بسم الله الرحمان الرحيم
وبه نستعين على القوم الكافرين
ﰡ
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
(وبه نستعين على القوم الكافرين)قوله تعالى: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
وقيل: فيه وجوه:
رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: قوله: (والم) أنا اللَّه أعلم.
وقيل: إنه قسم أقسم بها.
وقيل: إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة.
وقيل: إن كل حرف من هذه الحروف كناية اسم من أسماءِ اللَّه: الأَلف اللَّه، واللام لطفه، والميم ملكه.
وقيل: إن اللام آلاؤه، والميم مجدهُ.
وقيل: إن الأَلف هو اللَّه، واللام جبريل، والميم مُحَمَّد.
وقيل: إنها من التشبيب؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام، والمنثور من نحو الشعر ونحوه.
وقيل: إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما أَلحق ذكرها بها على أَثرها نحو قوله:
وقيل: إن فيها بيان غاية ملك هذه الأُمة من حساب الجُمَّل، ولكنهم عدوا بعضها وتركوا البعض.
وقيل: إنه من المتشابه الذي لم يطلع اللَّه خلقه علم ذلك، ولله أن يمتحن عباده بما شاءَ من المحن.
وقيل: إنهم كانوا لا يستمعون لهذا القرآن؛ كقولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، وكقوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هذه الحروف المعجمة ليستمعوا إليها فيلزمهم الحجة.
والأصل في الحروف المقطعة: أنه يجوز أن تكون على القَسَم بها على ما ذكرنا.
وأريد بالقدْر الذي ذكر كليةُ الحروف بما كان من شأْن العرب القسمُ بالذي جلَّ قدْرُه، وعظم خطره. وهي مما بها قوام الدارين، وبها يتصل إلى المنافع أَجمع. مع ما دّلت على نعمتين عظيمتين - اللسان والسمع - وهما مجرى كل أنواع الحكمة، فأَقسم بها على معنى إضمار ربّها، أَو على ما أَجل قدرها في أعين الخلق، فيقسم بها، ولله ذلك، ولا قوة إلا باللَّه.
ويحتمل: أَن يكون بمعنى الرمز والتضمين في كل حرف منها أمرًا جليلًا يعظم خطره على ما عند الناس في أَمر حساب الجُمَّل. ثم يُخرَّج على الرمز بِها عن أَسماءِ اللَّه وصفاته ونعمه على خلقه، أَو على بيانِ منتهى هذه الأُمة، أَو عددِ أَئمتها، وملوكها، والبقاع التي ينتهى أمرها، وذلك هو في نهاية الإيجاز، بل بالاكتفاءِ بالرمز عن الكلام، وبما هو بمعنى من الإشارة في الاكتفاءِ بها عن البسط، ولا قوة إلا باللَّه؛ ليُعلم الخلائقَ قدرة اللَّه، وأَن له أَنْ يضمن ما شاء فيما شاءَ على ما عليه أَمرُ الخلائق من لطيف الأَشياءِ التي كادت العقولُ وأَسباب الإدراك تقصر عنها، وكنهِها التي يدركها كل أَحد، وبين الأَمرين، فعلى ذلك أَمر تركيب الكلام، ولا قوة إلا باللَّه.
ويجوز أن يكون على التشبيب، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور في المتعارف أن المنظوم في الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام، فعلى ذلك أمر الكلام المنزل.
أَلا ترى أَنه خرج على ما عليه فنون الكلام في الشاهد إلا أنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم، فمثله أَمر التشبيب. ولا قوة إلا باللَّه.
وجائِز: أن يكون اللَّه أَنزلها على ما أَراد؛ ليمتحن عبادَه بالوقف فيها، وتسليم المراد في حقيقة معناه والذي له يزول ذلك، ويعترف أَنه من المتشابه، وفيها جاءَ تعلق الملحدة، ولا قوة إلا باللَّه.
ويحتمل: أَن يكون إذ علم اللَّه من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، أنزل على وجه يبعثهم على التأمل في ذلك بما جاءَ بالعجيب الذي لم يكونوا يعرفون ذلك: إما لما عندهم أَنه كأحدهم، أو لسبيل الطعن؛ إذ خرج عن المعهود عندهم، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياءِ؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأَحرف بالتأمل فيها من بين الجميع. ولا قوة إلا باللَّه.
وقيل: إنه دعا خلقه إلى ذلك، واللَّه أَعلم بما أَراد.
وقوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (٢)
أي: هذا الكتاب، إشارة إلى ما عنده، وذلك شائع في اللغة، جائز بمعنى هذا.
وقيل: ذلك بمعنى ذلك، إشارة إلى ما في أَيدي السفرة والبررة.
وقوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ).
قيل: فيه وجوه؛ لكن الحاصل يرجع إلى وجهين:
أي: لا ترتابوا فيه أنه من عند اللَّه.
وقيل: لا ريب فيه أنه منزل على أَيدي الأُمناءِ والثقات.
وقوله: (هُدًى).
قيل فيه بوجهين:
والثاني: هُدًى أي: رشدًا، وحجة، ودليلًا.
ثم اختلفوا في الدليل:
فقال الراوندي: الدليل إنما يكون دليلًا بالاستدلال؛ لأَنه فعل المستدل. مشتق من الاستدلال؛ كالضرب من الضارب وغيره.
وقال غير هَؤُلَاءِِ: الدليل بنفسه دليل، وإن لم يستدل به؛ لأَنه حجة، والحجة حجة وإن لم يحتج بها. غير أَن الدليل يكون دليلًا بالاستدلال، ومن لم يستدل به فلا يكون له دليلًا، وإن كان بنفسه دليلًا، بل يكون عليه عمى وحيرة كقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا).
وقوله: (لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (٣)
قيل: فيه بوجهين:
يؤمنون باللَّه غيبًا، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأُمم السالفة، من أنبيائهم؛ كقول بني إسرائيل لموسى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً).
والثاني: يؤمنون بغيب القرآن، وبما يخبرهم القرآن من الوعدِ والوعيدِ، والأمر والنهي، والبعث، والجنة، والنار. والإيمانُ إنما يكون بالغيب؛ لأَنه تصديق، والتصديقُ والتكذيب إنما يكونان عن الخبر، والخبرُ يكون عن غيب لا عن مشاهدة.
والآية تنقض قول من يقول: بأن جميع الطاعات إيمان؛ لأَنه أَثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
وقوله: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ).
يحتمل وجهين:
ويحتمل: الحمد له والثناء عليه. فإن كان المراد هذا فهو لا يحتمل النسخ، ولا الرفع في الدنيا والآخرة.
وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
من الأَموال يحتملِ فِرضًا ونفلًا.
ويحتمل: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) من القوى في الأنفس وسلامة الجوارح، (يُنْفِقُونَ): يعينون. واللَّه أعلمِ.
وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ (٤)
يحتمل وجهينِ:
أي: ما أنزل إليك من القرآن.
ويحتمل: ما أنزل إليك من الأَحكام، والشرائع التي ليس ذكرها في القرآن.
(وقوله: (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).
يحتمل وجهين أيضًا:
يعني الكتب التي أنزلت على سائِر الأَنبياءِ عليهم السلام.
ويحتمل: الشرائعِ، والأَخبار سوى الكتب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
بمعنى يؤمنون.
والإيقان بالشيء هو العلم به. والإيمان هو التصديق، لكنه إذا أَيقن آمن به وصدق به لعلمه به؛ لأَن طائفة من الكفار كانوا على ظن من البعث؛ كقوله: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ عن حال هَؤُلَاءِِ أَنهم على يقين، ليسوا على الظن والشك كأُولئك.
وقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (٥)
وقوله تعالى :( وأولئك هم المفلحون ) قيل فيه بوجوه : قيل : الباقون في نعم الله تعالى والخير، وقيل : الظافرون بحاجتهم، يقال : أفلح : أي ظفر بحاجته، وقيل : المفلحون، هم السعداء ؛ يقال : أفلح أي سعد، وقيل : المفلحون الناجون، يقال١ : أفلح : أي نجا. وكله يرجع إلى واحد، كقوله ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) [ آل عمران : ١٨٥ ]، [ وكل واحد : ممن ]٢ زحزح عن النار فقد فاز، [ ومن أدخل الجنة فقد فاز ]٣ فكذلك الأول.
٢ - من ط ع، في الأصل: وكل واحد من زحزح، في ط م: وكله واحد ممن زحزح..
٣ - من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل..
وقيل: إنهم على بيان من ربهم، لكن البيان ليس المؤمنُ أحق به من الكافر؛ لأَنه يبين للكافر جميع ما يحتاج إليه، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع. فظهر بهذا أَن الأول أَقرب إلى الاحتمال من الثاني.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: الباقون في نعم اللَّه والخير.
وقيل: الظافرون بحاجاتهم، يقال: أَفلح، أَي: ظفر بحاجته.
وقيل: (الْمُفْلِحُونَ) هم السعداءُ، يقال: أَفلح، أي: سعد.
وقيل: (الْمُفْلِحُونَ) الناجون؛ يقال: أَفلح، أي: نجا. وكله يرجع إلى واحد؛؛ كقوله: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) وكل واحد ممن زحزح عن النار فقد فاز ومن أُدخل الجنة فقد فاز فكذلك الأَول.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)
هذا - واللَّه أعلم - في قوم خاص، عَلِمَ اللَّه أَنهم لا يؤمنون، فأَخبر عَزَّ وَجَلَّ رسولَه بذلك، فكان كما قال.
وفيه آية النّبوَّة.
ويحتمل أَيضًا: أَنهم لا يؤمنون ما داموا في كفرهم؛ كقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
والكافرون ما داموا كافرين ظالمون.
وقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)
وهذا فاسد على مذهب المعتزلة لوجهين:
أحدهما: أَن مذهبهم أَن الكافر مكلف، وإن كان قلبه مطبوعًا عليه.
والثاني: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عالم بكل من يؤمن في آخر عمره، وبكل من لا يؤمن أَبدًا، بلغ ذلك الحد أَو لم يبلغ.
فعلى ما يقوله الحسن إيهام أَنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك.
والمعتزلةُ يقولون: إن قوله: (خَتَمَ)، و (طَبع) يُعلم عَلَامة في قلبه أَنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل.
ولكن عندنا: خلق ظلمة الكفر في قلبه.
والثاني: خلق الختم والطبع على قلبه إذا فَعَل فِعْل الكفر؛ لأَن فِعْل الكفر من الكافر مخلوق عندنا، فخلق ذلك الختم عليه؛ وهو كقوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي: خلق الأكنة. وغيرهِ من الآيات.
أحدهما : أن مذهبهم أن الكافر مكلف وإن كان قلبه مطبوعا عليه.
والثاني : أن الله عز وجل عالم بكل من يؤمن في آخر٢ عمره وبكل من لا يؤمن أبدا، بلغ ذلك الحد أو لم يبلغ.
فعلى ما يقوله الحسن إبهام ؛ إنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك. والمعتزلة يقولون : إن قوله ( ختم ) و ( طبع ) يعلم علامة في قلبه أنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل.
ولكن عندنا [ وجهان :
أحدهما ]٣ : خلق ظلمة الكفر في قلبه.
والثاني : خلق الختم والطبع على قلبه إذا [ فعل فِعل الكفر لأن ]٤ فعل الكفر من الكافر مخلوق عندنا، فخلق ذلك الختم عليه، وهو كقوله ( وجعلنا على قلوبهم أكنة ) [ الأنعام : ٢٥ ] أي خلق الأكنة، وغيره من الآيات.
والأصل في ذلك أنه ( ختم الله على قلوبهم ) [ لما تركوا التأمل والتفكر في قلوبهم ]٥ فلم يقع، ( وعلى سمعهم ) لما لم يسمعوا قول الحق والعدل خلق الثقل عليه، وخلق على أبصارهم الغطاء لما لم ينظروا في أنفسهم ولا في خلق الله ليعرفوا زوالها وفناءها وتغير الأحوال ليعلموا أن الذي خلق هذا دائم لا يزول أبدا.
٢ -من ط م و ط ع، في الأصل: آخره.
٣ - ساقطة من الأصل و ط م و ط ع..
٤ - من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل..
٥ -من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل..
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
إخبار منهم أنهم قالوا ذلك بألسنتهم قولا، وأَظهروا خلاف ما في قلوبهم؛ فأخبر عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام: أَنهم ليسوا بمؤمنين، أي: بمصدقين بقلوبهم.
وكذلك قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
وكذلك قوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية.
هذه الآيات كلها تنقض على الكراميَّةِ؛ لأَنهم يقولون: الإيمان قول باللسان دون التصديق. فأَخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن جملة المنافقين أَنهم ليسوا بمؤمنين لما لم يأْتوا بالتصديق، وهذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب.
وقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا (٩)
لا يقصد أحد مخادعة اللَّه، لكنهم كانوا يقصدون مخادعة المؤمنين، وأَولياءِ اللَّه، فأَضاف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذلك إلى نفسه؛ لعِظم قدرهم، وارتفاع منزلتهم عند اللَّه؛ وهو كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، واللَّه لا يحتاج أَن ينصر، ولكن كأَنه قال: إن تنصروا أولياء اللَّه ينصركم؛ وهو كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) واللَّه لا يُبايَع، ولكن إضافة ذلك إلى نفسه؛ لعظم قدر نبيه، وعلو منزلته عند اللَّه تعالى، فكذلك الأول أَضاف مخادعتهم أَولياءَه إلى نفسه لعلو منزلتهم عند الله وقدرهم لديه.
والمخادعة هو فعل اثنين؛ لخداع هَؤُلَاءِِ بحضور المؤمنين؛ لذلك المعنى ذكر المفاعلة. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).
الأول: أي حاصل خداعهم، ووباله يرجع إليهم.
والثاني: أنهم يُظهرون لهم الموافقة ليأْمنوا، فلحقهم خوف دائم بذلك الخداع في الدنيا.
وقوله: (وَمَا يشعُرُونَ).
الأَول: أي: ما يشعرون أَن حاصل الخداع يرجع إليهم في الآخرة.
والثاني: ما يشعرون أَن اللَّه يظهر، ويطلع نبيه على ما أَضمروا هم في قلوبهم، والله أعلم.
وقوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (١٠)
يقال: شكٌ ونفاق؛ سَمَّى عَزَّ وَجَلَّ المنافقين مرضى؛ لاضطرابهم في الدِّين؛ لأَنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بالقول، ويضمرون الخلاف لهم بالقلب؛ فكان حالهم كحال المريض الذي هو مضطرب بين الموت والحياة؛ إذ المريض يشرف - ربما - على الموت، ويرجو الإقبال عليه منه ثانيًا؛ فهو مضطرب بين ذلك، فكذلك هم، لما كانوا مضطربين في دينهم سماهم مرضى.
وقوله تعالى :( فزادهم الله مرضا ) اختلف في تأويله : قالت المعتزلة : هو التخلية بينهم وبين ما اختاروا. وأما عندنا [ فهو ]٤ على خلق أفعال زيادة الكفر والنفاق في قلوبهم لما زادوا في كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول وإضمار الخلاف لهم بالقلب ؛ خلق [ الله ]٥ عز وجل تلك الزيادة من المرض في قلوبهم باختيارهم. وقد ذكرنا الوجه في ذلك في ما تقدم في قوله :( اهدنا ) [ الفاتحة : ٥ ].
وقوله تعالى :( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) لأن عذاب الدنيا قد يكون، ولا ألم فيه، فأخبر الله عز وجل أن عذاب الآخرة شديد عظيم ليس كعذاب الدنيا.
٢ - من ط م..
٣ - من ط م و ط ع، في الأصل: بالحياة..
٤ - من ط م..
٥ - من ط م..
وسمى المؤمنين أَحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، واكتسبوا الحياة الدائمة، لموافقتهم باللسان والقلب جميعًا لدين اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم.
وقوله: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا).
اختلف في تأويله:
قالت المعتزلة: هو التخلية بينهم وبين ما اختاروا.
وأما عندنا: فهُو على خلق أَفعال زيادة الكفر والنفاق في قلوبهم، لما زادوا هم في كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، خلق اللَّه عز وجل تلك الزيادة من المرض في قلوبهم باختيارهم.
وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم في قوله: (اهدِنَا).
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
لأَن عذاب الدنيا قد يكون ولا أَلم فيه؛ فأخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن عذاب الآخرة عذاب شديد عظيم، ليس كعذاب الدنيا.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).
بالمخادعة للمؤمنين، وإظهار الموافقة لهم بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، والاستهزاء بهم عند الخلوة، والقول فيهم بما لا يليق بهم، وعبادة غير اللَّه. وأَيُّ فساد أَكبر من هذا؟!.
وقوله: (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ).
بإظهار الموافقة بالقول.
وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (١٢)
أخبر تعالى أنهم هم المفسدون؛ لما أَضمروا من الخلاف لهم، والمخادعة، والاستهزاءِ بهم.
وقوله تعالى :( ولكن لا يشعرون ) [ فيه وجهان :
الأول ]٢ : أي أنهم لا يشعرون أن حاصل ذلك لا يرجع إليهم.
والثاني : لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفساد. فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول بأن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة، وهو قول الناس لأنه عز وجل أخبر بفساد [ صنيعهم ]٣، وإن لم يشعروا به، وهو كقوله [ أيضا ]٤ :( أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) [ الحجرات : ٢ ] ؛ أخبر بحبط الأعمال، وإن كانوا لا يعلمون.
٢ - في ط م: الأول، ساقطة من الأصل و ط ع..
٣ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
٤ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
الأول: أي: لا يشعرون أَن حاصل ذلك لا يرجع إليهم.
والثاني: لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفسادُ.
فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول: بأن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة، وهو قول الناس؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ أَخبر بفساد صنيعهم، وإن لم يشعروا به.
وهو كقوله أَيضًا: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) أخبر بحبط الأعمال وإن كانوا لا يعلمون.
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ (١٣)
تحتمل الآية: أَن تكون في المنافقين، وتحتمل: في أَهل الكتاب.
فإن كانت في المنافقين فكأَن قوله: آمنوا يا أَهل النفاق في السر والعلانية، كما اّمن أَصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في السر والعلانية جميعًا، وهو كقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا).
وإن كان في أَهل الكتاب ففيه الأَمر بالإيمان الذي هو إيمان، وهو التصديق. والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب؛ دليله قول جميع أَهل التأْويل والأَدب أنهم فسروا (آمَنُوا): صدقوا في جميع القرآن.
وقوله: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) الآية.
السفه: هو ضد الحكمة، وهو العمل بالجهل على العلم أَنه يبطل، والجهلُ هو ضد العلم. والسفهُ هو الشتم؛ يقول الرجل لآخر: يا سفيه.
وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ).
يقول بعض المتكلمين: إن هذا شتم من اللَّه لهم، جوابًا على المؤمنين، ويستجيزون ذلك على الجواب، وإن لم يجز على الابتداءِ، كالمكر، والكيد، والاستهزاءِ، والخداع ونحوه، فعلى ذلك هذا.
وأما عندنا فهو غير جائِز؛ لأَن من يشتم آخر يذم عليه، وهو عمل السفهاء. فأَخبر عز وجل: أَنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أَن دينهم الذي يدينون به باطل، وأَن الدِّين الذي يدين به المؤمنون حق.
وقوله: (وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ).
قيل فيه بوجهين:
أحدهما: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.
وقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا (١٤)
يعني: أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (قَالُوا آمَنَّا).
أظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويضمرون لهم الخلاف في السر.
وقوله: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ).
قيل فيه بأَوجه:
قيل: إن شياطينهم؛ يعني الكهنة؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق.
يقال: شَطَن، أَي: بَعُدَ.
وقيل: إن كل عاتٍ ومتمرد يسمى شيطانًا لعتوه وتمرده؛ كقوله: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) سموا بذلك لعتوهم وتمردهم؛ إذ من قولهم: إن الشياطين أَصْلهم من الجن.
وقيل: سموا شياطين؛ لأَنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأَمره، فسموا بأَسمائِهم؛ وذلك جائِز في اللغة جالي، واللَّه أَعلم.
وقوله: (قَالُوَا إِنَّا مَعَكُم).
قيل: فيه وجهان:
الأَول: أَي: معكم في القصد والمعونة.
والثاني: إنا معكم، أي: على دينكم لا على دين أُولَئِكَ، واللَّه أَعلم.
قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
بإظهار الموافقة لهم في العلانية، وإظهار الخلاف لهم في السر.
وقوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (١٥)
قيل فيه بوجوه:
قيل: يجزيهم جزاء الاستهزاءِ.
وكذلك قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) أي: يجزيهم جزاء المخادعة، وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) أي: يجزيهم جزاء
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يجوز إضافة الاستهزاء إلى اللَّه، وإن كان لا يجوز من الخلق أَن يستهزئ بعضهم من بعض، كالتكبر، يجوز لله ولا يجوز للخلق؛ لأَن الخلق أَشكال بعضهم لبعض وأَمثال، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا شكل له ولا مثل.
وكذلك الاستهزاء يجوز له، ولا يجوز لغيره؛ لأَن الاستهزاء هو الاستخفاف، فلا يجوز أَن يستخف ممن هو مثله في الخلقة، وما خلق له من الأَحداث والغِيَر، واللَّه تعالى يتعالى عن ذلك. والأَول أَقرب، واللَّه أعلم.
أَو أَضاف استهزاء المؤمنين بهم إلى نفسه كما ذكرنا في المخادعة.
ثم اختلف في كيفية الاستهزاءِ:
فقال الكلبي: هو أن يُفتح لهم باب من الجنة فيدنون منه، ثم يغلق دونهم. فإن ثبت ذا فهو كما قال.
وقيل: إنه يرفع لأَهل الجنة نور يمضون به، قيقصد أُولَئِكَ المضي معهم بذلك النور، ثم يطفأ ذلك النور؛ فيتحيرون وهو قولهم: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).
وقيل: أَن يعطي لهم في الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهرًا على ما أَظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويحرم لهم ذلك في الآخرة بإضمارهم الخلاف لهم في السر.
وقوله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
الآية في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون؛ كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
ثم اختلف في كيفية الاستهزاء ؛ فقال الكلبي :( هو أن يفتح لهم باب من الجنة، فيدنوا٤ منه، ثم يغلق دونهم ) فإن ثبت ذا فهو كما قال، وقيل : إنه يرفع لأهل الجنة نور يمضون به، فيقصد أولئك المضي معهم بذلك النور، ثم يطفأ٥ ذلك النور، فيتحيرون ؛ وهو قولهم ( انظرونا نقتبس من نوركم قبل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) [ الحديد : ١٢ ]. وقيل : أن يعطى لهم في الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهرا على ما أظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويحرم [ ذلك لهم ]٦ في الآخرة بإضمارهم الخلاف في السر.
وقوله تعالى :( ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) ؛ الآية٧. في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون كقوله :( أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ البقرة : ٦ ] غير أن هذه [ في ]٨ المنافقين، والأولى في الكفرة، وهي تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يقدر أن يستنقذهم في حال الاختيار، وإنما يقدر الاستنفاذ منهم في حال الاضطرار، فأخبر عز وجل أنه يستنقذهم على فعل الطغيان.
وقوله :( ويمدهم ) أي يخلق فعل الطغيان فيهم، ويحتمل أن يخذلهم، ويتركهم [ لما ]٩ اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم، ويحتمل انه لم يهدهم، ولم يوفقهم، [ و ]١٠ في هذا إضافة المد إلى الله، وإضافة المد١١ على الطغيان لا يضاف إليه إلا للمدح١٢، والمدح يكون بالأوجه الثلاثة التي بينا، وفي هذا : أنه إذا كان هو الذي يمدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان، فدل أن الله [ تعالى ]١٣ خالق فعل العباد، إذ من قولهم : إن القدرة التامة، هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده، والعمه الحيرة في اللغة.
٢ - في النسخ الثلاث: بعضهم بعضا..
٣ - من ط م و ط ع، في الأصل.
٤ - في ط م: فيدنون..
٥ - في ط م: يطفئوا..
٦ - في ط م: لهم ذلك..
٧ - ساقطة من ط ع..
٨ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
٩ - من ط م..
١٠ - في ط ع: مد..
١١ - في ط ع: مد..
١٢ - من ط ع، في الأصل: المدح، في ط م: لمدح..
١٣ - من ط ع..
وهى تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يقولون: إن اللَّه لا يقدر أَن يستنقذهم في حال الاختيار، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم في حال الاضطرار، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ: أَنه يستنقذهم على فعل الطغيان.
وقوله: (وَيَمُدُّهُمْ) أي: يخلق فعل الطغيان فيهم.
ويحتمل: أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم.
ويحتمل: أنه لم يهدهم ولم يوفقهم.
وفي هذا إضافة المد إلى اللَّه. وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا لمدح، والمدح يكون بالأَوجه الثلاثة التي بينا، وفي هذا أَنه إذا كان هو الذي يمُدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان؛ فدل أَن اللَّه خالق فعل العباد؛ إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده.
والعَمَهُ: الحيرة في اللغة.
قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (١٦)
أي: اختاروا الضلالة على المدعو إليه -وهو الهدى- من غير أَن كان عندهم الهدى، فتركوه بالضلالة.
وهو كقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) من غير أن كانوا فيه، فكذلك الأَول، تركوا الهدى بالضلالة ابتداء.
وقيل: الضلالة: الهلاك؛ أي: اختاروا ما به يهلكون على ما به نجاتهم، وإن كانوا لا يقصدون شراء الهلاك بما به النجاة؛ كقولهم: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) لا يقدر أحد أن يصبر على النار، ولكن فما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار.
وكذلك قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)، أي: بئسما اختاروا ما به هلاك أَنفسهم على ما به نجاتهم.
وفي هذه الآية دلالة جواز البيع بغير لفظة البيع؛ لأَنهم ما كانوا يتلفظون باسم البيع، ولكن كانوا يتركون الهدى بالضلالة.
وكل من ترك لآخر شيئًا له ببذل يأخذه منه فهو بيع وإن لم يتكلموا بكلام البيع.
وكذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ...) الآية. وهو على بذل الأَموال والأَنفس له بالموعود الذي وعد لهم، وهو الجنة.
أي: ما ربحوا في تجارتهم؛ لأَن التجارة لا تربح ولكن بالتجارة يربح، وقد يسمى الشيء باسم سببه.
وهو كقوله: (جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) والنهار لا يبصر، ولكن بالنهار يبصر.
وذلك سائغ في اللغة، جائز تسمية الشيء باسم سببه.
ثم في قوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) نفى الربح دون نفى الأَصل في الظاهر، غير أَن النفي على وجهين:
نفي شيء يوجب إثبات ضده، وهو نفي الصفة؛ كقولك: فلان عالم: نفيت الجهل عنه، وفلان جاهل: نفيت العلم عنه.
ونفي شيء لا يوجب إثبات ضده، وهو نفي الأَعراض؛ لأَنك إذا نفيت لونًا لم يوجب ضد ذلك اللون.
وقوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) نفى الأَصل؛ كأَنه قال: بل خسرت تجارتهم، أَوجبت إثبات ضده.
دليله قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) و (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
* * *
قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
وقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)
اختلف فيه:
قيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأَنها على أَثر ذكر المنافقين، وهو قوله: (وَإِذَا لَقُوا
وقيل: إنها نزلت في اليهود؛ لأنه سبق ذكر اليهود، وهو قوله:)... أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ...) الآية.
ويحتمل: نزولها في الفريقين جميعًا.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " إن هذا من المكتوم " فلا يحتمل ما قال؛ لأنه مَثَل ضربه اللَّه، والأَمثال إنما تضرب لتُفْهم وتقرب إلى الفهم ما بعُد منه؛ فلو حمل على ما قال لم يفهم مراده وما قرب إلى الفهم شيئًا، إلا أن يريد من المكتوم: أنه لم يعلم فيمن نزل، فهو محتمل، واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (مَثَلُهُم كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا...) الآية.
يحتمل: أن يكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ...) الآية، وقوله: (وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوَا آمَنَّا...) الآية. وذلك يخرج على وجوه: أَحدها: أَنهم قصدوا قصد المخادعة بأَولياءِ اللَّه والاستهزاءِ بهم؛ ففضحهم اللَّه بذلك في الدنيا والآخرة.
فأَما في الدنيا فبما هتك سترهم، وأطْلَعَ على ذلك أَولياءَه؛ فعادت إليهم المخادعة، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم، وبما أَرادوا ذلك الأَمن، فأَعقبهم اللَّه خوفًا دائمًا كما وصفهم اللَّه (ويَخشَوْنَ النَّاسَ...) الآية. وقال: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).
وقال: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، وقال: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ...) الآية، وقال: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ...) الآية.
أو أن يكونوا طلبوا -بإظهار الموافقة في الدِّين- الشرف فيهم والعز، وكذلك عند الكفرة مما أظهروا أَنهم يخادعون بذلك المؤمنين، ويستهزئون بهم؛ فعلموا أَنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم، فَطُرِدوا من بينهم فقال اللَّه: (مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ)، وقال. (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ...) الآية، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز، وأَبدل لهم به الهوان والذل.
فمثلهم في ذلك مثلُ مستوقِد نارٍ ليستضيء بضوئها، وينتفع بِحرها، فأَذهب اللَّه ضوءه
فيكون ذلك معنى قوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، و (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وإذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمنَ، والذل بما طلبوا به العز، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره، واللَّه أعلم.
وعلى ذلك قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) أي: اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذي قد أَظهروه عند المؤمنين.
فيكون تحقيق استهزاءِ اللَّه بهم، ومخادعته إياهم فعل أَوليائه بهم بما أخبروا من سرائِرهم، وبما حطوا أَقدارهم، وذلوا في أَعينهم، فأُضيف ذلك إلى اللَّه؛ إذ به فعلوا، كما أضيفت مخادعتُهم المؤمنين إليه؛ إذ عن دينه خادعوهم. واللَّه أعلم.
وعلى هذا التأْويل أَمكن أَن يخرج قول من زعم: أَن الآية نزلت في الكافرين، أَنهم كانوا يعرفون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما وجدوا نعته في التوراة والإنجيل، أنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ...)، وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) إلى آخر السورة، وقال عز وجل: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) وقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ).
كانوا كمستوقد النار، أي: طالب الوقود ليستضيء به، فلما ظفر به أَذهب اللَّه نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار، فلم ينتفع به.
فكذلك لما كفروا عند بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حسدًا من أَنفسهم وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأْكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه، ولا قوة إلا باللَّه.
وأَما في الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين، وموالاتهم في الظاهر، ومشاركتهم إياهم في المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح، وخالفوهم في الباطن.
فكذلك اللَّه أَشركهم في المنافع الظاهرة الحاضرة في الدنيا، وخالفهم بمنافع دينه في الباطن الغائب وهي الآخرة؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين في الدنيا، وصرفها عنهم في الآخرة.
فكما أروهم الموافقةَ في الظاهر مع المخالفة في الباطن، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة في ضوئها بالإيقاد، وقد أَذهب اللَّه ضوء بصره؛ فذهب عنه مَنفعته عند ظنه أَنه يصل إليها، كالمنافقين في الآخرة، إذ ظنوا في الدنيا أنهم شركاؤهم في الآخرة لو
وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم.
وعلى ذلك يخرج تأويل من صرف إلى أَهل الكتاب؛ لأنهم آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم، وشاهدوا كفروا به؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردوا إيمانهم به عند المشاهدة، واللَّه أعلم.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه ضم تأويل هذه الآية والتي تتلوها من قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) إلى قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) وذلك - واللَّه أعلم - أنهم قوم لا يعرفون اللَّه حق المعرفة؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم، ولا يؤمنون بالآخرة؛ فيكون عملهم للعواقب، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمنًا لها.
فإذا رأوا في دين الإسلام الغنائم والسلوة، رأَوا تجارتهم مربحة فاطمأنوا بها، واجتهدوا بالسعي فيها.
وإذا أَصابتهم الشدة والبلايا رأَوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدِّين؛ فمثلهم مثل المستوقد نارا؛ إنه يجتهد في الإيقاد ما دام يطمع في نور النار، ومنافع حرها لمصالح الأَطعمة، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد، كالمنافق فيما استقبله المكروه في الإسلام تمنى أن لم يكن أسلم قط.
وذلك قوله: (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ).
وقوله: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا).
وقوله: (قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ).
وقوله: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا).
وكذلك البرق الذي يضيء يمشي المرء في ضوئه، وكذلك المنافق، إذا رأَي خيرًا في الإسلام مشى إليه، وإذا أظلم عليه قام متحيزا حزينًا؛ أَلا يكون اختار السلوك، والله الموفق.
قال: وقيل: ذا لعن.
كما يقال: أَذهب اللَّه نوره، أي: الذي كان يظهره؛ فيبقى المنافق في ظلمات الآخرة، والمستوقد في ظلمات العمى والليل.
ثم قال: جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيب، وما فيه من الجهاد كظلمة الليل، وما فيه من الغنيمة كالبرق، وجعل أَصابعهم في الآذان من سماع ما في الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ).
أي: ما في الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه.
وإذا أَظلم عليهم بالشدائد قاموا وصدوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولو شاءَ اللَّه لذهب بما ذكر، أي: أَصمهم وأعماهم.
ورُويَ عن الضحاك عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " أن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين "؛ فشبه به إيمان المنافق أَنه عن سريع يزول.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: كان المنافق في ظلمة الكفر فاهتدى بما أعطي من النور، كمستوقد
وكذلك السالك في ظلمة الليل، فلما ذهب نوره -أَو سكن لمعان البرق- رجع إلى ما فيه من الظلمة.
والأَصل في هذا الباب: أَن اللَّه تعالى خلق هذه الدار لمحنة أَهلها، وجعل لهم دارًا يجزيهم فيها، مما لولا هي لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثًا؛ إذ يكون خلق الخلق للفناءِ بلا عواقب لهم، وذلك عبث في العقول؛ لأن كل شارع -فيما لا عاقبة له- عابث، وفيما لا يُريد معنى يكون في العقل هازلٌ؛ ولذلك قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلًا بالمعروف من هذه؛ إذ بهذه عرفت تلك؛ ولهذا خلق اللَّه الممتَحنين بحيث يأْلمون ويتلذذون؛ ليعرفوا قدر الآلام التي بها أوعدوا، واللذات التي فيها رغبوا.
فعلى ذلك ضرب اللَّه مثل من عمى عن الآخرة، وصم عن سماع ما يرغب فيها، أو عمى عن أَمر اللَّه ونَهْيه، أو أُلحق بالأَعمى، والأَصم، والميت ونحو ذلك؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة؛ إذ هي مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأَمل والتدبر.
فإذا غفل عن ذلك سمى بالذي ذكرنا. وبينا أَنه لولا الآخرة ودار الجزاءِ، لم يكن لخلق شيء من ذلك حكمة نعقلها نحن.
فعلى ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب -الذي به يبصر العواقب وينتفع بها- بذهاب نور البصر، في زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره، وكذلك أَمر السمع وغيره.
فكان على ذلك أَمكن إخراج المثلين جميعًا على الكفرة والمنافقين.
أَما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه -وهو نور البصر- لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذي بصر، وكذلك سائر منافع النار؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب
وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عته بصر القلب؛ إذ به يبصر عواقب الأَشياءِ.
بل الذي قصد السلوك بالبروق، والاستضاءَة بنور النار، إذا ذهب كان أَعظمَ حسرة وأَشد خوفًا من النارِ، وشدةِ المطرِ، وخبثِ الطريق من الذي لم يعرف -في الابتداءِ- نفع النار أَو البرق، ويكره المطر على شدة رغبته فيه، والنار بما ذهب منه.
وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يُرد إلى درك الأَسفل، ولا قوة إلا باللَّه.
وكذلك الكافر لم يبصر -بما أَعطاه من البصر- عواقب البصر الظاهر، ولا يسمع -بما أَنعم عليه من السمع- عواقب السمع؛ إذ حق ذلك أن يؤدي ذلك ما أَدركه إلى العقل ليعتبر به أَنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستحقاق، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة، فيعلم عظم نعمة اللَّه وخروج مثله عن العبث، فيقوم بأداءِ شكره؛ وبذلك يصير به إلى الجزاءِ في العواقب، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)
يحتمل وجهين:
أَحدهما: صم؛ لأَنه ختم على آذانهم، وعلى سمعهم، وعلى قلوبهم؛ فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون.
ويحتمل: أَنهم صم بكم عمى؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم، وأَبصارهم، وقلوبهم.
ثم اختلف في جواز إضافة لفظ " الاستهزاءِ " إلى اللَّه تعالى "
فأجازه قوم، وإن كان ذلك قبيحًا من الخلق؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأَحدٍ -إما لجهله، أَو لقبح في الخلقة، أَو لزيادة في الخلق- إلا والمستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لولا إنعام اللَّه عليه الذي قد أغفل عنه، أَو لدناءة في الخلق باشتغاله بما ذكر، مع ما لعل الإغفال من هذا أوحش، وأَقبح من حال المستهزأ به.
ولذلك قال عَزَّ وَجَلَّ: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ...) الآية.
وذلك نحو التكبر: أنه قبيح من الخلق، بما لهم أَشكال في الحدث، وآثار الصنعة، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره.
وجائِز إضافته إلى اللَّه تعالى، لتعاليه عن الأَشباه والأَشكال، وإحالة احتمال ما احتمل
وأبَى قوم ذلك إلا على أثر أَحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاءِ، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء؛ فيفهم منه جزاءُ الاستهزاءِ كذكر السيئة في الجزاء، والمكر ونحو ذلك.
ثم يخرج ما نحن فيه على أوجه:
أَحدها: ما بينا.
والثاني: ما ينسب إليه فعل المأمور، نحو قول المؤمنين للمنافقين في الآخرة: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) وقول أَهل الجنة، ودعائهم أهل النار بالخروج، لو ثبت ما ذكره الكلبي، وقول الملائِكة: (فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) وغير ذلك.
وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠).
ثم ما ذكر من " الظلمات " يخرج على وجوه ثلاثة:
أَحدها: ظلمات كفرهم بقلوبهم؛ إذ أظهروا الإيمان أولًا.
والثاني: المتشابه في القرآن، وهو الذي تعلق به كثير من المشركين حتى نزول قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ...) الآية.
والثالث: ما في الإسلام من الشدائد، والإفزاع من الجهاد، والحدود وغير ذلك.
وأَمكن صرف الأَول، والآخر إلى الفريقين: الكافر، والمنافق، وصرف تأْويل المتشابه إلى الكافر.
على أنا بينا أَن لكل من ذلك حَظًّا، ويدل آخر الآية -وهو قوله: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) - على أن المثل لهم، إلا أن المنافق شريكهم في الكفر، واللَّه الموفق.
وجائِز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين:
بَين ذلك قولُه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا...) الآية.
وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ).
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ...) الآية.
ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم؛ كقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ...) الآية.
تبين ما ظهر من التفرق فيهم، ومن القول في أَنبيائهم، وفي اللَّه سبحانه. ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف، وبما كان من الفترة اندرست الكتب، وذهبت الرسوم؛ فصاروا في ظلمة الضلالة، وحَيرة الزيغ، وتاهوا في سبيل الشيطان، وانقطع من بين أظهرهم الأَئمة الذين يوثق بهم في الدِّين، بما ليس لأَحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياءِ، والاعتصام بكتبهم؛ إِذْ كلهم يدعي ذلك - وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذي لا تحتمله الحكمة، وَلا يصبر عليه العقل.
وصنف: لا ينتحل الكتاب، ولا يؤمن بنبي من الأَنبياءِ، بل يعبدون الأَوثان والنيران والأحجار، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع، ليس لهم شرع، بل هم حيارى، لا يعرفون معبودًا، ولا يبصرون طريقا، وليس فيهم مَنْ إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة، وأطلعهم على الحق، بل هم في الضلال تائهون، وفي الظلمات متحيرون.
فأحوج الفريقين جميعًا ما حل بهم من الحيرة والتيه، إلى من يشفيهم من داءِ الضلالة بنور الهدى، ومن ظلمة الاختلاف بضياءِ الائتِلاف، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل اللَّه، ويَدُلهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أَربابًا.
فبعث إليهم - عند شدة حاجتهم - رسولا، وأكرمهم بما أَراهم من الآيات التي يعلمهم بها أَنه أنعم بها عليهم؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أَطاعوه، وشكروا نعمة اللَّه.
فكانوا كقوم بُلُوا بظلماتِ الليل والسحاب، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم، وتعذر عليهم الوجه في وضع أَقدامهم، فتاهوا، فدفعهم التيهُ إلى استيقاد النار؛ ليبلغوا حوائجهم، ويأمنوا العَطَبَ في وضع الأَقدام.
وروي عن [ الضحاك عن ]٢ ابن عباس رضي الله عنه٣ ( أن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين، فشبه به إيمان المنافق ؛ أنه عن سريع يزول ).
وقال القتبي : كان المنافق في ظلمة الكفر، فاهتدى بما أعطي من النور كمستوقد النار٤ بنوره في ظلمة الليل، وكذلك السالك في ظلمة الليل، فلما ذهب نوره، أو سكن لمعان البرق، رجع إلى ما فيه من الظلمة.
والأصل في هذا الباب : أن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أهلها، وجعل له دارا يجزيهم فيها مما لولا هي لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثا ؛ إذ يكون خلق الخلق٥ للفناء بلا عواقب لهم. وذلك عبث في العقول ؛ لأن كل شارع في ما لا عاقبة له عابث، وفي ما لا يريد [ معنى يكون ]٦ في العقل هازل. ولذلك قال :( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) [ المؤمنون : ١١٥ ]. فإذا كان كذلك صارت هذه الدار [ دليل الأخرى ]٧ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلا بالمعروف من هذه ؛ إذ بهذه عوقب تلك، ولهذا خلق الله الممتحنين بحيث يألمون، ويتلذذون ليعرفوا قدر الآلام التي بها أوعدوا واللذات التي فيها رغبوا.
فعلى ذلك ضرب الله مثل من عمي عن الآخرة وصم عن سماع ما يرغب فيها، أو عمي عن أمر الله ونهيه، أو أُلحق بالأعمى والأصم والميت ونحو ذلك، لذهاب منافع البصر والسمع والحياة، إذ هي مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأمل والتدبر. فإذا أغفل عن ذلك سمي بالذي ذكرنا، وبينا : أنه لولا الآخرة ودار الجزاء لم يكن للخلق شيء من ذلك حكمة نعقلها نحن. فعلى ذلك ضرب [ الله المثل ]٨ لذهاب نور القلب الذي به تبصر العواقب، وينتفع بها، بذهاب نور البصر في زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره. وكذلك أمر السمع وغيره. فكان على ذلك أمكن إخراج المثلين جميعا على الكفرة والمنافقين.
أما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه، وهو نور البصر، لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذي بصر، وكذلك سائر منافع النار، فمثله : إذا ذهب عنه نور بصر القلب وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائها. وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا ؛ إذ يبصر الطريق، كمن يذهب عنه بصر القلب ؛ إذ به يبصر عواقب الأشياء. بل الذي قصد السلوك بالبروق٩ والاستضاءة بنور النار ؛ إذا١٠ ذهب كان أعظم حسرة وأشد خوفا من النار وشدة المطر وخبث الطريق [ من الذي ]١١ لم يعرف في الابتداء نفع النار أو البرق، ويكره١٢ المطر على شدة رغبته فيه والنار بما ذهب منه. وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر ؛ إذ به يرد إلى درك الأسفل، ولا قوة إلا بالله.
وكذلك الكافر لم يبصر بما أعطاه من البصر عواقب البصر الظاهر، ولا يسمع بما أنعم عليه من السمع عواقب السمع ؛ إذ حق ذلك أن يؤدي ذلك ما أدركه إلى العقل ليعتبر به أنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستخفاف، ولا١٣ يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة، فيعلم عظم نعمة الله وخروج مثله عن العبث، فيقوم بأداء شكره. وبذلك يصير به إلى الجزاء في العواقب، ولا قوة إلا بالله.
٢ - من ط م..
٣ - في ط م: عنهما..
٤ - تكررت كلمة النار في الأصل..
٥ - في ط ع: الخالق..
٦ - من ط م، في الأصل و ط ع: يكون معنى في..
٧ - من ط م، في الأصل و ط ع: دليلا أخرى..
٨ - في ط م: (المثل)، ساقطة من ط ع..
٩ - في ط ع: بالبرق..
١٠ - في ط ع: وإذا..
١١ - في ط ع: فالذي..
١٢ - الواو ساقطة من ط ع..
١٣ - من ط م، الواو ساقطة من الأصل و ط ع..
ثم منهم من عرف نعمة من أَنعم عليهم بالوقود وأَغاثهم بالمطر، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك، ووصلوا إلى حوائِجهم بالنار والمطر.
وذلك مثل من اتبع محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعرف نعم اللَّه فشكره.
ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه، ونسي ما كان عليه، وهو قوله: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ) آيات فيها ذكر ما بَينت، وقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ...) الآية، فأَذهب اللَّه نورَهُ فلا ينتفع بنور النار، ولا وَصل إلى حاجته التي بها يقضي.
وذلك مثل الذين كفروا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم لم ينتفعوا به، ولا قضوا حاجاتهم، بل زادهم ذلك ظلمةً وحيرة، كمستوقد النار إذا ذهب بصرهُ.
وكذلك قوم بُلوا بالسلوك في الطريق عند شدة الظلمة، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذي جُعل لهم لوضع أَقدامهم بنور البرق فأَذهب اللَّه نوره، وسَكَنَ لمعانُ البرق؛ فعاد الغياث له هلاكا، والمطر -الذي وجهه- عليه بلاء.
فمثله من كابر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واعترض على الاستماع إليه، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥).
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).
فالخطاب يحتمل الخصوص والعموم.
وقوله: (اعْبُدُوا): وحدوا ربَّكم.
ويقال: (اعْبُدُوا)؛ أَي: أَطيعوا له.
والعبادة جعل العبد كُليته لله قولًا، وعملًا، وعقدًا، وكذلك التوحيد، والإسلام.
والطاعة ترجع إلى الائتمار؛ لأَنه يجوز أن يطاع غير اللَّه، ولا يجوز أَن يعبد غير اللَّه؛ لأن كل من عمل بأَمرِ آخر فقد أطاعه؛ كقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، ولا كل من عمل بأمر آخر فهو عابدٌ له، وباللَّه نستعين.
ثم بين الذي أَمر بالتوحيد إياه وبالعبادة له خالصًا، فقال: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
والذين تعبدونهم لم يخلقوكم، ولا خلقوا الذين من قبلكم، فكيف تعبدونهم دون الذي خلقكم؟! وباللَّه التوفيق.
وقوله: (لَعَلَّكُم تَتقونَ).
يحتمل وجهين:
يحتمل: تتقون المعاصي، والمناهي، والمحارم التي حرم اللَّه عليكم. فإذا كان هذا هو المراد فذلك راجع إلى المؤمنين.
ويحتمل قوله: (تَتَّقُونَ) والشرك وعبادة غير اللَّه، فذلك راجع إلى الكفرة.
قال الشيخ: الأَحسن في الأمر بالتقوى والتوحيد أَن يجعل عامّا، وفي الخبر عن التقوى خاصًّا.
(لَعَلَّكُم) أي: كي تتقوا.
وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ (٢٢)
بَيَّنَ اتقاء الذي أَمر بالتوحيد له، وتوجيه العبادة إليه، وإخلاص النية له؛ فقال: الذي فرش لكم الأَرض لتنتفعوا بها، وتقضوا حوائِجكم فيها، من أنواع المنافع عليها، واتخاذ المستقر والمسكن فيها.
(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) أي: رفع السماء بناء.
والسماء: كل ما علا وارتفع، كما يقال لسقف البيت: سماء؛ لارتفاعه.
ثم بين بقوله: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ).
أي: وجهوا العبادة إلى الذي ينزل لكم من السماء ماء عند حوائِجكم، ولا تعبدوا من تعلمون أنه لم يخلقكم، ولا أَنزل لكم من السماء ماء، ولا أخرج لكم من ذلك الماءِ ثمرات تكون رزقًا لكم.
بل هو اللَّه الواحد الذي لا شريك له؛ ولأَنه يخلقكم، ويرزقكم، ويخرج لكم من ذلك الماء المنزل من السماء رزقا تأْكلونه، وماء عذبًا تشربونه.
وفي الآية دلالة أن المقصود في خلق السماءِ والأَرض، وإنزال الماءِ منها، وإخراج هذه الثمرات وأَنواع المنافع - بنو آدم، وهم الممتحنون فيها؛ بدلالة قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) وما ذكر من المخرج والمنزل منها، وما ذكر في آية أخرى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، ومنه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ)، مما يكثر من الآيات.
أضاف ذلك كله إلينا، ثم جعل - عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه مَنافع السماءِ متصلة بمنافع الأرض على بُعْدِ ما بينهما من المسافة، حتى لا تخرج الأَرض شيئًا إلا بما ينزل من السماء من الماء؛ ليعلم أَن منشئ السماءِ هو منشئ الأَرض؛ لأَنه لو كان منشئ هذا غير منشئ الآخر لكان لا معنى لاتصال منافع هذا بمنافع الآخر على بُعْدِ ما بينهما، ولتوهم كون الاختلاف من أَحدهما للآخر.
فإذا كان كذلك دل على أَن منشئهما واحد، لا شريك له ولا ند.
ثم زعم قوم: أَن الأَشياء كلها حِل لنا، طلق، غير محظور علينا، حتى يجيء ما يخظر، فاستدلوا بظاهر هذه الآية بقوله: (رِزقا لَكُم)، وبقوله: (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا). وقال آخرون: لا يدل ذلك على الإباحة؛ وذلك أَن الأَشياء لم تَصِر لنا من كل الوجوه، فهو على الحظْر حتى تجيء الإباحة، ولأَن الأَشياء لا تحل إلا بأسباب تتقدم؛ فظهر الحظْر قبل وجود الأَسباب، فهو على ذلك حتى يجيء ما يُحل وُيبيح.
أَو أَن يقال: خلق هذه الأَشياء لنا محنة امتحنا بها، أَو فتنة فتنا بها؛ كقوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، فُتِنَّا بها؛ وكقوله: (وَلنبلُوَنَّكُم
فيين لِكل منهم ملْكًا على حدة بسبب يكتسب به؛ لئلا يحملهم على التفاني والفساد، وباللَّه نستعين.
وقوله: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا).
أي: أَعدالًا، وأَشكالًا في العبادة، وكله واحد.
ند الشيء: هو عِدْلهُ. وشكلُه: هو مثلُه "
وقوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
الأَول: أَن لا نِدَّ، ولا عِدْل، ولا شكل؛ لما أَراكم من إِنشاءِ هذه الأَشياء ولم تروا من ذلك ممن تعبدونه شيئًا.
والثاني: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ولما أَنشأ فيكم من الأَشياءِ ما لو تدبرتم وتفكرتم وتأَملتم، علمتم أنه لا نِد له ولا شكل له؛ كقوله: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (٢٣)
من القرآن أنه مُخْتَلَق مفترى، وأنه ليس منه؛ كقولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) وقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، و (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ).
وقوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).
أي: ائْتوا أَنتم بمثل ما أَتى هو؛ إذ أنتم وهو سواء في الجوهر والخلقة واللسان، ليس هو أَولى بذلك منكم؛ أَعني: في الاختلاق.
وقوله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
أي: استعينوا بآلهتكم الذين تعبدون من دون اللَّه، حتى تعين لكم على إتيان مثله إن كنتم صادقين في مقالتكم أنه مختلق مفترى.
ويقال: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ). يعني شعراءَكم وخطباءَكم ليعينوكم على إتيان مثله.
ويقال: ادعوا شهداءَكم من التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائِر الكتب المنزلة على الرسل السالفة أنه مختلق مفترى.
وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (٢٤)
يحتمل وجوهًا:
يحتمل أنهم اقروا على أثر ذلك بالعجز عن إتيان مثله من غير تكلف ولا اشتغال كان منهم لما دفع عَزَّ وَجَلَّ عن أطماعهم إتيان مثله نظمًا، ولا اجتهدوا كل جهدهم، وتكلفوا
فدل إقرارهم بالعجز عن إتيان مثله، وترك اشتغالهم بذلك: أَنه كلام رب العالمين، مُنَزل على نبيه ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).
الوَقود بالنصب هو الحَطب، وبالرفع هو النار.
أَخبر عَزَّ وَجَلَّ أن حَطبها الناس كلما احترقوا أُعيدوا وبُدّلوا؛ كقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا). والحجارة فيه وجهان:
قيل: هي الكبريت.
وقيل: الحجارة بعينها لصلابتها، وشدتها أشد احتراقًا، وأكثر إحماء.
و (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).
في الآية دلالة أنها لم تعد لغير الكافرين.
وهى تنقض على المعتزلة قولهم حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، ولم يطلقوا له اسم الكفر، وفي زعمهم أَنها أُعدت للكافرين أيضًا، وإن كان تعذيب المؤمن بمعاصي يرتكبها، وأَوزار حملها، وفواحش تعاطاها؛ وذلك أَن اللَّه يعذب من يشاء بما شاءَ، وليس إلى الخلق الحكم في ذلك؛ لقوله: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).
فإن قالوا: إن أَطفال المشركين في الجنة، والجنة لم تُعدَّ لهم، وإنما أُعدت للمؤمنين، ثم جاز دخول غيرهم فيها وتخليدهم. وكذلك النَّار وإن كانت معدة للكافرين، جاز لغير الكافر التعذيب والتخليد فيها، كقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ...) الآية، شرط الكفر بعد الإيمان.
ثم من ينشأ على الكفر، والذي كفر بعد الإيمان سواء في التخليد، فكذلك مرتكب الكبيرة، والكافر، سواء في التخليد.
فيقال لهم: إن كل كافر تشهد خلقته على وحدانية ربه؛ فإذا ترك النظر في نفسه، واختار الاعتناد فصار كَكُفْرٍ بعد الإيمان؛ لأَنه لم يكن مؤمنًا ثم كفر.
وأَما قولهم في الأطفال؛ فإنهم إنما خُلِّدوا الجنة جزاء لهم من ربهم، ولله أَن يعطي
وقوله تعالى :( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) الوَقود بالنصب، هو الحطب، وبالرفع، هو النار ؛ أخبر٥ عز وجل أن حطبها الناس / ٦-أ/ كلما٦ احترقوا أعيدوا، وبدلوا كقوله ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) [ النساء : ٥٦ ].
( والحجارة ) فيه وجهان : قيل : هي الكبريت، وقيل : الحجارة بعينها لصلابتها، وشدتها أشد احتراقا وأكثر إحماء.
وقوله تعالى :( أعدت للكافرين ) في الآية دلالة أنها لم تعد لغير الكافرين، وهي تنقض على المعتزلة قولهم حين خلدوا صاحب الكبيرة في النار، ولم يطلقوا له اسم الكفر٧، [ وفي زعمهم ]٨ أنها أعدت للكافرين أيضا، وإن كان تعذيب المؤمن بمعاص يرتكبها وأوزار حملها وفواحش تعاطاها. وذلك أن الله تعالى يعذب من يشاء بما شاء، وليس إلى الخلق الحكم في ذلك لقوله :( ولا يشرك في حكمه أحدا ) [ الكهف : ٢٦ ].
فإن قالوا : إن أطفال المشركين في الجنة، والجنة لم تعد لهم، وإنما أعدت للمؤمنين، ثم جاز دخول غيرهم فيها وتخليدهم. وكذلك النار، وإن كانت معدة للكافرين جاز لغير الكافر التعذيب والتخليد فيها، كقوله ( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) الآية [ آل عمران : ١٠٦ ] شرط الكفر بعد الإيمان. ثم من ينشأ على الكفر والذي كفر بعد الإيمان سواء في التخليد، فكذلك مرتكب الكبيرة والكافر سواء في التخليد، فيقال لهم : إن كل كافر تشهد خلقته على وحدانية ربه ؛ فإذا ترك النظر في نفسه، واختار [ الإعناد، صار ]٩ ككفرٍ بعد الإيمان لأنه لم يكن مؤمنا، ثم كفر.
وأما قولهم في الأطفال فإنهم إنما أخلدوا١٠ [ في ]١١ الجنة جزاء لهم من ربهم، ولله١٢ أن يعطي الجزاء من شاء بلا فعل ولا صنع كان منه فضلا وكرامة. وذلك في العقل جائز إعطاء الثواب بلا عمل على الإفضال والإكرام.
وأما التعذيب فإنه غير جائز في العقل بلا ذنب يرتكبه، والله أعلم.
٢ - من ط ع..
٣ - من ط ع..
٤ - في ط م: ورسوله..
٥ - في ط ع: أخبره..
٦ - من ط م و ط ع في الأصل: كلها..
٧ - من ط م، في الأصل و ط ع: الكفرة.
٨ - من ط م..
٩ -في الأصل و ط م: الإعناد، فصار، في ط ع: الاختيار، فصار..
١٠ - في ط م: خلدوا..
١١ - من ط ع..
١٢ - من ط م و ط ع، في الأصل: والله..
وأَما التعذيب فإنه غير جائِز في العقل بلا ذنب يرتكبه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (٢٥)
الآية تنقض قول من جعل جميع الطاعات إيمانًا؛ لما أثبت لهم اسم الإيمان، دون الأَعمال الصالحات، غير أَن البشارة لهم، وذهاب الخوف عنهم إنما أُثبت بالأَعمال الصالحات.
ويحتمل: الأَعمال الصالحات: عمل القلب، وهو أن يأْتي بإيمان خالص لله، لا كإيمان المنافق بالقول دون القلب.
وقوله: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
يعني بساتين.
وقوله: (ومِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) قيل فيه بوجوه:
قيل: إن البساتين ليست هي اسم الأَرض والبقعة خاصة، ولكن ما يجمع من الأشجار، وما ينبت فيها من أَلوان الغروس المثمرة فعند ذلك يسمى بستانًا.
وقوله: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي: من تحت أشجارها، وأغراسها الأَنهار.
وقيل: من تحتها: مما يقع البصر عليها، وذلك أَنزه عند الناس، وأَجلى، وأَنبل.
وقيل أَيضًا: من تحتها أَي: من تحت ما علا منها من القصور والغرف، لا تحت الأَرض مما يكون في الدنيا في بعض المواضع يكون الماء تحت الأَرض.
دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " تحت كل شعرة جنابة "؛ أي تحت ما علا، لا تحت الجلد؛
وقوله: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ).
قيل فيه بوجوه:
(رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا.
وقيل: (رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ)، في الجنة قبل هذا.
وقوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا).
قيل فيه بوجوه:
قيل: (مُتَشَابِهًا) في المنظر، مختلفًا في الطعم.
وقيل: (مُتَشَابِهًا) في الطعم مختلفًا في رأي العين والأَلوان؛ لأَن من الفواكه ما يستلذ بالنظر إليها دون التناول منها.
وقيل: (مُتَشَابِهًا) في الحسن والبهاءِ.
وقوله: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ).
قيل فيه بوجوه:
(مُطَهَّرَةٌ) من سوءِ الخلق والدناءَة، ليس كنساءِ الدنيا لا يسلمن عن ذلك.
وقيل: (مُطَهَّرَةٌ) من الأمراض، والأَسقام، وأَنواع ما يبلى به في الدنيا من الدرن، والوسخ والحيض.
وقيل: (مُطَهَّرَةٌ) لصفاءِ جوهرها؛ كما يقال: يرى مخ ساقيها من كذا وكذا.
وقيل: (مُطَهَّرَةٌ) مختارة مهذبة.
وقوله: (وَهُم فِيهَا خَالِدُونَ).
أي: يقيمون أَبدا.
فالآية ترد على الجهمية قولهم؛ لأَنهم يقولون بفناءِ الجنة، وفناءِ ما فيها؛ يذهبون إلى أَن اللَّه تعالى هو الأَول، والآخر، والباقي، ولو كانت الجنة باقية غير فانية لكان ذلك
لكن ذلك وهمٌ عندنا؛ لأَن اللَّه تعالى هو الأَول بذاته، والآخر بذاته، والباقي بذاته، والجنةُ وما فيها باقية بغيرها.
ولو كان فيما ذكر تشبيه لكان في العالم، والسميع، والبصير تشبيه، ولكان في الخلق أيضًا في حال البقاءِ تشبيه، فإذا لم يكن فيما ذكرنا تشبيه لم يكن فيما تقدم تشبيه.
وأيضًا: فإن اللَّه تعالى جعل الجنة دارًا مطهرة من المعايب كلها؛ لما سماها دار قدس، ودار سلام.
ولو كان آخرها للفناءِ كان فيها أَعظم المعايب؛ إذ المرء لا يهنأُ بعيش إذا نغص عليه بزواله؛ فلو كان آخره بالزوال كان نعمة منغصة على أَهلها؛ فلما نزه عن العيوب كلها -وهذا أَعظم العيوب- لذلك كان التخليد لأَهلها أولى بها.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).
كأن هذا - واللَّه أعلم - يخرج جوابًا على أثر قول قاله الكفرةُ لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره بعض أَهل التأْويل - فقالوا: ما يستحيي ربك أَن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه، وملوكُ الأَرض لا يذكرون ذلك، ويستحيون؟
فقال عَزَّ وَجَلَّ جوابًا لقولهم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا...) الآية.
لأَن ملوك الأَرض إنما ينظرون إلى هذه الأَشياءِ بالاستحقار لها، والاستذلال؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف، والأنَفَة.
واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يستحيي عن ذلك؛ لأَن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الجثة والجسم، أَكبر من الكبارِ منها والعظام؛ لأَن
فأُولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة، والخساسة أنفًا منهم وإِنكافًا.
ثم اختلف أَهل الكلام في إضافة الحياءِ إِلى اللَّه تعالى:
فقال قوم: يجوز ذلك بما رُويَ في الخبر: " إن اللَّه يستحيي أَن يعذب من شاب في الإسلام " ولأنه يجوز كالتكبر، والاستهزاءِ، والمخادعة، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم.
وقال آخرون: لا يجوز إضافته إلى اللَّه تعالى؛ لأَن تحته الإنكاف والأَنفة، وذلك عن اللَّه تعالى مَنْفِيٌّ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا، والحياء الترك؛ أَي: لا يترك ولا يدع.
وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
أي: علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأَجسام والجثة حق؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأُعجوبة والحكمة واللطافة.
وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا).
لم ينظروا فيها لما فيها من الأُعجوبة والحكمة، ولكن نظروا للخساسة والحقارة.
وقوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا).
الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنه جواب قولهم: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) فقال: أَرَاد أَن يضل بهذا المثل كثيرًا، وأَراد أن يهدي به كثيرا، أَضل به من علم منه أَنه يختار الضلالة، ويهدي به من علم أَنه يختار الهدى، أراد من كل ما علم منه أَنه يختار
ويُؤثر، واللَّه أَعلم.
وهم يقولون: بل أَراد أن يهدي به الكل، ولكنهم لم يهتدوا.
والثاني: يُضلُّ به كثيرًا؛ أَي: خَلَقَ فِعْلَ الضلالة من الضال، وخلقَ فعل الاهتداءِ من المُهتدِي. وقد ذكرنا فيما تقدم.
وقوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).
وقوله: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ (٢٧)
عهد اللَّه يكون على وجهين:
عهدُ خِلْقه؛ لما يشهد خَلْقه كُل أحدٍ على وحدانية الرب؛ كقوله: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
وكقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ...) الآية. إنه إن نظر في نفسه وتأَمل عرف أن له صانعًا وأنه واحد لا شريك له.
وعَهْدُ رسالةٍ على أَلْسِنة الأَنبياءِ والرسل عليهم السلام؛ كقوله: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي...) والآية.
وكقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...) الآية.
فنقضوا العهدين جميعًا؛ عهدَ الخلقة، وعهد الرسالة.
وقوله: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).
يَحْتَمِل وجهين:
يقطعون الإيمان ببعض الرسل وقد أُمروا بالوصل؛ كقوله: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ).
وقيل: يقطعون ما أمر اللَّه أن يوصل من صلة الأرحام.
وقوله: (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ).
قيل فيه بوجهين:
يفسدون بما يأمرون في الأرض بالفساد؛ كقوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ).
وقيل: يفسدون، أي: يتعاطَوْن بِأنفسهم في الأَرض بالفساد؛ كقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا).
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
يحتمل أَيضًا وجهين:
خسروا لما فات عنهمِ، وذهب من المنى والأَماني في الدنيا.
ورُويَ عن الحسن أنه قال في قوله: (هُمُ الْخَاسِرُونَ): أي: قذفوا أَنفسهم -
وقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (٢٨)
يحتمل وجوهًا:
" كيف ": من أَين ظهرت لكم الحجةُ أَن تعبدوا من دون اللَّه من الأَصنام وغيرها أَنه حق، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت، ولا الإماتةُ بعد الإحياءِ؟
وقيل: كيف تكفرون بالبعث بعد الموت (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا) يعني نُطَفًا (فَأَحْيَاكُمْ)، وأَنتم لا تنكرون إنشاء الأَول فكيف تنكرون البعث والإحياء بعد الموت؛ وقيل: كيف تكفرون بالإحياءِ والبعث بعد الموت، وفي العقل أن خَلْقَ الخلْق للإفناءِ والإماتة من غير قصد العاقبةِ عبث ولعب؛ لأَن كل بانٍ بنى للنقض فهو عابث، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل، فكيف تجعلون فعله عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ لو لم يجعل للخلق دارًا للجزاءِ، والعقاب كان في خلقه إياهم عابثًا هازلًا خارجا من الحكمة؟! تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا.
وقوله: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
أَي: تعلمون أَنكم تُرجَعون إليه، وكذلك المصير والمآب.
والثاني: ترجعون إلى ما أعَد لَكُم من العذاب. احتج عليهم بما أَخبرهم اللَّه أَنه أَنشأهم بعد الموتة الأُولى، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأُخرى (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كأنه يقول: ثم اعلموا أَنكم إليه ترجعون.
قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (٢٩)
قيل: إنه صلة قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا) أي: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض ما يدلكم على وحدانيته؛ لأَنه ليس شيء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته.
ويحتمل: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأَرض نعيمًا من غير أَن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا لَهُ عليها، فكيف وجهتم أَنتم الشكر فيها إلى غيره؟
ويحتمل (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ): محنة يمتحنكم بها في الدنيا؛ كقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، ثم لتجزون في دار أخرى فكيف أنكرتم البعث؟!
وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: استوى إلى الدخان؛ كقوله: (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ).
وقيل: استوى: تَمَّ؛ كقوله: (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) أي: تَمَّ.
وقيل: استوى: أَي: استولى.
والأَصل عندنا في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) و (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وغيرها من الآيات من قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ...) الآية. وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ...) الآية، من الآيات التي ظنت المشبِّهةُ أَن فيها تحقيق وصف اللَّه تعالى بما يستحق كثير من الخلق الوصفَ به على
في الحقيقة إنها تحتمل وجوهًا:
أحدها: أَنْ نَصِفَهُ بالذي جاء به التنزيل على ما جاء، ونعلم أَنه لا يشبه على ما ذُكر من الفعل فيه بغيره؛ لأنك بالجملة تعتقد أن اللَّه ليس كمثله شيء، وأنه لا يجوز أَن يكون له مثل في شيء؛ إذ لا يوجد حدثه فيه، أَو قدم ذلك الشيء من الوجه الذي أشبه اللَّه.
وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعًا، مع ما لم يجز أَن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره، وأنه حي، قدير، سميع، بصير، نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أَحد الخلائق.
وإذا بطل هذا بطل التشابه وانتفى، ولزم أَمر السمع والتنزيل على ما أَراد اللَّه. وبالله التوفيق.
والثاني: أَن يمكن فيه معان تُخرِج الكلام مَخْرج الاختصار والاكتفاءِ بمواضع إفهام في تلك المواضع على إِتمام البيان، وذلك نحو قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) أَي: بالملك. وذلك كقوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ...) أَي: بربك (فَقَاتِلَا)؛ إذ معلوم أَنه يقاتل بربه؛ ففهم منه ذلك.
وكذلك معلوم أَن الملائكة يأتُون، فكأنه بين ذلك.
يدل عليه قوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، وكذلك (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ...) الآية.
ومما يوضح أَنه لم يكن أَحدٌ اعتقد أَو تصوَّر في وهْمِه النظرُ لإتيان الربِّ ومجيئه، ولا كان بنزوله وعد بنظر. وكان بِنزولِ الملائِكة؛ كقوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى...)، وقوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) فيما ذكرنا عظيمُ أَمرهم، وجليلُ شأْنهم، ومثله في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرشِ اسْتَوَى)، مع ما له وجهان:
أَحدهما: أَن يكون معنى العرش الْملك والاستواءُ التام الذي لا يوصف بنقصان في ملك، أَو الاستيلاءُ عليه، وألَّا سلطان لغيره، ولا تدبير لأَحد فيه.
والثاني: أَن يكون العرش أَعلى الخلق وأَرفعه.
ويحتمل : كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض نعيما من غير أن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا له عليها ؟ [ فكيف ]٢ وجهتم أنتم الشكر فيها إلى غيره ؟
ويحتمل : خلق لكم ما في الأرض محنة يمتحنكم بها في الدنيا كقوله :( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) [ هود : ٧ والملك : ٢ ]، ثم لتجزون في دار أخرى، فكيف أنكرتم البعث ؟
وفي٣ خلق الخلق في الدنيا للفناء [ وإحيائهم في الآخرة ]٤ حكمة، وفي إنكارها ذهاب الحكمة.
وقوله تعالى :( ثم استوى إلى السماء ) قيل : فيه وجوه٥ : قيل : استوى [ إلى ]٦ الدخان كقوله :( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) [ فصلت : ١١ ]، وقيل : استوى : تم كقوله :( بلغ أشده واستوى ) [ القصص " ١٤ ]. أي تم. وقيل : استوى أي استولى.
والأصل عندنا في قوله :( ثم استوى إلى السماء ) و ( استوى على العرش ) [ الأعراف : ٥٤ و. . . ] وغيرها من الآيات من قوله :( وجاء ربك والملك صفا صفا ) [ الفجر : ٢٢ ] وقوله :( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) [ البقرة : ٢١٠ ] الآية من الآيات التي ظنت٧ المشبهة أن فيها تحقيق وصف الله تعالى بما يستحق كثير من الخلق الوصف به على التشابه.
في الحقيقة أنها تحتمل وجوها :
أحدها : أن نصفه بالذي جاء به التنزيل على ما جاء، ونعلم أنه لا يشبه على ما ذكر من الفعل فيه بغيره لأنك بالجملة تعتقد٨ أن الله ( ليس كمثله شيء ) [ الشورى : ١١ ] وأنه لا يجوز أن يكون له مثل٩ في شيء ؛ إذ لا يوجد حدَثُه فيه أو قدم ذلك الشيء من الوجه الذي أشبه الله. وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعا مع ما لم يجز أن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره، وأنه حي قدير سميع بصير نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أحد الخلائق. وإذا [ بطل هذا بطل ]١٠ التشابه، وانتفى، ولزم أمر السمع والتنزيل على ما أراد الله، وبالله التوفيق.
والثاني أن يمكن فيه معان تخرج الكلام مخرج الاختصار والاكتفاء بمواضع إفهام في تلك المواضع على إتمام البيان ؛ وذلك نحو قوله :( وجاء ربك والملك صفا صفا ) [ الفجر : ٢٢ ] أي بالملك. وذلك كقوله :( فاذهب أنت وربك فقاتلا ) [ المائدة : ٢٤ ] [ أي بربك ( فقاتلا )١١ ؛ إذ معلوم أنه يقاتل بربه، ففهم منه ذلك. وكذلك معلوم أن الملائكة يأتون فكأنه بين ذلك ؛ يدل عليه قوله :( ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) [ الأنبياء : ٢٧ ] وكذلك [ قوله ]١٢ :( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) [ البقرة : ٢١٠ ] الآية.
ومما يوضح أنه لم يكن أحد اعتقد أو تصور في وهمه١٣ النظر لإتيان الرب ومجيئه، ولا كان بنزوله وعد ينظر١٤، وكان بنزول١٥ الملائكة كقوله :( يوم يرون الملائكة لا بشرى ) [ الفرقان : ٢٢ ] الآية وقوله :( ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ) [ الحجر : ٨ ] في ما ذكرنا عظيم أمرهم وجليل شأنهم.
ومثله١٦ في قوله :( الرحمان على العرش استوى ) [ طه : ٥ ] مع ماله وجهان :
أحدهما : أن يكون معنى العرش الملك والاستواء التام الذي لا يوصف بنقصان في ملك أو الاستيلاء عليه وأن لا سلطان لغيره ولا تدبير لأحد فيه.
والثاني : أن يكون العرش أعلى الخلق وأرفعه، وكذلك تقدره١٧ الأوهام، فيكون موصوفا بعلوه على التعالي عن الأمكنة وأنه على ما كان قبل كون الأمكنة، وهو فوق كل شيء، أي بالغلبة والقدرة والجلال عن الأمكنة، ولا قوة إلا بالله.
وأصله ما ذكرنا : ألا نقدر فعله بفعل الخلق ولا وصفه بوصف الخلق لأنه أخبر ( ليس كمثله شيء ) [ الشورى : ١١ ]
وقوله تعالى :( فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم ) مرة١٨ قال :( فسواهن )، ومرة قال :( خلق سبع سموات ) [ الطلاق : ١٢، والملك : ٣ ]، ومرة قال :( فقضاهن سبع سموات ) [ فصلت : ١٢ ] الآية١٩، ومرة قال :( بديع السماوات ) [ البقرة : ١١٧ ] وكله يرجع إلى واحد.
٢ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
٣ - أدرج بعدها في النسخ الثلاث: بيان حكمة..
٤ - في النسخ الثلاث: والإحياء للآخرة..
٥ - من ط ع، في الأصل: وجوها، في ط م: بوجوه..
٦ - من ط م..
٧ - من ط م و ط ع، ، في لأصل: ظننت..
٨ - من ط م و ط ع، ، في الأصل: تعقد..
٩ - في ط ع: مثلا..
١٠ - من ط م و ط ع،: بطل هذا، في الأصل: بطل..
١١ - ساقطة من ط ع..
١٢ - من ط ع..
١٣ - من ط م، في الأصل و ط ع: وجه..
١٤ - في ط م: بنظر.
١٥ - من ط م، في الأصل و ط ع: ينزل..
١٦ - ساقطة من ط م..
١٧ - من ط م و ط ع، ، في الأصل: تقدير.
١٨ - من ط م و ط ع، ، في الأصل: ومرة..
١٩ - ساقطة من ط ع..
وأَصله ما ذكرنا: ألا نُقَدرَ فعلَه بفعل الخلق، ولا وصفه بوصف الخلق؛ لأنه أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
وقوله: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
مرة قال: (فَسَوَّاهُنَّ)، ومرة قال: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، ومرة قال: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ...) الآية، ومرة قال: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وكله يرجع إلى واحد.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩).
وقوله: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ).
قال الشيخ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: القول فيما يتوجه إليه مما تضمن قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة، والكشفُ عما قال فيها أهل التفسير من غير شهادة لأحد منا لإصابة جميع ما فيه من الحكمة أَو القطع على تحقيق شيء، ووجهوا إليه بالإحاطة.
ولكن الغالب مما يحتمله تدبير البشر، ويبلغه مبلغ علمنا مما يجوز أَن يوصَف به أَهلُ المحنة، وإن كان تنزيه الملائِكة عن كل معنى فيه وحشة أَوْلى بما وصفهم اللَّه من الطاعة
وقوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) إلى قوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ...) الآية.
وقوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ...) الآية.
وقوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ).
وما جاءَت به الآثار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من وصف طاعتهم لله، ومواظبتهم على العبادة.
وما لا يذكر عن أحد من الرسل وصف ملك بالمعصية، بل إنما ذلك يذكر عن بعض السلف مما لا لوم في مخالفته في فروع الدِّين، فضلا من أَن يبسط اللسان في ملائِكة الله سبحانه، وباللَّه المعونةُ والعصمة.
قال اللَّه تعالى لملائِكته: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ...) الآية.
زعم قوم أن هذا زلة منهم، لم يكن ينبغي لهم أن يقابلوا قوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بهذا؛ لما يخرج مخرج الاستعتاب بقولهم: أَتفعل ونحن نفعل كذا؟! كالمنكرين لفعله.
وأَيدوا ذلك بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنه لولا كان في ذلك طرف من الجهل يحذر عن مثله قائِلُه، لم يتبع قولهم هذا، ومعلوم عندهم أن يكون هو يعلم ما لا يعلمون.
وأَيد ذلك بما امتحنهم بالإنباءِ عن أَسْماءِ الأَشياءِ، مقرونًا بقوله: (إِن كُنتُم صَادِقِينَ) ولولا أنه سبق منهم ما استحقوا عليه التوعد لم يكن لذلك الشرط عند القول: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) وفائِدة مع ما يوضع موضع التوبيخ والتهدد.
ومنهم من قال: إن قوله: (أَتَجْعلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا) قولُ إبليس، هو الذي تعرض بهذا القول، وإن كان الكلام مذكورًا باسم الجماعة؛ لأَنه جائِز خطاب الواحد على إرادة الجماعة، وذكر الجماعةِ على إرادة الواحد، وإن كان خطاب اللَّه تعالى لجملة ملائِكته حيث قال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ...) الآية.
قوله: (أَنْبِئُونِي) بكذا، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ذلك، ولا يحتمل أَن يأْمرهم بذلك وهم لا يعلمون. ولو تكلفوا الإخبار لَلَحِقَهم الكذبُ في ذلك.
ثبت أن ذلك على التوبيخ والتهدد لما فرط منهم.
ولكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ: نحو قولِهِ: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).
وقوله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ...) الآية.
ولملائِكته: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِ).
واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة.
ودليلُ المحنة ما بينا من الفعل بالأمن والخوف المذكورين، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى، وما أوعدوا لو ادعَوا الألوهية؛ ولما لم يحتمل أن يُحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخير والشر، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية، ولا تحتملها البنْية؛ إذ الطاعة هي في اتقاءِ المعصية.
وقال أَيضًا: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ)، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية.
فثبت أن المعاصي منهم ممكنة؛ ولذلك خَطَرُ طاعاتهم، وعِظمُ قَدرِ عباداتهم، والممتَحَن مَخُوف منه الزلة والهفوة، بل المعصية، وكل بلاء إلا أَن يعصمه اللَّه تعالى ويحفظه، وذلك من اللَّه إفضال وإحسان لا يُستَحق قبلَه، ولا يُلْزمه أحد من خلقه.
فجائِز الابتلاء به مع ما في زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق، وقطع الإياس، والحث على الفراغ إلى اللَّه تعالى بالعصمة والمعونة؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإِن جَل قَدرُهُ عند ما وُكِل إلى نفسه مما يعلم اللَّه أَنه يَختار في شيء الخلاف، لا أَنه يفزع إليه وينزع إليه.
وعلى ذلك معنى زَلات الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وزعم قوم أَن ذلك ليس منهم بالزلة، بل اللَّه تعالى عصمهم عنها، ولكن قوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) يخرج على وجهين:
أَحدهما: على السؤال بعد أَن أعلمهم اللَّه أَنهم يفعلون؛ فقالوا: كيف يَفْعلون ذلك، وقد خلقتهم ورزقتهم وأَكرمتهم بأَنواع النعم، ونحن إذ خلقتنا نُسبحك بذلك، ونقدس
أو كيف تحتمل عقولهم عصيانًا -مع عظم نعمتك عليهم- ونحن معاشر الملائِكة تأْبى علينا العقول ذلك؟!
فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)..
أَي: أَمْتحنهُم مع ما ركب فيهم من الشهوات التي -لغلبتها على أَنفسهم- تعتريهم أَنواع الغفلة، ويصعب عليهم التيقظ؛ لكثرة الأَعداءِ لهم، وغلبة الشهوات؛ فلما عظمت المحنة عليهم يكون منهم ذلك.
وهذا الوجه يخرج على سؤال الحكمة في خلق من يعصيه.
فأخبر أَنه يعلم ما لا تعلمون؛ إذ بذلك بيان الأَولياءِ والأعداءِ، وبيان أن اللَّه لا يخلق من يخلق لحاجته له، أو لمنفعة له؛ إذ لو كان كذلك لم يخلق من يخالفه في الفعل الذي أُمِر به.
وإنما خلق الخلق بعضهم لبعض عِبرًا وعِظةً؛ فيكون في عقوبة العُصاة ووعيدهم مَزْجَز لغيرهم وموعظة، ولغير ذلك من الوجوه.
والوجه الآخر: أَن يكون المعنى من قوله: (أَتَجْعلُ فِيهَا) على الإيجاب، أَي: أَنت تفعل ذلك؛ إذ ليس عليك في خلق من يعصيك ضرر، ولا لك في خلق من يطيعك نفع، جل ثناؤك، من أَن يكون فعلك لأحد هذين.
وذلك كقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ...) الآية. على إيجاب ذلك، لا على الاستفهام.
مع ما يحتمل أن الأَلف زائِدة؛ كقوله: (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) بمعنى: إنكم تريدون، وذلك يرجع إلى الأول.
وقال: ؛ معنى قوله: (إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ): أن اللَّه قد كان أخبرهم عن الذين يفسدون، ولم يكن أَعلمهم ما فيهم من الرسل والأَخيار، فهو يعلم ما لا تعلمون من الأَخيار فيهم؛ ولذلك ذكَّرهم عند سؤال الإنباءِ بما أَعلمهم من عظيم امتنانه على آدم أَن جعله بمعنى نبيء إلى الملائكة بما علمهم الأسماء.
ولم يكن بلغ توهمهم أَن في البشر ما يحتاج المخلوقون من النور -الذي هو سبب
فأَراهم اللَّه بذلك ليعلموا أن ليس طريق المعرفة، والعلم بالأَشياءِ الخلقة، ولكن لطفُ اللَّه وامتنانُه، ولا قوة إلا باللَّه.
وقال قوم: كان منهم من استحق العتاب من طريقِ الخطر بالقلوب، لا من طريق الزلة -التي هي العصيان- ولكنهم يعاتبون على أمثال ذلك -وإن لم تبلغ بهم المعصية- لعلو شأْنهم، ولعظمِ قدرهم.
كما قد عاتب اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أشياءَ وإن لم يكن ذلك منه معصية؛ كقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنك...) الآية.
وقوله: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ).
وقوله: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ...) الآية. ولم يكن إثم في ذلك، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ...) الآية؛ لأنه، من غير أَن كان منه عصيان؛ فمثل ذلك أمر الملائِكة.
ثم تكلموا في معنى ذلك:
فمنهم من يقول: ظنوا أنهم أكرم الخلق على اللَّه، وأَنه لا يُفَضِّل أَحدًا عليهم.
ومنهم من يقول: ظنوا أَنهم أعلم من جميع من يخلق من جوهر النار أَو التراب؛ من حيث ذكرت من جوهرهم، أَو لعظم عبادتهم لله، وعلمهم بأن في الجن والإنس عصاة؛ فلهذا امتحنهم بالعلم، ثم بالسجود؛ لإظهار علو البشر وشرفه، وعظم ما أكرموا به من العلم.
ومنهم من أيقول: ظنوا أنهم فضلم ابفعلهم: ، (دنتحُ مجَتدِكَ وَنُقَذِسٌ لَك).
وقوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
قال قوم: يريد به آدم عليه السلام، يخلف الملائكة في الأرض ومن تقدمه من الجان.
وذلك بعيد؛ كأنهم قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) ولم يكن آدم - عليه السلام - بالذي كان يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، بل كان يسبح بحمده ويقدس له.
وجائز أَن يكونوا على وجه الأَرض، إذ هي مخلوقة لهم قرارا ومِهادًا ومعادًا، وهم جُعِلوا سكانهَا وعُمَّارها - أَن يكونوا خلفاء، في إظهار أَحكام اللَّه تعالى ودينه، كقوله لداود عليه السلام: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)، فجعله كذلك ليحكم بين أهلها بحكم اللَّه ولا يتبع الهوى، وبذلك أُمر بنو آدم.
وقولُه: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
قيل: بأمرك.
وقيل: بمعرفتك.
وقيل: بالثناءِ عليك؛ إذ كانوا أَضافوا ذلك إلى أنفسهم دون أن يذكروا عظيم مِنَّة الله عليهمِ بذلك، واختصاصَه إياهم بالتوفيق له؛ إذ كيف ذكروا من نُعُوت البشر شرَّ ما فيهم، دون أن يحمَدوا اللَّه -بما وفقوا له- أَو يدعوا للبشر بالعصمة والمغفرة مما ابتلوا.
ولذلك - واللَّه أعلم - صَرفوا شغلهم من بعد إلى الاستغفار لمن في الأَرض، ونصر أولياءِ اللَّه، ولا قوة إلا باللَّه.
ومن الناس من أَخبر في ذلك: أَن إبليس سأَلهم: لو فُضل آدمُ عليهم، وأُمِروا بالطاعة له ما يصنعون؟
فأَظهر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنه علم ما كتم إِبليس من العصيان، وما أَظهروا هم من الطاعة. وهذا شيء لا يعلم حقيقته؛ لأَن المعاتبة كانت في جملة الملائكة، والمخاطبة بالإنباءِ، وما أُلحق به وأَمر بالسجود وكان في غيره.
ولم يحتمل أَن يكونوا يؤاخذون بسؤال إبليس اللعين.
ولكن يحتمل وجوه العتاب الإخبار فيما لم يبلغوا العصيان، واللَّه الموفق.
وقوله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (٣١)
يحتمل: أن يكون علم لهم.
ويحتمل: أن يكون علَّم بإِرسال ملك من غير الذين امتحنوا به. وفي ذلك تثبيت أحد وجهين:
وإما أن يكون اللَّه تعالى خلق فعل التعلم الذي يعلم المرء فيما يضاف فيه إلى الله تعالى أَنه علم.
وكذا قوله: (علَّمَهُ البَيَانَ).
وكذا قوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ)، ولا يحتمل هذه الأَسباب لما كانت له كلها، ولم يكن تعلَّم حقيقة ليؤذنه.
وكذلك قول الملائكة: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، واللَّه الموفق.
وقوله: (فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ).
ظاهره أَمر، ولكنه يحتمل التوعد والمعاتبة على ما بينا، وذلك في القرآن كثير.
وإن كان في الحقيقة أَمرًا، ففيه دلالة جواز الأَمر فيما لا يعلمه المأمور إذا كان بحيث يحتمل العلم به إلى ذي العلم تبين له إذا طلب واستوجب رتبة التعلم والبحث.
ويحتمل: أَن يكونوا نُبِّهوا حتى لا يسبق إليهم -عند إعلام آدم- أَن ذلك من حيث
يدركونه لو تكلفوا.
أَو أَراد أن يريَهم آية عجيبة تدل على نبوته، ذكرهم عجزهم عن ذلك، وألزمهم الخضوع لآدم عليه السلام في إفادة ذلك العلم له، كما قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، ذكره أَولًا حالَه وحالَ عَصاه، ليعلم ما أَراه ما في يده من آية نبوته على نبينا وعليه السلام.
وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤).
قوله: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في المعاني التي ذكروا؛ إذ كنتم مذ خُلِقتم موصوفين بالصدق.
أو على تحذير القول بلا علم وكأَنه قال: واصدقوا، واحذروا القول بالجهل. وفي ذلك أَنهم لم يتكلفوا بالقول في شيء لم يعلمهم اللَّه تعالى.
قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان: هذا يبطل قول المنجمة والعَافة بدعواهم على
وفي قصة آدم عليه السلام دلالة نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ أَخبر نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما علم بما في غير القرآن من الكتب السماوية من غير أَن عُرِف بالاختلاف إليهم، أَو معرفة الأَلسن التي بها ذكرت في كتبهم. ذكرَها على ما لم يَدع أَحد -له العلمُ بها- النكيرَ عليه؛ ليُعلم أَنه باللَّه علم ذلك.
وفيها دلالة فضل آدم عليه السلام أَبِي البشر؛ إذ أَحوجَ ملائكتَه إليه لاقتباس أَصل الأَشياءِ، وهو العلم الذي كل خير له كالتابع، وبه يصلح وينفع، ولا قوة إلا باللَّه.
وفيها دلالة محنة الملائكة بوجهين:
أَحدهما: تعلُّمُهم العلم الذي هو أحق شيء يحتمل الخير؛ إذ قد يُلْهَم المرءُ ربما من غير تكلف، وهم قد أمروا به مع ما قدم ما يخرج مخرج التهدد في القول من قوله: (أَنبئوني) وذلك -فيما لا محنة- فاسد مع ما سبق من دليل المحنة.
والثاني: فيما أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام حتى صير مَنْ أَبَى كافرًا إبليسًا.
وفي ذلك أيضًا دليل فضل آدم عليه السلام؛ إذ جُعِل موضعَ عبادةِ خيار خلقِ اللَّه معه، وباللَّه التوفيق.
وفي ذلك أن السجود ليس بنفسه عبادة؛ إذ قد يجوز السجود لأَحد من الخلق كما أمر به لآدم عليه السلام: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)، ولم يجز الأمر بالعبادة لآدم، ولله اسم المعبود، ولو جاز لأحد ذلك لكان غيرُ اللَّه إله.
دليل ذلك تسمية العرب كل شيء يعبدونه إلهًا، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم السجود يحتمل وجهين:
الوجه الأول: الخضوع كما قال اللَّه تعالى: (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ...) الآية.
وقوله: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)، فإن كان المراد منه الخضوع له والتعظيم، فكذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن اللَّه تعالى إذ فضله عليهم بما أطلعه على علوم خصه بها أمره بالخضوع والتعظيم، فذلك الحق على كل محتاج إلى آخر ما به رجاءُ النجاة، أو دَرْك العلو والكرامة أَن يعظمهُ ويبجلهُ، ويخضعَ له.
والثاني: امتحنهم بوجه يُظهر قدرَ الطاعةِ؛ لأَن الخضوعَ لمن يعلو أَمره ويجِلُّ قدره،
فامتحنهم اللَّه به حتى ظهر الخاضع لله، والمستسلم لحقه، والمتكبر في نفسه، وهو إبليس.
وعلى ذلك الغالبُ من أَتباع الأَنبياء عليهم السلام والذين يأْبون ذلك، أن الذي يحملهم على الإباءِ عظمُهم في أنفسهم، وظنُهم أنهم أَحق بأن يكونوا متبوعين، والله أَعلم.
والوجه الثاني: أَن يكون المراد من ذكر السجود حقيقة السجود فهو يُخَرَّج على وجهين:
أَحدهما: أن يُجعل السجود تحية؛ أَلزم الملائِكة تحيةَ آدم به، وهو ابتداء ما أَكرم به أَصل الإنس، وإليه مرجع جملة المؤمنين في الجنة أن يأتيهم الملائكةُ بالتحياتِ والتحف، وإن اختلفت أَنفس التحيات.
وفي ذلك دليل بيِّن: أن السجودَ ليس بعبادة في نفسه؛ إذ قد يؤمر به للبشر، ولا يجوز الأَمر بعبادةِ غيرِ اللَّه؛ فيكون السجود لغيره من حيث الفعل، والعبادةُ به لله كغيره من المعروف، يصنع إلى الخلق.
ومثله أَمرِ سجودِ يعقوب وأَولاده ليوسف عليه السلام، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون السجود له بمعنى التوجه إليه، وهي الحقيقة لله تعالى، نحو السجود إلى الكعبة لله تعالى تعظيمًا له، وتبجيلا لكعبته، وتخصيصًا من بين البقاع. كذلك أَمْرُ السجودِ لآدمَ عليه السلام، تعظيمًا له وتبجيلًا من بين سَائِر البشر، كلاهما سِيَّان.
ثم قد ثبت نسخ السجود للخلق بما رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَنه قال: " لو كان يحل لأَحد أَن يَسجد لأَحد لأَمرت المرأَة أَن تسجد لزوجها ".
ولما جُعِل السجودُ في العبادة عبادةً للمسجود له، واعترافا بعرف الأشرار بعبادة عظمائهم، ومن يعبدونه من دون اللَّه؛ فيصير ذلك المعنى هو السابق في القلوب، وذلك
وفيه أَن السُّنَّة تنسخ الكتابَ؛ لأَن السجود لآدم عليه السلام في الكتاب، ومثله السجود ليوسف، ثم نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فحرم؛ فدل أن السنة تنسخ الكتاب.
وقولُ الملائِكة: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
يُشْبه أَن يكون السابقُ إلى وهمهم مُنًى، أَو خَطَرَ فِعلِ ما كان باللَّه خرج من أَن يعقلوا حكمته؛ إفَا بما لم يبلغهم العلم بها، أَو يخطر ببالهم أَنه تعالى كيف يأْمرهم، وهو يعلم أنهم لا يعلمون بها، أو خطرَ ببالهم من غير تحقيق ذلك، ولكن على ما يُبْلَى به الأَخيارُ؛ كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى...) الآية.
أو كما لا يخلو به الممتَحَنُ عن الخواطر التي تبلغ المحنةُ بهم المجاهدةَ بها في دفعها، وإن لم يكن لهم بما يخطر ببالهم صُنْع.
فقالوا: (سُبْحَانَكَ)؛ نزهوا عَما خطر ببالهم، وسبق إلى وهمهم.
ووصفوا بأَنه (عَليِم): لا يخفى عليه شيء.
(حَكِيم): لا يخطئ في شيء، ولا يخرجُ فعلهُ عن الحكمة، وباللَّه التوفيق والعصمة.
وفي الآية منعُ التكلم في الشيء إلا بعد العلم به، والفزع به إلى اللَّه عن القول به إلا بعلم، وهذا هو الحق الذي يلزم كل من عرف اللَّه.
وبه أَمر اللَّه تعالى نبيهُ عليه الصلاة والسلام فقال: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...).
وسُئل أبو حَنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الإرجاءِ ما بدؤُه؟ فقال: فعل الملائكة إذا
ومَعنى الإرجاءِ نوعان:
أحدهما: محمود؛ وهو إِرجَاء صاحب الكبائر، ليحكم اللَّه تعالى فيهم بما يشاء، ولا يُنزلهم نارًا ولا جنة؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
والإرجاء المذموم هو الجبر، أَن تُرجَأ الأفعالُ إلى اللَّه تعالى، لا يجعلُ للعبد فيه فعلًا، ولا تدبيرَ شيء من ذلك.
وعلى ذلك المروِيُّ، حيث قال: " صنفان من أُمتي لا ينالهم شفاعتي؛ القدريةُ والمرجئةُ ".
والقدرية: هي التي لم تر لله -في فعل الخلق- تدبيرًا، ولا له عليه قدرةَ التقدير.
والمرجئة: هي التي لم تر للعبد فيما ينسب إليه من الطاعة والمعصية فعلًا ألبتَّة؛ فأبطلت الشفاعة لهما، وجُعِلت للمذهب الأوسط بينهما، وهو الذي يُحَققُ للعبد فعلًا، ولله تقديرًا، ومن العبد تحركًا بخير أَوْ شر، ومن اللَّه خلقه.
وذلك على المعقول مما عليه طريقُ العدل والحق بين التفريط والتقصير.
وكذلك قال اللَّه تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا...) الآية، ولا قوة إلا باللَّه.
وعن ابن جريج قال: سجودُ الملائِكة لآدم إيماء، ولم يكن يحل وضع الوجه بالأَرض لأَحد.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: كان سجودُ الملائِكة سجودَ تحيةٍ، ولم يكن سجود عبادة.
وعن قتادة قال: كانت الطاعة لله، والسجدة لآدم عليه السلام إكرامًا له، والله أعلم.
ثم اختلف في إِبليس:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الملائِكة.
وقال آخرون: لم يكن من الملائِكة، وهو قول الحسن؛ والأَصم: ذهبوا في ذلك إلى وجوه:
أَحدها: ما ذكر عَزَّ وَجَلَّ عن طاعة الملائِكة له بقوله: (لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُم...)
وقال: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ...) الآية.
وصف اللَّه تعالى طاعتهم له، وائْتِمارَهم إياه؛ فلو كان اللعين الرجيم منهم لأطاعَه كما أَطاعوه.
والثاني: قوله: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) والملائِكة إنما خلقوا من النور.
والثالث: قوله تعالى: (كانَ مِنَ الجِنِّ)، ولم يقل من الملائِكة فَدَلَّت هذه الآياتُ أنه لم يكن من الملائكة.
ثم قال في قوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ): إنه قد يجوز الاستثناء من غير نوع المستثنى منه؛ نحو ما يقال: دخل أَهل الكوفة هذه الدارَ إلا رجلًا من أَهل المدينة. وذلك جائِز في اللغة.
ويستدل بالاستثناء أن الأَمر كان عليهم جميعًا في الأَصل، وكان الأَمرُ بالسجود له وللملائِكة جميعًا؛ كقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، دل أَن كان هنالك أَمر للناس بالإفاضة، فكذلك الأَول، واللَّه أعلم.
وذهب من قال: إنه من الملائِكة، أنه لما لم يذكر في قصةٍ من القصص -مع كثرة التكرار لها في القرآن، وغيره من الكتب السالفة- أَنه ليس منهم، وليس فيما ذكر من الآيات ما يدل على أَنه لم يكن منهم؛ لأَن قوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، لو لمْ يُتَوهم منهم العصيانُ والخلافُ لله تعالى لم يكن للمدح بالطاعة والخضوع له معنى.
ألا ترى إلى قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ...) الآية مع ما ذكرنا: أنهم يُمتحنون بأنواع المحن، وكل مُمْتَحَن في شيء يجوز كون المعصية منه والخلاف لديه.
وأَما قوله: (كانَ مِنَ الجِنِّ)، أي صار من الجن.
وقيل: الجنُ أَراد به الملائِكة؛ سُمُّوا جنَّا لاستتارهم عن الأَبصار؛ كقوله: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ). وأما قوله خلق الملائِكة من النُور، وإبليسَ من النار - فهو واحد؛ لأَنه أخبر - عز
وقوله تعالى :( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) يشبه أن يكون السابق إلى وهمهم معنى٢ أو خطر فعل مما٣ كان بالله خرج من أن يعقلوا حكمته : إما بما لم يبلغهم العلم بها أو يخطر ببالهم [ أنه تعالى كيف يأمرهم ؟ وهو يعلم أنهم لا يعلمون بها أو خطر ببالهم ]٤ من غير تحقيق ذلك، ولكن على ما يبلى به الأخبار كقوله :( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ) [ الحج : ٥٢ ] الآية، أو [ كان ]٥ كما لا يخلو به الممتحن عن الخواطر التي تبلغ المحنة بهم المجاهدة بها في دفعها، وإن لم يكن بما يخطر ببالهم صنع، فقالوا :( سبحانك ) نزهوا عما خطر ببالهم، وسبق إلى وهمهم، ووصفوا بأنه ( العليم ) لا يخفى عليه شيء ( الحكيم ) لا يخطئ٦ في شيء، ولا يخرج فعله عن الحكمة، وبالله التوفيق والعصمة.
وفي الآية منع التكلم في الشيء إلا بعد العلم به، والفزع به إلى الله تعالى عن القول به إلا بعلم. وهذا هو الحق الذي يلزم كل من عرف الله تعالى، وبه أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال :( ولا تقف ما ليس لك به علم ) [ الإسراء : ٣٦ ] الآية.
وسئل أبو حنيفة رضي الله عنه عن الإرجاء ما بدؤه ؟ فقال :( فعل الملائكة إذا٧ سئلوا عن أمر، لم يعلموا، فوضوا ذلك إلى الله تعالى ) ومعنى الإرجاء نوعان :
أحدهما : محمود، وهو إرجاء أصحاب الكبائر ليحكم الله تعالى فيهم بما يشاء، ولا ينزلهم نارا ولا جنة لقوله تعالى :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : ٤٨ ].
[ والثاني ]٨ : الإرجاء المذموم هو الجبر، أن ترجا الأفعال إلى الله تعالى، لا يجعل للعبد فيه فعلا ولا تدبير شيء [ من ]٩ ذلك. [ وعلى ذلك ]١٠ المروي [ في ما ]١١ قال صلى الله عليه وسلم : " صنفان من أمتي لا ينالهم شفاعتي القدرية والمرجئة " [ الترمذي ٢١٤٩ ] والقدرية هي التي لم تر لله في فعل الخلق تدبيرا، ولا له عليه قدرة التقدير، والمرجئة هي التي لم تر للعبد في ما ينسب إليه من الطاعة والمعصية فعلا البتة. فأبطلت الشفاعة لهما، وجعلت للمذهب الأوسط بينهما ؛ وهو الذي يحقق للعبد فعلا ولله تقديرا، ومن العبد تحركا بخير وشر، ومن الله خلقه. وذلك على المعقول مما عليه طريق العدل والحق أنه بين التفريط والتقصير. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الأمور أوساطها١٢ " [ البيهقي في الكبرى ٣/٢٧٣ ] وكذلك قال الله تعالى :( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ] [ البقرة : ١٤٣ ] الآية، ولا قوة إلا بالله.
[ قال ابن جريج ]١٣ :( سجود الملائكة لآدم [ عليه السلام ]١٤ إيماء ) ولم يكن يحل وضع الوجه بالأرض لأحد، [ وقال ابن ]١٥ عباس رضي الله عنه ( كان سجود الملائكة /٨-أ/ سجود تحية، ولم يكن سجود عبادة )، [ وقال قتادة ]١٦ :( كانت الطاعة لله تعالى والسجدة لآدم عليه السلام إكراما له [ به ]١٧، والله أعلم.
ثم١٨ اختلف في إبليس، قال بعضهم : هو من الملائكة، وقال آخرون : لم يكن من الملائكة، وهو قول١٩ الحسن والأصم ؛ ذهبوا [ في ]٢٠ ذلك إلى وجوه :
أحدهما : ما ذكر عز وجل عن طاعة الملائكة له بقوله :( لا يعصون الله ما أمرهم ) [ التحريم : ٦ ] الآية٢١، وقوله٢٢ :( لا يسبقونه بالقول ) الآية٢٣ [ الأنبياء : ٢٧ ]، وقوله٢٤ :: ( لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) [ الأنبياء : ١٩ ] ؛ وصف الله عز وجل طاعتهم له وائتمارهم إياه، فلو كان اللعين الرجيم منهم لأطاعه كما أطاعوه٢٥.
والثاني قوله :( خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ الأعراف : ١٢ ] والملائكة إنما خلقوا من النور.
والثالث : قوله تعالى :( كان من الجن ) [ الكهف : ٥٠ ]، ولم يقل من الملائكة، فدلت هذه الآيات أنه لم يكن من الملائكة.
٢ - في النسخ الثلاث: منى..
٣ - في ط م: ما..
٤ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل.
٥ - من ط ع..
٦ - من ط م، في الأصل و ط ع: يخطر..
٧ - من ط م، في الأصل و ط ع: إذ..
٨ - في النسخ الثلاث: و.
٩ - من ط م..
١٠ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
١١ - في النسخ الثلاث: حين..
١٢ -من ط م، في الأصل و ط ع: أوسطها.
١٣ - في الأصل: قال ابن جريج قال، في ط م: وعن ابن جريج قال، وأدرج المحقق في ط ع قبل كلمة قال العنوان التالي: سجود الملائكة لآدم إيماء..
١٤ - من ط ع..
١٥ - في النسخ الثلاث: وعن ابن عباس.
١٦ - في الأصل و ط م: وعن قتادة قال، في ط ع: وعن قتادة أنه قال..
١٧ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
١٨ - أدرج في ط ع قبل كلمة ثم العنوان التالي: الاختلاف في إبليس عليه اللعنة..
١٩ - ساقطة من ط ع..
٢٠ - من ط م..
٢١ - أدرج الناسخ في ط ع تتمة الآية بدل كلمة الآية..
٢٢ - في النسخ الثلاث: وقال..
٢٣ - ساقطة من ط ع..
٢٤ - في النسخ الثلاث: وقال..
٢٥ - من ط م، في الأصل و ط ع: أطاعوا له..
وقوله تعالى :( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) يشبه أن يكون السابق إلى وهمهم معنى٢ أو خطر فعل مما٣ كان بالله خرج من أن يعقلوا حكمته : إما بما لم يبلغهم العلم بها أو يخطر ببالهم [ أنه تعالى كيف يأمرهم ؟ وهو يعلم أنهم لا يعلمون بها أو خطر ببالهم ]٤ من غير تحقيق ذلك، ولكن على ما يبلى به الأخبار كقوله :( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ) [ الحج : ٥٢ ] الآية، أو [ كان ]٥ كما لا يخلو به الممتحن عن الخواطر التي تبلغ المحنة بهم المجاهدة بها في دفعها، وإن لم يكن بما يخطر ببالهم صنع، فقالوا :( سبحانك ) نزهوا عما خطر ببالهم، وسبق إلى وهمهم، ووصفوا بأنه ( العليم ) لا يخفى عليه شيء ( الحكيم ) لا يخطئ٦ في شيء، ولا يخرج فعله عن الحكمة، وبالله التوفيق والعصمة.
وفي الآية منع التكلم في الشيء إلا بعد العلم به، والفزع به إلى الله تعالى عن القول به إلا بعلم. وهذا هو الحق الذي يلزم كل من عرف الله تعالى، وبه أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال :( ولا تقف ما ليس لك به علم ) [ الإسراء : ٣٦ ] الآية.
وسئل أبو حنيفة رضي الله عنه عن الإرجاء ما بدؤه ؟ فقال :( فعل الملائكة إذا٧ سئلوا عن أمر، لم يعلموا، فوضوا ذلك إلى الله تعالى ) ومعنى الإرجاء نوعان :
أحدهما : محمود، وهو إرجاء أصحاب الكبائر ليحكم الله تعالى فيهم بما يشاء، ولا ينزلهم نارا ولا جنة لقوله تعالى :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : ٤٨ ].
[ والثاني ]٨ : الإرجاء المذموم هو الجبر، أن ترجا الأفعال إلى الله تعالى، لا يجعل للعبد فيه فعلا ولا تدبير شيء [ من ]٩ ذلك. [ وعلى ذلك ]١٠ المروي [ في ما ]١١ قال صلى الله عليه وسلم :" صنفان من أمتي لا ينالهم شفاعتي القدرية والمرجئة " [ الترمذي ٢١٤٩ ] والقدرية هي التي لم تر لله في فعل الخلق تدبيرا، ولا له عليه قدرة التقدير، والمرجئة هي التي لم تر للعبد في ما ينسب إليه من الطاعة والمعصية فعلا البتة. فأبطلت الشفاعة لهما، وجعلت للمذهب الأوسط بينهما ؛ وهو الذي يحقق للعبد فعلا ولله تقديرا، ومن العبد تحركا بخير وشر، ومن الله خلقه. وذلك على المعقول مما عليه طريق العدل والحق أنه بين التفريط والتقصير. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خير الأمور أوساطها١٢ " [ البيهقي في الكبرى ٣/٢٧٣ ] وكذلك قال الله تعالى :( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ] [ البقرة : ١٤٣ ] الآية، ولا قوة إلا بالله.
[ قال ابن جريج ]١٣ :( سجود الملائكة لآدم [ عليه السلام ]١٤ إيماء ) ولم يكن يحل وضع الوجه بالأرض لأحد، [ وقال ابن ]١٥ عباس رضي الله عنه ( كان سجود الملائكة /٨-أ/ سجود تحية، ولم يكن سجود عبادة )، [ وقال قتادة ]١٦ :( كانت الطاعة لله تعالى والسجدة لآدم عليه السلام إكراما له [ به ]١٧، والله أعلم.
ثم١٨ اختلف في إبليس، قال بعضهم : هو من الملائكة، وقال آخرون : لم يكن من الملائكة، وهو قول١٩ الحسن والأصم ؛ ذهبوا [ في ]٢٠ ذلك إلى وجوه :
أحدهما : ما ذكر عز وجل عن طاعة الملائكة له بقوله :( لا يعصون الله ما أمرهم ) [ التحريم : ٦ ] الآية٢١، وقوله٢٢ :( لا يسبقونه بالقول ) الآية٢٣ [ الأنبياء : ٢٧ ]، وقوله٢٤ :: ( لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) [ الأنبياء : ١٩ ] ؛ وصف الله عز وجل طاعتهم له وائتمارهم إياه، فلو كان اللعين الرجيم منهم لأطاعه كما أطاعوه٢٥.
والثاني قوله :( خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ الأعراف : ١٢ ] والملائكة إنما خلقوا من النور.
والثالث : قوله تعالى :( كان من الجن ) [ الكهف : ٥٠ ]، ولم يقل من الملائكة، فدلت هذه الآيات أنه لم يكن من الملائكة.
٢ - في النسخ الثلاث: منى..
٣ - في ط م: ما..
٤ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل.
٥ - من ط ع..
٦ - من ط م، في الأصل و ط ع: يخطر..
٧ - من ط م، في الأصل و ط ع: إذ..
٨ - في النسخ الثلاث: و.
٩ - من ط م..
١٠ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
١١ - في النسخ الثلاث: حين..
١٢ -من ط م، في الأصل و ط ع: أوسطها.
١٣ - في الأصل: قال ابن جريج قال، في ط م: وعن ابن جريج قال، وأدرج المحقق في ط ع قبل كلمة قال العنوان التالي: سجود الملائكة لآدم إيماء..
١٤ - من ط ع..
١٥ - في النسخ الثلاث: وعن ابن عباس.
١٦ - في الأصل و ط م: وعن قتادة قال، في ط ع: وعن قتادة أنه قال..
١٧ - من ط م و ط ع، ، ساقطة من الأصل..
١٨ - أدرج في ط ع قبل كلمة ثم العنوان التالي: الاختلاف في إبليس عليه اللعنة..
١٩ - ساقطة من ط ع..
٢٠ - من ط م..
٢١ - أدرج الناسخ في ط ع تتمة الآية بدل كلمة الآية..
٢٢ - في النسخ الثلاث: وقال..
٢٣ - ساقطة من ط ع..
٢٤ - في النسخ الثلاث: وقال..
٢٥ - من ط م، في الأصل و ط ع: أطاعوا له..
وذهب من قال : إنه من الملائكة أنه لما لم يذكر في قصة من القصص مع كثرة التكرار لها في القرآن وغيره من الكتب السالفة أنه ليس منهم، وليس في ما ذكر من الآيات ما يدل [ على ]٣ أنه لم يكن منهم ؛ لأن قوله :( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ التحريم : ٦ ] لو٤ لم يتوهم منهم العصيان والخلاف لله تعالى لم يكن للمدح بالطاعة والخضوع له معنى. ألا ترى إلى قوله :( ومن يقل منهم إني إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم ) الآية٥ [ الأنبياء : ٢٩ ] مع ما ذكرنا أنهم يمتحنون٦ بأنواع المحن، وكل ممتحن في شيء يجوز كون المعصية منه والخلاف لديه ؟
وأما قوله :( كان من الجن ) [ الكهف : ٥٠ ] [ يحتمل : أي صار من الجن، وقيل :( الجن ) ]٧ : أراد به الملائكة، سموا جنا لاستتارهم عن الأبصار كقوله :( وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) [ النجم : ٣٢ ].
وأما قوله : خلق الملائكة من النور وإبليس من النار فهو واحد لأنه أخبر عز وجل أنه خلقه :( من مارج من نار ) [ الرحمان : ١٥ ]. وقيل : المارج هو لهبها مع ما ليس في القرآن ولا في الخبر أنهم إنما خلقوا من النور٨، ولم يخلقوا من غيره.
ثم٩ اختلف في إبليس : أنه لِمَ١٠ كفر [ بالله تعالى ؟ قيل : إنه كفر ]١١ لما لم ير الأمر بسجود من فوقه لمن هو دونه حكمة. وقيل : لما رأى أن الله تعالى وضع الأمر في غير موضع الأمر، ورآه جورا، فكفر به.
وقيل : كفر لما أبى الائتمار بالسجود، واستكبر، فكفر. وقيل : لما أراد إضلال الخلق. وقيل : أبى الطاعة في ما أمره١٢ به، واستكبر على آدم [ عليه السلام ]١٣ لما رأى لنفسه فضلا عليه بقوله :( خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ الأعراف : ١٢ و ٧٦ ].
وقوله :( وكان من الكافرين ) أي صار، كقوله :( إنه كان فاحشة ) [ النساء : ٢٢ ] وكقوله :( فكان من العالمين ) [ الأعراف : ١٧٥ ] أي صار، وقيل : كان في علم الله تعالى أنه سيكفر.
٢ - من ط م و ط ع، في الأصل: بالإضافة.
٣ - من ط م..
٤ - من ط م، في الأصل و ط ع: ولو..
٥ - أدرج الناسخ في ط ع تتمة الآية بدل كلمة الآية..
٦ - من ط م، في الأصل و ط ع: يمتحنون الممتحنون..
٧ - من ط ع، في ط م: أي صار من الجن وقيل، ساقطة من الأصل..
٨ - من ط م و ط ع، في الأصل: النار..
٩ - أدرج محقق ط ع قبل هذه الكلمة العنوان التالي: اختلف لما كفر إبليس لعنه الله..
١٠ - في ط ع: لما..
١١ - من ط م و ط ع..
١٢ - من ط م و ط ع،: أمر..
١٣ - من ط ع..
وقيل: المارجُ هو لهبُها مع ما ليس في القرآن، ولا في الخبر أَنهم إنما خلقوا من النور، ولم يخلقوا من غيره.
ثم اختلف في إِبليس: إنه لم كفر باللَّه؟ قيل: إنَه كفر لما لم ير الأَمرَ بسجود من فوقه لمن هو دونه حكمة.
وقيل: كفر لما رأَي أن اللَّه تعالى وضع الأَمر في غير موضع الأَمر، ورآه جورًا؛ فكفر وقيل: كفر لما أَبى الائتمار بالسجود واستكبر فكفر.
وقيل: كفر لما أضمر إضلال الخلق.
وقيل: أَبى الطاعة فيما أُمر به، واستكبر على آدم؛ لما رأَي لنفسه فضلًا عليه بقوله: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
وقوله: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
أي صار كقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً).
وكقوله: (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) أي: صار.
وقيل: كان في علم اللَّه تعالى أنه سيكفر.
وقوله: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (٣٥)
قد ذكرنا فيما تقدم أَن الجَنة هي اسم البقعة التي حُفت بالأَشجار والغُروس وأنواع النبات.
دليله: قوله: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ).
وذلك أيضًا ظاهرٌ معروفٌ عند الناس؛ ألا تُسمى كل بقعة من الأرض بستانا، ولا جنة حتى يجتمع فيها ما ذكرنا.
ثم لا يُدْرَى ما تلك الجنة التي أمر آدمُ وحواء بالكَون، والمُقام فيها: أهي التي وُعد المتقون، أَو جنة من جنات الدنيا؛ إذ ليس في الآية بيان ذلك.
وفي الآية دلالة أن الشرط في الذكر قد يُضْمر، ويكون شرطًا بلا ذكر؛ لأنه قال: (أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى) ثم قد جاع وعَرِيَ حين عصى، فدل أَن ترك المعصية كان
ثم مضى الأَمر من اللَّه تعالى لآدم وزوجته بالسُّكنى في الجنة، والمُقام فيها، وأَمْرهما بالتناول من جميع ما فيها إلا شجرة نُهِيا عن التناول منها، وأُمِرَا بالاجتناب عنها بقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) وذي صورةُ الممتحن أَن يُؤمر بشيء ويُنْهَى عن شيء.
وقوله: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ).
قوله: (رَغَدًا) أَي: سعَةً؛ يقال: أَرْغَد فلانٌ إذَا وشع عليه، وكثر مالهُ.
وقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ).
أَي: لا تأْكلا.
دليله قوله: (وَكُلَا مِنْهَا)؛ ولأَنه بالقُربان ما يوصل إلى التناول. واللغةُ لا تَأْبى تسمية الشيء باسم سببه.
ثم اختُلف في تلك الشجرة:
فقَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة العنب، ولذلك جعل للشيطان فيها حظًا لما عصيا ربهما بها.
وقيل: إنها كانت شجرة الحنطة؛ ولذلك جعل غذاءُ آدم وحواءَ - عليهما السلام - وغذاءُ أَولادهما منها إلى يوم القيامة ليُقاسوا جزاءَ العصيان والخلاف له.
وقيل: إنها شجرة العلم؛ لما علما من ظهور عورتهما، ولم يكونا يعلمان قبل ذلك، وهو قوله: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)، واللَّه أعلم.
والقولُ في ماهيتها لا يجوز إلا من طريق الوحي. ولا وحي في تلاوتها. ولا يجوز القطعُ على شيء من ذلك.
ثم احتَمَل معنى النهي عن التناول منها وجوها:
أَحدها: إيثار الآخر عليه.
وقد يكون هذا أَن ينهى الرجل عن التناول من شيء إيثارًا لآخر عليه.
- ويحتمل: النهي عن التناول من الشيء لداء يكون فيه لما يخاف الضرر به، لا على
ويحتمل أيضًا النهي عن التناول من الشيء على جهة الحرمة، فإذا كان ممكنا هذا محتملا حمل آدم وحواء على التناول منها لما اشتبه عليهما، ولم يعرفا معنى النهي بأَنه نهيُ حرمةٍ، أَو نهي إيثار غيره عليهما، أَو نهي داء؛ لأَنهما لو كانا يعلمان أَن ذلك النهي نهي حرمة لكانا لا يأَتيان ولا يتناولان، وباللَّه التوفيق.
ثم في الآية دلالة على أن الحال التي يكون فيه الإنسان في سعة ورغد يشتد على الشيطان اللعين؛ لأَنه إنما تعرض لآدم وحواءَ بالوسوسة التي وسوس إليهما ليزيل تلك الحال عنهما.
وإنما يبلى بالسعة، والرخاء ثم لما لحقته من الشدائد والبلايا مما كسبت أيدينا؛ لقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).
ثم الآية ترد على بعض المتقشفة قولهم بتحريم الطيبات والزينة.
وقوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).
أي: الضارِّين؛ لأَن كل ظالم ضارٌّ نفسَه في الدارين جميعًا.
وقوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا (٣٦)
أي: دعاهما، وزين لهما إلى سبب الزلة والإخراج عنها، لا أَن تولى إخراجهما وإزلا لهما،
وقد ذكرنا أَن الأَشياءَ تسمى باسم أسبابها، أَو الأَسباب باسم الأشياء. وذلك ظاهر معروف في اللغة، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه.
ثم تكلموا فيما أصاب آدم من الشجرة، وفي جهة النهي عنها: فقال قوم: أكل منها وهو ناسٍ لعهد اللَّه نسيان ترك الذكر.
وأَبى ذلك قوم
واحتج الحسن بأَن نسيانه نسيان تضييع واتباع الهوى، لا نسيان الذكر بأَوجهٍ:
أحدها: ما جرى في حكم اللَّه - تعالى - من العفو عن النسيان الذي هو ترك الذكر، وألا يلحق صاحبَه اسمُ العصيان، وقد عوقب هو به، ونسب إلى العصيان بقوله: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) مع ما تقدم القول فيه أن يكونا من الظالمين.
والثاني: أَن عَدُوه قد ذكَره لو كان ناسيًا؛ حيث قال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ...) الآية.
وقوله: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ).
ولو كان نسيان الذكر لم يكونا ليغترا بالقسم والإغواء عن ذلك، ولا وُصِفا بأن استزلهما الشيطان ونحو ذلك.
فثبت أَنه كان نسيان تضييع، وذلك كقوله: (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)، وقوله: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا)، وغير ذلك مما ذكر فيه النسيان ومعناه التضييع، سُمي به لما كان كل منسي متروكا، وترك اللازم تضييع، أو بما ينسى به ويغفل عما يحل به من نعمة اللَّه، فسمي به كما وصف ذنب المؤمن بجهالة الجهلة بما يحل به لا بجهله بحقيقة فعله.
أو سمي به من حيث لا يُقصد بذلك عصيانُ الرب أَو طاعة الشيطان.
وإلى ذلك يصرف بعض وجوه النسيان، لا حقيقته.
ومن يقول: بأنه كان على النسيان فهو يُخرِّج النسيان على وجوه:
أَحدها: أنه لكثرة ما كان بينه، وبين عدوه من التراجع اشتغل قلبه بوجوه الدفاع له، والفكر في الأَسباب التي بها نجاته، ويتخلص من مكائِده، حتى أَنساه ذلك ذكر العهد.
والسبب الذي يدفع الأَشياءَ عن الأَوهام في الشاهد كثرة الاشتغال، وإنَّمَا كان النسيان عدوا في الأُمور وسببًا للعفو؛ لأَنه لا يَخْرج الآخذ به عن الحكمة، وذلك معلوم في الشاهد، أن من أَقبل على أَمر، وأَخذ في تحفظه وتذكره عمل عليه ذلك، وإذا أحب ذلك مع الاشتغال بغيره من الأُمور صعب عليه، بل الغالب في مثله الخفاء.
وجائِز معاتبة آدم مع ذلك وتسميته عصيانا بأوجه:
أَحدها: أنه لم يكن امتُحن بأنواع مختلفة يتعذر عليه وجه الحفظ في ذلك.
وإِنَّمَا امتحن بالانتهاءِ عن شجرة واحدة بالإشارة إليها؛ فجائز ألا يُعذر في مثله.
وكذلك النسيان فيما يُعذر في الشاهد، إنما يُعذر في النوع الذي يُبْلى به، وتكثر به النوازل.
ألا ترى أنه يُعذر بالسلام في الصلاة، وترك التسمية في الذبيحة ونحو ذلك، ولا
وعلى ما ذكر في أمر يونس - عليه السلام - من العقوبة بماء لعل ذلك من عظيم خيرات غيره؛ إذ فارق قومه عما عاين من المناكير فيهم، وفعل مثله من حد ما يوصف به غيره.
والثالث: أَنه لما عوتب بالذي يجوز ابتداء المحنة به، ولمثله خلقه حيث قال لملائكته: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) لكنه بِكرمه، وبالذي عَوّد خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه في الابتلاءِ على الشدائد والشرور، وإن كان له التقديم بالثاني، وذلك في جملة قوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وباللَّه التوفيق.
وعلى ما في ذلك من مبالغة غيره، والزجر عن المعاصي، وتعظيم خطره في القلوب؛ إذ جوزي أَبو البشر وأَول الرسل منهم -على ما فضله بما امتحن ملائكته بالتعلم منه، والسجود- بذلك القدر من الزلة؛ ليعلم الخلقُ أَنه ليس في أمره هوادةٌ، ولا في حكمه محاباة؛ فيكونون أَبدًا على حذرٍ من عقوبته، والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته، وألَّا يكلهم إلى أَنفسهم؛ إذ علموا بابتلاءِ من الذي ذكرت محله في قلوبهم بذلك القدر من الزلة، ولا قوة إلا باللَّه.
والثاني: أَن يكون حَفظ النهي عنه لكنه خطر ببَاله النهي عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان، أو نسي قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وقد ذكرنا النهي في وقت الفعل، ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهي؛ لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم، إذ يكون النهي على أَوجه:
أَحدها: للحرمة.
والثاني: نهي لما فيه من الداء وعليه في أكله ضرر، وهذا معروف في الشاهد بما عليه الطباع، نهى قوم عن أشياءَ محللة هي لهم ما يؤذي ويضر، فيحتمل أَن يسبق إلى وهمه ذلك، لما وعد له في ذلك من عظيم النفع.
يحتمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وُجِّه النهي إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة، ونسي قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) أَو ذكرا وعرفَا أَن الظلم قد يقع على الضَّرَر؛ كقوله: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم ينقص منه، والنقصان في النفس ضرر.
وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم في القرآن أَنه الضرر. واسم الضرر يأخذ ضررَ الداء، وضرر المأْثم وإن كانت حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، ولا قوة إلا باللَّه.
واذا احتمل ذا، ثم بُيِّن له عظيمُ ما في ذلك من البركة من غير أَنْ عاين عدُوه ليعلم أَن ذلك صنيعه.
وجائز أَن يسبق إليه أَن ذلك إِشارةُ مَلَكٍ أَو إِلهام في النفس -على ما يكون لكثير من الأخيَار- إلا أَنه من وحي عدُوه، فدعته نفسه إلى الأكل، فيكون كالناسي والجاهل بحقيقة وجه النهي، وإن كان تعمد أَكله، ولا قوة إلا باللَّه.
والأَصل في هذا أَن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن كان على نسيان العهد، أو على المذكر له، فإن الذي أَصابه عقوبة.
وإنِ كان بالذي يكون به المحنة، فلولا أَن اللَّه إِنْ يعاقبه على ما فعله لم يكن ليُغير عليه نعمة أنعم عليه بعذاب، وقد قال: إنه لا يُغَير نعمَة التي أنعمها على قوم حتى يغَيروا ما بأَنفسهم.
وما لا يحتمل العقوبة بالتغيير لم يكن ليفعل بعد وعده ذلك، مع ما قد اعترفا بالظلم؛ إذ قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا...) الآية.
وقد قال اللَّه تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). وقد كان قال لهما: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). فكان فيما بُليَ به وجهان: أحدهما: أن ذلك لم يُزِل عنهما اسمَ الإيمان، ولا دعيا إليه بعدُ لفعلهما ذلك.
ثبت أنه لا كل ذنب يزيل اسمَ الإيمان، وإن الذنُوب لا يُحقَّق فيها الكذب فيما اعتقد ألا يعصي اللَّه في شيء.
وفي ذلك فساد أهل الخوارج والمعتزلة، وبيان أن قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
والثاني: قد عوقب بوجه لا يجب جزءٌ منها بما يسميه المعتزلة كبيرة، بل يُزيل به اسمَ الإيمان؛ من نحو شُرب قطرة من الخمر، أو قذف محصنة، أَو أَخذ عشرة دراهم من مال آخر.
وكذلك فعل أولاد يعقوب. ثم لم يجترئ أَحد على دعوى خروج من ذكرت من دين اللَّه؛ لزم بطلان قولهم، مع ما كان من قولهم: إن الصغيرة لا يَجوزُ في الحكمة التعذيبُ عليها، ولا الكبيرة العفو عنها.
وقد كان عذب آدم عليه السلام - بأنواع العذاب، لما لو لم يكن سوى ما أَظهر فعلَهما على رءوس الخلائق لكان عظيمًا.
ثم اختلف في الوجه الذي بلى:
منهم من يقول: لما كان من صلبه من الكفرة وهم ليسوا بأَهل الجنة.
وقيل: رحمة للخلق لئلا ييأَسوا، ولا يزيل الولاية بكل ذنب.
وقيل: بليا لتنبئة الخلق -بهما- ألا يقوم أحد بتعاهد نفسه عما يذم إليه إذا وكل نفسه إليه، فيكون ذلك سببًا لزجر الخلق عن النظر إلى أنفسهم في شيء من الخير، والفزع إليه، بالعصمة عن كل شيء.
وقيل: بلى بحق المحنة؛ إذ هي ترد صاحبها بين اللذات والآلام، وبين أَحوال مختلفة لا يحتمل أن يصير بحيث يأمن الزلل، وإنما ذلك بحفظ اللَّه ومَنِّه، لا بتدبير أحد وجهده،
وليس بنا حاجة إلى ذكر حكمة الزلة، إذا كانت نفسُه مجبولةً على حبه، باعثةً إلى مثله لولا نعمة الرب.
كما قال يوسف - عليه السلام -: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي...) الآية.
وقال: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا).
ثم اختلف في ماهية الشجرة:
قيل: بأَنها شجرة العنب، وجعل للشيطان فيها نصيبًا بما بلى به أبو البشر وأُمهم.
وقيل: الحنطة فيها جعل غذاء ولده؛ ليبدل بالراحة الكد، وبالنعمة البؤس.
وقيل: شجرة العلم، إذ بدث لهما سوآتهما فعلما بذلك ما لم يسبق لهما في ذلك، وفزعا إلى ما يُستران به من الورق.
ْفالأَصل أَن هذا نوع ما يعلم بالخبر من عند عالم الغيب، وليس بنا إلى تعرف حقيقته حاجة، وإنَّمَا علينا معرفة قدر المعصية؛ فنعتصم باللَّه عنها، والطاعةِ؛ فنرغب فيها، وباللَّه العصمة.
والأَصل فيه أَن اللَّه تعالى فرق بين دار المحنة ودار الجزاءِ؛ إذ الجمع بينهما يزيل البلوى، ويكشف الغطاءَ؛ فجعل اللذيذَ الذي لا راحة فيه، والمؤلمَ الذي لا تنغيص فيه - جزاءً، والتردد بينهما محنة، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله تعالى: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).
أي: تصيران منهم.
وكذلك القول في إبليس: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) أي: صار منهم.
ويحتمل: ممن يكونون كذلك؛ إذ في علم اللَّه أَنهم يصيرون ممن في علم الله كذلك، مع جواز القول بلا تحقيق آخر؛ كقوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) لا أَنَّ ثَمَّ خالقًا غيره.
فقال الحسن: كان آدم - عليه السلام - في السماء وإبليس في الأَرض، ولكنه أوصل إليه بالسبب الذي جعل اللَّه لذلك.
وقال قوم: كان خاطبهُ في رأْس الحية.
وقيل: تصور بغير الصورة التي كان عليها عند قوله: (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لكَ وَلِزَوجِكَ...) فاغتر به، ولو عرفه لما اغتر به بعد أَن حذره اللَّه عنه، واللَّه أَعلم كيف كان ذلك.
وعلى ذلك اختلف في الوجوه التي يوسوس إلى بني آدم:
منهم من يقول: يجري بين الجلد واللحم كما يجري الدم، فيقابل وجه بصره بقلبه؛ فيقذف فيه.
ومنهم من يقول: هو بحيث جُعلَتْ له قوة إيصال الخطر ببَاله، والقذف في قلبه من الوجه الذي جعل له، وذلك لا يعلمه البشر.
ومنهم من يقول: إن النفس كأَنها سيالة في الجسد، دائرة في جميع الآفاق، لولا الجسد الذي يَحبسه لكان له الانتشار، على ما يظهر في حال النوم عند سكون جسده، ومن ذلك سلطان فكرة الرجل على مَنْ في أَقصى بقاع الأَرض حتى يصير له كالمعاين؛ ففي ذلك يكون قدحه وقذفه.
ونحن نقول -وباللَّه التوفيق-: إنا لا نعلم حقيقة كيفية ذلك، لكن اللَّه تعالى جعل للحق أَعلامًا، وكذلك للباطل.
وكل معنى يدعو إلى الباطل، ويحجب عن الحق، فهو عمل الشيطان، يجب التعوذ
منه والفزع إليه وإن لم يعلم حقيقة كيفية ذلك؛ قال اللَّه تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ).
وقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا).
وقال الحسن في قوله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) وقد علم - آدم أن الملائكة أفضل، وقد علم ألا خلود يكون معه، وقد أُخبر أَنه يموت، وقد علم أَنه لا يكون مَلَكًا، وقد خلق من طين والملائكة من
(وَقاسَمَهُمَا).
حلف لهما في وسوسته أَنه يقول ذلك عن نصيحة، فتابعاه في الأكل لا على القبول عنه ما ذكر؛ إذ لو كان عن قبول كان أعظم من الأَكل، ولكن أَكلا على الشهوة، واتباع الهوى.
ولو صدقاه في ذلك لكفرا، وكان هذا اعظم من الأَكل، ولم يقل لهما ذلك فيهما لأَجل ذلك الشيء.
وذلك كما يقول الرجل لآخر -في شيء يقتل عليه أو يقطع له-: لو فعلتَ لا يُفعلُ بك ذلك، فيقدمُ عليه، أنه يقدم لشهوته، لا على التصديق له في ذلك.
وكذا من يُذكر أَحدًا بمثل امرأَةٍ بحبها وإيثارها إياه؛ فيأتيها بشهوة لا بتصديق الآخر؛ فمثْلُه أمر آدم فيما وسوس إليه الشيطان.
وهذا الذي يذكر الحسنُ يوجب أن يكون آدم كان يعلم أَن ذلك كان من الشيطان عدُوِّه.
وذلك إقدام على أَثر ما ذكر على ما يصف أنه كان يعلم أَنه أَمر فظيع يوجب فِعله -على العلم بالنهي- أنه لا ينال به خيرًا، ولا يصل بذلك إلى فضل، بل اتبع الشيطان بما هوى واشتهى.
وهذا لو كان شهده كان فظيعًا أن يدعيَه على أبي البشر، ومن قد فضَّله اللَّه بالذي سبق ذكره.
بل لو قيل له: إنه لم يكن علم أَنه من عدوه، أَو إلهام -على ما يكون للأخْيار- أو كان أَسمع على غير الصورة التي أَدَّاها من قبل، كان أَقرب وأَحق أن ينطق به من أَن يذكر الذي ذكر.
ومتى يكون الإقدام لجهة بخير لا على طمع في ذلك؟! بل لا يُنكَر أَن يكون له، ولكن على ما بينا.
وليس من ذلك الوجه، الوحشة في الدِّين.
ثم قد ذكر ملكين، والكلام في الفضلِ وغَير الفضل -على قوله- لا معنى له؛ لأَنَّه
ولهذا أنكر أن يكون منهم عصيان؛ إذ خلقوا من نور، ومن لا يعصي بالخلقة، فإنه لا يحمد، ولو كان يجب الحمد به لوجب في كل موات، وكل حيوان لا يعصي بالخلقة، وذلك بعيد.
وجائز أَن يكون آدم - عليه السلام - طمع أن يكونا ملكين؛ بأَن يُجعل على ما عليه صنيعهم من العصمة، أَو الاكتفاء بذكر اللَّه وطاعته عن جميع الشهوات.
واللَّه قادر على أَن يجعل البشر على ذلك، وذلك على ما يوجَد فيهم من معصوم ومخذول، ليعلم أَن الخلقة لا توجب شيئًا مما ذكر، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم الأَصل أَن معرفة موت البشر وما عنه خلق كل شيء إنما هو سمعي، ليس هو حسي، ولا في الجوهر دليلُ الفناء، ولله أن يميت من شاءَ وُيبقيَ من شاءَ.
فقولُ الحسنَ -إِنه علم ذلك ثبت بثبات الخبر عن اللَّه- ينتهي إليه أَنه كان بلغه في ذلك الوقت.
وكذلك أَمرُ الملائكة، وحالُ الإغذاء، ومحبةُ الذكر، وظهورُ العصمة تعرف بالمحبة والمشاهدة بمنها، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم ذكر الحسن في خلال ذلك: أن آدم - عليه السلام - قد علم أَن الملائكة لا يموتون.
لا أَدرى ما هذا؟
أَهو عقدٌ اعتقد، أوْ جَرَى على لسانه؟ لأَن مثلَه لا يُعلَم إلا بما لا يرتاب في ذلك أَنه جاءَ عن اللَّه، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا).
أي: دعاهما وزيَّن لهما، أَي: سبب الزلة والإخراج منها، لا أن تولى هو إخراجهما وإزلالهما.
وقد ذكرنا أنه قد تُسمى الأَشياءُ باسم أَسبابها، والأسباب باسم الأشياء. وذلك ظاهر معروف في اللغة، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ).
ثم اختلف في وسوسة الشيطان لآدم وحواءَ - عليهما السلام - فيم كان؟ ومن أَين كان؟ ولماذا كان؟.
قيل: إنه كان في السماء، فوسوس إليهما من رأْس الحيَّة؛ حسدًا منه لما رآهما يتقَلبان في نعم اللَّه، ويتنعمان فيه، فاشتد ذلك عليه.
وقيل: إنه كان في الدنيا فوسوس لهما من بُعدٍ، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في الشيطان: أَله سلطان على القلوب؟ أَو يوسوس في صدورهم من بُعد؟
فقَالَ بَعْضُهُمْ: له سلطان على القلب؛ على ما جاءَ أَنه يجري في الإنسان بين الجلد واللحم مجرى الدم.
وقيل: إنه لا سلطان له على القلوب، ولكنه يَقْذف فيهم من البعد، ويدعوهم إلى الشر بآثار ترى في الإنسان من الأحوال؛ من حال الخير والشر، وكأن تلك الأحوال ظاهرة من أَثر الخير والشر.
فإذا رأَي ذلك فعند ذلك يوسوس، ويدعوه إلى الشر. وعلى ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) أخبر أنه لا سلطان له علينا سوى الدعاء لنا وهو لا يشبه، واللَّه أَعلم.
ثم قيل فيمن عصى ربه: أَليس قد أَطاع الشيطان؟
قيل: بلى..
فَإِنْ قِيلَ: فإذا أَطاع أَلَا يكفر؟
قيل: لا؛ لأَنه ليس يقصد قصد طاعة الشيطان، وإنما يكفر بقصد طاعة الشيطان، وإن كان في عصيان الرب طاعته.
وكذلك رُويَ عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك فأَجاب بمثل هذا الجواب.
والأَصل: أَن الفعل الذي يُبْلى له ليس هو لنفسه فعل الطاعة للشيطان ليصير به مطيعًا، إنما يجعله طاعة القصد بأَن يجعلَه طاعة له، وقد زال، وإن سُرَّ هو به وفرح كما سُرَّ بزوال السرور عنهما واللذة، وإن كان ذلك بفعل من لا يجوز وصف من فعل ذلك بطاعة الشيطان، ولا قوة إلا باللَّه.
قيل: الهبوط النزول في موضع، كقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا) أي: انزلوا فيه.
ويحتمل الهبوط منها هو النزول من المكان المرتفع إلى المنحدر، والدون من المكان.
وقوله: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).
قيل: يعني إبليسَ وأَوْلاده، وآدمَ وأَولادَه، بعضهم لبعض عدو. والعداوة فيما بيننا وبينهم ظاهرة.
وقيل: بيننا وبين الحيَّة التي حملت إبليس حتى وسوس لهما من ذؤابتها.
فهذا لا يعلم إلا بالسمع، إذْ ليس في الكتاب ذلك.
غير أن العداوة بيننا وبين الحيَّات عداوة طبع، والعداوَة التي بيننا وبين إبليس عداوة اختبار وأَمر؛ إذ الطبعُ ينفر عن كل مؤذٍ ومضر، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ).
يقرون فيها، كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا).
وقوله: (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
أي: متاعًا لكم إلى انقضاء آجالكم.
ويحتمل: متاعًا لكم لانقضاء الدنيا وانقطاعها.
وقوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ (٣٧)
أي: أخذ.
وقوله: (كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ).
قيل: إن فيه وجوهًا:
قيل: فتاب عليه، أي: وفق له التوبة، وهداه إليها فتاب، كقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)، أي: وفق لهم التوبة فتابوا.
وقيل: خلق فعل التوبة منه، فتاب، كما قلنا في قوله: (وَهَدَاهُ)
وقيل: تاب عليه، أَي: تجاوز.
وقيل: إن التوبة هي الرجوع. رجع آدم عن عصيانه؛ فرجع هو إلى الغفران
وفي الآية: أنه إنما تاب عليه لكلمات تلقاها من ربه.
والآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يقولون: إن من ارتكب صغيرة فهو مغفور له لا يحتاج إلى الدعاء، ولا إلى التوبة. فآدم - عليه السلام - دعا بكلمات، تلقاها منه؛ فتاب عليه. ولو كان مغفورًا له ما ارتكب لكان الدعاء فضلًا وتكلفًا، وباللَّه التوفيق.
والكلمات هي ما ذكرت في سورة أُخرى: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا...) الآية.
وقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
أي: قابل التوبة.
وقيل: أي موفق التوبة، وهادي لها؛ كقوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) وقد ذكرنا في قوله: (فَتَابَ عَلَيْهِ) ما احتمل فيه.
(الرَّحِيمُ) بالمؤمنين، ورحيم بالتائبين.
وقوله: (لْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا (٣٨)
ذكر هبوطهم جميعًا؛ فإذا هبطوا فُرادى لم يخرجوا من الأمر، بل كانوا في الأمر، فدل أَن الجمع في الأَمر، والذكر، لا يُصَير الجمعَ في الفعل شرطًا.
وقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى).
أي: ليأْتينكم. وهذا جائز في اللغة.
وقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
أي: من تبع هداي، ودام عليه حتى مات، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون وكذلك قوله: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ): في الدنيا، (وَلَا يَشْقَى) في الآخرة، إذا مات عليه.
وهذه الآية والتي تليها وهو قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩).
تنقض على الجهمية؛ لأَنهم يقولون بفناء الجنة والنار، وانقطاع ما فيهما.
وكذلك أخبر عز وجل أن الكفار في النار خالدون وأن عذابها أليم شديد فلو كان لهم رجاء النجاة منها [ لخف ذلك عليهم، وهان ؛ لأن من عوقب في الدنيا بعقوبة، وله رجاء النجاة منها ]٧ هان ذلك عليه، [ وخف ]٨، وبالله التوفيق.
٢ - من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل..
٣ - من ط م..
٤ - من ط م..
٥ - في ط م: النقمة..
٦ -في ط ع: دائمة..
٧ - من ط م..
٨ - من ط م..
(وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) دل أنها باقية، وأن نعيمها دائم، لا يزول.
وكذلك أخبر عَزَّ وَجَلَّ أن الكفار في النار خالدون وأَن عذابها أليم شديد، فلو كان لهم رجاء النجاة منها لخف ذلك العذاب عليهم وهَان؛ لأَن من عوقب في الدنيا بعقوبة، وله رجاء النجاة منها وإن ذلك عليه وخف، وباللَّه التوفيق.
* * *
قوله تعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦).
وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).
يحتمل وجوهًا:
يحتمل قوله: اذْكروا نعمتي التي خصصت لكم دون غيركم من نحو ما جعل منكم الأَنبياء، والملوك، كقوله: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
ويحتملُ (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ويعني: النجاة من فرعون، حيث كان يستعبدكم ويستخدمكم ويستحيي نساءكم، كقوله تعالى: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ...) الآية.
ويحتمل: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ومن نحو ما أَعطاهم - عَزَّ وَجَلَّ - المن والسلْوَى، وتظليل الغمام وغير ذلك من النعم، ما لم يُؤت أَحدًا من العالمين، خصوا بذلك من دون غيرهم. وقيل: نعمتُه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث وقتَ اختلافهم في الدِّين، وتَفرقهم فيما كان عليه مَنْ مَضى من النبيين ليدُلهم على الحق من ذلك، ويؤلف بينهم بالبينات.
ويحتمل: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أي: وجهوا شكرَ نعمتي إليَّ، ولا توجهوها إلى غيري.
فإن كان هذا المراد، فهم وغيرهم فيه سواء؛ إذ على كل مُنْعَم عليه أَن يوجه شكر نعمه إلى ربه.
وكان الأمر بذكر النعمة - واللَّه اّعلم - أَمرًا بعرفانها في القلب أَنها مِنَّةٌ، لا الذكر باللسان؛ إذ لا سبيل إلى ذكر كل ما أنعم عليه سوى الاعتراف بالعجز عن أداء شكر واحدة منها طول عمره.
وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي).
قد ذكرنا فيما تقدم أن عهد اللَّه على وجهين:
عهد خلقة: لما جعل في خلقة كل أَحد دلائلَ تدل على معرفته وتوحيده، وأَنه لم يخلقه للعبث، ولا يتركه سدى.
وعهد رسالة: على أَلسن الرسل؛ كقوله تعالى: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي...) الآية.
وكقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ...) الآية.
وكقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...) الآية.
وقوله تعالى: (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
الذي وعدتكم؛ وهو الجنة، كقوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ...) الآية.
ويقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي: أدوا ما فرضْتُ عليكم من فرائض، ووجهوا إليَّ شكر نعمتي، ولا تشكروا غيري.
ويكون أوفوا بعهدي الذي أَخذ على النبي ين بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ...) (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) فيكون عهدُه تبليغَ ما بَيّن في كتبهم؛ من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإقرار به، والنصر له إذا بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
أَي: اخشوا سلطاني وقُدْرتي.
وقيل: اخشوا نقض عهدي وكتمان بعث مُحَمَّد نبيي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (٤١)
قوله: (وَآمِنُوا بِمَآ أَنزَلْتُ) على نبيي مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن.
(مُصَدِّقا لِمَا مَعَكُم).
أي: موافقًا لما معكم من الكتب؛ من التوراة، والإنجيل، وغيرهما.
وهم قد عرفوا موافقتَه كتُبهم؛ إذ لم يتكلفوا جمع هذا إلى كتبهم، ومقابلة بعض ببعض.
أو يحتمل قوله: (مُصَدِّقا) أي: موافقًا لما معكم من الكتب، وليس كما قال صنف من الكفرة -وهم الصابئون-: إن الإنجيل نَزلَ بالرُّخص، والتَّوراة نزلت بالشدائد.
فقالوا باثنين؛ لما لم يرَوْا نزول الكتب -بعضُها على الرُّخَص وبعضُها على الشدائِد مِنْ واحدٍ- حكمةً.
فقال عَزَّ وَجَلَّ: (مُصَدِّقًا) أي: موافقًا للكتب، وأنها إنما نزلت من واحد لا شريك له، وإن كان فيه شدائدُ ورخص؛ إذ لله أَن ينهى هذا عن شيء، ويأْمرَ آخرَ، وينهى في وقت، ويأمر به في وقت، وليس فيه خروج عن الحكمة أَن يأْمر أَحدًا وينهاهُ في وقتٍ واحد، وفي حالٍ واحدة، وفي شيء واحد.
ثم في الآية دلالة أَن المنسوخ موافق للناسخ، غَير مُخالف له؛ لأَن من الأَحكام والشرائع ما كانت في كتبهم، ثم نسخت لنا، فلو كان فيها خلاف لظهر القول منهم إنه مخالف، وإنه غير موافق.
وكذلك في القرآن ناسخ ومنسوخ، فلم يكن بعضه مخالفا لبعضه، كقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
قيل فيه بوجهين:
قيل: لا تكونوا أَول قُدوة يقتدى بكم في الكفر.
وقيل: أَي لا تكونوا أَول كافر بما آمنتم به؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أَن يُبعث، فلما بعث كفروا به.
وقيل: هم أول من التقوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأَنه ظهر بين أَظهرهم؛ فلو كفروا لكانوا أَول من يكفر به فيلحقهم ما يلحق من سن الكفر لقومه مع ما يكونون هم بمعنى الحجة لغَيرهم؛ إذ كانوا أعرف به، وأبصر بما معه من الأدلة والبراهين؛ فيقتدى بهم من لم يشهد ولا عَلِمَ.
فيكون عليهم -لو كفروا- ما على أول من كفر -ولا قوة إلا باللَّه- مع ما يلحقهم فيه وصفُ التعنُت والتمرد، واللَّه الموفق.
وقوله: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا).
قيل: بحجتي.
قال الحسن: الآيات في جميع القرآن هي الدِّين؛ كقوله: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى).
وأما عندنا فهي الحجج، وقد ذكرنا أن اسم الشراء قد يقع من اختيار شيء بشيء وإن لم يتلفظ بلفظ الشراء.
وقوله: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ).
أي: اتقوا عذابي ونقْمتي، ويحتمل: سلطاني وقدرتي. وقد ذكرناه.
وقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (٤٢)
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: لا تشتروا بالحق الباطل.
ويَحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تلبِسوا؛ هو تلبيس الحق بالباطل.
ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تخلطوا.
ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تشبهوا الحق بالباطل.
ويحتمل: لا تلبسوا، أي: تكتموا.
ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تمحوا نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تثبتوا غيره. وكله يرجع إلى واحد.
يحتمل: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته.
ويحتمل الحق: القرآن.
ويحتمل الحق: الإيمان.
والباطلُ: هو الظلمُ والكفرُ، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
لما ذكر هو ونعتُه في كتابهم أَنه حق؛ إن كان محمدًا عليه أَفضل الصلواتِ وأَكمل التحيات، أو القرآن والإيمان، لكن تعاندون وتكابرون.
وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (٤٣)
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: الأَمر بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة أَمرًا بقبول الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة والمدعوة إليهما؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ليس هو إخبارًا عن إقامة فعلهما، ولكن القبول لهما والإيمان بهما، والله أعلم.
ويحتمل: أن يكون الأَمر بإقامة الصلاة والزكاة أَمرًا بكونهم على حال تكون صلاتهم صلاة، وزكاتهم زكاةً.
قال: كونوا في حال تكون صلاتكم صلاة، وزكاتكم زكاة في الحقيقة؛ لأَن الآية نزلت في بني إسرائيل وهم كانوا أَهل كتاب، وكانوا يُصَلُّون ويصَّدقون، ولكن صلاتهم وزكاتهم لم تكن لله، لما لم يأْتوا بإيمانهم فأمروا أن يأْتوا بالإيمان؛ لتكون صلاتهم تلك صلاة في الحقيقة.
ويحتمل: الأَمر بإقامة الصلاة والزكاة أَمرًا بإقامتها بأَسبابها وشرائطها من نحو
ويحتمل: الأمر بالصلاة والزكاة أَمرًا لمعنى فيهما، وهو الخضوع والطاعة له، والثناء عليه، وذلك على كل أَحد أَن يخضع لربه ويطيعه ولا يعصيه، وكذلك الزكاة على كل أَحد أن يزكيَ نفسه عن جميع القاذورات، ويحفظها. ويصونها عن جميع ما يضر به وذلك فَرضٌ على كل واحد، وباللَّه التوفيق.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).
قيل فيه بوجوه:
وقيل: إنَّهم كانوا يصلون وحدانا لغير اللَّه؛ فأُمروا بالصلاة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَصحابه بالجماعة.
وفيه أمر بحضور الجماعة.
وقيل: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي: كونوا مع المصلينَ يعني المسلمين، ولا تخالفوهم في الدِّين والمذهب، أَي: اعتقادًا.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (٤٤)
قيل فيه بوجوه:
قيل: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يَعنى: الأَتباع والسفلة باتباعكم، وتعظيمكم لعلمكم، وتلاوتكم الكتاب، (وَتَنسَونَ أَنفُسَكُمْ) ولا تأْمرونها باتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتعظيمه، لعلمه، ولنبوته، ولفضل منزلته عند اللَّه؟!
وقوله: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ).
أي: تجدون في كتابكم أنه كذلك.
وقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
أَن ذا لا يصحُّ؟!.
وقيل: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يعني: الفقراءَ والضعفةَ بالإيمان بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تأمرون الأغنياء وأهلَ المروءَة بالإيمان به، لما تخافون فوت المأْكلة، والبر، وانقطاعه عنكم.
ويحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين، ألا يأْمر أحدٌ أحدًا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثلهِ، بل الواجب أَن يبدأ بنفسه، ثم بغيره، فذلك أنفع وأَسرع إلى القبول.
(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَن ذلك في العقل لازم أن يجعل أول السعي في إصلاح نفسه، ثم الأمر لغيره. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (٤٥)
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: أَن استعينوا بالصبر على ترك الرئاسة والمأكلة في الدنيا؛ لأَن الخطاب كان
ويحتمل: أن اصبروا على ترك الرئاسة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والانقياد والخضوع له، لما بمن لكم من الثواب الآخرة لمن آمن به وأَطاعه، وترَكَ الرئاسةَ له.
ويحتمل: أَن اصبروا على المكاره وترك الشهوات؛ بأن الجنة لا تدرك إلا بذلك؛ لما جاءَ: " حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات ".
ويحتمل؛ أن استعينوا بالصوم والصلاة على أَدَائهما.
لكن هذا يرجع إلى المؤمنين، والآية نزلت في رؤساء بني إسرائيل، دليله قولُه: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ).
وإنما يصلح هذا التأويل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا...) الآية.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ).
يُخرَّج -واللَّه أعلم- على ما ذكرنا من ترك الرئاسة، والمأْكلة في الدنيا، إنها لكبيرة عليهم إلا على الخاشعين، فإنها غير كبيرة، ولا عظيمة عليهم.
ويحتمل: أنَ تركَ الرئاسة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والانقياد له، والخضوع - لثقيل إلا على الخاشعين؛ فإنه لا يثقل ذلك عليهم، ولا يكبر.
ويحتمل أَن يقال: إن الصبر على الطاعة، وأداء هذه الفرائض كبيرة على المنافقين إلا
ويحتمل أن اصبروا على ترك الرئاسة لمحمد صلى الله عليه وسلم والانقياد له والخضوع [ لما بين لكم من الثواب في الآخرة لمن آمن به وأطاعه وترك الرئاسة له.
ويحتمل أن اصبروا على المكاره وترك الشهوات بأن الجنة لا تدرك إلا بذلك لما جاء [ به الحديث الشريف ]٣ : " حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات " [ مسلم ٢٨٢ ].
ويحتمل أن استعينوا بالصوم والصلاة على آدائهما. لكن هذا يرجع إلى المؤمنين، والآية نزلت في رؤساء بني إسرائيل، دليله قوله ( وأنتم تتلون الكتاب ). وإنما يصلح هذا التأويل في قوله :( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ) الآية٤ [ البقرة : ١٥٣ ].
وقوله عز وجل :( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) يخرج، والله أعلم، على ما ذكرنا من ترك الرئاسة والمأكلة في الدنيا ؛ إنها لكبيرة عليهم إلا على الخاشعين، فإنها غير كبيرة ولا عظيمة عليهم. ويحتمل : أن ترك الرئاسة لمحمد صلى الله عليه وسلم والانقياد له والخضوع ]٥ لثقيل إلا على الخاشعين، فإنه لا يثقل ذلك عنهم، ولا يكبر [ وقيل : إن تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل ]٦ ويحتمل أن يقال : إن الصبر على الطاعة وأداء هذه الفرائض لكبيرة على المنافقين إلا على المؤمنين خاصة، فإنه لا يتعاظم ذلك عليهم. وقيل : إن تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل على اليهود، والله أعلم.
وقوله :( إلا على الخاشعين ) [ قيل ]٧ : فيه وجوه : قيل : الخاشع هو الخائف بالقلب، وقيل : الخاشع المتواضع، وقيل : الخاشع ههنا المؤمن. وقال الحسن :( الخشوع، هو الخوف اللازم بالقلب ).
٢ - من ط م، في الأصل و ط ع: أن أي..
٣ - ساقطة من ط م و ط ع..
٤ - أدرج الناسخ في ط ع تتمة الآية بدل: الآية..
٥ - ما بين هذا القوس ونهايته [لما بين... والخضوع] من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل..
٦ - ساقطة من ط م..
٧ - من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل..
وقيل: إن تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل على اليهود، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: الخاشع؛ هو الخائف بالقلب.
وقيل: الخاشع؛ المتواضع.
وقيل: الخاشع -ها هنا- المؤمن.
وقال الحسن: الخشوع هو الخوف اللازم بالقلب.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ (٤٦)
يعني: يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم بكسبهم وصنيعهم.
وقوله: (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
أي: سيعلمون يومئذ أَنهم راجعون إليه.
قال صاحب المنطق: الظن هو الوقوف على أَحد طرفي اليقين، والشك هو الوقوف على أَحد طرفى الظن. والهمةُ بين هذين.
* * *
وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).
يحتمل وجوها:
يحتمل: (أنعمت عليكم) بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن الناس كانوا على فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي، واختلاف من الأديان والمذاهب؛ فبعث اللَّه - تعالى - محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليجمعهم ويدعوهم إلى دين اللَّه، ويؤلف بينهم، ويخرجهم من الحيرة والتيه، وذلك من أعظم نعمة أنعمها عليهم، وباللَّه التوفيق.
وذلك أيضًا يُحْتمل فيما تقدم من الآيات.
وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي...) والآية.
وقوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) يعني محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وعهدُه في الأرض رسولُه، كقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) إلى قوله: (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، أي: عهدى.
وعلى ذلك قوله: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)، يعني: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)، يعني: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، أَمكن تخريج هذه الآيات كلها على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويحتمل أيضا قوله: (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) الوجوه التي ذكرنا.
أحدها: أن جعل منكم الأنبياء والملوك؛ كقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا).
كما قيل: إن كل نبي من لدن يعقوب إلى زمن عيسى عليه السلام كان من بني إسرائيل.
ويحتمل: ما آتاهم - عَزَّ وَجَلَّ - من أنواع النعم ما لم يؤت أَحدًا من العالمين؛
كما قيل، إن ثيابهم كانت تزداد وتمتد عليهم على قدر ما تزداد قامتهم، وكانت لا تُبلَى عليهم ولا تتوسخ، وذلك مما لم يؤتِ أحدًا سواهم.
ويحتمل أيضا قوله: (نِعْمَتِيَ) أي: النجاة من فرعون وآله؛ كقوله: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ..) الآية.
وقوله: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
قيل: فُضلوا على جميع من على وجه الأرض؛ على الدواب بالجوهر، وعلى الجن بالرسل، وعلى البشر بالإيمان.
ويَحْتمل تفضيلُهم على العالمين وجوهًا أيضا:
ما ذكرنا من بعث الأنبياء منهم.
والنجاة من أيدي العدو.
وإهلاك العدو وهم يرونه.
وفَرق البحر بهم، والنجاة منه، وإهلاك العدو فيه.
وذلك من أَعظم النعم: أَن ترى عدوَّك في الهلاك وأَنت بمعزل منه آمن.
وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إلى قوله: (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
يحتمل: فضَّل أَوائلهم.
وفي الآية وجهان على المعتزلة:
أَحدهما: قهوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)، وعندهم: أَن جميع ما فعل مما عليه الفعل، ولو فعل غيره لكان يكون به جائزا، فإذا كان تركه بفعله جائزا ففعله حق عليه.
ولا أَحد يكون بفعل ما لا يجوز له الترك منعمًا على أَحد؛ فثبت أن كان ثَمَّ منه معنى زائدٌ خصهم به، وأَن ليس التخصيص محاباة كما زعمت المعتزلة، ولا ترك الإنعام بخلٌ كما قالوا.
والثاني: قوله: (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، فلو لم يكن منه إليهم فضل معنى، لم يكن لهم ئفضيل على غيرهم؛ فثبت أن كان فيهم ذلك.
ومن قول المعتزلة: أَن ليس لله أَن يخص أَحدًا بشيء إلا باستحقاق يفعله، وبذلك هم
مع ما لا يخلو تفضيله إياهم على غيرهم من أَن يكون لهم الفضلُ في الدِّين أَولًا.
فإن لم يكن فليس ذلك بتفضيل.
وإن كان ثبث أَنْ ليس من الحق عليه التسويةُ بين الجميع في أسباب الدِّين.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا (٤٨)
الآيةُ - واللَّه أعلم - كأنها مؤخرة في المعنى وإن كانت في الذكر مقدمة؛ لأَنه قال: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ثم ذكر الأَفضال والمنَنَ فقال: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ...) الآية، وقوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ)، وقوله: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).
ذكَّرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عظيم نعمه ومنَنِه عليهم؛ ليشكروا له، وليعرفوا أنها مِنَّةٌ، وأَنه فضلٌ مِنْهُ،
ثم حذَرهم - جل وعز - فقال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا...) الآية؛ ليكونوا على حذر؛ لئلا يصيبهم ما أَصاب الأُمم السالفة من الهلاك وأَنواع العذاب بعد الأَمن، والتوسع عليهم، كقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا) إلى قوله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ...) الآية.
ثم في الآية دليل لقول أبي حنيفة وأصحابه: إن الولد يصير مشتومًا مقذوفًا بشتم والديه؛ لما عيرهم - جل وعز - بصنع آبائهم بقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ)، وهم لم يتخذوا العجل، وإنما اتخذ ذلك آباؤهم.
وكذلك ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - صنعه ومننه عليهم، من نحو النجاة من الغرق، وإخراجهم من أَيدي العدو، وفَرق البحر بهم، وإهلاك العدو. وإنما كان ذلك لآبائهم دونهم، لكن ذكرهم - جل وعز - عظيم منته على آبائهم؛ ليشكروا له على ذلك، وكذلك عَيرهم بصنيع آبائهم من اتخاذ العجل، وإظهار الظلم؛ ليكونوا على حذر من ذلك، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي: بما كان إنعامي عليهم باتباعهم الرسول موسى - عليه السلام - وطاعتهم له، فاتبِعوا اسم الرسول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَطيعوا له، ولا تتركوا اتباعه.
وقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا).
قيل: أي لا تُؤدي نفس عن نفس شيئا؛ كقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥).
قيل فيه بوجهين:
قيل: لا يكون لهم شفعاء يشفعون؛ كقوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ)، وكقوله: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ).
وقيل: لو كان لهم شفعاء لا تقبل شفاعتهم؛ كقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لا يؤْذَنُ لهم بالشفاعة؛ كقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى).
وقوله: (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ).
والعدل: هو الفداءُ، إما من المال، وإما من النفس.
وذلك أيضًا يحتمل وجهين:
يحتمل: ألا يكون لهم الفداء، على ما ذكرنا في الشفيع.
ويحتمل: أَن لو كان لا يقبل منهم؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ).
ثم الوجوه التي تخلص المرء في الدنيا إذا أَصابته نكبة بثلاث:
إما بفداءِ يفدى عنه -مالًا أو نفسًا- وإما بشفعاء يشفعون له، وإما بأَنصارٍ ينصرون له؛ فيتخلص من ذلك.
فقطع - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم جميع وجوه التخلص في الآخرة.
والآية نزلت - واللَّه أعلم - في اليهود والنصارى، وهم كانوا يؤمنون بالبعث، والجنة، والنار، كقوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) وقوله: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
ولذلك ذكر اسم الفداءِ والشفيع، وما ذكر، وأَما من لم يؤمن بالآخرة فلا معنى لذكر ذلك.
وقوله: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (٤٩)
قيل: آل الرجل: شيعتُه؛ ولذلك قيل: آل رسول اللَّه: قرابتُه.
وقيل: كل مؤمن فهو من آله، وعلى ذلك الأَمر بالصلاة عليه وعلى جميع من آمن به.
فيل فيه بوجهين:
قيل: يقصدونكم أَشد العذاب. وذلك يرجع إلى الاستعباد، والاستخدام بأَنفسهم.
وقيل: يسومونكم، يُذيقونكم أَشد العذاب، وذلك يرجع إلى ما يسوءُهم من تذبيح الأبْناء وتقتيلهم، كقوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)، أي: يقتلون أَبناءَكم.
وقوله: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ).
يحتمل أيضًا وجهين:
يحتمل: يستحيون من الحياء، أَي: استحيوا قتْل النساء، لما لا يخافهن.
ويحتمل من الإحياءِ، أي: تركوهن أَحياء فلم يقتلوهن.
وقوله: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).
قيل: البلاء -ممدود- هو النعمة، كأَنه قال: فيما ينجيكم من فرعون وآله نعمة عظيمة.
وقيل: البلا -مقصور- هو الابتلاء والامتحان؛ كأَنه قال: في استعباده إياكم واستخدامه امتحان عظيم.
وقوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
قيل: فرقنا، أَي: جعلنا لكم البحر فِرَقًا، أي: طرقًا تمرون فيه.
وقيل: فرقنا، أي: جاوزنا بكم البحر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (٥١)
كان الوعد لهم - واللَّه أعلم - وعدين:
أحدهما: من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بصرف موسى إليهم مع التوراة، كقوله: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) أَي: صدقًا.
ووعد آخر، كان من موسى بانصرافه إليهم بالتوراة على رأْس أَربعين ليلة، كقوله:
أحدهما : من الله عز وجل بصرف موسى إليهم مع التوراة كقوله :( ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ) [ طه : ٨٦ ] أي صدقا.
ووعد آخر، كان من موسى بانصرافه إليهم بالتوراة على رأس أربعين ليلة كقوله :( فأخلفتم موعدي ) [ طه : ٨٦ ].
وقوله :( ثم اتخذتم العجل من بعده ) [ يحتمل وجهين ]٢ : يحتمل٣ ( اتخذتم ) : أي عبدتم، فاستوجبوا ذلك التعيير٤ واللائمة بعبادة العجل لا باتخاذه نفسه، ويحتمل ( اتخذتم العجل ) إلها، فاستوجبوا ذلك باتخاذهم إلها كقوله :( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ) [ طه : ٨٨ ] وهذا كأنه٥ أقرب. وقيل :( اتخذتم ) أي صنعتم، والله أعلم.
قوله :( وأنتم ظالمون ) قيل في الظلم بوجوه : قيل : إن كل فعل يستوجب به الفاعل عقوبة فهو ظلم. وقيل : إن كل عمل لم يؤذن له فهو ظلم ؛ وههنا، حين فعلوا ما لم يؤذن لهم، نسبهم إلى الظلم ؛ لأنهم ظلموا أنفسهم. وقيل : إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فسموا بذلك لأنهم وضعوا الألوهية في غير موضعها، وهذا كأنه، والله أعلم، أقرب.
٢ - من ط م..
٣ - ساقطة من ط م..
٤ - من ط م، في الأصل و ط ع: التغيير..
٥ - في ط م: كان..
وقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ).
يحتمل وجهين:
(اتَّخَذْتُمُ): أي عبدتم؛ فاستوجبوا ذلك التعبير واللائمة بعبادة العجل لا باتخاذه نفسه.
ويحتمل: اتخذتم العجل إلهًا؛ فاستوجبوا ذلك باتخاذهم إلهًا، كقوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ).
وهذا كان أقرب.
وقيل: اتخذتم، أي: صنعتم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).
فيل في الظلم بوجوه:
قيل: إن كل فعل يستوجب به الفاعل عقوبة فهو ظلم.
وقيل: إن كل عمل لم يؤذن له فهو ظلم.
وهاهنا -حيث فعلوا ما لم يؤذن لهم- نسبهم إلى الظلم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم.
وقيل: إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه؛ فسموا بذلك لأنهم وضعوا الألوهية في غير موضعها، وهذا كأنه - واللَّه أعلم - أقرب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (٥٢) الآية.
يَنْقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يزعمون أن اللَّه إذا علم من أحدٍ أنه يؤمن به في آخر عمره -وإن طال- أَو يكون من نسله من يؤمن إلى آخر الأَبد، لم يكن له أن يُميته، ولا له أَن يقطع نسله.
فإذا كان على اللَّه أَن يبقيهم، ولا يقطع نسلهم، لم يكن للامتنان عليهم، ولا للإفضال وطلب الشكر منهم - معنى؛ إذ فَعَلَ - جل وعز - ما عليه أَن يفعل. وكل من فعل ما عليه أن يفعل لم يكن فعلُه فعل امتنان، ولا فعل إِفضال؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - مَنَّ عليهم بالعفو عنهم، حيث لم يستأصلهم، وتركهم حتى تناسلوا وتوالدوا، ثم وجه الإفضال والامتنان على هَؤُلَاءِ - وإن كان ذلك العفو لآبائهم؛ لأَنه لو أَهلك آباءَهم وقطع تناسلهم انقرضوا وَتَفَانَوا، ولم يتوالدوا؛ فالمنة عليهم حصلت؛ لذلك طلبهم بالشكر له، واللَّه أَعلم.
أَي؛ لكنى تشكروا. وكذلك قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، أي: لكى يوحدوا.
وذلك يحتمل وجوهًا:
يحتمل: أَن يَشْهد خَلْقُه كل أَحد على وحدانيته، وكذلك يشكر خَلْقُه كل أَحد له.
ويحتمل: عبادة الأخيار بوحدانيته، والشكر له بما أَنعم وأفضل عليه، وذلك يرجع إلى من يعبد ويوحد.
ويحتمل: أَنه خلقهم؛ ليأمرهم بالعبادة، والشكر له، من احتمل منهم الأَمر بذلك.
وقوله: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (٥٣)
يعني: التوراة. والكتابُ: اسم لكل مكتوب.
وفو له: (وَالْفُرْقَانَ).
قيل: سميت فرقانا؛ لما فرق وبَيّن فيها الحلال والحرام، وكل كتاب فرق فيه بين
وقيل: يسمى فرقانًا؛ لما فرق فيه بين الحق والباطل. وهما واحد.
وقيل: سميت التوراة فرقانًا؛ لما فيها المخرج من الشبهات.
وقيل: الآية على الإضمار؛ كأَنه قال: وإذ آتينا موسى الكتاب -يعني التوراة- ومحمدًا الفرقان؛ كقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ).
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
فالكلام فيه كالكلام في قوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقد ذكرنا فيه ما أَمكن، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩).
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ).
وقيل: ظلمتم أَنفسكم باتخاذكم العجل إلهًا.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ).
قيل: ارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة ربكم.
وقيل: ارجعوا عن اتخاذ العجل إلهًا إلى اتخاذ خالقكم إلهًا.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).
قال الفقيه أَبو منصور - رحمه اللَّه -: لولا اجتماع أَهل التأْويل والتفسير على صرف ما أَمر اللَّه - جل وعز - إياهم بقتل أنفسهم على حقيقته، وإلا لم نكن نصرف الأَمر بقتل أَنفسهم على حقيقة القتل؛ وذلك لأَن الأَمر بالقتل كان بعد التوبة، ورجوعهم إلى عبادة اللَّه، والطاعة له، والخضوع.
وقد شرع على أَلسن الرسل: قتال الكفرة حتى يسلموا؛ فلا يجوز ذلك إِنْ أَسلموا، فيحصل الإرسال للقتل خاصة، لا للدِّين، واللَّه أعلم.
ولأَن القتل هو عقوبة الكفر، لا عقوبة الإسلام، وخاصة قتل استئصال، على ما روي في الخبر: أَنْ قُتل سبعون أَلفًا في يوم واحد.
وذلك استئصال وإهلاك، ولم يهلك اللَّه قومًا إلا في حال الكفر والعناد؛ إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه؛ لأَن من يقتل لكفره إذا أَسلم سقط القتل عنه وزال، وكذلك إذا أَسلم وتاب ومات عليه، لم يعاقب في الآخرة لكفره في الدنيا.
فعلى ذلك: يجب ألا يعاقب هَؤُلَاءِِ في الدنيا -بالقتل- بعد التوبة والرجوع إلى عبادة اللَّه وطاعته.
ويصرف الأَمر بالقتل، إلى إجهاد أَنفسهم بالعبادة لله، والطاعة له، واحتمال الشدائد والمشقة؛ لتفريطهم في عصيان ربهم، باتخاذهم العجل. إلهًا، وبعبادتهم إياه دون اللَّه.
وذلك جار في الناس، يقال: فلان يقتل نفسه في كذا، لا يعنون حقيقة القتل، ولكن: إجهاده نفسه في ذلك، وإتعابه إياها، واحتمال الشدائد والمشقة فيه.
فعلى ذلك، يصرف الأَمر بقتل أَنفسهم إلى ما ذكر، بالمعنى الذي وصفنا، والله أعلم.
ثم صرف ذلك إلى حقيقة القتل احتمل وجهين:
أَحدهما: أَن يجعل ذلك ابتداءَ محنة من اللَّه - تعالى - لهم بالقتل، لا عقوبة لما سبق من العصيان.
ولله أن يمتحنهم -ابتداء- بقتل أَنفسهم؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ) الآية، على تأْويل كثير من المتأَولين في ذلك؛ إذْ لَه أَنْ يميتهم بجميع أَنواع الإماتة.
فعلى ذلك: له أَن يأْمر بقتل أَنفسهم، وفيه إماتة، مع ما فيه الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه، من بذل النفس لله، مما في مثله جعل وفاءِ إبراهيم الأَمر بالذبح، وبذل ولده النفس
فيكون في ذلك القدر وفاء وتوبة لا حقيقة القتل، واللَّه أعلم.
والثاني: يجوز ذلك؛ لأَن عقوبات الدنيا وثوابها محنة، لجواز الامتحان بعد التوبة والرجوع إلى طاعة اللَّه؛ لأَنها دار محنة.
وأَما عقوبات الآخرة وثوابها فليستا بمحنة؛ لأَنها ليست بدار امتحان؛ لذلك: جاز التعذيب في الدنيا بعد التوبة، ولم يجز في الآخرة إذا مات على التوبة، واللَّه أعلم.
ثم قيل في قوله: (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، بوجوه:
قيل: أُمروا ببذل الأَنفس للقتل، والتسليم له؛ فصاروا كأن قد قتلوا أنفسهم.
ويجوز أن يكون الأَمر بقتل أَنفسهم أمرًا بمجاهدة الأَعداء، وإن كان فيها تلفهم على ما قال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ...) الآية، مذكور ذلك في التوراة.
وكذا قوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ)، نهى عن القتل الذي فيه قتل أنفسهم.
وقد قيل في قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، بمعنى: أي لا تقتلوا مَن تَقتلون، فكأنما قد قتلتم أنفسكم، وعلى هذا التأويل خَرج أَبو بكر قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). واللَّه الموفق.
وقيل: أمر بعضًا بقتل بعض، كقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً)، أَي: يسلم بعضهم على بعض.
وقيل: أَمر كل من عبد العجل بقتل نفسه، واللَّه أعلم.
وقوله؛ (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ).
قيل: إن التوبة خير لكم عند خالقكم.
وقيل: قتلكم أنفسكم خير لكم من لزوم عبادة العجل.
ويحتمل: عبادة الرب - عَزَّ وَجَلَّ - خير لكم من عبادة العجل، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
وقد ذكرنا المعنى في ذلك فيما تقدم.
وفي بذل أَنفسهم للقتل، والصبر عليه، وكف أَيديهم عن الدفع، والممارسةَ فيه وجهان:
وذلك أَن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من خدمة فرعون وآله، ونجاهم من الشدائد التي كانت عليهم، ولحوق الوعيد بهم، وأَراهم من الآيات العجيبة: من آية العصا، واليد البيضاءِ، وفَرق البحر، وإهلاك العدو فيه، وتفجير الأَنهار من حجر واحد، وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها، أَن لو كانت واحدة منها لكفتهم، ودلتهم على صدقه ونُبُوته.
ثم -مع ما أَراهم من الآيات- إذا فارقهم، دعاهم السامرى إلى عبادة العجل، واتخاذه إلهًا، كقوله: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)، فأجابوه إلى ذلك، وأَطاعوه.
وكان هارون - صلوات اللَّه على نبينا وعليه - فيهم، يقول: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)، فلم يجيبوه ولا صدقوه، ولا اكترثوا إليه، مع ما كان هارون من أَحب الناس إليهم.
فلولا أَنهم كانوا مطبوعين على أَخلاق البهائم والدواب، وإلا ما تركوا إجابته، ولا عبدوا العجل، مع ما أُروا من الآيات التي ذكرنا.
فإذا كان إلى هذا يرجع أَخلاقهم لم يبالوا ببذل أَنفسهم للقتل، واللَّه أَعلم، ونحو ذلك قوله: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ).
وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه، فضلًا عن المستدل عليه، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل أَن أُروا ثواب صبرهم على القتل في الآخرة، وجزيل جزائهم، وكريم مآبهم؛ فهَانَ ذلك عليهم وخف.
كلما روى أن امرأَة فرعون لما علم فرعون -لعنه اللَّه- بعبادتها ربها، وطاعتها له، أَمر أَن تُعاقب بأشد العقوبات، فَفُعِل بها فضحكت في تلك الحال، لما أُريت مقامها في الجنة، وكريم مآبها؛ فهَان ذلك عليها وسهل.
فعلى ذلك يحتمل بذل هَؤُلَاءِ أَنفسهم للقتل، والصبر عليه لذلك، واللَّه أَعلم.
وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (٥٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: قال الذين اختارهم موسى -وكانوا سبعين رجلًا- لن نُصدقك بالرسالة والتوراة حتى نرى اللَّه جهرة، يخبرنا أنه أَنزلها عليك.
فاحتج بعض من ينفي الرؤية في الآخرة بهذه الآية؛ حيث أَخذتهم الصاعقة لما سأَلوا الرؤية.
قالوا: فلو كان يجوز أَن يُرى لكان لا تأْخذهم الصاعقة، ولا استوجبوا بذلك العذاب والعقوبة.
وأَما عندنا، فإنه ليس في الآية دليل نفي الرؤية، بل فيها إثباتها.
وذلك أَن موسى - عليه السلام - لما سُئل الرؤية لم ينههم عن ذلك، ولا قال لهم: لا تسأَلوا هذا.
وكذلك سأَل هو ربه الرؤية، فلم ينهه عنها، بل قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، وإذا صرف الوعد لا يجوز ذلك، لو كان لا يحتمل؛ لأَنه كفرٌ، ومحال ترك النهي عنه.
وكذلك ما روى في الأَخبار: من سؤال الرؤية لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قالوا: أَنرى ربنا؛ لم يأْت عنه النهي عن ذلك، ولا الرد عليهم؛ فلو كان لا يكون لنُهوا عن ذلك ومنعوا.
وإنما أَخذ هَؤُلَاءِ الصاعقةُ بسؤالهم الرؤية؛ لأَنهم لم يسألوا سؤال استرشاد، وإنما سأَلوا سؤال تعنت.
دليل التعنت، فيما جاءَ من الآيات، من وجه الكفاية لمن يُنْصف؛ لذلك أَخذتهم الصاعقة، واللَّه أعلم.
أَو أَن يقال: أَخذتهم الصاعقة بقولهم: (لَن نُؤمِنَ لَكَ)، لا بقولهم: (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً). وسنذكر هذه المسألة في موضعها، إن شاءَ اللَّه تعالى.
وقوله: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ).
قيل: الصاعقة كل عذاب فيه هلاك.
لكن الهلاك على ضربين:
هلاك الأَبدان والأَنفس.
وفيه هلاك الذهن والعقل؛ وكذلك قوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أَي غشي. واللَّه أعلم.
وقيل: الصعقة: صياح شديد.
وقوله: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).
قيل فيه بوجهين:
قيل: تعلمون أَن الصاعقة قد أَخذتهم وأَهلكتهم بقولهم الذي قالوا؛ فكونوا أَنتم على حذر من ذلك القول.
وقيل: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) الخطابُ لأُولئك الذين أَخذتهم الصاعقة - أَي: تنظرون إلى الصاعقة وقت أَخذتها لكم، أَي: لم تأْخذكم فجأَة، ولا بغتة، ولكن عيانًا جهارًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى... (٥٧)
يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عظيم مِنَّته عليهم، وجزيل عطائه لهم؛ ببعثهم بعد الموت، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى من السماءِ لهم، وذلك مما خصوا به دون غيرهم.
ثم ما كان لنا من الموعود في الجنة، فكان ذلك لهم في الدنيا معاينة، من نحو البعث بعد الموت ومن الظل الممدود، والطير المشوي، والثياب التي كانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ؛ فذلك كله مما وعد لنا في الجنة، وكان لهم في الدنيا معاينة يعاينون.
مع ما كان لهم هذا لم يجيبوا إلى ما دعوا، ولا ثبتوا على ما عاهدوا، وذلك لقلة عقولهم، وغلظ أَفهامهم، ونشوئهم على أَخلاق البهائم والدواب، واللَّه أعلم.
وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ).
يحتمل وجهين:
يحتمل: ما لم يكل لهم الفضل على حاجتهم، فأَباح لهم القدر الذي لهم إليه حاجة،
وقوله :( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) قد٤ ذكرنا معنى الظلم في ما تقدم٥. وقد يحتمل وجها آخر ؛ وهو النقصان كقوله :( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) [ الكهف : ٣٣ ] أي لم تنقص منه. وحاصل٦ ما ذكرنا : أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وكل ما ذكرنا [ يرجع ]٧ إلى واحد.
٢ - من ط م، في الأصل و ط ع: يشوبهم..
٣ - من ط ع، في ط م: يضرهم ليس، ساقطة من الأصل..
٤ - في النسخ الثلاث: وقد..
٥ - في تفسير الآية: ٥١..
٦ - في ط م: وحاصله..
٧ - من ط م..
ويحتمل أَنه سماه طيبات؛ لما لا يشوبه داء يؤذيهم، ولا أَذى يضرهم، ليس كطعام الدنيا مما لا يسلم عن ذلك، واللَّه أعلم.
وفد قيل: الطيب هو المباح الذي يستطيبه الطبع، وتتلذذ به النفس.
وقوله: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ...) الآية.
وقد ذكرنا معنى الظلم فيما تقدم.
وقد يحتمل وجها آخر: وهو النقصان؛ كقوله: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)، أي: لم تنقص منه.
وحاصل ما ذكرنا: أَن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وكل ما ذكرنا يرجع إلى واحد.
وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ (٥٨)
اختلف في تلك القرية:
قيل: إنها بيت المقدس، كقوله: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ).
أمروا بالدخول فيها، والمقام هنالك؛ لسعة عيشهم فيها ورزقهم؛ إذ هو الموصوف بالسعة والخصب.
وقيل: إن تلك القرية التي أُمروا بالدخول، والمقام هنالك، هي قرية على انقضاء التيه، والخروج منها.
غير أن ليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة، وإنما الحاجة إلى تعرف الخلاف الذي كان منهم، وما يلحقهم بترك الطاعة لله والائتمار، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا).
والرغد قد ذكرنا فيما تقدم: أَنه سعة العيش، وكثرة المال.
وقوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا).
يحتمل المراد من الباب: حقيقة الباب، وهو باب القرية التي أُمروا بالدخول فيها.
ويحتمل المراد من الباب: القرية نفسها، لا حقيقة الباب؛ كقوله: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) ذكر القرية ولم يذكر الباب، وذلك في اللغة سائغ، جائز؛ يقال: فلان دخل
وقوله: (سُجَّدًا).
يحتمل المراد من السجود: حقيقة السجود؛ فيخرج على وجوه:
يخرج على التحية لذلك المكان.
ويخرج على الشكر له؛ لما أَهلك أَعداءَهم الذين كانوا فيها، لقولهم: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ).
ويحتمل: حقيقة السجود؛ لما رُويَ عن أَبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن بني إسرائيل أُمروا بالدخول سُجَّدًا فدخلوا منحرفين " فما أَصابهم إنما أَصاب بخلافهم أَمر الله.
ويحتمل: الكناية عن الصلاة؛ إذ العرب قد تسمى السجود صلاة؛ كأنهم أُمروا بالصلاة بها.
ويحتمل الأمر بالسجود: لا حقيقة السجود والصلاة، ولكن: أَمر بالخضوع له والطاعة، والشكر على أَياديه التي أَسدى إليهم وأَنزل: من سعة التعيش، والتصرف فيها في كل حال، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ).
قيل بوجهين:
قيل: الحطةُ: هو قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، سميت حطة؛ لأَنها تحط كل خطيئة كانت من الشرك وغيره؛ فكأنهم أمروا بالإيمان والإسلام.
وقيل: (وَقُولُوا حِطَّةٌ): أَي اطلبوا المغفرة والتجاوز عما ارتكبوه من المآثم والخطايا، والندامة على ما كان منهم؛ فكأنهم أمروا أَن يأْتوا بالسبب الذي به يغفر الذنوب، وهو الاستغفار، والتوبة، والندامة على ذلك، واللَّه أعلم.
وذلك يحتمل الشِّرك، والكبائر، وما دونهما.
أَن ليس في اختلاف الأَلفاظ والألسن تغيير المعنى والمراد. وإن الأَحكام والشرائع التي وضعت لم توضع للأَسامي والألفاظ، ولكن للمعاني المدرجة والمودعة فيها، والله أعلم.
وقوله: (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).
ْيحتمل المراد من المحسنين: المسلم الذي كان أَسلم قبل ذلك.
ويحتمل: الذي أَسلم بعد قوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ)، وكان كافرًا إلى ذلك الوقت.
والزيادةُ تَحتمل: التوفيق بالإحسان من بعد، كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى...) الآية.
ويحتمل: الثواب على ما ذكر من قوله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا...).
وقوله: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ (٥٩)
قوله " بَدَّلَ " يحتمل: إحداث ظلم، بعد أَن لم يكن، والخلاف لما أَمرهم به عَزَّ وَجَلَّ.
ويحتمل: نشوءَهم على غير الذي قيل لهم.
ولم يبين: ما ذلك القول الذي بدلوا؟ وليس لنا -إلى معرفة ذلك القول- حاجة؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما يلزمهم بالتبديل، وترك العمل بأَمره، وإظهار الخلاف له، فقد تولى اللَّه بيان ذلك بمضله، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ).
قيل: " الرجز ": هو العذاب المنزل من السماء على أَيدي الملائكة؛ لأن من العذاب ما ينزل على أَيدي الملائكة كعذاب قوم لوط وغيره.
ومنه عذاب ينزل من السماء -لا على أَيدي أَحد- نحو: الصاعقة، والصيحة، ونحوهما.
وقوله: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
مرة ذكر " يَفْسُقُونَ "، ومرة ذكر " يَظْلِمُونَ "، وهو واحد.
وفي هذه الآيات التي ذكرناها، والأنباء التي وصفنا - دلالةُ رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإثباتُ
وذلك أَن أَهل الكتاب كانوا عرفوا هذه الأَنباء بكتبهم، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يذكر ذلك بمشهدهم، كما في كتابهم، ولم يكن ظهر منه اختلاف إليهم، ولا درس كتابهم؛ فدل: أنه باللَّه عرف، وكان فيها تسكين قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والتصبر عليه؛ لظهور الخلاف له من قومه، وترك طاعتهم إياه، وأن ذلك ليس بأول خلاف كان له من قومه، ولا أَول تكذيب، بل كان من الأُمم السالفة لأَنبيائهم ذلك، فصبروا عليه؛ فاصبر أَنت كما صبروا؛ كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ...) الآية.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١).
وقوله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ).
يعني: طلب الماء لقومه عند حاجتهم إليه؛ فأَوحى اللَّه - تعالى - إليه: أَن اضرب بعصاك الحجر.
قد ذكرنا فيما تقدم: أَن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أَراهم لمنْ عَصَاهُ آيات عجيبة، من نحو الثعبان الذي كان يتلقف ما يأْفكون؛ كقوله: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) وقوله: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ).
ومن ضربه البحر بها حتى انفلق؛ كقوله: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).
ومن ضربه الحجر بها، وانفجار العيون منه، وغير ذلك من الآيات مما يكثر، ذكرها عَزَّ وَجَلَّ من آيات رسالته، وآيات نبُوته.
وفيما أرى منها، من عجيب آياته: دلالةُ حدوث العالم وإبداعه، لا من شيء؛
فإذا كان هذا كما ذكرنا ظهر أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كان ينشئ ذلك الماء فيه، ويحدث من لا شيء؛ لأَن ذلك الحجر لم يكن من جوهر الماءِ، ولا من أَصله.
فإذا كان قادرًا على هذا فإنه قادر على إِنشاءِ العالم من لا شيء سبق، ولا أَصل تقدم.
وكذلك ما أَراهم - عَزَّ وَجَلَّ - من العصا: الثعبان والحية، لم يكونا من جوهرها، ولا من أَصلها، ولا تولدها منها، بل أَنشأَ ذلك وأَبدع، بلطفه. واللَّه الموفق.
وقوله: (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا).
قيل: كانوا اثني عشر سبطًا؛ لقوله: (اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا)، وهم بنو يعقوب؛ فجعل لكل سبط نهرًا على حدة، فانضم كل فريق إلى أبيهم الذي كانوا منه، ولم ينضموا إلى أَعمامهم وبني أعمامهم.
ففيه دلالة: أَن المواريث لا تصرف إلى غير الآباءِ إلا بعد انقطاع أَهل الاتصال بالآباءِ.
وفيه دلالة: أَن القوم في الصحاري والبوادي ينزلون مجموعين غير متفرقين، ولا متباعدين بعضهم من بعض بحيث يكون بعضهم عونًا لبعض وظهيرًا؛ لأَنهم نزلوا جميعًا في موضع واحد، مجموعين -مع كثرتهم وازدحامهم- غير متفرقين ولا متباعدين، وإن
وفي الأَول: سبق المعنى الذي وصفنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ).
أي: موردهم.
وفيه دلالة قطع التنازع، ودفع الاختلاف من بينهم؛ لما بين لكل فريق منهم موردًا على حدة.
ولو كان مشتركها لخيف وقوع التنازع والاختلاف بينهم، وفي وقوع ذلك بينهم قطع الأَنساب وألأَرحام، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (كُلُوا).
يعني: المن والسلوى.
وقوله: (وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ)، من الماءِ الذي أَخرج لهم من الحجر، وكلاهما رزق اللَّه، الذي ساقه إليهم، من غير تكلف ولا مشقة.
وقوله: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
قيل: لا تسعوا في الأرض بالفساد.
ويحتمل: لا تعثوا، أي: لا تفسدوا؛ لأن العُثُو هو الفساد نفسه، كأَنه قال: لا تفسدوا في الأرض؛ فتكونوا مفسدين.
وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ (٦١)
قيل فيه بوجوه:
قيل: أَول ما أنزل المن، فعند ذلك قالوا: لن نصبر على طعام واحد، ثم أَنزل السلوى.
وقيل: كانوا يتخذون من المن القُرَص، فيأكلون مع السلوى، فهو طعام واحد؛ فقالوا: لن نصبر عليه.
ويحتمل: أَن يكون طعامهم في اليوم مرة؛ فطلبوا الأَطعمة المختلفة. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَ).
وإضافة كلية الأشياءِ إلى اللَّه تعالى يخرج مخرج تعظيم الرب وإجلاله، نحو ما قال: (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)، و (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، و (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، و (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ونحوه. هذا كله وصف تعظيم الرب وإجلاله.
وقد اختلف في " الفوم ":
قيل: الفوم هو الثوم، وكذلك رُوِي في قراءة عبد اللَّه أَنه قرأَه: وثومها.
وقيل: الفوم البر.
وقوله: (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).
قيل في " أدنى " بوجوه:
قيل: أَدنى في القيمة.
وقيل: أدنى في الخطر والرغبة.
وقيل: أدنى في المنافع.
وقيل: أَدنى؛ لما لا يصل هذا إليهم إلا بالمؤنة والمشقة، وذلك لهم بلا مؤنة ولا مشقة؛ فهو خير.
وكل يرجع إلى واحد، واللَّه اعلم.
ويحتمل: أَدنى، أَي: أَدْوَن وأَقل، ولا شك أن ما طلبوا، وسَأَلوا دون الذي كان لهم.
ويحتمل: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ): قد أعطوا.
وقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا).
قيل: المصر المعروف.
وقيل: مصر من الأَمصار؛ لأن ما طلبوا لا يوجد إلا في الأَمصار، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ).
من الأَطعمة المختلفة إن كان المراد منه المراد، وإن كان الأَطعمة المختلفة فَهو كما قال.
وقوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: الذلة: ذلة احتمال المؤنة والشدائد؛ لما سأَلوا من الأَطعمة المختلفة.
وقيل: الذلة: ذلة الجزية والصغار؛ بعصيانهم ربهم.
وقيل: ذلة الكسب والعمل؛ لأَن الأَول كان يأْتيهم من غير كسب ولا مؤنة.
وقوله: (وَالْمَسْكَنَةُ).
قيل: هي الفقر والحاجة.
وقيل: قطعُ رجائهم من الآخرة؛ لما عصوا ربهم.
وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: باءُوا: رجعوا.
وقيل: استوجبوا.
وقيل: أَقَروا، وكله يرجع إلى واحد.
قد ذكرنا فيما تقدم: أَن الآيات، هي الحجج التي أعطى الرسل، وأَجراها على أيديهم.
وقال الحسن: هي دين اللَّه.
وقوله: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
يحتمل: أن يكون هذا في غيرهم؛ لأَنه لم يكن في زمن موسى نبي سوى هارون، وهم لم يقتلوه.
إلا أَن يقال: إن ذلك كان من أولادهم بعد موسى.
أو كان ذلك من غيرهم سوى هَؤُلَاءِ وأَولادهم.
على أَن قتل الأَنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرًا، حتى قيل: قتل في يوم كذا كذا نبيًّا.
ولم يذكر قتل رسول من الرسل، وذلك - واللَّه أعلم - لقوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلنَا) ولقوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)، أَخبر أَنه ينصرهم، وأَنهم منصورون ومن كان اللَّه ناصره فهو المنصور أَبدا.
ولأَن الرسل هم الذين أُوتوا الآيات المعجزة؛ فلم يكن لهم استقبال الرسل بذلك للآيات التي كانت معهم.
وأما الأَنبياء، فلم يكن معهم تلك الآيات المعجزة، وإنما كانوا يدعون الخلق إلى دين اللَّه بالآيات التي كانت للرسل، والحجج التي كانت معهم؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
قال قوم: لم يقتل أَحد من الرسل، وإنما قتل الأَنبياء، أَو رسل الرسل.
فإن كان كذلك فعلى ذلك يخرج ما ذكرنا من الآيات.
وإن لم يكن فالنصر كان بالحجج والآيات؛ فكانت تلك للكل.
وعلى ذلك: لا دلالة في كون الآيات مع الأَنبياء، وغير كونها، فإن لم يكن لهم ابتداء شرع، ولا نسخ، بل على الدعاء إلى ما سبق من الشرائع وكانت آياتهم كآيات الرسل، أَو دلالات العصمة، مع ما كان بهم حفظ الكتب السماوية بلا تبديل.
واللَّه أَعلم بالحق في ذلك، ونعتصم باللَّه عن بسط اللسان في ذلك، بالتدبير، دون شيء ظهر على أَلسن الرسل، أَو القول فيهم بشيء إن كانت آية لكل، أَوْ لا. لكن الله تعالى قد أَقام حجته لكلٍّ على قدر الكفاية والتمام.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢).
قيل: إن اليهود والنصارى وهَؤُلَاءِ جائز أَن يكون لهم تعلق بظاهر هذه الآية؛ لأنهم كانوا يقولون: إنا آمنا باللَّه، وآمنا باليوم الآخر، فليس علينا خوف ولا حزن.
لكن الجواب لهذا وجوه:
أَحدها: أَنّه ذكر المؤمنين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)، وإيمانهم ما ذكر في آية أخرى وهو قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). وهم قد فرقوا بين الرسل، بقولهم: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ).
وفرقوا بين الكتب أيضًا: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
فهَؤُلَاءِ الذين ذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية، هم الذين آمنوا بجميع الرسل، وآمنوا بجميع الكتب أيضًا.
فإذا كان هذا إيمانهم لم يكن عليهم خوف ولا حزن.
والثاني: ذَكَر الإيمان باللَّه. والإيمان باللَّه هو الإيمانُ بجميع الرسل، وبجميع الكتب.
ولكنهم لا يؤمنون باللَّه، ولا يعرفونه في الحقيقة.
أو أَن يقال: ذكَر عملَ الصالحات، والكفرُ ببعض الرسل ليس من عمل الصالحات؛ لذلك بطل تعلقهم بهذا، واللَّه أعلم.
وقيل: ذلك على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: إن الذين هادوا والنصارى من آمن منهم باللَّه واليوم الآخر، والذين آمنوا... الآية.
وللمعتزلة تعلق أيضًا بظاهر قوله: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وصاحب الكبيرة عليه خوف وحزن، فلو كان مؤمنا لكان لا خوف عليه ولا حزن؛ لأَنه أَخبر أَن المؤمن لا خوف عليه ولا حزن؛ فدل: أَنه يخرج من إيمانه إذا ارتكب كبيرة.
فيقال لهم: لم ينف عنهم الخوف، والحزن في كل الوقت.
فيحتمل: أَن يكون عليه خوف في وقت، ولا يكون عليه خوف في وقت آخر؛ لأن لكل مؤمن خوفَ البعث وفزعه حتى الرسل، بقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا
فإذا دخلوا الجنة، ونزلوا منازلهم، ذهب ذلك الخَوف والفزع عنهم،
فعلى ذلك المؤمن: يكون له خوف في وقت، ولا يكون عليه خوف في وقت آخر، واللَّه أعلم.
واختلف في الصابئين:
قيل: الصابئون: قوم يعبدون الملائكة، ويقرءُون الزبور.
وقيل: إنهم قوم يعبدون الكواكب،
وقيل: هم قوم بين المجوس والنصارى.
وقيل: هم قوم بين اليهود والمجوس.
وقيل: هم قوم يذهبون مذهب الزنادقة؛ يقولون باثنين لا كتاب لهم، ولا علم لنا بهم.
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ).
قد ذكرنا فيما تقدم: أَن ميثاق اللَّه، وعهده على وجهين: عهد خلقة وفطرة، وعهد رسالة ونبوة.
وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) في التوراة أَن يعملوا بما فيها، فنقضوا ذلك العهد لما رأَوا فيها الحدود، والأَحكام، والشرائع كرهوا؛ فرفع اللَّه الجبل فوقهم، فقبلوا ذلك.
ويحتمل ما ذكرنا من عهد خلقة وفطرة قنقضوا ذلك.
وقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ).
قيل: خذوا التوراة بالجد والمواظبة.
ثم احتج بعض المعتزلة بهذه الآية على تقدم القدرة الفعلَ؛ لأَنه أمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - بالقبول له، والأَخذ والعمل بما فيها.
فلو لم يعطهم قوة الأَخذ والقبول له قبل الأخذ له والفعل، لكان لا يأمرهم بذلك؛ لأنهم يقولون: لا قوة لنا على ذلك؛ فدل أنه قد أعطاهم قبل ذلك، لكنه غلط عندنا؛ لأَنه لو كان أَعطاهم القوة قبل الفعل، ووقت الأَمر به، ثم تذهب عنهم تلك القوة وقت الفعل - لكان الفعل بلا قوة؛ إذ من قولهم: أن القوة لا تبقى وقتين؛ فدل: أَنها تحدث بحدوث الفعل، لا يتقدم ولا يتأخر، ولكن يَكونان معًا.
ولأَنها سميت: قدرة الفعل، فلو كانت تتقدم الفعل، لم يكن لإضافة الفعل إليها معنى، واللَّه أعلم.
والأَصل في ذلك: أَن اللَّه - تعالى - قال: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) ومعلوم أَن المرادَ من ذلك الأَخذُ بقوة الآخذ.
ثم فيه وجهان:
أَحدهما: أَن للأَخذ قوة غير التي للترك.
والثاني: أَنه ذكر الأَخذ بقوة، فإذا لم تكن معه لم يكن بها أَن يرى أَن الوقت إذا تباعد لم يحتمل بما تقدم من القوة أَوقاتًا؛ فمثله وقت واحد.
وقوله: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: اذكروا، واحفظوا ما فيه من أَمره ونهيه، ولا تضيعوه؛ لعلكم تتقون المعاصي والمآثم.
ويحتمل: اذكروا ما فيه من التوحيد والإيمان؛ لعلكم تتقون الشرك والكفر.
ويحتمل: اذكروا ما فيه من الأَحكام والشرائع.
ويحتمل: الثواب والعقاب، والوعد والوعيد. وكله واحد.
وقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (٦٤)
يعني: من بعد القبول.
دل هذا على: أَنهم كانوا قَبِلوا ذلك مرة، قبل أَن يأْتيهم موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بها؛ فلما أَتاهم -
وقوله: (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
يحتمل وجوهًا:
قيل: فضل اللَّه عليكم الإسلام ورحمته: القرآن.
وقيل: فضل اللَّه عليكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بعث إليكم رسولًا؛ ليجمعكم، ويؤلف بينكم، ويدعوكم إلى دين اللَّه الحق، بعد ما كنتم في فترة من الرسل، وانقطاع من الدِّين والعمل.
ويحتمل: فضل اللَّه عليكم؛ لما أَنجا آباءَكم من العذاب، ولم يرسل عليهم الجبل، وإلا ما توالدتم أَنتم.
وقيل: فضل اللَّه عليكم؛ لما أَعطاهم التوراة، ووفقهم على قبولها، وإلا كنتم من الخاسرين. وبعضه قريب من بعض.
وقوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (٦٥)
فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
كأنه قال: ولقد علمتم أَن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعلم الذين اعتدوا منكم في السبت، ولا كان علم ما فُعِل بهم، ثم علم ذلك؛ فإنما علم باللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأَنه لم يكن قرأَ كتابكم، ولا كان يختلف إلى أَحد ممن يعرف ذلك؛ فباللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عرف ذلك، وبه علم؛ فدل: أَنه رسول اللَّه إليكم.
ويحتمل قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
أي: علمتم ما أَصاب أُولئك باعتدائهم يوم السبت بالاصطياد، وكنتم تقولون: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). يعني: أَبْناءُ رسل اللَّه وأَحباؤُه.
فلو كان كما تقولون، لم يكن ليجعلهم قردةً -وهي أَقبحُ خلق اللَّه، وأَوحشُه- إذ مثل ذلك لا يُفعل بالأَحباء ولا بالأَبناءِ.
أَو أَن يحمل على التحذير لهَؤُلَاءِ؛ لئلا يُكذبوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يعصوه في أَمره، فيصيبكم ما أَصاب أُولَئِكَ؛ بتكذِيبهم موسى، وعصيانهم أَمرَه، واللَّه أعلم.
ثم سبب تحريم الاصطياد في السبت كان -واللَّه أعلم- لما قيل: إن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أراد أَن يجعل يومًا لله، خالصًا للطاعة له، والعبادةِ فيه -وهو يوم الجمعة- فخالفوا هم أَمره
وعلى ذلك تأْويل قوله: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)، يعني: يوم الجمعة.
وقيل: (اخْتَلَفُوا فِيهِ)، يعني: في اللَّه.
ثم اختلف في قوله: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ):
قال قوم: قوله: (كُونُوا قِرَدَةً) من الأصل؛ على ذهاب الإنسانية منهم.
وقيل: حَوَّل جَوْهَرهم إلى جوهر القردة، على إبقاءِ الإنسانية فيهم؛ من الفهم والعقل؛ لأَنه قيل: إن الذين كانوا يَنْهَوْنهم عن الاصطياد في ذلك اليوم دخلوا عليهم، فيقولون لهم: أَلم نَنْهكم عن ذلك، ونزجزكم؟!
فَآومئوا: أَي نعم. ودموعهم تفيض على خدودهم.
فلو كان التحويل على ذهاب جميع الإنسانية منهم لكانوا لا يفهمون ذلك، ولا حزنوا على ما أَصابهم؛ لأَن كل ذي جوهر راضٍ بجوهره الذي خلقه اللَّه سبحانه يُسَرُّ به.
ولأَن تحويله إياهم قردةً عقوبةٌ لتمردهم في التكذيب، وجرأتهم على اللَّه؛ ليعلموا ذلك، ويروا أَنفسهم أَقبحَ خلقِ اللَّه وأَوحشَه.
وفيه نقض قول المعتزلة؛ لأَنهم يقولون: ليس في خلق اللَّه قبيح.
فلو لم يكن في خلق اللَّه قبيح لم يكن لتحويل صورتهم من صورة الإنسان، إلى أَقبح صورةٍ معنًى؛ ليروا قبح أنفسهم؛ عقوبةً لهم بما عَصَوْا أَمر اللَّه، ودخلوا في نهيه.
وقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا (٦٦)
قيل: الهاء راجعة إلى القرية التي كانوا فيها.
وقوله: (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا).
من أَهل القرية.
وقوله: (وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).
حواليها.
وقيل: أَراد بالهاءِ: القرية، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) من القرى، (وَمَا خَلْفَهَا) من القرى.
وقوله: (خَاسِئِينَ).
قيل: الخاسئ: الصاغرُ.
وقيل: الخاسئ: الذليلُ.
وقيل: البعيدُ. وكله يرجع إلى واحد، واللَّه أَعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤).
وقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).
قيل: قُتِل قتيلٌ في بني إِسرائيل، وأُلْقيَ على باب غيرِهم؛ فتنازعوا فيه واختلفوا؛ فأَمر اللَّه نبيه موسى أَن يذبحوا بقرةً، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فاضربوا ببعضها ذلك الميت؛ فيحيى، فيقول: مَنْ قتلني.
وقوله: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا
قَالَ بَعْضُهُمْ: كفروا بهذا القول؛ لأَنهم سمَّوْه هازئًا، ومن سَمَّى رسولًا من الرسل هازئًا يكفر؛ أَلا ترى أَنهم قالوا في الاخِر: (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)؟! دل أَن ما قال لهم أَولَ مرةٍ ليس بحق عندهم.
وليس هذا بشيء. ولا يحتمل ما قالوا.
ولكن يحمل على المجازاة، كأَنهم قالوا: أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أَنه من عند اللَّه يأْمر بذلك.
وهذا وأَمثاله على المجازاة جائزٌ على ما ذكرنا من الاستهزاءِ، والمخادعة، والمكر، كله على المجازاة جائز.
وكقول نوح لقومه: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)، على المجازاة جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء؛ فكذلك الأَول.
وأما الاستهزاء فيما بين الخلق فهو جهل يسخر بعضهم ببعض؛ لجهلٍ بأَحوال أَنفسهم؛ إذ كلهم سواء مِن جهة الجوْهر والخِلْقة، وتركيب الجوارح، وتصوير الصُّور، وتمثيلها.
أَلا ترى: أن موسى أجاب لهم عن الهزء بالجهْل، فقال: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)؟!
دل أَن الهزء في الخلق لجهلٍ فيهم، وباللَّه التوفيق.
ثم استدل قوم بهذه الآية على: عموم الخطاب وقت قرْع السمع؛ لأَنه أَمرهم بذبح بقرة لم يبين لهم كيفيَّتها، ولا ماهيتها وقت الخطاب، إلا بعد البحث والسؤال عنها؛ فثبت أَنه على العموم.
أَلا ترى ما روي في الخبر: " لو عمدوا إلى أَدنى بقرة لأَجزأتهم، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللَّه عليهم ".
لكن هذا لا يصح؛ لأَنه دعوى على اللَّه، لحدوث شيء في أَمره، وبُدُوٍّ في حكمه، فذلك كفرٌ، لا يقوله مسلم، فضلًا عن أَن يقولَ به رسولٌ من الرسل.
ثم في الآية دليل خصوص الخطاب من وجهين:
أَحدهما: أَخذُ كل آيةٍ خرجت في الظاهر على العموم حتى الخصوص.
والثاني: جواز تأْخير البيان على تقدم الأَمر به؛ لما ذكرنا: أنها لو حملت على العموم -وهو مرادها- ثم ظهر الخصوص، فهو بدو وحدوث في الأَحكام والشرائع، فذلك حال من جهل العواقب والنهايات، تعالى اللَّه عن ذلك.
ومعنى سُؤالهم؛ بدعاءِ الرب لهم: البيان بما أريد جعل ذلك آية؛ فوقع عندهم: أَنْ لا كل بقرة تصلح للآيات، ولذلك لم يسأَلوا موسى عن تفسيرها؛ إذ اللَّه - تعالى - هو الذي يعلم الآيات.
والحرف الثاني هو الأَول الذي قلنا: إليه انصرف المراد في الابتداءِ؛ لما يوجبه، وأَن الأَمر بالذبح في الابتداءِ كان على ما آل أَمرها إليه وظهر.
لكنهم أمروا بالسؤال عنها، والبحث عن أَحوالها؛ ليصلوا إلى المراد فيه، لا أَنه أَحدث لهم ذلك بالسؤال.
وعلى ذلك: ما روي في الخبر: " أَن صلة الرحم تزيد في العمر ".
أَي: لما علم من عبده أَنه يصل رحمه، جعل مدة عمره أَكثر مما لو علم أَنه لا يصل، لا أَنه يجعل أَجله إلى وقت، فإذا وصل رحمه زادَ على ذلك.
لا على ما يقوله المعتزلة: أَن اللَّه - تعالى - يجعل لكل أَحد أَجلين، فإذا وَصل رحمه أَماته في أَبْعد الأَجلين، وإذا لم يصل جعلَ أَجله الأولَ.
فهذا أَمر من يجهل العواقب، فأَما من كان عالمًا بالعواقب فلا؛ لأَنه بدوٌّ ورجوعٌ عما تقدم من الأَمر.
ثم من استدل بهذه الآية: بقبول قول أَولياءِ المقتول وَهِمَ؛ لأَوجهٍ:
أَحدها: ما لا يقبل قول القتيل قبل خروج الروح منه: إنَّ فلانًا قتلني، في قطع حَق الميراث، وإغرام الدية.
والثالث: أَن أَولياء المقتول قد كانوا -قبل أن يحيى- يدَّعون عليهم القتل، فلو كان لهم حق القبول، لم يحتج إلى تلك الآية.
والرابع: أَن قبول قول الميت أَحق من قبول قول الولي؛ لأَن الوليَّ ينتفع بقوله، والميت لا ينتفع بقوله شيئًا، ثم القتيل لا يقبل قوله في شريعتنا فكذلك الولي، والله الموفق.
ثم وَجْه جعْلِ البقرة آيةً دون غيرها من البهائم وجهان:
أَحدهما: ما رُويَ أن رجلًا كان بارًّا بوالديْه، محسنًا إليهما عاطفًا عليهما، وكانت له بقرة على تلك الصفة والشبه، فأراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أَن يوصل إليه في الدنيا جزاء ما كان منه بمكان والديْهِ.
والثاني: أَنهم كانوا يعبدون البُقُور والعَجَاجيل، وحُببَ ذلك إليهم؛ كقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)، ثم تابوا وعادوا إلى عبادة اللَّه وطاعته، فأَراد اللَّه أَن يمتحنهم بذبح ما حُبِّب إليهم؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة، وانقلاع ما كان في قلُوبهم من حب البُقُور والعجاجيل، واللَّه أَعلم.
وقوله: (لَا فَارِضٌ).
٢ - في النسخ الثلاث: وقوله..
٣ - أدرج في ط م بعد ولا شابة: وقوله: (عوان... بقرة)..
وقوله: (وَلَا بِكْرٌ).
ولا شابة.
وقوله: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ).
بين الشابة والكبيرة.
وقل: (لَا فَارِضٌ): لا كبيرة، على ما ذكرنا (وَلَا بِكْرٌ)، أي: ولا ما لا تلد، (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) أي: قد ولدت بطنًا أَو بَطنَين.
وقوله: (صَفْرَاءُ (٦٩)
قيل: الصفراءُ؛ التي تضرب إلى السواد، وذلك لشدته.
وقيل: الصفراءُ؛ من الصفَر المعروف.
وقوله: (فَاقِعٌ لَوْنُهَا).
قيل؛ صَافٍ.
وقوله: (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ).
تُعْجِب الناظرين.
وقيل: (فَاقِعٌ لَوْنُهَا). صَفْرَاءُ الظلف والقَرن، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)
وقوم موسى مع غلظ أفهامهم، ورقة عقولهم - أَعرف لله، وأَمهلُ توحيدًا من المعتزلة؛ لأَنهم قالوا: إنْ شَاءَ اللَّه لكنا من المهتدين.
والمعتزلة يقولون: قد شاءَ اللَّه أَن يهتدوا، وشاءُوا هُم ألا يهتدوا؛ فغلَبَتْ مشيئَتُهم
وقوله: (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا (٧١)
قيل: لم يذللها للعمل؛ أَي: لم يزرع عليها، ولا هي مما يُسقى عليها الحرث.
وقيل: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ)؛ أي: بقرة وحسية صعبة، تثير الأَرض، ولكن إثارة الأَرض لم تذللها؛ لصعوبتها وشدتها.
وقوله: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ).
قيل فيه بوجوه:
(وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، خوفًا على أَنفسهم أَن يفتضحوا لظهور القاتل.
وقيل: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاءِ ثمنها.
والأولُ أَقرب، واللَّه أعلم.
وقيل: إنهم استقصَوْا في صفة تلك البقرة، والسؤال عن أحوالها، والاستقصاءُ في الشيء ربما يكون للمدافعة، واللَّه الموفق.
وفي قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) دليل لأَبي حنيفةَ - رَحمَهُ اللَّه وَأصحابِه - أَن من حَلَف لا يأْكل لحم بقرَةٍ، فأَكل لحْم ثَور حنث؛ لأَن اللَّه تعالى ذكر البقرةَ، ثم بين في آخره ما يدل أَنه أَراد به الثورَ؛ لقوله: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ).
والثوْرُ هو الذي يثير الأَرض، ويسقي الحرث، دون الأُنثى منها؛ لذلك كان الجواب على ما ذكرنا.
إلا أَن يكونوا همْ كانوا يحرثون بالأُنثى منها كما يَحرث أَهل الزمان بالذكَر، فحينئذ لا يكون فيه دليلٌ لما ذكرنا، واللَّه أَعلم.
وقوله: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
في الآية: دليلُ مُرادِ الخصوص -وإن خرجت في الظاهر مخرج العموم- لأَنه قال عز وجل: (قَتَلْتُمْ)، وإنَّمَا قتله واحد، وقال: (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)، وإنما كان كتمه الذي قتله.
٢ - ساقطة من انسخ الثلاث..
وقوله: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا (٧٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: بفخذها الأَيمن.
لكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن اللَّه تعالى، ولكن يقال: (بِبَعْضِهَا) بقدر ما في الكتاب.
وقوله: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى).
أَي: هكذا يُحي اللَّه الموتى، من الوجه الذي لا يتوهمون إحياءَه، بضرب بعض البقرة عليه.
وكذلك قوله: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (٩).
فكما أَحيا الأَرض بَعد موتها بالمطر المنزل من السماءِ، يقدر على إِحياءِ الموتى، وبعثهم على الوجه الذي لا يظنون ولا يتوهمون، واللَّه أعلم.
ويحتمل: إِحياء ذلك القتيل لهم، لما لم يكونوا اطمَأنوا على إِحياءِ الموتى؛ فأَرَاهُم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك؛ ليطمئنوا، وليَستَقِروا على ذلك، ولا يضطَربوا فيه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ).
يحتمل: يُريكم آيات وحدانيته.
ويحتمل: يريكم آيات إِحياءِ الموتى، وآيات البعث.
ويحتمل: آياته فيما تحتاجون إليه، كما أَرى من تقدمكم عند حاجاتهم.
ويحتمل: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) آيات نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو خَبَّر عن الغيب.
وأَوضح آيات الرسالة؛ الخَبَرُ عن الغئبِ، وذكرُ القصة على الوجه الذي يعلم أَن الاختراع لا يبلغ ذلك؛ لتعلموا أَنه باللَّه علم؛ إذ لم يذكر له خط كتاب، ولا اختلافٌ إلى من عنده.
على أَنه لو كان مسموعًا منهم، يجري على مثله القول في الزيادة والنقصان، ولكن منعهم اللَّه تعالى عن ذلك -إذ علموا صدقه- إِشفاقًا على أَنفسهم، أَن ينزل عليهم نِقْمة اللَّه.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
لكي تعْقلُوا آيات وحدانيته، وتعقلوا أَنه قادر على إِحياءِ الموتى بَعْدَ الموت.
وقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (٧٤)
ضرب الله لقلوبهم مثلا بالحجارة، وشبهها بها لقساوتها وشدة صلابتها وأنها أشد قسوة من الحجارة ؛ وذلك أن من الحجارة مع صلابتها وشدتها مع فقد أسباب الفهم والعقل وزوال الخطاب منها [ ما ]١ تخضع له، وتتصدع [ كقوله ]٢ ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ الحشر : ٢١ ] وقوله :( فلما تجلى ربه للجبل ) الآية٣ [ الأعراف : ١٤٣ ].
وقلب الكافر مع وجود أسباب الفهم والعقل وسعة سببية القبول لا يخضع له ولا يلين، وكذلك أخبر الله عز وجل [ عن الجبال أنها تلين، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله :( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) [ القارعة : ٥ ] وقلب الكافر لا يلين أبدا، أو أن يقال : إن الله عز وجل ]٤ جعل من الجبال٥ منافع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منها٦ الأنهار والمياه، وقلب الكافر مع احتمال ذلك وإمكانه لا منفعة منه لأحد، وبالله التوفيق.
ثم٧ وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلا بالحجارة وتشبيهها بها دون غيرها من الأشياء الصلبة من الحديد والصفر وغيرهما. ذلك، والله أعلم، أن الحديد يلينه النار، وكذلك الصفر حتى يضرب منها الأواني، [ والحجر لا تلينه النار ]٨ ولا شيء ؛ لذلك شبه قلب الكافر بها. وهذا، والله أعلم، في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا.
وقوله :( وما الله بغافل عما تعملون ) خرجت على الوعيد أبلغ الوعيد والوعظ حتى ذكرهم علمه بما يعملون.
٢ - من ط م و ط ع..
٣ - أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة..
٤ - من ط م..
٥ - في ط ع: الجبل..
٦ - في النسخ الثلاث: منه..
٧ - أدرج في ط ع قبل هذه الكلمة العنوان التالي: حكمة ضرب قلب الكافر مثلا بالحجارة..
٨ - من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل..
وقوله: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ...) الآية.
وقلبُ الكافر -مع وجود أسباب الفهم والعقل، وسعة سببية القبول- لا يخضع له، ولا يلين.
وكذلك أَخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن الجبال أَنها تلينُ، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ). وقلبُ الكافر لا يلين أَبدًا.
أَو أَن يقال: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جعل من الجبال مَنافِع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منه الأَنهار والمياه. وقلبُ الكافر -مع احتمال ذلك وإمكانه- لا منفعة منه لأَحدٍ.
وباللَّه الئوفيق.
ثم وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلًا بالحجارة، وتشبيهها بها، دونَ غيرها من الأَشياء الصلبة؛ من الحديد، والصُّفْر، وغيرهما، وذلك - واللَّه أعلم - أَن الحديد تُلينه النار، وكذلك الصُّفْر حتى تضرب منهما الأَواني.
والحجرُ لا تُلينهُ النار ولا شيء؛ لذلك شبه قلب الكافر بها. وهذا - واللَّه أعلمَ - في قوم علم اللَّه أَنهم لا يؤمنون أَبدًا.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
خرجت على الوعيد -أبلغ الوعيد- والوعظ؛ حين ذَكرهم علمه بما يعملون.
* * *
قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
وقوله: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ).
قيل: الآية -وإن خرجت على عموم الخطاب- فالمراد منها الخصوص، وهو
وقيل: المراد منها -بعموم الخطاب- العموم؛ يعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأَصحابه؛ وكأَنها خرجت على النهي عن طمع الإيمان منهم، كأَنه قال: لا تطمعوا في إيمانهم.
كقوله: (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)؛ أي: لا تُنقذ.
وكقوله: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)؛ أَي: لا تسمع الصم.
وقوله: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ...) الآية.
لقائلٍ أن يقول: أَليس فيما كان فريقٌ منهم يسمعُون كلام اللَّه ثم يحرفونه ما يجب أَن يدفع الطمع عن إيمان هَؤُلَاءِ؟
فهو - واللَّه أعلم - لوجهين:
أَحدهما: أَنهم كانوا أصحاب تقليد؛ كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَن هَؤُلَاءِ -وإن رأَوا الآيات العجيبة- فإنهم لا يؤمنون أَبدًا؛ لأَنهم أَصحاب تقليد، لا ينظرون إلى الحجج والآيات.
والثاني: أَنهم - معَ كثرة ما عاينوا من الآيات، وشاهدوا من العجائب في عهد رسول اِلله موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يطمع في إيمانهم، فكيف طمعتم أَنتم في إيمان هَؤُلَاءِ، وهم أتباعهم؟ واللَّه الموفق.
ولهذا وجهان آخران:
أحدهما: كأنه قال: لا تطمع في إيمانهم؛ لأَنهم - في علم اللَّه على ما عليه من ذكر.
والثاني: لأن أُولَئِكَ كانوا خيرًا من هَؤُلَاءِِ، وأَرغبَ في الحق منهم، ثم لم يؤمنوا مع سماع الحجج، وما يجب به الإيمان، فكيف تطمع في إيمان هَؤُلَاءِ؟
وقوله: (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
أنه من عند اللَّه، ويعلمون أَنه رسول اللَّه، وأَنه حق.
وقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا (٧٦)
فقد ذكرنا فيما تقدم أَنها في المنافقين نزلت.
وقوله: (وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ).
يحتمل: خلا بعض المنافقين إلى بعض، قالوا: أَتحدثونهم بكذا.
ويحتمل: خلاء المنافقين إلى اليهود.
وقوله: (قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ).
قيل: فتح اللَّه؛ قصَّ اللَّه.
وقيل: فتح اللَّه؛ بيَّن اللَّه.
وقيل: فتح اللَّه؛ قضى اللَّه.
وقيل: منَّ اللَّه عليكم في التوراة. وكله يرجع إلى واحد.
وقوله: (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ).
أي: باعترافكم عند هَؤُلَاءِِ.
ويحتمل: على إضمار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كأَنه قال: ليحاجوكم بإقراركم عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
ويحتمل: على معنى ليحاجوكم به عند ربكم أي في ربكم؛ إذ العرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض.
ويحتمل: عند ربكم، أَي: يوم القيامة. ويكون ليحاجوكم بما عند اللَّه؛ أَي: بالذي جاءكم من عند اللَّه.
لكن لقائل أَن يقول: ما معنى ذكرِ المحاجَّةِ عند ربكم، والمحاجةُ يومئدٍ لا تكون إلا عنده، ولا تكون ليحاجوكم بها عند اللَّه؛ أَي: بالذي جاءَكم من عند اللَّه؟
قيل: لأَن ذلك أَشد إِظهارًا، واقل كتمانًا؛ لما لممبق منهم الإقرارُ بذلك؛ لذلك نهوا عن ذلك، لأَنهم كانوا يَنْهوْن أُولَئِكَ عن الإقرار بالإيمان عند المؤمنين، وإظهار ما في التوراة من بَعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَصِفته.
وقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
أَنَّ هذه حجةٌ لهم عليكم، حيث تعترفون به، وتظهرون نعته وصفته ثم لا تبايعونه.
ويحتمل: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَنه حق.
وقوله: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧)
وقيل: (مَا يُسِرُّونَ) من كتمان نعته وصفته. (وَمَا يُعْلِنُونَ) من إظهار نعته وصفته الذي في التوراة.
ويحتمل: ما يُسِرُّ هَؤُلَاءِِ لهم من النهي عن إظهار ما في التوراة، وما يُعْلِنُ هَؤُلَاءِ للمؤمنين من إظهار نعته وصفته، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ (٧٨)
يقول: مِنَ اليهود من لا يقرأ التوراة ولا يعرفها، إلا أَن يحدثهم العلماء والرؤساء عنها.
والأُمِّي: الذي لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة، لكنه يقرأ لا عن كتابة، كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كان لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة؛ كقوله: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ).
ويقال أَيضا: الذي لا يقرأ ولا يكتب، لا عن كتابة، ولا غير كتابة.
وقوله: (إِلَّا أَمَانِيَّ).
قيل: أَحاديث باطلة يحدث لهم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ.
وقيل: إِلَّا أَمَانِيَّ، يعني إلا كذبًا.
وقال الكسائى: إلا أَمانى: إلا تِلاوة؛ كقوله: (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، يعني: في تلاوته.
وقوله: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، يقول: ما هم إلا ظن يظنون في غير يقين.
وأَصله: أَي لا يعلمونَ علم الكتاب، إنما عندهم أماني النفس وشهواتها؛ كقوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ).
قيل: الويلُ: الشدةُ.
وقيل: الويلُ: وادٍ في جهنم.
وقيل: الويل: هو قول كل مكروب وملهوف يقول: ويلٌ له بكذا.
وقوله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) يحتمل وجهين:
يحتمل: يكتبون: يمحون نعته، وصفته عن التوراة.
ويحتمل: يكتبون: يُحْدثون كتابة، على خلاف نعته وصفته، ثم يقولون: هذا من عند اللَّه؛ فتكون الكتابة في هذا إثباتًا؛ كقوله: (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ)، والمثبت: هو ذلك الملحق ليظن أنه كذلك في الأَصل.
وقوله: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
قد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ).
ذكر لهم ثلاث ويلات:
ويل؛ بإِحداث كتابة ببعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومحوه وتغييره.
والثاني: بقولهم: هذا من عند اللَّه.
والثالث: وويل لهم مما يكسبون من المأكلة والهدايا.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)
وقوله: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
أَجمع أَهل التفسير والكلام على صرف الأَيام المعدودة المذكورة في هذه الآية إلى أَيام عبادة العجل. وذلك لا معنى له؛ لوجهين:
أحدهما : أن هؤلاء لم يعبدوا العجل، وإنما عبد آباؤهم، فلا معنى لصرف ذلك إلى هؤلاء.
والثاني : لو صرف١ ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضا لأنهم قد تابوا، ورجعوا عن ذلك، فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله كقوله :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ]، والله أعلم.
وتصرف الأيام المعدودة إلى العمر الذي عصوا فيه، لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب، أو لما لم يكونوا يرون التخليد في النار أبدا، أو لما هم عند أنفسهم كما أخبر الله عنهم كقولهم٢ :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ [ البقرة : ١١١ ] وكقولهم :﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ [ المائدة : ١٨ ] يقولون إنا لا نعذب أبدا، إنما نعذب تعذيب الأب ابنه الحبيب٣ ونعذب٤ في وقت قليل، ثم يرضى، وندخل٥ الجنة. ولكن عقوبة الكفر أبدا والتخليد فيها لا لوقت. فعلى ذلك جزاؤه للأبد لا لوقت. وأما من ارتكب ذنبا من المسلمين بشهوة تغلبه في وقت، فيرتكبه، ثم يتركه، فإنما يعاقب، إن عوقب، على قدر ما ارتكب في وقت، لأنه لم يرتكبه للأبد، لذلك افترقا. والله أعلم.
وقوله :﴿ قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ﴾ والعهد يحتمل [ وجهين :
أحدهما ]٦ : هل خبر عن الله تعالى بأنكم لا تعذبون أبدا، ولكن أياما معدودة ؟ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده.
والثاني ﴿ أتخذتم عند الله عهدا ﴾ أي ألكم٧ أعمال صالحة عند الله، فوعدكم بها الجنة، فهو لا يخلف وعده ؟ أي ليس لكم واحد من هذين : لا خبر عن الله بأنه لا يعذبكم ولا أعمال صالحة وعد لكم بها الجنة.
وقوله :﴿ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ هذا إكذاب من الله عز وجل إياهم بذلك القول، كأنه قال : بل تقولون على الله ما لا تعلمون.
٢ - في النسخ الثلاث بقوله..
٣ في ط م: أو الحبيب حبيبه..
٤ - في النسخ الثلاث: يعذب..
٥ - في النسخ الثلاث: ويدخل..
٦ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٧ - الهمزة ساقطة من النسخ الثلاث..
والثاني: لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضًا؛ لأَنهم قد تابوا ورجعوا عن ذلك؛ فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة اللَّه؛ كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، واللَّه أعلم.
وتصرف الأَيام المعدودة إلى العمر الذي عَصَوا فيه؛ لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب، أَو لما لم يكونوا يروْن التخليد في النار أَبدًا، أو لما هم عند أنفسهم، كما أَخبر اللَّه عنهم، بقوله: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) وكقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).
يقولون: إنا لا نُعذَّب أَبدًا، إنما نعذَّب تعذيب الأَبِ ابنَه أو الحبيبِ حبيبَه؛ يعذِّب في وقت قليل، ثم يرضى، ويدخل الجنة.
ولكن عقوبة الكفر أبدًا، والتخليد فيها لا لوقت، وكذلك ثوابُ الإيمان للأَبد لا لوقت؛ لأَن من اعتقد دينًا إنما يعتقده للأبد لا لوقت؛ فعلى ذلك جزاؤه للأَبد لا لوقت.
وأما من ارتكب ذنبًا من المسلمين؛ بشهوة تغلبه في وقت، فيرتكبه، ثم يتركه - فإنما يعاقب إن عوقب على قدر ما ارتكب في وقتٍ؛ لأَنه لم يرتكبه للأَبد؛ لذلك افترقا، والله أعلم.
وقوله: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ).
والعهد يحتمل: هل عندكم خبر عن اللَّه تعالى بأنكم لا تعذبون أبدًا، ولكن أيامًا معدودة؛ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده.
والثاني: اتخذتم عند اللَّه عهدًا، أي لكم أعمال صالحة عند اللَّه فوعدكم بها الجنة، فهو لا يخلف وعده.
أَي: ليس لكم واحد من هذين، لا خبرٌ عن اللَّه بأنه لا يعذبكم، ولا أَعمال صالحة وعد لكم بها الجنة.
وقوله: (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١)
هذا إكذابٌ من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إِياهم بذلك القول، كأنه قال: بل تقولون على اللَّه ما لا تعلمون؛ أَلا ترى أنه قال: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)؟!
يقول: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) يعني: شركًا (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)، أَي: مات عليها.
لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.
وقيل: (وَأَحَاطَتْ بِهِ): بقلبه.
وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)
قد ذكرنا هذا فيما تقدم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
قد ذكرنا عهد اللَّه وميثاقه أَنه يكون على وجهين: عهد خِلْقة وفطرة، وعهد رسالة ونبوة.
وقوله: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ).
يحتمل وجهين:
يحتمل: لا تجعلون الألوهيةَ إِلا لله.
ويحتمل: نفس العبادة، أَي: لا تعبدون غير اللَّه، من الأَصنام والأَوثان وغيرهما.
وقوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
بِرًّا بهما، وعَطفًا عليهما، وإلطافًا لهما، وخفْضَ الجناح، ولينَ القول لهما؛ كقوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ...) الآية، وكقوله: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
فَإِنْ قِيلَ: إِن الأَمر بالإحسان فيما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع، لا على الوجوب، واللزوم.
والثاني: أَن الإحسان إِليهم يجوز أَن يكون من حق اللَّه عليهم، وحقُّ اللَّه عليهم لازم، وعلى ذلك صلةُ القرابةِ والمحارِم، والإنفاقُ عليهم من حق اللَّه عليهم، وهو لازم.
فهذا ينقض على الشافعي قولَه: إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين، ولا يتكلم في الآباء والأمهات بالقرابة، ولا سموا بهذا الاسم؛ فدل: أَنه أَراد به غير الوالدين، والله أَعلم.
وقوله: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ).
يحتمل: على النفْل من الصدقة والفرض جميعًا.
وقوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا).
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: لا تكتموا صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته ولكن أَظهروها.
ويحتمل: الدعاء إلى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
ويحتمل: المراد به الكلُّ، كل شيء وكل قول؛ أَي: لا تقولوا إلا حسنًا. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ).
يحتمل: الإقرار بها، والقبول لها.
ويحتمل: إِقامتها في مواقيتها، بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها.
ويحتمل: أن كونوا في حالٍ تكون لكم الصلاة والتزكية.
وقوله :﴿ لا تعبدون إلا الله ﴾ يحتمل وجهين :
[ أحدهما ]٢ : يحتمل لا تجعلون الألوهية إلا لله.
[ والثاني ]٣ يحتمل نفس العبادة أي لا تعبدون [ إلا الله، ولا تعبدون ]٤ الأصنام والأوثان وغيرها.
وقوله :﴿ وبالوالدين إحسانا وذي القربى ﴾ برا بهما وعطفا عليهما وإلطافا لهما ولين القول لهما كقوله :( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما }، ﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ﴾ الآية٥ [ الإسراء : ٢٣ و ٢٤ ]. وكقوله :﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾
[ لقمان : ١٥ ]. فإن قيل : إن الأمر بالإحسان في ما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع لا على الوجوب واللزوم [ فهو عندنا على وجهين :
أحدهما ]٦ : أن الإحسان يجوز أن يكون الفعل الحسن نفسه كقوله :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ] استوجبوا هذا بالفعل الحسن لا بالإحسان إلى الله تعالى، والفعل٧ الحسن فرض واجب على كل أحد.
والثاني : أن الإحسان إليهم يجوز أن يكون من حق الله عليهم [ وحق الله تعالى عليهم ]٨ لازم. وعلى ذلك صلة القرابة والمحارم والإنفاق عليهم من حق الله تعالى عليهم، وهو لازم.
فهذا ينقض على الشافعي قوله : إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين، ولا يتكلم في الآباء والأمهات بالقرابة، ولا سموا بهذا الاسم، فدل أنه أراد به غير الوالدين.
وقوله :﴿ واليتامى والمساكين ﴾ يحتمل على النفل من الصدقة والفرض جميعا.
وقوله :﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ يحتمل وجوها :
يحتمل : لا تكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم [ وبعثه، ولكن أظهروهما٩ ] ويحتمل : الدعاء إلى شهادة : أن لا إله إلا الله، [ ويحتمل : المراد به الكل، كل شيء وكل قول، أي لا تقولوا إلا حسنا، والله أعلم.
وقوله :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ يحتمل الإقرار بها، والقبول بها ]١٠ ويحتمل : إقامتها في مواقيتها بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها، ويحتمل أن كونوا في حال / ٤-أ/ تكون لكم الصلاة والتزكية.
[ قوله :( وآتوا الزكاة ) يحتمل ]١١ الوجوه التي ذكرناها في الصلاة.
وقوله :﴿ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ﴾ الآية١٢ ظاهرة.
٢ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٣ - في النسخ الثلاث: و..
٤ - في ط م: غير الله من، في الأصل و ط ع: إلا الله ولا تعبدوا..
٥ - أدرج في ط ع تتمة الآية بدل كلمة الآية..
٦ - في النسخ الثلاث: غير..
٧ - في النسخ الثلاث: وفعل..
٨ - من ط م و ط ع..
٩ - في الأصل: ونعته ولكن أظهروها، في ط م: ونعته ولكن أظهروها، في ط ع: ولكن اظهروها..
١٠ - من ط م..
١١ - في ط ع: ويحتمل..
١٢ - ساقطة من ط ع..
يحتمل الوجوه التي ذكرناها في الصلاة.
وقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ).
الآية ظاهرة.
وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ (٨٤)
قد ذكرنا الميثاق والعهد في غير موضع.
وقوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ).
يحتمل وجهين:
أي: لا تسفكون دماءَ غيركم، فيسفك دماءَكم؛ فتصيرون كأنكم سفكتم دماءَكم.
ويحتمل: لا يسفك بعضُكم دماءَ بعض؛ كقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، أي: يسلم بعضكم على بعض.
وذكر نقض العهد في هَؤُلَاءِِ وإن كان في أَوائلهم؛ لوجهين:
أَحدهما: لما رضي هَؤُلَاءِ بفعل آبائهم.
والثاني: بقولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ...) الآية.
وقوله: (وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ).
يحتمل أيضا وجهين:
يحتمل: ولا يُخرج بعضُكم بعضًا.
ويحتمل: لا تخرجوا غيركم من ديارهم، فتخرجون من دياركم؛ على ما ذكرنا في قوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).
يحتمل: ثم أقررتم وأَنتم تشهدون بالعهد والميثاق، وتشهدون أَنه في التوراة.
وقوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ (٨٥)
يعني: يا هَؤُلَاءِ.
وقوله: (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ).
يحتمل الوجهين اللذَين ذكرتهما في قوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ).
وقوله: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ).
أي: تَعَاوَنُون عليهم، يُعاون بعضكم بعضًا بالإخراج، وهو الظلم والعدوان.
وقوله: (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ).
وقوله :﴿ تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ﴾ أي تعاونون عليهم ؛ يعاون بعضكم بعضا بالإخراج، وهو الظلم والعدوان، [ وقوله :﴿ وهو محرم عليكم إخراجكم ﴾ ]٢ أي ذلك الإخراج محرم عليكم. . وقوله : و﴿ إن يأتوكم أسارى تفادوهم ﴾ الآية٣ وإن كانت مؤخرة في الذكر فهي مقدمة ؛ كأنه قال : لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم وإن يأتوكم أسارى تفادوهم.
وقوله :﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ آمنوا بالمفاداة من الأسارى، وكفروا بالإخراج وسفك الدماء، ويحتمل : الإيمان ببعض ما في التوراة، والكفر٤ ببعضها، وهو بعث٥ محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، إذ لم يكن على موافقة مرادهم، ويحتمل : أن فادوا أسراهم من غيرهم، وسبوا ذراري غيرهم.
وقوله :﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العقاب ﴾ قيل : الخزي في الدنيا إجلاء بني النضير من ديارهم وإخراجهم إلى الشام، وقيل : مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم، وذلك لحرب وقع بينهم، والله أعلم، ويحتمل قوله :﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ﴾ أنهم٦ لا يعاقبون في الحياة الدنيا، بل يردون إلى أشد العذاب في الآخرة، وإن استوجبوا ذلك في الدنيا كقوله :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم ﴾ الآية٧ [ إبراهيم : ٤٢ ].
وقوله :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ وعيد. قد ذكرنا [ ذلك ]٨ في ما تقدم٩.
٢ - من ط م، في الأصل و ط ع: (وهو محرم عليكم)..
٣ - أدرج في ط ع تتمة الآية بدل كلمة الآية..
٤ - في النسخ الثلاث: وكفروا..
٥ - في النسخ الثلاث: نعت..
٦ - في النسخ الثلاث: ولكن..
٧ - أدرج في ط ع تتمة الآية بدل كلمة الآية..
٨ - من م ط..
٩ - في تفسير الآية ٧٤..
وقوله: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ...).
الآيةُ -وإن كانت مؤخرة في الذكر- فهي مقدمة؛ كأَنه قال: لا تسفكون دماءَكم ولا تخرجون أَنفسكم، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ.
وقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
آمنوا بالمفَاداة من الأسارى، وكفروا بالإخراج وسفك الدماءِ.
ويحتمل: الإيمان ببعض ما في التوراة، وكفروا ببعضها، وهو نَعْت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته؛ إذ لم يكن على موافقة مُرادهم.
ويحتمل: أَن فادوا أَسراهم من غيرهم، وسَبَوْا ذَرَاري غيرهم.
وقوله: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ).
قيل: الخزي في الدنيا إِجلاءُ بني النضير من ديارهم، وإخراجهم إلى الشام.
وقيل: مقاتلةُ بني قريظةَ، وسبي ذراريهم، وذلك لحربٍ وقع بينهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). ولكن لا يعاقبون في الدنيا، بل يردون إلى أشد العذاب في الآخرة، وإن استوجبوا ذلك في الدنيا؛ كقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ...) الآية.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وعيد. قد ذكرنا ذلك فيما تقدم.
وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
يحتمل: أنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل خروجه وبعثه، فلما بعث على خلاف مرادهم كفروا به، فذلك اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة.
ويحتمل: ابتداء اختيار الضلال على الهدى، والحياة الدنيا على الآخرة، من غير أن آمنوا به، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ).
يعني: التوراة، وهو ظاهر.
وقوله: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ).
وقيل: وقفينا: أَرْدَفْنَا، وهو من القفا، قفا يقفو.
وقيل: أَتبعنا رسولًا على أَثر رسول؛ كقوله: (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا)، واحدًا على أَثر واحدٍ.
وقوله: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ).
قيل: البينات: الحجج.
وقِيل: العجائب التي كانت تجري على يديه، من خلق الطين، وإحياء الموتى، وإبراءِ الأكمه والأَبرص، وإِنباءِ ما يأْكلون وما يدخرون.
وقيل: البينات: الحلال والحرام.
ثم الرسل في أَنفسهم حفظوا حججًا؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوبًا بدليل وبيانٍ على صدقهم؛ لأَنهم في أَنفسهم حجة.
وأما سائر الناس فليسوا بحجج في أَنفسهم، فلا بد لكل قول يقولون أَن يأتوا بدليلٍ يدل على صدقهم، وبيانٍ يُظهر الحق من الباطل، والصوابَ من الخطأ، والصدقَ من الكذب. وباللَّه التوفيق.
وقوله: (وَأَيَّدْنَاهُ): قويناه.
اختلف فيه:
قيل: روح القدس: جبريل.
وفي الأَصل: القدوس، لكن طرحت الواو للتخفيف.
وتأْييدُه: هو أَن عصمه على حفظه؛ حتى لم يدن منه شيطان، فضلًا أَن يدنو بشيء، واللَّه أعلم.
وقيل: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني بالروح: روح اللَّه.
ووجه إضافةِ روح عيسى إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: أَن تكون أضيفت تعظيمًا له وتفضيلًا، وذلك أن كل خاص أُضيف إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أُضيف؛ تعظيمًا لذلك الشيء، وتفضيلًا له، كما يقال لموسى: كليم اللَّه، ولعيسى: روحُ اللَّه، ولإبراهيم: خليلُ اللَّه، على التعظيم والتفضيل.
وإذا أُضيف الجُمَل إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فإنما تضاف؛ تعظيمًا له - عَزَّ وَجَلَّ - وتنزيهًا؛ كقوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أُضيف ذلك إليه؛ تعظيمًا وتنزيهًا، واللَّه الموفق.
والأَصل في ذلك: أَن خاصية الأَشياءِ إذا أُضيف ذلك إليه أضيف تعظيمًا لتلك الخاصية. وإذا أضيف جمل الأَشياء إلى اللَّه، فهو يخرج على تعظيم الرب والتبجيل له.
وقوله. (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ).
في ظاهر هذه الآية أَنهم كذبوا فريقًا من الرسل، وقَتلوا فريقًا منهم.
ويقول بعض الناس: إنهم قتلوا الأَنبياءَ ولم يقتلوا الرسل؛ لقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)، ولقوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)، أَخبر أَنه ينصرهم، ومن كان اللَّه ناصره فهو لا يقتل.
ومنهم من يقول: إنهم قتلوا الرسل والأنبياء.
فنقول: يحتمل قوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا) في رسول دون رسول، فمن نصره اللَّه فهو
ثم في الآية دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأَنه أخبرهم بتكذيب بعض الرسل، وقتل بعضهم، فسكتوا عن ذلك، فلولا أَنهم عرفوا أنه رسول -عرف ذلك باللَّه- وإلا لم يسكتوا عن ذلك.
وقوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (٨٨)
يعني: في أَكنة عليها الغطاء؛ فلا نفهم ما تقول، ولا نفقه ما تُحدِّث.
يدَّعون زوال الخطاب عن أَنفسهم؛ كراهية لما سمعوا.
وأَكذبَهُمُ اللَّه تعالى بقوله: (بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أَي: طِردهم اللَّه؛ بكفرهم، وعتوهم، وتفريطهم في تكذيب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واعتنادهم إياه، لا أن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئًا مما يخاطبون به -على ما يزعمون- ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها.
وقيل في قوله: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ): يعني: أَوعية، تفهم وتعي ما يقال، ويخاطب، ولكن لا تفهم ما تقول، ولا تفقه ما تُحدث، فلو كان حقًّا وصدقًا لفهمت ولفقهت عليه.
يَدَّعون إِبطال ما يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم، وذلك نحو ما قالوا لشعيب: (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ).
وقوله: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ).
قيل فيه بوجهين:
قيل: فقليلًا أي بقليل ما يؤمنون من التوراة؛ لأَنهم عرفوا نَعْته وصفته، وحرفوه، فلم يؤمنوا به.
وقيل: فقليلًا، أي: قليل منهم يؤمنون بالرسل، صلى اللَّه عليهم وسلم.
وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (٨٩)
فلولا أنهم عرفوا أن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب، غير مخالف له، وإلا لأَظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك، ولتكلفوا على إِطفاءِ هذا النُّور ودفعه؛ فدل سكوتهم عن ذلك، وترك اشتغالهم بذلك، أَنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة؛ ففيه آية نُبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
وقوله :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ﴾، ﴿ يستفتحون ﴾ يستنصرون
﴿ على الذين كفروا ﴾ قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يقولون : اللهم انصرنا بحق نبيك الذي تبعثه. فلما لم ( يجئهم على هواهم ]٣ ومرادهم كفروا به ﴿ فلعنة الله على الكافرين ﴾.
٢ - في النسخ الثلاث: على إطفاء..
٣ - في الأصل و ط ع: بجثهم على هوائهم، في ط م: يجيء على هواهم..
وقوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ (٩٠)
يقول: اشتروا ما به هلاكهم بما به نجاتهم.
وذلك أَنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكان إيمانُهم به نجاتَهم في الآخرة، فكفروا به، وذلك هلاكُهم، وباللَّه التوفيق.
وقيل (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ): باعوا به أَنفسهم بعرض يسير من الدنيا، بعذاب في الآخرة أَبدًا.
وقوله: (بَغْيًا).
قيل: حسدًا منهم؛ وذلك أَنهم قد هَووا أن يُبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أَولاد إسرائيل؛ لأَنهم كانوا أُمتَه، فلما بُعث من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - والعربُ كانت من أَولاده كفروا به، وكتموا نعته حسدًا منهم.
وقوله: (أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
يعني: النبوة والكتاب على مُحَمَّد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: (بَغْيًا) أَي: ظلمًا، ظلموا أَنفسهم بكفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتكذيبهم إياه.
وقوله: (فَبَاءُوا).
قد ذكرنا فيما تقدم.
وقوله: (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ).
يحتمل وجهين:
قيل: استوجبوا الغضب من اللَّه؛ بكفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، على أَثر غضب؛ بكفرهم بعيسى، وبما جاء به.
وقيل: إنما استحقوا اللعنةَ على أثر اللعنةِ؛ بعصيانٍ بعد عصيانٍ، وبذنب على أَثر الذنب. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ (٩١)
على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن.
وقوله: (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا).
يعني التوراة، وهم لم يكونوا آمنوا بالتوراة؛ لأنهم لو كانوا آمنوا بها لكان في الإيمان بها إيمان بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبما أُنزل عليه، وإيمان بجميع الأَنبياءِ - عليهم السلام - والرسل، وبجميع ما أُنزل عليهم؛ لأَن فيها الأَمرَ بالإيمان بجميع الرسل وبكتبهم؛ لأَنه قال: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)، وموافقًا له.
فالإيمان بواحد منهم إيمان بجميع الكتب، وبعضها موافق لبعض.
وقوله: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ).
قيل: وراءَ التوراة كفروا بالإنجيل والفرقان؛ كأَنه قال: كفروا بالذي وراءَه وهو الحق؛ إذ هما موافقان لما معهم، غير مخالف له.
ويحتمل: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) يعني: وراء موسى بعيسى وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كأَنه قال: من ورائه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فإن قالوا: إنا لم نقتل الأَنبياءَ، ونحن مؤمنون.
قيل لهم: إنكم -وإن لم تتولوا القتلَ- فقد رَضيتُم بصنيع أُولئك، واتبعتم لهم، مع ما قد هَمُّوا بقتل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مرارًا؛ ولذلك أُضيف إليهم.
وقيل: أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - غاية سفههم، وعتوهم، ومكابرتهم في تكذيبه.
وذلك: أَن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا اليهود إلى الإيمان به، وبما أُنزل عليه. فقالوا: ائتنا بالآيات والقربان، كما كانت الأَنبياء -من قبل- يأتون بها قومهم.
يقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ: قد كانت الأَنبياء من قبل تجيء -بما تقولون- إلى آبائكم؛ من الآيات والقربان، فكانوا يقتلُونهم.
فيقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ قل لهم: لم تقتلون؟
يقول: لم قتل آباؤكم أَنبياء اللَّه قَبلَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد جاءُوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأَن اللَّه عهد إليكم في التوراة: ألا تؤمنوا لرسول حتى يأْتيكم بقربان تأكله النار، وقد جاءُوا به. فَلِم قتلوهم؟!
وقوله :﴿ ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ﴾ قيل : وراء التوراة كفروا بالإنجيل والفرقان، كأنه قال : كفروا بالذي وراءه [ وهو الحق ؛ إذ هما موافقان لما معه٨ غير مخالفين٩ له، ويحتمل :﴿ ويكفرون بما وراءه ﴾ ]١٠، يعني وراء موسى بعيسى وبمحمد [ صلوات الله عليهم وسلامه ]١١ كأنه قال : من وراءه صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ﴾ فإن قالوا : إنا لم نقتل الأنبياء، ونحن مؤمنون، قيل لهم : إنكم وإن لم تتولوا القتل، فقد رضيتم بصنيع أولئك، واتبعتم لهم مع ما قد هموا بقتل محمد صلى الله عليه وسلم [ مرارا ]١٢، ولذلك أضيف إليهم، وقيل : أخبر عز وجل نبيه [ سيدنا محمد ]١٣ صلى الله عليه وسلم غاية سفههم وعتوهم ومكابرتهم في تكذيبه ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإيمان به وبما أنزل عليه، فقالوا : ائتنا١٤ بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء من قبل يأتون بها قومهم.
يقول الله عز وجل : قد كانت الأنبياء من قبل تجيء بما تقولون إلى آبائكم من الآيات والقربان، فكانوا يقتلونهم، فيقول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾ لهم١٥ ﴿ فلم تقتلون ﴾ ؛ يقول : لم قتل أباؤكم أنبياء الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وقد جاؤوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأن الله تعالى ﴿ عهد إلينا ﴾ في التوراة ﴿ ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾ [ آل عمران : ١٨٣ ] وقد جاؤوا به، فلم قتلوهم ؟ [ فهم، والله أعلم ]١٦، أخذوا هذه المحاجة من أوائلهم، وقد١٧ علموا بما ظهرت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث، وأنتم تقلدونهم، فقلدوهم بما أنبئتم ]١٨ لو أوتيتم، كما قلدتموهم، وقد١٩ علمتم بما عاينتم أن٢٠ لا حجة لكم، والله أعلم.
٢ - في ط م: بالتوراة..
٣ - من ط م..
٤ - من ط م، في الأصل و ط ع: محمد...
٥ - في الأصل: عليهم السلام، في ط م: والرسل وبجميع ما أنزل إليهم، في ط ع: والرسل وبجميع ما أنزل عليهم، عليهم السلام..
٦ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٧ - في النسخ الثلاث: وموافقا..
٨ - في ط م: معهم..
٩ - في ط م: مخالف..
١٠ - من ط م، ساقطة من الأصل و ط ع..
١١ - في ط م: صلى الله عليه وسلم..
١٢ - من ط م..
١٣ -في الأصل و ط ع: سيدنا محمد، ساقطة من ط م..
١٤ - في ط ع: آمنا..
١٥ - في ط م: أن قل لهم..
١٦ - في النسخ الثلاث، فهو والله أعلم أنهم..
١٧ - في النسخ الثلاث: وإن.
١٨ - في النسخ الثلاث: فتقلدونهم لو أوتيتم..
١٩ - في النسخ الثلاث: وإن..
٢٠ - في النسخ الثلاث: إذ..
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)
وقوله: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).
والبينات: ما ذكرنا -فيما تقدم- من الآيات المعجزة، والحجج العجيبة، والبراهين الظاهرة على رسالته ونبوته، وصدق ما يدعوهم إليه، مما يدل كله أَنه من عند اللَّه.
ثم -مع ما جاءَهم موسى بها- عبدوا العجل واتخذوه إلهًا، وكفروا باللَّه.
يُعَزِّي نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا يظن أَنه اول مُكذَّب من الرسل. ولا أَول من كُفِر به؛ حتى لا يضيق صدره بما يقولون، ويستقبلونه بما يكره، وباللَّه التوفيق. كقوله: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ).
وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ (٩٣)
قد ذكرنا هذا فيما تقدم ما فيه مقْنع، إن شاءَ اللَّه تعالى.
وقوله: (وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا).
يحتمل وجهين:
يحتمل: اسمعوا، أي: أَجيبوا.
ويحتمل: اسمعوا: أَطيعوا، لكن هذا فيما بين الخلق جائز السمع والطاعة.
وأَما إِضافة الطاعة إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فإِنه غير جائز؛ إذ لا يجوز أَن يقال: أَطاع اللَّه. وأَما السمع فإنه يجوز؛ لقوله: " سمع اللَّه لمن حمده ".
وقوله :﴿ واسمعوا ﴾ يحتمل وجهين : يحتمل ﴿ واسمعوا ﴾ أي وأجيبوا، ويحتمل ﴿ واسمعوا ﴾ وأطيعوا. لكن هذا في ما بين الخلق جائز : السمع والطاعة. وأما إضافة الطاعة إلى الله [ عز وجل ]٣ [ فإنه غير جائز ؛ إذ ]٤ لا يجوز أن يقال : أطاع الله، وأما السمع فإنه يجوز لقوله [ عليه السلام ]٥ : " سمع الله لمن حمده " [ البخاري : ٦٩٠ ].
[ وقوله ]٦ :﴿ قالوا سمعنا وعصينا ﴾ [ أي ]٧ ﴿ سمعنا ﴾ قولك ﴿ وعصينا ﴾ [ أمرك ]٨ لكن قولهم٩
﴿ وعصينا ﴾ لم يكن على إثر قلوبهم ﴿ سمعنا ﴾ ولكن بعد ذلك بأوقات ؛ لأنه قيل : لما أبوا قبول التوراة لما فيها من الشدائد والأحكام رفع الله الجبل فوقهم، فقبلوا خوفا من١٠ أن يرسل عليهم الجبل، وقالوا : أطعنا، فلما زايل الجبل١١ وعاد إلى مكانه، فعند ذلك قالوا
﴿ وعصينا ﴾، وهو كقوله :﴿ ثم توليتم من بعد ذلك ﴾ [ البقرة : ٦٤ ] فالتولي منهم كان بعد ذلك بأوقات.
وقوله :﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾ قيل ﴿ وأشربوا ﴾ أي جعل ﴿ في قلوبهم ﴾ حب عبادة العجل ]﴿ بكفرهم ﴾ بالله عز وحل، وقيل : سقوا حب العجل ]١٢، وقيل : إن موسى لما أحرق العجل، ونسفه في البحر جعلوا يشربون منه لحبهم العجل، وقيل : لما أحرق، ونسف في البحر جعلوا يلحسون الماء حتى اصفرت وجوههم، وقيل : إنهم لما رأوا في التوراة ما فيها من الشدائد قالوا عند ذلك : عبادة العجل أهون مما فيها من الشرائع، وكله يرجع إلى واحد، وذلك كله آثار الحب.
وقوله :﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ قيل :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ بالعجل الكفر بالله عز وجل، وقيل : إن اليهود ادعوا أنهم مؤمنون بالتوراة، فقال :﴿ قل بئسما يأمركم ﴾ أي بالتوراة إذ كفرتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد وجدتموه فيها : بعثه١٣ ووصفه.
٢ - في تفسير الآية: ٦٣..
٣ في ط ع: تعالى..
٤ - من ط م..
٥ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٦ - من ط ع..
٧ - من ط ع..
٨ - من ط م، في الأصل و ط ع: قوله..
٩ - ساقطة من ط ع..
١٠ - ساقطة من ط ع..
١١ - في ط ع: زال..
١٢ - في تفسير الآية: ٦٣..
١٣ - في النسخ الثلاث: نعته..
لكن قولهم: (وَعَصَيْنَا) لم يكن على أثر قولهم: (سَمِعْنَا)، ولكن بعد ذلك بأوقات؛ لأَنه قيل: لما أَبوا قبول التوراة؛ لما فيها من الشدائد والأَحكام، رفع اللَّه الجبل فوقهم، فقبلوا؛ خوفًا من أن يرسل عليهم الجبلَ، وقالوا: أَطعنا، فلما زايل الجبل، وعاد إلى مكانه، فعند ذلك قالوا: (وَعَصَينَا)، وهو كقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) فالتولي منهم كان بعد ذلك بأَوقات.
وقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).
قيل: أشربوا، أَي: جُعل في قلوبهم حب عبادة العجل بكفرهم باللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وقيل: سُقُوا حُبَّ العجل.
وقيل: إِن موسى لما أَحرق العجل، ونسفه في البحر جعلوا يشربون منه لحبهم العجل.
وقيل: لما أَحرق ونسف في البحر جعلوا يلحسون الماء. حتى اصفرت وجوههم.
وقيل: إنهم لما رأوا في التوراة ما فيها من الشدائد، قالوا عند ذلك: عبادةُ العجل علينا أَهون مما فيها من الشرائع.
وكله يرجع إلى وأحد، وذلك كله آثار الحب.
وقوله: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
قيل: قل يا مُحَمَّد: بئسما يأْمركم إيمانكم بالعجل الكفرَ باللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وقيل: إن اليهود ادعوا أَنهم مؤمنون بالتوراة؛ فقال: (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ) أي بالتوراة؛ إذ كفرتم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقد وجدتم فيها نعته وصفته.
وقوله: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤)
وذلك أَن أعداءَ اللَّه - تعالى - كانوا يقولون: إن الجنة لنا في الآخرة، بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وكقولهم: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، وكقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)؛
وذلك أَن المرء لا يكره الانتقال إلى داره، وإلى بستانه، بل يتمنى ذلك، وكذلك المرءُ لا يكره القدوم على أبيه، ولا على ابنه، ولا على حبيبه، ولا يخاف نقمته ولا عذابه، بل يجد عنده الكرامات والهدايا.
فإن كان كما تقولون، فتمنوا الموت؛ حتى تنجوا من غم الدنيا، ومن تحمل الشدائد التي فيها إن كنتم صادقين في زعمكم: بأَن الآخرة لكم، وأَنكم أبناءُ اللَّه وأَحباؤه.
فَإِنْ قِيلَ: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، ثم لا أَحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له: تمنَّ الموت، فما معنى الاحتجاج عليهم بذلك، وذلك على المؤمنين كهو عليهم؟ قيل: لوجهين:
أَحدهما: أَن المؤمنين لم يجعلوا لأَنفسهم من الفضل والمنزلة عند اللَّه ما جعلوا هم لأَنفسهم؛ فكان في تمنيهم صدقُ ما ادعَوْا لأَنفسهم، وفي الامتناع عن ذلك ظهورُ صدق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: ما ذكرنا أَنهم ادعوا: أَنهم أَبناءُ اللَّه وأحباؤه، وفي تمنيهم الموت ردهم، وصرفهم إلى الحبيب، والأَب الذي ادعوه، ولا أَحد يرغب وينفر عن حبيبه وأَبيه؛ فدل امتناعهم عن ذلك: على كذبهم في دعاويهم. وباللَّه نستعين.
فإن سأَلونا عن قوله: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أنهم إذا تمنوا ليس كان انقضاء عمرهم بدون الأَجَل الذي جعل لهم، وفي ذلك: تقديم الآجال عن الوقت الذي كان أَجَلا، وقال الله تعالى: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
قيل: إن اللَّه علم منهم -في سابق علمه، وأَزليته- أَنهم لا يتمنون جعل أَجلهم ذلك.
ولو علم منهم أَنهم يتمنون الموت لكان يجعل أَجلهم ذلك في الابتداءِ، وكذلك هذا الجواب؛ لما روى: " أَن صلة الرحم تزيد في العمر ".
إنه كذلك يحتمل في الابتداءِ، لا أَن يجعل أَجله إلى وقت، ثم إذا وصل رحمه يزيد على ذلك الأَجل أَو ينقص، فيتمنى الموت عن الأَجل المجعول المضروب له، وبالله التوفيق.
وقوله: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا (٩٥)
فيه دلالة إِثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أَنه أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَنهم لا يتمنون أبدًا،
وقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).
من الذنوب، والعصيان، والتكذيب بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والحسد له.
وهم - واللَّه أعلم - قد عرفوا عن صنيعهم، وما لهم من عند اللَّه من العذاب والجزاءِ، لكنهم قالوا ذلك؛ على التعنت، والمكابرة، والسفه؛ لذلك لم يتمنوا، والله الموفق.
وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
هو على الوعيد؛ كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ).
ويحتمل: عليم بالظالمين؛ بما يفضحهم بالحجج، ويُظهر كذبهم في الدنيا؛ لئلا يظن أحد أَنه عن غفلة بما يعملون، بل خلقهم على علم منه بما يعملون. خلقهم؛ ليعلم أنه لا لنفع له بخلقهم خلَقَهم، وأَن ذلك لا يضره.
وقوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ (٩٦) يعني اليهود.
(أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ).
وعلى كراهية الموت.
فدل حرصهم على حياة الدنيا أَنهم كذبة فيما يزعمون ويدعون.
وقوله: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ).
يعني: المجوس.
وقيل: إِنَّه على الابتداءِ.
ولا يتنافى بقول: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ويعني: المجوس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)؛ لأنهم يقولون فيما بينَهم: أَلف سنة تأْكل النيروز والمهرجان، ويقولون بالفارسية: هزار ساله بزه.
فأَخبر اللَّه -تعالى- أَن طول العمر في الدنيا لا ينجيه من العذاب في الآخرة، ولا يباعده عنه.
وهو قوله: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ)، وهو كقوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ
وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
هو على الوعيد أيضًا.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨)
وقوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ).
وذلك أَن اليهود قالوا: لو كان الذي يَنْزِل على مُحَمَّد بالوحي ميكائيل لاتبعناه، ونؤمن به؛ لأَن ميكائيل هو الذي ينزل بالغيث والرحمة، وجبريل هو المنزل بالعذاب والحرب والشدائد، فهو عدو لنا؛ لذلك لا نتَّبعه.
وفي جهة العداوة بينهم وبين جبريل وجه آخر، وهو أَن قالوا: إن جبريل أُرسل بالوحي والرسالة في أَولاد إسرائيل، لكنه أَنزلها على أَولاد إسماعيل؛ عداوة لنا وبغضًا؛ لذلك نَصبوا العداوة بينه وبينهم -واللَّه أعلم بذلك- فَأَكذبهم اللَّه -تعالى- بزعمهم، فقال: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، لا كما تقول اليهود. وما ينزل من العذاب والشدائد، إنما ينزل بأَمره، لا من تلقاءِ نفسه وذَاته.
ثم كان إظهارهم عداوة جبريل، لاعتقادهم عداوة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لكنهم لم يجترئوا على عداوة اللَّه -على التصريح- فدل أنه على الكناية عن عداوة اللَّه تبارك وتعالى.
ويدل هذا على أن الروافض طعنوا في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث طعنوا.
وقوله: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ).
تقول الباطنية: إن القرآن لم ينزل على رسول اللَّه - عليه السلام - بالأَحرف التي نقرؤها، ولكنه إلهام، نزل على قلبه، ثم هو يصوره ويرسمه ذا الحروف، ويعبر به، ويعربه بالمعربة التي نقرؤها.
فلو كان على ما يقولون لزال موضع الاحتجاج عليهم بما أَتى به معجزًا؛ كقوله:
إذ كان لهم أَن يقولوا: أنزل على لسان العجمي، لكنه غيّر ذلك بلسانه.
وكذلك قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، مخافة النسيان والذهاب.
وكذلك قوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).
فدلت هذه الآيات كلها على بطلان قولهم، وفساد مذهبهم، وبُعدهم عن دين الله المستقيم.
وقوله: (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
هدى من الضلالة، وبشرى للمؤمنين بالجنة.
وقوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨)
يحتمل وجهين:
يحتمل: من كان عدوًّا لله، أَو ملائكته، أَو رسله.
ويحتمل: افتتاح العداوة به دون هَؤُلَاءِ على التعظيم لهم، وفضل المنزلة عند اللَّه، وحسن المآب لديه؛ كقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، معنى إضافة ذلك إليه: على التعظيم له، والإفضال لله، لا على جعل ذلك لله مفردًا.
فعلى ذلك: معنى افتتاح العداوة به -على ما ذكرنا- واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
وقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ).
بيَّن فيها الحلالَ والحرام، وما يُؤْتى وما يُتَّقى، وما يُنْهى وما يُؤْمر.
وقوله: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)
يقول: كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم.
يحتمل: العهودَ التي أُخذت عليهم -في التوراة- أَن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يكفروا به بعد الإيمان.
أَو أخذ عليهم: ألا يكتموا نعته، وصفته، الذي في التوراة لأَحد، فنبذوا ذلك، ونقضوا تلك المواثيق والعهود التي أخذت عليهم.
ثم في الآية دلالة جعل القرآن حجة؛ لأنه قال: (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)، ولو كان في كتبهم ما ادعوا من الحجة والاتباع لأَتوا به معارضًا؛ لدفع ما احتج به عليهم؛ فثبت أَنهم كانوا كذبة في دعاويهم؛ حيث امتنعوا عن معارضته.
وقوله: (وَمَا يَكْفرُ بِهَا).
أي: وما يكفر بتلك الآيات إلا الفاسقون.
وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (١٠١)
يعني محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
(مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ).
أي: نَعتُه الذي كان في التوراة موافق لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: لما جاءَهم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عارضوه بالتوراة؛ فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن، وأَخذوا بكتاب السحر الذي كتبه الشياطين.
ويحتمل: أَن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما جاءَهم كان موافقًا لما مضى من الرسل، غير مخالف لهم؛ لأَن الرسل كلهم آمنوا به، وصدق بعضهم بعضًا.
وقوله: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).
يحتمل: كتاب اللَّه: التوراة، على ما ذكرنا.
ويحتمل: كتاب اللَّه، القرآن العظيم. واللَّه أعلم.
وقوله: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
أي: يعلمون، ولكن تركوا العمل به، والإيمان بما معهم؛ كأنهم لا يعلمون؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم خرج فعلهم فعل من لا يعلم.
وقوله :﴿ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ﴾ يحتمل كتاب الله التوراة على ما ذكرنا، ويحتمل كتاب الله القرآن العظيم، والله أعلم.
وقوله :﴿ كأنهم لا يعلمون ﴾ أي يعلمون، ولكن تركوا العمل به والإيمان بها معهم كأنهم لا يعلمون ؛ لما ينتفعوا بعلمهم خرج فعلهم فعل من لا يعلم. أخبر أنهم نبذوا من لا يعلم، لا أنهم لم يعلموا، ولكن نبذوه سفها وتعنتا. والله أعلم.
وقوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (١٠٢)
قيل: تتلو: ما كتبت الشياطين من السحر.
وقيل: ما تتلو: ما يروى الشياطينُ من السحر. وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - وهو يرجع إلى واحد.
والآية في موضع الاحتجاج على اليهود؛ لأَنهم ادعوا: أن الذي هم عليه أُخِذَ عن سليمان عليه السلام، فإن كان كفرًا فقد كفر سليمان.
فأَخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن سليمان ما كفر، ولكن الشياطين كفروا بما علَّموا الناس من السحر.
ويحتمل: لكن أَتْباع الشياطين كفروا باعتقادهم السحر، وعملهم به بتعليم الشياطين، فنسب ذلك إلى الشياطين بما بهم كفروا، كما نسبت عبادة الأصنام إلى الشياطين بما بهم عبدوا، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الشياطين ابتدعت كتابًا من السحر والأَمر العظيم، ثم أَفشته في الناس وعلمته إياهم؛ فلما سمع بذلك سليمان تتبع تلك الكتبَ، فدفنها تحت كرسيه كراهية أَن يتعلمها الناس. فلما قُبض نبيُّ اللَّه سليمان - عليه السلام - عمدت الشياطين إلى تلك الكتب فاستخرجتها من مكانها، وعلموها الناس، وأَخبروهم أَنه علم كان سليمان يكتمه، ويستأثره؛ فَعَذر اللَّه نبيه سليمان، وبرأَه من ذلك على لسان نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله تعالى: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ...) الآية.
وقيل أيضًا: لما مات سليمان - عليه السلام - وقع في الناس أوصابٌ وأَوجاعٌ؛ فقال الناس: لو كان سليمان - عليه السلام - حيًّا لكان عنده من هذا فرج، فظهرت الشياطينُ لهم فقالوا: نحن ندلكم على ما كان يعمل به سليمان - عليه السلام - فكتبوا
فلا ندري كيف كانت القصة، غير أن اليهود تركت كتب الأَنبياءِ والرسل، واتبعوا كتب الشياطين وما دعوهم إليه من السحر والكفر، وباللَّه التوفيق.
وفيه دلالةُ رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ بما أَخبرهم عن قصتهم -على ما كان- فدل أَنه كان عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وفي ذلك أَن قد نسب إلى سليمان ما برأَه اللَّه عنه من غير أَن يُبين ماهيته.
ذكره اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لوجهين: دلالة لرسوله، وتكذيبًا للذين نَحَلوه بما هو كفر.
وقوله: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ).
أي: في ملكه؛ إذ كان ذلك الوقت هو وقت ظهورهم، ثم سخرهم اللَّه لسليمان، فأَمكن ذلك منهم.
أَلقاهُ على أَلسن المعاندين لسليمان في الشر؛ فَروَوْه عنه بعد الوفاة؛ فكذبهم اللَّه - عز وجل - وبرأَ نبيَّه - عليه السلام - عن ذلك، وبين كيف كان بَدْؤُه.
فإِنما بينها للخلق؛ لئلا يتبعوا في الرواية كل من لقي النبي؛ إذ قد يكون من أَمثالهم: اختراعُ الرواية، وإلزامُ السامعين الأُمورَ المعتادة من الرسل، ورد ما لا يوافق ذلك من الرواية؛ ولذلك أَبطل أَصحابُنا خبر الخاص فيما يُبلى به العام.
وقوله: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ).
قيل: (وَمَا أُنْزِلَ) على النفي، والجحد، معطوفًا على قوله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ).
وقيل: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ): والذي أُنزل على الملكين بِبَابل.
وقيل: سميت بابل لما تبلبلت به الأَلسن، يعني: اختلفت؛ فلا يعلم ذلك إلا بالسمع.
ثم اختُلِفَ في " هاروت " و " ماروت ":
فقال الحسن: لم يكونا ملكين، ولكنهما كانا رجلين فاسقين متمردين؛ وذلك أَن
وكذلك يقول الحسن في إبليس: إنه لم يكن من الملائكة. وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم.
ثم عارض نفسه بقولهما: (فَلَا تَكْفُرْ).
فقال: إن الْمُخبِرَ بمثله إِذا عرف ولوع السامع به، وبما يعرض مثله -على العلم منه: أَنه يفعل، ولا يرتدع عن ذلك- يقول ذلك له؛ ترغيبًا منه، واللَّه أعلم.
ومنهم من يقول: كانا ملكين، لكنهما علما الاسمَ الأَعظم، فيقضيان به الحوائج إلى أن حل بهما ما حل.
وبهذا يحتج في بَلْعَم بقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ...) الآية.
ثم اختلف بعد هذا على أَوجه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن ذلك منهما سحرًا، بل هو تعويذ الفرقة يقدر عليه.
وقال قائلون: إن ما أنزل على الملكين أنزل كلامًا حسنًا صوابًا، لكنه خلط بالذي لقنهم الشيطان؛ فصار سحرًا.
وقال آخرون: بلى. كان هو في نفسه سحرًا، يعلمان الناس ذلك، لكنه لا يُنهى عن تعليمه، ولا يكفر الذي تعلم. إنما ينهى عن الاعتقاد له، فكان كالكفر الذي يعلم، لا
ثم نقول: إن قولهما: (فَلَا تَكْفُرْ) على الاختيار منهما، وكلمة السحر جار عليهما في اللسان، من غير صنع لهما فيه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ).
قيل: إلا بعلم اللَّه وقضائه.
وقيل: بخذلانه وتخليه.
وقيل: بمشيئة اللَّه وإرادته.
وأَما ظاهر الإذن فهو يخرج على الإباحة؛ فالعقل يدفعه.
وقيل: إنه لا يصل إلى هاروت وماروت أَحد من بني آدم، وإنما يختلف بينهم شيطان في كل مسأَلة، واللَّه أعلم.
ثم السحر يكون على وجهين:
سحر يكفر به صاحبه؛ فإن كان ذلك منه بعد الإسلام، يُقْتل به صاحبُه؛ لأَنه ارتداد منه.
أَلَا ترى أَن سحرةَ فرعون لما رأوا الآيات آمنوا باللَّه -تعالى- وتابوا توبة لا يطمع في
وذكر عن أبي حنيفة - رحمه اللَّه - في الساحرة: أَنها لا تقتل مرةً، وذكر عنه مرةً: أنها تقتل، وقال في الساحر بالقولين.
فأَما ما رُويَ عنه فيه بالقتل بعمل السحر، فهو على ما ذكرنا من قتله الناس بالسحر؛ فهو كالساعي في الأَرض بالفساد، لا بِعَين السحر.
أَو كفر بسحره بعد الإسلام؛ فيقتل كالمرتد عن الإسلام.
وما ذكر عنه: أَنه لا يُقْتل؛ فهو إذا لم يكن سحره سحرَ كفرٍ، ولا يسعى بالقتل في الأَرض لم يقتل به.
ثم قوله - في الساعي في الأَرض بالفساد: إنه إذا تاب قبل أن يُقدر عليه، سقط عنه القتل؛ فكذا الساحر.
وأما الذي هو لأجل الكفر يلزم القتل قبل التوبة، بعد القدرة عليه.
وعلى هذا يخرج قوله في الساحرة أَيضًا.
ففيما قال: إنها لا تقتل؛ لما كان سحرها سحر كفر، والنساءُ لا يُقتلن للكفر.
وفيما قال: يقتلن؛ فلأَنهن يقتلن للسعي في الأَرض بالفساد كالرجل، واللَّه أعلم.
وقال بعض الناس: لا تقبل توبة الساحر. وهو غلط.
وأَحقُّ من يقبل توبتُه الساحرُ؛ إذ هو أَبلغ في تمييز ما هو حجة مما لا حجة.
وهذا هو الأَصل: أَن الْمُدَّعِيَ لشيء -على عهد الأنبياءِ- إذا استقبلهم بمثله الأَنبياء - عليهم السلام - فهو أَحق من يلزمهم الإيمان به؛ لعلمهم بالحق منه.
والعوَامُّ منهم لا يعرفون إلا ظاهر ما يلزمهم، من تصديق الحجج، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ) -في الدنيا- (وَلَا يَنْفَعُهُمْ) في آخرتهم.
وقوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا).
يعني: اليهود في التوراة.
وقوله: (لَمَنِ اشْتَرَاهُ).
يعني: اختاره للسحر.
وقيل: يتعلمون ما يضرهم في آخرتهم، ولا ينفعهم إن علموه.
وقوله: (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
يقول: نصيب في الثواب.
وقيل: (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ) أَي: ما له عند اللَّه وجه.
وقوله: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
أي: بئس ما باعوا به أنفسهم، يعني: اليهود الذين يعلمون الفرفة والسحر.
وقيل: (مَا شَرَوْا بِهِ) يقول: ما باعوا به أَنفسهم من السحر والكفر. يعني: من لا يقرأَ التوراة.
أَو يعني: أن لو كانوا يعلمون ما باعوا به أنفسهم، ولكنهم لا يعلمون. أي: لو علموا أنهم بمَ باعوا أَنفسهم من العذاب الدائم، لعلموا أنهم بئس ما باعوا به.
وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا (١٠٣)
بتوحيد اللَّه.
(وَاتَّقَوْا).
الشركَ، والسحر.
(لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ).
يقول: لكان ثوابهم عند اللَّه خيرًا من السحر والكفر.
(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
ولكنهم لا يعلمون علم الانتفاع به، وهو كقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، ليسوا بصم ولا بكم ولا عمي في الحقيقة، ولكنهم صم من حيث لا ينتفعون به؛ إذ الحاجة من العلم، والبصر، والسمع الانتفاعُ به، فإذا ذهبت المنافع بهما فكان كمن لا علم معه ولا بصر له ولا سمع؛ حيث لا ينتفع، ولا يعمل به، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
قيل: كانتِ الأَنصار في الجاهلية يقولون هذا لرسول اللَّه - عليه السلام - فنهاهم اللَّه - تعالى - أن يقولوها.
وقيل: كانت اليهود تقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راعنا من الرعونة؛ من قولك للرجل: يا أَرعن، وللمرأَة يا: رعناء.
وكان الحسن يقرؤها: (راعنًا) بالتنوين.
وقال الكلبي: كان في كلام اليهود (رَاعِنَا) سبًّا قبيحًا؛ يسب بعضهم بعضًا، وكانوا يأتون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيقولون: راعنا، ويضحكون، فنهى المؤمنين عن ذلك خلافًا لهم.
وقوله: (وَقُولُوا انْظُرْنَا).
قيل: فهمنا بقولٍ بينٍ لنا.
وقال مقاتل: أي اقصدنا.
وقيل: إن الأَمر بالإنظار يقع موقع التشفع في النظرة لوجهين: بالصحبة مرةً، وبالخطاب ثانيًا فقولهم: (انْظُرْنَا) لما لا يبلغ أفهامنا القدر الذي يعني ما يخاطبنا به.
والثاني: على قصور عقولهم عما يستحقه من الصحبة والإيجاب له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
فأما الأَمر بـ " راعنا "، فهو استعمال في الظاهر بالمراعاة، وذلك يخرج على التكبر عليه، وترك التواضع له، والخضوع.
وقوله: (وَاسْمَعُوا).
أَي: اجيبوا له.
وقيل: أطيعوا له.
وقيل: (وَاسْمَعُوا) أَي: اسمعوا وَعُوا.
وقوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ
(مَا يَوَدُّ) أي: ما يريد وما يتمنى (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) اليهود والنصارى (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ما يود هَؤُلَاءِ (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
يحتمل وجهين:
أحدهما: أَنهم كانوا يَهوون ويحبون أَن يبعث الرسول من أَولاد إِسرائيل وهم كانوا من نسله. فلما بعث من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - على خلاف ما أَحبوا وهَووا، لم تطب أنفسُهم بذلك، بل كرهت، وأَبت أَشد الإباءِ والكراهية.
والثاني: لم يُحبوا ذلك؛ لما كانت تذهب منَافعُهم التي كانت لهم، والرياسةُ بخروجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واللَّه أعلم.
وقوله: (مِنْ خَيْرٍ).
قيل: الخير؛ النبوة.
وقيل: الخير؛ الإسلام.
وقيل: الخير؛ الرسول هاهنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
تنقض على المعتزلة قولَهم؛ لأَنهم يقولون: إن على اللَّه أَن يعطيَ لكل الأَصلحَ في الدِّين، في كل وقتٍ، وكل زمانٍ.
فلو كان عليه ذلك لم يكن للاختصاص معنى، ولا وجه.
والثاني: قال: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والمفضل عند الخلق هو الذي يُعطِي ويَبذُل ما ليس عليه، لا ما عليه؛ لأَن من عليه شيء فأعطاه، أَو قضى ما عليه من الدَّيْن، لا يوصف بالإفضال؛ فدل أَنه استوجب ذلك الاختصاص، وذلك الفضل، لما لم يكن عليه ذلك، ولو كان عليه لكان يقول: ذو العدل، لا ذو الفضل، وباللَّه التوفيق.
* * *
قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ
وقوله :﴿ وقولوا انظرنا ﴾ قيل ﴿ انظرنا ﴾ فهمنا [ بقول، بين لنا ]١، وقال مقاتل : أي اقصدنا٢. وقيل : إن الأمر بالإنظار يقع موقع الشفع في النظرة لوجهين :
[ الأول :]٣ [ بالصحبة مرة وبالخطاب ثانيا ؛ فقولهم ﴿ انظرنا ﴾ لما لا تبلغ أفهامنا القدر ]٤ الذي يعني ما تخاطبنا به.
والثاني : على قصور عقولهم عن ما يستحقه من الصحبة والإيجاب له صلى الله عليه وسلم [ فأما الأمر ]٥ ب : راعنا فهو استعمال في الظاهر بالمراعاة، وذلك يخرج على التكبر عليه وترك التواضع [ له ]٦ والخضوع.
وقوله :﴿ واسمعوا ﴾ [ قيل :( واسمعوا )٧ أي أجيبوا له، وقيل :﴿ واسمعوا ﴾ [ أي ]٨ أطيعوا له، وقيل :﴿ واسمعوا ﴾ [ أي اسمعوا ]٩، وعوا.
٢ - من ط م، في الأصل: مصدقا، في ط ع: قصدنا..
٣ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٤ - ساقطة من ط ع..
٥ - من ط م، في الأصل و ط ع: فالأمر..
٦ - من ط م..
٧ - من ط ع..
٨ - من ط ع..
٩ - من ط م..
﴿ أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم كانوا يهوون، ويحبون أن يبعث الرسول من أولاد إسرائيل، وهم كانوا من نسله، فلما بعث من أولاد إسماعيل عليه السلام على خلاف ما أحبوا، وهووا لم تطب أنفسهم بذلك، بل كرهت، وأبت أشد الإباء والكراهية.
والثاني : لم يحبوا ذلك لما كانت تذهب منافعهم التي كانت لهم والرئاسة بخروجه صلى الله عيه وسلم، والله أعلم.
وقوله :﴿ من خير ﴾ قيل : الخير النبوة، وقيل : الخير الإسلام، [ وقيل : الخير الرسول ههنا. والله أعلم ]١.
وقوله :﴿ والله يختص برحمته من يشاء ﴾ الآية٢، ينقض على المعتزلة قولهم [ بوجهين :
أحدهما ]٣ : لأنهم يقولون : إن على الله تعالى أن يعطي لكل٤ الأصلح في الدين في كل وقت وكل زمان. فلو كان عليه ذلك لم يكن للاختصاص معنى ولا وجه.
والثاني :[ لأنه ]٥ قال :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ والمفضل عند الخلق، هو الذي يعطي، ويبذل ما ليس عليه لا ما عليه ؛ لأن من عليه شيء فأعطاه، أو قضى [ ما ]٦ عليه من الدين لا يوصف بالإفضال، فدل أنه استوجب ذلك الاختصاص، وذلك الفضل لما لم يكن عليه ذلك٧. ولو كان لكان يقول : ذو العدل لا ذو الفضل، وبالله التوفيق.
٢ - أدرج في ط م و ط ع تتمة الآية بدلها..
٣ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٤ - في ط ع: كل..
٥ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٦ - من ط ع و ط م، ساقطة من الأصل..
٧ - من ط ع و ط م، في الأصل: لكان..
وقوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا (١٠٦)
قال بعض أهل الكلام: (مَا نَنْسَخْ) من اللوح المحفوظ (أَوْ نُنْسِهَا): نَدعُها في اللوح.
وقيل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي نرفع بآيةٍ أُخرى أو نتركها في الأخرى.
وقيل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فنرفع حكمها، والعملَ بها، (أَوْ نُنْسِهَا) أَي: نترك قراءتها وتلاوتها.
فيجوز رفع عينها، ويجوز رفع حكمها وِإبقاء عينها؛ لأَوجه:
أَحدها: ظهور المنسوخ؛ فبطل قول من أَنْكر النسخ؛ إذ وجد. ومن أَنكر ذلك فإنما أَنكر لجهل بالمنسوخ؛ لأَن النسخ بيان الحكم إلى وقت، ليس على البداءِ، على ما قالت اليهود.
والثاني: أَن للتلاوة فيها فضلًا -كما للعمل- فيجوز رفع فضل العمل، وبقاءُ فضل التلاوة.
والثالث: على جعل الأَول في حالة الاضطرار، والثاني في وقت السعة، كقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ).
ثم يجوز أَن يرفع عينها فيُنْسى ذكرُها، كما رُويَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " كنا نعدل سورة الأَحزاب بسورة البقرة، حتى رفع منها آيات، منها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة ".
وأَما قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا).
فاختلف فيه: قيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) أي: أخف وأَهونَ على الأبدان؛ كقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، إن الأمر بالصوم كان لوقت دون وقت؛ إذ رجع الحكم عند الطاقة إلى غَيره. وكذا ما كان من الحكم في تحريم الأَكل عند النوم والجماع، وكذا
وقيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) في الثواب في العاقبة.
وقيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) في المنفعة (أَوْ مِثْلِهَا) في المنفعة.
وقيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) وهو أَن يظهر لكم به الخير في حق الاتباع. والمثلُ: في حق الأَمر، فيشترك أَصحاب المنكرين للنسخ في حق الائتمار بالمثل، ويفضلونهم بظهور الأَخير.
وهو كالصلاة إلى بيت المقدس؛ كان لهم مثلُ ما لليهود في حق الائتمار ما كان ظهر لهم الأَخير في وقت ظهور الأَمر، وأبهم الخير. وظهر عنده فيمن أَبى: أن اتباعه لم يكن لأَجل حق المتابعة، بل لما كان عنده الحجة.
فأما من جعله خيرًا على البدل فاستدل بها الآخر رخصة وإباحة، والإباحة ورودها للتخفيف.
ومن استدل على أَن النسخ -أَبدًا- يَرِدُ على ما هو أَغلظ، عورض بقوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ)، فأبدل بعقوبة أَشد من الأَول -وهو الرجم- بقوله: " خذوا عني. خذوا عني ".
ويحتمل قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) وجهًا آخر: وهو آية والآيات هي الحجج؛ فيكون معناه: ما نرفع من حجة فننفيها عن الأَبصار، إلا نأت بخير منها يعني أقوى منها في إلزام الحجة، أَو مثلها.
ولا شك أن ما يعترض هو أقوى حالة الاعتراض في لزوم الحجة على ما غاب عن الأَبصار؛ فيكون قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) على هذا الوزن، أي: نأت بحجة هي أقوى وأكثر من الأُولى، أَو مثلها في القوة.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في النسخ؟ وما وجهه؟
قيل: محنة يمتحن بها الخلق، ولله أَن يمتحن خلقه بما يشاءُ، في أي وقت شاء: يأمر بأَمرٍ في وقت، ثم ينهى عن ذلك، ويأمر بآخر.
وليس في ذلك خروج عن الحكمة، ولا كان ذلك منه لبداءٍ يبدو له، بل لم يزل عالما بما كان ويكون، حكيمًا يحكم بالحق والعدل؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول.
يحتمل: أن يكون الخطاب له - عليه السلام - والمرادُ بالخطابِ الذين سبق ذكْرُهم في قوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)...) والآية.
إنه قادر على إنزال الخير على من يشاء، واختصاص بعضٍ على بعض، وتفضِيلِ بعضهم على بعض.
ويحتمل: أَن يكون المراد في الخطاب له - عليه الصلاة والسلام - على حقيقة العلم على التذكير والتنبيه، أي: تعلم أنت أَن اللَّه على كل شيء قدير، وهو كقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ). على حقيقة العلم له.
ويحتمل: على الإعلام والإخبار لقومه، وقد ذكرنا.
وعلى ذلك يخرج قوله:
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (١٠٧)
أي: من كان يملك ملك السماوات وملك الأًرض، يملك تخصيص بعض على بعض، وتفضيلهم فيها، ويحكم فيها بما يشاء، ويُحْدِث من الأَمر ما أَراد، واللَّه أعلم. ويحتمل: نزوله على أَثر نوازلَ لم تذكر فيه، وذلك في القرآن كثير، وإنما يقال هذا الحرف عند ضيق القلب؛ تسكينا له.
ومعنى تخصيص السماوات والأرض بالملك له؛ لمنتهى علم الخلق بهما، وإن كان له ملك الدنيا والآخرة، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
يدل هذا على أَنه خرج على أَثر نوازل وإن لم تذكر.
وقوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ (١٠٨)
سؤالَ تعنت: لن نؤمن لك -تعنتًا- حتى نرى اللَّه جهرة،
وقيل: إنهم سأَلوا ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما سأَل قوم موسى موسى.
وقيل؛ سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَن يجعل الصفا -لهم- ذهبًا إن كان ما يقوله حقًّا.
وقيل: سؤالهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، وكانوا
وقوله :﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان ﴾ قيل : اختار الكفر بالإيمان، وقيل : ومن يختر شدة الآخرة على رخائها وسعتها. وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه : ومن يشتر الكفر بالإيمان ؛ وذلك كله واحد.
[ وقوله :﴿ فقد ضل سواء السبيل ﴾ قيل : عدل عن الطريق. وقيل : عدل عن قصد الطريق. وقيل : أخطأ قصد الطريق وكله واحد ]٢.
٢ - من ط م و ط ع..
وقوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ).
قيل: اختار الكفر بالإيمان.
وقيل: ومن يختر شدة الآخرة على رخائها وسعتها.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ومن يشتر الكفر بالإيمان " وذلك كله واحد.
وقوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
قيل: عدل عن الطريق.
وقيل: عدل عن قصد الطريق.
وقيل: أَخطأَ قصد طريق الهدى، وكله واحد.
وقوله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا (١٠٩)
إنهم كانوا يجهدون كل جهدهم حتى يصرفوا ويردوا أَصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن دين اللَّه - الإسلام - إلى ما هم عليه؛ كقوله تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)، وكقوله: (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، وكقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...) الآية.
وذلك -واللَّه أعلم- لخوفِ فوت رياستهم التي كانت لهم، وذهاب منافعهم التي ينالون من الأَتباع والسفلة، فودوا ردَّهم وصرفهم إلى دينهم.
ثم احتجت المعتزلة علينا بظاهر قوله تعالى: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)، قالوا: دلت الآية على أَن الحسد ليس من عند اللَّه بما نفاه - عَزَّ وَجَلَّ - عنه، وأَضافه إلى أَنفسهم
قيل: صدقتم في زعمكم بأَن الحسد ليس من عند اللَّه، وكذلك نقول، ولا نجيز إضافة الحسد إليه بحال ولكن نقول: خلق فعل الحسد من الخلق، وكذلك يقال في الأَنجاس، والأقذار، والحيَّات والعقارب ونحوها: إِنه لا يجوز أن تضاف إلى اللَّه تعالى فيقال: يا خالق الأَنجاس والحيات والعقارب، وإن كان ذلك كله خلقه، وهو خالق كل شيء.
فعلى ذلك، نقول بخلق فعل الحسد، وفعل الكفر من العبد، ولا نجوِّز أن يضاف إلى اللَّه تعالى.
ثم يقولون في الطاعات والخيرات كلها: إنها من عند اللَّه، غير مخلوقة، فلئن كانت
ثم جهة الحسد ما ذكرنا أنهم أحبوا أن تكون الرسالةُ فيهم، أَو أن يكون من عنده سعَةْ؛ كقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ)، وكقوله: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ فبهذين الوجهين يخرج حسدهم.
قوله: (مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم).
أي: من قِبَلِها، لا أَن اللَّه - تعالى - أمرهم. وليس يضاف إلى اللَّه - تعالى - بأَنه من عنده بما يخلق، ولكن بما يأمر أو يلزم.
أَلَا تَرى أَن الأنجاس كلها، والخبائث، والشياطين، كلهم مخلوقة وإن لم يجز نسبتها إلى اللَّه - تعالى - بمعنى أنه مِن عنده؟ كذلك ما ذكر من الحسد.
على أَنه معلوم أَنهم لم يكونوا يدعون مِنْ دون اللَّه خَلْقًا فبذلك الوجه ينكر عليهم، بل كانوا يدعون الأَمر في كل ما نُسب إلى اللَّه تعالى؛ فعلى ذلك ورد العقاب، واللَّه أعلم.
وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
أي: بين لهم في التوراة أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبي، وإن دينه الإسلام؛ كقوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ).
وقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).
يحتمل: النهي عن مكافأة ما يؤذونه في الدنيا، ثم لم ينسخ.
وقيل: فيه نهي عن قتالهم، حتى يأْتى أَمر اللَّه في ذلك، ثم جاءَ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) الآية.
وقيل: حتى يأتي اللَّه بأمره، أي: بعذابه، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
من التعذيب والانتقام، وبكل شيء. ولم ينسخ هذا.
وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (١١٠)
كرر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الأَمر بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، في القرآن تكرارًا كثيرًا، حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها -في غير موضع- وذلك لعظم شأنهما، وأمرهما، وعلو منزلتهما عند اللَّه، وفضل قدرهما.
أَلا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).
وقوله لموسى وهارون: (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) إلى قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ). وقول عيسى: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)، وقوله: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ).
وذلك - واللَّه أعلم - أَن الصلاة قُربة فيما بين العبد وبين ربه، تجمع جميع أفعال الخير، وفيها غاية منتهى الخضوع له، والطاعة: من القيام بين يديه، والمناجاة فيه، والركوع له، والسجود على الأَرض، وتعفير الوجه فيها حتى لو أَن أَحدًا ممن خلص دينه لله لو أعطى ما في الدنيا على أن يعفر وجهه في الأَرض لأَحد من الخلق ما فعل، وبالله التوفيق.
والزكاةُ فيما بين العبد وبين الخلق؛ لتآلف القلوب واجتماعها، وفيها إظهار الشفقة لهم والرحمة.
ثم هما تكرمان بالعقل؛ لأَن الصلاة تجمع جميع أَنواع خيرات الأَفعال، وفيها غايةُ الخضوع له، والخشوع -على ما ذكرنا- وذلك مما يوجبه العقل، وإن لم يرد فيه السمع.
وكذلك الزكاة: فيها تزكية الأَنفس وتطهيرها، وذلك مما في العقل واجب. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في وجوبها؟
قيل: إظهار ما أَنعم اللَّه على العبد من الأَموال والسعة فيها، وما أعطاهم من سلامة الجوارح عن جميع الآفات، يخرج مخرج الأَمر بأَداءِ شكر ما أَنعم عليهم عز وجل.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في وجوبها فيما أُعْطي منهما، يعني من النفس، والمال دون غيره؟
قيل: لأن الوُجوب من غيره يخرج مخرج المعاوضة والمبادلة، لا مخرج أَداءِ الشكر، واللَّه أعلم.
ثم الحكمة في: إيجاب الصلاة والزكاة، وغيرهما من العبادات أَن اللَّه - تعالى - إذ عمهم بنعمه فيما فضلهم بالجوهر، وسخر لهم جميعَ ما في الأرض، وبسط عليهم النعم، حتى صار كل منهم لا يُبصر غير نعمه، من غير استحقاق منهم شيئًا من ذلك - لزمهم الشكر عليها.
وكذلك بالأموال فضلوا -في هذه الدنيا- واستمتعوا بلذيذ العيش؛ فأمروا بالإخراج لله، مع ما إذ سخرت هذه الأَرض -بما فيها- لجميع البشر، ألزم من ذلك صلةَ من لم يملك، ليستووا في الاستمتاع بالتسخير لهم، من الوجه الذي عَلِم اللَّه لهم في ذلك صلاح الدارين، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ).
الآية تخرج على خلاف قول المعتزلة؛ لأَنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة ثم أَقام الصلاة وآتى الزكاة، وجاهد في سبيل اللَّه، وحج بيت اللَّه الحرام، فقدم خيرات كثيرةً - فإنه لا يجد مما قدم شيئًا، ولكن يجد ما قدم من شر.
وذلك ليس من فعل الكريم والجواد، ولا كذلك وصف اللَّه نفسه، بل وصف نفسه على خلاف ما وَصفوا هم، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ).
وهم يقولون: لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات، ولا يتجاوز عن سيئاتهم، وذلك سرف في القول؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول، والحكم على اللَّه، وباللَّه العصمة والتوفيق.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
بما قدمتم من الخير والشر؛ تنبيه منه عَزَّ وَجَلَّ ليكونوا على حَذرٍ من الشر، وترغيب منه لهم بالخيرات. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
وقوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١)
يحتمل: أَن قالوا ذلك جميعًا؛ لما أَرادوا أَن يُروا الناس الموافقة فيما بينهم؛ ليرغبوا في دينهم، وينفروا عن دين الإسلام، وإن كانوا هم -في الباطن- على الخلاف والعداوة.
ويحتمل: أن يكون ذلك القولُ من كل فريق في نفسه، لا عن كل الفريقين جميعًا على المو افقة.
دليله: قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) دلت الآية أن ذلك القولَ لم يكن من الفريقين جميعًا على الموافقة، ولكن كان من كل في نفسه على غير موافقة منهم ولا مساعدة، واللَّه أعلم.
ثم في الآية دليلٌ، لزم الدليل على النافي؛ لأَنهم نفوا دخول غيرهم الجنة بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) فطولبوا بالبرهان بقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه لا يدخل فيها سواكم.
فَإِنْ قِيلَ: إنهم إذا نفوا دخول غيرهم فيها ادعوا لأنفسهم الدخول، فإنما طولبوا بالبرهان على ما ادعوا، ليس على ما نَفَوا.
قيل: لا يحتمل ذا؛ لأَنهم لم يذكروا دخول أنفسهم تصريحًا، إنما نفوا دخول غيرهم وهو كمن يقول: لا يدخل هذه الدار إلا فلان وفلان، ليس فيه أن فلانًا وفلانًا يدخلان ولكن فيه نفي دخول غيرهما.
أَو نقول: نَفَوْا دخول غيرهم تصريحًا، وادعوا لأَنفسهم الدخول مستدلا، وإنما يطلب الحجة على مُصَرح قولهم، لا على مستدلهم.
أَلا ترى أَن الجواب من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالإكذاب والرد عليهم خرج على ما نفوا دخول غيرهم، وهو قوله: (بَلَى (١١٢)
- يدخل الجنة - (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).
ألا ترى إلى ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نكاح إلا بشهود " ليس فيه
ألا ترى أَن من قال: لا نكاح إلا بشهود، لا يسأل أن: لِم قلت: إن النكاح يجوز بالشهود؟ ولكن يسأَل أنْ: لِمَ قلت: إنه لا يجوز بغير شهود؟ فعلى ذلك قوله: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ليس فيه إثبات الدخول لهم تصريحًا، وفيه نفي دخول غيرهم تصريحًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).
قد قلنا إنه خرج مخرج الرد عليهم، والإنكار لحكمهم على اللَّه؛ فقال: بل يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن.
ثم اختلف في قوله: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ).
قيل: أخلص دينه لله وعمله.
وقيل: أَسلم نفسه لله.
وقد يجوز أن يذكر الوجه على إرادة الذات، كقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي: إلا هو.
وقيل: أَسلم، أي: وجه أمره إلى دينه فأخلص. وبعضُه قريب من بعض.
أَسلم نفسه لله أَي بالعبودية؛ كقوله: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ).
وذلك معنى الإسلام: أن تُخْلص نفسك لله، لا تجعل لأحد شركًا من عبودة، ولا من عبادة.
وقوله: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
قد ذكرنا متضمنها فيما تقدم.
وقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ (١١٣)
فَإِنْ قِيلَ: كيف عاتبهم بهذا القول، وقد أَمر نبيه - عليه السلام - في آية أُخرى أَن يقول لهم ذلك: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ)؟.
قيل: إنما أَمر نبيه: أَن يقول لهم: إنهم ليسوا على شيء إذا لم يقيموا التوراة، فأما إذا
ومعنى هذا الكلام - واللَّه أعلم - أن قال لهم: كيف قلتم ذلك، وعندكم من الكتاب ما يبين لكم، ويميز الحق من الباطل، ويرفع من بينكم الاختلاف، لو تأَملتم فيه وتدبرتم؟!
ويحتمل: أَن كل فريق منهم لما قال لفريق آخر ذلك: أنهم ليسو على شيء، أكذبهم اللَّه - تعالى - ورد عليهم: بلى من أَسلم منهم فهم على شيء؛ لأَنه كان أَسلم من أَوائلهم.
ويحتمل: أَنهم ليسوا على شيء، على نفس دعاويهم، وقولِهم في اللَّه بما لا يليق، وهم على شيء، في تكذيب بعضهم بعضًا بما قالوا.
وقيل: لما قالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدِّين؛ فما لك يا مُحَمَّد اتبع ديننا؛ فإنهم ليسوا على شيء؛ وكذلك قول الفريق الآخر لأُولئك.
ثم اختلف في " الإسلام ":
قيل: الإسلام هو الخضوع.
وقيل: الإسلام هو الإخلاص بالأفعال، وهو أَن يُسلم نفسه لله، أَو يسلم دينه، لا يشركه فيه.
وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).
قيل: الذين لا يعلمون: الذين لا كتاب لهم، وهم مشركو العرب.
وقيل: الذين لا يعلمون: هم الذين لا يقدرون على تلاوة القرآن والكتاب، وتمييز ما فيه، وهم جُهَّالهم.
سوَّى - عَزَّ وَجَلَّ - بينهم في القول -مَنْ علم منهم ومَن لم يعلم- لأَن من علم منهم لم ينتفع بعلمه؛ فكان كالذي لم يعلم شيئًا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، أَنه سماهم بذلك؛ لما لم ينتفعوا بالآيات، والأَسباب التي أَعطاهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
بالعذاب؛ لاختلافهم فيما بينهم، وبقولهم في اللَّه بما لا يليق، تعالى اللَّه عما يقول
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ).
يقول: لا أَحد أَظلم لنفسه، ولا أوضع لها.
وقوله: (مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).
اختلف فيه:
قيل: مساجد اللَّه: الأَرض كلها؛ لأَن الأَرض كلها مساجد اللَّه؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " جُعِلَت لي الأَرض مسجدًا وطَهورًا " منع أَهلُ الكفر أَهلَ الإسلام أَن يذكروا فيها اسم اللَّه، وأَن يُظهروا فيها دينه.
وقوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا).
وهو كقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا).
ويخرج قوله: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ).
أي: لا يدخلون البلدان والأَمصار إلا بالخوف، أَو بالعهد؛ كقوله: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)، وهو العهد.
ويحتمل قوله: (مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ): ما كان ينبغي لهم -بما عليهم من حق اللَّه، وتعظيمه- أَن يدخلوا المساجد إلا خائفين وجلين؛ لما كانت هي بقاع اتخذت لعبادة اللَّه، ونسبت إليه تعظيمًا لها؛ فدخلوا مخرِّبين لها، مانعين أَهلها من عبادة اللَّه فيها.
وقيل: مساجد اللَّه: المسجد الحرام.
وذلك أَنهم حالوا بينها وبين دخول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَصحابه فيها، حتى رجعوا من عامهم ذلك. ثم فتح اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مكة لهم، فصار لا يدخلها مشرك إلا خائفًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:
وقيل: أراد بمساجد اللَّه: بيت المقدس؛ قيل: إن النصارى استعانوا ببُختنصر وهو رئيس المجوس، حتى خربوا المساجد، وقتلوا من فيها من أَهل الإسلام، ثم بنى أَهل الإسلام -بعد ذلك بزمان- مساجد، فكان لا يدخل نصراني فيها إلا خائفا، مستخفيًا. واللَّه أعلم.
وقوله: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ).
قيل: الخزى: الجزية. ويحتمل القتال، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (١١٥)
قيل: إن رهطًا من أَصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انطلقوا سَفْرًا، وذلك قبل أن تُصرف القبلة إلى الكعبة، فحضر وقت الصلاة، فاشتبه عليهم، فتحرَّوْا، فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى المغرب؛ صلوا إلى جهات مختلفة، فلما بَانَ لهم ذلك قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأَلوا عن ذلك؛ فنزلت الآية فيهم (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
وهذا يرد على الشافعي قولَه؛ لأَنه يقول: إنْ صلى إلى جهة القبلة يجوز، وإلا فلا.
وليس في الآية ذكر جهة دون جهة، بل فيها ذكر المشرق والمغرب، وكذلك في الخبر ذكر المشرق والمغرب؛ فخرج قوله على ظاهر الآية، وهذا عندنا في الاشتباه والتحري، وأَما عند القصد فهو قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
ورُوِى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن قوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ...) الآية، نزلت في النوافل في الأسفار.
ولكن عندنا على ما ذكرنا في الكل، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
اختلف فيه:
قيل: ثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، يعني: ثَمَّ ما قصدتم وجه اللَّه.
وقيل: ثَمَّ قبلَةُ اللَّه.
وقيل: ثَمَّ وجهُ اللَّه: ثم اللَّه. على ما ذكرنا من جواز التكلم بالوجه على إرادة الذات، أي: ليس هو عنهم بغائب.
وقيل: ثَمَّ رضاء اللَّه.
وقيل: ثم ما ابتغيتم به وجه اللَّه.
وقيل فيه: ثم وجه الذي وجهكم إليه إذا لم يجئ منكم التقصير، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -في أكل الناسي: " إنما أَطعمك اللَّه وسقاك ".
وقيل فيه: ثم بلوغكم ما قصدتم بفعل الصلاة من وجه اللَّه ورضائه، أي: ظفرتم به.
ثم الغرض في القبلة ليس إصابة عينها، ولكن أَغلب الظن، وأَكبر الرأْي؛ لأَنه ليس لنا إلى إصابة عينها سبيل؛ إذ سبيل معرفتها بالاجتهاد، لا باليقين والإحاطة، ليس كالمياه والأَثواب وغيرها من الأَشياء؛ لأَن هذه الأَشياء في الأَصل طاهرة، والنجاسة عارضة فيظفر بأَعينها على ما هي في الأَصل.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ عَلِيمٌ).
قيل: الواسع: الغني.
وقيل: الواسع: الجواد، حيث جاد عليهم بقبول ما ابتغوا به وجه اللَّه، وحيث وسع عليهم أَمر القبلة.
(عَلِيمٌ) بما قصدوا ونَوَوْا.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
وقوله (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ).
فيه تنزيه، نزه به نفسه عما قالوا فيه بما لا يليق، ورد عليهم.
ومعناه - واللَّه أعلم -: أَنَّ اتخاذ الولد، والتبني -في الشاهد- إنما يكون لأَحد وجوه ثلاثة تحوجه إلى ذلك:
إما لشهوات تغلبه؛ فيقضيها به.
وإما لوحشة تأْخذه؛ فيحتاج إلى من يستأْنس به.
أَو لدفع عدو يقهره؛ فيحتاج إلى من يستنصر به ويستغيث.
فإذا كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يتعالى عن أَن تمسه حاجة، أَو تأْخذه وحشة، أَو يقهره عدو، فلأَي شيء يتخذ ولدًا؟!.
وقوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
رد على ما قالوا: بأن من ملك السماوات وما فيها، وملك الأَرض وما فيها - لا تمسه حاجة، ولا يقهره عدو؛ إذ كل ذلك ملك له، يجري فيهم تقديره، ويمضي عليهم أَمره وتدبيره، وإنما يرغب إلى مثله إذا اعترض له شيء مما ذكرنا، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا.
فإن عورض بالخلة، قيل: إِن الخلة تقع على غير جوهرِ مَنْ منه الخلة، والولدُ لا
والثاني: أَن الخلة تقع لأَفعال تكتسب، وتسبق منه، فيعلو أَمره، وترتفع مرتبته؛ فيستوجب بذلك الخلة بمعنى الجزاء، وأَما الولد فإنه لا يقع عن أفعال تكتسب، بل بدو ما به استحقاقه يكون من مولده. وقد نفى عن نفسه ما به يكون بقوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ).
والثالث: ما قاله الراوندي: أَنه لا بد من أَن يدعى إلى التسمي، أَو إلى التحقيق؛ إذ في الخلة تحقيق ما به يسمى.
ثم لم يحتمل في هذا تحقيق ما به يسمى، والاسم لم يرد به الإذن، وباللَّه التوفيق.
ويحتمل قوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وجهًا آخر، وهو أَن يقال: إن ما في السماوات وما في الأَرض، كلهم عبيده وإماؤه، فأَنتم مع شدة حاجتكم إلى الأَولاد لا تستحسنون أَن تتخذوا عبيدكم وإِماءكم أولادًا، فكيف تستحسنون ذلك لله - عَزَّ وَجَلَّ - وتنسبون إليه مع غناه عنه؟ وباللَّه التوفيق.
وقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: إن كل من في السماوات والأرض من الملائكة، وعيسى، وعُزير، وغيرهم -من الذين قلتم: إنه اتخذهم ولدًا- قانتون له، مُقِرون بالربوبية له، والعبودية لأَنفسهم له.
وقيل: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ): مطيعون؛ أي: كلهم مطيعون متواضعون.
وقيل: القانت: هو القائم، لكن القائم على وجهين: يكون القائم المنتصب على الأَقدام، ويكون القائم بالأَمر والحفظ.
ثم لا يحتمل أَن يراد بالقانت هاهنا: المنتصب بالقدم؛ فرجع إلى الطاعة له وحفظ ما عليه، وهو كقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، من الحفظ والرزق.
ويحتمل: تنزيه الخلقة؛ لأَن خلقة كل أحد تنزه ربه عن جميع ما يقولون فيه.
أَو أَن يقال: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) في الجملة؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
ابتدعهما ولم يكونا شيئًا.
والبديع والمبدع واحد؛ وهو الذي لم يسبقه أحدٌ في إنشاءِ مثله؛ ولذلك سمى صاحب الهوى: مبتدعًا؛ لما لم يسبقه في مثل فعله أحد.
ثم فيه الحجةُ على هَؤُلَاءِ الذين قالوا: اتخذ اللَّه ولدًا، يقول: إن من قدر على خلق السماوات والأَرض من غير شيء، ولا سبب، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟!
والثاني: أن يقال: إِن من له القدرةُ على خلق ما يصعب، ويعظم في أعينكم، بأقل الأَحرف عندكم - كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أَب؟!
وقوله: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ).
قيل: وإذا حكم حكمًا: فإنما يقول له: كن فيكون.
وقيل: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا)؛ يعني قضى بإهلاك قوم واستئصالهم (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
ثم قوله: (كُنْ فَيَكُونُ).
ليس هو قول من اللَّه: أَنْ كُنْ -بالكاف والنون- ولكنه عبارة بأَوجز كلام، يؤدي المعنى التام المفهوم؛ إذ ليس في لغة العرب كلام التحقيق بحرفين يؤدي المعنى المفهوم أَوجز من هذا، وما سوى هذا فهو من الصلات، والأَدوات، فلا يفهم معناها، والله أعلم.
ثم الآية ترد على من يقول: بأَن خلق الشيء هو ذلك الشيء نفسه؛ لأَنه قال: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا) ذكر " قَضى " وذكر " أَمْرًا "، وذكر " كُنْ فَيَكُونُ ". ولو كان التكوين والمكون واحدًا لم يحتج إلى ذكر كن في موضع العبارة عن التكوين فالـ " كن " تكوينه، فيكون المكون؛ فيدل أنه غيره.
ثم لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن فحدث، أو كان في الأَزل.
فإن لم يكن فحدث، فإِما أَن يحدث بنفسه -ولو جاز ذلك في شيء لجاز في كل شيء- أَو بإِحداث آخَر، فيكون إحداث بإحداث، إِلى ما لا نهاية له. وذلك فاسد، ثبت أَن الإحداث والتكوين ليس بحادث، وأَن اللَّه تعالى موصوف في الأَزل أَنه محدث،
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ (١١٨)
قيل فيه بوجوه:
قيل: الَّذِينَ لا يعلمون، يعلمون في الحقيقة، ولكن سماهم بذلك؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم.
وقيل: لا يعلمون توحيد ربهم؛ وهم مشركو العرب. قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: هلا يكلمنا اللَّه، أو تأْتينا آية فتُخبرنا بأَنك رسوله.
وقيل: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ)، أَي: لا يعلمون أَنهم لم يبلغوا المبلغ الذي يتمنون تكليم اللَّه إياهم.
وقيل: (لَا يَعْلَمُونَ) أنه قد كلمهم وأَخبرهم بالوحي، وإِيتاء رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آياتٍ على رسالته، لكنهم يعاندون.
وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ).
قيل: الذين من قبلهم: بنو إسرائيل؛ قالوا لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ما قال مشركو العرب لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا).
وقيل: اليهود سألوا مثل سؤال النصارى.
وقيل: النصارى سألوا مثل سؤال اليهود، واللَّه أعلم.
وقوله: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ).
بالكفر والسفه.
وقيل: تشابهت قلوبهم في المقالة؛ يشبه بعضُها بعضًا في السؤال؛ لأَنهم سأَلوا سؤال تعنت، لا سؤال مسترشد.
وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
يحتمل وجهين:
أَحدهما: هذا القول.
والثاني: أَن يسأَلوا سؤال التعنت والعتو، لا سؤال مسترشد؛ إذ اللَّه - تعالى - قد أَثبت آيات الإرشاد لمن يبتغي الرشد، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
* * *
قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا).
قيل: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) يا مُحَمَّد؛ لتدعوَهم إلى الحق، وهو التوحيد.
وقيل: بالحق: بالقرآن.
وقيل: بالحق: بالحجج والآيات.
قوله تعالى: (بَشِيرًا) لمن أَطاعه بالجنة، (وَنَذِيرًا) لمن عصاه وخالف أمره بالنار.
وقيل: بالحق الذي لله على الخلق، والحق الذي لبعضٍ على بعض؛ لتدعوهم إليه وتدلهم عليه.
وقوله: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).
وجائز أن يكون بمعنى: لَا تَسْأَلْ بعد هذا عنهم. ولم يُذكر أَنه سئل عنهم بعده؛ فيكون ذلك آية له بما هو خبر عن علم الغيب.
قيل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليت شعري! ما فعل أَبواي؟ " فأَنزل اللَّه - تعالى -
وفيها لغتان: " لا تَسأل " بنصب التاءِ وهو ما ذكرنا.
ويحتمل وجهًا آخر: أَي لا تشتغل بأَصحاب الجحيم؛ فإن ذلك تكلف منك وشُغل.
وفيها لغةٌ أُخرى برفع التاءِ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)، أَي: لا تُسأَل أنت يا مُحَمَّد عن ذنوب أَصحاب الجحيم؛ وهو كقوله: (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وكقوله: (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، وكقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، ونحوه.
وقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (١٢٠)
اختلف في الملة:
قيل الملة: السنة؛ كقوله: " بسم اللَّه، وعلى ملة رسول اللَّه "، وكقوله (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).
وقيل الملة: الدِّين، كقوله عليه السلام: " لا يتوارث أهل الملتين ".
وقيل: الملة هاهنا: القبلة، وهو كقوله: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).
آيس - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن اتباع أُولئك دينه وقبلته؛ لأنهم يختارون الدِّين، والقبلة؛ بهوى أَنفسهم، لا بطلب الحق، وظهوره، ولزوم الحجة.
وذلك: أَن النصارى إنما اختاروا قبلتهم المشرق؛ لأَن مكان الجبل الذي كان فيه
واليهود اختاروا قبلتهم ناحية المغرب؛ لأَن موسى عليه السلام كان بناحية المغرب لما أعطى الرسالة وكلمه ربه؛ كقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ).
وأما أهل الإسلام فإنما اختاروا الكعبة -شرفها اللَّه- قبلة بالأَمر، لا اتباعًا لهواهم.
والعقل يوجب أن تكون الكعبة قبلة؛ إذ هي مقصد الخلق من آفاق الدنيا، فلما احتيج في الصلاة إلى التوجه إلى وجه كان أَحَق ذلك الموضع الذي جعل للخلق مقاصد أخرى.
ثم قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله: أن ليس في وسعك إرضاءُ هَؤُلَاءِ؛ لاختلافهم في الدعاوى في الملل.
فَإِنْ قِيلَ: كيف نهى رسوله عن اتباع ملتهم على علم منه: أنه لا يتبع؟
قيل: لأن العصمة لا تزيل المحنة، ولا تدفعها، بل المحنة إنما تقع في العصمة لوجهين:
أحدهما: أن عصمته لِمَا مضى لا توجب عصمته في الحادث.
والثاني: أَن أَحق مَنْ يُنهى عن الأَشياء مَنْ أُكرم بالعصمة؛ إذ على زَوال النهي يرتفع عنه جهة العصمة؛ لأَنه يصير برفع النهي مباحًا.
فلهذا دل القول على النهي عما فيه إرضاؤهم -وإن كان في الأصل معصومًا عنه- وباللَّه التوفيق.
وفي إزالة الأمر والنهي إِزالةُ فائدة العصمة؛ لأَن العصمة: هي أَن يعصم في الأمر حتى يؤديَه، وفي النهي، حتى ينتهيَ عنه، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
قيل؛ إن دين اللَّه -الذي اختاره أَهلُ الإسلام؛ بالأمر، واتباع الآيات، والحجج- هو الدِّين، لا كما اختار أُولئك بهوى أنفسهم، واستقبال الآيات والحجج بالرد، والإنكار، والمعاندة.
ويحتمل: أن يكون الخطابُ في قوله: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)
وقوله: (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
ظاهره: من ولي يتولى الدفاع عنك، ولا نصير يمنعك من العذاب.
ويحتمل: ينصرك فتغلب به سلطان اللَّه فيما يريد تعذيبك.
وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (١٢١)
قيل: الكتابُ: أراد به التوراةَ أَو الإنجيلَ.
وقيل: أَراد به القرآن.
ومن حمله على التوراةِ والإنجيل قال: فيه إِضمار واو كأَنه قال: الذين آتيناهم الكتاب، ويتلونه حق تلاوته، أُولئك يؤمنون به، أي: إِذا تَلَوْا حق التلاوة؛ فحينئذ يؤمنون به.
وقيل: يتلونه حق تلاوته، يعني يعملون به حق عمله، ولا يكتمون نعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يحرفونه.
(أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).
وهم الذين أَسلموا منهم.
وقيل: يتبعونه حق اتباعه. وهو واحد.
ومن حمله على القرآن، فالذين يتلونه حق تلاوته أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩).
قيل: الابتلاء والامتحان في الشاهد: استفادة علم خَفِيَ عليه من الممتحن والمبتلى به، ليقع عنه علم ماكان ملتبسًا عليه.
وفي الغائب لا يحتمل ذلك؛ إِذ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عالم في الأَزل بما كان، وبما يكون في أَوقاته أبدًا.
ثم يرجع الابتلاء منه إلى وجوه:
أَحدها: أَن يخرج مخرج الأَمر بالشيء أَو النهي عنه، لكن الذي ذكر يظهر بالأمر والنهي؛ فسمى ابتلاء من اللَّه تعالى.
والثاني: ليكون ما قد علم اللَّه أَنه يوجد موجودًا، وليكون ما قد علم أنه سيكون كائنًا.
وعلى هذا يخرج قوله: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ)، حتى نعلمه موجودًا، كما علم أَنه يوجد؛ كما قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، علم الغيبَ، علم أنه مُوجَد. وَعلم الشهادةَ، عَلِم به موجودًا، حتى يوجد الذي علم أَنه يجاهد منهم - مجاهدًا، والذي، يصبر منهم صابرًا.
ثم اختلف في الكلمات التي ابتلاه بها:
فقَالَ بَعْضُهُمْ: الكلمات: هي التي ذكرت في سورة الأَنعام، وهو قوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا)، ورأَي القمر بازغًا، ورأَي الشمس بازغة، هي الحجج التي أَقامها على قومه بقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ).
وقيل: ابتلاه بعشر ففعلهن: خمسةً في الرأْس، وخمسة في الجسد.
لكن في هذا ليس كبيرُ حكمةٍ؛ إِذ يفعل هذا كل واحد، ولكن الحكمة فيه هي: ما قيل: إن ابتلاءه بالنار، حيث أُلْقي فيها، فصبر، حتى قال له جبريل: " أَتستعين بي؟ قال: أَمَّا منْك فلا ".
وابتُلي بالهجرة مِن عِندهم، وتركهم هنالك -وهم صغار- ولا ماءَ معهم، ولا زرع، ولا غرس.
وابتلي بالهجرة إلى الشام.
وابتلي بذبح ولده.
ابتلي بأَشياءَ لم يبتل أَحد من الأَنبياء بمثله، فصبر على ذلك.
ففى مثل هذا يكون وجه الحكمة.
وفيه لغة أُخرى: (وَإذِ ابْتَلى إِبْرَاهِيمُ) بالرفع (رَبَّهُ) بنصب الباء.
ومعناه - واللَّه أعلم -: أَنه سأَل ربه بكلمات فأعطاهن. وهو تأْويل مقاتل. وهو أَن قال: اجعلني للناس إِمامًا. قال: نعم. قال: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، قال: نعم قال: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، قال: نعم. قال: و (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا).
قال: نعم. قال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قال: نعم.
مثل هذا: سأَل ربه هذا فأَعطاهن إياه.
وقوله: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).
يحتمل: جعله رسولًا يقتدى به؛ لأَن أَهل الأديان. -مع اختلافهم- يدينون به، ويقرون نبوته.
ويحتمل: إمامًا من الإمامة والخلافة.
وقوله: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
فَإِنْ قِيلَ: كيف كان قوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وجوابًا لقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وكانت الرسالة في ذريته؛ كقوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)؟
يحتمل قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي): أَحب أَن تكون الرسالة تدوم في ذريته أَبدًا؛ حتى لا تكون بين الرسل فترات؛ فأُخبر أَن في ذريته من هو ظالم، فلا ينال الظالم عهده.
ويحتمل: أَن يكون سؤالهُ جعلَ الرسالة في أَولاد إِسماعيل؛ لأَن العرب من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - فأُخبر أن في أَولاده من هو ظالم؛ فلا يناله.
والعهدُ: ما ذكرنا، هو الرسالة والوحي.
ويحتمل: أَن يكون المراد من ذلك: وذريتي، فأخبر أَن فيهم من لا يصلح لذلك.
ويحتمل: أَن يريد به الإمامَة لَا النبوة، وقد كانت هي في نسل كل الفرق، والنبوةُ كانت فيهم.
ويحتمل: أَن يكون قصدَ خصوصًا من ذريته، ممن علم اللَّه أَن فيهم من لا يصلح لذلك.
ولا يحتمل: أن يريد به الإمامَة لا النبوة وقد ذكر، أَو قال الإنسان: قيل له: إِنه من ذريتك لكن لا ينال من ذكر؛ ولهذا خص بالدعاءِ من آمن منهم دون من كفر.
وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (١٢٥)
قيل: المثابة المجمع.
وقيل: المثابة: المرجع، يثوبون: يرجعون.
وقيل: يحجون.
وقوله: (مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا).
هو فعل العباد؛ لأَنهم يأمنون ويثوبون.
أَخبر أَنه جعل ذلك؛ ففيه دلالة خلق أَفعال العباد.
وفيه دلالة نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذ أَخبر عما قد كان؛ فثبت أَنه أَخبر عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله: (وَأَمْنًا) ولمن دخله من عذاب الآخرة.
وقيل: (وَأَمْنًا) لكل مجرم آوى به، وآوى إليه من القتل، وغيره؛ كقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)، عن كل ما ارتكب.
وأما عندنا: فإنه إن قتل قتيلًا، ثم التجأَ إِليه، فإِنه لا يقتل ما دام فيه؛ لأَنه لا يقتل للكفر هنالك.
وما رُويَ عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " لو ظفرت بقاتل عمرَ في الحرم ما قتلته، وإِذا قتل في الحرم يقتل به هنالك.
والوجه فيه: أَن إِقامة مثله عليه فيما يرتكبه في الحرم أحق؛ إذ هي كفارة؛ لينزجر عما ارتكب، وأَحق ما يقع فيه الزجر بمثله، ما هو فيه منِ المكان.
وإذا قيل في غير الحرم، ثم التجأ إلى الحرم - قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه - لا يخرج من الحرم.
وأَبو يوسف - رحمه اللَّه - جعل ذلك للسلطان، ذهب إلى أنه قال: (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ
وقيل: لم يُخرَج من الحرم إذا لم يخرج منه، كما لم يُقتل في الحرم إذا لم يقتُل فيه.
أَو نقول بالإخراج للقتل، قَصْد ما لم يَسُغْ فعله فيها كان كالصيد يخرج، يلزم فيه ما يجب بالقتل؛ فمثله في موضع الحظر.
وبعد فإِنه لو أخرج لم يأمن بالحرم، بل زيد في عقوبته؛ إِذ الإخراج عقوبة، فقد زيد عليه، مع ما لم يجز في الكفار -الذين نهوا عن قتلهم- إِخراجهم للقتل، كذلك القاتل.
وذهب الآخر: إلى أنه يُخْرج؛ لإقامة الحد عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه - وإن لم يرتكب فيه.
وإِخراج المرتكب له، أَقل في الحكم من إِقامته عليه. غير أنه غلط؛ لأن إِخراجه للقتل يرفع من الحد؛ لأَنه يصل إلى قتله، ولما في القتل عقوبة واحدة، وفي الإخراج عقوبتان.
ثم لم يلزمه العقوبة الواحدة -وهي القتل- إِذا لم يقتل فيه كان من ألا يلزمه العقوبتان أحق.
وقول: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
اختلف في (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ):
منهم من جعل الحرم كله مقامه -يصلي إليه- لمقامه هنالك بأَولاده.
ومنهم من جعل المسجد مقامه؛ لأَنه كان مكان عبادته فهو المصلى.
ومنهم من جعل ما ظهر من مقامه -وهو موضع ركوبه ونزوله- لما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَنه لما قدم مكة قام إلى الركن اليماني، فقال عمر: " يا رسول الله! أَلا تتخذ مقامَ إبراهيم مصلى؟! " فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
وعندنا: القبلةُ البيتُ؛ كقوله - تعالى -: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)،
وقوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ).
فيه الأمر ببنائه.
وقوله: (أَن طَهِّرَا بَيتِيَ).
يحتمل التطهير لوجهين:
أَحدهما: عن الأَصنام والأَوثان التي كانت هنالك، وعبادةِ غير اللَّه والأَنجاسِ.
ويحتمل: التطهير عن كل أَنواع الأَقذار، وعن كل أَنواع المكاسب، على ما روي في جملة المساجد.
وقوله: (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
قيل: الطائف: هو القادم؛ سمي طائفًا لدخوله بطوافه.
وقيل: الاستحبابُ الطوافُ؛ لذلك قال أَصحابنا - رحمهم اللَّه - الطوافُ للقادم أَفضل من الصلاة. والصلاة للمقيم أَفضل.
(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) منهما جميعًا.
وقيل: العاكفون: المجاورون؛ يعني: من أهل مكة والقادمين إليها.
وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا (١٢٦)
قد ذكرنا الوجه في قوله: (آمِنًا).
وقوله: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
لما علم أَن المكان ليس بمكان ثمرٍ ولا عُشب دَعَا، وسأَل ربه: أن يرزق أَهله عَطفًا على أَهله، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق.
ثم خص المؤمنين بذلك؛ لوجوه:
أَحدها: أَنه لما أَمرهما بتطهير البيت عن الأَصنام والأَوثان ظن أَنه لا يجعل لسوى أَهل الإيمان هنالك مقامًا؛ فخص لهم بالدعاءِ، وسؤال الرزق.
والثاني: أَنه أَراد أَن يجعل آية من آيات اللَّه؛ ليرغب الكفار إلى دين اللَّه، فيصيروا أُمة واحدة؛ فكان كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ...).
ووجه آخر قيل: لما كان قيل له: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فلعله خشي أَن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان.
وفي ذلك: أن لا بأْس ببيع الطعام من الكفرة. ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه.
ويحتمل الدعاءُ المبهم للكفرة: القبحَ؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير اللَّه.
وقوله: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا).
بالنعم؛ لأن الدنيا دار محنة، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق، ولا إلى الولي من العدو في الدنيا.
وأما الآخرةُ فهي دار جزاء، ليست بدار محنة؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق.
ومعنى قوله: (قَلِيلًا) لأن الدنيا كلها قليل.
ثم الامتحان على وجهين: امتحانٌ بالنعم، وامتحان بالشدائد.
فَإِنْ قِيلَ: لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم.
وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل، ويعلم أَن المؤمن هو المفضَّل بالعقل.
كيف لا وقع فضل ما به يمتحن -وهو النعم- لأَن العقل الذي به يدرك الحق واحد، لا تفاضل فيه لأَحد.
ثم العقل الذي به يمتحن واحد؛ فهما متساويان -فيما به دَرْكُ الحق- إلا أَن أحدهما يدركه فيتبعه، والآخر يدركه فيعانده. فهو -من حيث معرفته- ذو عقل، أعرض عنه؛ فيسمى معاندًا، إذ من لا عقل له يُسمى مجنونًا.
وقوله: (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ).
ذكر الاضطرار، وهو كقوله: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) وهو السوق، وكقوله: (وَنَسُوقُ الْمُجرِمينَ)، إِنهم يساقون إليها، ويُدَعون، لا أنهم يأتونها طوعًا واختيارًا.
وقوله: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
أي: بئس ما صاروا إليه.
وقوله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا (١٢٧)
أُمِرَا برفع البيت وببنائه؛ فَفَعلا، ثم سألا ربهما: أَن يتقبل منهما. فهكذا الواجب على كل مأْمور بعبادةٍ، أَو قُربة -إذا فرغ منها، وأَداها- أَن يتضرع إلى اللَّه، ويبتهل؛ ليقبل منه، وأَلا يرد عليه؛ ليضيع سعيه.
وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لدعائهم. (الْعَلِيمُ) بما نَوَوْا وأَضمروا.
وقوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ (١٢٨)
والإسلام قد ذكرنا فيما تقدم أَنه يتوجه إلى وجوه:
أحدها؛ هو الخضوع له والتذلل.
والثاني: هوِ الإخلاص.
ثم اخْتَلَفَ أهل الكلام في الإسلام:
فقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنه يتجدد في كل وقت؛ لذلك سألوا ذلك، وهو كقوله - تعالى -
وعلى ذلك: يخرج تأويلنا في الزيادة بقولهم: زادتهم إيمانا يتجدد له، ويزداد في حادث الوقت.
وقال آخرون: كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام.
وقد ذكرنا أَن العصمة لا ترفع خوف الزوال.
ومثل هذا: الدعاء والسؤال -على قول المعتزلة- يكون عبثًا؛ لأَنه لا يملك إِعطاءَ ما سألوا عندهم، بل هم الذين يملكون ذلك، فيَخرج السؤال في هذا -عندهم- مخرج اللعب والعبث، فنعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى.
ثم الإيمان: هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد في كل وقت، فلا وقت يخلو القلب عنه في حال سكون، أَو حال حركةٍ، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).
يحتمل: أن الأُمةَ المسلمة هي أُمةُ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك: أنه لم يكن من أَولاد إِسماعيل رسول سوى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسألا: أن يجعل من ذريتهما رسولًا، وأُمة مسلمة، خالصة له.
وإنما الرسل كانوا من أَولاد إِسحاق ومن نسله، واللَّه أَعلم.
وقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا).
وقيل في قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا): يريد الإراءَة إلى يوم القيامة، يدل عليه قراءَة عبد اللَّه: " وأَرهم مناسكهم "، وفي قراءَة غيره على ضم الرؤية إلى نفسه.
والمنسكُ: هو القربة. وأَفعالُ الحج سميت مناسكًا.
ثم لا يحتمل: أن يسألا ذلك، من غير أَمر سبق منه - عَزَّ وَجَلَّ - بذلك؛ لأَنه ليس من الحكمة سؤال: إِيجاب فضل عبادة، أَو قربة بغير أَمر؛ فدل أَنه قد سبق منه بذلك أمر، لكنه لم يبين لهما، فسألا: تعليم ماهيتها وكيفيتها، فعلمهما جبريل ذلك.
ففيه: دلالة تأخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب؛ أَلا ترى أَنه أَمر بالنداء للحج ولم يعلم.
والثاني: أَن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم - عليه السلام - فدل
والثالث: قوله -في نفس الحج-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
ثم لا يحتمل: لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج؛ لما لم يأْمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض.
لكنها أوجبت شكرًا لما أَنعم عليه؛ فدل أَن الحج كان واجبًا قبل الخروج، وقد تأَخر الإمكان؛ فمثله البيان، واللَّه أعلم.
واحتج بقوله: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ)
أَن ظاهره يوجب خضوعًا، لزم به ما أَداه السمع على تأَخر ما بينه، وكذلك الزكاةُ، وكذا ظاهرُ قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ).
واحتج أَيضًا بقول القائل وسؤاله رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أَوقات الصلاة ففعله في يومين، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال، لكنه أَخر؛ فدل أن البيان يجوز تأَخره عن وقت قرع الخطابِ السمعَ.
ثم في تأْخير البيان محنة المخاطب به، أَمر في تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب، واللَّه أعلم.
وذكر في أَمر الحج -عند كل نسك من المناسك- معاني لها، لكنها ذكرت لأَحوالٍ كانت في شأْن آدم وأَمر إبراهيم، وأَمر مُحَمَّد - عليهم الصلاة والسلام - وقد كان الحج قبلهم.
وقد ذكر في أَمر الرَّمَل أَنه كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن معه؛ ليُعلِم به قوتهم؛ حتى
وقد ذكر ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام: أَنه رمل، ولم يكن في وقته من كان الفعلُ لأجله، وكذلك غيرُه من الأَنبياء، صلى اللَّه عليهم وسلم.
إلا أَنا نقول: جعل اللَّه كذلك؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك في وقت قد جعل ذلك نسكًا، فحفظ ذلك على حق النسك، وإن لم يكن المعنى مقارنًا له في كل وقت، على ما قيل: " إِن صلة الرحم تزيد في العمر " -بمعنى جعل اللَّه أَجله ذلك بما علم أَنه يصل الرحم- فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك.
وكما يكتب شقيًّا أَو سعيدًا في الأَزل للوقت الذي فيه يكون كذلك، ونحو ذلك، والله الموفق.
ثم الأَصل: أَن اللَّه - جل ثناؤه - جعل على عباده في كل الأنواع التي يتقلب فيها
البشر للمعاش، أَو لأَنواع اللذات؛ لتكون العبادة منهم في كل نوع مقابل ما يختار صاحب ذلك شكرًا لما مكن من مثله، لما يتلذذ به ويتعيش؛ إِذ كل لذة، وكل ما يتعيش به نعمة خصَّ اللَّه بها صاحبها، بلا تقدُّم سبب يستوجبها العبد؛ فلزمه -في الحكمة- الشكر لمن أَسدى إليه تلك النعمة.
وعلى ذلك: نجد التقلب -من حال القيام، إلى حال القعود، والاضطجاع- أَمرًا عاما في البشر، من أَنواع اللذات، فمثله يكون العبادة بذلك النوع عامة، نحو الصلوات.
وعلى ذلك: معنى الرق، والعبودةُ لازم لا يفارق، فمثله الاعتراف به، والاعتقاد دائم لا محالة لا يخلو منه وقت.
وعلى ذلك: أَمر إِعطاءِ النفس شهواتها، من المطاعم ونحو ذلك؛ لا يعم الأَوقات عموم التقلب من حال إلى حال؛ إذ لا يخلو عنها المرءُ وإن كانت مختلفة. فجعلت عبادة الصيام في خاص الأَوقات.
ثم لم يمتد ما بين الأَوقات امتدادًا متراخيًا، فعلى ذلك: جعل العفو عن الصيام، لم يجعل كذلك، بل في سنة، مع ما قد يدخل الصيام في كثير من الأُمور.
ثم للناس في الأَموال معاش، وبها تلذذ:
لكن منها قوت لا بد منه؛ فالارتفاق بمثله لازم، لا يحتمل جعل القربة فيه، سوى أَن جعل ذلك لعينه قربة؛ إذ فرض على المرء الاستمتاع به.
وكذلك نوع تقلب الأَحوال في النفس التي هي بحق الضرورة، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته. وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه.
وكذلك أَمر الصيام: لم يجعل عما لا بد منه للقوة، ولكن فضل قوة في الاحتمال.
لكن الزكاة هي من حقوق ما يجوز أَن يكون هي لغير من عليه، ففرض عليه البذل إلى غيره. وحقوق الأَفعال لا تحتمل أن يصير السبب الذي له به يجب أَن يكون لغيره فيجب عليه؛ فجعل فرض ذلك الفعل في نفسه. وهي تجب للأَحوال لوجهين:
أَحدهما: أَن فيها حقوقًا شائعة، على نحو النفقات، فأخرت هي إلى الحول؛ تخفيفًا، أَو لما هي تجب فيما له حكم الفضل.
والفضل: ما يفضل عن الحاجة. والحاجات تتجدد في أَوقات -لا أَنها تتتابعُ- لا يظهر في مثله الفضل إِلا بمدةٍ بينةٍ أكثرها حول.
ثم فَرضُ الحج جُعِل في العمر مرة؛ لأنه في حق الأَسفار المديدة، التي لا يختار مثلها للذات إلا في النوادر، فلم يوجَب مثلُه إلا خاصًّا؛ فأوجب في جميع العمر مرة.
وعلى ذلك أَمر الجهاد -على أن الجهاد كالذي لا بد من الأَقوات- إِذ في ترك ذلك خوف غلبة الأَعداء، وفيها تلف الأَبدان والأَديان، والأَموال، ففرض على قدر ما فرض من الأَقوات؛ لما بينت من الخلل، ثم كانت أَحوال أَهل السفر تكون على غير المعروف من أَحوال المقيمين - في حق الرَّزانة والوقار، وحق الانبساط والنشاط - فعلى ذلك: فرائض الأَمرين - نحو الجهاد- فيه أَنواع: ما عُد في غيره من اللعب، وكذلك أَمر الحج. وعلى مثل هذا يخرج رمي الجمار والرمَل والسعي ونحو ذلك.
فجعل ذلك في حق الأَسفار سُنَّة، وإن كان مثل ذلك عُدَّ في غير ذلك عبثًا؛ إِذ قد بينا مخرج العبادات، على ما عليه أَحوال العباد بأَنفسهم، لولا العبادات، واللَّه أعلم.
ثم جعل ذلك في أَمكنة متباعدة الأَطراف؛ إِذ هو بحق أَمر الأَسفار يجب في المعهود؛ فجعل في النسك، بنفسه بالذي به يقطع الأَسفار، ولا قوة إلا باللَّه.
ووجه آخر: من المعتبرات: أَن العبادات جعلت أَنواعًا:
منها ما يبلغ القيام بحقها العامَ فصاعدًا، وهذه لم يجز أَن يجعل وقتها ينقص عن احتمال فعلها. ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف الأَحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة.
ثم لأَن فعل الحج قد يمتد ذلك، ويجاوز، لم يجعل ذلك وقتًا له، وإنما جعل العمر، لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر، وما تقدمه وما تأَخره، ثم في العمر أَحوال، لا تحتمل إِضافتها إلى الأَعوام؛ لأَن ما يضاف إلى عام
ثم الزكاة هي تجب للأَموال؛ صونا لها؛ لكسب عدد، وفضل غنى، ولكن على ذلك تكتب لأَحوال الحياة لا لما يخلف؛ فلم يمتد أَمرها إلى العمر؛ على أَنها جعلت حقا للفقراء. ومتى أُريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره، ويجب فيه ما يجب في الأَول؛ فتبطل الزكاة ويبقى الفقراء بلا عيش؛ إذ اللَّه -بفضله- قدر أَقوات الخلق، ثم فضل الخلق في الأَملاك، حتى كان بعضهم بحيث لا يملك شيئًا، وبعضهم يجاوز ما ينالُ أَضعافَ عمره.
ثبت أَن ذلك له بما يقتضي به كفاية الفقراء؛ فلا بد أَن يجعل لذلك مدة يتوسع في ذلك الفريقان جميعًا.
ثم كانت الأَقوات -التي هي مجهولة للخلق جميعًا- تتجدد في كل عام على ذلك؛ إذ جعلت أَقوات الفقراء في أَموال الأَغنياء، جعلت في كل عام.
على أَنه إِذ جعلت أَقوات الخلق في بركات السماء والأَرض، جعلها اللَّه متجددة بتجدد الأَعوام، ولا قوة إلا بالله.
والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأَبدان، فعلى ما يختلف قواهما، اختلف في الأَمر بهما والترك، وفي أَنواع الرخص.
لكن الصلاة ليس فيها مكابدة الشهوات، ولا مدافعة اللذات؛ إِذ لا سبيل إلى مثلها متتابعًا لما يصير اللذة أَلما، والشهوة وجعًا؛ فيبطل حق التتابع، وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس.
والصيام يضاد ذلك، ويضر في البدن.
فجعل عبادة الصلوات في كل يوم، وعبادة الصيام في أوقات متراخية؛ إذ هي تضاد معنى المجعول له الأغذية بين إِقامة الأَبدان، وفي الصيام خوف فنائها؛ لذلك استعين بطول الاغتذاء على أوقات الصيام، ولا قوة إلا باللَّه.
وإن شئت قلت: إن اللَّه أَنعم على البشر بما هو غذاء وقوام، وبما هو لذة وشهوة، ثم أَنعم عليهم بما هو لهم به رفعة وجاه عند الخلق -وهي الأَموال- فأَلزمهم في كل نوع من هذه الأنواع عباداتٍ.
أحدهما : هو٢ الخضوع والتذلل.
والثاني : هو الإخلاص.
ثم اختلف أهل الكلام في الإسلام ؛ فقال بعضهم : إنه يتجدد في كل وقت : لذلك سألوا٣ ذلك، وهو كقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] ؛ [ معناه ﴿ آمنوا بالله ﴾ ]٤ في حادث الوقت [ لأن الإيمان ترك فعل الكفر في كل وقت ؛ فبترك ]٥ الكفر يتجدد الإيمان. وعلى ذلك يخرج تأويلنا في الزيادة بقوله٦ :﴿ زادتهم إيمانا ﴾ [ الأنفال : ٢ ]، يتجدد لهم٧، ويزداد في حادث الوقت.
وقال آخرون : كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام، وقد ذكرنا أن العصمة لا ترفع خوف الزوال، ومثل هذا الدعاء٨.
والسؤال على قول المعتزلة يكون عبثا لأنه لا يملك إعطاء ما سألوا، عندهم، بل هم الذين يملكون ذلك فيخرج السؤال في هذا عندهم مخرج اللعب والعبث٩، فنعوذ بالله من السرف في القول والزيغ عن الهوى.
ثم الإيمان هو التصديق بالقلب، يتجدد في كل وقت / ١٩-أ/ فلا وقت يخلو القلب عنه في حال سكون أو حال حركة، والله أعلم.
وقوله :﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ يحتمل أن الأمة المسلمة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنه لم يكن من أولاد إسماعيل١٠ عليه السلام١١ رسول سوى محمد صلى الله عليه وسلم فسألا أن يجعل١٢ من ذريتهما رسولا وأمة مسلمة خالصة له. وإنما الرسل كانوا من أولاد إسحاق عليه السلام١٣ ومن نسله، والله أعلم.
وقوله :﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ ؛ قيل١٤ : في قوله :﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ يريد الإراءة إلى يوم القيامة ؛ يدل عليه قراءة عبد الله [ ابن مسعود ] : وأرهم مناسكهم. وفي قراءة غيره ضم١٥ الرؤية إلى نفسه. والمنسك هو القربة، [ وأفعال الحج ] سميت مناسك ]١٦. ثم لا يحتمل أن يسألا١٧ ذلك من غير أمر سبق منه عز وجل بذلك لأنه ليس من الحكمة سؤال إيجاب فضل عبادة أو قربة بغير أمر، فدل أنه قد سبق منه بذلك أمر، لكنه لم يبين لهما، فسألا تعليمَ ماهيتها وكيفيتها، فعلمهما جبريل ذلك.
ففيه١٨ دلالة تأخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب [ بوجوه :
الأول ]١٩ : ألا ترى أنه أمر بالنداء للحج، ولم يعلم ؟
والثاني : أن آدم والملائكة كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم عليه السلام فدل أن الأمر به قد سبق.
والثالث : قوله في نفس الحج ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ].
ثم لا يحتمل لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج لما لم يأمر بفعل ماله إيجاب الحقوق والفرائض، لكنها أوجبت شكرا لما أنعم عليه، فدل أن الحج كان واجبا قبل الخروج، وقد تأخر الإمكان. فمثله البيان، والله أعلم.
واحتج بقوله :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ [ البقرة : ٤٣ و. . . ] أن ظاهره يوجب خضوعا لزم به ما أداه السمع على تأخر ماهيته٢٠، وكذلك الزكاة، وكذا ظاهر قوله :﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ].
واحتج أيضا بقول القائل [ وسؤاله ]٢١ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلاة، ففعله في يومين، وكان يمكنه تعليمه٢٢ وقت السؤال، لكنه أخر، فدل أن البيان يجوز تأخيره٢٣ عن وقت قرع الخطاب السمع.
ثم في تأخير البيان محنة المخاطب ؛ به أمر في تعلم العلم [ وطلب ]٢٤ مراد ما تضمن الخطاب، والله أعلم.
وذكر في أمر الحج عن٢٥ كل نسك من المناسك معان٢٦، لكنها ذكرت لأحوال٢٧ كانت في شأن آدم [ وأمر إبراهيم ]٢٨ ومحمد [ عليهما الصلاة والسلام ]٢٩. وقد كان الحج قبلهم.
وقد ذكر في أمر الرمل أنه كان من رسول الله ومن معه ليعلم به قوتهم حتى قال عمر رضي الله عنه علام أهز كتفي ؟ وليس أحد إزاءه، لكني أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم٣٠ أو كما قال رضي الله عنه٣١. وقد ذكر ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام٣٢ أنه رمل ولم يكن في وقته من كان الفعل لأجله، وكذلك غيره من الأنبياء عليهم السلام إلا أنا نقول : جعل الله ذلك٣٣ لعلمه بالحاجة إلى ذلك في وقت قد جعل ذلك نسكا، فحفظ ذلك على حق النسك، وإن لم يكن المعنى مقارنا له [ في ]٣٤ كل وقت، على ما [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ]٣٥ : " إن صلة الرحم تزيد في العمر " [ ابن عساكر : ٥/٢١٠ ] بمعنى جعل٣٦ الله أجله، ذلك بما علم أنه يصل الرحم، فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك، وكما يكتب شقيا أو سعيدا في الأزل للوقت الذي فيه يكون كذلك ونحو ذلك، والله الموفق.
ثم الأصل أن الله، جل ثناؤه، جعل على عباده في كل الأنواع التي يتقلب٣٧ فيها البشر للمعاش أو لأنواع اللذات لتكون العبادة منهم في كل نوع مقابل ما يختار [ صاحب ]٣٨ ذلك شكرا٣٩ لما مكن من٤٠ مثله لما يتلذذ به، ويتعيش ؛ إذ كل لذة وكل ما يتعيش [ به ]٤١ نعمة خص الله بها صاحبها بلا تقدم سبب يستوجبها العبد، فلزمه في الحكمة الشكر لمن أسدى إليه تلك النعمة. وعلى ذلك نجد التقلب من حال القيام إلى حال القعود والاضطجاع أمرا [ عاما ]٤٢ في البشر من أنواع اللذات ؛ فمثله تكون٤٣ العبادة بذلك النوع عامة نحو الصلوات، وعلى ذلك معنى الرق والعبودة لازم لا يقارق ؛ فمثله الاعتراف به والاعتقاد دائم، لا محالة، لا يخلو منه، وعلى ذلك أمر إعطاء النفس شهواتها من المطاعم ونحو ذلك لا يعم الأوقات عموم التقلب من حال إلى حال ؛ إذ لا يخلو منها المرء، وإن كانت مختلفة، فجعلت٤٤ عبادة الصيام في خاص الأوقات، ثم لم يمتد ما بين الأوقات [ امتدادا متراخيا ]٤٥، فعلى ذلك جعل العفو عن الصيام، لم يجعل كذلك، بل في كل سنة مع ما يدخل الصيام في كثير من الأمور.
ثم للناس في الأموال معاش، وبها تلذذ، [ و ]٤٦ منها قوت لا بد منه ؛ فالارتفاق بمثله لازم، لا يحتمل جعل القربة فيه سوى أن جعل
[ ذلك ]٤٧ بعينه قربة إذ فرض على المرء الاستمتاع به.
ومنها فضل به٤٨ جعلت قرب التصدق٤٩ لأنه له بحق التلذذ لا بحق ما لا بد منه.
وكذلك نوع تقلب الأحوال في النفس التي هي بحق الضرورة لم يجعل لمثل٥٠ ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته، وذلك يجعل بحكم الفرض عليه، ولا بد منه٥١.
وكذلك أمر الصيام لم يجعل عما لا بد [ منه للقوة ]٥٢ ولكن فضل قوة في الاحتمال.
لكن الزكاة هي من حقوق ما يجوز أن تكون هي لغير من عليه، ففرض عليه البذل إلى غيره.
وحقوق الأفعال لا تحتمل أن يصير السبب الذي له به يجب٥٣ أن يكون [ لغيره ]٥٤، فيجب عليه، فجعل فرض ذلك الفعل في نفسه، وهي تجب للأحوال لوجهين :
أحدهما : أن فيها [ حقا شائعا ]٥٥ على نحو النفقات٥٦، فأخرت هي إلى الحول تخفيفا أو لما هي تجب في ما له حكم الفضل.
[ والثاني : أن ]٥٧ الفضل ما يفضل عن الحاجة، والحاجات تتجدد في أوقات لا أنها تتابع، ولا يظهر في مثله الفضل إلا بمدة مبينة، أكثرها حول.
ثم فرض الحج جعل في العمر٥٨ مرة لأنه في حق الأسفار المديدة٥٩ التي لا يختار مثلها للذات إلا في النوادر، فلم يوجب مثله إلا خاصا، فأوجب في جميع العمر٦٠ مرة. وقد أوجب في الأموال في كل سنة لأن أرباب الأموال قد يتقلبون في البلاد النائية رغبة في فضول اللذات، فلذلك يجوز فرض مثل ذلك.
[ وعلى ذلك ]٦١ أمر الجهاد ؛ على أن الجهاد كالذي لا بد من الأقوات، إذ في ترك ذلك خوف غلبة الأعداء، وفيها تلف الأبدان والأديان [ والأموال ]٦٢، ففرض على قدر ما فرض من الأقوات لما بينت من الخلل. ثم كانت أحوال السفر ؛ يكون على غير المعروف من أحوال المقيمين في حق الرزانة والوقار٦٣ وحق الانبساط والنشاط. فعلى ذلك فرائض الأمرين : نحو الجهاد : فيه أنواع ما عد٦٤ في غيره من اللعب، وكذلك أمر الحج. وعلى مثل هذا يخرج رمي الجمار والرمل والسعي ومثل ذلك، فجعل ذلك في حق الأسفار سنة، وإن كان مثل ذلك عد في غير ذلك عبثا ؛ إذ قد بينا مخرج العبادات على ما عليه أحوال العباد بأنفسهم لولا العبادات، والله أعلم. ثم جعل ذلك في أمكنة متباعدة الأطراف، إذ هو بحق أمر الأسفار يجب في المعهود، فجعل [ في ]٦٥ النسك بنفسه بالذي به يقطع الأسفار، ولا قوة إلا بالله.
ووجه آخر من المعتبرات٦٦ ان العبادات جعلت أنواعا : منها ما يبلغ القيام بحقها العام فصاعدا، [ وهذه ]٦٧ لم يجز أن يجعل وقتها٦٨ ينقص عن احتمال فعلها٦٩، ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف٧٠ الأحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة.
ثم [ لأن ]٧١ فعل الحج قد يمتد [ على ]٧٢ ذلك، ويجاوز ؛ لم يجعل ذلك وقتا له، [ وإنما جعل العمر لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر، وما تقدمه، وما تأخره. ثم في العمر أحوال، لا تحتمل إضافتها إلى الأعوام ؛ لأن ما يضاف إلى عام فذلك لكل عام. وليس ما يضاف إلى العمر موجودا بحق الأعوام، فجعل ذلك وقته، والله أعلم ]٧٣.
ثم الزكاة، هي تجب للأموال [ صونا لها ]٧٤ لكسب عدد وفضل غنى/١٩-ب/ ولكن على ذلك تكتسب٧٥ لأحوال الحياة لما يختلف٧٦، فلم يمتد أمرها إلى العمر ؛ على أنها جعلت حقا٧٧ للفقراء. ومتى أريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره، ويدب فيه ما يجب في الأول، فتبطل الزكاة، ويبقى الفقراء بلا عيش. إذ الله بفضله قدر أقوات٧٨ الخلق، ثم فضل الخلق في الأملاك حتى كان بعضهم لا يملك شيئا، وبعضهم يجاوز ما ينال أضعاف غيره٧٩.
ثبت أن ذلك له بما٨٠ يقتضي به كفاية الفقراء، فلا بد أن يجعل لذلك مدة يتوسع في ذلك الفريقان جميعا. ثم كانت الأقوات التي [ هي مجعولة ]٨١ للخلق [ جميعا ]٨٢ تتجدد في كل عام على ذلك ؛ إذ جعلت أقوات الفقراء في أموال الأغنياء ؛ جعلت في كل عام على أنه إذ جعلت أقوات الخلق في كل٨٣ بركات السماء والأرض ؛ جعلها متجددة بتجدد الأعوام، ولا قوة إلا بالله.
والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأبدان ؛ فعلى ما تختلف قواهما اختلف٨٤ في الأمر بهما والترك وفي أنواع الرخص. لكن الصلاة ليس فيها مكابدة [ الشهوات ]٨٥ ولا مدافعة اللذات ؛ إذ لا سبيل إلى مثلها متتابعا لما يصير اللذة ألما والشهوة وجعا، فيبطل حق التتابع، وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس. والصيام يضاد٨٦ ذلك، ويضر في البدن، فجعل عبادة الصلوات في كل يوم وعبادة٨٧ الصيام في أوقات٨٨ متراخية ؛ إذ هي تضاد٨٩ معنى المجعول له الأغذية بين إقامة الأبدان، وفي الصيام خوف فنائها، لذلك استعين بطول الاغتذاء على أوقات الصيام، ولا قوة إلا بالله.
وإن شئت قلت : إن الله أنعم على البشر بما هو غذاء وقوام وبما هو لذة وشهوة، ثم أنعم عليهم بما هو لهم به رفعة وجاه عند الخلق، وهي الأموال، فألزمهم في كل نوع من الأنