعبد بها بعد ذلك، إلى غير ذلك. وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لضرب من المصلحة، إظهارا لحكمته وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمآل الأمور، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى.
وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلوا. قال النحاس : والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم، أو كان حراما فيحلل. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، كقولك : امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذلك إن قلت : ازرع كذا في هذه السنة، ثم قلت : لا تفعل، فهو البداء.
الخامسة : اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا، فيقال : صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ هو المزال، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة، وهو المكلف.
السادسة : اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر، وزادا : لولاه لكان السابق ثابتا، فحافظا على معنى النسخ اللغوي، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة، وتحرزا من الحكم العقلي، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره، وليخرج القياس والإجماع، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما. وقيدا بالتراخي، لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله، كقولك : قم لا تقم.
السابعة : المنسوخ عند أئمتنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله، كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مراده، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله حسن، وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم.
الثامنة : اختلف علماؤنا في الأخبار هل يدخلها النسخ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه، كقوله تعالى :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ﴾ [ النحل : ٦٧ ]. وهناك٥ يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى.
التاسعة : التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به ؛ لأن المخصص لم يتناول العموم قط، ولو ثبت تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا.
العاشرة : اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق، كقوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان٦ ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ]. فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر، كقوله :﴿ فيكشف ما تدعون إليه إن شاء٧ ﴾ [ الأنعام : ٤١ ]. فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الأخبار وليس كذلك، بل هو من باب الإطلاق والتقييد. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في موضعها إن شاء الله تعالى.
الحادية عشرة : قال علماؤنا رحمهم الله تعالى : جائز نسخ الأثقل إلى الأخف، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين٨. ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل، كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، على ما يأتي بيانه في آية الصيام٩. وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كالقبلة. وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن. والسنة بالعبارة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي. وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد. وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام :" لا وصية لوارث ". وهو ظاهر مسائل مالك. وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، والأول أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء. وأيضا فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، هذا بين. والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى. وفي قوله تعالى :{ فلا ترجعوهن إلى الكفار
١٠ } [ الممتحنة : ١٠ ] فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء، على ما يأتي بيانه١١، وأبى ذلك قوم. ولا يصح نسخ نص بقياس، إذ من شروط القياس ألا يخالف نصا. وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فيعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ وبقي سنة يقرأ ويروى، كما آية عدة السنة١٢ في القرآن تتلى، فتأمل هذا فإنه نفيس، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة، ومثله صدقة النجوى. وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم. وقد تنسخ التلاوة والحكم معا، ومنه قول الصديق رضي الله عنه : كنا نقرأ " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر " ومثله كثير.
والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة. والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس، على ما يأتي بيانه في " الإسراء١٣ " و " الصافات١٤ "، إن شاء الله تعالى.
الثانية عشرة : لمعرفة الناسخ طرق، منها - أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله عليه السلام :" كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم ع
٢ راجع ج ١٦ ص ١٧٥.
٣ راجع ج ١٦ ص ٧٩.
٤ راجع ج ١٤ ص ١١٣..
٥ راجع ج ١٠ ص ١٢٧.
٦ ص ٣٠٨ من هذا الجزء..
٧ ج ٦ ص ٤٢٣.
٨ وهو أن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته لاثنين..
٩ ص ٢٧٥ من هذا الجزء..
١٠ راجع ج ١٨ ص ٦٣.
١١ ج ٨ ص ٢٥٩.
١٢ يريد قوله تعالى: ""متاعا إلى الحول... " فإنه قد نسخ حكمها وبقيت تلاوتها. راجع ج ٣ ص ٢١٠.
١٣ ج ١٠ ص ٢١٠.
١٤ ج ١٥ ص ١٠٧..
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٧]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَعْلَمْ" جُزِمَ بِلَمْ، وَحُرُوفُ الِاسْتِفْهَامِ لَا تُغَيِّرُ عَمَلَ الْعَامِلِ، وَفُتِحَتْ" أَنَّ" لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْب." لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أَيْ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَالْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ، وَنُفُوذُ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ. وَارْتَفَعَ" مُلْكُ" بالابتداء، والخبر" اللَّهَ" وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ" أَنَّ". وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، لِقَوْلِهِ:" وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ ألم تعلموا أن لله سلطان السموات وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ، مِنْ وَلَيْتُ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ قُمْتُ بِهِ، وَمِنْهُ وَلِيُّ الْعَهْدِ، أَيِ الْقَيِّمُ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى" مِنْ دُونِ اللَّهِ" سوى لله وَبَعْدَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
يَا نَفْسُ مَا لَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِ | وَمَا عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ بَاقِ |
[سورة البقرة (٢): آية ١٠٨]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ تُرِيدُونَ" هَذِهِ" أَمِ" الْمُنْقَطِعَةَ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ بَلْ تُرِيدُونَ، وَمَعْنَى الكلام التوبيخ." أَنْ تَسْئَلُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" تُرِيدُونَ"." كَمَا سُئِلَ" الكاف في موضع
﴿ أن تسألوا رسولكم ﴾ في موضع نصب " تريدون ". " كما سئل موسى من قبل " الكاف في موضع نصب نعت لمصدر، أي سؤال كما. و " موسى " في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. " من قبل " : سؤالهم إياه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمدا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. عن ابن عباس ومجاهد : سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا. وقرأ الحسن " كما سيل "، وهذا على لغة من قال : سلت أسأل، ويجوز أن يكون على بدل الهمزة ياء ساكنة على غير قياس فانكسرت السين قبلها. قال النحاس : بدل الهمزة بعيد.
قوله تعالى :﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ﴾ والسواء من كل شيء : الوسط. قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، ومنه قوله :﴿ في سواء الجحيم ﴾ [ الصافات : ٥٥ ]. وحكى عيسى بن عمر قال : ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي.
وأنشد قول حسان يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا ويح أصحابِ النبي ورهطه | بعد المغيب في سواء الملحد |
يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ | بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ |
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ". فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-" وَدَّ" تَمَنَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ «١»." كُفَّاراً" مَفْعُولٌ ثَانٍ بِ" يَرُدُّونَكُمْ"." مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" قِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ" وَدَّ". وَقِيلَ: بِ" حَسَداً"، فَالْوَقْفُ عَلَى قوله:" كُفَّاراً". و" حَسَداً" مفعول له، أي ود. ذَلِكَ لِلْحَسَدِ، أَوْ مَصْدَرٌ دَلَّ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَلَى الْفِعْلِ. وَمَعْنَى" مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" أي من
(٢). ج ٦ ص ٤١٩.
(٣). ج ٥ ص ٢٥١.
(٤). ج ١٩ ص ٢٦٤.
(٥). ج ١٦ ص ٦٢.
(٦). ج ٨ ص ١٠٩.
(٧). ج ٨ ص ٧٢.
(٢). سلول: أم عبد الله بن أبى.
(٣). العجاج: الغبار. [..... ]
(٤). خمر أنفه: غطاه.
(٥). زيادة عن صحيحي البخاري ومسلم يقتضيها السياق. والرحل: المنزل.
(٦). زيادة عن صحيحي البخاري ومسلم يقتضيها السياق. والرحل: المنزل.
(٧). البحيرة (تصغير البحرة): مدينة الرسول عليه السلام، وقد جاء في رواية مكيرا.
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحًا | وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إِلَى الخلو سبيل |
(٢). أي ظهر وجهه.
(٣). يراجع ج ١ ص ١٦٤ ويا بعدها، ٢٢٤، ٣٤٣ وما بعدها، طبعه ثانية.
(٤). بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة.
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً | قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الْأَلْسُنِ |
وَلَدْتُكَ إِذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِيًا | وَالْقَوْمُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرُورَا |
فَاعْمَلْ لِيَوْمِ تَكُونُ فِيهِ إِذَا بَكَوْا | فِي يَوْمِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورَا |
سَابِقْ إِلَى الْخَيْرِ وَبَادِرْ بِهِ | فَإِنَّمَا خَلْفَكَ مَا تَعْلَمُ |
وَقَدِّمِ الْخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئٍ | عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَمُ |
استعد بِمَالِكَ فِي حَيَاتِكَ إِنَّمَا | يَبْقَى وَرَاءَكَ مُصْلِحٌ أَوْ مُفْسِدُ |
وَإِذَا تَرَكْتَ لِمُفْسِدٍ لَمْ يُبْقِهِ | وَأَخُو الصَّلَاحِ قَلِيلُهُ يَتَزَيَّدُ |
وَإِنِ اسْتَطَعْتَ فَكُنْ لِنَفْسِكَ وَارِثًا | إِنَّ الْمُوَرِّثَ نَفْسَهُ لَمُسَدَّدُ |
[سورة البقرة (٢): الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى " الْمَعْنَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا. وَقَالَتْ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ" هُوداً" بِمَعْنَى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون
[سورة البقرة (٢): آية ١١٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
(٢). راجع ج ١ ص ٣٢٩ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): آية ١١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ"" مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، و" أَظْلَمُ" خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" مَساجِدَ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ، ثُمَّ حُذِفَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا، وَحَرْفُ الْخَفْضِ يُحْذَفُ مَعَ" أَنْ" لِطُولِ الْكَلَامِ. وَأَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ هُنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَحَارِيبَهُ. وَقِيلَ الْكَعْبَةُ، وَجُمِعَتْ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ أَوْ لِلتَّعْظِيمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَائِرُ الْمَسَاجِدِ، وَالْوَاحِدُ مَسْجِدٌ (بِكَسْرِ الْجِيمِ)، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: مَسْجَدٌ، (بِفَتْحِهَا). قَالَ الْفَرَّاءُ:" كُلُّ مَا كَانَ عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ، مِثْلَ دَخَلَ يَدْخُلُ، فَالْمَفْعَلُ مِنْهُ بِالْفَتْحِ اسْمًا كَانَ أَوْ مَصْدَرًا، وَلَا يَقَعُ فِيهِ الْفَرْقُ، مِثْلُ دَخَلَ يَدْخُلُ مَدْخَلًا، وَهَذَا مَدْخَلُهُ، إِلَّا أَحْرُفًا مِنَ الْأَسْمَاءِ أَلْزَمُوهَا كَسْرَ الْعَيْنِ، مِنْ ذَلِكَ: الْمَسْجِدُ وَالْمَطْلِعُ وَالْمَغْرِبُ وَالْمَشْرِقُ وَالْمَسْقِطُ وَالْمَفْرِقُ وَالْمَجْزِرُ وَالْمَسْكِنُ وَالْمَرْفِقُ (مِنْ رَفَقَ يَرْفُقُ) وَالْمَنْبِتُ وَالْمَنْسِكُ (مِنْ نَسَكَ ينسك)، فجعلوا
(٢). اضطربت الأصول في رسم هذا الاسم، ففي أ، ح، ز،" بطوس" بالباء الموحدة التحتانية. وفى ب:" تطرس" بالتاء المثناة من فوق، وفى ح:" نطوس" بالنون.
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٥٤ وص ١٠٤.
(٣). ج ١٢ ص ٢٦٥.
[سورة البقرة (٢): آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ"" الْمَشْرِقُ" مَوْضِعُ الشُّرُوقِ." وَالْمَغْرِبُ" مَوْضِعُ الْغُرُوبِ، أَيْ هُمَا لَهُ مِلْكٌ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِهَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا، نَحْوُ بَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ، عَلَى مَا يَأْتِي. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَيْنَما تُوَلُّوا" شَرْطٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ، وَ" أَيْنَ" الْعَامِلَةُ، وَ" مَا" زَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ" فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تَوَلَّوْا" بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ، وَالْأَصْلُ تتولوا. و" ثم" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَمَعْنَاهَا الْبُعْدُ، إِلَّا أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْفَتْحِ غَيْرُ مُعْرَبَةٍ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ، تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هُنَاكَ لِلْبُعْدِ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْقُرْبَ قُلْتَ هُنَا. الثَّالِثَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ" فَأَيْنَما تُوَلُّوا" عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى إِلَى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه
عَلَى الغائب، وقد كنت ببغداد
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٢٨.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٨٨.
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ | رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ |
[سورة البقرة (٢): آية ١١٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦)
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٤٣.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٩٦.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٧٠.
(٢). راجع ج ١١ ص ١٥٨ فما بعدها وص ٢٨١. [..... ]
(٣). راجع ج ١ ص ٢٧٦ طبعه ثانية.
(٤). راجع ج ١١ ص ١٥٨ فما بعدها وص ٢٨١.
(٥). راجع ج ١١ ص ١٥٨ فما بعدها وص ٢٨١.
قَانِتًا لِلَّهِ يَتْلُو كُتُبَهُ | وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلَ |
[سورة البقرة (٢): آية ١١٧]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى:" بَدِيعُ السَّماواتِ" فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَارْتَفَعَ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُبْدِعٌ، كَبَصِيرٍ مِنْ مُبْصِرٍ. أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ لَا عَنْ مِثَالٍ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بديع السموات وَالْأَرْضِ، أَيْ مُنْشِئُهَا وَمُوجِدُهَا وَمُبْدِعُهَا وَمُخْتَرِعُهَا عَلَى غَيْرِ حَدٍّ وَلَا مِثَالٍ. وَكُلُّ مَنْ أَنْشَأَ مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ قِيلَ لَهُ مُبْدِعٌ، وَمِنْهُ أَصْحَابُ الْبِدَعِ. وَسُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً لِأَنَّ قَائِلَهَا ابْتَدَعَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ أَوْ مَقَالِ إِمَامٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ (وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ) يَعْنِي قيام رمضان.
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا | دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ «٢» |
قَضَيْتَ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا | بواثق في أكمامها لم تفتق |
(٢). مسرودتان: درعان مخروزتان. والصنع: الحاذق بالعمل.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢١٤، ٣٦ ٢.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢١٤، ٣٦ ٢.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢٨٠.
(٥). راجع ج ٨ ص ١٥٧.
(٦). راجع ج ٩ ص ٣٥٦.
(٧). راجع ج ٤ ص ٩٣.
(٨). راجع ج ١٥ ص ٣٣٤. [..... ]
(٩). راجع ج ٨ ص ٢٢.
(١٠). راجع ج ٨ ص ٩٥.
(٢). في أ:" من جهة التكوين".
قد قالت الأتساع لِلْبَطْنِ الْحَقِ
وَلَا قَوْلَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الظَّهْرَ قَدْ لَحِقَ بِالْبَطْنِ، وَكَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدُّوسِيِّ:
فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فراخه | إذا رام تطيارا يقل لَهُ قَعِ |
قَالَتْ جَنَاحَاهُ لساقيه الحقا | ونجيا لحمكما أن يمزقا |
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ. مُجَاهِدٌ: النَّصَارَى، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ أَوَّلًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ وقتادة: مشركو العرب. و" لَوْلا" بِمَعْنَى" هَلَّا" تَحْضِيضٌ، كَمَا قَالَ الْأَشْهَبُ بْنُ رُمَيْلَةَ «١»:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ | بَنِي ضَوْطَرَى لولا الكمي المقنعا |
[سورة البقرة (٢): آية ١١٩]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً"" بَشِيراً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ،" وَنَذِيراً" عُطِفَ عَلَيْهِ، وقد تقدم معناهما «٣»." وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ" قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَأْسَهُ بِالْيَهُودِ لَآمَنُوا)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ" بِرَفْعٍ تُسْأَلُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِعَطْفِهِ عَلَى" بَشِيراً وَنَذِيراً". وَالْمَعْنَى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْرَ مَسْئُولٍ. وَقَالَ سَعِيدٌ الْأَخْفَشُ: وَلَا تَسْأَلُ (بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ)، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَطْفًا عَلَى" بَشِيراً وَنَذِيراً". وَالْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْرَ سَائِلٍ عَنْهُمْ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ يُغْنِي عَنْ سُؤَالِهِ عَنْهُمْ. هَذَا مَعْنَى غَيْرِ سَائِلٍ. وَمَعْنَى غَيْرِ مَسْئُولٍ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُفْرِ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: (لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ). فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ" وَلَا تَسْأَلْ" جَزْمًا عَلَى النَّهْيِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نافع وحده، وفية وجهان:
(٢). راجع ج ١ ص ١٨٠ طبعه ثانية.
(٣). راجع ج ١ ص ١٨٤، ٢٣٨ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٠]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ". فيه مسألتان: الاولى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" الْمَعْنَى: لَيْسَ غَرَضُهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِمَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْآيَاتِ أَنْ يُؤْمِنُوا، بَلْ لَوْ أَتَيْتَهُمْ بِكُلِ مَا يَسْأَلُونَ لَمْ يَرْضَوْا عَنْكَ، وَإِنَّمَا يُرْضِيهِمْ تَرْكُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُهُمْ. يُقَالُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضًا وَرُضًا وَرِضْوَانًا وَرُضْوَانًا وَمَرْضَاةً، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ فِي التَّثْنِيَةِ: رِضَوَانٌ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: رِضَيَانٌ. وَحُكِيَ رِضَاءٌ مَمْدُودٌ، وَكَأَنَّهُ مصدر راضي يراضي مراضاة ورضاء. و" تَتَّبِعَ" مَنْصُوبٌ بِأَنْ وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ مَعَ حَتَّى، قَالَهُ الْخَلِيلُ. وَذَلِكَ أَنَّ حَتَّى خَافِضَةٌ لِلِاسْمِ، كَقَوْلِهِ:" حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" وَمَا يَعْمَلُ فِي الِاسْمِ لَا يَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ، وَمَا يَخْفِضُ اسْمًا لَا يَنْصِبُ شَيْئًا. وَقَالَ النحاس:" تَتَّبِعَ" منصوب بحتى، و" حَتَّى" بَدَلٌ مِنْ أَنْ. وَالْمِلَّةُ: اسْمٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
«٢» " وَالْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٢٦.
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٢١ الى ١٢٣]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ" قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: التوراة، والآية تعم. و" الَّذِينَ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ،" آتَيْناهُمُ" صِلَتُهُ،" يَتْلُونَهُ" خَبَرُ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ الْخَبَرَ" أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ". وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" فَقِيلَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، بِاتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا تَضَمَّنَهُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها" أَيْ أَتْبَعَهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ جَعَلَتْ دَلْوِي تَسْتَتْلِينِي «١»
وَرَوَى نَصْرُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" قَالَ: (يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ). فِي إِسْنَادِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمَجْهُولِينَ فِيمَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ يَتَّبِعُ الْقُرْآنَ يَهْبِطُ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ الَّذِينَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلُوهَا مِنَ اللَّهِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذُوا مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ
ولا أريد تبع القرين
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٤]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
فيه عشرون مَسْأَلَةً: الْأُولَى- لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْكَعْبَةِ وَالْقِبْلَةِ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْيَهُودِ- وَهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ- أَلَّا يَرْغَبُوا عَنْ دِينِهِ. وَالِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ. وَإِبْرَاهِيمُ تَفْسِيرُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَبِالْعَرَبِيَّةِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَبٌ رَحِيمٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ السُّرْيَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ أَوْ يُقَارِبُهُ فِي اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ تَفْسِيرُهُ أَبٌ رَاحِمٌ، لِرَحْمَتِهِ بِالْأَطْفَالِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ هُوَ وَسَارَةُ زَوْجَتُهُ كَافِلَيْنِ لِأَطْفَالِ المؤمنين الذين يَمُوتُونَ صِغَارًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الرُّؤْيَا الطَّوِيلِ عَنْ سَمُرَةَ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الرَّوْضَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوْلَهُ أَوْلَادُ النَّاسِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، وَالْحَمْدُ لله. وإبراهيم هذا هُوَ ابْنُ تَارخ بْنِ نَاخور فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ «١» وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" الْأَنْعَامِ" بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ بَنِينَ: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَمَدْيَنُ وَمَدَائِنُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقُدِّمَ عَلَى الْفَاعِلِ للاهتمام، إذ كون الرب تبارك وتعالى
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٨٥. [..... ]
(٣). راجع ج ١٢ ص ١٠٢.
(٤). راجع ج ١٨ ص ٢٩١.
(٥). راجع ج ١٧ ص ١١٣.
(٢). سيأتي الكلام على البراجم في المسألة العاشرة.
(٣). سيذكر المؤلف معنى الاستحداد عند المسألة التاسعة.
(٢). قال النووي:" رواة مسلم متفقون على تخفيف (القدوم)، ووقع في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه، قالوا: وآلة النجار يقال لها: قدوم بالتخفيف لأغير، وأما القدوم مكان بالشام ففيه التخفيف والتشديد. فمن رواه بالتشديد أراد القرية، ورواية التخفيف تحتمل القرية والآلة، والأكثرون على التخفيف وعلى إرادة الآلة".
(٣). في أ، ح:" ابن شريح".
(٢). في اللسان:" قال الزجاج: يروى أن الرس ديار لطائفة من ثمود، قال ويروى أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج، ويروى أنهم كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أي دسوه فيها حتى مات، ويروى أن الرس بئر، وكل بئر عند العرب رس".
(٣). في الأصول:" زياد" والتصويب عن تهذيب التهذيب.
(٢). الرفع: الوسخ الذي بين الأنملة والظفر.
(٢). راجع ج ١٧ ص ١١.
، لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الجمعة
(٢). المفرق: وسط الرأس.
(٣). العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور.
(٤). الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس.
يُسَوَّدُ أَعْلَاهَا وَيُبَيَّضُ أَصْلَهَا | وَلَا خَيْرَ فِي الْأَعْلَى إذا فسد الأصل |
يَا خَاضِبَ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ تَسْتُرُهُ | سَلِ الْمَلِيكَ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ |
(٢). راجع ج ٥ ص ٢١٢.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٦٢.
(٤). راجع ج ٩ ص ٦٤.
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٩٥. [..... ]
(٣). في ب، ج:" ولا يفتون عليها".
(٤). آنفا: ألان. وفعلت الشيء آنفا. أي في أول وقت يقرب منى.
(٥). راجع ج ١ ص ٢٦٤ طبعه ثانية.
(٢). الذي في الأصول:" عقبة بن مسلم" وهو تحريف. ويوم الحرة ذكره ابن الأثير في النهاية فقال:" وهو يوم مشهور في الإسلام أيام يزيد بن معاوية لما انتهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري في ذى الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد. والحرة هذه: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة وكانت الوقعة بها". ويراجع تاريخ الطبري وابن الأثير والنجوم الزاهرة في حوادث سنة ثلاث وستين.
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٥]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً" فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" جَعَلْنَا" بِمَعْنَى صَيَّرْنَا لِتَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ." الْبَيْتَ" يَعْنِي الْكَعْبَةَ." مَثابَةً" أَيْ مَرْجِعًا، يقال: ثاب يثوب مثابا ومثابة وثئوبا وَثَوَبَانًا. فَالْمَثَابَةُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثَابُ إِلَيْهِ، أَيْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ. قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فِي الْكَعْبَةِ «١»:
مَثَابًا لِأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا | تَخُبُّ إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الذَّوَامِلُ |
جُعِلَ الْبَيْتُ مَثَابًا لَهُمْ | لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرُ يَقْضُونَ الْوَطَرْ |
«٢» "، فَلَمَّا نَزَلَتْ قُلْتُ أَنَا: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، فَنَزَلَتْ:" فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «٣» "، وَدَخَلْتُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللَّهُ بِأَزْوَاجٍ خَيْرٍ مِنْكُنَّ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ:" عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ «٤» ". قُلْتُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرٌ لِلْأُسَارَى، فَتَكُونُ مُوَافَقَةُ عُمَرَ فِي خَمْسٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ مَقامِ" الْمَقَامُ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. قال النحاس:" مقام" من قام يقوم، يكون مَصْدَرًا وَاسْمًا لِلْمَوْضِعِ. وَمُقَامٌ مِنْ أَقَامَ، فَأَمَّا قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ «٥» | وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ |
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠٩، ١٠ ١.
(٣). راجع ج ١٢ ص ١٠٩، ١٠ ١.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٩٣.
(٥). في نسخ الأصل:" وجوهها". والتصويب عن الديوان.
(٦). في ب، ج، ز:" نفذ".
(٢). هذا الاسم ساقط من ب، ج، ز.
عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الْفَنْزَجَا «٣»
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَاكِفُونَ الْمُجَاوِرُونَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُصَلُّونَ. وَقِيلَ: الْجَالِسُونَ بِغَيْرِ طَوَافٍ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ." وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" أَيِ الْمُصَلُّونَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. وَخُصَّ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ أَحْوَالِ الْمُصَلِّي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٤» مَعْنَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لُغَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ" دَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى جَمِيعُ بُيُوتِهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَهُ فِي التَّطْهِيرِ وَالنَّظَافَةِ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْكَعْبَةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهَا، أَوْ لِكَوْنِهَا أَعْظَمَ حُرْمَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي التَّنْزِيلِ" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ «٥» " وَهُنَاكَ يَأْتِي حُكْمُ الْمَسَاجِدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه
(٢). هو العجاج، يصف ثورا. وصدر البيت:
فهن يعكفن به إذا حجا
(٣). الفنزجة والفنزج (بفتح فسكون): رقص العجم إذا أخذ بعضهم يد بعض وهم يرقصون.
(٤). راجع ج ١ ص ٢٩١، ٣٤٤ طبعه ثانية.
(٥). راجع ج ١٢ ص ٢٦٤.
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
وَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَلَداً آمِناً" يَعْنِي مَكَّةَ، فَدَعَا لِذُرِّيَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ بِالْأَمْنِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ. فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ فَاقْتَلَعَ الطَّائِفَ مِنْ الشَّامِ فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ أُسْبُوعًا، فَسُمِّيَتْ الطَّائِفُ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَنْزَلَهَا تِهَامَةَ، وَكَانَتْ مَكَّةُ وَمَا يَلِيهَا حِينَ ذَلِكَ قَفْرًا لَا مَاءَ وَلَا نَبَاتَ، فَبَارَكَ اللَّهُ فِيمَا حَوْلَهَا كَالطَّائِفِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْبَتَ فِيهَا أَنْوَاعُ الثَّمَرَاتِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ «١» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ العلماء في مكة هل صارت حراما آمِنًا بِسُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ كَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حَرَمًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ الْمُسَلَّطِينَ، وَمِنَ الْخُسُوفِ وَالزَّلَازِلِ، وَسَائِرِ الْمَثُلَاتِ الَّتِي تَحِلُّ بِالْبِلَادِ، وَجَعَلَ فِي النُّفُوسِ الْمُتَمَرِّدَةِ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَالْهَيْبَةِ لَهَا مَا صَارَ بِهِ أَهْلُهَا مُتَمَيِّزِينَ بِالْأَمْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى. وَلَقَدْ جَعَلَ فِيهَا سُبْحَانَهُ مِنَ الْعَلَامَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ مَا شُوهِدَ مِنْ أَمْرِ الصَّيْدِ فِيهَا، فَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ فَلَا يُهَيِّجُ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا خَرَجَا مِنَ الْحَرَمِ عَدَا الْكَلْبُ عَلَيْهِ وَعَادَ إِلَى النُّفُورِ وَالْهَرَبِ. وَإِنَّمَا سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهَا آمِنًا مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَالْغَارَاتِ، وَأَنْ يَرْزُقَ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، لَا عَلَى مَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ الْمَنْعُ مِنْ سَفْكِ الدَّمِ فِي حَقِّ مَنْ لزمه القتل،
(٢). الخلى (مقصور): النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا، واختلاؤه: قطعه.
(٣). الإذخر (بكسر الهمزة والخاء): حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب، ويحرق بدل الخشب والفحم. والقين: الحداد.
(٢). راجع المسألة الرابعة ج ١ ص ٢٢٩.
(٣). راجع المسألة الاولى ج ١ ص ١٦٢ طبعه ثانية. [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٧]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ" الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُهُ، فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْجُدُرُ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهَا الْأَسَاسُ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ الْبَيْتَ لَمَّا هُدِمَ أُخْرِجَتْ مِنْهُ حِجَارَةٌ عِظَامٌ) فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوَاعِدَ كَانَتْ قَدِ انْدَرَسَتْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهَا. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَضَعَ الْبَيْتَ عَلَى أَرْكَانٍ رَآهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ. وَالْقَوَاعِدُ وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ. وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ وَاحِدهَا قَاعِدٌ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ بَنَى الْبَيْتَ أَوَّلًا وَأَسَّسَهُ، فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ. رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سُئِلَ أَبِي وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ بَدْءِ خَلْقِ الْبَيْتِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا قَالَ:" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:" أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ" فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، فَعَاذُوا بِعَرْشِهِ وَطَافُوا حَوْلَهُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَسْتَرْضُونَ رَبَّهُمْ حَتَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمُ: ابْنُوا لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ يَتَعَوَّذُ بِهِ مَنْ سَخِطْتُ عَلَيْهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَطُوفُ حَوْلَهُ كَمَا طُفْتُمْ حَوْلَ عَرْشِي، فَأَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيَتْ عَنْكُمْ، فَبَنَوْا هَذَا الْبَيْتَ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى آدَمَ: إِذَا هَبَطْتَ ابْنِ لِي بَيْتًا ثُمَّ احْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِعَرْشِي الَّذِي
(٢). راجع ج ٩ ص ٤٨.
(٢). في أ، ج، ز:" ويجوز أن يكون".
(٢). في ج:" ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة.
(٣). في ج:" ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة.
(٤). هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.
(٢). الاخشان: الحبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس، والأحمر.
(٣). الجدر: (بفتح الجيم وإسكا- الدال): حجر الكعبة (بكسر الحاء).
(٤). الزيادة عن صحيح مسلم.
(٢). الزيادة عن صحيح مسلم. [..... ]
(٣). كذا في نسخ الأصل. ولمعل تذكير الضمير على بمعنى البيت.
(٢). كان في صحيح مسلم. وفى نسخ الأصل:" تمامه".
(٣). القباطي (جمع القبطية القاف): ثياب كتاب بيض رقاق تعمل بمصر، وهى منسوبة إلى القبط على غير قياس.
(٤). القفد (بفتح فسكون): صفع الرأس ببسط الكف من قبل القفا.
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٨]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ" أي صيرنا، و" مُسْلِمَيْنِ" مَفْعُولٌ ثَانٍ، سَأَلَا التَّثْبِيتَ وَالدَّوَامَ. وَالْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ جَمِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «٢» " فَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شي وَاحِدٌ، وَعَضَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:" فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «٣» ". وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ" مُسْلِمِينَ" عَلَى الْجَمْعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ" أَيْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا فَاجْعَلْ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَدْعُ نَبِيٌّ إِلَّا لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّهُ دَعَا مَعَ دُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ ولهذه الامة. و" من" فِي قَوْلِهِ:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا" لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَعْلَمَهُ أَنَّ مِنْهُمْ ظَالِمِينَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا" العرب خاصة. قال السهيلي «٤»: وذريتهما
(٢). راجع ج ٤ ص ٤٣.
(٣). راجع ج ١٧ ص ٤٨.
(٤). اضطربت الأصول في ذكر كلام السهيلي، وقد ذكر الطبري في تاريخه خبر أولاد إسماعيل (ص ٣٥١ قسم أول)، وابن الأثير (ج ١ ص ٨٨) وابن هشام في سيرته ص ٤ طبع أوربا، فيراجع.
وإن معاوية الاكرمي... ن حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الْأُمَمِ
وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الشَّجَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الدِّمَاغِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَأْمُومٌ وَأَمِيمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَرِنا مَناسِكَنا"" أَرِنَا" مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَتَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ: مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَيَلْزَمُ قَائِلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ مِنْهُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَنْفَصِلُ «٦» بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ رُؤْيَةِ القلب إلى مفعولين [كغير المعدي «٧»]، قال حطايط بْنُ يَعْفُرَ أَخُو الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي «٨»... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالسُّدِّيُّ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَرُوَيْسٍ وَالسُّوسِيِّ" أَرْنَا" بِسُكُونِ الرَّاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أبو عمرو باختلاس كسرة
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧٤.
(٣). راجع ج ١١ ص ٣٣٨.
(٤). راجع ج ٩ ص ٢٠١.
(٥). القائل هو الأعشى، كما في اللسان. [..... ]
(٦). قال أبو حيان في البحر:" وقوله: ينفصل... إلخ. يعنى أنه قد استعمل في اللسان العربي متعديا إلى إثنين ومعه همزة النقل كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة.
(٧). زيادة عن ابن عطية.
(٨). ويروى" لعلى"، ولان بمعنى لعل.
أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا | مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا |
(٢). ثبير: جبل بين مكة ومنى وهو على يمين الذاهب إلى مكة.
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٩]
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
(٢). يراجع ج ١ ص ٣٢٥ طبعه ثانية.
(٢). يراجع ج ١ ص ٣٤٣ طبعه ثانية.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٣٦١.
(٤). راجع ج ١٥ ص ١٧٤.
(٥). راجع ج ١٦ ص ٨.
(٦). راجع المسألة الثالثة ج ١ ص ٢٨٧ طبعه ثانية. [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٠]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ"" مَنْ" اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، و" يَرْغَبُ" صِلَةُ" مَنْ"... " إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَهُوَ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَقَعَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ وَمَا يَرْغَبُ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَالْمَعْنَى: يَزْهَدُ فِيهَا وَيَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْهَا، أَيْ عَنِ الْمِلَّةِ وَهِيَ الدِّينُ وَالشَّرْعُ." إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" قَالَ قَتَادَةُ: هُمِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، رَغِبُوا عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِدْعَةً لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّجَّاجُ:" سَفِهَ" بِمَعْنَى جَهِلَ، أَيْ جَهِلَ أَمْرَ نَفْسِهِ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى أَهْلَكَ نَفْسَهُ. وَحَكَى ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ أَنَّ" سَفِهَ" بِكَسْرِ الْفَاءِ يَتَعَدَّى كَسَفَّهَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَشَدِّهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ وَيُونُسَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:" سَفِهَ نَفْسَهُ" أَيْ فَعَلَ بِهَا مِنَ السَّفَهِ مَا صَارَ بِهِ سَفِيهًا. وَعَنْهُ أَيْضًا هِيَ لُغَةٌ بِمَعْنَى سَفَّهَ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. فَأَمَّا سَفُهَ بِضَمِ الْفَاءِ فَلَا يَتَعَدَّى، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الْمَعْنَى جَهِلَ فِي نَفْسِهِ، فَحُذِفَتْ" فِي" فَانْتَصَبَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِثْلُهُ" عُقْدَةَ النِّكاحِ «١» "، أَيْ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ فُلَانٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، أَيْ فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ. الْفَرَّاءُ: هُوَ تَمْيِيزٌ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: مَعْنَاهُ جَهِلَ نَفْسَهُ وَمَا فِيهَا مِنَ الدِّلَالَاتِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا لَيْسَ كمثله شي، فَيُعْلَمُ بِهِ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مِنْ يَدَيْنِ يَبْطِشُ بِهِمَا، وَرِجْلَيْنِ يَمْشِي عَلَيْهِمَا، وَعَيْنٍ يُبْصِرُ بِهَا، وَأُذُنٍ يَسْمَعُ بِهَا، وَلِسَانٍ يَنْطِقُ بِهِ، وَأَضْرَاسٍ تَنْبُتُ لَهُ عِنْدَ غِنَاهُ عَنِ الرَّضَاعِ وَحَاجَتِهِ إِلَى الْغِذَاءِ لِيَطْحَنَ بِهَا الطَّعَامَ، وَمَعِدَةٍ أُعِدَّتْ لِطَبْخِ الْغِذَاءِ، وَكَبِدٍ يَصْعَدُ إِلَيْهَا صَفْوِهِ، وَعُرُوقٍ وَمَعَابِرَ يَنْفُذُ فِيهَا إِلَى الْأَطْرَافِ، وَأَمْعَاءٍ يَرْسُبُ إِلَيْهَا ثُفْلُ الْغِذَاءِ وَيَبْرُزُ مِنْ أَسْفَلِ الْبَدَنِ، فَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا قَادِرًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَهَذَا مَعْنَى قوله تعالى:"
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠١.
(٣). راجع ج ١٠ ص ١٩٨.
(٤). في أ:" لتشابهها... ".
[سورة البقرة (٢): آية ١٣١]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)الْعَامِلُ فِي" إِذْ" قَوْلُهُ:" اصْطَفَيْناهُ" أَيِ اصْطَفَيْنَاهُ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ. وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَالْكَلْبِيُّ: أَيْ أَخْلِصْ دِينَكَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ. وَقِيلَ: اخْضَعْ وَاخْشَعْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ «١»، عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي" الْأَنْعَامِ «٢» ". وَالْإِسْلَامُ هُنَا عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ. وَالْإِسْلَامُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ لِلْمُسْتَسْلِمِ. وَلَيْسَ كُلُّ إِسْلَامٍ إِيمَانًا، وَكُلُّ إِيمَانٍ إِسْلَامٌ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فقد استسلم وَانْقَادَ لِلَّهِ. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ آمَنَ بِاللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ فَزَعًا «٣» مِنَ السَّيْفِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيمَانًا، خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ، لِقَوْلِهِ:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «٤» " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ، وَأَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «٥» " الْآيَةَ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مُؤْمِنًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا قَالَ لَهُ: أَعْطِ فُلَانًا فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو مسلم) الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بَاطِنٌ، وَالْإِسْلَامُ ظَاهِرٌ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامِ وَيُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ، لِلُزُومِ أَحَدِهِمَا الْآخَرِ وَصُدُورِهِ عَنْهُ، كَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ ودلالة على صحته، فاعلمه. وبالله التوفيق.
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٢]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
(٢). راجع ٧ ص ٢٤.
(٣). في ج:" فرقا".
(٤). راجع ج ٤ ص ٤٣.
(٥). راجع ج ١٦ ص ٣٤٨.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٩٩.
(٣). كذا وردت هذه الأسماء في نسخ الأصل. والذي في كتاب الرسل والملوك لابن جرير الطبري قسم أول ص ٣٤٥ طبع أوربا:" يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر". وفى تاريخ ابن الأثير ج ١ ص ٨٧ طبع أوربا:" نفشان، ومران، ومديان، ومدن، ونشق، وسرح".
(٤). راجع ج ٩ ص ١٣٠. [..... ]
يا ابن مُلُوكٍ وَرَّثُوا الْأَمْلَاكَا | خِلَافَةَ اللَّهِ الَّتِي أَعْطَاكَا |
" لَكُمُ الدِّينَ" أَيِ الْإِسْلَامُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي" الدِّينِ" لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَرَفُوهُ." فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" إِيجَازٌ بَلِيغٌ. وَالْمَعْنَى: الْزَمُوا الْإِسْلَامَ وَدُومُوا عليه ولا تفارقوه
(٢). الحجل (بالتحريك): طائر على قدر الحمام كالقطا، أحمر المنقار والرجلين، ويسمى دجاج البر. ويسمى الذكر منه يعقوب وجمعه يعاقب ويعاقيب.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣٥٧.
قوله تعالى :﴿ يا بني ﴾ معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود والضحاك. قال الفراء : ألغيت أن لأن التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها. قال : وقول النحويين إنما أراد " أن " فألغيت ليس بشيء. النحاس :" يا بني " نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها، لأنها لو سكنت لالتقى ساكنان، ومثله " بمصرخي٧ " [ إبراهيم : ٢٢ ].
قوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ كسرت " إن " لأن أوصى وقال واحد. وقيل : على إضمار القول. ﴿ اصطفى ﴾ اختار. قال الراجز :
يا ابن ملوك ورثوا الأَمْلاَكَا | خلافة الله التي أعطاكَا |
﴿ لكم الدين ﴾ أي الإسلام، والألف واللام في " الدين " للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه. ﴿ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ إيجاز بليغ. والمعنى : الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقه حتى، تموتوا. فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبا لازما. " لا " نهي " تموتن " في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. ﴿ إلا وأنتم مسلمون ﴾ ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون.
٢ راجع ج ١٥ ص ٩٩.
٣ كذا وردت هذه الأسماء في نسخ الأصل: والذي في كتاب الرسل والملوك لابن جرير الطبري قسم أول ص ٣٤٥ طبه أوربا: "يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر" وفي تاريخ ابن الأثير ج ١ ص ٨٧ طبع أوربا: نفشان، ومران، ومديان، ومدن، ونشق، وسرح"..
٤ راجع ج ٩ ص ١٣٠..
٥ في ا، ب، ز: "بل إن".
٦ الحجل (بالتحريك): طائر على قدر الحمام كالقطا، أحمر المنقار والرجلين، ويسمى دجاج البر. ويسمى الذكر منه يعقوب وجمعه يعاقب ويعاقب..
٧ راجع ج ٩ ص ٣٥٧..
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٣]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ"" شُهَدَاءَ" خَبَرُ كَانَ، وَلَمْ يُصْرَفْ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ التَّأْنِيثِ، وَدَخَلَتْ لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ كَمَا تَدْخُلُ الْهَاءُ. وَالْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَنْسُبُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ بَنِيهِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَكَذَّبَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ: أَشَهِدْتُمْ يَعْقُوبَ وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَوْصَى فَتَدَّعُونَ عَنْ عِلْمٍ، أَيْ لَمْ تَشْهَدُوا، بل أنتم تفترون!. و" أم" بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ بَلْ أَشَهِدَ أَسْلَافُكُمْ يَعْقُوبَ. والعامل في" إذ" الاولى معنى الشهادة، و" إذ" الثانية بدل من الاولى. و" شهداء" جَمْعُ شَاهِدٍ أَيْ حَاضِرٍ. وَمَعْنَى" حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ" أَيْ مُقَدِّمَاتُهُ وَأَسْبَابُهُ، وَإِلَّا فَلَوْ حَضَرَ الْمَوْتُ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا. وَعَبَّرَ عَنِ الْمَعْبُودِ بِ" مَا" وَلَمْ يَقُلْ مَنْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ، وَلَوْ قَالَ" مَنْ" لَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْظُرَ مَنْ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَجْرِبَتَهُمْ فَقَالَ" مَا". وَأَيْضًا فَالْمَعْبُودَاتُ الْمُتَعَارَفَةُ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَمَادَاتٌ كَالْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْحِجَارَةِ، فَاسْتَفْهَمَ عَمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ هَذِهِ. وَمَعْنَى" مِنْ بَعْدِي" أَيْ مِنْ بَعْدِ موتي. وحكي أن يعقوب حين خيركما تُخَيَّرُ الْأَنْبِيَاءُ اخْتَارَ الْمَوْتَ وَقَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أُوصِيَ بَنِيَّ وَأَهْلِي، فَجَمَعَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ هَذَا، فَاهْتَدَوْا وَقَالُوا:" نَعْبُدُ إِلهَكَ" الْآيَةَ. فَأَرَوْهُ ثُبُوتَهُمْ عَلَى الدِّينِ وَمَعْرِفَتَهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى.
فقلنا أسلموا إن أَخُوكُمْ «١»
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْوَاتَنَا | بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالْأَبِينَا «٢» |
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٤]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
فقد سلمت من الإحن الصدور
وصف نساء سبين فوفد عليهن من قومهن من يفاديهن فبكين إليهم وفدينهم بآبائهن سرورا بوفودهم عليهن. (عن شرح الشواهد).
(٢). راجع خزانة الأدب في الشاهد الثامن والعشرين بعد الثلاثمائة.
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا" دَعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" بَلْ مِلَّةَ" أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ، فَلِهَذَا نُصِبَ الْمِلَّةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَلْ نَهْتَدِي بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ صَارَ مَنْصُوبًا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:" بَلْ مِلَّةُ" بِالرَّفْعِ، وَالتَّقْدِيرُ بَلِ الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و" حَنِيفاً" مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْمَكْرُوهَةِ إِلَى الْحَقِّ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَعْنِي، وَالْحَالُ خَطَأٌ، لَا يَجُوزُ جَاءَنِي غُلَامُ هِنْدٍ مُسْرِعَةً. وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ حنيفا لأنه
وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ | مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ |
إِذَا حُوِّلَ الظِّلُّ الْعَشِيَّ رَأَيْتَهُ | حَنِيفًا وَفِي قَرْنِ الضُّحَى يَتَنَصَّرُ |
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٦]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ" خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ) الْآيَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِذَا قِيلَ لَكَ أَنْتَ مُؤْمِنٌ؟ فَقُلْ:" آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ" الْآيَةَ. وَكَرِهَ أَكْثَرُ السَّلَفِ أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْأَنْفَالِ «١» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وسيل بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِفُلَانٍ النَّبِيِّ، فَسَمَّاهُ بِاسْمٍ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَلَوْ قَالَ نَعَمْ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، فَقَدْ شَهِدَ بِالنُّبُوَّةِ لِغَيْرِ نَبِيٍّ، وَلَوْ قَالَ لَا، فَلَعَلَّهُ نَبِيٌّ، فَقَدْ جَحَدَ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَقَدْ آمَنْتُ بِهِ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، عَلَّمَهُمُ الْإِيمَانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٧]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ. الْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا مِثْلَ إِيمَانِكُمْ، وَصَدَّقُوا مِثْلَ تَصْدِيقِكُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، فَالْمُمَاثَلَةُ وَقَعَتْ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ، وَقِيلَ «١»: إِنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ فِيمَا حَكَى الطَّبَرِيُّ:" فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَإِنْ خَالَفَ الْمُصْحَفُ، فَ" مِثْلُ" زَائِدَةٌ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٢» " أي ليس كهو شي. وقال الشاعر «٣»:
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ
وَرَوَى بَقِيَّةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقُولُوا فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ. تَابَعَهُ عَلِيُّ بن نصر الجهضيمي عَنْ شُعْبَةَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَالْمَعْنَى: أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِنَبِيِّكُمْ وَبِعَامَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ كَمَا لَمْ تُفَرِّقُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ أَبَوْا إِلَّا التَّفْرِيقَ فَهُمُ النَّاكِبُونَ عَنِ الدِّينِ «٤» إِلَى الشِّقَاقِ" فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ". وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" زَائِدَةً. قَالَ: وَالَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ نَهْيِهِ عن القراءة العامة شي ذهب إليه للمبالغة في نقي التَّشْبِيهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، أَيْ هَكَذَا فَلْيُتَأَوَّلْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى عَلَى، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا عَلَى مِثْلِ إِيمَانِكُمْ. وَقِيلَ:" مِثْلُ" عَلَى بَابِهَا أَيْ بِمِثْلِ الْمُنَزَّلِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ «٥» " وَقَوْلُهُ:" وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «٦» ".
(٢). راجع ج ١٦ ص ٨
(٣). هو حميد الأرقط، وصف قوما استؤصلوا فشبههم بالعصف الذي أكل حبه. والعصف التبن. (عن شرح الشواهد).
(٤). في ج:" عن التبيين". وفى ب، ز:" عن التدين".
(٥). راجع ج ١٦ ص ١٣.
(٦). راجع ج ١٣ ص ٣٥١. [..... ]
إِلَى كَمْ تَقْتُلُ الْعُلَمَاءُ قَسْرًا | وَتَفْجُرُ بِالشِّقَاقِ وَبِالنِّفَاقِ «١» |
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ | بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ |
(٢). زيادة من إعراب القرآن للنحاس.
(٣). الدراعة والمدرع: جبة مشوقة المقدم.
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٨]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)فِيهِ مَسَالَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" صِبْغَةَ اللَّهِ" قَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: دِينُ اللَّهِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ" مِلَّةَ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ اتَّبِعُوا. أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ الْزَمُوا. وَلَوْ قُرِئَتْ بِالرَّفْعِ لَجَازَ، أَيْ هِيَ صِبْغَةُ اللَّهِ. وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ تَصْبُغُ أَبْنَاءَهُمْ يَهُودًا، وَإِنَّ النَّصَارَى تَصْبُغُ أَبْنَاءَهُمْ نَصَارَى، وَإِنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّ" صِبْغَةَ" بَدَلٌ مِنْ" مِلَّةَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ، وَابْتِدَاءُ مَا خُلِقُوا عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةَ: الصِّبْغَةُ الدِّينُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصْبُغُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمَعْمُودِيَّةَ، وَيَقُولُونَ: هَذَا تَطْهِيرٌ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ فَأَتَى عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ غَمَسُوهُ فِي مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْمَعْمُودِيَّةِ، فَصَبَغُوهُ بِذَلِكَ ليطهروه بِهِ مَكَانَ الْخِتَانِ، لِأَنَّ الْخِتَانَ تَطْهِيرٌ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ قَالَ:" صِبْغَةَ اللَّهِ" أَيْ صِبْغَةُ اللَّهِ أَحْسَنُ صِبْغَةٍ وَهِيَ الْإِسْلَامُ، فَسُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ. وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ مُلُوكِ هَمْدَانَ:
وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ | وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ |
صَبَغْنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا | فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ |
" ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٩]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ الْمُحَاجَّةُ أَنْ قَالُوا: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، لِأَنَّا أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَقِيلَ: لِتَقَدُّمِ آبَائِنَا وَكُتُبِنَا، وَلِأَنَّا لَمْ نَعْبُدِ الْأَوْثَانَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ لِقِدَمِ آبَائِهِمْ وَكُتُبِهِمْ:" أَتُحَاجُّونَنا" أَيْ أَتُجَاذِبُونَنَا الْحُجَّةَ عَلَى دَعْوَاكُمْ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ، وَكُلٌّ مُجَازًى بِعَمَلِهِ، فَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِقِدَمِ الدِّينِ. وَمَعْنَى" فِي اللَّهِ" أَيْ فِي دِينِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْحَظْوَةِ لَهُ «٣». وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ:" أَتُحَاجُّونَنا". وَجَازَ اجْتِمَاعُ حَرْفَيْنِ مِثْلَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُتَحَرِّكَيْنِ، لِأَنَّ الثاني كالمنفصل. وقرا ابن محصين" أَتُحَاجُّونَّا" بِالْإِدْغَامِ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا
(٢). الحائط: البستان من النخل إذا كان عليه جدار.
(٣). كذا في الأصول، ولعل صوابه:" والحظوة عنده".
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٠]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ تَقُولُونَ" بِمَعْنَى قَالُوا «٢». وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ" تَقُولُونَ" بِالتَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُتَّسِقٌ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى دِينِكُمْ، فَهِيَ أَمِ الْمُتَّصِلَةُ، وَهِيَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قرأ بالياء منقطعة، فيكون
(٢). هذا القول بأن" أم" منقطعة.
[سورة البقرة (٢): آية ١٤١]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
كَرَّرَهَا لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، أَيْ إِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى إِمَامَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ يُجَازَوْنَ بِكَسْبِهِمْ فَأَنْتُمْ أَحْرَى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٢]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ" أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ فِي تَحْوِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الشَّامِ إلى الكعبة، ما وَلَّاهُمْ. و" سَيَقُولُ" بِمَعْنَى قَالَ، جَعَلَ الْمُسْتَقْبَلَ
(٢). قباء (بالضم): قرية على ميلين من المدينة على يسار لقاصد إلى مكة بها أثر بنيان كثير، وهناك مسجد التقوى. (عن معجم ياقوت).
(٣). رواية البخاري كما في صحيحه:" وإنه صلى- أو صلاها- صلاة العصر... ".
فَصَلَّيْنَاهُمَا، ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الظُّهْرَ يَوْمئِذٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ لِأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ:" كُنْتُ أُصَلِّي" فِي فَضْلِ الْفَاتِحَةِ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». الثَّالِثَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، فَقِيلَ: حُوِّلَتْ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَخَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ أَيْضًا، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَلِمَ اللَّهُ هَوَى نَبِيِّهِ فَنَزَلَتْ:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ" الْآيَةَ. فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ تَحْوِيلَهَا كَانَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ
(٢). هذه الكلمة ساقطة من أ- والنعم- بفتحتين-: واحد الانعام، الإبل والشاء أو الإبل خاصة، يذكر ويؤنث.
(٣). يراجع ج ١ ص ١٠٨ طبعه ثانية. [..... ]
(٢). عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها" ص ٦١ من هذا الجزء.
الأولى : قوله تعالى :" سيقول السفهاء من الناس " أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ما ولاهم. و " سيقول " بمعنى قال، جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله :" من الناس " لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من " السفهاء " جميع من قال :" ما ولاهم ". والسفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم١. والنساء سفائه. وقال المؤرج : السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب : الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي : المنافقون. الزجاج : كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا : قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود : قد التبس عليه أمره وتحير. وقال المنافقون : ما ولاهم عن قبلتهم، واستهزؤوا بالمسلمين. و " ولاهم " يعني عدلهم وصرفهم.
الثانية : روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال : بينما الناس بقباء٢ في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر٣ وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل :" وما كان الله ليضيع إيمانكم " [ البقرة : ١٤٣ ]، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح. وقيل : نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة. وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة٤ بنت أسلم وكانت من المبايعات، قالت : كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة - أو قال : البيت الحرام - فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال. وقيل : إن الآية نزلت في غير صلاة، وهو الأكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله أعلم. وروي أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية :" قد نرى تقلب وجهك في السماء " [ البقرة : ١٤٤ ] حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا نَعَماً٥ فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر : ليس لأبي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث :" كنت أصلي " في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم٦.
الثالثة : واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل : حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا. قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت :" قد نرى تقلب وجهك في السماء " الآية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق : وذلك في رجب من سنة اثنتين. وقال أبو حاتم البستي : صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان.
الرابعة : واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن : كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله٧ عكرمة وأبو العالية. الثاني : أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري، وقال الزجاج : امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة. الثالث : وهو الذي عليه الجمهور : ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى :" وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " [ البقرة : ١٤٣ ] الآية.
الخامسة : واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين، فقالت طائفة : إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون : أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر : وهذا أصح القولين عندي. قال غيره : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس. وقيل : لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل : مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال : كانت٨ مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال : وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
السادسة : في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الأمة إلا من شذ، كما تقدم٩. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل.
السابعة : ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون :" كنت عليها " بمعنى أنت عليها.
الثامنة : وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الآتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم : والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون. وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه.
التاسعة : وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافا لمن قال : إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة. فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبني مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض١٠، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي عياض : ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني.
قلت : وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي - رحمهما الله - وغيرهما. وقيل : يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وسيأتي.
العاشرة : وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للأفاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي.
الحادية عشرة : وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال :" اليوم أكملت لكم دينكم١١ " [ المائدة : ٣ ].
قوله تعالى :" قل لله المشرق والمغرب " أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم١٢.
قوله تعالى :" يهدي من يشاء " إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى أعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم.
٢ قباء (بالضم): قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة بها أثر بنيان كثير، وهناك مسجد التقوى (عن معجم ياقوت)..
٣ رواية البخاري كما في صحيحه: "وإنه صلى – أوصلاها- صلاة العصر..."..
٤ في كتاب الاستيعاب والقاموس: "نولة" بالنون، وقال صاحب القاموس: "أو هي كهينة". وقد ذكرت في كتاب الإصابة مصغرة في حرفي التاء والنون، وهي بالنون رواية إسحاق بن إدريس عن جعفر بن محمود، وبالتاء رواية إبراهيم بن حمزة؛ قال صاحب الإصابة: "وهي أوثق"..
٥ هذه الكلمة ساقطة من أ –والنعم- بفتحين-: واحد الأنعام، الإبل والشاء أو الإبل خاصة، يذكر ويؤنث..
٦ يراجع ج ١ ص ١٠٨ طبعة ثانية..
٧ في الأصول: "وقال"..
٨ العبارة غير واضحة. والذي في تفسير الطبري (ج ٢ ص ٢١ طبع بولاق): "... قال الربيع: إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال: إن موسى عليه السلام كان يصلي إلى صخرة بيت المقدس، فقال أبو العالية: كان يصلي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال: قال: فبيني وبينك مسجد صالح فإنه نحته من الجبل، قال أبو العالية: قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام، قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذي القرنين وقبلته إلى الكعبة"..
٩ عند قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها" ص من هذا الجزء..
١٠ القراض (بكسر القاف) عند المالكية هو ما يسمى بالمضاربة عند الحنفية، وهو إعطاء المقارض (بكسر الراء وهو رب المال) المقارض (بفتح الراء وهو العامل) مالا ليتجر به على أن يكون له جزء معلوم من الربح..
١١ راجع ج ٦ ص ٦١.
١٢ ج ١ ص ١٤٧.
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" الْمَعْنَى: وَكَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ وَسْطُ الْأَرْضِ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَفَوْقَ الْأُمَمِ. وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ أَحْمَدَ الْأَشْيَاءِ أَوْسَطُهَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" قَالَ: (عَدْلًا). قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" قالَ أَوْسَطُهُمْ «٣» " أَيْ أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ | إِذَا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمعظم |
(٢). ج ١ ص ١٤٧.
(٣). ج ١٨ ص ٢٤٤.
أَنْتُمْ أَوْسَطُ حَيٍّ عَلِمُوا... بِصَغِيرِ الْأَمْرِ أَوْ إِحْدَى الْكُبَرِ
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَذْهَبَنَّ فِي الْأُمُورِ فَرَطًا... لَا تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا
وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا
وَوَسَطُ الْوَادِي: خَيْرُ مَوْضِعٍ فِيهِ وَأَكْثَرُهُ كَلَأً وَمَاءً. ولما كان الوسط مجانبا للغلق وَالتَّقْصِيرِ كَانَ مَحْمُودًا، أَيْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَمْ تُغْلِ غُلُوَّ النَّصَارَى فِي أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَا قَصَّرُوا تَقْصِيرَ الْيَهُودِ فِي أَنْبِيَائِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: (خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا). وَفِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" عَلَيْكُمْ «١» بِالنَّمَطِ الْأَوْسَطِ، فَإِلَيْهِ يَنْزِلُ الْعَالِي، وَإِلَيْهِ يَرْتَفِعُ النَّازِلَ". وَفُلَانٌ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَإِنَّهُ لَوَاسِطَةُ قَوْمِهِ، وَوَسَطَ قَوْمِهِ، أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ وَأَهْلُ الْحَسَبِ مِنْهُمْ. وَقَدْ وَسَطَ وَسَاطَةً وَسِطَةً، وَلَيْسَ مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي بَيْنَ شَيْئَيْنِ في شي. وَالْوَسْطُ (بِسُكُونِ السِّينِ) الظَّرْفُ، تَقُولُ: صَلَّيْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ. وَجَلَسْتُ وَسَطَ الدَّارِ (بِالتَّحْرِيكِ) لِأَنَّهُ اسْمٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ صَلُحَ فِيهِ" بَيْنَ" فَهُوَ وَسْطٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ فِيهِ" بَيْنَ" فَهُوَ وَسَطٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَرُبَّمَا يُسَكَّنُ وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِتَكُونُوا" نُصِبَ بِلَامِ كَيْ، أي لان تكونوا." شُهَداءَ" خَبَرُ كَانَ." عَلَى النَّاسِ" أَيْ فِي الْمَحْشَرِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً... (. وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا ابن المبارك بمعناه،
(٢). راجع ج ٤ ص ١٧٠.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٤٤.
(٤). أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له. وفى الحديث:" قال يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك وعدته لوجدتني عنده... ". راجع صحيح مسلم" فضل عيادة المريض".
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٥٣.
(٣). راجع ج ١٧ ص ٣٠٨.
(٤). راجع ص ١٤٨ من هذا الجزء.
وشر الطالبين فلا تكنه | يقاتل عمه الرءوف الرَّحِيمَ |
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٤]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُقَدَّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ". وَمَعْنَى" تَقَلُّبَ وَجْهِكَ": تَحَوُّلُ وَجْهِكَ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. الزَّجَّاجُ: تَقَلُّبُ عَيْنَيْكَ فِي النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَخَصَّ السَّمَاءَ بِالذِّكْرِ إِذْ هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِتَعْظِيمِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا وَيَعُودُ مِنْهَا كَالْمَطَرِ وَالرَّحْمَةِ وَالْوَحْيِ. وَمَعْنَى" تَرْضاها" تُحِبُّهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ إِذَا صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَنْظُرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى قِبَلِ الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ". وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَالْقَوْلُ فِيهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمِي | صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ |
وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ | هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمُ قِطَعَا |
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولًا | وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو |
(٢). هو أبو زنباع الجذامي، (عن اللسان).
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٥]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ" لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، وَلَيْسَ تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ، أَيِ الْعَلَامَاتُ. وَجَمْعُ قِبْلَةٍ فِي التَّكْسِيرِ: قِبَلٌ. وَفِي التَّسْلِيمِ: قِبِلَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تُبْدَلَ مِنَ الْكَسْرَةِ فَتْحَةٌ، فَتَقُولُ قِبَلَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ الْكَسْرَةُ وَتُسَكَّنَ الْبَاءُ فَتَقُولُ قِبْلَاتٌ. وَأُجِيبَتْ" لَئِنْ" بِجَوَابِ" لَوْ" وَهِيَ ضِدُّهَا فِي أَنَّ" لَوْ" تَطْلُبُ فِي جَوَابِهَا الْمُضِيَّ وَالْوُقُوعَ، وَ" لَئِنْ" تَطْلُبُ الِاسْتِقْبَالَ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: أُجِيبَتْ بِجَوَابِ" لَوْ" لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ أَتَيْتَ. وَكَذَلِكَ تُجَابُ" لَوْ" بِجَوَابِ" لَئِنْ"، تَقُولُ: لَوْ أَحْسَنْتَ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «٣» " أَيْ وَلَوْ أَرْسَلْنَا رِيحًا. وَخَالَفَهُمَا سِيبَوَيْهِ فَقَالَ: إن معنى" لئن" مخالف
(٢). ف ب:" بأن الله تعالى يعلم أعمال... ".
(٣). راجع ج ١٤ ص ٤٥.
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٦]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ"" الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ" يَعْرِفُونَهُ". وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خفض على الصفة ل" لظالمين"، و" يعرفون" فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ وَصِدْقَ رِسَالَتِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ:" يَعْرِفُونَ" تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ أَنَّهُ حَقٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جريج والربيع وقتادة أيضا.
(٢). راجع ص ٩٥ من هذا الجزء.
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٧]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ" يَعْنِي اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، لَا مَا أَخْبَرَكَ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ قِبْلَتِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ" الْحَقَّ" مَنْصُوبًا بِ" يَعْلَمُونَ" أَيْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ. وَيَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْزَمِ الْحَقَّ. وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الْحَقُّ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ جَاءَكُ الْحَقُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا الَّذِي فِي" الْأَنْبِيَاءِ"" الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ «٢» " فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَهُ إِلَّا مَنْصُوبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" مُبْتَدَأُ آيَةٍ «٣»، وَالَّذِي فِي الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" أَيْ مِنَ الشَّاكِّينَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. يُقَالُ: امْتَرَى فُلَانٌ [فِي] كَذَا إِذَا اعْتَرَضَهُ الْيَقِينُ مَرَّةً وَالشَّكُّ أُخْرَى فَدَافَعَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمِنْهُ الْمِرَاءُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشُكُّ فِي قَوْلِ صَاحِبِهِ. وَالِامْتِرَاءُ فِي الشَّيْءِ الشَّكُّ فِيهِ، وَكَذَا التَّمَارِي. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْمُمْتَرِينَ الشَّاكُّونَ قَوْلَ الْأَعْشَى:
تَدِرُّ على أسوق الممترين | من ركضا إذا ما السراب ارجحن |
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٨٠.
(٣). في أ:" به". [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ١٤٨]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى:"- لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
" الْوِجْهَةُ وَزْنُهَا فِعْلَةٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ. وَالْوِجْهَةُ وَالْجِهَةُ وَالْوَجْهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُرَادُ الْقِبْلَةُ، أَيْ إِنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَكَ وَأَنْتَ لَا تَتَّبِعُ قِبْلَتَهُمْ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ إِمَّا بِحَقٍّ وَإِمَّا بِهَوًى. الثانية- قوله تعالى:"وَمُوَلِّيها
"" هُوَ" عَائِدٌ عَلَى لَفْظِ كُلٍّ لَا عَلَى مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَعْنَى لَقَالَ: هُمْ مُوَلُّوهَا وُجُوهَهُمْ، فَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ وَنَفْسَهُ. وَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ صَاحِبِ مِلَّةٍ قِبْلَةٌ، صَاحِبُ الْقِبْلَةِ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ، عَلَى لَفْظِ كُلٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بن سليمان:"وَلِّيها
" أَيْ مُتَوَلِّيهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَامِرٍ" مُوَلَّاهَا" عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِوَاحِدٍ، أَيْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ قِبْلَةٌ، الْوَاحِدُ مُوَلَّاهَا أَيْ مَصْرُوفٌ إِلَيْهَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ" هُوَ" ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، إِذْ
" على الامر في قوله:"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" لِلِاهْتِمَامِ بِالْوِجْهَةِ كَمَا يُقَدَّمُ الْمَفْعُولُ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَسَلِمَتِ الْوَاوُ فِي"جْهَةٌ
" لِلْفَرْقِ بَيْنَ عِدَةٍ وَزِنَةٍ، لِأَنَّ جِهَةً ظَرْفٌ، وَتِلْكَ مَصَادِرُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ شَذَّ عَنِ الْقِيَاسِ فَسَلِمَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عَلِيٍّ: وَإِذَا أَرَدْتَ الْمَصْدَرَ قُلْتَ جِهَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ الْجِهَةُ فِي الظَّرْفِ. الثالثة- قوله تعالى:"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" أَيْ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَحَذَفَ الْحَرْفَ، أَيْ بَادِرُوا مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْحَثَّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ إِلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ بِالْعُمُومِ، فَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ لِسِيَاقِ الْآيِ. وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ الْمُبَادَرَةُ بِالصَّلَاةِ أَوَّلَ وَقْتِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إِلَى الصَّلَاةِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي الْبَدَنَةَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَقَرَةَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْكَبْشَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَيْضَةَ (. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ (. وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَوْلَهُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا). وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ" أَوَّلَ وَقْتِهَا" بِإِسْقَاطِ" فِي". وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَوَسَطُ الْوَقْتِ رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَّى... ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا. وَأَمَّا الظُّهْرُ فَإِنَّهَا تَأْتِي النَّاسَ [عَلَى «٢»] غَفْلَةٍ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا حَتَّى يَتَأَهَّبُوا وَيَجْتَمِعُوا. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ قَالَ مَالِكٌ: أَوَّلُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا لِلظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى الظُّهْرُ عِنْدَ الزَّوَالِ وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: تِلْكَ صَلَاةُ الْخَوَارِجِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَصَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَبْرِدْ) ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فقال له: (أبرد) حتى رأينا في التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ»
جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ. وَالَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كان البرد عجل.
(٢). الزيادة عن أحكام القرآن لابن العربي.
(٣). الفيح: سطوع الحر وفورانه.
" يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شي لِتَنَاسُبِ الصِّفَةِ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِعَادَةِ بعد الموت والبلى.
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
(٢). انتاب: قصد.
(٣). انتاب: قصد.
(٤). كذا في صحيح الترمذي. وفى الأصول:" تأخير الصلاة".
(٥). الزيادة من صحيح الترمذي.
مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ | دَارُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا دَارُ مَرْوَانَا |
"" ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ" إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بِاحْتِجَاجِهِ فِيمَا قَدْ وَضَحَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: مالك عَلَيَّ حُجَّةٌ إِلَّا الظُّلْمَ أَوْ إِلَّا أَنْ تظلمني، أي مالك حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ وَلَكِنَّكَ تَظْلِمُنِي، فَسَمَّى ظُلْمَهُ حُجَّةً لِأَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهِ سَمَّاهُ حُجَّةً وَإِنْ كَانَتْ دَاحِضَةً. وَقَالَ قُطْرُبُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَالَّذِينَ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي" عَلَيْكُمْ". وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:" إِلَّا الَّذِينَ" اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: نَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي اسْتِقْبَالِهِمْ الْكَعْبَةَ. وَالْمَعْنَى: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْحُجَّةَ الدَّاحِضَةَ. حَيْثُ قَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ، وَتَحَيَّرَ مُحَمَّدٌ فِي دِينِهِ، وَمَا تَوَجَّهَ إِلَى قِبْلَتِنَا إِلَّا أَنَّا كُنَّا أَهْدَى مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَمْ تَنْبَعِثْ إِلَّا مِنْ عَابِدِ وَثَنٍ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مُنَافِقٍ. وَالْحُجَّةُ بِمَعْنَى الْمُحَاجَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ. وَسَمَّاهَا اللَّهُ حُجَّةً وَحَكَمَ بِفَسَادِهَا حَيْثُ كَانَتْ مِنْ ظَلَمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْيَهُودَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى كُفَّارَ الْعَرَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يُحَاجُّونَكُمْ، وَقَوْلُهُ" مِنْهُمْ" يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ. وَالْمَعْنَى لَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١١٦.
[سورة البقرة (٢): آية ١٥١]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَما أَرْسَلْنا" الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، الْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِتْمَامًا مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، أَيْ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي بَيَانِ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا. وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَالتَّشْبِيهُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ فِي الْقِبْلَةِ كَالنِّعْمَةِ فِي الرِّسَالَةِ، وَأَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي عِظَمِهِ كَعِظَمِ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أي فاذكروني
(٢). يراجع ج ١ ص ١٦٠ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٥٢ الى ١٥٣]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" أَمْرٌ وَجَوَابُهُ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ فَلِذَلِكَ جُزِمَ. وَأَصْلُ الذِّكْرِ التَّنَبُّهُ بِالْقَلْبِ لِلْمَذْكُورِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ. وَسُمِّيَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ذِكْرًا لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ إِطْلَاقُ الذِّكْرِ عَلَى الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ صَارَ هُوَ السَّابِقَ لِلْفَهْمِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الذِّكْرُ طَاعَةُ اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ أَكْثَرَ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَإِنْ أَقَلَّ صَلَاتَهُ وَصَوْمَهُ وَصَنِيعَهُ لِلْخَيْرِ وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ نَسِيَ اللَّهَ وَإِنْ كَثَّرَ صَلَاتَهُ وَصَوْمَهُ وَصَنِيعَهُ لِلْخَيْرِ)، ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي" أَحْكَامِ الْقُرْآنِ" لَهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: إِنِّي لَأَعْلَمَ السَّاعَةَ الَّتِيِ يَذْكُرُنَا اللَّهُ فِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ تَعْلَمُهَا؟ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَذْكُرُهُ مُؤْمِنٌ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يَذْكُرُهُ كَافِرٌ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ بعذاب. وسيل أَبُو عُثْمَانَ فَقِيلَ لَهُ: نَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا نَجِدُّ فِي قُلُوبِنَا حَلَاوَةً؟ فَقَالَ: احْمَدُوا اللَّهَ تعالى على أن زين جارحة من جواركم بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ نسي في جنب ذكره
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٦٧.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٥٧
[سورة البقرة (٢): آية ١٥٤]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
(٢). الذي في معاجم اللغة أن الفصيح الثاني.
(٣). تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج ١ ص ٣٩٧ طبعه ثانية.
(٤). يراجع ج ١ ص ١٨٣.
(٥). يراجع ج ١ ص ٣٧١ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): آية ١٥٥]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ" هَذِهِ الْوَاوُ مَفْتُوحَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا ضُمَّتْ إِلَى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الْفِعْلُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَالْبَلَاءُ يَكُونُ حَسَنًا وَيَكُونُ سَيِّئًا. وَأَصْلُهُ الْمِحْنَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». والمعنى لنمتحننكم لِنَعْلَمَ الْمُجَاهِدَ وَالصَّابِرَ عِلْمَ مُعَايَنَةٍ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ابْتُلُوا بِهَذَا لِيَكُونَ آيَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى هَذَا حِينَ وَضَحَ لَهُمُ الْحَقُّ. وَقِيلَ: أَعْلَمَهُمْ بِهَذَا لِيَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ، فَيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الْجَزَعِ، وَفِيهِ تَعْجِيلُ ثَوَابِ الله تعالى على العزم وتوطين النفس. قوله تعالى:" بِشَيْءٍ" لَفْظٌ مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ" بِأَشْيَاءَ" عَلَى الْجَمْعِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّوْحِيدِ، أَيْ بِشَيْءٍ من هذا وشئ مِنْ هَذَا، فَاكْتَفَى بِالْأَوَّلِ إِيجَازًا" مِنَ الْخَوْفِ" أَيْ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالْفَزَعِ فِي الْقِتَالِ، قَالَهُ ابن عباس. وقال الشافعي: هو خوف
(٢). تراجع المسألة الثالثة عشرة ج ١ ص ٣٨٧ طبعه ثانية.
(٢). هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢١٥.
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مُصِيبَةٌ" الْمُصِيبَةِ: كُلُّ مَا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ وَيُصِيبُهُ، يُقَالُ: أَصَابَهُ إِصَابَةً وَمُصَابَةً وَمُصَابًا. وَالْمُصِيبَةُ وَاحِدَةُ الْمَصَائِبِ. وَالْمَصُوبَةُ (بِضَمِ الصَّادِ) مِثْلُ الْمُصِيبَةِ. وَأَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى هَمْزِ الْمَصَائِبِ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ، كَأَنَّهُمْ شَبَّهُوا الْأَصْلِيَّ بِالزَّائِدِ، وَيُجْمَعُ عَلَى مَصَاوِبَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَالْمُصَابُ الْإِصَابَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلًا | أَهْدَى السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ |
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ | وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ |
أَوَمَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ جَمَّةٌ | وَتَرَى الْمَنِيَّةَ لِلْعِبَادِ بِمَرْصَدِ |
مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ؟ | هَذَا سَبِيلٌ لَسْتَ فِيهِ بِأَوْحَدِ |
فَإِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدًا وَمُصَابَهُ | فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ |
صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ | رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعْ |
[سورة البقرة (٢): آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
(٢). زيادة عن الترمذي.
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ «٢» مِنَ النَّفِيِّ | مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ |
وَتَوَلَّى الْأَرْضَ خَفًّا ذَابِلًا | فَإِذَا مَا صَادَفَ المرو رضخ |
حتى كأني لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةً | بِصَفَا الْمُشَقَّرِ «٣» كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ |
نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمُ | شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يتقرب |
(٢). في اللسان:" قال ابن سيده: كذا أنشده أبو على، وأنشده ابن دريد في الجمهرة:" كأن متني" قال: وهو الصحيح، لقوله بعده: من طول إشرافى على العلوي. والنفي: تطاير الماء عن الرشاء عند الاستقاء. ونفى المطر: ما تنقيه وترشه. قال صاحب اللسان:" وفسره ثعلب فقال: شبه الماء وقد وقع على متن المستقى بذرق الطائر على المصفى".
(٣). المشقر: حضن بالبحرين عظيم لعبد القيس يلي حصنا لهم آخر يقال له الصفا قبل مدينة هجر. ويروى" بصفا المشرق" قال أبو عبيدة: المشرق سوق الطائف. وقال الأصمعي: المشرق المصلى. (عن شرح الديوان ومعجم ياقوت).
فَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا» كَثِيرَةً | يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا |
لَا تَسُبَّنَّنِي فَلَسْتَ بِسِبِّي | إِنَّ سِبِّي مِنَ الرِّجَالِ الْكَرِيمُ |
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وَالسِّبُّ أَيْضًا الْحَبْلُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ | بِجَرْدَاءَ مِثْلَ الْوَكْفِ يَكْبُو غُرَابُهَا |
يَحُجُّ مَأْمُومَةً «٥» فِي قَعْرِهَا لَجَفٌ
اللَّجَفُ: الْخَسْفُ. تَلَجَّفَتِ الْبِئْرُ: انْخَسَفَ أَسْفَلُهَا. ثُمَّ اخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِالْقَصْدِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوِ اعْتَمَرَ" أَيْ زَارَ. والعمرة: الزيارة، قال الشاعر «٦»:
لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ | مَغْزًى بعيدا من بعيد وضبر «٧» |
(٢). الحلول: الأحياء المجتمعة، وهو جمع حال. والمزعفر: الملون بالزعفران، وسادات العرب تصبغ عما ثمها بالزعفران.
(٣). هو عبد الرحمن بن حسان يهجو مسكينا الدارمي. (عن اللسان).
(٤). هو عذار بن درة الطائي، كما في اللسان. وتمام البيت:
فاست الطبيب قذاها كالمغاريد
(٥). المأمومة: الشجة التي بلغت أم الرأس، وهى الجلدة التي تجمع الدماغ. وفى اللسان:" وفسر ابن دريد هذا الشعر فقال: وصف هذا الشاعر طبيبا يداوى شجة بعيدة القعر فهو يجزع من هولها، فالقذى يتساقط من استه كالمغاريد". والمغاريد: جمع مغرود وهو صمغ معروف.
(٦). هو العجاج يمدح عمر بن عبيد الله القرشي. عن اللسان.
(٧). ضمير: جمع قوائمه ليثب.
وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا | لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَا «١» |
(٢). الذي في صحيح الترمذي:" وقرأ". [..... ]
(٢). العتبية: كتاب في مذهب الامام مالك، نسبت إلى مؤلفها فقيه الأندلسي محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبى القرطبي المتوفى سنة ٢٥٤ هـ.
[سورة البقرة (٢): آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩)
فيه سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَكْتُمُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مَلْعُونٌ. وَاخْتَلَفُوا مَنِ الْمُرَادِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُهْبَانُ النَّصَارَى الَّذِينَ كَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَتَمَ الْيَهُودُ أَمْرَ الرَّجْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِنْ دِينِ اللَّهِ يُحْتَاجُ إِلَى بَثِّهِ، وَذَلِكَ مُفَسَّرٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ [يَعْلَمُهُ «٣»] فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ). رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُعَارِضُهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أن
(٢). المحجن: عصا معوجة الرأس يتناول بها الراكب ما سقط له.
(٣). الزيادة عن سنن ابن ماجة.
(٢). تراجع المسألة الثانية ج ١ ص ٣٣٥ طبعه ثانية.
(٢). يراجع ص ٢٥ من هذا الجزء.
[سورة البقرة (٢): آية ١٦٠]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" اسْتَثْنَى تَعَالَى التَّائِبِينَ الصَّالِحِينَ لِأَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الْمُنِيبِينَ لِتَوْبَتِهِمْ. وَلَا يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا قَوْلُ الْقَائِلِ: قَدْ تُبْتُ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُ فِي الثَّانِي خِلَافُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ مُظْهِرًا شَرَائِعَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي ظَهَرَ مِنْهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَجَانَبَ أَهْلَ الْفَسَادِ وَالْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ جَانَبَهُمْ وَخَالَطَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا يَظْهَرُ عَكْسَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامُهَا فِي" النِّسَاءِ «٤» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بعض العلماء في قوله:
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٥٠.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٤٤.
(٤). راجع ج ٥ ص ٩١.
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُمْ كُفَّارٌ" الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ لِي كَثِيرٌ مِنْ أَشْيَاخِي إِنَّ الْكَافِرَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ، لِأَنَّ حَالَهُ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي إِطْلَاقِ اللَّعْنَةِ: الْمُوَافَاةَ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازِ لَعْنِهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ وَلِجَوَازِ قَتْلِهِ وَقِتَالِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ فَالْعَنْهُ وَاهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي). فَلَعَنَهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ وَالدِّينُ وَالْإِسْلَامُ مَآلَهُ. وَانْتَصَفَ بِقَوْلِهِ: (عَدَدَ مَا هَجَانِي) وَلَمْ يَزِدْ لِيُعْلَمَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ. وَأَضَافَ الْهَجْوَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِ الْجَزَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ بِالْوَصْفِ بِذَلِكَ، كَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْمَكْرُ وَالِاسْتِهْزَاءُ وَالْخَدِيعَةُ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قُلْتُ: أَمَّا لَعْنُ الْكُفَّارِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ الْأَعْرَجَ يَقُولُ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ أَمْ لَمْ تَكُنْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، ولكنه مباح لمن
(٢). نعمان: هو ابن عمرو بن رفاعة، شهد العقبة وبدرا والمشاهد بعدها، وكان كثير المزاح، يضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مزاحه. (عن أسد الغابة).
(٣). قال ابن الأثير في النهاية:" أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. وقيل: أراد لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد".
[سورة البقرة (٢): آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" لَمَّا حَذَّرَ تَعَالَى مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ بَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ إِظْهَارُهُ وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ أَمْرُ التَّوْحِيدِ، وَوَصَلَ ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق
(٢). راجع ج ١٣ ص ٣٣٩.
[سورة البقرة (٢): آيَةً ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا نَزَلَتْ" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ! فَنَزَلَتْ" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ
في كل يوم وَكُلِّ لَيْلَاةٍ
وَقَالَ آخَرُ:
فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا وَكُلِّ لَيْلَاهُ | حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذْ رَآهُ |
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: وَيُقَالُ إِنَّ بَعْضَ الطَّيْرِ يُسَمَّى لَيْلًا، وَلَا أَعْرِفُهُ «١». وَالنَّهَارُ يُجْمَعُ نُهُرٌ وَأَنْهِرَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: نَهَرٌ جَمْعُ نُهُرٍ وَهُوَ جَمْعُ [الجمع «٢»] للنهار، وقيل النهار اسم
(٢). زيادة عن اللسان.
لَوْلَا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ | ثَرِيدُ لَيْلِ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ |
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ | حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ |
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا «١» لَا خَفَاءَ بِهِ | بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا |
إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَإِنَّهَا | أَمَارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكِ فَسَلِّمِي |
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا | يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا |
(٢). راجع ص ٢٧٣ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٤.
(٤). راجع ج ٨ ص ٣٢٤.
(٥). الجؤجؤ: الصدر. وقيل: عظامه.
(٢). أرتج البحر: إذا هاج. وقيل: إذا كثر ماؤه فعم كل شي.
(٣). راجع ج ٦ ص ٤٢٠.
(٤). راجع ج ١٢ ص ١١٢.
(٥). راجع ج ٢٠ ص ١٦٥.
دَبِيبَ قَطَا الْبَطْحَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلِ
وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ" تَصْرِيفُهَا: إِرْسَالُهَا عَقِيمًا وَمُلْقِحَةً، وَصِرًّا وَنَصْرًا وَهَلَاكًا، وَحَارَّةً وَبَارِدَةً، وَلَيِّنَةً وَعَاصِفَةً. وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا إِرْسَالُهَا جَنُوبًا وَشَمَالًا، وَدَبُورًا وَصَبًّا، وَنَكْبَاءَ، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي بَيْنَ مَهَبَّيْ رِيحَيْنِ. وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا أَنْ تَأْتِيَ السُّفُنُ الْكِبَارُ بِقَدْرِ مَا تَحْمِلُهَا، وَالصِّغَارُ كَذَلِكَ، وَيُصْرَفُ عنهما ما يضربهما، وَلَا اعْتِبَارَ بِكِبَرِ الْقِلَاعِ وَلَا صِغَرِهَا، فَإِنَّ الرِّيحَ لَوْ جَاءَتْ جَسَدًا وَاحِدًا لَصَدَمَتِ الْقِلَاعَ وَأَغْرَقَتْ. وَالرِّيَاحُ جَمْعُ رِيحٍ سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِالرَّوْحِ غَالِبًا. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلَا تَسُبُّوهَا وَاسْأَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا «٢»). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الزُّرَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا (. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ). الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِيهَا التَّفْرِيجُ وَالتَّنْفِيسُ وَالتَّرْوِيحُ، وَالْإِضَافَةُ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا كَذَلِكَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (نُصِرْتُ «٣» بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ). وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
(٢). كذا ورد في سنن أبى داود. والذي في الأصول:" الريح من روح الله. قال سلمة:
فروح الله عز وجل تأتى | " إلخ وسلمة هذا أحد من روى عنهم أبو داود هذا الحديث. |
كَأَنَّ الصَّبَا رِيحٌ إِذَا مَا تَنَسَّمَتْ | عَلَى كَبِدٍ مَهْمُومٍ تَجَلَّتْ هُمُومُهَا |
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٥.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٣٩.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٤٤.
(٢). الزيادة عن صحيح مسلم. [..... ]
(٣). راجع ج ١٤ ص ٣٢٦.
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٢٩.
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٥٢.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢١٧.
(٢). ج ٧ ص ٣٣٠.
(٣). ج ١٧ ص ٤٠.
(٤). ج ١٢ ص ١٠٩.
[سورة البقرة (٢): آية ١٦٥]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْآيَةِ قَبْلَ مَا دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِظَمِ سُلْطَانِهِ أَخْبَرَ أَنَّ مَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ لِذَوِي الْعُقُولِ مَنْ يَتَّخِذُ مَعَهُ أَنْدَادًا، وَوَاحِدُهَا نِدٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَالْمُرَادُ الْأَوْثَانُ وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا كَعِبَادَةِ اللَّهِ مَعَ عَجْزِهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ" أَيْ يُحِبُّونَ أَصْنَامَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عَلَى الْحَقِّ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ أَنَّهُمْ مَعَ عَجْزِ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْأَنْدَادِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. وَجَاءَ الضَّمِيرُ فِي" يُحِبُّونَهُمْ" عَلَى هَذَا عَلَى الْأَصْلِ، وَعَلَى الأول جاء ضمير الأصنام
أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى | حببت لحبها سود الكلاب |
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الْكَرِيمِ ادِّخَارَهُ | وَأَعْرِضْ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا |
[سورة البقرة (٢): آية ١٦٦]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦)
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١١، ٤٠٨.
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ | وَلَوْ رام أسباب السماء بسلم |
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً"" أَنَّ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً" فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ" جَوَابُ التَّمَنِّي. وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى حَالٍ قَدْ كَانَتْ، أَيْ قَالَ الْأَتْبَاعُ: لَوْ رُدِدْنَا إِلَى الدُّنْيَا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم" كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا" أي تبرأ كَمَا، فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، تَقْدِيرُهَا مُتَبَرِّئِينَ، وَالتَّبَرُّؤُ الِانْفِصَالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ" الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. أَيْ كَمَا أَرَاهُمُ اللَّهُ الْعَذَابَ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعمالهم. و" يُرِيهِمُ اللَّهُ" قيل:
[سورة البقرة (٢): آية ١٦٨]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ" قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ فِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَاللَّفْظِ عَامٌّ. وَالطَّيِّبُ هُنَا الْحَلَالُ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الطَّيِّبِ. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو
لَهَا وَثَبَاتٌ كَوَثْبِ الظِّبَاءِ | فؤاد خِطَاءٌ وَوَادٍ مَطَرْ «٣» |
(٢). راجع ج ٧ ص ١١٥، ٠٠ ٣.
(٣). يقول: مرة تخطو فتكف عن العدو، ومرة تعدو عدوا يشبه المطر. عن شرح الديوان.
[سورة البقرة (٢): آية ١٦٩]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ" سُمِّيَ السُّوءُ سُوءًا لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهُ بِسُوءِ عَوَاقِبِهِ. وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءًا وَمُسَاءَةً إِذَا أَحْزَنَهُ. وَسُؤْتُهُ فَسِيءَ إِذَا أَحْزَنْتَهُ فَحَزِنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «٦» ". وقال الشاعر:
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٢٨.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٩٢.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢٦١.
(٥). راجع ج ١٤ ص ٣٢٣.
(٦). راجع ج ١٨ ص ٢٢٠.
إِنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي | فَطَالَمَا قَدْ سَرَّنِي الدَّهْرُ |
الْأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ | لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَاكَ صَبْرُ |
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ «١» لَيْسَ بِفَاحِشٍ
ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ اللَّفْظَةُ فِيمَا يُقْبَحُ مِنَ الْمَعَانِي. وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، فَكُلُّ مَا نَهَتْ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ فَهُوَ مِنَ الْفَحْشَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْفَحْشَاءِ فَإِنَّهُ الزِّنَى، إِلَّا قَوْلَهُ:" الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ" فَإِنَّهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا قِيلَ: السُّوءُ مَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَالْفَحْشَاءُ مَا فِيهِ حَدٌّ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُرِيدُ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ «٢» وَالسَّائِبَةِ «٣» وَنَحْوِهَا مِمَّا جَعَلُوهُ شَرْعًا." وَأَنْ تَقُولُوا" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا على قوله تعالى:" بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ".
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ" يَعْنِي كُفَّارَ الْعَرَبِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي" لَهُمُ" عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا".
(٢). قال أبو إسحاق النحوي:" أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحيرة أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوه، واعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تحلا، (تطرد) عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعنى المنقطع به لم يركبها".
(٣). كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نحبة دابة من مشقة أو حرب قال: ناقتي سائبة، أي تسيب فلا ينتفع بظهرها ولا تحلا عن ماء، ولا تمنع من كلا ولا تركب. (عن اللسان).
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ | وَلَا ذَاكِرِ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلًا |
وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمْ | ثَبْتَ الْجَنَانِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا |
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧٤.
(٣). ص ١٩٠ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧٤ فما بعدها.
(٣). راجع ج ٩ ص ١٩١.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٧٤ فما بعدها.
(٥). راجع ج ٩ ص ١٩١.
[سورة البقرة (٢): آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)
شَبَّهَ تَعَالَى وَاعِظَ الْكُفَّارِ وَدَاعِيهِمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّاعِي الَّذِي يَنْعِقُ بِالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، وَلَا تَفْهَمُ مَا يَقُولُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَسِيبَوَيْهِ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ الْإِيجَازِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُشَبَّهُوا بِالنَّاعِقِ إِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَالْمَعْنَى: وَمَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دعائهم الآلهة الحماد كَمَثَلِ الصَّائِحِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَيُجِيبُهُ الصَّدَى، فَهُوَ يَصِيحُ بِمَا لَا يَسْمَعُ، وَيُجِيبُهُ مَا لَا حَقِيقَةٌ فِيهِ وَلَا مُنْتَفَعٌ. وَقَالَ قُطْرُبُ: الْمَعْنَى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ مَا لَا يَفْهَمُ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا نَعَقَ بِغَنَمِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ هِيَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمُرَادُ مَثَلُ الْكَافِرِينَ فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِشَيْءٍ بَعِيدٍ فَهُوَ لا يسمع من أجل
(٢). راجع ج ١٢ ص ٩٤، ج ١٣ ص ٣٥٠.
انْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرٌ فَإِنَّمَا | مَنَّتْكَ نَفْسَكَ فِي الْخَلَاءِ ضَلَالًا |
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ الِانْتِفَاعُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: هُوَ الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ" يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" وَقَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ" ثُمَّ ذَكَرَ «٢» الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ [وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ] وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ [وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ «٣»] فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ (." وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ" إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" تقدم معنى الشكر «٤» فلا معنى للإعادة.
(٢). هذه الجملة من كلام الراوي، والضمير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و" الرجل" بالرفع مبتدأ، مذكور على الحكاية من لفظ الرسول عليه السلام. ويجوز أن ينصب على أنه مفعول" ذكر".
(٣). الزيادة عن صحيح مسلم.
(٤). تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج ١ ص ٣٩٧ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)فِيهِ أَرْبَعُ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً «١»: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ" إِنَّمَا" كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ، تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، فَتُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ، وَقَدْ حَصَرَتْ هَا هُنَا التَّحْرِيمَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عُقَيْبَ التَّحْلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ" فَأَفَادَتِ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْمُحَرَّمِ بِكَلِمَةٍ" إِنَّمَا" الْحَاصِرَةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَابُ لِلْقِسْمَيْنِ، فَلَا مُحَرَّمٌ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَكَّدَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ:" قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ" إِلَى آخِرِهَا، فَاسْتَوْفَى الْبَيَانُ أولا وآخرا، قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تِلْكَ فِي" الْأَنْعَامِ «٢» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ-" الْمَيْتَةُ" نُصِبَ بِ" حَرَّمَ"، وَ" مَا" كَافَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي، مُنْفَصِلَةً فِي الْخَطِّ، وَتُرْفَعُ" الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ" عَلَى خَبَرِ" إِنَّ" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَفِي" حَرَّمَ" ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الَّذِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ «٣» ". وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" حُرِّمَ" بِضَمِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَرَفْعِ الْأَسْمَاءِ بَعْدَهَا، إِمَّا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَإِمَّا عَلَى خَبَرٍ إِنَّ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَيْضًا" الْمَيِّتَةَ" بِالتَّشْدِيدِ. الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ: التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فِي مَيْتٍ، وَمَيِّتٍ لُغَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: مَا قَدْ مَاتَ فَيُقَالَانِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَمُتْ بَعْدُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ" مَيْتٌ" بِالتَّخْفِيفِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «٤» ". وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ | إِنَّمَا الْمَيْتُ ميت الأحياء |
(٢). راجع ج ٧ ص ١١٥.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٢٣.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٥٤.
إِذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمِ | فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فَجِئْ بِزَادِ |
(٢). راجع ج ٧ ص ١١٦.
(٣). العنبر: سمكة كبيرة بحرية تتخذ من جلدها الاتراس، ويقال للترس: عنبر، وسمي هذا الحوت بالعنبر لوجوده في جوفه. (عن القسطلاني واللسان).
(٤). راجع ج ٦ ص ٣١٨.
(٢). في قوله تعالى:
" إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ | " آية ١١٥ ولم يذكر المؤلف فيها شيئا، بل أحال على ما هنا، راجع ج ١٠ ص ١٩٥. |
يهل بالفريد رُكْبَانَهَا | كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ |
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا | بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ |
(٢). راجع ج ٦ ص ٧٦.
(٢). مصرورة: مربوطة الضروع، وكان عادة العرب أنهم إذا أرسلوا الحلويات إلى المراعى ربطوا ضروعها.
(٣). كذا في سنن ابن ماجة، أي بركتهم وخيرهم. وفى الأصول" قيمهم".
(٢). الحائط: البستان من النخيل وغيره إذا كان عليه جدار.
(٢). تضلع: أمثلا شعبا أوربا.
لا يمنعك من بغا... ء الخير تعقاد الرتائم
إِنَّ الْأَشَائِمَ كَالْأَيَا... مِنِ وَالْأَيَامِنَ كَالْأَشَائِمِ
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا عادٍ" أَصْلُ" عَادٍ" عَائِدٌ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، كَشَاكِي السِّلَاحِ وَهَارٍ ولاث. والأصل شائك وهائر ولائت، مِنْ لُثْتُ الْعِمَامَةَ. فَأَبَاحَ اللَّهُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَكْلَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَجْزِهِ عَنْ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا بَيَّنَّا، فَصَارَ عَدَمُ الْمُبَاحِ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ. الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إِذَا اقْتَرَنَ بِضَرُورَتِهِ مَعْصِيَةٌ، بِقَطْعِ طَرِيقٍ وَإِخَافَةِ سَبِيلٍ، فَحَظَرَهَا عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِأَجْلِ مَعْصِيَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ ذَلِكَ عَوْنًا، وَالْعَاصِي لَا يَحِلُّ أَنْ يُعَانَ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْلَ فَلْيَتُبْ وَلْيَأْكُلْ. وَأَبَاحَهَا لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَهُ، وَسَوِيًّا فِي اسْتِبَاحَتِهِ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ التَّمَادِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُهُ، فَإِنْ قَالَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ خِلَافَ هَذَا، فَإِنَّ إِتْلَافَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَشَدُّ مَعْصِيَةً مِمَّا هُوَ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «٢» " [النساء: ٢٩] وَهَذَا عَامٌّ، وَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فِي ثَانِي حَالٍ فَتَمْحُو التَّوْبَةُ عَنْهُ مَا كَانَ. وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِإِلْكِيَا: وَلَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عاصيا،
(٢). راجع ج ٥ ص ١٥٦.
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٤]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ" يَعْنِي عُلَمَاءَ الْيَهُودِ، كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ. وَمَعْنَى" أَنْزَلَ": أَظْهَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ «٢» " [الانعام: ٩٣] أَيْ سَأُظْهِرُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ مِنَ النُّزُولِ، أَيْ مَا أَنْزَلَ بِهِ مَلَائِكَتَهُ عَلَى رُسُلِهِ." وَيَشْتَرُونَ بِهِ" أَيْ بِالْمَكْتُومِ" ثَمَناً قَلِيلًا" يَعْنِي أَخْذَ الرِّشَاءِ. وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَاءِ كَانَ قَلِيلًا. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَخْبَارِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ مُخْتَارًا لِذَلِكَ بِسَبَبِ دُنْيَا يُصِيبُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣» هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فِي بُطُونِهِمْ" ذَكَرَ الْبُطُونَ دَلَالَةً وَتَأْكِيدًا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَكْلِ، إِذْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مِثْلِ أَكَلَ فُلَانٌ أَرْضِي وَنَحْوِهِ. وَفِي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم
(٢). راجع ج ٧ ص ٤٠.
(٣). راجع ج ١ ص ٣٣٤، ص ٩ من هذا الجزء.
لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ «٢»
قَالَ:
فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَةُ
آخَرُ:
وَدُورنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ كَثِيرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ" عِبَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةُ الرِّضَا عَنْهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى" وَلا يُكَلِّمُهُمُ" بِمَا يحبونه. وفي التنزيل:" اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «٣» " [المؤمنون: ١٠٨]. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ." وَلا يُزَكِّيهِمْ" أَيْ لَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ فَيُطَهِّرُهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ خَيْرًا ولا يسميهم أزكياء. و" أَلِيمٌ" بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٤». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ (. وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِأَلِيمِ الْعَذَابِ وَشِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لِمَحْضِ الْمُعَانَدَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي، إِذْ لَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، وَلَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَمَا تَدْعُو مَنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ. وَمَعْنَى" لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ" لَا يَرْحَمُهُمْ وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ. وَسَيَأْتِي فِي" آلِ عِمْرَانَ «٥» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(٢). اختلف في أنه حديث أو غير حديث. راجع كشف الخفاء ج ٢ ص ١٤٠.
(٣). راجع ج ١٢ ص ١٥٣.
(٤). راجع ج ١ ص ١٩٨.
(٥). راجع ج ٤ ص ١١٩.
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٥]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ" تَقَدَّمَ «١» الْقَوْلُ فِيهِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَذَابُ تَابِعًا لِلضَّلَالَةِ وَكَانَتِ الْمَغْفِرَةُ تَابِعَةً لِلْهُدَى الَّذِي اطَّرَحُوهُ دَخَلَا فِي تَجَوُّزِ الشِّرَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ- مِنْهُمِ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ- أَنَّ" مَا" مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، كَأَنَّهُ قَالَ: اعْجَبُوا مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى النَّارِ وَمُكْثِهِمْ فِيهَا. وَفِي التَّنْزِيلِ:" قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «٢» " [عبس: ١٧] و" أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ «٣» " [مريم: ٣٨]. وَبِهَذَا الْمَعْنَى صَدَّرَ أَبُو عَلِيٍّ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعُ: مَا لَهُمْ وَاللَّهِ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ، وَلَكِنْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ! وَهِيَ لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَخْبَرَنِي الْكِسَائِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَاضِي الْيَمَنِ أَنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فَوَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَحَلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا أَصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ؟ أَيْ مَا أَجْرَأَكَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: مَا أَشْجَعَهُمْ عَلَى النَّارِ إِذْ يَعْمَلُونَ عَمَلًا يُؤَدِّي إِلَيْهَا. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَبْقَاهُمْ عَلَى النَّارِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا أَصْبَرَ فُلَانًا عَلَى الْحَبْسِ! أَيْ مَا أَبْقَاهُ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا أَقَلَّ جَزَعِهِمْ مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ قِلَّةَ الْجَزَعِ صَبْرًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَقُطْرُبٌ: أَيْ مَا أَدْوَمَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ:" مَا" اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، ومعناه: أي أي شي صَبَّرَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؟! وَقِيلَ: هَذَا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٦]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢١٥.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٠٨.
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيْسَ الْبِرَّ" اخْتُلِفَ مِنَ الْمُرَادِ بِهَذَا الْخِطَابِ، فَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَ الْفَرَائِضِ إِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
أَيْ ذَاتُ إِقْبَالٍ وَذَاتُ إِدْبَارٍ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ | خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ «٦» |
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٠.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٤٢.
(٤). راجع ج ٩ ص ٢٤٦.
(٥). راجع ص ٣١ من هذا الجزء.
(٦). الخلالة: (بفتح الخاء وكسرها وضمها، جمع الخلة): الصداقة. وَأَبُو مَرْحَبٍ: كُنْيَةُ الظِّلِّ، وَيُقَالُ: هُوَ كُنْيَةُ عرقوب. يقول: خلة هذه المرأة ووصالها لا يثبت كما لا تثبت خلة أبى مرحب، فلا ينبغي أن نستأنس إليها ويعتد بها. (عن اللسان وشرح الشواهد).
وَكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ مُرْشِدِهِمْ | إِلَّا نُمَيْرًا أَطَاعَتْ أَمْرَ غَاوِيهَا |
الظَّاعِنِينَ وَلَمَّا يُظْعِنُوا أَحَدًا | وَالْقَائِلُونَ لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا |
لَا يَبْعَدْنَ قَوْمِي الَّذِينَ هُمْ | سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ «٤» |
النَّازِلِينَ بِكُلِ مُعْتَرَكٍ | وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ |
نَحْنُ بَنِي ضبة أصحاب الجمل
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٢٢.
(٣). راجع ج ٦ ص ١٣.
(٤). راجع كتاب سيبويه وتوجيه الاعراب فيه (ج ١ ص ١٠٤، ٢٤٦، ٢٤٩) طبع بولاق.
سَقَوْنِي الْخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي... عُدَاةُ اللَّهِ مِنْ كَذِبٍ وَزُورِ
وَهَذَا مَهْيَعٌ «٢» فِي النُّعُوتِ، لَا مَطْعَنَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ تَعَسَّفَ فِي كَلَامِهِ: إِنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ حِينَ كَتَبُوا مُصْحَفَ الْإِمَامِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: أَرَى «٣» فِيهِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا. وَهَكَذَا قَالَ فِي سورة النساء" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" [النساء: ١٦٢]، وفي سورة المائدة" وَالصَّابِئُونَ" [«٤» المائدة: ٦٩]. وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقِيلَ:" الْمُوفُونَ" رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ وَهُمُ الْمُوفُونَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" وَالصَّابِرِينَ" عُطِفٌ عَلَى" ذَوِي الْقُرْبى " كَأَنَّهُ قَالَ: وَآتَى الصَّابِرِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ:" وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَغَلَطٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّكَ إِذَا نَصَبْتَ" وَالصَّابِرِينَ" وَنَسَّقْتَهُ عَلَى" ذَوِي الْقُرْبى " دَخَلَ فِي صِلَةِ" مَنْ" وَإِذَا رَفَعْتَ" وَالْمُوفُونَ" عَلَى أَنَّهُ نَسَقٌ عَلَى" مَنْ" فَقَدْ نَسَّقْتَ عَلَى" مَنْ" مِنْ قَبْلِ أَنْ تَتِمَّ الصِّلَةُ، وَفَرَّقْتَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْمَعْطُوفِ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" وَالْمُوفِينَ، والصَّابِرِينَ". وَقَالَ النَّحَّاسُ:" يَكُونَانِ مَنْسُوقَيْنِ عَلَى" ذَوِي الْقُرْبى " أَوْ عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِي النِّسَاءِ" والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة «٥» " [النساء: ١٦٢]. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَالْأَعْمَشُ" وَالْمُوفُونَ وَالصَّابِرُونَ" بِالرَّفْعِ فِيهِمَا. وقرا
(٢). المهيع: الطريق الواسع البين.
(٣). هذا القول من أخبث ما وضع الوضاعون على عثمان رضى الله عنه، وقد أنكر العلماء صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه؟؟ الصحابة في جمعه وكتابته ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التي جمع القرآن فيها عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق تمام الموافقة للعرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن على جبريل عليه السلام. وهل يظن ظان أن عثمان رضى الله عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل الله ويتركه ويقول: ستقيمه العرب بألسنتها! وكيف يفعل أن يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته. وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان المصنف والزمخشري وأبو حيان والآلوسي في سورة" النساء" عند قوله تعالى:" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" آية ١٦٢، راجع ج ٦ ص ١٣.
(٤). راجع ج ٦ ص ٢٤٦.
(٥). كذا في كتاب" إعراب القرآن" للنحاس، وما يدل عليه سياق الكلام في البحر المحيط لابي حيان في سورة" النساء". وفى الأصول:" والمقيمين... والمؤتين".
(٢). آنفا: أي ألان. (٢ - ١٦)
«١» " فَإِنَّهُ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ، الِاعْتِرَاضَ وَإِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ. وَمِنَ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُهُ الْحَقُّ:" وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ «٢» " وَهَذَا عِنْدَهُمْ يُسَمَّى التَّتْمِيمَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الِاحْتِرَاسُ وَالِاحْتِيَاطَ، فَتَمَّمَ بِقَوْلِهِ" عَلى حُبِّهِ" وَقَوْلُهُ:" وَهُوَ مُؤْمِنٌ"، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا | يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ وَالنَّدَى خُلُقَا |
عَلَى هَيْكَلٍ يُعْطِيكَ قَبْلَ سُؤَالِهِ | أَفَانِينَ جَرْيٍ غَيْرَ كَزٍّ وَلَا وَانِ |
أثنى علي بما علمت فإنني | سهل مخالفتي إذا لم أظلم |
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٩٩.
فَسَقَى دِيَارَكِ غَيْرَ مُفْسِدِهَا | صَوْبُ الرَّبِيعِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي |
فَنِيتُ وَمَا يَفْنَى صَنِيعِي وَمَنْطِقِي | وَكُلُّ امْرِئٍ إِلَّا أَحَادِيثَهُ فَانِ |
فَأَفْنَى الرَّدَى أَرْوَاحَنَا غَيْرَ ظَالِمٍ | وَأَفْنَى النَّدَى أَمْوَالَنَا غَيْرَ عَائِبِ |
(٢). في ب:" وقت الجدب".
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ له من أخيه شي" فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ" فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" يَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ" ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" مِمَّا كَتَبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ" قَتَلَ بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ". هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو [قَالَ «١»] سَمِعْتُ مُجَاهِدًا [قَالَ «٢»] سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ [يَقُولُ «٣»]. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى " قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقتل بِعَبْدِنَا فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَبِأَمَتِنَا فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ"" كُتِبَ" مَعْنَاهُ فُرِضَ وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا | وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ |
(٢). الزيادة عن صحيح البخاري.
(٣). الزيادة عن صحيح البخاري.
(٢). في ب، ج، ز:" مع الحر".
«١» " [الاسراء: ٣٣] وَالْوَلِيُّ هَا هُنَا السَّيِّدُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ". وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَاهُ سَنَةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ لِمَ لَمْ تَقُولُوا: يُنَصَّبُ النِّكَاحُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنِ الزَّوْجِ، إِذِ النِّكَاحُ ضَرْبٌ مِنَ الرِّقِّ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. قُلْنَا: النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ لَهَا عَلَيْهِ، كَمَا يَنْعَقِدُ لَهُ عَلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطي بِمَا يُطَالِبُهَا، وَلَكِنْ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلُ الْقِوَامَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ، أَيْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ، فَلَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَأَوْرَثَهَا فِي الْجَانِبَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَتَتْمِيمُ مَتْنِهِ: (وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ وَمَنْ أَخْصَاهُ أَخْصَيْنَاهُ). وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ صَحِيحٌ، وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ لَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَانَ الْإِمَامَانِ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا!. وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ. قَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [وَاخْتَلَفُوا «٢» فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالزُّهْرِيِّ وَقُرَّانَ «٣» وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ بَيْنِهِمْ إِلَّا فِي النَّفْسِ. قَالَ ابن المنذر: الأول أصح [. الحادية عشرة- رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِيدُ الْأَبَ مِنَ ابْنِهِ، وَلَا يُقِيدُ الِابْنَ مِنْ أَبِيهِ. قَالَ أَبُو عِيسَى:" هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ، رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الْمُثَنَّى
بْنِ الصَّبَّاحِ، وَالْمُثَنَّى يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ روى هذا
(٢). ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز.
(٣). قران (بضم القاف وتشديد الراء) بن تمام الأسدي، توفى سنة إحدى وثمانين ومائة.
(٢). أثبتنا كلام ابن العربي هنا كما ورد في كتابه" أحكام القرآن"، وقد ورد في الأصول بنقص وتحريف من النساخ.
(٣). زيادة عن ابن العربي.
(٢). زيادة عن ابن العربي.
(٣). الحرورية: طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء (موضع قريب من الكوفة) لان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها.
(٢). ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز. [..... ]
(٣). أبو شريح الخزاعي: هو أبو شريح الكعبي، واختلف في اسمه، والمشهور أنه خويلد بن عمرو بن صخر، أسلم يوم الفتح.
(٤). راجع ج ٥ ص ١٥٦.
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي
[وَقَالَ «٢» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ) يَعْنِي شَهِدَ اللَّهُ عَلَى عباده. فكأنه قال: من بذل له شي مِنَ الدِّيَةِ فَلْيَقْبَلْ وَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ قَوْمٌ: وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ الْقَاتِلُ بِإِحْسَانٍ، فَنَدَبَهُ تَعَالَى إِلَى أَخْذِ الْمَالِ إِذَا سُهِّلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْفِيفُ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الْقِصَاصِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ «٣» " [المائدة: ٤٥] فَنَدَبَ إِلَى رَحْمَةِ الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ نَدَبَ فِيمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَبُولِ الدِّيَةِ إِذَا بَذَلَهَا الْجَانِي بِإِعْطَاءِ الدِّيَةِ، ثُمَّ أَمَرَ الْوَلِيَّ بِاتِّبَاعٍ وَأَمَرَ الْجَانِي بِالْأَدَاءِ بِالْإِحْسَانِ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ كُلُّهَا وَتَسَاقَطُوا الدِّيَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُقَاصَّةً. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ فضل له من الطائفتين على الأخرى شي مِنْ تِلْكَ الدِّيَاتِ، وَيَكُونُ" عُفِيَ" بِمَعْنَى فُضِلَ. [رَوَى «٤» سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ شُوعَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَقَالَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ: لَا نَرْضَى حَتَّى يُقْتَلَ بِالْمَرْأَةِ الرَّجُلُ وَبِالرَّجُلِ الْمَرْأَةُ، فَارْتَفَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْقَتْلُ سَوَاءٌ) فَاصْطَلَحُوا عَلَى الدِّيَاتِ، فَفَضَلَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَهُوَ قَوْلُهُ:" كُتِبَ" إِلَى قَوْلِهِ:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ" يَعْنِي فَمَنْ فُضِلَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ فَضْلٌ فَلْيُؤَدِّهِ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَخْبَرَ الشَّعْبِيُّ عَنِ السَّبَبِ فِي نُزُولِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ سُفْيَانُ الْعَفْوَ هُنَا الْفَضْلَ، وَهُوَ معنى يحتمله اللفظ].
(٢). ما بين المربعين في ح، وساقط من سائر النسخ.
(٣). ج ٦ ص ٢٠٨.
(٤). ما بين المربعين في ح، وساقط من سائر النسخ.
(٢). راجع ج ٣ ص ١٢٧.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٢٥.
(٤). زيادة يقتضيها السياق.
(٥). أعفى: من عفا الشيء إذا كثر وزاد، وهذا دعاء عليه، أي لا كثر ماله ولا استغنى.
[سورة البقرة (٢): آية ١٧٩]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ" هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الْوَجِيزِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَاهُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِصَاصَ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ فِيهِ ازْدُجِرَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ آخَرَ، مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَحَيِيَا بِذَلِكَ مَعًا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ الْآخَرُ حَمِيَ قَبِيلَاهُمَا وَتَقَاتَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى قَتْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، فَلَمَّا شَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ قَنَعَ الْكُلُّ بِهِ وَتَرَكُوا الِاقْتِتَالَ، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ. الثَّانِيَةُ- اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ حَقَّهُ دُونَ السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَقْتَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِسُلْطَانٍ أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ السُّلْطَانَ لِيَقْبِضَ أَيْدِيَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. الثَّالِثَةُ- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا لَهُ مَزِيَّةُ النَّظَرِ لَهُمْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ فَرْقٌ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى "، وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلًا قَطَعَ يَدَهُ: لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَأُقِيدَنَّكُ مِنْهُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
[سورة البقرة (٢): آية ١٨٠]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
فِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمْ" هَذِهِ آيَةُ الْوَصِيَّةِ، لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، [وَفِي «٢» " النِّسَاءِ":" مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ «٣» " [النساء: ١٢] وفي" المائدة":" حِينَ الْوَصِيَّةِ «٤» ". [المائدة: ١٠٦]. وَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا [وَنَزَلَتْ قَبْلَ نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي
(٢). ما بين المربعين ساقط في ب، ج، ز. [..... ]
(٣). راجع ج ٥ ص ٧٣.
(٤). راجع ج ٦ ص ٣٤٨.
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ | سَائِلٌ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ «٣» |
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا | قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ |
وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا | وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهُنْدُوَانِ |
أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ | فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ |
مَنْ يَفْعَلُ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا | وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ |
(٢). راجع ص ٢٤٤ من هذا الجزء.
(٣). الصوت مذكر، وإنما أنثه ها هنا لأنه أراد به الضوضاء والجلبة، على معنى الصيحة. (عن اللسان).
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٦٢.
وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهَا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، وَنُسِخَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ كَانَ يَرِثُ بِآيَةِ
(٢). خثيم: بضم أوله وفتح المثلة، كذا في التقريب. وفى الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة.
(٣). راجع ج ٨ ص ٥٨.
(٢). رياح (ككتاب): قبيلة.
(٣). أشفى على الشيء: أشرف. [..... ]
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِالْمَعْرُوفِ" يَعْنِي بِالْعَدْلِ، لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ، وَكَانَ هذا موكولا إِلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ
[سورة البقرة (٢): آية ١٨١]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ بَدَّلَهُ" شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ" فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" وَ" مَا" كَافَّةٌ ل" إن" عن العمل. و" إِثْمُهُ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ،" عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" مَوْضِعَ الْخَبَرِ. وَالضَّمِيرِ فِي" بَدَّلَهُ" يَرْجِعُ إِلَى الْإِيصَاءِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَعْنَى الْإِيصَاءِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي" سَمِعَهُ"، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «١» " [البقرة: ٢٧٥] أي وعظ، وقوله:" إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ «٢» " [النساء: ٨] أَيِ الْمَالَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ" مِنْهُ". وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
أَيِ الصَّيْحَةُ. وَقَالَ امرؤ القيس:
برهرهة رودة رَخْصَةٌ | كَخُرْعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ «٣» |
(٢). راجع ج ٥ ص ٤٨.
(٣). البرهرهة: الرقيقة الجلد، أو هي الملساء المترجمة. الرؤدة والرءودة: الشابة الحسنة، السريعة الشباب مع حسن غذا، والرخصة: اللينة الخلق. والخرعوبة: القضيب الغض اللدن. والبانة: يريد شجر البان.
[سورة البقرة (٢): آية ١٨٢]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:" فَمَنْ خافَ"" من" شرط، و" خاف" بِمَعْنَى خَشِيَ. وَقِيلَ: عَلِمَ. وَالْأَصْلُ خَوَفَ، قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَتَحَرُّكِ مَا قَبْلَهَا. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يُمِيلُونَ" خَافَ" لِيُدِلُّوا عَلَى الْكَسْرَةِ مِنْ فَعِلَتْ." مِنْ مُوصٍ" بِالتَّشْدِيدِ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ، وَالتَّخْفِيفُ أَبْيَنُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ" مُوَصٍّ" لِلتَّكْثِيرِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ كَرَّمَ وَأَكْرَمَ." جَنَفاً" مِنْ جَنِفَ يَجْنَفُ إِذَا جَارَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ جَنِفٌ وَجَانِفٌ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَقِيلَ: الْجَنَفُ الْمَيْلُ. قَالَ الْأَعْشَى:
تَجَانَفُ عَنْ حِجْرِ «١» الْيَمَامَةِ نَاقَتِي | وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لَسَوَائِكَا |
هُمُ الْمَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا | وَإِنَّا مِنْ لقائهم لزور |
(٢). هو عامر الخصفى.
إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أُرُومَةُ عَامِرٍ | ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومِي |
(٢). في الأصول هنا وفيما سيأتي" الاذاية".
(٢). كذا في النسائي. وفى الأصول:" عن الحسن عن سمرة عن عمران".
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٨٣ الى ١٨٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" لَمَّا ذَكَرَ مَا كُتِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْوَصِيَّةِ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ وَأَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بُنِيَ الْإِسْلَامِ عَلَى خَمْسً شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ) رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ. وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ، وَتَرْكُ التَّنَقُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَيُقَالُ لِلصَّمْتِ صَوْمٌ، لِأَنَّهُ. إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مريم:" إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «٢» " [مريم: ٢٦] أَيْ سُكُوتًا عَنِ الْكَلَامِ. وَالصَّوْمِ: رُكُودُ الرِّيحِ، وَهُوَ إِمْسَاكُهَا عَنِ الْهُبُوبِ. وَصَامَتِ الدَّابَّةُ عَلَى آرِيِّهَا «٣»
: قَامَتْ وَثَبَتَتْ فَلَمْ تَعْتَلِفْ. وَصَامَ النَّهَارُ: اعْتَدَلَ. وَمَصَامُ الشَّمْسِ حَيْثُ تَسْتَوِي فِي مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ | تَحْتَ الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا |
(٢). راجع ج ١١ ص ٩٧.
(٣). الأري: حبل تشد به الداية في محبسها، ويسمى الأخية.
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامِهَا
أَيْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا فَلَا تَنْتَقِلُ، وَقَوْلُهُ:
وَالْبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَةُ «٢»
يَعْنِي الَّتِي لَا تَدُورُ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَدَعْهَا «٣» وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ | ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا |
حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلَ | وَسَالَ لِلشَّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلَ |
نَعَامًا بوجرة صفر الخدود | دما تَطْعَمُ النَّوْمُ إِلَّا صِيَامَا «٤» |
بأمراس كان على صم جندل
[..... ]
(٢). قبله:
شر الدلاء الولغة الملازمة
(٣). في الأصول:" فدع ذا" والتصويب عن الديوان واللسان.
(٤). تقدم الكلام على هذا البيت ج ١ ص ٤٢٣ طبعه ثانية، فليراجع.
(٢). راجع ص ٣١٤ من هذا الجزء.
(٣). يراجع ج ١ ص ٢٢٦ طبعه ثانية.
يَخْرُجَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُفْطِرُ إِذَا بَرَزَ عَنِ الْبُيُوتِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا، بَلْ حِينَ يَضَعُ رِجْلَهُ فِي الرَّحْلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ أَحْمَدُ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ أَصْبَحَ صَحِيحًا ثُمَّ اعْتَلَّ: إِنَّهُ يُفْطِرُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَصْبَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى السَّفَرِ فَلَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُفْطِرَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَهَضَ فِي سَفَرِهِ، كَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ فَعَلَ، فَكُلُّهُمْ قَالَ يَقْضِي وَلَا يُكَفِّرُ. قَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَارِئٌ، فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْضِي وَيُكَفِّرُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ بِهِ، قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَرَأَ بَعْدَ لُزُومِ الْعِبَادَةِ وَيُخَالِفُ الْمَرَضَ وَالْحَيْضَ، لِأَنَّ الْمَرَضَ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ، وَالْحَيْضَ يُحَرِّمُ عَلَيْهَا الصَّوْمَ، وَالسَّفَرَ لَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ" لَا يُفْطِرُ" فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ لِمَا عَقَدَهُ فَإِنْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا وَجْهَ لَهَا، وَمَنْ أَوْجَبَهَا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يُفْطِرُ إِنْ شَاءَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مُسَافِرًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قُلْتُ: وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ" بَابَ مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ" وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ «١»، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ شَرِبَهُ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ فَسَقَطَ مَا خَالَفَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَفِيهِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ لَا يَنْعَقِدُ فِي السَّفَرِ. رُوِيَ عَنْ عمر وابن عباس
(٢). قال الزرقاني في شرح الموطأ: معنى" سقطت" نسخت، قال: وليس بين اللوحين" متتابعات" أي ليس في المصحف كلمة" متتابعات". وقال الدارقطني: إن كلمة" سقطت" انفرد بها عروة.
(٢). عبارة الموطأ:" يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر".
(٣). قال النووي: هو مرفوع على أنه فاعل لفعل مقدر، أي يمنعني الشغل.
(٢). راجع ج ١٧ ص ١١٤.
(٢). مطبعة: مملوءة.
" قَالَ: مِسْكِينًا آخَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. ذكره
الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت. و" خَيْرٌ" الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث و" خَيْراً" الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" يَطَّوَّعُ خَيْرًا" مُشَدَّدًا وَجَزْمُ الْعَيْنِ عَلَى مَعْنَى يَتَطَوَّعُ. الْبَاقُونَ" تَطَوَّعَ" بِالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الْمَاضِي. الْخَامِسَةُ- قوله تعالى:" وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ" أَيْ وَالصِّيَامُ خَيْرٌ لَكُمْ. وَكَذَا قَرَأَ أُبَيٌّ، أَيْ مِنَ الْإِفْطَارِ مَعَ الْفِدْيَةِ وَكَانَ هَذَا قَبْلَ النَّسْخِ. وَقِيلَ:" وَأَنْ تَصُومُوا" فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ غَيْرِ الشَّاقِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَضَّ عَلَى الصَّوْمِ، أَيْ فَاعْلَمُوا ذلك وصوموا.
[سورة البقرة (٢): آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
فِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" شَهْرُ رَمَضانَ" قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: أَوَّلُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: كَتَبَ اللَّهُ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ «١»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُوحٍ أُمَمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالشَّهْرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِشْهَارِ لِأَنَّهُ مُشْتَهِرٌ لَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ عَلَى أَحَدٍ يُرِيدُهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: شَهَرْتُ السَّيْفَ إِذَا سَلَلْتُهُ. وَرَمَضَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ رَمَضَ الصَّائِمُ يُرْمَضُ إِذَا حَرَّ جَوْفُهُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ. وَالرَّمْضَاءُ (مَمْدُودَةٌ): شِدَّةُ الْحَرِّ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (صَلَاةُ «٢» الْأَوَّابِينَ إِذَا رَمِضَتِ الْفِصَالُ). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَمَضَ الْفِصَالُ أَنْ تُحْرِقَ الرَّمْضَاءُ أَخْفَافَهَا فَتَبْرُكُ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهَا. فَرَمَضَانُ- فِيمَا ذَكَرُوا- وَافَقَ شِدَّةَ الْحَرِّ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرمضاء. قال
(٢). هي الصلاة التي سنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وقت الضحى..
وَفِي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الْوَغَى | وولت على الأدبار فرسان خثعما |
جَارِيَةٌ فِي دِرْعِهَا الْفَضْفَاضِ | أَبْيَضُ مِنْ أُخْتِ بَنِي إِبَاضِ |
جَارِيَةٌ فِي رَمَضَانَ الْمَاضِي | تُقَطِّعُ الْحَدِيثَ بِالْإِيمَاضِ |
أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ | وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ |
حَتَّى تَكَامَلَ فِي اسْتِدَارَتِهِ | فِي أَرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْرِ |
فِي قَوْلِهِ" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وعاشوراء قال هنا
(٢). الزيادة عن" أحكام القرآن" لابن العربي.
(٣). أغمات: ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مراكش.
(٤). أشبيلية: مدينة كبيرة عظيمة بالأندلس. [..... ]
(٥). سهيل: كوكب.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٢٩.
(٣). يراجع ج ١ ص ٦٠.
(٤). السفرة: الملائكة.
ضَحَّوا بِأَشْمَطَ عِنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ | يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٠٥.
(٣). يراجع ج ١ ص ١٦٠ طبعه ثانية.
" [قريش: ٣]. والواو كقوله:" وَلْيُوفُوا" [الحج: ٢٩]. وثم كقوله:" ثُمَّ لْيَقْضُوا" [الحج: ٢٩] و" شَهِدَ" بِمَعْنَى حَضَرَ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ عَاقِلًا بَالِغًا صَحِيحًا مُقِيمًا فَلْيَصُمْهُ، وَهُوَ يُقَالُ عَامٌّ فَيُخَصَّصُ بِقَوْلِهِ:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ" الْآيَةَ. وَلَيْسَ الشَّهْرَ بِمَفْعُولٍ وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ وَعَائِشَةُ- أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ- وَأَبُو مِجْلَزٍ لَاحَقُ بْنُ حُمَيْدٍ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: مَنْ شَهِدَ أَيْ مَنْ حَضَرَ دُخُولَ الشَّهْرِ وَكَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِهِ فِي بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ فَلْيُكْمِلْ صِيَامَهُ، سَافَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ أَقَامَ، وَإِنَّمَا يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ. وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ مُسَافِرًا أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَمَنْ أَدْرَكَهُ حَاضِرًا فَلْيَصُمْهُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ: مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ وَآخِرَهُ فَلْيَصُمْ مَا دَامَ مُقِيمًا، فَإِنْ سَافَرَ أَفْطَرَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَخْبَارُ الثَّابِتَةُ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ رَدًّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ" بَابُ إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ" حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ «٢» أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَالْكَدِيدُ ما بين عسفان وقديد «٣».
(٢). الكديد (بفتح الكاف وكسر الدال): موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.
(٣). عسفان: قرية بها مزارع ونخيل على مرحلتين من مكة، وقديد (بضم القاف): اسم موضع قرب مكة.
وَإِبْطَالِهِ. وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى:
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠٠.
(٢). راجع ج ٥ ص ١٤٨.
(٢). زيادة عن سنن الدارقطني.
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا
أَيْ لِأَنْ أَنْسَى، وَهَذِهِ اللَّامُ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، الْمَعْنَى وَيُرِيدُ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بَعْدُ، تَقْدِيرُهُ: وَلِأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ رَخَّصَ لَكُمْ هَذِهِ الرُّخْصَةَ. وَهَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَحَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنِ الْفَرَّاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَمِثْلُهُ:" وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «٣» " [الانعام: ٧٥] أَيْ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ لَامَ الْأَمْرِ وَالْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٢.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢ - ٢٣. (٢٠)
بَادَتْ وَغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ الْبِلَى | إِلَّا رَوَاكِدَ جَمْرِهِنَّ هَبَاءٌ |
وَمُشَجَّجٌ أَمَّا سَوَاءُ قَذَالِهِ | فَبَدَا وَغَيَّبَ «١» سَارَهُ «٢» الْمَعْزَاءُ |
(٢). كذا في كتاب سيبويه وإعراب القرآن للنحاس واللسان. وساره يريد" سائره" فخفف بحذف الهمزة، ومثله هار وأصله هائر، وشاك وأصله شائك. وفى الأصول" شاده" بالشين المعجمة والدال وهو تصحيف. وبهذا يعلم أن تفسير المؤلف وقع لكلمة مصحفة. والآي (جمع آية) وهى علامات الديار. والرواكد: الاثاق. والهباء هنا: الغبار. وأراد بالمشجج وتدا من أوتاد الخيام، وتشجيجه ضرب رأسه ليثبت. وسواء قذاله: وسطه. ويروى: سواد قذاله، وسواد كل شي شخصه. وأراد بالقذال أعلاه، وهو أيضا جماع مؤخر الرأس من الإنسان. والمعزاء: أرض صلبة ذات حصى. (راجع شرح الشواهد للشنتمري).
(٢). في بعض الأصول:" كتابهم".
[سورة البقرة (٢): آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا سَأَلَكَ" الْمَعْنَى وَإِذَا سَأَلُوكَ عَنِ الْمَعْبُودِ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُ قَرِيبٌ يُثِيبُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُجِيبُ الدَّاعِيَ، وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ صَوْمٍ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، فَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ وَبَكَى، وَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بذلك ورجع مغنما، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الرُّخْصَةُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ". وَقِيلَ: لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ تَرْكُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فَأَكَلَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ نَدِمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ وَنَسْخِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «٢». وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ كَيْفَ يَسْمَعُ رَبُّنَا دُعَاءَنَا، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَغِلَظُ كُلِّ سَمَاءٍ مِثْلُ ذَلِكَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَبَبُهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ:" وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «٣» " [غافر: ٦٠] قَالَ قَوْمٌ: فِي أَيِّ سَاعَةٍ نَدْعُوهُ؟ فَنَزَلَتْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنِّي قَرِيبٌ" أَيْ بِالْإِجَابَةِ. وَقِيلَ بِالْعِلْمِ. وَقِيلَ: قَرِيبٌ مِنْ أَوْلِيَائِي بِالْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ" أَيْ أَقْبَلُ عِبَادَةَ مَنْ عَبَدَنِي، فَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْإِجَابَةُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ. دَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بشير عن
(٢). راجع ص ٣١٤ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٢٦. [..... ]
(٢). راجع ج ١ ص ٢٣٨.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٠٦.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٩٩.
(٥). راجع ج ٧ ص ٣٢٢.
(٦). راجع ج ٦ ص ٤٢٣.
(٢). يستحسر: ينقطع عن الدعاء ويمله.
يُنَادِي رَبَّهُ بِاللَّحْنِ ليث | كذاك إذا دعاه لا يجيب |
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
أَيْ لَمْ يُجِبْهُ. وَالسِّينُ زَائِدَةٌ وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ. وَكَذَا" وَلْيُؤْمِنُوا" وَجَزَمَتْ لَامُ الْأَمْرِ لِأَنَّهَا تَجْعَلُ الْفِعْلَ مُسْتَقْبِلًا لَا غَيْرَ فَأَشْبَهَتْ إِنِ الَّتِي لِلشَّرْطِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى الْفِعْلِ. وَالرَّشَادُ خِلَافُ الْغَيِّ. وَقَدْ رَشَدَ يَرْشُدُ رُشْدًا. وَرَشِدَ (بِالْكَسْرِ) يَرْشَدُ رَشَدًا، لُغَةٌ فِيهِ. وَأَرْشَدَهُ اللَّهُ. وَالْمَرَاشِدُ: مَقَاصِدُ الطُّرُقِ. وَالطَّرِيقُ الْأَرْشَدُ: نَحْوُ الْأَقْصَدِ. وَتَقُولُ:
[سورة البقرة (٢): آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
فِيهِ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُحِلَّ لَكُمْ" لَفْظُ" أُحِلَّ" يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَفْطَرَ «٢» فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى يُصْبِحَ، قَالَ: فَجَاءَ عُمَرُ فَأَرَادَ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ، فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ فَأَتَاهَا. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَرَادَ طَعَامًا فَقَالُوا: حَتَّى نُسَخِّنَ لَكَ شَيْئًا فَنَامَ، فَلَمَّا أصبحوا أنزلت هَذِهِ الْآيَةُ، وَفِيهَا (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ". وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارَ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس ابن صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَعْمَلُ فِي النَّخِيلِ بِالنَّهَارِ وَكَانَ صَائِمًا- فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارَ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: أَعْنَدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمُهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما
(٢). الذي في مسند أبى داود:" إذا صام فنام... ".
وَيُرَيْنَ مِنْ أُنْسِ الْحَدِيثِ زَوَانِيَا | وَبِهِنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ |
وَرُبَّ أَسْرَابٍ حَجِيجٍ كُظَّمِ | عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ |
حَمَلَتْ بِهِ فِي لَيْلَةٍ مَزْءُودَةٍ «٧» | كَرْهًا وَعَقْدَ نِطَاقِهَا لَمْ يُحْلَلْ |
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا | تَدَاعَتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا |
لَبِسْتُ أُنَاسًا فَأَفْنَيْتُهُمْ | وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسٍ أُنَاسَا |
(٢). ج ١ ص ٢٠٦. [..... ]
(٣). ج ٨ ص ١٢٩.
(٤). ج ١٢ ص ٣٢٢.
(٥). ج ١٤ ص ١٩٨.
(٦). ج ٨ ص ٣٠٢.
(٧). مزءودة: فزعة.
(٨). ج ١٦ ص ١٩٣.
أَلَا أُبْلِغُ أَبَا حَفْصٌ رَسُولًا | فَدَى لَكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ إِزَارِي |
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٢٧.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٧٧.
"" حَتَّى" غَايَةٌ لِلتَّبْيِينِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ التَّبْيِينُ لِأَحَدٍ وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ إِلَّا وَقَدْ مَضَى لِطُلُوعِ الْفَجْرِ قَدْرٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الَّذِي بِتَبَيُّنِهِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: ذَلِكَ الْفَجْرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَبِهَذَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَمْصَارُ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَغُرَّنكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضَ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلَ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ «١» هَكَذَا). وَحَكَاهُ حَمَّادٌ «٢» بِيَدَيْهِ قَالَ: يَعْنِي مُعْتَرِضًا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إِنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ «٣» هَكَذَا- وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ نَكَّسَهَا إِلَى الْأَرْضِ- وَلَكِنِ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا- وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَةَ عَلَى الْمُسَبِّحَةِ وَمَدَّ يَدَيْهِ). وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ أنه بلغه أن رسول الله
(٢). حماد هذا هو حماد بن زيد أحد رجال سند هذا الحديث.
(٣). قال ابن الأثير في النهاية:" العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وقال بثوبه، أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتساع" فمعنى يقول هنا: يظهر.
(٢). في بعض النسخ (عثمان). [..... ]
(٣). التكملة عن سنن الدارقطني يقتضيها السياق.
(٤). تراجع المسألة الثانية ص ١٩٢ من هذا الجزء.
الْخَيْطُ الَابْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ | وَالْخَيْطُ الَاسْوَدُ جُنْحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ |
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سُدْفَةٌ «٢» | وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا |
قَدْ كَادَ يَبْدُو وَبَدَتْ تُبَاشِرُهُ | وَسَدَفُ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ سَاتِرُهُ |
تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ | كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ |
إِذَا مَا اللَّيْلُ كَانَ الصُّبْحُ فيه | أشق كمفرق الرأس الدهين |
(٢). السدفة (بضم السين وفتحها وسكون الدال): في لغة نجد ظلمة الليل، وفى لغة غيرهم الضوء. وهو من الأضداد.
فوردت قبل انبلاج الفجر | وابن ذكاء كامن فِي كَفْرِ «١» |
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ
بْنِ صَالِحٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَوْلٌ ثَالِثٌ قَالَ: إِذَا عَلِمَ بِجَنَابَتِهِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى يُصْبِحَ فَهُوَ مُفْطِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَصْبَحَ
: إِنَّمَا يُكَفِّرُ مِنْ بَيَّتَ الْفِطْرَ، فَأَمَّا مَنْ نَوَاهُ فِي نَهَارِهِ فَلَا يَضُرُّهُ، وَإِنَّمَا يَقْضِي اسْتِحْسَانًا. قُلْتُ: هَذَا حَسَنٌ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَى اللَّيْلِ" إِذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ سُنَّ الْفِطْرُ شَرْعًا، أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ عَلَى حَارٍّ وَلَا بَارِدٍ، فَأَجَابَ أَنَّهُ بغروب الشمس مفطر لا شي عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ). وسيل عَنْهَا الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ صَاحِبُ الشَّامِلِ فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى حَارٍّ أَوْ بَارِدٍ. وَمَا أَجَابَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غربت لغيم أو غيره فأفطر ثُمَّ ظَهَرَتِ الشَّمْسُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، قِيلَ لهشام «١»: فأمروا بالقضاء، قال: لا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ؟. قَالَ عُمَرُ فِي الْمُوَطَّأِ فِي هَذَا: الْخَطْبُ يَسِيرُ، وَقَدِ اجْتَهَدْنَا [فِي الْوَقْتِ «٢»] يُرِيدُ الْقَضَاءَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَالنَّاسِي، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:" إِلَى اللَّيْلِ" يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- فَإِنْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي غُرُوبِهَا كَفَّرَ مَعَ الْقَضَاءِ، قَالَهُ مَالِكٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ غُرُوبُهَا. وَمَنْ شَكَّ عِنْدَهُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْكَفُّ عَنِ الْأَكْلِ، فَإِنْ أَكَلَ مَعَ شَكِّهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالنَّاسِي، لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرُهَا مَنْ لَا يَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ:" وَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ إِذَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ إِلَى أَوَّلِ الْفَجْرِ فَإِذَا أَكَلَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَقَدْ أَكَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ فِي وَقْتِ جَوَازِ الْأَكْلِ فَلَا قَضَاءَ عليه، كذلك قال مجاهد وجابر
(٢). زيادة عن الموطأ.
وسلم يَقُولُ:" جَعَلَ اللَّهُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَشَهْرُ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ تَمَامُ السَّنَةِ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَاخْتُلِفَ فِي صِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَكَرِهَهَا مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ خَوْفًا أَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ بِرَمَضَانَ
عكف النبيط يلعبون الفنزجا «١»
وقال شاعر:
وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِي عُكَّفًا | عُكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ |
(٢). الزيادة عن سنن أبي داود.
يَرُدُّهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ، وَلَوْ كَانَ الْمُقَامُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ لَمَا صَحَّ اعْتِكَافٌ لَا يَتَّصِلُ بِلَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُقَامَ لَيْلَةِ الْفِطْرِ لِلْمُعْتَكِفِ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ. فَهَذِهِ جُمَلٌ كَافِيَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ اللَّائِقَةِ بِالْآيَاتِ، فِيهَا لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ. الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ" أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ حُدُودُ الله فلا تخالفوا، ف" تِلْكَ" إشارة إلى هذه الأوامر والنوهى. وَالْحُدُودُ: الْحَوَاجِزُ. وَالْحَدُّ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَدِيدُ حَدِيدًا، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ السِّلَاحِ إِلَى البدن. وسمي البواب والسبحان حَدَّادًا، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَنْ فِي الدَّارِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَيَمْنَعُ الْخَارِجَ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا. وَسُمِّيَتْ حُدُودُ اللَّهِ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا هُوَ مِنْهَا، وَمِنْهَا سُمِّيَتِ الْحُدُودُ فِي الْمَعَاصِي، لأنها تمنع أصحابهما مِنَ الْعَوْدِ إِلَى أَمْثَالِهَا. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحَادُّ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا تَمْتَنِعُ مِنَ الزِّينَةِ. السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ" أَيْ كَمَا بَيَّنَ هَذِهِ الْحُدُودَ يُبَيِّنُ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ لِتَتَّقُوا مُجَاوَزَتَهَا. وَالْآيَاتُ: الْعَلَامَاتُ الْهَادِيَةُ إلى الحق. و" لَعَلَّهُمْ" تَرَجٍّ فِي حَقِّهِمْ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ عُمُومٌ وَمَعْنَاهُ خُصُوصٌ فِيمَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْهُدَى، بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
[سورة البقرة (٢): آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
فيه ثماني مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ" قيل: إنه نزل في عبدان ابن أشوع الحضرمي، ادعى ملا امْرِئِ الْقَيْسِ الْكِنْدِيِّ وَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه
(٢). راجع ص ١٩ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٥٠.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٥.
(٣). راجع ج ١ ص ٣٤٠.
[سورة البقرة (٢): آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ" هَذَا مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ الْيَهُودُ وَاعْتَرَضُوا بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَغْشَانَا وَيُكْثِرُونَ مَسْأَلَتَنَا عَنِ الْأَهِلَّةِ، فَمَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَسْتَوِيَ وَيَسْتَدِيرَ، ثُمَّ يُنْتَقَصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا سُؤَالُ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْهِلَالِ وَمَا سَبَبُ مِحَاقِهِ «١» وَكَمَالِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِحَالِ الشَّمْسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَنِ الْأَهِلَّةِ" الْأَهِلَّةُ جَمْعُ الْهِلَالِ، وَجُمِعَ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ هِلَالًا وَاحِدًا فِي شَهْرٍ، غَيْرَ كَوْنِهِ هِلَالًا فِي آخَرَ، فَإِنَّمَا جُمِعَ أَحْوَالُهُ مِنَ الْأَهِلَّةِ. وَيُرِيدُ بِالْأَهِلَّةِ شُهُورَهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْهِلَالِ عَنِ الشَّهْرِ لِحُلُولٍ فِيهِ، كَمَا قَالَ:
أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ | وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ |
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ | بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ |
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٠٩.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٣٨.
(٣). راجع ج ٤ ص ١٤٢.
(٤). راجع ج ٨ ص ١٣٦.
وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافِ «٢» حُمْسِ
أَيْ شِدَادٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، فَقِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ النسي وَتَأْخِيرُ الْحَجِّ بِهِ، حَتَّى كَانُوا يَجْعَلُونَ الشَّهْرَ الْحَلَالَ حَرَامًا بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ إِلَيْهِ، وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ حَلَالًا بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ عَنْهُ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْبُيُوتِ عَلَى هَذَا مَثَلًا لِمُخَالَفَةِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ وشهوره.
(٢). في نسخ الأصل:" قفار" بالراء، والتصويب عن اللسان. والقفاف: الأماكن الغلاظ الصلبة. [..... ]
(٢). راجع ج ١ ص ١٦١، ١٨٢، ٢٧ ٢ طبعه ثانية.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٠]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقاتِلُوا" هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ:" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" «٢» [فصلت: ٣٤] وقوله:" فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ" «٣» [المائدة: ١٣] وقوله:" وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا" «٤» [المزمل: ١٠] وقوله:" لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" «٥» [الغاشية: ٢٢] وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ. فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِالْقِتَالِ فَنَزَلَ:" وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ" قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ:" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" «٦» [الحج: ٣٩]. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، وَأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ إِنَّمَا نَزَلَتْ في القتال عامة لمن فاتل وَلِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِلَى مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ بِقُرْبِ مَكَّةَ- وَالْحُدَيْبِيَةُ اسْمُ بِئْرٍ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِاسْمِ تِلْكَ الْبِئْرِ- فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْحُدَيْبِيَةِ شَهْرًا، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ، عَلَى أَنْ تُخْلَى لَهُ مَكَّةُ فِي الْعَامِ الْمُسْتَقْبِلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَالَحُوهُ عَلَى أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ عَشْرَ سِنِينَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ تَجَهَّزَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ غَدْرَ الْكُفَّارِ وَكَرِهُوا الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ يَحِلُّ لَكُمُ الْقِتَالُ إِنْ قَاتَلَكُمُ الْكُفَّارُ. فَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْحَجِّ وَإِتْيَانِ البيوت
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٤٧.
(٣). راجع ج ٦ ص ١١٦.
(٤). راجع ج ١٩ ص ٤٤.
(٥). راجع ج ٢٠ ص ٣٧.
(٦). راجع ج ١٢ ص ٦٧.
(٢). راجع ج ٨ ص ٧٢ وص ١٣٢.
(٣). هو يزيد بن أبى سفيان بن حرب، أسلم يوم فتح مكة، وعقد له أبو بكر رضى الله عنه سنة ١٣ هـ مع أمراء الجيوش إلى الشام، وكان أول الأمراء الذين خرجوا إليها، وشيعه أبو بكر راجلا، وقال له:"... وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تغبن". راجع موطأ مالك باب الجهاد، وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري،.
(٢). هكذا في الأصول.
(٣). رباح، بباء موحدة. وقيل: بالياء المثناة من تحت. راجع تهذيب التهذيب في حرف الراء. [..... ]
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٩١ الى ١٩٢]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٩٧.
(٣). في بعض نسخ الأصل:"... بالباطل... " بالنون.
(٢). راجع ج ٣ ص ٤٩.
(٣). راجع ج ٨ ص ٧٢.
(٢). المدرع والدراعة: ضرب من الثياب التي تلبس. وقيل: جبة مشقوقة المقدم.
(٣). الشطار: جمع شاطر، وهو الذي أعيا أهله ومؤدبه خبثا.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٣]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" وَقاتِلُوهُمْ" أَمْرٌ بِالْقِتَالِ لِكُلِّ مُشْرِكٍ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، عَلَى مَنْ رَآهَا نَاسِخَةً. وَمَنْ رَآهَا غَيْرَ نَاسِخَةٍ قَالَ: الْمَعْنَى قَاتِلُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:" فَإِنْ قاتَلُوكُمْ" وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَمْرٌ بِقِتَالٍ مُطْلَقٍ لَا بِشَرْطٍ أَنْ يَبْدَأَ الْكُفَّارَ. دَلِيلٌ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ"، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣١٥. فما بعدها.
(٣). راجع ج ٧ ص ٤٠١.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٤]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" الشَّهْرُ الْحَرامُ" قَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ الشَّهْرِ «٣». وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَمِقْسَمٍ وَالسُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَعَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، [وَذَلِكَ «٤» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا حَتَّى بَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ [فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنِ الْبَيْتِ فَانْصَرَفَ، وَوَعَدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَدْخُلُهُ، فَدَخَلَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَقَضَى نُسُكَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: (نَعَمْ). فَأَرَادُوا قِتَالَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الْمَعْنَى: إِنِ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ، فَأَبَاحَ اللَّهُ بِالْآيَةِ مُدَافَعَتَهُمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٤٠. [..... ]
(٣). راجع ص ٢٩٠ من هذا الجزء.
(٤). ما بين المربعين ساقط من ب.
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٥٥.
فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً
وَكَذَلِكَ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي
وَكَذَلِكَ:
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَنْطِقُ. وَحَدُّ الْكَذِبِ: إِخْبَارٌ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ سَمَّى هَذَا عُدْوَانًا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَمُقَابَلَةَ الْكَلَامِ بِمِثْلِهِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جهل الجاهلينا |
وَلِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمُ | وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالْجَهْلِ مُسْرَجٌ |
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمِي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ | وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجِي فَإِنِّي مُعَوَّجٌ |
" وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ" «١» [النحل: ١٢٦]. قَالُوا: وَهَذَا عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَعَضَّدُوا هَذَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ الْقَصْعَةَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا وَدَفَعَ الصَّحِيحَةَ وَقَالَ: (إِنَاءٌ بِإِنَاءٍ وَطَعَامٌ بِطَعَامٍ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمِ قَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، قَالَ: فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، فَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ وَيَقُولُ: (غَارَتْ أُمُّكُمْ). زَادَ ابْنُ الْمُثَنَّى (كُلُوا) فَأَكَلُوا حَتَّى جَاءَتْ قَصْعَتَهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا. ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى لَفْظِ حَدِيثِ مُسَدِّدٍ وَقَالَ: (كُلُوا) وَحَبَسَ الرَّسُولُ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْتٌ الْعَامِرِيُّ- قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهُوَ أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ- عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ قَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ صَانِعًا طَعَامًا مِثْلَ صَفِيَّةَ، صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ، فَأَخَذَنِي أَفْكَلٌ «٢» فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ؟ قَالَ: (إِنَاءٌ مِثْلُ إناء وطعام مثل طعام). قال مالك
(٢). الأفكل (على وزن أفعل): الرعدة. أي ارتعدت من شدة الغيرة.
(٢). اللي: المطل. والواجد: القادر على قضاء دينه.
(٣). راجع ج ٨ ص ١٣٦.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ:" وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهٍ «١» مَهْ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَبَرَهُ هُنَاكَ. فَأَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. قُلْتُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عِمْرَانَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَعْنَاهُ فَقَالَ:" كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣٠.
(٣). في نسخ الأصل:" بما كسبت". راجع ج ١٢ ص ١٦.
(٤). عبارة عبد المطلب كما أوردها ابن هشام في سيرته عند الكلام على حفر زمزم:" والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجز... " إلخ.
(٥). راجع ج ٣ ص ٢٠.
(٢). الحجفة (بتقديم الحاء على الجيم والتحريك): ترس يتخذ من الجلود.
(٣). أفرد يوم أحد، أي حين انهزم الناس وخلص إليه العدو.
(٤). رهقه (بكسر ثانية): غشيه ولحقه.
(٥). زيادة عن صحيح مسلم.
(٦). أي لم ترشدهم ونسددهم.
(٧). راجع ج ٨ ص ٢٦٧.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ" فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلَّهِ، فَقِيلَ: أَدَاؤُهُمَا والإتيان بهما، كقوله:" فَأَتَمَّهُنَّ" [البقرة: ١٢٤] وقوله:" ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ" [البقرة: ١٨٧] أَيِ ائْتُوا بِالصِّيَامِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهَا قَالَ: الْمُرَادُ تَمَامُهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، فَإِنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَلَا يَفْسَخُهُ، قَالَ مَعْنَاهُ الشَّعْبِيِّ وَابْنُ زَيْدٍ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَفَعَلَهُ عِمْرَانُ بن حصين. وقال سفيان
(٢). في شرح الموطأ للزرقاني:"... على عبد الله بن عامر" وعبد الله بن عامر هذا ابن خال عثمان وكان واليا له على البصرة. [..... ]
(٢). الجحفة (بضم الجيم وسكون المهملة): قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل، ويقرب منها القرية المعروفة برابغ- براء وموحدة وغين معجمة- فيصح الإحرام منها.
(٣). قرن: (بفتح فسكون): جبل مشرف على عرفات، وهو على مرحلتين من مكة.
(٤). يلملم (بفتح التحية واللام وسكون الميم وفتح اللام): مكان على مرحلتين من مكة.
(٥). ذات عرق: قرية مرحلتين من مكة.
(٢). في نسخ الأصل:" محمد" والتصويب عن سنن الدارقطني.
(٢). قال أبو حيان في البحر: ينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون.
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ | عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ |
(٢). البردي (بفتح الموحدة وسكون الراء): نبات يعمل منه الحصر. وبضمها وسكون الراء: ضرب من أجود التمر.
(٢). إشعار الهدى: هو أن يشق أحد جنبي السنام حتى يسيل الدم، ويجعل ذلك علامة له يعرف بها أنه هدى. وتقليده: أن يجعل في عنقه شعار يعلم به أنه هدى. [..... ]
(٢). أي أدركت الحج ولم تحللى حتى فرغت منه.
حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى | وَأَعْنَاقِ الْهَدْيِّ مُقَلَّدَاتِ |
(٢). الزيادة عن كتاب" المنتقى" للباجى يقتضيها السياق.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٤٣.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٥٧؟.
وإسحاق يَقُولُونَ: تُقَصِّرُ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ مِثْلَ الْأُنْمُلَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مَقْبُوضَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُقَصِّرُ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ. وَفَرَّقَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَعَدَتْ فَتَأْخُذُ الرُّبُعَ، وَفِي الشَّابَّةِ أَشَارَتْ بِأُنْمُلَتِهَا تَأْخُذُ وَتُقَلِّلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَأْخُذُ مِنْ جَمِيعِ قُرُونِ رَأْسِهَا، وما أخذت
الْأَذَى عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَالْإِطْعَامُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهَذَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَلَا أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ جاء من رواية أبي الزبير عن
(٢). هو حسين بن على.
(٣). السقيا: منزل بين مكة والمدينة، قيل هي على يومين من المدينة.
(٤). زيادة عن الموطأ. [..... ]
فَلَا. وَزَعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهْي عُمَرُ عَنِ التَّمَتُّعِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِيُنْتَجَعَ الْبَيْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي الْعَامِ حَتَّى تَكْثُرَ عِمَارَتُهُ بِكَثْرَةِ الزُّوَّارِ لَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْسِمِ، وَأَرَادَ إِدْخَالَ الرِّفْقِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ بِدُخُولِ النَّاسِ تَحْقِيقًا لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ:" فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ" «٢» [إبراهيم: ٣٧]. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهُ رَأَى النَّاسَ مَالُوا إِلَى التَّمَتُّعِ لِيَسَارَتِهِ وَخِفَّتِهِ، فَخَشِيَ أن يضيع
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٧٣.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٩٨.
(٣). عبارة مسلم:" جميعا".
فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ يَوْمَ النَّفْرِ «٢» وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَحَاضَتْ: (يَسَعُكِ طَوَافُكِ لحجك وعمرتك) في رواية:
(٢). يوم النفر (بفتح النون وتسكين الفاء وفتحها): اليوم الذي ينفر (ينزل) الناس فيه من منى.
(٢). يوم التروية: يوم قبل يوم عرفة، وهو الثامن من ذى الحجة، سمى به لان الحجاج يرتوون فيه من الماء،
(٢). قوله:" ويجعلون المحرم صفرا". المراد الاخبار عن النسي الذي كانوا يفعلونه وكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه، وينسئون المحرم، أي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها والدبر: الجرح الذي يحصل في ظهر الإبل من اصطكاك الأقتاب، فإنها كانت تدبر بالسير عليها للحج. وعفا الأثر: أي درس وامحى، والمراد أثر الإبل وغيرهما في سيرها، عفا أثرها لطول مرور الأيام. وقال الخطابي: المراد أثر الدبر. وهذه الألفاظ تقرأ كلها ساكنة الأخر ويوقف عليها، لان مرادهم السجع. عن شرح النووي لصحيح مسلم.
(٣). أي صبح رابعة من ذى الحجة.
(٤). قوله:" أي الحل" أي هل هو الحل العام لكل ما حرم بالإحرام حتى بالجماع، أو حل خاص. [..... ]
عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ مَا أَوْضَحْنَاهُ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَبِاللَّهِ توفيقنا.
لَمْ يَنْحَرْ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَالَهُ عَطَاءٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ إِذَا طَافَ وَسَعَى، سَاقَ هَدْيًا أَوْ لَمْ يَسُقْهُ.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ" يَعْنِي الْهَدْيَ، إِمَّا لِعَدَمِ الْمَالِ أَوْ لِعَدَمِ الْحَيَوَانِ، صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ. وَالثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ فِي الْحَجِّ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، هَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَلْقَمَةَ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصُومُهَا فِي إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ إِحْرَامَيِ التَّمَتُّعِ، فَجَازَ صَوْمُ الْأَيَّامِ فِيهِ كَإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا وَأَصْحَابُهُ: يَصُومُ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ يَوْمًا، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: لَهُ أَنْ يَصُومَهَا مُنْذُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ" فَإِذَا صَامَهَا فِي الْعُمْرَةِ فَقَدْ أَتَاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَصُومُهُنَّ مَا بَيْنَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي مُوَطَّئِهِ، لِيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا، فَذَلِكَ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ، وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ، وَسَيَأْتِي. وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا: جَائِزٌ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَصُومُهُنَّ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ عُرْوَةُ: يَصُومُهَا مَا دَامَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى، وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أهل المدينة.
ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَيْسَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ صَوْمِهِ بَطَلَ الصَّوْمُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أَيْسَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ الْأَيَّامَ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْهَدْيِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَحَمَّادٌ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَسَبْعَةٍ" قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْخَفْضِ عَلَى الْعَطْفِ. وقرا زيد ابن عَلِيٍّ" وَسَبْعَةً" بِالنَّصْبِ، عَلَى مَعْنَى: وَصُومُوا سَبْعَةً. الخامسة- قوله تعالى:" إِذا رَجَعْتُمْ" يعنى إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقال مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تعالى، فلا يجب أَحَدٍ صَوْمُ السَّبْعَةِ إِلَّا إِذَا وَصَلَ وَطَنَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَشَدَّدَ أَحَدٌ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَصُومُ فِي السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُجْزِيهِ الصَّوْمُ فِي الطَّرِيقِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ شَاءَ صَامَهَا فِي الطَّرِيقِ، إِنَّمَا هِيَ رُخْصَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ. وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِذَا رَجَعْتُمْ مِنَ الْحَجِّ، أَيْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مِنَ الْحِلِّ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْكِتَابِ: إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" إِنْ كَانَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الرُّخَصِ وَتَرْكُ «١» الرِّفْقِ فِيهَا إِلَى الْعَزِيمَةِ إِجْمَاعًا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوْقِيتًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْبِلَادَ، وَأَنَّهَا المراد في الأغلب «٢»."
(٢). عبارة ابن العربي:"... ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وإنما المراد في الأغلب والأظهر فيه أنه الحج".
(٢). قوله" إلى أمصاركم": تفسير من ابن عباس للرجوع.
ثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْسٌ | وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شِمَامِي |
ثَلَاثٌ بالغداة فذاك حسبي | وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي الْعِشَاءُ |
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رَيِّي | وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرِّيِّ دَاءُ |
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
(٢). لفظة" دم" ساقطة من ب، ج، ز.
(٢). كذا في نسخ الأصل. ووجهه:
أن اسم كان ضمير الشان، وجملة" الاثنان وما | " إلخ في محل نصب خبر كان. |
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا | إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا «١» |
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ | عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ |
(٢). راجع ج ٣ ص ١١٢.
(٣). راجع ج ١٧ ص ٢٢٥. [..... ]
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣٢٨.
(٣). هذا على أحد قولين للنحويين، والثاني أن" لا" عاملة في الاسم النصب وما بعدها خبر.
لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةْ | اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعْ «١» |
فَلَا أَبَ وَابْنًا مِثْلَ مَرْوَانَ وَابْنِهِ | إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا |
هَذَا وَجَدُّكُمُ الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ | لَا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلَا أَبُ |
قَدْ أَرْكَبُ الْآلَةَ بَعْدَ الْآلَةِ «١» | وأترك العاجز بالجداله |
الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ هُنَا عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: الْجِدَالُ هُنَا أَنْ تُمَارِيَ مُسْلِمًا حَتَّى تُغْضِبَهُ فَيَنْتَهِي إِلَى السِّبَابِ، فَأَمَّا مُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ فَلَا نَهْيَ عَنْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجِدَالُ السِّبَابُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الْجِدَالُ هُنَا أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ: أَيُّهُمْ صَادَفَ مَوْقِفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ فِي غَيْرِ مَوْقِفِ سَائِرِ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَتَجَادَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: لَا جِدَالَ فِي مَوَاضِعِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْجِدَالُ هُنَا أَنْ تَقُولَ طَائِفَةٌ: الْحَجُّ الْيَوْمَ، وَتَقُولُ طَائِفَةٌ: الْحَجُّ غَدًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ: الْجِدَالُ الْمُمَارَاةُ فِي الشُّهُورِ حَسَبَ مَا كانت عليه العرب من النسي، كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا الْحَجَّ فِي غَيْرِ ذِي الْحَجَّةِ، وَيَقِفُ بَعْضُهُمْ بِجَمْعٍ «٢» وَبَعْضُهُمْ بِعَرَفَةَ، وَيَتَمَارَوْنَ فِي الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ لَا جِدَالَ فِي وَقْتِهِ وَلَا فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ" وَلا جِدالَ"، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي" بَرَاءَةٌ" «٣». يَعْنِي رَجَعَ أم الْحَجِّ كَمَا كَانَ، أَيْ عَادَ إِلَى يَوْمِهِ وَوَقْتِهِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ) فَبَيَّنَ بِهَذَا مَوَاقِفَ الْحَجِّ وَمَوَاضِعَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: الْجِدَالُ أَنْ تَقُولَ طَائِفَةٌ: حَجُّنَا أَبَرُّ مِنْ حَجِّكُمْ. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْجِدَالُ كَانَ فِي الْفَخْرِ بِالْآبَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" شَرْطٌ وَجَوَابُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ إِنَّمَا تَقَعُ من العالم بالشيء. وقيل:
(٢). هي المزدلفة.
(٣). راجع ج ٨ ص ١٣٢.
إِذْ أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى | وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا |
نَدِمْتَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ كَمِثْلِهِ | وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا |
الْمَوْتُ بَحْرٌ طامح موجه | تذهب فيه حيلة السابخ |
يَا نَفْسُ إِنِّي قَائِلٌ فَاسْمَعِي | مَقَالَةً مِنْ مُشْفِقٍ نَاصِحِ |
لَا يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ فِي قَبْرِهِ | غَيْرَ التُّقَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ |
(٢). الهلكة (بالتحريك): الهلاك.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٨]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" جُناحٌ" أَيْ إِثْمٌ، وَهُوَ اسْمُ لَيْسَ." أَنْ تَبْتَغُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ لَيْسَ، أَيْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا. وَعَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِتَنْزِيهِ الْحَجِّ عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ رَخَّصَ فِي التِّجَارَةِ، الْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلَ اللَّهِ. وَابْتِغَاءَ الْفَضْلِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التِّجَارَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" «١» [الجمعة: ١٠]. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَتْ «٢» عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) «٣». الثَّانِيَةُ- إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عن رسم الإخلاص المفترض عليه،
(٢). الذي في البخاري:" كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت... إلخ". وعكاظ: نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال. وذو المجاز: خلف عرفة. ومجنة: بمر الظهران، قرب جبل يقال له الأصغر، وهو بأسفل مكة على قدر بريد منها. وهذه أسواق للعرب. وكان أهل الجاهلية يصبحون بعكاظ يوم هلال ذى القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضى عشرين يوما من ذى القعدة، فإذا رأوا هلال ذى الحجة ذهبوا من مجنة إلى ذى المجاز، فلبثوا به ثمان ليال، ثم يذهبون إلى عرفة. ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة، لما خرج الحروى بمكة مع أبى حمزة المختار بن عوف خاف الناس أن ينتهبوا فتركت إلى ألان، ثم ترك ذو المجاز ومجنة بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة. (عن شرح القسطلاني).
(٣). فوله:" في مواسم الحج" قراءة ابن عباس، كما نبه عليه المؤلف في مقدمة الكتاب ص ٨٣، وقال أبو حيان في البحر:" وقراء ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير" فضلا من ربكم في مواسم الحج" وجعل هذا تفسيرا، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الامة.
وَأَبْيَضُ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ | عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ «٤» |
تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلِهَا | بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرً عَالِ |
(٢). كذا في نسخ الأصل. ومقتضى الظاهر تذكير الضمير لعوده إلى الحج، ولعله يريد بالتأنيث هنا: الحج بمعنى العبادة. [..... ]
(٣). يلاحظ أن الأصول اضطربت في العدد هنا.
(٤). الفياض: الكثير العطاء. المعنفون: الطالبون ما عنده. يقال: عفاه واعتفاه إذا أتاه يطلب معروفة. ما تغب فواضله: أي عطاياه دائمة لا تنقطع.
تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أراكة | لهند ولكن لم يُبَلِّغُهُ هِنْدًا |
فصبرت «٦» عارفة لذلك حرة
أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة:
عَرُوفُ لِمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ الْمَقَادِرُ «٧»
أَيْ صَبُورٌ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ، فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِخُضُوعِ الْحَاجِّ وَتَذَلُّلِهِمْ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ. الثَّالِثَةُ- أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ مِنْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِوُقُوفِهِ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَمَامِ حَجِّ مَنْ وقف بعرفة
(٢). كل هذا يحتاج إلى التثبت.
(٣). راجع ص ١٢٧ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٢٣١.
(٥). الفروث: جمع فرث، وهو السرجين (الزبل) ما دام في الكرش.
(٦). البيت لعنترة، وتمامه:
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
(٧). صدر البيت:
إذا خاف شيئا وقرته طبيعة
(٢). قال صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطني:" وقوله: وقضى تفثه. قيل: المراد به أنه أتى بما عليه من المناسك، والمشهور أن التفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل في ضمن ذلك نحر البدن، وقضاء جميع المناسك، لأنه لا يقضى النفث إلا بعد ذلك، واصل النفث الوسخ والقذر. قاله الشوكاني".
(٢). قال ابن الأثير:" وجعل حبل المشاة بين يديه، أي طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. وقيل: أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٥٦. [..... ]
(٤). العنق (محركة): سير سريع فسيح واسع الإبل والدابة. والفجوة: الموضع المتسع بين شيئين.
(٢). زيادة عن الموطأ.
(٣). قوله" يزع الملائكة": يرتبهم ويستويهم ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار.
). قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ دون
(٢). ما بين المربعين ساقط من ج.
(٢). قوله: ولم يحلوا. هو من الحل بمعنى الفك، أو من الحلول بمعنى النزول، أي لم يفكوا ما على الجمال، أو ما نزلوا تمام النزول الذي يريده المسافر البالغ منزلة.
(١). عبارة الأصل." فلا أدرى، وليبدأ | إلخ" والتصويب عن كتاب" المنتقى" للباجى. |
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا... حَلَّتْ عَلَيْكَ عُقُوبَةُ الرَّحْمَنِ «١»
أَوْ بِمَعْنَى قَدْ، أَيْ قَدْ كُنْتُمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَالضَّمِيرُ فِي" قَبْلِهِ" عَائِدٌ إِلَى الْهُدَى. وَقِيلَ إِلَى الْقُرْآنِ، أَيْ مَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ إِلَّا ضَالِّينَ. وَإِنْ شِئْتَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، والأول أظهر والله أعلم.
[سورة البقرة (٢): آية ١٩٩]
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
قِيلَ: الْخِطَابُ لِلْحُمْسِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقِفُونَ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ، بَلْ كَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ قَطِينُ «٢» اللَّهِ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَظِّمَ الْحَرَمَ، وَلَا نُعَظِّمَ شَيْئًا مِنَ الْحِلِّ، وَكَانُوا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ إِنَّ عَرَفَةَ مَوْقِفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْحَرَمِ، وَيَقِفُونَ بِجَمْعٍ وَيُفِيضُونَ مِنْهُ وَيَقِفُ النَّاسُ بِعَرَفَةَ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَفِيضُوا مع الجملة. و" ثم" لَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ جُمْلَةِ كَلَامٍ هِيَ مِنْهَا مُنْقَطِعَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُخَاطَبُ بِالْآيَةِ جُمْلَةُ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِ" النَّاسِ" إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ" «٣» [آل عمران: ١٧٣] وَهُوَ يُرِيدُ وَاحِدًا. وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُؤْمَرُوا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِفَاضَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي مِنْ الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَجِيءُ" ثُمَّ" عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ عَلَى بَابِهَا، وَعَلَى هذا الاحتمال عول
(٢). قطين الله: أي سكان حرمه، والقطين جمع قاطن كالقطان.
(٣). راجع ج ٤ ص ٢٧٩. [..... ]
(٢). الغلس (محركة): ظلمة آخر الليل.
(٢). ثبير (بفتح المثلثة وكسر الموحدة وسكون التحية): جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب منا إلى منى. هذا هو المراد، وللعرب جبال أخر اسم كل منها ثبير. (عن زهر الربى للسيوطي).
(٣). هشام هو أحد رواة سند هذا الحديث.
(٤). في ج،:" الترمذي".
(٥). الخذف (بالخاء المعجمة المفتوحة والذال المعجمة الساكنة): رميك حصاة أو نواة تأخذها بين الإبهام والسابة وترمى بها. والمراد الحصا الصغار.
(٢). من الكف بمعنى الإسراع.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٥١.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٠]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ" قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنَاسِكُ الذَّبَائِحُ وَهِرَاقَةُ الدِّمَاءِ. وَقِيلَ: هِيَ شَعَائِرُ الْحَجِّ، لقوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم). المعنى: فَإِذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِآلَائِهِ عِنْدَكُمْ. وَأَبُو عَمْرٍو يُدْغِمُ الْكَافَ فِي الْكَافِ، وَكَذَلِكَ" مَا سَلَكَكُمْ" لأنهما مثلان. و" قَضَيْتُمْ" هُنَا بِمَعْنَى أَدَّيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ" «١» [الجمعة: ١٠] أَيْ أَدَّيْتُمُ الْجُمُعَةَ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْقَضَاءِ عَمَّا فُعِلَ مِنَ الْعِبَادَاتِ خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا. الثانية- قوله تعالى:" فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ" كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَضَتْ حَجُّهَا تَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَتُفَاخِرُ بِالْآبَاءِ، وَتَذْكُرُ أَيَّامَ أَسْلَافِهَا مِنْ بَسَالَةٍ وَكَرَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ، عَظِيمَ الْجَفْنَةِ «٢»، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِيُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنَ الْتِزَامِهِمْ ذِكْرَ آبَائِهِمْ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: مَعْنَى الْآيَةِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِ الْأَطْفَالِ آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ: أَبَهْ أُمَّهْ، أَيْ فَاسْتَغِيثُوا بِهِ وَالْجَئُوا إِلَيْهِ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي حَالِ صِغَرِكُمْ بِآبَائِكُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ اذْكُرُوا اللَّهَ وَعَظِّمُوهُ وَذُبُّوا عَنْ حَرَمِهِ، وَادْفَعُوا مَنْ أَرَادَ الشِّرْكَ فِي دِينِهِ وَمَشَاعِرِهِ، كَمَا تَذْكُرُونَ آبَاءَكُمْ بِالْخَيْرِ إِذَا غَضَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَتَحْمُونَ جَوَانِبَهُمْ وَتَذُبُّونَ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ الْيَوْمَ لَا يَذْكُرُ أَبَاهُ، فَمَا مَعْنَى الْآيَةِ؟ قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ أَنْ تَغْضَبَ لله تعالى
(٢). الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠١]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ" أَيْ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْحَسَنَتَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْحُورُ الْعِينُ." وَقِنا عَذابَ النَّارِ": الْمَرْأَةُ السُّوءُ. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ، لِأَنَّ النَّارَ حَقِيقَةٌ فِي النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَعِبَارَةُ الْمَرْأَةِ عَنِ النَّارِ تَجَوُّزٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعَافِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَكَفَافُ الْمَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَتَيْنِ نِعَمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا كُلَّهُ، فإن" حَسَنَةً"
(٢). في حاشية السندي على سنن ابن ماجة:" وفى بعض النسخ حولهما بالتثنية، فعلى الأول معناه حول مقالتك، أي كلامنا قريب من كلامك. وعلى الثاني معناه حول الجنة والنار، أي كلامنا أيضا لطلب الجنة والتعوذ من النار". [..... ]
(٣). الهجير والهجيرى: الدأب والعادة والديدن.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٢]
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا" هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فَرِيقِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَهُمْ ثَوَابُ الْحَجِّ أَوْ ثَوَابُ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ عِبَادَةٌ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ" أُولئِكَ" إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، فَلِلْمُؤْمِنِ ثَوَابُ عَمَلِهِ وَدُعَائِهِ، وَلِلْكَافِرِ عِقَابُ شِرْكِهِ وَقِصَرِ نَظَرِهِ عَلَى الدُّنْيَا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا «١» عَمِلُوا" [الانعام: ١٣٢]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ" مِنْ سَرُعَ يَسْرُعُ- مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ- سِرْعًا وَسُرْعَةً، فَهُوَ سَرِيعٌ." الْحِسَابُ" مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمَحْسُوبُ حِسَابًا. وَالْحِسَابُ الْعَدُّ: يُقَالُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حِسَابًا وَحِسَابَةً وَحُسْبَانًا وَحِسْبَانًا وَحَسْبًا، أَيْ عَدَّ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
يَا جُمْلٌ أُسْقَاكَ «٢» بِلَا حِسَابَهْ | سُقْيَا مَلِيكٍ حَسَنِ الرِّبَابَهْ «٣» |
(٢). هكذا أورده الجوهري في الصحاح، وهى رواية الأصول. وفى اللسان:" وصواب إنشاده: يا جمل أسقيت" أي أسقيت بلا حساب ولا هنداز.
(٣). في الأصول:" الرياسة". والتصويب عن الصحاح واللسان. والرواية (بالكسر): القيام على الشيء بإصلاحه وتربية. والخلابة (بالكسر): أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول وأعذبه.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٨٩.
[تتمة تفسير سورة البقرة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٣]وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْأَلِفُ وَالتَّاءُ فِي" مَعْدُوداتٍ" لِأَقَلِّ الْعَدَدِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُمَا لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «١» " وَالْغُرُفَاتُ كَثِيرَةٌ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ أَيَّامُ مِنًى، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَسْمَاءَ وَاقِعَةٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي يَتَعَجَّلُ الْحَاجُّ مِنْهَا فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقِفْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ «٢» وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَكَذَا حَكَى مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ. وَلَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ، عَلَى مَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَصْحِيفِ النَّسَخَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ الْعَشْرَ الَّذِي «٣» بَعْدَ النَّحْرِ، وَفَى ذَلِكَ بُعْدٌ. الثَّانِيَةُ- أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا، لِإِجْمَاعِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ يَوْمَ النَّفْرِ وَهُوَ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فِي الْمَعْدُودَاتِ لَسَاغَ أَنْ يَنْفِرَ مَنْ شَاءَ مُتَعَجِّلًا يَوْمَ النَّفْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ يَوْمَيْنِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ. خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعرفة فسألوه،
(٢). في من:" وقال الثوري".
(٣). كذا في الأصول وتفسير ابن عطية، وقال في المصباح مادة" عشر":" والعامة تذكر العشرة على أنه جمع الأيام فيقولون العشر الأول والعشر الأخير وهو خطأ فإنه تغيير المسموع".
مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاثَ مِنًى | حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ |
(٢). آية ٢٨ سورة الحج.
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِأَحَدٍ بِرَمْيٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَلَا يَجُوزُ رَمْيُهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجُوزُ رَمْيُهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ فِي الرَّمْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَرْمِي بِاللَّيْلِ وَتَقُولُ: إِنَّا كُنَّا نَصْنَعُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِذَا كَانَ الرَّمْيُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُرْمَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ رَمَاهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ أَجْمَعُوا، أَوْ كَانَتْ «١» فِيهِ سُنَّةٌ أَجْزَأَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَمَّا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَحُجَّتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ:" خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: السُّنَّةُ أَلَّا تَرْمِيَ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يُجْزِئُ الرَّمْيُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ رَمَى أَعَادَ، إِذْ فَاعِلُهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ. وَمَنْ رَمَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ لَا يُجْزِئُهُ. الثَّانِيَةُ- رَوَى مَعْمَرٌ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُصْبِحَ بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ وَكَانَ يَوْمَهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَرَوَتْهُ طَائِفَةٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا كَمَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ بِذَلِكَ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مُسْنَدًا أَيْضًا، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رَمَتِ الْجَمْرَةَ بِمِنًى قَبْلَ الْفَجْرِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تُصْبِحَ بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا وقد رمت
(٢). الذي في الموطأ والاستذكار لابن عبد البر:" أَنَّ أَبَا الْبَدَّاحِ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أخبره عن أبيه".
(٣). هو محمد بن عبد الله بن عيسى بن أبى زمنين المري من أهل البيرة، وهى بلدة بالأندلس. (عن التكملة لكتاب الصلة).
(٢). الخذف (بفتح الخاء وسكون الذال): رميك بحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمى بها، أو تجعل مخذفة من خشب ترمى بها بين الإبهام والسبابة. والمراد بحصى الخذف، الحصى المائل إلى الصغر.
إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّقْوَى وَذَكَّرَ بِالْحَشْرِ والوقوف.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ قَصُرَتْ هِمَّتُهُمْ عَلَى الدُّنْيَا- فِي قَوْلِهِ:" فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا"- وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا خَيْرَ الدَّارَيْنِ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ، وَاسْمُهُ أُبَيٌّ، وَالْأَخْنَسُ لَقَبٌ لُقِّبَ بِهِ، لِأَنَّهُ خَنَسَ يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ حُلَفَائِهِ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ عَنْ قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" آلِ عِمْرَانَ" بَيَانُهُ. وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْقَوْلِ وَالْمَنْظَرِ، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّى صَادِقٌ، ثُمَّ هَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِحُمُرٍ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وعقر الحمر. قال المهدوي: وفية نزلت
(٢). آية ١ سورة الهمزة..
(٣). آية ٢٠٨ سورة البقرة.
(٤). في من، ح:" لأسلطن عليهم".
(٥). آية ١ سورة المنافقون.
وَأَلَدُّ ذِي حَنَقٍ عَلَيَّ كَأَنَّمَا | تَغْلِي عَدَاوَةُ صَدْرِهِ فِي مِرْجَلِ |
إِنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْمًا وَحَزْمًا | وَخَصِيمًا أَلَدَّ ذَا مِغْلَاقٍ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٥]
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها قِيلَ:" تَوَلَّى وسَعى " مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ، فَيَجِيءُ" تَوَلَّى" بِمَعْنَى ضَلَّ وَغَضِبَ وَأَنِفَ فِي نَفْسِهِ. وَ" سَعى " أَيْ سَعَى بِحِيلَتِهِ وإرادته
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ «٣»
قُلْتُ: وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْحَرْثِ وَزِرَاعَةِ الْأَرْضِ، وَغَرْسِهَا بِالْأَشْجَارِ حَمْلًا عَلَى الزَّرْعِ، وَطَلَبِ النَّسْلِ، وَهُوَ. نَمَاءُ الْحَيَوَانِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ قِوَامُ الْإِنْسَانِ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ: الْفَسَادُ هُوَ الْخَرَابُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَطْعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْفَسَادِ في الأرض. وقال عطاء: إن رجلا كان يُقَالُ لَهُ عَطَاءُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِعَهَا. قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِنَّا كُنَّا نَسْمَعُ أَنْ يَشُقَّهَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. قُلْتُ: وَالْآيَةُ بِعُمُومِهَا تَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ كَانَ فِي أَرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دِينٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قِيلَ: مَعْنَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ أَيْ لَا يُحِبُّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، أَوْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لا يأمر به، والله أعلم.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦)
(٢). آية ٩٦ سورة الأنبياء
(٣). صدر البيت:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة
يقول: إن كان في خلقي ما لا ترضينه فسلي ثيابي من ثيابك، أي انصرفي وأخرجي أمرى من أمرك (عن شرح الديوان).
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ | فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فِعْلَ الضَّجَرِ |
وَكَأَنَّ رُبًّا أَوْ كُحَيْلًا مُعْقَدًا | حَشَّ الْوَقُودُ بِهِ جَوَانِبَ قُمْقِمُ «٤» |
(٢). آية ٢٣ سورة ص.
(٣). آية ٢ سورة ص.
(٤). الرب (بضم الراء): الطلاء الخاير. والكحيل (مصغرا): النفط أو القطران تطلى به الإبل. والمعقد (بفتح القاف): الذي أوقد تحته حتى انعقد وغلظ. وحش: اتقد. والقمقم (بالضم): ضرب من الأواني.
تحية بينهم ضرب وجيع «٢»
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
ابْتِغاءَ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ صَنِيعَ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ بَعْدَهُ صَنِيعَ الْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي صُهَيْبٍ «٣» فَإِنَّهُ أَقْبَلَ مُهَاجِرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَانْتَثَلَ مَا فِي كِنَانَتِهِ «٤»، وَأَخَذَ قَوْسَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَ بِمَا فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ في يدي منه شي، ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ. فَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ تَذْهَبُ عَنَّا غَنِيًّا وَقَدْ جِئْتَنَا صُعْلُوكًا، وَلَكِنْ دُلَّنَا عَلَى مَالِكَ بِمَكَّةَ وَنُخَلِّي عَنْكَ، وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَفَعَلَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتْ:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ" الْآيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى"، وَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ، أَخْرَجَهُ رَزِينٌ، وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ صُهَيْبًا فَعَذَّبُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أَمْ مِنْ غَيْرِكُمْ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي وَتَذَرُونِي وَدِينِي؟ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ رَاحِلَةً وَنَفَقَةً، فَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَلَقَّاهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرِجَالٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: رَبِحَ بَيْعُكَ أَبَا يَحْيَى. فَقَالَ لَهُ صُهَيْبٌ: وَبَيْعُكَ فَلَا يَخْسَرُ، فَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَتَدْرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِ لَقِيَ الْكَافِرَ فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فإذا قلتها
(٢). هذا عجز بيت لمعديكرب، صدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل
(٣). هو صهيب بن سنان بن مالك الرومي، سبته الروم [وهو صغير] فجلب إلى مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان. وقيل: بل هرب من الروم فقدم مكة وحالف بن جدعان. وكان صهيب من السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد كلها. توفى بالمدينة سنة ثمان وثلاثين. (من النجوم الزاهرة).
(٤). انتثل ما في كنانته: أي استخرج ما فيها من السهام. والكنانة: جعبة السهام، تتخذ من جلود لا خشب غيها، أو من خشب لا جلود فيها.
وَإِنْ كَانَ رَيْبُ الدَّهْرِ أمضاك في الاولى | شَرَوْا هَذِهِ الدُّنْيَا بِجَنَّاتِهِ الْخُلْدِ |
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي | مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ |
يُعْطِي بِهَا ثَمَنًا فَيَمْنَعُهَا | وَيَقُولُ صَاحِبُهَا أَلَا فأشر |
(٢). راجع المسألة الثانية ج ٢ ص ٣٦٣.
(٣). آية ٢٠ سورة يوسف. [..... ]
(٤). آية ١١١ سورة التوبة.
بَلْ جوز تيهاء كَظَهْرِ الْحَجَفَتِ «١»
وَإِمَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أَثْبَتَ التَّاءَ كَمَا ثَبَتَتْ فِي الْوَصْلِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مُرَادٌ. وَالْمَرْضَاةُ الرِّضَا، يُقَالُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضًا وَمَرْضَاةً. وَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ يُقَالُ: شَرَى بِمَعْنَى اشْتَرَى، وَيَحْتَاجُ إِلَى هَذَا مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ فِي صُهَيْبٍ، لِأَنَّهُ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِمَالِهِ وَلَمْ يَبِعْهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عَرْضَ صُهَيْبٍ عَلَى قِتَالِهِمْ بَيْعٌ لِنَفْسِهِ مِنَ اللَّهِ. فَيَسْتَقِيمُ اللَّفْظُ عَلَى مَعْنَى باع.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ فَقَالَ: كُونُوا عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاجْتَمِعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قال مُجَاهِدٌ، وَرَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الْكِنْدِيِّ:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا | رَأَيْتُهُمْ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَا |
وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا | بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ نَسْلَمِ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٠٩]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ أَيْ تَنَحَّيْتُمْ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ. وَأَصْلُ الزَّلَلِ فِي الْقَدَمِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ: زَلَّ يَزِلُّ زَلًّا وَزَلَلًا وَزُلُولًا، أَيْ دَحَضَتْ قَدَمُهُ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَالِ الْعَدَوِيُّ" زَلِلْتُمْ" بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَأَصْلُ الْحَرْفِ، مِنَ الزَّلَقِ، وَالْمَعْنَى ضَلَلْتُمْ وَعِجْتُمْ عَنِ الْحَقِّ. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أَيِ الْمُعْجِزَاتُ وَآيَاتُ الْقُرْآنِ، إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَالْبَيِّنَاتُ مَا وَرَدَ فِي شَرْعِهِمْ مِنَ الْإِعْلَامِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّعْرِيفِ بِهِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الْعَالِمِ بِالذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْجَاهِلِ بِهِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كَافِرًا بِتَرْكِ الشَّرَائِعِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ لَمَّا أَسْلَمَ كَانَ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، فَأَقْرَأَهُ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" فَقَالَ كَعْبٌ: إِنِّي لَأَسْتَنْكِرُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا، وَمَرَّ بِهِمَا رَجُلٌ فَقَالَ كَعْبٌ: كَيْفَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ:" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" فقال كعب: هكذا ينبغي. وعَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ. حَكِيمٌ فِيمَا يفعله.
(٢). تراجع المسألة الرابعة ج ٢ ص ٢٠٩
[سورة البقرة (٢): آية ٢١٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)هَلْ يَنْظُرُونَ يَعْنِي التَّارِكِينَ الدُّخُولَ فِي السِّلْمِ «١»، وَ" هَلْ" يُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَحْدُ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ: (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ). نَظَرْتُهُ وَانْتَظَرْتُهُ بِمَعْنًى. وَالنَّظَرُ الِانْتِظَارُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَالضَّحَّاكُ" فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ". وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" وَالْمَلَائِكَةِ" بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْغَمَامِ، وَتَقْدِيرُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَقْبَلَ الْأَمِيرُ فِي الْعَسْكَرِ، أَيْ مَعَ الْعَسْكَرِ." ظُلَلٌ" جَمْعُ ظُلَّةٍ فِي التَّكْسِيرِ، كَظُلْمَةٍ وَظُلَمٍ وَفِي التَّسْلِيمِ ظُلُلَاتٌ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّ الْوَحْشَ فِي ظُلُلَاتِهَا | سَوَاقِطُ مِنْ حَرٍّ وَقَدْ كَانَ أَظْهَرَا «٢» |
مَمْزُوجَةٌ بِمَاءِ الْقِلَالِ «٣»
قَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: وَ" الْمَلَائِكَةِ" بِالْخَفْضِ بِمَعْنَى وَفِي الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ، كَمَا قَالَ:" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ «٤» "،" وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «٥» ". قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ". قَالَ قَتَادَةُ: الْمَلَائِكَةُ يَعْنِي تَأْتِيهِمْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَيُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى يَأْتِيهِمْ أَمْرُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ. وَقِيلَ: أَيْ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعَذَابِ فِي ظُلَلٍ، مِثْلَ:" فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «٦» " أَيْ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَخْفَشِ سَعِيدٍ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِتْيَانِ رَاجِعًا إِلَى الجزاء، فسمى
(٢). البيت للجعدى. ومعنى أظهر: صار في وقت الظهيرة. وصف سيره في الهاجرة إذا استكن الوحش من حر الشمس واحتدامها ولحق بكنسه.
(٣). القلال (بالكسر جمع قلة بالضم): الجرة، وقيل، هو إناء للعرب كالجرة.
(٤). آية ١٥٨ سورة الانعام.
(٥). آية ٢٢ سورة الفجر.
(٦). آية ٢ سورة الحشر.
(٢). آية ٤٧ سورة الأنبياء.
(٣). تراجع المسألة الاولى ج ١ ص ٤٠٥. [..... ]
(٤). آية ٥٣ سورة الشورى.
(٥). آية ٤٨، ١٠٥ سورة المائدة.
(٦). آية ٩٤ سورة التوبة.
(٧). آية ٦٢ سورة الانعام.
(٨). آية ٣٦ سورة الكهف.
[سورة البقرة (٢): آية ٢١١]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ" سَلْ" مِنَ السُّؤَالِ: بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ السِّينُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَلِفِ الْوَصْلِ. وَقِيلَ: إِنَّ لِلْعَرَبِ فِي سُقُوطِ أَلِفِ الوصل في" سَلْ" وثبوتها في" واسئل" وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- حَذْفُهَا فِي إِحْدَاهُمَا وَثُبُوتُهَا فِي الْأُخْرَى، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا، فَاتَّبِعْ خَطَّ الْمُصْحَفِ فِي إِثْبَاتِهِ لِلْهَمْزَةِ وَإِسْقَاطِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي- أَنَّهُ يَخْتَلِفُ إِثْبَاتُهَا وَإِسْقَاطُهَا بِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، فَتُحْذَفُ الْهَمْزَةُ فِي الْكَلَامِ الْمُبْتَدَإِ، مِثْلَ قَوْلِهِ:" سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ"، وَقَوْلِهِ:" سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «١» ". وثبت في العطف، مثل قول:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢» "،" وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «٣» " قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ" اسْأَلْ" عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ" اسَلْ" عَلَى نَقْلِ الْحَرَكَةِ إِلَى السِّينِ وَإِبْقَاءِ أَلِفِ الْوَصْلِ، عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: الْأَحْمَرُ. وَ" كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لآتيناهم. وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ كَمْ آتَيْنَا آتَيْنَاهُمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا الْفِعْلُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ." مِنْ آيَةٍ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي مفعول ثان لآتيناهم، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي آتَيْنَاهُمْ، وَيَصِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى كَمْ، تَقْدِيرُهُ: كَمْ آتَيْنَاهُمُوهُ، وَلَمْ يُعْرَبْ وَهِيَ اسْمٌ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرُوفِ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَإِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ كَمْ وَبَيْنَ الِاسْمِ كَانَ الِاخْتِيَارُ أَنْ تَأْتِيَ بِمِنْ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ حَذَفْتَهَا نَصَبْتَ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ، وَيَجُوزُ الْخَفْضُ فِي الْخَبَرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ «٤» نَالَ الْعُلَا... وكريم بخله قد وضعه
(٢). آية ٨٢ سورة يوسف.
(٣). آية ٣٢ سورة النساء.
(٤). المقرف: النذل اللئيم الأب.
لَفْظٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ وَجَحَدُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاللفظ «١» مُنْسَحِبٌ عَلَى كُلِّ مُبَدِّلٍ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: النِّعْمَةُ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، فَبَدَّلُوا قَبُولَهَا وَالشُّكْرَ عَلَيْهَا كُفْرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ. وَالْعِقَابُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَقِبِ، كَأَنَّ الْمُعَاقِبَ يَمْشِي بِالْمُجَازَاةِ لَهُ فِي آثَارِ عَقِبِهِ، وَمِنْهُ عُقْبَةُ «٢» الرَّاكِبِ وَعُقْبَةُ الْقِدْرِ «٣». فَالْعِقَابُ وَالْعُقُوبَةُ يَكُونَانِ بِعَقِبِ الذَّنْبِ، وَقَدْ عَاقَبَهُ بذنبه.
[سورة البقرة (٢): آية ٢١٢]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْمُرَادُ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، لِأَنَّهُ لم يتقد لِلْفَاعِلِ ذِكْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ" زُيِّنَتْ" بِإِظْهَارِ الْعَلَامَةِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَالْمُزَيِّنُ هُوَ خَالِقُهَا وَمُخْتَرِعُهَا وَخَالِقُ الْكُفْرِ، وَيُزَيِّنُهَا أَيْضًا الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَخَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لِقَبُولِهِمُ التَّزْيِينَ جُمْلَةً، وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآخِرَةِ بِسَبَبِهَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَ الخلق أيهم أحسن عملا،
(٢). عقبة الراكب (بضم فسكون): الموضع يركب منه.
(٣). في هامش ب" في الصحاح: والعقبة أيضا شي من المرق يرده مستعير القدر إذا ردها".
(٢). راجع ج ١١ ص ١٤٥ [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَنُو آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ نَسَمًا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَأَقَرُّوا له بالوحدانية. قال مُجَاهِدٌ: النَّاسُ آدَمُ وَحْدَهُ، وَسُمِّيَ الْوَاحِدُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسْلِ. وَقِيلَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْقُرُونُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَهِيَ عَشَرَةٌ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى اخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا فَمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: منذ خلق الله
(٢). آية ١١٠ سورة المؤمنون.
(٣). آية ٢٦ سورة النبأ.
(٤). آية ٣ سورة الطلاق.
(٢). آية ٢٩ سورة الجاثية.
(٣). راجع ج ٢ ص ٢٨.
(٤). في ب، من:" الشنعة".
[سورة البقرة (٢): آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ" حَسِبْتُمْ" مَعْنَاهُ ظَنَنْتُمْ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالشِّدَّةِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَسُوءِ الْعَيْشِ، وَأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «٢» ". وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَرْبِ أحد، نظيرها- في آل عمران-
(٢). آية ١٠ سورة الأحزاب.
(٢). كذا في الأصول، وفى ابن عطية: تقديره أحسبتم.
(٣). في بعض نسخ الأصل:" وحكى البصريون". [..... ]
(٤). آية ١، ٢، ٣ سورة العنكبوت.
فَيَا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي «١»
قَالَ النَّحَّاسُ: فَعَلَى هَذَا الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ أَبْيَنُ وَأَصَحُّ مَعْنًى، أَيْ وَزُلْزِلُوا حَتَّى الرَّسُولُ يَقُولُ، أَيْ حَتَّى هَذِهِ حَالُهُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ إِنَّمَا كَانَ عَنِ الزَّلْزَلَةِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ مِنْهَا، وَالنَّصْبُ عَلَى الْغَايَةِ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى. وَالرَّسُولُ هُنَا شَعْيَا فِي قَوْلِ مُقَاتِلٍ، وَهُوَ الْيَسَعُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذَا فِي كُلِّ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أُمَّتِهِ وَأُجْهِدَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: يَعْنِي، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ نُزُولُ الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي غَيْرِ الْآيَةِ سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلُهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ السَّيْرُ قَدْ مَضَى وَالدُّخُولُ الْآنَ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَرِضَ حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ، أَيْ هُوَ الْآنَ لَا يُرْجَى، وَمِثْلُهُ سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلُهَا لَا أُمْنَعُ. وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَشَيْبَةُ. وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَشِبْلٌ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" وَزُلْزِلُوا وَيَقُولُ الرَّسُولُ" بِالْوَاوِ بَدَلَ حَتَّى. وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" وَزُلْزِلُوا ثُمَّ زُلْزِلُوا وَيَقُولُ". وَأَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَيْ بَلَغَ الْجَهْدُ بِهِمْ حَتَّى اسْتَبْطَئُوا النَّصْرَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ". وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ عَلَى طَلَبِ استعجال النصر لا على شك وارتياب. والرسول اسْمُ جِنْسٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ، فَيَقُولُ الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، فَقُدِّمَ الرَّسُولُ فِي الرُّتْبَةِ لِمَكَانَتِهِ، ثم قدم قول المؤمنين
كأن أباها نهشل أو مجاشع
هجا كليب بن يربوع رهط جرير، وجعلهم من الضعة بحيث لا يسابون مثله لشرفه. ونهشل ومجاشع: رهط الفرزدق، وهما ابنا دارم (عن شرح الشواهد).
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ | قَرِيبٌ وَلَا بَسْبَاسَةُ بْنَةُ يَشْكُرَا |
[سورة البقرة (٢): آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ إِنْ خَفَّفْتَ الْهَمْزَةَ أَلْقَيْتَ حَرَكَتَهَا عَلَى السِّينِ فَفَتَحْتَهَا وَحَذَفْتَ الْهَمْزَةَ فَقُلْتَ: يَسَلُونَكَ. وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَالِي كَثِيرٌ، فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت" يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ". الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: مَاذَا يُنْفِقُونَ" مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" ذَا" الْخَبَرُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَحُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَهُ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ" مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" يُنْفِقُونَ" و" ذا" مع" ما" بمنزلة شي وَاحِدٍ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ضَمِيرٍ، وَمَتَى كَانَتِ اسْمًا مُرَكَّبًا فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِلَّا ما جاء في قول الشاعر:
(٢). هو امرؤ القيس، كما في ديوانه.
وَمَاذَا عَسَى الْوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا | سِوَى أَنْ يَقُولُوا إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
(٢). آية ٣٨ سورة الروم.
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا | وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ |
(٢). هو عمر بن أبى ربيعة.
(٣). آية ٣٩ سورة الحج.
(٤). راجع ج ٦ ص ١٣٦.
رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ... جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ
خَفِيَ الْمَحْبُوبُ منه... وبدا المكروه فيه
[سورة البقرة (٢): الآيات ٢١٧ الى ٢١٨]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «١». وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً كُلُّهُنَّ في القرآن:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ"،" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ"،" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى "، ما كانوا يسألونك إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً إِلَّا ثَلَاثٌ. وَرَوَى أَبُو الْيَسَارِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْطَلِقَ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَلَّا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: وَلَا تُكْرِهَنَّ أَصْحَابَكَ عَلَى الْمَسِيرِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَكَانَ قَرَأَ الْكِتَابَ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَ: فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ" الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نزولها أن
(٢). أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في تفسير الطبري.
(٢). هو أبو عامر الأشعري، ابن عم أبى موسى الأشعري.
(٣). أوطاس: واد في ديار هوازن، وفية كانت وقعة حنين. راجع طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام في غزوة حنين.
(٤). في بغض النسخ:" يسحبونهم".
(٥). عقل القتيل: أعطى وريته ديته بعد قتله.
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ | وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا «٢» |
(٢). البيت لعبدة بن الطبيب، رثى فيه قيس بن عاصم المنقري، وكان سيد أهل الوبر من تميم. (عن كتاب سيبويه ج ١ ص ٧٧ طبع بولاق).
أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ | كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ «١» |
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تبتكر
وَالْمَعْنَى: أَتَرُوحُ، فَحَذَفَ الْأَلِفَ لِأَنَّ أَمْ تَدُلُّ عَلَيْهَا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ مُسْتَنْكَرٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَانَ ثَابِتًا يَوْمَئِذٍ إِذْ كَانَ الِابْتِدَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالشَّهْرُ فِي الْآيَةِ اسْمُ جِنْسٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ قِوَامًا تَعْتَدِلُ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ لَا تَسْفِكُ دَمًا، وَلَا تُغَيِّرُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ «٢» وَوَاحِدُ فَرْدٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي" الْمَائِدَةِ»
" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ابْتِدَاءٌ (وَكُفْرٌ بِهِ) عُطِفَ عَلَى" صَدٌّ" (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عُطِفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) عُطِفَ عَلَى صَدٌّ، وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ (أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِطُولِ مَنْعِ النَّاسِ عَنِ الْكَعْبَةِ أَنْ يُطَافَ بِهَا." وَكُفْرٌ بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ، وَقِيلَ:" وَكُفْرٌ بِهِ" أَيْ بِالْحَجِّ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ." وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ" أَيْ أَعْظَمُ عُقُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:" صَدٌّ" عُطِفَ عَلَى" كَبِيرٌ"." والْمَسْجِدِ" عُطِفَ عَلَى الْهَاءِ فِي" بِهِ"، فَيَكُونُ الْكَلَامُ نَسَقًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَسُوقُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ:" وَكُفْرٌ بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ عُطِفَ أَيْضًا عَلَى" كَبِيرٌ"، وَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْكُفْرِ عند الله، وهذا بين
(٢). الثلاثة السرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. والسرد التتابع. والواحد الفرد: رجب، وصار فردا لأنه يأتي بعده شعبان وشهر رمضان وشوال.
(٣). راجع ج ٦ ص ٣٩
تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً | وَأَعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ |
صُدُودُكُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ | وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ |
وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ أَهْلَهُ | لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ |
فَإِنَّا وَإِنْ غَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ | وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ |
سَقَيْنَا مِنَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا | بِنَخْلَةٍ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقِدُ |
دَمًا وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا | يُنَازِعُهُ غُلٌّ مِنَ الْقِدِّ عَانِدُ |
(٢). في ا" ابتداء وخبر.. ".
(٢). راجع ج ١ ص ١٩٨
(٢). آية ٣٠ سورة الأحزاب.
فَرَجِّي الْخَيْرَ وَانْتَظِرِي إِيَابِي | إِذَا مَا الْقَارِظُ الْعَنَزِيُّ آبَا |
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا | وَخَالَفَهَا «٣» فِي بَيْتِ نُوَبٍ عَوَامِلِ |
(٢). آية ١٣ سورة نوح.
(٣). خالفها (بالخاء المعجمة): خلفها إلى عسلها وهى غائبة فقد سرحت ترعى. يروى:" حالفها- عواسل" بالحاء المهملة، أي لازمها. والنوب: النحل، وهو جمع نائب، لأنها ترعى ثم تنوب إلى موضعها.
[سورة البقرة (٢): آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما). فِيهِ تسع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ) «١» السَّائِلُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخَمْرُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ. وكل شي غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ، وَمِنْهُ" خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ" فَالْخَمْرُ تَخْمُرُ الْعَقْلَ، أَيْ تُغَطِّيهِ وَتَسْتُرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ يُقَالُ لَهُ: الْخَمَرُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ) لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ وَيَسْتُرُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَخَمَرَتِ الْأَرْضُ كَثُرَ خَمَرُهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرَا | فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ |
فِي لَامِعِ الْعِقْبَانِ «٢» لَا يَمْشِي الْخَمَرْ | يُوَجِّهُ الْأَرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ |
(٢). العقبان (جمع عقاب): الرايات. وقوله:" بوجه الأرض" أي لا يمر بشيء إلا جعله جهة واحدة، فيكون وجهه مع وجهه حيث يذهب. وقوله:" يستاق الشجر" أي يمر بالرمث (مرعى من مراعى الإبل) والعرفج وسائر الشجر فيستاقه معه، يذهب به من كثرته. وفى ب" العقيان" بالياء، وقال:" العقيان الخالص من الذهب ويقال هو ما ينبت نباتا وليس مما يحصل من الحجارة" وكذا في ج.
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٨٥ وما بعدها، وج ١٠ ص ١٢٨ وما بعدها.
(٣). الكعاب: فصوص النرد.
فَأَعِنْهُمْ وَايْسِرْ بِمَا يَسَرُوا بِهِ | وَإِذَا هُمْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ |
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي | أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ «٢» |
أَنِّي أُتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ | مَثْنَى الْأَيَادِي «٣» وَأَكْسُو الْجَفْنَةَ الْأَدَمَا |
وَهُمْ أَيْسَارُ لُقْمَانَ إِذَا | أَغْلَتِ الشَّتْوَةُ «٤» أَبْدَاءَ الْجُزُرْ |
وَنَاجِيَةٍ نَحَرْتُ لِقَوْمِ صِدْقٍ | وما ناديت أيسار الجزور |
(٢). تيأسوا (من يئس) بمعنى علم. وزهدم (كجعفر): اسم فرس.
(٣). قوله:" مثنى الايادي" هو أن يعيد معروفه مرتين أو ثلاثا. [..... ]
(٤). الشتوة (واحد جمعه شتاء) والعرب تجعل الشتاء مجاعة، لان الناس يلتزمون فيه البيوت ولا يخرجون للانتجاع. وإبداء (جمع بدء): خير عظيم في الجزور. وقيل: هو خير نصيب فيها.
(٢). الغرر: بيع السمك في الماء والطير في الهواء. وقيل: ما كان له ظاهر يغر المشترى وباطن مجهول. وقال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي يحيط بكنهها المتبايعان حتى تكون معلومة.
رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا | خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا |
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا | وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا |
وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي | وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا |
فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيَهَا | وَتُجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا |
إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ | تَرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا |
وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي | أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا «٢» |
(٢). بالرفع، إما على إهمال" أن" وإما على أنها مخففة من الثقيلة.
(٣). البهم (بضم ففتح جمع البهمة): الفارس الَّذِي لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى لَهُ من شدة بأسه.
(٤). زيادة عن كتاب" الاستيعاب".
(٥). بهرجتني: أي أهدرتني بإسقاط الحد عنى.
إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ
ثُمَّ إِنَّ الشَّارِبَ يَصِيرُ ضُحْكَةً لِلْعُقَلَاءِ، فَيَلْعَبُ بِبَوْلِهِ وَعَذِرَتِهِ، وَرُبَّمَا يَمْسَحُ وَجْهَهُ، حَتَّى رُئِيَ بَعْضُهُمْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِبَوْلِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ وَرُئِيَ بَعْضُهُمْ وَالْكَلْبُ يَلْحَسُ وَجْهَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْقِمَارُ فَيُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أَمَّا فِي الْخَمْرِ فَرِبْحُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنَ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ المماكسة فِيهَا، فَيَشْتَرِي طَالِبُ الْخَمْرِ الْخَمْرَ بِالثَّمَنِ الْغَالِي. هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي مَنْفَعَتِهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي مَنَافِعِهَا: إِنَّهَا تَهْضِمُ الطَّعَامَ، وَتُقَوِّي الضَّعْفَ، وَتُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَتُسَخِّي الْبَخِيلَ، وَتُشَجِّعَ الْجَبَانَ، وَتَصُفِّي اللَّوْنَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّذَّةِ بِهَا. وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا | وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا «١» اللِّقَاءُ |
فَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي | رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ |
وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي | رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ |
(٢). هو المنخل اليشكري.
وَلَا بَرَمًا تُهْدِي النِّسَاءُ لِعُرْسِهِ | إِذَا الْقَشْعُ مِنْ بَرْدِ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا» |
(٢). الإفاضة بالقداح: الضرب بها وإجالتها عند القمار.
(٣). سيذكر المؤلف رحمه الله تعالى معنى الربابة. [..... ]
(٤). البرم (بفتحتين): الذي يدخل مع القوم في الميسر. والقشع: بيت من جلد.
وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ | يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ «١» |
وَكُنْتُ امْرَأً أَفَضْتُ إِلَيْكَ رِبَابَتِي | وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ «٣» |
الْمُطْعِمُو الضَّيْفِ إِذَا مَا شَتَوْا | وَالْجَاعِلُو الْقُوتِ عَلَى الْيَاسِرِ |
بِأَيْدِيهِمْ مَقْرُومَةٌ «٥» وَمَغَالِقُ | يَعُودُ بِأَرْزَاقِ الْعُفَاةِ «٦» مَنِيحُهَا |
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً | كَرَّ الْمَنِيحِ وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالَا |
(٢). هو علقمة بن عبدة، كما في ديوانه.
(٣). ربتني أي ملكتني أرباب من الملوك فضعت حتى صرت إليك. والربوب (جمع رب): المالك.
(٤). هو عمر بن قميئة، كما في تاج العروس واللسان، مادة" غلق".
(٥). المقرومة: الموسومة بالعلامات. والمغالق قداح الميسر. وقيل: المغالق من نعوت قداح الميسر التي يكون لها الفوز، وليست المغالق من أسمائها، وهى التي تغلق الخطر فتوجبه للمقامر الفائز، كما يغلق الرهن لمستحقه. (عن اللسان).
(٦). كذا في الأصول. والعفاة: الأضياف وطلاب المعروف. والذي في اللسان وتاج العروس:" العيال".
(٧). في الأصول:" جرير" والتصويب عن ديوان الأخطل. والبيت من قصيدة يهجو بها جريرا مطلعها:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
راجع ديوانه ص ٤١ طبع بيروت.
(٨). كذا في الأصول. والذي في كتاب" الميسر والقداح" لابن قتيبة والمفضليات أنه للمرقش الأكبر، وهو من قصيدة له، مطلعها:
ألا بان جيراني ولست بعائف
راجع المفضليات ص ٤٧٤ طبع أوربا.
إِذَا يَسَرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ بَيْنَهُمْ | فَوَاحِشَ ينعى ذكرها بالمصائف |
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي | كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ |
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي | وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) إِلَى قَوْلِهِ (حَكِيمٌ) فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
«١» وَ" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «٢» " الْآيَةَ، انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ فَجَعَلَ يُفْضِلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيَحْبِسُ لَهُ، حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى:" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ" الْآيَةَ، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم
(٢). آية ١٠ سورة النساء.
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٤ وما بعدها.
" قَالَ: لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مُوبِقًا. وَقِيلَ:" لَأَعْنَتَكُمْ" لَأَهْلَكَكُمْ، عَنِ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَشَدَّدَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ إِلَّا التَّسْهِيلَ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أَيْ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ أَدَاؤُهُ وَأَثَّمَكُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ عَنْكُمْ. وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، وَقَدْ عَنِتَ وَأَعْنَتَهُ غَيْرُهُ. ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شي فَهَاضَهُ: قَدْ أَعْنَتَهُ، فَهُوَ عَنِتٌ وَمُعْنِتٌ. وَعَنِتَتِ الدَّابَّةُ تَعْنَتُ عَنَتًا: إِذَا حَدَثَ فِي قَوَائِمِهَا كَسْرٌ بَعْدَ جَبْرٍ لَا يُمْكِنُهَا مَعَهُ جَرْيٌ. وَأَكَمَةٌ عَنُوتٌ: شَاقَّةُ الْمَصْعَدِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُ الْعَنَتِ التَّشْدِيدُ، فَإِذَا قَالَتِ الْعَرَبُ: فُلَانٌ يَتَعَنَّتُ فُلَانًا وَيُعْنِتُهُ فَمُرَادُهَا يُشَدِّدُ عَلَيْهِ وَيُلْزِمُهُ مَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْهَلَاكِ. وَالْأَصْلُ مَا وَصَفْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) أَيْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شي (حَكِيمٌ) يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يُرِيدُ لَا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ:
(٢). في ج:" وسفيان هو الثوري بن سعيد، وعبد الرحمن هو الأوزاعي بن عمرو".
«١» "، وَقَالَ:" لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ «٢» " فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي اللَّفْظِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَاسْمُ الشِّرْكِ عُمُومٌ وَلَيْسَ بِنَصٍّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «٣» " بَعْدَ قَوْلِهِ:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ" نَصٌّ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُحْتَمَلِ وَبَيْنَ مَا لَا يُحْتَمَلُ. فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" أَيْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَأَسْلَمُوا، كَقَوْلِهِ:" وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ «٤» " الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:" مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ «٥» " الْآيَةَ. قِيلَ لَهُ: هَذَا خِلَافُ نَصِّ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" وَخِلَافُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، فَإِنَّهُ لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ جَوَازُ التَّزْوِيجِ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَصَارَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ" فَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ" لِأَنَّ الْمُشْرِكَ يَدْعُو إِلَى النَّارِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَالْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنَ الْكَافِرِ مُطْلَقًا، وَهَذَا بَيِّنٌ. الرَّابِعَةُ- وَأَمَّا نِكَاحُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا كَانُوا حَرْبًا فَلَا يحل، وسيل ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ، وَتَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «٦» " إِلَى قَوْلِهِ:" صاغِرُونَ". قَالَ الْمُحَدِّثُ: حَدَّثْتُ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ فَأَعْجَبَهُ. وَكَرِهَ مَالِكٌ تَزَوُّجَ الْحَرْبِيَّاتِ، لِعِلَّةِ تَرْكِ الْوَلَدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِتَصَرُّفَهَا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَةَ الْمَمْلُوكَةَ خَيْرٌ مِنَ الْمُشْرِكَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ. (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) فِي الْحُسْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَنَزَلَتْ فِي خَنْسَاءَ وَلِيدَةٍ سَوْدَاءَ كَانَتْ لِحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَقَالَ لَهَا حُذَيْفَةُ: يَا خَنْسَاءُ، قَدْ ذُكِرْتِ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى مَعَ سَوَادِكِ وَدَمَامَتِكِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى ذِكْرَكِ فِي كِتَابِهِ، فَأَعْتَقَهَا حُذَيْفَةُ وَتَزَوَّجَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، كانت له أمة سوداء
(٢). آية ١ سورة البينة.
(٣). آية ٥ سورة المائدة.
(٤). آية ١٩٩ سورة آل عمران.
(٥). آية ١١٣ سورة آل عمران.
(٦). آية ٢٩ سورة التوبة.
(٢). زيادة عن ابن العربي.
(٣). آية ٢٤ سورة الفرقان.
". فَهَذَا عِنْدَهُمَا. عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ لَا عَلَى الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَاحْتَجَّا بِسَبْيِ أَوْطَاسٍ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ نَكَحُوا الْإِمَاءَ مِنْهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، أَمَّا سَبْيٌ أَوْطَاسٍ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَاءُ أَسْلَمْنَ فَجَازَ نِكَاحُهُنَّ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ" فَغَلَطٌ، لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا النِّكَاحَ عَلَى الْعَقْدِ، وَالنِّكَاحُ فِي اللغة يقع على العقد وعلى الوطي، فَلَمَّا قَالَ:" وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ" حَرَّمَ كُلَّ نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطئ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْمَجُوسِيَّةَ أَيَطَؤُهَا؟ فَقَالَ: إِذَا شَهِدَتْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَطِئَهَا. وَعَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تُسْلِمَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تُسْلِمَ هَذَا- وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَغَازِي وَالسِّيَرِ- دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سبى أوطاس وطين وَلَمْ يُسْلِمْنَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَا: لَا بَأْسَ بوطي الْمَجُوسِيَّةِ، وَهَذَا لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِالْأَمْصَارِ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ- وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ غَزْوُهُ وَلَا غَزْوُ [أَهْلِ «١»] نَاحِيَتِهِ إِلَّا الْفُرْسَ وَمَا وَرَاءَهُمْ مِنْ خُرَاسَانَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَهْلَ كِتَابٍ- مَا يُبَيِّنُ لَكَ كَيْفَ كَانَتِ السِّيرَةُ فِي نِسَائِهِمْ إِذَا سُبِينَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ قَالَ رَجُلٌ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ إِذَا سَبَيْتُمُوهُنَّ؟ قَالَ: كُنَّا نُوَجِّهُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ وَنَأْمُرُهَا أَنْ تُسْلِمَ وَتَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ نَأْمُرُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُهَا أَنْ يُصِيبَهَا لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا. وَعَلَى هَذَا تَأْوِيلُ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ". أَنَّهُنَّ الْوَثَنِيَّاتُ وَالْمَجُوسِيَّاتُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ الْكِتَابِيَّاتِ بِقَوْلِهِ:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" يَعْنِي الْعَفَائِفَ، لَا مَنْ شهر زناها من
(٢). العضل: المنع.
(٣). آية ٢٥ سورة النساء.
(٤). آية ٣٢ سورة النور.
(٥). راجع ج ١٢ ص ٢٣٩ وما بعدها.
(٦). راجع ج ١٣ ص ٢٧١.
(٧). آية ٣٤ سورة النساء.
بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَتْ دَنِيئَةً كَالْمُعْتَقَةِ والسوداء «٣» والسعاية «٤» والمسلمانية «٥»، ومن
(٢). آية ٢٣٤ سورة البقرة.
(٣). قال مالك: هم قوم من القبط يقدمون من مصر إلى المدينة.
(٤). السعاية: البغي.
(٥). في الأصول:" الإسلامية" والتصويب عن شرح الخرشي وحاشية العدوى.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)
فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ السَّائِلَ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ- وَقِيلَ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وسبب السؤال
كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْرَ طَاهِرِ
وَنِسَاءٌ حُيَّضٌ وَحَوَائِضٌ. وَالْحَيْضَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَالْحِيضَةُ (بِالْكَسْرِ) الِاسْمُ، [وَالْجَمْعُ] الْحِيَضُ. وَالْحِيضَةُ أَيْضًا: الْخِرْقَةُ الَّتِي تَسْتَثْفِرُ «٣» بِهَا الْمَرْأَةُ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَيْتَنِي كُنْتُ حِيضَةً ملقاة. وكذلك المحيضة، والجمع المحايض. وَقِيلَ: الْمَحِيضُ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَعَنِ الْحَيْضِ نَفْسِهِ، وَأَصْلُهُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مَجَازٌ فِي الْحَيْضِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَحِيضُ اسْمٌ لِلْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ فِي الْعَيْشِ:
إِلَيْكَ أَشْكُو شدة المعيش | ومر أعوام «٤» نتفن ريشي |
(٢). وجد عليهما: غضب. ومضارعة بضم الجيم وكسرها.
(٣). الاستثفار: أن تشد المرأة فرجها بخرقة عريضة، أو قطنة تحتشي بها ثق طرفيها في شي فتشده على وضعها فيمنع سيلان الدم.
(٤). في ب:" ومر أزمان".
(٢). راجع ج ٩ ص ١٨٠
أن تؤمر فيهم، وفى الحديث:
(٢). آية ٢٦٤ سورة البقرة.
(٣). آية ٤٨ سورة الأحزاب.
(٢). في ا:" جل أهل الفقه... ".
وَمَا كَانَتِ الْأَنْصَارُ فِيهَا أَذِلَّةً | وَلَا غُيَّبًا فِيهَا إِذَا النَّاسُ غُيَّبُ |
(٢). آية ٦ سورة النساء.
(٣). آية ٢٣٠ سورة البقرة.
(٤). آية ١٠٨ سورة التوبة.
(٢). آية ٢٥٦ سورة البقرة.
(٣). آية ٤٠ سورة فاطر.
(٤). آية ٩ سورة الجمعة.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢٣]
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
فيه ست مسائل: الأول- قَوْلُهُ تَعَالَى: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) رَوَى الْأَئِمَّةُ واللفظ للمسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ:" نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" زَادَ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً «٣» وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ غَيْرَ إِنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ. وَيُرْوَى: فِي سِمَامٍ وَاحِدٍ بِالسِّينِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا «٤»، فَقَرَأَ سُورَةَ" الْبَقَرَةِ" حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ قَالَ: أَتَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، ثم مضى. وعن
(٢). راجع ج ١٤ ص ٣٤٧.
(٣). مجبية: أي منكبه على وجهها، تشبيها بهيئة السجود.
(٤). أخذت عليه: أي أمسكت المصحف وهو يقرأ عن ظهر قلب. [..... ]
(٢). شرح الرجل جاريته: إذا وطئها نائمة على قفاها.
(٣). شرح أمرهما (من باب رضى): عظم وتفاقم ولجوا فيه.
(٤). الذي في صحيح الترمذي:" حسن غريب".
(٥). تقدم معنى" التجبية" ص ٩١ من هذا الجزءان.
إِنَّمَا الأرحام أرض | ون لَنَا مُحْتَرَثَاتُ |
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا | وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتُ |
«١» ". وَقَالَ: فَتَقْدِيرُهُ تَتْرُكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، وَلَوْ لَمْ يُبَحْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْأَزْوَاجِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُبَاحُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْآخَرِ مِثْلًا لَهُ، حَتَّى يُقَالَ: تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَتَتْرُكُونَ مِثْلَهُ مِنَ الْمُبَاحِ. قَالَ الْكِيَا: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ مَعْنَاهُ: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ مِمَّا فِيهِ تَسْكِينُ شَهْوَتِكُمُ، وَلَذَّةُ الْوَقَاعِ حَاصِلَةٌ بِهِمَا جَمِيعًا، فَيَجُوزُ التَّوْبِيخُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ" مَعَ قَوْلِهِ:" فَأْتُوا حَرْثَكُمْ" مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَأْتَى اخْتِصَاصًا، وَأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْضِعِ الْوَلَدِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الرَّتْقَاءِ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا أَنَّهُ عَيْبٌ تُرَدُّ بِهِ، إِلَّا شَيْئًا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ لَا تُرَدُّ الرَّتْقَاءُ وَلَا غَيْرُهَا، وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَسِيسَ هُوَ الْمُبْتَغَى بِالنِّكَاحِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى هَذَا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطئ، ولو كان موضعا للوطي مَا رُدَّتْ مَنْ لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ. وَفِي إِجْمَاعِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَقِيمَ الَّتِي لَا تَلِدُ لَا تُرَدُّ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَمَا نُسِبَ إِلَى مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ هَذَا بَاطِلٌ وَهُمْ مُبَرَّءُونَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْإِتْيَانِ مُخْتَصَّةٌ بِمَوْضِعِ الْحَرْثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَأْتُوا حَرْثَكُمْ"، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الْأَزْوَاجِ بَثُّ النَّسْلِ، فَغَيْرُ موضع النسل لا يناله مالك النِّكَاحِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ عِنْدَنَا وَلَائِطُ الذَّكَرِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْقَذَرَ وَالْأَذَى فِي مَوْضِعِ النَّجْوِ «٢» أَكْثَرُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَكَانَ أَشْنَعَ. وَأَمَّا صِمَامُ الْبَوْلِ فَغَيْرُ صِمَامِ الرَّحِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ: قَالَ لَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ فَقِيهُ الْوَقْتِ وَإِمَامُهُ: الْفَرْجُ أشبه شي بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَأَخْرَجَ يَدَهُ عَاقِدًا بِهَا. وَقَالَ: مَسْلَكُ الْبَوْلِ مَا تَحْتَ الثَّلَاثِينَ، وَمَسْلَكُ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْخَمْسَةُ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْجَ حَالَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْعَارِضَةِ. فَأَوْلَى أَنْ يُحَرَّمَ الدُّبُرُ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر
(٢). النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط.
(٢). التحميض: أن يأتي الرجل المرأة في غير مأتاها الذي يكون موضع الولد.
«١» ".. فَالْمَعْنَى قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمُ الطَّاعَةَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ. وَقِيلَ ابْتِغَاءُ الْوَلَدِ وَالنَّسْلِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ يَكُونُ شَفِيعًا وَجُنَّةً. وَقِيلَ: هُوَ التَّزَوُّجُ بِالْعَفَائِفِ، لِيَكُونَ الْوَلَدُ صَالِحًا طَاهِرًا. وَقِيلَ: هُوَ تَقَدُّمُ «٢» الْأَفْرَاطِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي" مَرْيَمَ «٣» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: أَيْ قَدِّمُوا ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَحْذِيرٌ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) خَبَرٌ يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي التَّحْذِيرِ، أَيْ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِثْمِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ:" إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا «٤» "- ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) تَأْنِيسٌ لِفَاعِلِ البر ومبتغى سنن الهدى.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢٤]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
(٢). الافراط (جمع فرط): هم الأولاد الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٣٥.
(٤). الغرل (بضم فسكون جمع الأغرل): وهو الأقلف الذي لم يختن.
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ | وَإِنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ |
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٣١.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٢٠٧.
هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ «٢»
وَفُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ: لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ. وَجَعَلْتُ فُلَانًا عُرْضَةً لِكَذَا أَيْ نَصَبْتُهُ لَهُ، وَقِيلَ: الْعُرْضَةُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمَرْأَةِ: عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ، إِذَا صَلُحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، وَلِفُلَانٍ عُرْضَةٌ: أَيْ قُوَّةٌ عَلَى السَّفَرِ وَالْحَرْبِ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
مِنْ كَلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ | عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ |
فهذي لأيام الحروب وهذه | لِلْهَوِيِّ وَهَذِي عُرْضَةٌ لِارْتِحَالِنَا |
فَلَا تَجْعَلُنِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
وَأَدْمَاءُ مِثْلُ الْفَحْلِ يَوْمًا عُرْضَتُهَا | لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ |
(٢). عجز بيت لحسان بن ثابت رضى الله عنه، وصدره: وقال الله قد أعددت جندا
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢٥]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِاللَّغْوِ) اللَّغْوُ: مَصْدَرُ لَغَا يَلْغُو وَيَلْغَى، وَلَغِيَ يَلْغَى لَغًا إِذَا أَتَى بِمَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، أَوْ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، أَوْ بِمَا يُلْغِي إِثْمُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ:" إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ". وَلُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ" فَقَدْ لَغَيْتَ" وَقَالَ الشَّاعِرُ «١»:
وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ | عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ |
وَلَسْتُ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ | إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ |
(٢). هو الفرزدق، كما في النقائض ص ٣٤٤ طبع أوربا.
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٢٨ وما بعدها.
(٣). اليمين المصبورة هي التي ألزم بها الحالف وحبس عليها، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم، وقيل لها:" مصبورة" وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور، لأنه إنما صبر من أجلها، أي حبس، فوصفت بالصبر وأضيفت إلى اليمين مجازا. (ابن الأثير).
فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ منا ومنكم «١»
الرابعة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) مِثْلَ قَوْلِهِ:" وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ". وَهُنَاكَ «٢» يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" هُوَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: هُوَ مُشْرِكٌ إِنْ فَعَلَ، أَيْ هَذَا اللَّغْوَ «٣»، إِلَّا أَنْ يَعْقِدَ الْإِشْرَاكَ بِقَلْبِهِ وَيَكْسِبَهُ. (غَفُورٌ حَلِيمٌ) صِفَتَانِ لَائِقَتَانِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ طَرْحِ الْمُؤَاخَذَةِ، إِذْ هُوَ بَابُ رفق وتوسعة.
[سورة البقرة (٢): الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٧]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) " يُؤْلُونَ" مَعْنَاهُ يَحْلِفُونَ، وَالْمَصْدَرُ إِيلَاءٌ وَأَلِيَّةٌ وَأَلْوَةٌ وَإِلْوَةٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ" لِلَّذِينَ يُقْسِمُونَ". وَمَعْلُومٌ أن" يقسمون" تفسير" يُؤْلُونَ". وقرى" لِلَّذِينَ آلَوْا" يُقَالُ: آلَى يُؤْلِي إِيلَاءً، وَتَأَلَّى تَأَلِّيًا، وَائْتَلَى ائْتِلَاءً، أَيْ حَلَفَ، وَمِنْهُ" وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ «٤» "، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَآلَيْتُ لَا أَنْفَكُّ أَحْدُو قَصِيدَةً | تَكُونُ وَإِيَّاهَا بِهَا مَثَلًا بَعْدِي |
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ | وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ |
أَلِيَّةٌ بِالْيَعْمَلَاتِ يَرْتَمِي | بِهَا النَّجَاءُ بَيْنَ أَجْوَازِ الفلا |
بمقسمة تمور بها الدماء
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٦٦.
(٣). في نسخ ب: هذا لغو.
(٤). راجع ج ١٢ ص ٢٠٧ [..... ]
يَمِينًا مَحْضًا، لو وطئ في هذه
(٢). في ب: الحاكم.
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا | تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا |
أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ | وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا حبيب ألاعبه |
فو الله لَوْلَا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ | لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ |
مَخَافَةَ رَبِّي وَالْحَيَاءُ يَكُفُّنِي | وَإِكْرَامَ بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهُ |
فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ | ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا |
(٢). في ب: وتفقد.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٣١٩.
(٢). في ز: لم يتيسر.
(٣). في ب: مسيرة.
أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ «٥»
(٢). في ب: احتج.
(٣). في ب: ولا عزيمة طلاق.
(٤). في ب: العزم. [..... ]
(٥). جارته: زوجته، وبيني من البينونة وعجز البيت: كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمُطَلَّقاتُ) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيلَاءَ وَأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَقَعُ فِيهِ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقِ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ" الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقَالَ:" الطَّلاقُ مَرَّتانِ" الْآيَةَ. وَالْمُطَلَّقَاتُ لَفْظُ عُمُومٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَخَرَجَتِ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِآيَةِ" الْأَحْزَابِ":" فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «١» " عَلَى مَا يَأْتِي. وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ بِقَوْلِهِ:" وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «٢» ". وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَقْرَاءِ الِاسْتِبْرَاءُ، بِخِلَافِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ. وَجَعَلَ اللَّهُ عِدَّةَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْكَبِيرَةِ الَّتِي قَدْ يَئِسَتِ الشُّهُورَ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْعُمُومَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ ثُمَّ نُسِخْنَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ فِيمَنْ تَحِيضُ خَاصَّةً، وَهُوَ عُرْفُ النِّسَاءِ وَعَلَيْهِ مُعْظَمُهُنَّ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَرَبَّصْنَ) التَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَهَذَا خَبَرٌ وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ «٣» " وَجَمْعُ رَجُلٍ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، وَحَسْبُكَ دِرْهَمٌ، أَيِ اكْتَفِ بِدِرْهَمٍ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنِهِمْ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وجدت مطلقة
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٦٢.
(٣). راجع ص ١٦٠ من هذا الجزء.
كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ «٣» | إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ |
أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غزوة | تسد لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا |
مُوَرِّثَةٍ عِزًّا «٤» وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ | لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا |
(٢). هو مالك بن الحارث الهذلي (عن اللسان).
(٣). العقر: اسم موضع. وشليل: جد جرير بن عبد الله البجلي.
(٤). في الديوان: مورثة مالا وفى المجد رفعة.
يَا رَبِّ ذِي ضغن علي فارض | له قروء كقروء الحائض |
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءِ بِكْرٍ | هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا |
وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ | وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيَلِ |
(٢). في ج: تمادى أمر الحامل.
(٣). هو أبو كبير الهذلي (عن اللسان).
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٥٠ [..... ]
(٢). راجع ص ١٨٦ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٥٧
(٢). في ز: وعلى قول مالك، وفي ح: في قول مالك، وقال الشافعي وإسحاق إلخ.
(٢). استنظفت الشيء: إذا أخذته كله.
(٢). في ح: اللائق.
(٣). يريد استعمال الخلال وهو من السنة، وهو إخراج ما بين الأسنان من فضول الطعام. [..... ]
(٤). راجع ج ١٠ ص ٨٧.
(٥). في ز: مائه.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
فَلَهُ
(٢). في ح: صلة.
(٢). في ح،: فسقط الاحتجاج بغيره.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٤٧
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٠٤.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٥٧ [..... ]
" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِ" يَحِلُّ". وَالْآيَةُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، نُهُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِأَلَّا يَنْفَرِدَ الرَّجُلُ بِالضَّرَرِ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ ما آتى
(٢). في ح وب: حبا.
وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ:" فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ"؟ قَالَ: نُسِخَتْ. قُلْتُ: فَأَيْنَ جُعِلَتْ؟ قَالَ: فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ":" وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ
«١» ". قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، خَارِجٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ لِشُذُوذِهِ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ دَافِعَةً لِلْأُخْرَى فَيَقَعُ النَّسْخُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ" فَإِنْ خِفْتُمْ" الْآيَةَ، لَيْسَتْ بِمُزَالَةٍ بِتِلْكَ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمَا إِذَا خَافَا هَذَا لَمْ يَدْخُلِ الزَّوْجُ فِي" وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ" لِأَنَّ هَذَا لِلرِّجَالِ خَاصَّةً. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ بَكْرٍ: إِنْ أَرَادَتْ هِيَ الْعَطَاءَ فَقَدْ جَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ مَا سَاقَ إِلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ. الْخَامِسَةُ- تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ رَأَى اخْتِصَاصَ الْخُلْعِ بِحَالَةِ الشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْخُلْعِ، وَعُضِّدَ هَذَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَضَرَبَهَا فَكَسَرَ نُغْضَهَا «٢»، فَأَتَتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الصُّبْحِ فَاشْتَكَتْ إِلَيْهِ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا فَقَالَ:" خُذْ بَعْضَ مَالِهَا وَفَارِقْهَا". قَالَ: وَيَصْلُحُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:" نَعَمْ". قَالَ: فَإِنِّي أَصْدَقْتُهَا حَدِيقَتَيْنِ وَهُمَا بِيَدِهَا «٣»، فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خُذْهُمَا وَفَارِقْهَا" فَأَخَذَهُمَا وَفَارَقَهَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُلْعُ مِنْ غَيْرِ اشْتِكَاءِ ضَرَرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَذْكُرْهَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْخُلْعِ، فَخَرَجَ الْقَوْلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَالَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «٤» ". السَّادِسَةُ- لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ" دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، كَانَ أَقَلَّ مِمَّا أعطاها أو أكثر منه. وروى
(٢). في الأصول:" بعضها". والتصويب عن سنن أبى داود. والنغض (بضم النون وفتحها وسكون الغين): أعلى الكتف، وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه.
(٣). في الأصول:" مع ما بيدها" والتصويب عن سنن أبى داود.
(٤). راجع ج ٥ ص ٩٨ وص ٢٤.
: لَمْ أَرَ أَحَدًا يَتَّبِعُ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَوِ اتَّبَعَهُ لَكَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٠]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
(٢). راجع ج ٢ ص ٣٣٧.
(٢). في ز، وب: هذا. [..... ]
(٣). في ب: أتبعها.
(٢). الزيادة من ب وز.
(٣). في بعض الأصول:"... وسفيان والثوري، بواو العطف".
(٢). تراجع المسألة الخامسة والثلاثون ج ٢ ص ٣٣٧
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣١]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) مَعْنَى" بَلَغْنَ" قَارَبْنَ، بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَضْطَرُّ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِمَعْنَى التَّنَاهِي، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الثَّانِيَةِ مَجَازٌ فِي الْأُولَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَى زَوْجِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمَعْرُوفِ، فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا مِنْ بَقَائِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، وَالْجُوعُ لَا صَبْرَ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَعَبْدُ الرحمن ابن مَهْدِيٍّ، وَقَالَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ. وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ «١»: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُهَا الصَّبْرُ عَلَيْهِ، وَتَتَعَلَّقُ النَّفَقَةُ بِذِمَّتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «٢» " وَقَالَ:" وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «٣» " الْآيَةَ، فَنَدَبَ تَعَالَى إِلَى إِنْكَاحِ الْفَقِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ مَعَهُ إِلَى النِّكَاحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدِ انْعَقَدَ بِإِجْمَاعٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْلِهِ، أَوْ بِسُنَّةٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٧١.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٢٣٩
(٢). في أكثر الأصول: هزأ وما أثبتناه في ب، وز. [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
(٢). ليس في ز، وب: أو سنان.
إِذَا الْمُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَنِي | كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)فِيهِ ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْوالِداتُ) ابْتِدَاءٌ. (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ظَرْفُ زَمَانٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ ذَكَرَ الْوَلَدَ، لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَفْتَرِقَانِ وَثَمَّ وَلَدٌ، فَالْآيَةُ إِذًا فِي الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي لَهُنَّ أَوْلَادٌ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، قال السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا، أَيْ هُنَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِأَنَّهُنَّ أَحْنَى وَأَرَقُّ، وَانْتِزَاعُ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ إِضْرَارٌ بِهِ وَبِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ فُطِمَ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ لِفَضْلِ حُنُوِّهَا وَشَفَقَتِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ عَلَى مَا يَأْتِي. وَعَلَى هَذَا يُشْكِلُ قَوْلُهُ:" وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكُسْوَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ رَجْعِيَّةً بَلْ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَيُقَالُ: الْأَوْلَى أَلَّا تَنْقُصَ الْأُجْرَةُ عَمَّا يَكْفِيهَا لِقُوتِهَا وَكِسْوَتِهَا. وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ اللَّوَاتِي لَهُنَّ أَوْلَادٌ وَفِي الزَّوْجَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا فِي الزَّوْجَاتِ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُنَّ الْمُسْتَحِقَّاتُ لِلنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَالزَّوْجَةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ أَرْضَعَتْ أَوْ لَمْ تُرْضِعْ، وَالنَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ مُقَابِلَةُ التَّمْكِينِ، فَإِذَا اشْتَغَلَتْ بِالْإِرْضَاعِ لَمْ يَكْمُلِ التَّمْكِينُ، فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ فَأَزَالَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ" أَيِ الزَّوْجِ" رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ"، فِي حَالِ الرَّضَاعِ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ فِي مَصَالِحِ الزَّوْجِ، فَصَارَتْ كَمَا لَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَةِ الزَّوْجِ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا تسقط.
" وَلَكِنْ هُوَ عَلَيْهَا فِي حَالِ «١» الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ عُرْفٌ يَلْزَمُ إِذْ قَدْ صَارَ كَالشَّرْطِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ذَاتَ تَرَفُّهٍ «٢» فَعُرْفُهَا أَلَّا تُرْضِعَ وَذَلِكَ كَالشَّرْطِ. وَعَلَيْهَا إِنْ لَمْ يَقْبَلِ الْوَلَدُ غَيْرَهَا وَاجِبٌ. وَهُوَ عَلَيْهَا إِذَا عُدِمَ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ. فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَلَا مَالَ لِلصَّبِيِّ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي" الْمُدَوَّنَةِ" أَنَّ الرَّضَاعَ لَازِمٌ لِلْأُمِّ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْجَلَّابِ: رَضَاعُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ فَقِيرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقَ بَيْنُونَةٍ فَلَا رَضَاعَ عَلَيْهَا، وَالرَّضَاعُ عَلَى الزَّوْجِ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ، فَهِيَ أَحَقُّ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، هَذَا مَعَ يُسْرِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا لَمْ يَلْزَمْهَا الرَّضَاعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهَا فَتُجْبَرُ حِينَئِذٍ عَلَى الْإِرْضَاعِ. وَكُلُّ مَنْ يَلْزَمُهَا الْإِرْضَاعُ فَإِنْ أَصَابَهَا عُذْرٌ يَمْنَعُهَا مِنْهُ عَادَ الْإِرْضَاعُ عَلَى الْأَبِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْأَبَ إِذَا كَانَ مُعْدِمًا وَلَا مَالَ لِلصَّبِيِّ أَنَّ الرَّضَاعَ عَلَى الْأُمِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ وَلَهَا مَالٌ فَالْإِرْضَاعُ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ الرَّضَاعُ إِلَّا وَالِدًا أَوْ جَدًّا وَإِنْ عَلَا، وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ". يُقَالُ: رَضِعَ يَرْضَعُ رَضَاعَةً وَرَضَاعًا، وَرَضَعَ يَرْضِعُ رِضَاعًا وَرَضَاعَةً (بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الْأَوَّلِ وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِي) وَاسْمُ الْفَاعِلِ رَاضِعٌ فِيهِمَا. وَالرَّضَاعَةُ: اللُّؤْمُ (مَفْتُوحُ الرَّاءِ لَا غَيْرَ). الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَوْلَيْنِ) أَيْ سَنَتَيْنِ، مِنْ حَالَ الشَّيْءُ إِذَا انْقَلَبَ، فَالْحَوْلُ مُنْقَلِبٌ مِنَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي. وَقِيلَ: سُمِّيَ الْعَامُ حَوْلًا لِاسْتِحَالَةِ الْأُمُورِ فِيهِ فِي الْأَغْلَبِ. (كامِلَيْنِ) قُيِّدَ بِالْكَمَالِ لِأَنَّ الْقَائِلَ قَدْ يَقُولُ: أَقَمْتُ عِنْدَ فُلَانٍ حَوْلَيْنِ وَهُوَ يُرِيدُ «٣» حَوْلًا وَبَعْضَ حَوْلٍ آخَرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ" وإنما يتعجل
(٢). في ب: ذات محل. أي ذات مكانة.
(٣). في ب، وهـ: يعنى.
(٢). في ب، وز وهـ: إنما يجوز.
(٣). يؤيد هذا ما رواه ابن ماجة عنه عليه الصلاة والسلام" لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء".
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٤٦.
(٣). في ب: الوالد على الولد، والذي هو مثبت هو ما في سائر الأصول والبحر والأحكام لابن العربي.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٦٨
(٢). بئر أبى عنبة، بئر بالمدينة عندها عَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ حين سار إلى بدر. النهاية.
تَرَكَتْهُ رَفْضًا لَهُ وَمَقْتًا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أخذه.
(٢). كذا في الأصول، ولعله مآله إليهم.
يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ، وَالْمَعْنَى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ بِالْأُمِّ مَا عَلَى الْأَبِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَرْجِعُ الْعَطْفُ فِيهِ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدليل.
وَ" فِصالًا" مَعْنَاهُ فِطَامًا عَنِ الرَّضَاعِ، أَيْ عَنِ الِاغْتِذَاءِ بِلَبَنِ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ. وَالْفِصَالُ وَالْفَصْلُ: الْفِطَامُ، وَأَصْلُهُ التَّفْرِيقُ، فَهُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالثَّدْيِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَصِيلُ، لِأَنَّهُ مَفْصُولٌ عَنْ أُمِّهِ. (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) أَيْ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أَيْ فِي فَصْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا جَعَلَ مُدَّةَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِطَامَهُمَا
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ | فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ |
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا | تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
فِيهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) لَمَّا ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَاتَّصَلَ بِذِكْرِهَا ذِكْرُ الْإِرْضَاعِ، ذَكَرَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَيْضًا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِثْلُ عِدَّةِ
(٢). في ج وابن عطية: يستغنى عن الصنعة.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٦٢.
(٣). في هـ: برهة من الزمان.
(٤). راجع ج ٥ ص ٣٥١
(٢). قال ابن الأثير: ويروى" تعالت" أي ارتفعت وطهرت، ويجوز أن يكون من قولهم: تعلى الرجل من علته إذا برأ أي خرجت منن نفاسها وسلمت. مسلم ج ٤ ص ٢٠١ [..... ]
(٢). في ب.
(٣). في ب وهـ: أخبرنا.
(٤). في هـ وب: أخبرنا.
(٢). العصب (بفتح العين وسكون الصاد المهملتين): من برود اليمن يعصب غزلها، أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج مصبوغا فيخرج موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض ولم ينصبغ: وإنما يعصب السدى دون اللحمة.
(٣). النبذة: الشيء اليسير. القسط والاظفار: نوعان من البخور. نبذة منصوب على الاستثناء تقدم عليه الظرف (شرح مسلم).
، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بَرَاءَةُ رَحِمَهَا، هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَتَزَوَّجَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَهُ إِثْرَ وَفَاتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لِلْوَفَاةِ ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج.
(٢). الزيادة عن الباجى.
(٣). هذه عبارة ابن العربي كما وردت في أحكام القرآن. وقد وردت مضطربة في الأصول.
(٢). في ب وهـ: زوجاته.
وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا | تُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ «٢» |
(٢). البيت لأوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسا. والصريحى: نسبة إلى الصريح وهو فحل من خيل العرب معروف. (عن اللسان).
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) إِلَى قَوْلِهِ (مَعْرُوفاً) فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا جُناحَ) أَيْ لَا إِثْمَ، وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي الشَّرْعِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ الْأَمْرُ الشَّاقُّ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي اللُّغَةِ، قَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجًا | تَذَكَّرَ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْجُنَاحِ |
بَرَّحَ بِالْعَيْنَيْنِ خَطَّابُ الْكُثَبْ | يَقُولُ إِنِّي خَاطِبٌ وَقَدْ كَذَبْ |
وَالْخَطِيبُ: الْخَاطِبُ. وَالْخِطِّيبَى: الْخِطْبَةُ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ يذكر قصد جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ لِخِطْبَةِ الزَّبَّاءِ:
لَخِطِّيبَى الَّتِي غَدَرَتْ وَخَانَتْ | وَهُنَّ ذَوَاتُ غَائِلَةٍ لِحُينَا |
(٢). في ج: السر.
(٢). في ب: يتعرض.
فَلَا تَقْرَبَنَ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا | عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا |
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ | وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ الْقِصَاعِ |
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي | كَبِرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي |
فكف عن إسرارها بعد العسق
أَيْ كُفَّ عَنْ جِمَاعِهَا بَعْدَ مُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ السِّرُّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا، قَالَ الْأَعْشَى:
فَلَنْ يَطْلُبُوا سِرَّهَا لِلْغِنَى | وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِإِزْهَادِهَا |
(٢). راجع ج ٥ ص ٣١١ وص ١٢٣ وص ٣٧٣
(٣). راجع ج ٥ ص ٣١١ وص ١٢٣ وص ٣٧٣
عِدَّةً كَامِلَةً ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ ثُمَّ يَخْطُبُهَا إِنْ شَاءَ. فَبَلَغَ عُمَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَّةِ. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ. وَفِي اتِّفَاقِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى نَفْي الْحَدِّ عَنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَعَ الْعِلْمِ بِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَعْتَدُّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْعِدَّتَيْنِ وَهِيَ: السَّابِعَةُ- فَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُتِمُّ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، وَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةً أُخْرَى مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَنْ عُمَرَ عَلَى مَا يَأْتِي. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ عِدَّتَهَا مِنَ الثَّانِي تَكْفِيهَا مِنْ يَوْمِ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، سَوَاءً كَانَتْ بِالْحَمْلِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالشُّهُورِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَحُجَّتُهُمُ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَنْكِحُهَا فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنَ الثَّانِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَكَحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ. أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ مَنْعَ الْأَوَّلِ مِنْ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا إِنَّمَا وَجَبَ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي، وَهُمَا حَقَّانِ قَدْ وَجَبَا عَلَيْهَا لِزَوْجَيْنِ كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي صَاحِبِهِ. وَخَرَّجَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّةَ كَانَتْ تَحْتَ رَشِيدٍ الثَّقَفِيِّ فَطَلَّقَهَا فَنُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ «١» ضَرَبَاتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَ بِهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْآخَرُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الْآخَرِ ثُمَّ لَا يجتمعان أبدا. قال [مالك «٢»]: وقال سعيد ابن الْمُسَيَّبِ: وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَمَّا طُلَيْحَةُ هَذِهِ فَهِيَ طليحة
(٢). زيادة عن الموطأ. [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٦]
لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) هَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ بِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُطَلِّقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْجِمَاعِ، فَرَضَ مَهْرًا أَوْ لم
، فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا مُطَلَّقَةً قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، وَمُطَلَّقَةً قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ، فَجَعَلَ لِلْأُولَى الْمُتْعَةَ، وَجَعَلَ لِلثَّانِيَةِ نِصْفَ الصَّدَاقِ لِمَا لِحَقِّ الزَّوْجَةِ مِنْ دَحْضِ الْعَقْدِ، وَوَصْمِ الْحِلِّ الْحَاصِلِ لِلزَّوْجِ بِالْعَقْدِ، وَقَابَلَ الْمَسِيسَ بِالْمَهْرِ الْوَاجِبِ. الثَّالِثَةُ- لَمَّا قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُطَلَّقَةِ هُنَا قِسْمَيْنِ: مُطَلَّقَةٌ مُسَمًّى لَهَا الْمَهْرُ، وَمُطَلَّقَةٌ لَمْ يُسَمَّ لَهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ، وَهُوَ كُلُّ نِكَاحٍ عُقِدَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّدَاقِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَيُفْرَضُ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ، فَإِنْ فُرِضَ الْتَحَقَ بِالْعَقْدِ وَجَازَ، وَإِنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ لَمْ يَجِبْ صَدَاقٌ إِجْمَاعًا، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَحَكَى
(٢). راجع ج ٥ ص ١٢٩
(٢). في ب وهـ: الخبر
(٣). في ب وهـ.
أَلَا تِلْكُمُ الْأَنْصَارُ تَبْكِي سَرَاتَهَا | وَأَشْجَعُ تَبْكِي مَعْقِلَ بْنَ سِنَانِ |
(٢). راجع ج ٧ ص ١٦٢.
(٣). راجع ج ١٥ ص ١٣٠
(٢). راجع ج ٦ ص ١٩٩.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٢٤.
(٤). راجع ج ١ ص ١٦١
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ
فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهَا بَكَى وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ جَدِّي- أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي- يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا مُبْهَمَةً أَوْ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَقْرَاءِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لَرَاجَعْتُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْبَرَهُ الرَّسُولُ فَبَكَى وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَبَنْتُ الطَّلَاقَ لَهَا لَرَاجَعْتُهَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ تَطْلِيقَةً أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جَمِيعًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيره"
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٦
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٧]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهَا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا مُخْرِجَةُ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ مِنْ حُكْمِ التَّمَتُّعِ، إِذْ يَتَنَاوَلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَتِّعُوهُنَّ". وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي فِي" الْأَحْزَابِ «١» " لِأَنَّ تِلْكَ تَضَمَّنَتْ تَمْتِيعَ كُلِّ مَنْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي قبلها. قلت: قول سعد وَقَتَادَةَ فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ شُرُوطُ النَّسْخِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: كَانَ الْمَتَاعُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ" وَلِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ" الْأَحْزَابِ «٢» " فَاسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى الْمَفْرُوضَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَثْبَتَ لِلْمَفْرُوضِ لَهَا نِصْفَ مَا فَرَضَ فَقَطْ. وَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ: الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ عُمُومًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْرُوضَ لَهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فُرِضَ لَهَا، وَلَمْ يَعْنِ بِالْآيَةِ إِسْقَاطَ مُتْعَتِهَا، بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ وَنِصْفُ الْمَفْرُوضِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أَيْ فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، أَيْ مِنَ الْمَهْرِ فَالنِّصْفُ لِلزَّوْجِ وَالنِّصْفُ لِلْمَرْأَةِ بِإِجْمَاعٍ. وَالنِّصْفُ الْجُزْءُ مِنَ اثْنَيْنِ، فَيُقَالُ: نَصَفَ الْمَاءُ الْقَدَحَ أَيْ بَلَغَ نِصْفَهُ. ونصف الإزار الساق، وكل شي بَلَغَ نِصْفَ غَيْرِهِ فَقَدْ نَصَفَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ" فَنِصْفُ" بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ" فَنِصْفَ" بِنَصْبِ الْفَاءِ، الْمَعْنَى فَادْفَعُوا نِصْفَ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ" فَنِصْفُ" بِضَمِّ النُّونِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَكَذَلِكَ رَوَى الْأَصْمَعِيُّ قِرَاءَةً عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ يقال: نصف ونصف ونصيف،
(٢). آية ٤٩، راجع ج ١٤ ص ٢٠٢
(٢). الشوار: متاع البيت.
(٣). راجع ج ٦ ص ١٠٢
لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللَّهُ غَيْرَهُمْ | مِنَ الْجُودِ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ |
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٠٥.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٨]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)
فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى: (حافِظُوا) خطاب لجمع الْأُمَّةِ، وَالْآيَةُ أَمْرٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا بِجَمِيعِ شُرُوطِهَا. وَالْمُحَافَظَةُ هِيَ الْمُدَاوَمَةُ على الشيء والمواظبة عليه.
(٢). في ب وج: استقصاؤكم.
يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ | وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا |
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٢٦.
(٣). راجع ج ١٧ ص ١٨٥. [..... ]
(٤). نفهه: أتعبه حتى انقطع.
(٢). التعليق: رواية الحديث من غير سند.
(٣). راجع ج ٤ ص ١٩٩.
(٤). قال النووي:" تضامون" بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء، ومن خففها ضم التاء، ومعنى المشدد أنكم لا تتضامون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف أنه لا يلحقكم ضيم، وهو المشقة والتعب. وفى هـ: لا تضارون.
(٥). راجع ج ١١ ص ٢٦٠
قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ | وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلْ |
(٢). راجع المسألة الخامسة ج ٢ ص ٨٦.
(٣). رعل وذكوان: قبيلتان من سليم، وإنما دعا عليهم لقتلهم القراء.
(٢). من ب وهـ.
(٢). في ب وهـ: البراء بن عازب وليس بشيء. والصواب ما أثبتنا عن الجصاص ج ١ ص ٤٤٦ وفى كل الأصول: حديث البراء. وهو خطأ.
(٣). في ب وهـ: البراء بن عازب وليس بشيء. والصواب ما أثبتنا عن الجصاص ج ١ ص ٤٤٦ وفى كل الأصول: حديث البراء. وهو خطأ.
(٢). كذا في أكثر الأصول وفى بعضها: ثويبة. بالمثلثة. والصواب ما في شرح البخاري لابن حجر: بريرة ونوبه، بضم النون وسكون الواو ثم موحدة، ضبطه ابن ماكولا إلخ. فليراجع ج ٨ ص ١٠٨ طبع بولاق ففيه الخلاف والجمع. أما ثويبة مرضعته عليه السلام فلم يقل أحد بها ولا حد بها ولا هي أسلمت على المشهور.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ) مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ الْفَزَعُ. (فَرِجالًا) أَيْ فَصَلُّوا رِجَالًا. (أَوْ رُكْباناً) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَالرِّجَالُ جَمْعُ رَاجِلٍ أَوْ رَجُلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجِلَ الْإِنْسَانُ يَرْجَلُ رَجَلًا إِذَا عَدِمَ الْمَرْكُوبَ وَمَشَى عَلَى قَدَمَيْهِ، فَهُوَ رَجِلٌ وَرَاجِلٌ وَرَجُلٌ- (بِضَمِّ الْجِيمِ) وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، يقولون: مشى فولان إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيًا رَجُلًا، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ- وَرَجْلَانِ وَرَجِيلٌ وَرَجْلٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى رِجَالٍ وَرَجْلَى وَرُجَّالٍ وَرَجَّالَةٍ وَرُجَالَى وَرُجْلَانٍ وَرِجْلَةٍ وَرِجَلَةٍ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) وَأَرْجِلَةٍ وَأَرَاجِلٍ وَأَرَاجِيلٍ. وَالرَّجُلُ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رِجَالٍ. الثَّانِيَةُ- لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِيَامِ لَهُ فِي الصَّلَاةِ بِحَالِ قُنُوتٍ وَهُوَ الْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ وَهُدُوءُ الْجَوَارِحِ وَهَذَا عَلَى الْحَالَةِ الْغَالِبَةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ ذَكَرَ حَالَةَ الْخَوْفِ الطَّارِئَةَ أَحْيَانًا، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الْعَبْدِ فِي حَالٍ، وَرَخَّصَ لِعَبِيدِهِ فِي الصَّلَاةِ رِجَالًا عَلَى الْأَقْدَامِ وَرُكْبَانًا عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَنَحْوِهَا، إِيمَاءً وَإِشَارَةً بِالرَّأْسِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ، هَذَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذِهِ هِيَ صَلَاةُ الْفَذِّ الَّذِي قَدْ ضَايَقَهُ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ أَوْ مِنْ سَبْعٍ يَطْلُبُهُ أَوْ مِنْ عَدُوٍّ يَتْبَعُهُ أَوْ سَيْلٍ يَحْمِلُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ أَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى رُوحِهِ فَهُوَ مُبِيحٌ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الرُّخْصَةُ فِي ضِمْنِهَا إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ مِنَ السُّمُوتِ وَيَتَقَلَّبُ وَيَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ فِي نَجَاةِ نَفْسِهِ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْخَوْفِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ رِجَالًا وَرُكْبَانًا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ إِطْلَالُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَيَتَرَاءَوْنَ «١» مَعًا وَالْمُسْلِمُونَ فِي غَيْرِ حِصْنٍ حَتَّى يَنَالَهُمُ السلاح من الرمي
(٢). راجع ج ٤ ص ٣ - ١٥ (٣١٠)
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٠]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَانَتْ تَجْلِسُ فِي بَيْتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَوْلًا، وَيُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْمَنْزِلِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَرَثَةِ جُنَاحٌ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهَا، ثُمَّ نُسِخَ الْحَوْلُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، وَنُسِخَتِ النَّفَقَةُ بِالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ «٢» " قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَالرَّبِيعُ. وَفِي السُّكْنَى خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي" الْبَقَرَةِ":" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً- إِلَى قَوْلِهِ- غَيْرَ إِخْراجٍ" قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلَمْ تَكْتُبْهَا أَوَ تَدَعُهَا؟ قَالَ. يا بن «٣» أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا، وَالْعِدَّةُ كَانَتْ قَدْ ثَبَتَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ وَصِيَّةً مِنْهُ سُكْنَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً «٤»، فَإِنْ شَاءَتِ الْمَرْأَةُ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ زَالَ حُكْمُهُ بِالنَّسْخِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِلَّا مَا قَوَّلَهُ الطَّبَرِيُّ مُجَاهِدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ عَلَى الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ" وَصِيَّةً" أَيْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ سنة ثم نسخ.
(٢). راجع ج ٥ ص ٧٥. [..... ]
(٣). كذا في صحيح البخاري. والذي في الأصول:"... فلم تكتبها؟ قال: تدعها يا ابن أخى... إلخ" قوله" أو تدعها" أي تتركها في المصحف، والشك من الراوي، وكان ابن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب.
(٤). في هـ: يوما.
" مَنْسُوخٌ كُلُّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ نَسَخَ الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى لِلزَّوْجَاتِ فِي الْحَوْلِ، إِلَّا رِوَايَةً شَاذَّةً مَهْجُورَةً جَاءَتْ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا، وَلَا قَالَ بِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيمَا عَلِمْتُ" «٢». وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ، فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصِيَّةً) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ" وَصِيَّةٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ (لِأَزْواجِهِمْ). وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ" لِأَزْواجِهِمْ" صِفَةً، قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: الْمَعْنَى كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ" لِأَزْواجِهِمْ" صِفَةً، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ
(٢). في الأصول:"... ومن بعدهم من المخالفين فيما علمت".
[سورة البقرة (٢): الآيات ٢٤١ الى ٢٤٢]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ. [قَالَ «٣» الزُّهْرِيُّ [حَتَّى لِلْأَمَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وقال مالك: لكل مطلقه- اثنتين
(٢). في هـ: تزوجهن.
(٣). في هـ.
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٧٠ وص ٢٠٢.
(٣). راجع ص ٢٠٠ من هذا الجزء.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ) هَذِهِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ تَنَبَّهْ إِلَى أَمْرِ الَّذِينَ. وَلَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ" أَلَمْ تَرَ" بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ حَذْفًا مِنْ غَيْرِ إِلْقَاءِ حَرَكَةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَلَمْ تَرَءْ. وَقِصَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَعَ فِيهُمُ الْوَبَاءُ، وَكَانُوا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا" دَاوَرْدَانَ «١» " فَخَرَجُوا مِنْهَا هَارِبِينَ فَنَزَلُوا وَادِيًا فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ وَقَالُوا: نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ بِهَا مَوْتٌ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَحْيَاهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مَاتُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: سَبْعَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْحَسَنُ: أَمَاتَهُمُ اللَّهُ قَبْلَ آجَالِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، ثُمَّ بَعَثَهُمْ إِلَى بَقِيَّةِ آجَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، قِيلَ: كَانَ اسْمُهُ شَمْعُونَ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْحُمَّى. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْجِهَادِ وَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ حِزْقِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَافُوا الْمَوْتَ بِالْقَتْلِ فِي الْجِهَادِ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا ينجيهم من الموت شي، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، قال الضَّحَّاكُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَصَصُ كُلُّهُ لَيِّنُ الْأَسَانِيدِ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارًا فِي عِبَارَةِ التَّنْبِيهِ وَالتَّوْقِيفِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْبَشَرِ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أحياهم، ليرواهم وَكُلُّ مَنْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَنَّ الْإِمَاتَةَ إِنَّمَا هِيَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، فَلَا مَعْنَى لِخَوْفِ خَائِفٍ وَلَا لِاغْتِرَارِ مغتر. وجعل
(٢). في ز: الثانية" وَهُمْ أُلُوفٌ" ثم جعل المسائل سبعا، وقد نص عليها ستا كما في غيرها من النسخ.
(٣). زيادة عن كتاب أحكام القرآن لابن العربي. [..... ]
(٤). زيادة عن الطبري.
(٥). الدسم: الدنس وهو الودك والوساخة.
(٢). ورد الحديث في البخاري في كتاب الطب بلفظ الطاعون وفى كتاب الحيل بالوجع.
(٣). سرغ: قرية بوادي تبوك من طريق الشام وهى على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة.
(٢). من ز، وفى الأصول الأخرى: الهلكات.
(٣). العدوة (بضم العين وكسرها وسكون الدال) شاطئ الوادي وحافته.
(٤). في البخاري: خصيبة. قال ابن حجر: بوزن عظيمة.
(٥). من هـ: وفيها: ينجوا.
(٦). في هـ وز وج: من.
(٢). الغدة: طاعون الإبل، وقلما تسلم منه.
(٣). المراق: ما سفل من البطن فما تحته من المواضع التي ترق جلودها، واحدها مرق. وقال الجوهري: لا واحد لها. [..... ]
وَلَمَّا اسْتَفَزَّ الْمَوْتُ كُلَّ مُكَذِّبٍ | صَبَرْتُ وَلَمْ يَصْبِرْ رِبَاطٌ ولا عمرو |
(٢). السيالة (بفتح أوله وتخفيف ثانيه): موضع بقرب المدينة، وهى أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة. وقيل: هي بين ملل والروحاء في طريق مكة إلى المدينة (عن شرح القاموس).
لَنْ يُسْبَقَ اللَّهُ عَلَى حِمَارِ | وَلَا عَلَى ذِي مَنْعَةٍ طَيَّارِ |
أَوْ يَأْتِيَ الْحَتْفُ عَلَى مِقْدَارِ | قَدْ يُصْبِحُ اللَّهُ أَمَامَ السَّارِي |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) هَذَا خِطَابٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَهُوَ الَّذِي يُنْوَى بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَسُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كله سَبِيلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ هذِهِ سَبِيلِي «٤» ". قَالَ مَالِكٌ: سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَمَا مِنْ سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أولها، وَأَعْظَمُهَا دِينُ الْإِسْلَامِ، لَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلَّذِينَ أُحْيُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَالْوَاوُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ" وَقاتِلُوا" عَاطِفَةٌ عَلَى الْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارٍ فِي الْكَلَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ:" وَقاتِلُوا" أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَّا تَهْرُبُوا كَمَا هَرَبَ هَؤُلَاءِ. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أَيْ يَسْمَعُ قَوْلَكُمْ إِنْ قُلْتُمْ مِثْلَ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ وَيَعْلَمُ مُرَادَكُمْ بِهِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ للذين أحيوا. والله أعلم.
(٢). سكر (وزان زفر): موضع بشرقية الصعيد بينه وبين مصر يومان، كان عبد العزيز بن مروان يحرج إليه كثيرا. (عن ياقوت). وقد ورد في الأصول:" سكن" بالنون وهو تحريف.
(٣). أوه: كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع وهى ساكنة الواو مكسورة الهاء، وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا:" أوه مِنْ كَذَا"، وَرُبَّمَا شَدَّدُوا الْوَاوَ وَكَسَرُوهَا وَسَكَّنُوا الهاء فقالوا:" أوه"، وبعضهم يفتح الواو مع التشديد فيقول:" أوه". (عن النهاية).
(٤). راجع ج ٩ ص ٢٧٤
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ والقتال على الحق- إذ ليس شي مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا وَيَجُوزُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ، وَأَعْظَمُهَا دِينُ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ- حَرَّضَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ. فَدَخَلَ فِي هَذَا الْخَبَرِ الْمُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُقْرِضُ بِهِ رَجَاءَ الثَّوَابِ كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ «١». وَ" مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" ذَا" خَبَرُهُ، وَ" الَّذِي" نَعْتٌ لِذَا، وَإِنْ شِئْتَ بَدَلٌ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَادَرَ أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ ابْتِغَاءَ ثَوَابِ رَبِّهِ. أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْقَاضِي أَبُو عَامِرٍ «٢» يَحْيَى بْنُ عَامِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ الْأَشْعَرِيُّ نَسَبًا وَمَذْهَبًا بِقُرْطُبَةَ- أَعَادَهَا اللَّهُ- فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ عَامَ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي إِجَازَةً قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَدْيَنَ الْأَزْدِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدُونَ سَمَاعًا عَلَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ محمد بن عبد الله ابن زَكَرِيَّا بْنِ حَيْوَةَ النَّيْسَابُورِيُّ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمِّي أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى ابن زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ حُمَيْدٍ «٣» الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو إن اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ:" نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ" قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ [قَالَ] فَنَاوَلَهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَقْرَضْتُ اللَّهَ حَائِطًا فِيهِ ستمائة نخلة.
(٢). في ج وهـ وز:" أبو عامر يحيى أبن أحمد بن ربيع الأشعري".
(٣). في جميع الأصول: عن الأعرج، وليس بصحيح لان حميد الأعرج الكوفي هو الراوي عن ابن الحارث وعن خلف ابن حليفة.
هَدَاكِ رَبِّي سُبُلَ الرَّشَادِ | إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالسَّدَادِ |
بِينِي مِنَ الْحَائِطِ بِالْوِدَادِ | فَقَدْ مَضَى قَرْضًا إِلَى التَّنَادِّ |
أَقْرَضْتُهُ اللَّهَ عَلَى اعْتِمَادِي | بِالطَّوْعِ لَا مَنٍّ وَلَا ارْتِدَادٍ «١» |
إِلَّا رَجَاءَ الضِّعْفِ فِي الْمَعَادِ | فَارْتَحِلِي بِالنَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ |
وَالْبِرُّ لَا شَكَّ فَخَيْرُ زَادِ | قَدَّمَهُ الْمَرْءُ إِلَى الْمَعَادِ |
بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ وَفَرَحْ | مِثْلُكَ أَدَّى مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ |
قَدْ مَتَّعَ اللَّهُ عِيَالِي وَمَنَحْ | بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاءِ وَالزَّهْوِ الْبَلَحْ |
وَالْعَبْدُ يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ | طُولَ الليالي وعليه ما اجترح |
وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ | إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَلْ |
كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا | أَوْ سَيِّئًا وَمَدِينًا مِثْلَ مَا دَانَا |
تُجَازَى الْقُرُوضُ بِأَمْثَالِهَا | فَبِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرًّا |
(٢). الفياح (بالتشديد والتخفيف): الواسع.
(٣). راجع ج ٤ ص ٢٩٤.
(٤). في ابن العربي: أغاثت. [..... ]
(٥). في ابن العربي.
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٦٦.
(٣). راجع ص ٣٠٢ من هذا الجزء.
(٢). الحديث مصحح من ابن ماجة وفى الأصول خلاف له.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) ذَكَرَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ قِصَّةً أُخْرَى جَرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ، كَأَنَّهُمْ مُمْتَلِئُونَ شَرَفًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُمْتَلِئُونَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ. وَالْمَلَأُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْمُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ. وَالْمَلَأُ: اسْمٌ لِلْجَمْعِ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ. وَالْمَلَأُ أَيْضًا: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ" أَحْسِنُوا الْمَلَأَ فَكُلُّكُمْ سَيَرْوَى" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ مُوسى) أَيْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) قِيلَ: هُوَ شَمْوِيلُ بْنُ بَالَ «١» بْنِ عَلْقَمَةَ وَيُعْرَفُ بابن العجوز. ويقال فيه: شمعون، قال السدى: وإنما قيل: ابن والعجوز لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ عَجُوزًا فَسَأَلَتِ اللَّهَ الْوَلَدَ وَقَدْ كَبِرَتْ وَعَقِمَتْ فَوَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا. وَيُقَالُ لَهُ: سَمْعُونُ لِأَنَّهَا دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا الْوَلَدَ فَسَمِعَ دُعَاءَهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ" سَمْعُونَ"، تَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ دُعَائِي، وَالسِّينُ تَصِيرُ شِينًا بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مُدَّةَ دَاوُدَ هِيَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى بِقُرُونٍ مِنَ
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٧]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) أَيْ أَجَابَكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، وَكَانَ طَالُوتُ سَقَّاءً. وَقِيلَ: دَبَّاغًا. وَقِيلَ: مُكَارِيًا، وَكَانَ عَالِمًا فَلِذَلِكَ رَفَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا يَأْتِي: وَكَانَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي لَاوَى، وَالْمُلْكُ فِي سِبْطِ يَهُوذَا فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِشَمْوِيلَ بْنِ بَالَ مَا قَالُوا، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَلِكًا وَيَدُلَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: انْظُرْ إِلَى الْقَرَنِ «١» الَّذِي فِيهِ الدُّهْنُ فِي بَيْتِكَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ رَجُلٌ فَنَشَّ «٢» الدُّهْنَ الَّذِي فِي الْقَرَنِ، فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَادْهُنْ رَأْسَهُ مِنْهُ وَمَلِّكْهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانَ طَالُوتُ دَبَّاغًا فَخَرَجَ فِي ابْتِغَاءِ دَابَّةٍ أَضَلَّهَا، فَقَصَدَ شَمْوِيلَ عَسَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي أَمْرِ الدَّابَّةِ أَوْ يَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا، فَنَشَّ الدُّهْنَ عَلَى «٣» مَا زَعَمُوا، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ شَمْوِيلُ فَأَخَذَهُ وَدَهَنَ مِنْهُ رَأْسَ طَالُوتَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِتَقْدِيمِهِ، ثُمَّ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ:" إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً". وَطَالُوتُ وَجَالُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ مُعَرَّبَانِ، وَلِذَلِكَ
(٢). نش: صوت.
(٣). في هـ وج: فيما يزعمون.
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ | وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ «٤» |
وَيُعْجِبُكَ الطَّرِيرُ فَتَبْتَلِيهِ | فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ «٥» |
وَقَدْ عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ | فَلَمْ يستغن بالعظم البعير |
(٢). تراجع المسألة الرابعة وما بعدها ج ١ ص ٢٦٤. [..... ]
(٣). هو العباس بن مرداس، كما في الحماسة وغيرها.
(٤). في اللسان في مادة مزر:" مزير". والمزير. الشديد القلب القوى النافد، والهصور: الشديد الذي يفترس ويكسر.
(٥). الطرير: ذو الرواء والمنظر. في هـ: فما يغنى بجثته.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٨]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) إِتْيَانُ التَّابُوتِ، وَالتَّابُوتُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَغْلِبُونَ بِهِ مَنْ قَاتَلَهُمْ حَتَّى عَصَوْا فَغُلِبُوا عَلَى التَّابُوتِ غَلَبَهُمْ عَلَيْهِ الْعَمَالِقَةُ: جَالُوتُ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ، وَسَلَبُوا التَّابُوتَ مِنْهُمْ. قُلْتُ: وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْعِصْيَانَ سَبَبُ الْخِذْلَانِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْآيَةُ فِي التَّابُوتِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ فِيهِ أَنِينٌ، فَإِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ سَارُوا لِحَرْبِهِمْ،
(٢). في ز، وابن عطية:" الناسور" بالنون.
(٣). كذا في الأصول، وفى الطبري: الثورين.
(٤). في ح وا وج بالشين المعجمة والميم والسين المهملة. والذي في هـ والبحر بالمعجمتين بينهما ميم وفى معجم أسماء النبات" شمساد" ص ٣٤
(٢). الزيادة من ز.
(٣). هفافة: سريعة المرور في هبوبها.
(٤). ريح خجوج: شديدة المرور في غير استواء.
(٥). الشطن: الحبل، وجمعه أشطان.
(٦). المربد (بكسر فسكون ففتح): الموضع الذي ييبس فيه التمر.
(٧). رضاض الشيء (بضم الراء): فتاته. [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ٢٤٩]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) " فَصَلَ" مَعْنَاهُ خَرَجَ بِهِمْ. فَصَلْتُ الشَّيْءَ فَانْفَصَلَ، أَيْ قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ قَالُوا لَهُ إِنَّ الْمِيَاهَ لَا تَحْمِلُنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ لَنَا نَهَرًا، فَقَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ. وَكَانَ عَدَدُ الْجُنُودِ- فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ- ثَمَانِينَ أَلْفًا. [وَقَالَ وَهْبٌ «٨» [: لم يتخلف عنه إلا ذو
(٢). من هـ وج وز.
(٣). كذا في ج وهـ وابن عطية وفى هـ: قفير، وهو الزبيل.
(٤). الزيادة من ز، وابن عطية.
(٥). الزيادة من ز، وابن عطية.
(٦). الزيادة من ز، وابن عطية.
(٧). راجع المسألة الثانية والثالثة ج ١ ص ٣٨١.
(٨). من ج وهـ.
وَاحْسُوَا قَرَاحَ الْمَاءِ وَالْمَاءُ بَارِدُ
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" حَسْبُ الْمَرْءِ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ". وقال بَعْضُ مَنْ يَتَعَاطَى غَوَامِضَ الْمَعَانِي: هَذِهِ الْآيَةُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلدُّنْيَا فَشَبَّهَهَا اللَّهُ بِالنَّهَرِ وَالشَّارِبِ مِنْهُ وَالْمَائِلِ إِلَيْهَا وَالْمُسْتَكْثِرِ مِنْهَا، وَالتَّارِكِ لِشُرْبِهِ بِالْمُنْحَرِفِ عَنْهَا وَالزَّاهِدِ فِيهَا، وَالْمُغْتَرِفِ بِيَدِهِ غَرْفَةً بِالْآخِذِ مِنْهَا قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَأَحْوَالُ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ. قُلْتُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْلَا مَا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيفِ فِي التَّأْوِيلِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الظَّاهِرِ، لَكِنْ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا. الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّ طَالُوتَ كَانَ نَبِيًّا بِقَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ" وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَلْهَمَهُ، وَجَعَلَ الْإِلْهَامَ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ. وَمَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا قَالَ: أَخْبَرَهُ نَبِيُّهُمْ شَمْوِيلُ بِالْوَحْيِ حِينَ أَخْبَرَ طَالُوتُ قَوْمَهُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ هَذَا الِابْتِلَاءُ لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِيقَادِ النَّارِ وَالدُّخُولِ فِيهَا تَجْرِبَةً لِطَاعَتِهِمْ، لَكِنَّهُ حَمَلَ مِزَاحَهُ عَلَى تَخْشِينِ الْأَمْرِ الَّذِي كَلَّفَهُمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ «٣» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(٢). من ج وهـ وز.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٥٨
(٢). المهيع: الطريق الواضح الواسع البين.
لَا يَدْلِفُونَ إِلَى مَاءٍ بِآنِيَةٍ | إِلَّا اغْتِرَافًا مِنَ الْغُدْرَانِ بِالرَّاحِ |
(٢). الهيم: الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء، واحدها أهيم، والأنثى هيماء.
(٢). راجع ج ٦ ص ١٢٧.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢٠٢.
(٤). راجع ج ١٢ ص ٧٢
(٥). راجع ج ٨ ص ٢٣
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٠]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)" بَرَزُوا" صَارُوا فِي الْبَرَازِ وَهُوَ الْأَفْيَحُ «١» مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَّسِعُ. وَكَانَ جَالُوتُ أَمِيرَ الْعَمَالِقَةِ وَمَلِكَهُمْ ظِلُّهُ مِيلٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْبَرْبَرَ مِنْ مِنْ نَسْلِهِ، وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ كَثْرَةَ عَدُوِّهِمْ تَضَرَّعُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ" إِلَى قَوْلِهِ:" وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا «٢» " الْآيَةَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ يَقُولُ فِي الْقِتَالِ:" اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ" وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ" وَدَعَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ يَسْتَنْجِزُ «٣» اللَّهَ وَعْدَهُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" آلِ عِمْرَانَ «٤» " إِنْ شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥١]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) أَيْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ" فَهَزَمُوهُمْ": فَكَسَرُوهُمْ. وَالْهَزْمُ: الْكَسْرُ، وَمِنْهُ سِقَاءٌ مُتَهَزِّمٌ، أَيِ انْثَنَى بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مَعَ الْجَفَافِ، وَمِنْهُ مَا قِيلَ فِي زَمْزَمَ: إِنَّهَا هَزْمَةُ جِبْرِيلَ، أَيْ هَزَمَهَا جِبْرِيلُ بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ. وَالْهَزْمُ: مَا تَكَسَّرَ مِنْ يَابِسِ الْحَطَبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) وَذَلِكَ أَنَّ طَالُوتَ الْمَلِكَ اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ لِقِتَالِ جَالُوتَ، وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا مِسْقَامًا مِصْفَارًا أَصْغَرَ أَزْرَقَ، وَكَانَ جَالُوتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ وَكَانَ يَهْزِمُ الْجُيُوشَ وَحْدَهُ، وَكَانَ قَتْلُ جَالُوتَ وَهُوَ رَأْسُ الْعَمَالِقَةِ عَلَى يَدِهِ. وَهُوَ داود
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٢٨ فما بعد وص ١٩٠ فما بعد.
(٣). في د: ويستنجز، وفي ا، هـ، و: ليستنجز، وما أثبتناه في ز.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٢٨ فما بعد وص ١٩٠ فما بعد.
(٢). كع: جبن وضعف.
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٦٣
(٢). ج ٥ ص ١٢٣
لَوْلَا عِبَادٌ لِلْإِلَهِ رُكَّعُ | وَصِبْيَةٌ مِنَ الْيَتَامَى رُضَّعُ |
وَمُهْمَلَاتٌ فِي الْفَلَاةِ رُتَّعُ | صُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ الْأَوْجَعُ |
(٢). في هـ: ما أمطرهم.
قوله تعالى :" وقتل داود جالوت " وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مِسقاما مِصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده. وهو داود، بن إيشى١ - بكسر الهمزة، ويقال : داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت ؛ فلما حضرت الحرب قال في نفسه : لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه : يا داود خذني فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكَعَّ٢ الناس عنه حتى قال طالوت : من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي، فجاء داود عليه السلام فقال : أنا أبرز إليه وأقتله، فازدراه طالوت حين رآه لصغير سنه وقصره فرده، وكان داود أزرق قصيرا، ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود، فقال طالوت له : هل جربت نفسك بشيء ؟ قال نعم، قال بماذا ؟ قال : وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده. قال طالوت : الذئب ضعيف، هل جربت نفسك في غيره ؟ قال : نعم، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما، أفترى هذا أشد من الأسد ؟ قال : لا، وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت، فقال طالوت : فاركب فرسي وخذ سلاحي ففعل، فلما مشى قليلا رجع فقال الناس : جبن الفتى. فقال داود : إن الله إن لم يقتله لي ويُعِنِّي عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي. قال : وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت، وهو شاكٍ في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فيما ذكر الماوردي وغيره، فقال له جالوت : أنت يا فتى تخرج إلي قال نعم ؛ قال : هكذا كما تخرج إلى الكلب قال نعم، وأنت أهون. قال : لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع، ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به، فأدخل داود يده إلى الحجارة، فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله، وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته، وأختلط الناس وحمله أصحاب طالوت فكانت الهزيمة. وقد قيل : إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه، وقيل : عينه٣ وخرج من قفاه، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم. وقيل : إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه ؛ وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هوازن يوم حنين، والله أعلم. وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود.
قلت : وفي قول طالوت :( من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي ) معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الإمام : من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في " الأنفال " ٤ إن شاء الله تعالى. وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام ؛ كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما. واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال : لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه. وحكي عنه أنه قال : لا بأس به، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه. وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه، هذا قول مالك. سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين : من يبارز ؟ فقال : ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى. وقال الشافعي : لا بأس بالمبارزة. قال ابن المنذر : المبارزة بإذن الإمام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه.
" وآتاه الله الملك والحكمة " قال السدي : أتاه الله ملك، طالوت ونبوة شمعون. والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس : هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود، فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ، وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت.
قوله تعالى :" مما يشاء " أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم.
قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾ فيه مسألتان٥ :
الأولى : قوله تعالى :" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ " دفاع " ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال : حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء ؛ ومثله كتبه كتابا ؛ ومنه " كتاب الله عليكم " ٦ [ النساء : ٢٤ ] النحاس : وهذا حسن، فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه. وقال أبو حاتم : دافع ودفع بمعنى واحد، مثل طرقت النعل وطارقت، أي خَصَفْتُ إحداهما فوق الأخرى، والخصف : الخرز. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور " ولولا دفع الله ". وأنكر أن يقرأ " دفاع " وقال : لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي : هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم " الله " في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله. و " دفاع " مرفوع بالابتداء عند سيبويه. " الناس " مفعول، " بعضهم " بدل من الناس، " ببعض " في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك : ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه.
الثانية : واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل : هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم، اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق. وروي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدله الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء ) ذكره الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول ". وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال : إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب، وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه. وقال ابن عباس : ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد. وقال سفيان الثوري : هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق. وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى : لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم، وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا. قال الثعلبي٧ وقال سائر المفسرين : ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم٨ الله طرفة عين - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ). وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد رُكّع وأطفال رُضّع وبهائم رُتّع لصُبَّ عليكم العذاب صبا ) خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض. حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا ). أخذ بعضهم هذا المعنى فقال :
لولا عِبادٌ للإله رُكّعُ | وصبية من اليتامى رُضّعُ |
ومُهْمَلاتٌ في الفلاة رُتَّعُ | صب عليكم العذاب الأوجع |
٢ - كع: جبن وضعف..
٣ - في هـ و ز: عينيه، وفي أ: "وفقأ عينه"..
٤ - راجع جـ٧ ص ٣٦٣..
٥ - كذا في جـ، وليس في بقية الأصول: تقسيم، وفيها بدل الثانية مسألة..
٦ - جـ ٥ ص ١٢٣..
٧ - في هـ و جـ..
٨ - في هـ: ما أمطرهم..
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٢]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
(تِلْكَ) ابْتِدَاءٌ (آياتُ اللَّهِ) خَبَرُهُ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ بَدَلًا وَالْخَبَرُ (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ). (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، خَبَرُ إِنَّ أَيْ وَإِنَّكَ لَمُرْسَلٌ. نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الرُّسُلُ) قَالَ:" تِلْكَ" وَلَمْ يَقُلْ: ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَ" الرُّسُلُ" نَعْتُهُ، وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ الْجُمْلَةُ. وَقِيلَ: الرُّسُلُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَ (فَضَّلْنا) الْخَبَرُ. وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَالْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ" وَ" لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ" رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ، أَيْ لَا تَقُولُوا: فُلَانٌ خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا فُلَانٌ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ. يُقَالُ: خَيَّرَ فُلَانٌ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَفَضَّلَ،
(٢). في هـ: النص.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٧٢.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٦٠
(٤). راجع ج ٩ ص ٣٤٠
(٥). راجع ج ١٤ ص ٣٠٠
(٦). يقال: تفسخ البعير تحت الحمل الثقيل إذا لم يطقه.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٦٢ وص ٢٣٩.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٩٥.
(٤). راجع ج ١٣ ص ١٦٣.
(٥). راجع ج ١٤ ص ١٢٦
(٦). راجع ج ١٦ ص ٢٩٢ وص ٢٨٨ وص ٢٧٤.
(٧). راجع ج ١٦ ص ٢٩٢ وص ٢٨٨ وص ٢٧٤.
(٨). راجع ج ١٧ ص ٢٦٢ وص ٢٣٩.
(٩). راجع ج ١٦ ص ٢٩٢ وص ٢٨٨ وص ٢٧٤.
(١٠). الرعب: الخوف والفزع. كان أعداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوقع الله تعالى في قلوبهم الخوف، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه. (عن النهاية).
قلت : وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق :" محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار " ١٤ [ الفتح : ٢٩ ] إلى آخر السورة. وقال :" وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " ٣ [ الفتح : ٢٦ ] ثم قال :" لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " ١٥ [ الحديد : ١٠ ] وقال :" لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " ٣ [ الفتح : ١٨ ] فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين.
قوله تعالى :" منهم من كلم الله " المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال :( نعم نبي مكلم ). قال ابن عطية : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى، . وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله.
قوله تعالى :" ورفع بعضهم درجات " قال النحاس : بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم :( بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب١٦ مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت، الشفاعة ). ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف. وقال ابن عطية معناه، وزاد : وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله. ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا. ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي.
قوله تعالى :" وآتينا عيسى ابن مريم البينات " وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل. " وأيدناه " قويناه. " بروح القدس " جبريل عليه السلام، وقد تقدم١٧.
قوله تعالى :" ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعدهم " أي من بعد الرسل. وقيل : الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع. وقيل : من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ. وقيل : إن القتال إنما وقع من الذين جاؤوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي، وهذا كما تقول : اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. وكسرت النون من " ولكن اختلفوا " لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه :
فلستُ بآتيه ولا أستطيعه | ولاَكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْلِ١٨ |
٢ - في هـ: النص..
٣ - راجع جـ١٠ ص ٢٧٨..
٤ - راجع جـ١١ ص ٢٧٢..
٥ - راجع جـ١٦ ص ٢٦٠..
٦ - راجع جـ٩ ص ٣٤٠..
٧ - راجع جـ١٤ ص ٣٠٠..
٨ - يقال: تفسخ البعير تحت الحمل الثقيل إذا لم يطقه.
٩ - راجع جـ٦ ص ١٧..
١٠ - راجع جـ ١٧ ص ٢٦٢ وص ٢٣٩..
١١ - راجع جـ١١ ص ٢٩٥..
١٢ - راجع جـ١٣ ص ١٦..
١٣ - راجع جـ١٤ ص ١٢٦..
١٤ - راجع جـ ١٦ ص ٢٩٢ وص ٢٨٨ و ص ٢٧٤..
١٥ - راجع جـ١٧ ص ٢٦٢ وص ٢٣٩..
١٦ - الرعب: الخوف والفزع، كان أعداء النبي صلى الله عليه وسلم قد أوقع الله تعالى في قلوبهم الخوف، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه. (عن النهاية)..
١٧ - جـ ٢ ص ٢٤..
١٨ - البيت للنجاشي، وصف أنه اصطحب ذئبا في فلاة مضلة لا ماء فيها، وزعم أن الذئب رد عليه فقال: لست بآت ما دعوتني إليه من الصحبة ولا أستطيعه لأنني وحشي وأنت إنسي ولكن اسقني إن كان ماؤك فاضلا عن ريك (عن شرح الشواهد للشنتمري).
.
فَلَسْتُ بِآتِيهِ وَلَا أَسْتَطِيعُهُ | وَلَاكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
(٢). البيت للنجاشي، وصف أنه اصطحب ذئبا في فلاة مضلة لا ماء فيها، وزعم أن الذئب رد عليه فقال: لست بآت ما دعوتني إليه من الصحبة ولا أستطيعه لأنني وحشي وأنت إنسى ولكن اسقني إن كأن ماؤك فاضلا عن ربك (عن شرح الشواهد للشنتمري).
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ | خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبَ |
(٢). هو النابغة الجعدي، كما في اللسان.
(٣). الفرسن (بكسر الفاء والسين وسكون الراء): عظم قليل اللحم، وهو خف البعير، كالحافر للدابة. [..... ]
(٤). سية القوس: ما عطف من طرفيها.
(٥). راجع ج ٥ ص ٣٩٩
أَلَا طِعَانَ وَلَا فُرْسَانَ عَادِيَةٌ | إِلَّا تَجَشُّؤُكُمْ عِنْدَ التَّنَانِيرِ «٣» |
وَمَا صَرَمْتُكِ حَتَّى قُلْتُ مُعْلِنَةً | لَا نَاقَةٌ لِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلُ |
لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةْ | اتَّسَعَ الْخَرْقُ على الراقع |
فَلَا لَغْوٌ وَلَا تَأْثِيمَ فِيهَا | وَمَا فَاهُوا بِهِ أَبَدًا مُقِيمَ |
(٢). راجع ج ١٧ ص ٦٦
(٣). يقول هذا لبنى الحارث بن كعب ومنهم النجاشي وكان يهاجيه فجعلهم أهل نهم وحرص على الطعام لا أهل غارة وقتال. والعادية: المستطيلة. ويروى غادية (بالغين المعجمة) وهى التي تغدو للغارة، وعادية أعم لأنها تكون بالغداة وغيرها. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٥]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هَذِهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ وَأَعْظَمُ آيَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَنَزَلَتْ لَيْلًا وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا. رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفَيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ خَرَّ كُلُّ صَنَمٍ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ خَرَّ كُلُّ مَلِكٍ في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وَهَرَبَتِ الشَّيَاطِينُ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ «١» إِلَى أَنْ أَتَوْا إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَلَغَهُمْ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ قَدْ نَزَلَتْ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ"؟ قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:" يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ"؟ قَالَ قُلْتُ:" اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ:" لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ". زَادَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ الله:" فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَهَذِهِ آيَةٌ أَنْزَلَهَا اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِقَارِئِهَا عَاجِلًا وَآجِلًا، فَأَمَّا فِي الْعَاجِلِ فَهِيَ حَارِسَةٌ لِمَنْ قَرَأَهَا مِنَ الْآفَاتِ، وَرُوِيَ لَنَا عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ أَنَّهُ قال: آية الكرسي تدعى في التوراة
(٢). في هـ: اجتبيته.
فَإِمَّا تَرِينِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سالما | ولست بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ |
لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ | وَالشَّمْسُ مَعَهَا قَمَرٌ يَقُومُ |
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ | وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ |
إِنَّ ذَا الْعَرْشِ لَلَّذِي يَرْزُقُ الْنَا | سَ «٢» وَحَيٌّ عَلَيْهِمْ قَيُّومُ |
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ «٤» | فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ |
(٢). في ج: الخلق.
(٣). هذا البيت في وصف ظبي، وقيل هذا البيت:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا | فيه المشيب لزرت أم القاسم |
كأنها وسط النساء أعارها | عينيه أحور من جآذر جاسم. |
(٢). في ابن عطية: تستمسك. وفى هـ، چ، ز: تمسك.
(٣). راجع ج ١١ ص ٣٨١.
(٤). المحبنطئ: اللازق بالأرض، وفى الحديث" إن السقط يظلل محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ. (بالهمز وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع امتناع يظل محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ (بالهمز وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء، وقيل: هو الممتنع امتناع طلبة لا امتناع إباء.
(٢). قال النووي: هو بتنوين" دحض" ودال مفتوحة والحاء ساكنة، و" مزلة" بفتح الميم وفى الزاي لغتان الفتح والكسر، والدحض، والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه الاقدام ولا تستقر.
(٣). الحسكة (بالتحريك): واحدة الحسك وهو نبات له ثمرة خشنة تعلق بأصواف الغنم يعمل من الحديد على مثاله، وهو آلات العسكر يلقى حوله لتنشب في رجل من يدوسها من الخيل والناس الطارقين له. والسعدان منبته سهول الأرض وهو من أطيب مراعى الإبل ما دام رطبا.
(٤). الركاب: الإبل التي يسار عليها، ولا واحد لهام لفظها.
(٥). مخدوش مرسل أي مجروح مطلق من القيد.
(٦). مكدوس أي مدفوع في جهنم. قال ابن الأثير: وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. ويروى بالشين المعجمة من الكدش وهو السوق الشديد، والطرد والجرح أيضا.
(٢). الحمم (بضم الحاء وفتح الميم الاولى المخففة): الفحم، الواحدة حممة كحطمة.
(٣). في هـ وب وج.
. وَمَعْنَى الْآيَةِ لَا مَعْلُومَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْلَمَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ. فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْكُرْسِيُّ لُؤْلُؤَةٌ وَالْقَلَمُ لُؤْلُؤَةٌ وَطُولُ الْقَلَمِ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَطُولُ الْكُرْسِيِّ حَيْثُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ «٣» ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ- وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ- عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَبَيْنَ الْعَرْشِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ. يُقَالُ: كُرْسِيٌّ وَكِرْسِيٌّ وَالْجَمْعُ الْكَرَاسِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ. وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: وَمِنْهُ الْكُرَّاسَةُ الَّتِي تَضُمُّ الْعِلْمَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ: الْكَرَاسِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ.
(٢). في هـ: لا يتغير. [..... ]
(٣). في هـ وب وج: حيث لا يعلمه العالمون.
يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ | كَرَاسِيٌّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ |
(٢). كذا في ب وهامش هـ. وفى: هـ وا وج وح: المرجل. والأطيط للرحل لا للرجل كما في اللغة.
(٣). كذا في ج وب، وأذراه: رمى به وأطاره.
فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمْ | تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لنسر وكاسر |
فَكَأَنَّ الْخَمْرَ الْعَتِيقَ مِنَ الْإِسْ | فِنْطِ «٢» مَمْزُوجَةٌ بِمَاءٍ زُلَالِ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٦]
لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ). فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) الدِّينُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُعْتَقَدُ وَالْمِلَّةُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). وَالْإِكْرَاهُ الَّذِي فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْبُيُوعِ وَالْهِبَاتِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ هَذَا موضعه، وإنما يجئ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ «٣» ". وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ" قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ، يُقَالُ: رَشَدَ يَرْشُدُ رُشْدًا، وَرَشِدَ يَرْشَدُ رَشَدًا: إِذَا بَلَغَ مَا يُحِبُّ. وَغَوَى ضِدُّهُ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ" الرَّشَادُ" بِالْأَلِفِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا (الرُّشُدُ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَالشِّينِ. (الْغَيِّ) مَصْدَرٌ مِنْ غَوَى يَغْوِي إِذَا ضَلَّ فِي مُعْتَقَدٍ أَوْ رَأْيٍ، وَلَا يُقَالُ الْغَيُّ فِي الضلال على الإطلاق.
(٢). الإسفنط ضرب من الأشربة: فارسي معرب.
(٣). راجع ج ١٠ ص ١٨٠
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٤٠
(٢). راجع ج ٨ ص ١٠٩.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٦٦.
(٤). في ب وج وا: وإن كانوا صغارا لم يجبروا.
(٥). راجع ج ٨ ص ١٠٩. [..... ]
كَأَنَّهُ دُمْلُجٌ مِنْ فِضَّةٍ نَبَهٌ «٣» | فِي مَلْعَبٍ مِنْ جَوَارِي الْحَيِّ مَفْصُومُ |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
(٢). في ج: الإسلام.
(٣). النبه (بفتح النون والباء) كل شي سقط من إنسان فنسيه ولم يهتد إليه. شبه الغزال وهو نائم بدملج فضة قد طرح ونسى. وفى الديوان: عذارى.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ) هَذِهِ أَلِفُ التَّوْقِيفِ، وَفِي الْكَلَامِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ «٤»، أَيِ اعْجَبُوا لَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:" أَلَمْ تَرَ" بِمَعْنَى هَلْ رَأَيْتَ، أَيْ هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، وَهَلْ رَأَيْتَ الَّذِي مَرَّ على قية، وهو النمروذ «٥» ابن كوش ابن كنعان ابن سام ابن نوح ملك زمانه
(٢). في هـ وب وج وابن عطية: فكأن هذا القول.
(٣). الزيادة في ج.
(٤). أي التعجيب.
(٥). نمروذ بضم النون وبالذال المعجمة. شهاب.
وَكَأَنَّهُ الضَّحَّاكُ مِنْ فَتَكَاتِهِ | فِي الْعَالَمِينَ وَأَنْتَ أَفْرِيدُونُ |
(٢). في البحر:" ملك الأرض مؤمنان سليمان وذو القرنين وكافران نمروذ وبخت نصر".
(٣). أي سواد العراق، وفى هـ: السودان.
(٤). ابن أوس أبو تمام.
(٥). من هـ وب.
(٢). الحوارى (بضم الحاء وتشديد الواو وفتح الراء): الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه.
(٣). السهلة (بكسر السين): رمل خشن ليس بالدقاق الناعم. والسهلة (بفتح السين) نقيض الحزنة، وهو ما غلظ من الأرض.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣٠٣
"." إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «٢» " أَيْ مِنْ حُجَّةٍ. وَقَدْ وَصَفَ خُصُومَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَمَا فِي سُورَةِ" الْأَنْبِيَاءِ" وَغَيْرِهَا. وَقَالَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا «٣» " الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ:" وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ". وَكَذَلِكَ مُجَادَلَةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. فَهُوَ كُلُّهُ تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ وَالْمُجَادَلَةَ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا بِظُهُورِ حُجَّةِ الْحَقِّ وَدَحْضِ حُجَّةِ الْبَاطِلِ. وَجَادَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ الْكِتَابِ وَبَاهَلَهُمْ «٤» بَعْدَ الْحُجَّةِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" آلِ عِمْرَانَ". وَتَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَغَلَبَهُ آدَمُ بِالْحُجَّةِ. وَتَجَادَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ وَتَدَافَعُوا وَتَقَرَّرُوا وَتَنَاظَرُوا حَتَّى صَدَرَ «٥» الْحَقُّ فِي أَهْلِهِ، وَتَنَاظَرُوا بَعْدَ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ إِيرَادُهُ. وَفِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ «٦» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْعِلْمِ مُبَاحٌ شَائِعٌ «٧» لِمَنْ تَدَبَّرَ. قَالَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: وَمِنْ حَقِّ الْمُنَاظَرَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا مَا تبين. وقالوا:
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٦١.
(٣). راجع ج ٩ ص ٢٧.
(٤). المباهلة الملاعنة. ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شي فيقولوا لعنة الله على الظالم منا. راجع ج ٤ ص ١٠٣، وص ١٠٨.
(٥). في ب: ظهر.
(٦). المباهلة الملاعنة. ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شي فيقولوا لعنة الله على الظالم منا. راجع ج ٤ ص ١٠٣، وص ١٠٨.
(٧). في هـ وب: سائغ.
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي | حُمَيْدًا «٢» قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا |
أَنَا سَيْفُ «٤» الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي | حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السناما |
(٢). كذا في ج وا وهـ وفى ب وج: حميدا. مرة، وجميعا، أخرى. وفى التاج: جميعا.
(٣). في السمين: إثبات الالف وصلا ووقفا لغة تميم.
(٤). في ابن عطية: أنا شيخ. وحميد هو ابن مجدل. [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) " أَوْ" لِلْعَطْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرِ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ: هَلْ رَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، أَلَمْ تَرَ من هو! كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ. فَأُضْمِرَ فِي الْكَلَامِ من هو. وقرا أبو سفيان ابن حُسَيْنٍ" أَوْ كَالَّذِي مَرَّ" بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ دَخَلَ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ. وَسُمِّيَتِ الْقَرْيَةُ قَرْيَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَرَيْتُ الْمَاءَ أَيْ جَمَعْتُهُ، وقد تقدم «٢». قال سليمان ابن بريدة
(٢). راجع ج ١ ص ٤٠٩
(٢). الزيادة من ب وج وا وهـ.
(٣). الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، ودلو صغيرة.
(٤). في ب: استندياد.
(٥). من هـ.
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢١٦.
(٣). كذا في كل الأصول، والصواب قال، إذ هذه آية. راجع ج ١٢ ص ٧٣
مِنْ مَرِّ أَعْوَامِ السِّنِينَ الْعُوَّمِ
وَهُوَ فِي التَّقْدِيرِ جَمْعُ عَائِمٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفْرَدُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَوْكِيدٌ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْعَامُ مَصْدَرٌ كَالْعَوْمِ، سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّهَا عَوْمَةٌ مِنَ الشَّمْسِ فِي الْفَلَكِ. وَالْعَوْمُ كَالسَّبْحِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٢» ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا بِمَعْنَى قَوْلِ النَّقَّاشِ، وَالْعَامُ عَلَى هَذَا كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِمَاتَةِ أَنَّهَا بِإِخْرَاجِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ لَهَا مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ يُعَمِّرُهَا وَيَجِدُّ «٣» فِي ذَلِكَ حَتَّى كَانَ كَمَالُ عِمَارَتِهَا عِنْدَ بَعْثِ الْقَائِلِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا مَضَى لِمَوْتِهِ سَبْعُونَ سَنَةً أَرْسَلَ اللَّهُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ عَظِيمًا يُقَالُ لَهُ" كوشكُ" فَعَمَّرَهَا فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثَهُ) مَعْنَاهُ أَحْيَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) اخْتُلِفَ فِي الْقَائِلِ لَهُ" كَمْ لَبِثْتَ"، فقيل:. الله عز وجل، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا كَمَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: سَمِعَ هَاتِفًا مِنَ السَّمَاءِ «٤» يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: خَاطَبَهُ جِبْرِيلُ. وَقِيلَ: نَبِيٌّ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِمَّنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَوْمِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَعُمِّرَ إِلَى حِينِ إِحْيَائِهِ فَقَالَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ. قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ" وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً" وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ" كَمْ لَبِتَّ" بِإِدْغَامِ الثَّاءِ فِي التَّاءِ لِقُرْبِهَا منها
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٨٢.
(٣). في هـ: ويحددها.
(٤). في هـ: من البلد. [..... ]
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٧٤.
(٣). عبارة البحر: وقرا حمزة والكسائي بحذف الهاء في الوصل على أنها هاء السكت وقرا باقى السبعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف. في ب وهـ وج: الاخوان، وصوابه الأخوين.
فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلَا رُجَبِيَّةٍ «٢» | وَلَكِنْ عَرَايَا «٣» فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ «٤» |
(٢). نخلة رجبية (كعمرية وتشدد الجيم، وكلاهما نسب نادر) وترجيبها أن تضم أعذاقها (عراجينها) إلى سعفاتها ثم تشد بالخوص لئلا ينفضها الريح. وقيل: هو أن يوضع الشوك حوالى الأعذاق لئلا يصل إليها آكل فلا تسرق، وذلك إذا كانت غريبة طريفة.
(٣). المرايا (واحدتها عرية): النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا.
(٤). في الأصول:" المواحل" والتصويب عن كتب اللغة. وقبل هذا البيت:
أدين وما ديني عليكم بمغرم | ولكن على الشم الجلاد القراوح |
(٥). من هـ.
(٦). راجع ج. ١ ص ٢١
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا | يَا عَجَبَا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ |
تَرَى الثَّعْلَبَ الْحَوْلِيَّ فِيهَا كَأَنَّهُ | إِذَا مَا عَلَا نَشْزًا حَصَانٌ مُجَلَّلُ |
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٩٦
حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالًا
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ «٢». قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بِقَطْعِ الْأَلِفِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَحْيَا بَعْضَهُ ثُمَّ أَرَاهُ كَيْفَ أَحْيَا بَاقِيَ جَسَدِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ جَعَلَ يَنْظُرُ كَيْفَ يُوصَلُ بَعْضُ عِظَامِهِ إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ رَأْسَهُ وَقِيلَ لَهُ: انْظُرْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ:" أَعْلَمُ" بِقَطْعِ الْأَلِفِ، أَيْ أَعْلَمُ هَذَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ" فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ" أَيْ لَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ عِيَانِهِ قَالَ: أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ ألزم مالا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَفَسَّرَ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ وَالِاحْتِمَالِ الضَّعِيفِ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِمَا. كَانَ قَبْلُ يُنْكِرُهُ كَمَا زَعَمَ الطَّبَرِيُّ، بَلْ هُوَ قَوْلٌ بَعَثَهُ الِاعْتِبَارُ، كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ الْمُؤْمِنُ إِذَا رَأَى شَيْئًا غَرِيبًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَنَحْوَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ أَعْلَمُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْتُهُ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى عَنْ قَتَادَةَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّهُ أخبر عن نفسه عند ما عَايَنَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِحْيَائِهِ الْمَوْتَى، فَتَيَقَّنَ ذَلِكَ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ يَعْلَمُ أن الله على كل شي قَدِيرٌ، أَيْ أَعْلَمُ [أَنَا «٣»] هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُهُ عَلَى مُعَايَنَةٍ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ" أَعْلَمُ" بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ مِنَ الْقُرَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَالَ له الملك: اعلم، والآخر هو أن،
(٢). راجع ج ١ ص ١٥٣. [..... ]
(٣). في ج، ب، هـ.
ودّع هريرة إن الركب مرتحل «١» | ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا |
تَذَكَّرْ مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبُهُ | يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الْهَجْمَةِ الْإِبِلِ «٢» |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا السُّؤَالِ هَلْ صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ شَكٍّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَاكًّا فِي إِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى قَطُّ وَإِنَّمَا طَلَبَ الْمُعَايَنَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ النفوس
(٢). الهجمة (بفتح فسكون): القطعة الضخمة من الإبل، وقيل: هي ما بين الثلاثين والمائة. ورجل أبل (ككتف): حذق مصلحة الإبل.
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا
وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. وَ" تُؤْمِنْ" مَعْنَاهُ إِيمَانًا مُطْلَقًا، دَخَلَ فِيهِ فَضْلُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أَيْ سَأَلْتُكَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِحُصُولِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعْلُومِ بُرْهَانًا وَالْمَعْلُومِ عِيَانًا. وَالطُّمَأْنِينَةُ: اعْتِدَالٌ وَسُكُونٌ، فَطُمَأْنِينَةُ الْأَعْضَاءِ مَعْرُوفَةٌ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا) الْحَدِيثَ. وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ هِيَ أَنْ يَسْكُنَ فِكْرُهُ فِي الشَّيْءِ الْمُعْتَقَدِ. وَالْفِكْرُ فِي صُورَةِ الْإِحْيَاءِ غَيْرُ مَحْظُورٍ، كَمَا لَنَا نَحْنُ الْيَوْمَ أَنْ نُفَكِّرَ [فِيهَا «١»] إِذْ هِيَ فِكْرٌ فِيهَا عِبَرٌ فَأَرَادَ الْخَلِيلُ أَنْ يُعَايِنَ فَيَذْهَبَ «٢» فِكْرُهُ فِي صُورَةِ الْإِحْيَاءِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى" لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" لِيُوقِنَ، وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ لِيَزْدَادَ يَقِينًا، وَقَالَهُ إِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا زِيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَمْكُنُ إِلَّا السُّكُونُ عَنِ الْفِكْرِ وَإِلَّا فَالْيَقِينُ لَا يَتَبَعَّضُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بِأَنَّكَ خَلِيلِي؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِالْخُلَّةِ. وَقِيلَ: دَعَا أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى لِيَعْلَمَ هل تستجاب دعوته، فقال الله له: أو لم تُؤْمِنْ أَنِّي أُجِيبُ دُعَاءَكَ، قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أَنَّكَ تُجِيبُ «٣» دُعَائِي. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُحَرِّكِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلًا فَأَرَادَ آيَةً عَلَى ذَلِكَ، قَالَهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ «٤». وَقِيلَ: قَوْلُ النُّمْرُوذِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: رَأَى جِيفَةً نِصْفَهَا فِي الْبَرِّ تُوَزِّعُهَا السِّبَاعُ وَنِصْفَهَا فِي الْبَحْرِ تُوَزِّعُهَا دَوَابُّ الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَى تَفَرُّقَهَا أَحَبَّ «٥» أَنْ يَرَى انْضِمَامَهَا فَسَأَلَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِرُؤْيَةِ كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ كَمَا رَأَى كَيْفِيَّةَ التَّفْرِيقِ، فَقِيلَ لَهُ: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قِيلَ: هِيَ الدِّيكُ وَالطَّاوُسُ وَالْحَمَامُ وَالْغُرَابُ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَكَانَ الْغُرَابِ الْكُرْكِيُّ، وَعَنْهُ أَيْضًا مَكَانَ الْحَمَامِ النَّسْرُ. فَأَخَذَ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها
(٢). في ب وج: فتذهب فكرة. بصيغة الجمع.
(٣). في ج: تستجيب.
(٤). كذا في هـ وب وج وهو الصواب كما في التهذيب والاستيعاب، وفى ج وا: زيد.
(٥). في هـ: اختار.
فَلَمَّا جَذَبْتُ الْحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ | بِأَطْرَافِ عِيدَانِ شَدِيدٍ سُيُورُهَا |
فَأَدْنَتْ لِي الْأَسْبَابُ حَتَّى بَلَغْتُهَا | بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا |
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا فِي تَلَفُّتِنَا | يَوْمَ الْفِرَاقِ إِلَى جِيرَانِنَا صُوَرُ |
لَيَعْتَوِرَنَّكَ الْقَوْلُ حَتَّى تَهِرَّهُ «١»
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِي حُرُوفٍ قَلِيلَةٍ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَأَمَّا قِرَاءَةُ عِكْرِمَةَ بِضَمِّ الصَّادِ فَيُحْتَمَلُ فِي الرَّاءِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ [كَمَدَّ وَشَدَّ «٢»] وَالْوَجْهُ ضَمُّ الرَّاءِ مِنْ أَجْلِ ضَمَّةِ الْهَاءِ مِنْ بَعْدُ. الْقِرَاءَةُ الْخَامِسَةُ" صَرِّهِنَّ" بِفَتْحِ الصَّادِ وَشَدِّ الرَّاءِ مَكْسُورَةً، حَكَاهَا الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، بِمَعْنَى فَاحْبِسْهُنَّ، مِنْ قَوْلِهِمْ: صَرَّى يُصَرِّي إِذَا حَبَسَ، وَمِنْهُ الشَّاةُ الْمُصَرَّاةُ. وَهُنَا اعْتِرَاضٌ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ [وَهُوَ «٣»] يُقَالُ: فَكَيْفَ أُجِيبُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى آيَاتِ الْآخِرَةِ دُونَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ" رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «٤» "؟ فَعَنْهُ «٥» جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا سَأَلَهُ مُوسَى لَا يَصِحُّ مَعَ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ، وَمَا سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ خَاصٌّ يَصِحُّ مَعَهُ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ. الثَّانِي أَنَّ الْأَحْوَالَ تَخْتَلِفُ فَيَكُونُ الْأَصْلَحُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْإِجَابَةَ، وَفِي وَقْتٍ آخَرَ الْمَنْعَ فِيمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ إِذْنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ وَقَبْلَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِ الصُّحُفَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦١]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- لَمَّا قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِيهِ مِنَ الْبَرَاهِينِ، حَثَّ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَعْلَمَ أَنَّ مَنْ جَاهَدَ بَعْدَ هَذَا الْبُرْهَانِ الَّذِي لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا نَبِيٌّ فَلَهُ فِي جِهَادِهِ الثَّوَابُ العظيم. ورى البستي
ليستدرجنك الْقَوْلُ حَتَّى تَهِرَّهُ | وَتَعْلْمُ أَنِّي عَنْكَ لَسْتُ بمجرم |
(٣). من هـ وب وج.
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٧٨. [..... ]
(٥). في ب: ففيه.
آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ | وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ |
(٢). قي هـ.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢١١
يَا لَعْنَ اللَّهِ بَنِي السِّعْلَاةِ «١» | عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ «٢» لِئَامُ النَّاتِ |
(٢). الذي في كتب اللغة (مادة ن وت):" عمر بن يربوع".
(٣). عن ج وب، وابن ماجة، وفية في الهند: وأبى هريرة.
(٤). عن ج وب، وابن ماجة، وفية في الهند: وأبى هريرة.
(٥). في ابن ماجة:" في وجه"
(٦). عن ج وب، وابن ماجة، وفية في الهند: وأبى هريرة.
(٧). عن ب وهـ وج. (٣ - ٢٠)
أَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ يَوْمَ لَقِيتُهُ | وَقَدْ شَدَّ أَحْلَاسَ الْمَطِيِّ مُشَرِّقَا |
تَتَبَّعْ خَبَايَا الْأَرْضِ وَادْعُ مَلِيكَهَا | لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ فَتُرْزَقَا |
فَيُؤْتِيكَ مَالًا وَاسِعًا ذَا مَثَابَةٍ | إِذَا مَا مِيَاهُ الْأَرْضِ غَارَتْ تَدَفُّقَا |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٢]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قيل: إنها نزلت في عثمان ابن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: جَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُهُ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهَا وَيُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ:" مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ اللَّهُمَّ لَا تَنْسَ هَذَا الْيَوْمَ لِعُثْمَانَ". وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ يَقُولُ:" يَا رَبَّ عُثْمَانَ إِنِّي رَضِيتُ عَنْ عُثْمَانَ فَارْضَ عَنْهُ" فَمَا زَالَ يَدْعُو حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَنَزَلَتْ:" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً" الْآيَةَ.
يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيَتَ الْجَنَّهْ | اكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ |
وَكُنْ لَنَا مِنَ الزَّمَانِ جُنَّهْ | أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ |
إِذًا أَبَا حَفْصٍ لَأَذْهَبَنَّهْ
قَالَ: إِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا؟! قَالَ:
تَكُونُ عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ | يَوْمَ تَكُونُ الْأُعْطِيَاتُ هَنَّهْ |
وَمَوْقِفُ الْمَسْئُولِ بَيْنَهُنَّهْ | إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا جنه |
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٢٨ [..... ]
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٣]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ابْتِدَاءٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَوْلَى وَأَمْثَلُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَالْمَهْدَوِيُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" قَوْلٌ مَعْرُوفٌ" خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّأْنِيسُ وَالتَّرْجِيَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ هِيَ فِي ظاهرها صدقة وفى باطنها لا شي، لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِيهِ أَجْرٌ وَهَذِهِ لَا أَجْرَ فِيهَا. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَيَتَلَقَّى السَّائِلَ بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحِيبِ، وَيُقَابِلُهُ بِالطَّلَاقَةِ وَالتَّقْرِيبِ، لِيَكُونَ مَشْكُورًا إِنْ أَعْطَى وَمَعْذُورًا إِنْ مَنَعَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْقَ صَاحِبَ الْحَاجَةِ بِالْبِشْرِ فَإِنْ عَدِمْتَ شُكْرَهُ لَمْ تَعْدَمْ عُذْرَهُ. وَحَكَى ابْنُ لنكك «١» أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ دُرَيْدٍ قَصَدَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ فِي حَاجَةٍ لَمْ يَقْضِهَا وَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ ضَجَرٌ فَقَالَ:
لَا تَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ | فَلَخَيْرُ دَهْرِكَ أَنْ تُرَى مَسْئُولًا |
لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِّ وَجْهَ مُؤَمِّلٍ | فَبَقَاءُ عِزِّكَ أَنْ تُرَى مَأْمُولًا |
تَلْقَى الْكَرِيمَ فَتَسْتَدِلُّ بِبِشْرِهِ | وَتَرَى الْعُبُوسَ عَلَى اللَّئِيمِ دَلِيلًا |
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ صَائِرٌ | خَبَرًا فَكُنْ خبرا يروق جميلا |
قَدْ كُنْتَ مَيِّتًا فَصِرْتَ حَيًّا | وَعَنْ قَلِيلٍ تَصِيرُ مَيْتَا |
فَاخْرِبْ بِدَارِ الْفَنَاءِ بَيْتًا | وَابْنِ بِدَارِ الْبَقَاءِ بَيْتَا |
(٢). في ج: الصدقة.
(٣). في ب:" أفضل".
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِالْمَنِّ وَالْأَذى) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ بِالْإِبْطَالِ، وَالْمُرَادُ الصَّدَقَةُ الَّتِي يَمُنُّ بِهَا وَيُؤْذِي، لَا غَيْرُهَا. وَالْعَقِيدَةُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ وَلَا تُحْبِطُهَا، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى فِي صَدَقَةٍ لَا يُبْطِلُ صَدَقَةً غَيْرَهَا. قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الصَّدَقَةَ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ يَمُنُّ أَوْ يُؤْذِي بِهَا فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ. وَقِيلَ: بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ عَلَيْهَا أَمَارَةً فَهُوَ لَا يَكْتُبُهَا، وَهَذَا حَسَنٌ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَا يُمَنُّ بِهِ: يَدٌ سَوْدَاءُ. وَلِمَا يُعْطَى عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ: يَدٌ بَيْضَاءُ. وَلِمَا يُعْطَى عَنْ مَسْأَلَةٍ: يَدٌ خَضْرَاءُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ سَقَطَ شُكْرُهُ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَصَاحِبٍ سَلَفَتْ مِنْهُ إِلَيَّ يَدٌ | أَبْطَأَ عَلَيْهِ مُكَافَاتِي فَعَادَانِي |
لَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّ الدَّهْرَ حَارَبَنِي | أَبْدَى النَّدَامَةَ فِيمَا كَانَ أَوْلَانِي |
أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حَسَنٍ | لَيْسَ الْكَرِيمُ إِذَا أَسْدَى بِمَنَّانِ |
أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ حَسَنْ | فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَنْ |
صَنِيعَةٌ مَرْبُوبَةٌ | خَالِيَةٌ مِنَ الْمِنَنِ |
لَنَا يَوْمٌ وَلِلْكِرْوَانِ يَوْمٌ | تَطِيرُ الْبَائِسَاتُ وَلَا نَطِيرُ |
بَرَّاقُ أَصْلَادِ الْجَبِينِ الْأَجْلَهِ «٤»
قَالَ النَّقَّاشُ: الْأَصْلَدُ الْأَجْرَدُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَمَعْنَى (لَا يَقْدِرُونَ) يَعْنِي الْمُرَائِي وَالْكَافِرَ وَالْمَانَّ (عَلى شَيْءٍ) أَيْ على الانتفاع بثواب شي مِنْ إِنْفَاقِهِمْ وَهُوَ كَسْبُهُمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، إذ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّفَقَةِ بِالْكَسْبِ، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا الْكَسْبَ. وَقِيلَ: ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا لِلْمُرَائِي فِي إِبْطَالِ ثَوَابِهِ وَلِصَاحِبِ الْمَنِّ والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي.
(٢). الورل (بالتحريك): دابة على خلقة الضب إلا أنها أعظم منه تكون في الرمال والصحارى، والعرب تستخبث الورل وتستقذره فلا تأكله.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٤٧.
(٤). الجله: أشد من الجرح وهو ذهاب الشعر من مقدم الجبين.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٥]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ (" ابْتِغاءَ" مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ." وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ" عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي الْمُشْكِلِ: كِلَاهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَلَا يَصِحُّ فِي" تَثْبِيتاً" أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ التَّثْبِيتِ. وَ" ابْتِغاءَ" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَانَ يَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، لَكِنِ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ هُوَ الصَّوَابُ مِنْ جِهَةِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ" تَثْبِيتاً" عَلَيْهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَةَ صَدَقَاتِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا خَلَاقَ لِصَدَقَاتِهِمْ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَاقَعَةِ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا، عَقَّبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ نَفَقَاتِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَزْكُو صَدَقَاتُهُمْ إِذْ كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ وَوَجْهِهِ. وَ" ابْتِغاءَ" مَعْنَاهُ طَلَبَ. وَ" مَرْضاتِ" مَصْدَرٌ مِنْ رَضِيَ يَرْضَى." وَتَثْبِيتاً" مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ وَإِنْ خَالَطَهُ شَكٌّ أَمْسَكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ وَاحْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ أَيْضًا وَابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَغَيْرُهُمْ:" وَتَثْبِيتاً" مَعْنَاهُ وَتَيَقُّنًا أَيْ أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَهَا بَصَائِرُ فَهِيَ تُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَثْبِيتًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثُ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ إِنَّمَا عِبَارَتُهُ" وَتَثْبِيتاً" مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَا يَسُوغُ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ وَالْإِفْصَاحِ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ «١» نَباتاً"،" وَتَبَتَّلْ «٢» إِلَيْهِ تَبْتِيلًا". وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقَعْ إِفْصَاحٌ بِفِعْلٍ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَأْتِيَ بِمَصْدَرٍ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ ثُمَّ تَقُولُ: أَحْمِلُهُ عَلَى مَعْنَى كَذَا وَكَذَا، لِفِعْلٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا مَهْيَعُ كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا عَلِمْتُهُ. وقال النحاس:
(٢). راجع ج ١٩ ص ٤٢
مَنْ مُنْزِلِي فِي رَوْضَةٍ بِرَبَاوَةٍ... بَيْنَ النَّخِيلِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ
وَ" رِبَاوَةٌ" بِالْكَسْرِ، وَبِهَا قَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ بِرَبَاوَةٍ وَبِرِبَاوَةٍ، وَكُلُّهُ مِنَ الرَّابِيَةِ، وَفِعْلُهُ رَبَا يَرْبُو. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَصابَها) يَعْنِي الرَّبْوَةَ (وابِلٌ) أي مطر شديد، قال الشاعر «١»:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشِبَةٌ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا وَابِلٌ هَطِلُ
(فَآتَتْ) أَيْ أَعْطَتْ. (أُكُلَها) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ: الثَّمَرُ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ «٢» ". وَالشَّيْءُ المأكول من كل شي يُقَالُ لَهُ أُكُلٌ. وَالْأُكْلَةُ: اللُّقْمَةُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:" فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا «٣» قَلِيلًا فَلْيَضَعْ «٤» فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ" يَعْنِي لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، كَسَرْجِ الْفَرَسِ وَبَابِ الدَّارِ. وَإِلَّا فَلَيْسَ الثَّمَرُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الْجَنَّةُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" أُكْلُهَا" بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُضَافٍ [إِلَى «٥»] مُؤَنَّثٍ، وَفَارَقَهُمَا أَبُو عَمْرٍو فِيمَا أُضِيفَ إِلَى مُذَكَّرٍ مِثْلَ أُكُلِهِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُضَافٍ إِلَى شي مِثْلَ" أُكُلٍ خَمْطٍ «٦» " فَثَقَّلَ أَبُو عَمْرٍو ذَلِكَ وخففاه. وقرا عاصم
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٥٨.
(٣). المشفوه: القليل، وأصله الماء الذي كثرت عليه الشفاه حتى قل. وقيل: أراد فإن كان مكثورا عليه، أي كثرت أكلته. النهاية.
(٤). في الأصول:" فليطعمه منه... " والتصويب عن صحيح مسلم.
(٥). الزيادة من أبن عطية لازمة.
(٦). راجع ج ١٤ ص ٢٨٥
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الْآيَةَ. حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَثَلٌ آخَرُ لِنَفَقَةِ الرِّيَاءِ، وَرَجَّحَ هُوَ هَذَا الْقَوْلَ. قُلْتُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُرَائِينَ بِالْأَعْمَالِ يُبْطِلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَنَّةٌ وَلَهُ أَطْفَالٌ لَا يَنْفَعُونَهُ فَكَبِرَ وَأَصَابَ الْجَنَّةَ إِعْصَارٌ أَيْ رِيحٌ عَاصِفٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ فَفَقَدَهَا أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى " الْآيَةَ، قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ فِي ذَلِكَ مَثَلًا فَقَالَ:" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ" الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَبْيَنُ مِنَ الَّذِي رَجَّحَ الطَّبَرِيُّ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَثَلٍ آخَرَ لِنَفَقَةِ الرِّيَاءِ، هَذَا هُوَ مُقْتَضَى سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا بِالْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا السِّيَاقِ فَتُشْبِهُ حَالَ كُلِّ مُنَافِقٍ أَوْ كَافِرٍ عَمِلَ عَمَلًا وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا فَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا. قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَثَلٌ لِمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ مُنَافِقٍ وَكَافِرٍ عَلَى مَا يَأْتِي، إِلَّا أَنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ خِلَافُ هَذَا. خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ"؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ: قولوا: نعلم أو لا تعلم! فقال ابن عباس: في نفسي منها شي يا أمير المؤمنين، قال: يا بن أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ. قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلِ رَجُلٍ غَنِيٍّ يعمل بطاعة الله ثم اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) فِيهِ إِحْدَى عَشَرَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، نَهَى النَّاسَ عَنْ إِنْفَاقِ الرَّدِيءِ فِيهَا بَدَلَ الْجَيِّدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أن الآية في التطوع، ندبوا إلى
(٢). في ج وب: يكفى.
(٢). العجماء: البهيمة، وجبار: هدر. والمعدن: المكان من الأرض يخرج منه شي من الجواهر والأجساد كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والكبريت وغيرها، من عدن بالمكان إذا أقام به. ومعنى الحديث أن تنقلت البهيمة فتصيب من انفلاتها إنسانا أو شيئا فجرحها هدر، وكذلك البئر العادية يسقط فيها إنسان فيهلك فدمه هدر، والمعدن إذا انهار على من يحفره فقتله فدمه هدر. راجع معاجم اللغة وكتب السنة.
(٣). الندرة (بفتح فسكون): القطعة من الذهب والفضة توجد في المعدن.
(٤). في هـ: دفين. [..... ]
الْيَوْمِ إِلَّا الزَّكَاةُ. وَهَذَا
(٢). القبلية (بالتحريك): منسوبة إلى قبل موضع من ساحل البحر على خمسة أيام من المدينة. والفرع (بضم فسكون): قرية من نواحي الربذة عن يسار السقيا بينها وبين المدينة ثمانية برد على طريق مكة، وقيل أربع ليال، بها منبر ونخل ومياه كثيرة.
(٣). القبلية (بالتحريك): منسوبة إلى قبل موضع من ساحل البحر على خمسة أيام من المدينة. والفرع (بضم فسكون): قرية من نواحي الربذة عن يسار السقيا بينها وبين المدينة ثمانية برد على طريق مكة، وقيل أربع ليال، بها منبر ونخل ومياه كثيرة.
(٢). القدس (بضم القاف وسكون الدال): جبل معروف. وقيل: هو الموضع المرتفع الذي يصلح للزراعة.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٨٥.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣١٥.
(٥). راجع ج ٥ ص ٢٣١.
(٦). الجعرور (بضم الجيم وسكون العين وراء مكررة): ضرب ردئ من التمر يحمل رطبا صغارا لا خير فيه. وحبيق (بضم الحاء المهملة وفتح الباء): نوع ردئ من التمر منسوب إلى ابن حبيق وهو اسم رجل.
(٧). السحل (بضم السين وفتح الحاء مشددة): الرطب الذي لم يتم إدراكه وقوته.
لَمْ يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَلِلذُّ | لِّ أُنَاسٌ يَرْضَوْنَ بِالْإِغْمَاضِ |
إِلَى كَمْ وَكَمْ أَشْيَاءَ مِنْكَ تُرِيبُنِي | أُغَمِّضُ عَنْهَا لَسْتُ عَنْهَا بِذِي عَمَى |
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٨]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (الشَّيْطانُ) تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّيْطَانِ وَاشْتِقَاقِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ «١». وَ" يَعِدُكُمُ" مَعْنَاهُ يُخَوِّفُكُمْ" الْفَقْرَ" أَيْ بِالْفَقْرِ لِئَلَّا تُنْفِقُوا. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلُ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي التَّثْبِيطِ لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَهِيَ الْمَعَاصِي وَالْإِنْفَاقِ فِيهَا. وَقِيلَ: أي «٢» بأن لا تتصدقوا فتعصوا وتتقاطعوا. وقرى" الْفُقْرَ" بِضَمِّ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْفُقْرُ لُغَةٌ فِي الْفَقْرِ، مِثْلَ الضُّعْفِ وَالضَّعْفِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) الْوَعْدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ فِي الْخَيْرِ، وَإِذَا قُيِّدَ بِالْمَوْعُودِ مَا هُوَ فَقَدْ يُقَدَّرُ بِالْخَيْرِ وَبِالشَّرِّ كَالْبِشَارَةِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُقَيَّدُ فِيهَا الْوَعْدُ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ اثْنَتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاثْنَتَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله، صلى الله
(٢). في ب.
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
وَالْمَغْفِرَةُ هِيَ السَّتْرُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْفَضْلُ هُوَ الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّوْسِعَةُ وَالنَّعِيمُ فِي الْآخِرَةِ، وَبِكُلٍّ قَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- ذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَأَنَّسَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغِنَى، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُبْعِدُ الْعَبْدَ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ بِتَخْوِيفِهِ الْفَقْرَ يَبْعُدُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ بَلِ الْمُعَارَضَةُ بِهَا قَوِيَّةٌ. وَرُوِيَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ" عَبْدِي أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي أَبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ عَلَى كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ". وَفِي الْقُرْآنِ مِصْدَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:" وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «٣» ". ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ «٤». وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعْطِي مِنْ سَعَةٍ وَيَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ. وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ فِي" الْكِتَابِ الأسنى" والحمد لله.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
(٢). كذا في الأصول. والذي في سنن الترمذي:"... حسن غريب".
(٣). راجع ج ١٤ ص ٣٠٧.
(٤). راجع المسألة الخامسة ج ٢ ص ٨٤
[سورة البقرة (٢): آية ٢٧٠]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
شَرْطٌ وَجَوَابُهُ، وَكَانَتِ النُّذُورُ مِنْ سِيرَةِ الْعَرَبِ تُكْثِرُ مِنْهَا، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النَّوْعَيْنِ، مَا يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ مُتَبَرِّعًا، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ إِلْزَامِهِ لِنَفْسِهِ. وَفِي الْآيَةِ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ مَنْ كَانَ خَالِصَ النِّيَّةِ فَهُوَ مُثَابٌ، وَمَنْ أَنْفَقَ رِيَاءً أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ مِمَّا يُكْسِبُهُ الْمَنَّ وَالْأَذَى وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ، يَذْهَبُ فِعْلُهُ بَاطِلًا وَلَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا فِيهِ. وَمَعْنَى" يَعْلَمُهُ" يُحْصِيهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ، فَقَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) ثُمَّ حَذَفَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَتَعُودُ الْهَاءُ عَلَى" مَا" كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ [لِامْرِئِ الْقَيْسِ «٤»]:
فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا | لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ «٥» |
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٨١.
(٣). راجع المسألة الرابعة عشرة ج ٢ ص ٤١٢.
(٤). الزيادة في ب.
(٥). وتوضح والمقراة: موضعان، وهما عطف على" حومل" في البيت قبلة.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٧١]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الْإِظْهَارِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلُ فِي تَطَوُّعِهَا لِانْتِفَاءِ الرِّيَاءِ عَنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِظْهَارُ الزَّكَاةِ أَحْسَنُ، وَإِخْفَاءُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا يُقَالُ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا يُقَالُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. قُلْتُ: مِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ «٢» " وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ لَا يَدْخُلُهَا رِيَاءٌ وَالنَّوَافِلَ عُرْضَةٌ لِذَلِكَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إِنَّ الَّذِي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ كَالَّذِي يَجْهَرُ بِالصَّدَقَةِ وَالَّذِي يُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالَّذِي يُسِرُّ بِالصَّدَقَةِ". وَفِي الْحَدِيثِ:" صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَلَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى السِّرِّ، وَلَا تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ، فَأَمَّا صدقة النفل فالقرآن ورد مصرحا
(٢). عبارة مسلم كما في صحيحه"... فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصلاة المكتوبة".
(٢). الزيادة عن ابن العربي.
(٣). الزيادة عن ابن العربي. [..... ]
(٤). في ب: الناس.
إِذَا انْتَقَمُوا أَعْلَنُوا أَمْرَهُمْ | وَإِنْ أَنْعَمُوا أَنْعَمُوا بِاكْتِتَامِ |
خِلٌّ إِذَا جِئْتَهُ يَوْمًا لِتَسْأَلَهُ | أَعْطَاكَ مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا |
يُخْفِي صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا | إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا |
زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عظما | أنه عندك مستور حقير |
تتناساه كأن لم تأته | وهو عند الناس مشهور خطير |
مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ «٢» إِنَّهُمْ | نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْأَمْرِ الْمُبِرْ |
(٢). ويروى: قدمي. بالإفراد راجع ج ٤ خزانه ص ١٠١.
(٣). في الأصول: الأعمش، والصواب ما أثبتناه من البحر وابن عطية وغيرهما.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الصَّدَقَاتِ، فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ جَوَازَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَمَّا كَثُرَ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تَتَصَدَّقُوا إِلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ". فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبِيحَةً لِلصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَدَقَاتٍ فَجَاءَهُ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: أَعْطِنِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَيْسَ لَكَ من صدقة المسلمين شي". فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ غَيْرَ بَعِيدٍ فَنَزَلَتْ:" لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ" فَدَعَاهُ «١» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ قَرَابَاتٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَكَانُوا لَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي أَنْ يُسْلِمُوا إِذَا احْتَاجُوا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ أُولَئِكَ. وَحَكَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ أَسْمَاءَ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَرَادَتْ أَنْ تَصِلَ جَدَّهَا أَبَا قُحَافَةَ ثُمَّ امْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَافِرًا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ مَقْصِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْعِ الصَّدَقَةِ إِنَّمَا كَانَ لِيُسْلِمُوا وَيَدْخُلُوا فِي الدِّينِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ". وَقِيلَ:" لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ" [لَيْسَ مُتَّصِلًا «٢» [بِمَا قَبْلُ، فَيَكُونُ ظَاهِرًا فِي الصَّدَقَاتِ وَصَرْفِهَا إِلَى الْكُفَّارِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ. الثَّانِيَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الصَّدَقَةُ الَّتِي أُبِيحَتْ لَهُمْ حَسَبَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآثَارُ هِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ. وَأَمَّا الْمَفْرُوضَةُ فَلَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا لِكَافِرٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ". قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ [كُلُّ «٣»] من أحفظ عنه
(٢). في ج وهـ وب وى: متصلا. دليل على سقوط: ليس، أو غير متصل كباقي النسخ.
(٣). في ج.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٢٥.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٥٨.
(٤). راجع ج ٨ ص ١٦٧.
[سورة البقرة (٢): آية ٢٧٣]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلْفُقَراءِ) اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ" وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ" وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْإِنْفَاقُ أَوِ الصَّدَقَةُ لِلْفُقَرَاءِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: المراد بهؤلاء
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٥٠.
(٣). كما في السمين والبحر. وفى الأصول كلها: مفعول به. وليس بشيء. [..... ]
(٤). رواية البخاري: في فم امرأتك.
(٢). الزنار (بضم الزاي وتشديد النون): ما يشده الذمي على وسطه.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٥١.
(٤). في ج: زين.
وَلَيْسَ لِلْمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ «٢»
وَاشْتِقَاقُ الْإِلْحَافِ مِنَ اللِّحَافِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللِّحَافِ مِنَ التَّغْطِيَةِ، أَيْ هَذَا السَّائِلُ يَعُمُّ النَّاسَ بِسُؤَالِهِ فَيُلْحِفُهُمْ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
فَظَلَّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ «٣» | وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا |
(٢). هذا عجز بيت لبشار بن برد وصدره كما في ديوانه واللسان:
الحر يلحى والعصا للعبد
(٣). قفقفا الطائر: جناحاه.
(٢). الحديث كما في الطبعة الهندية. وفى الأصول: فقد ألحف.
(٣). اللقحة (بفتح اللام وكسرها): الناقة ذات لبن القريبة العهد بالنتاج.
(٤). في ب: وزيت.
(٥). في الأصول:" الصاحب".
(٢). اجتاب فلان ثوبا إذا لبسه. والنمار (بكسر النون جمع نمرة) وهى كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. أراد أنه جاء قوم لابسي أزر مخططة من صوف (عن نهاية ابن الأثير).
(٣). هو من بنى فراس بن مالك بن كنانة (عن الاستيعاب).
[سورة البقرة (٢): آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
فِيهِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ الْغَافِقِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلَفِ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ قَالَ: أُخْبِرْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورٍ قَالَ أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرَيْبٍ عن
(٢). في أحكام ابن العربي: رأيت عليه ثيابا جددا فقيل لي كساه إياها فلان لأخذ الثناء بها.
[سورة البقرة (٢): الآيات ٢٧٥ الى ٢٧٩]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
(٢). يريد الإمالة.
(٣). راجع ج ٦ ص ١٨٢. وص ٢٣٦.
(٤). راجع ج ٦ ص ١٨٢. وص ٢٣٦.
(٥). راجع ج ٤ ص ١١٥.
(٦). في ح وه وج: النقود.
(٢). السلت: ضرب من الشعير ليس له قشر.
(٢). قال ابن الأثير:" هو أن يقول كل واحد من البيعين" ها" فيعطيه ما في يده، يعنى مقايضة في المجلس. وقيل معناه هاك وهات، أي خذ وأعط. قال الخطابي:" أصحاب الحديث رنه" ها وها" ساكنة الالف، والصواب مدها وفتحها، لان أصلها هاك، أي خذ فحذفت الكاف وعوضت منها المدة والهمزة، يقال للواحد هاء وللاثنين هاؤما وللجمع هاؤم. وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض وتنزله منزلة" ها" التي للتنبيه. وفيها لغات أخرى".
نَسِيئًا لَا يَجُوزُ، فَمَنَعَ بَيْعَ التُّرَابِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ الْكَيْلُ، وَأَجَازَ الْخُبْزَ قُرْصًا بِقُرْصَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عِنْدَهُ فِي الْكَيْلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الرِّبَا إِلَى مَا عَدَاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعِلَّةُ كَوْنُهُ مَطْعُومًا جِنْسًا. هَذَا قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْخُبْزِ وَلَا بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسِيئًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْخُبْزُ خَمِيرًا أَوْ فَطِيرًا. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْضَةٌ بِبَيْضَتَيْنِ، وَلَا رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَتَيْنِ، وَلَا بِطِّيخَةٌ بِبِطِّيخَتَيْنِ لَا يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَعَامٌ مَأْكُولٌ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: كَوْنُهُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا. وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَصْحَابِنَا الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَحْسَنُ مَا فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا لِلْعَيْشِ غَالِبًا جِنْسًا، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَالْأَرُزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالسِّمْسِمِ، وَالْقَطَانِيِّ كَالْفُولِ وَالْعَدَسِ وَاللُّوبْيَاءِ وَالْحِمَّصِ، وَكَذَلِكَ اللُّحُومُ وَالْأَلْبَانُ وَالْخُلُولُ وَالزُّيُوتُ، وَالثِّمَارُ كَالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّيْتُونِ، وَاخْتُلِفَ فِي التِّينِ، وَيَلْحَقُ بِهَا الْعَسَلُ وَالسُّكَّرُ. فَهَذَا كُلُّهُ يَدْخُلُهُ الرِّبَا مِنْ جِهَةِ النَّسَاءِ. وَجَائِزٌ فِيهِ التَّفَاضُلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" إِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ". وَلَا رِبَا فِي رَطْبِ الْفَوَاكِهِ الَّتِي لَا تَبْقَى كَالتُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذَنْجَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَضْرَاوَاتِ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبِيضِ بِالْبِيضِ مُتَفَاضِلًا، لِأَنَّهُ مِمَّا يُدَّخَرُ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: جَائِزٌ بَيْضَةٌ بِبَيْضَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُدَّخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. الْعَاشِرَةُ- اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي لَفْظِ" الرِّبَا" فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي تَثْنِيَتِهِ: رِبَوَانِ، قَالَهُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَتَثْنِيَتُهُ بِالْيَاءِ، لِأَجْلِ الْكَسْرَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا رَأَيْتُ خَطَأً أَقْبَحَ مِنْ هَذَا وَلَا أَشْنَعَ! لَا يَكْفِيهِمُ الْخَطَأُ فِي الْخَطِّ حَتَّى يُخْطِئُوا فِي التَّثْنِيَةِ وَهُمْ يَقْرَءُونَ" وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ «١» " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: كُتِبَ" الرِّبا" فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزِّنَا، وَكَانَ الرِّبَا أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَاوِ، لأنه من ربا يربو.
وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وَكَأَنَّمَا | أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ «٢» |
لَعَمْرُكَ بِي مِنْ حُبِّ أَسْمَاءَ أَوْلَقُ
لَكِنْ مَا جَاءَتْ بِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ يُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ. و" يَتَخَبَّطُهُ" يَتَفَعَّلُهُ مِنْ خَبَطَ يَخْبِطُ، كَمَا تَقُولُ: تَمَلَّكَهُ وَتَعَبَّدَهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْعَلَامَةَ لِأَكَلَةِ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرْبَاهُ فِي بُطُونِهِمْ فَأَثْقَلَهُمْ، فَهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يَقُومُونَ وَيَسْقُطُونَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ كَالْحُبَالَى، وَكُلَّمَا قَامُوا سَقَطُوا وَالنَّاسُ يَمْشُونَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا ذَلِكَ شِعَارٌ لَهُمْ يُعْرَفُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ الْعَذَابُ من وراء ذلك، كما أن الغال يجئ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشُهْرَةٍ يُشْهَرُ بِهَا ثُمَّ الْعَذَابُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى:" يَأْكُلُونَ" وَالْمُرَادُ يَكْسِبُونَ الرِّبَا وَيَفْعَلُونَهُ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَقْوَى مَقَاصِدِ الْإِنْسَانِ فِي الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْجَشَعِ وَهُوَ أَشَدُّ الْحِرْصِ، يُقَالُ: رَجُلٌ جَشِعٌ بَيِّنُ الْجَشَعِ وَقَوْمٌ جَشِعُونَ، قَالَهُ فِي الْمُجْمَلِ. فَأُقِيمَ هَذَا الْبَعْضُ مِنْ تَوَابِعِ الْكَسْبِ مَقَامَ الْكَسْبِ كُلِّهِ، فَاللِّبَاسُ وَالسُّكْنَى وَالِادِّخَارُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ، دَاخِلٌ فِي قوله:" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ".
(٢). في ابن عطية: تجارة الربا. الاولق: شبه الجنون.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣١٨.
(٣). كذا في الأصول وابن عطية ولم يبدلها وجه اللهم إلا ما ورد: إن الشيطان يريد ابن آدم بكل ريدة، أي بكل مطلب ومراد، والريدة اسم من الإرادة. النهاية.
(٢). الحبل (بالتحريك) مصدر سمى به المحمول كما سمى بالحمل، وإنما دخلت عليه التاء للاشعار بمعنى الأنوثة فيه، فالحبل الأول يراد به ما في بطون النوق من الحمل، والثاني حبل ما في بطون النوق، وإنما نهى عنه لمعنيين: أحدهما أنه غرر، وبيع شي لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج الناتج. وقيل أراد بحبل الحبلة أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة، فهو أجل مجهول ولا يصح (عن نهاية ابن الأثير).
(٣). راجع ج ٨ ص ٧١
(٢). راجع ج ١٣ ص ٧٢ فما بعد.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٣ وص ٩٩.
(٤). قوله فقد قال، يعنى مالكا كما يأتي قوله: فقد اختلفت الرواية عنه إلخ. [..... ]
(٢). تراجع هامشه ٣ ص ٢٣٦ من هذا الجزء.
(٢). كذا في هـ وا وفي ح وب وج: حريره، والذي يبدو أن المعنى: دراهم بدراهم معها شي قد يكون فيه تفاضل، ولعل الأصل: بينهما جديدة. أي بينهما تفاضل لما بين الجديد والقديم منها من الفرق.
(٣). في اعلى الهامش: في إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني اسمه إسحاق بن أسيد نزيل مصر لا يحتج به، فيه أيضا عطاء الخراساني، وفية: فقال لهم لم يذكره الشيخ رضي الله عنه ليس بمشهور.
(٢). كذا في ابن عطية وهـ وب وج، وفي ح وا: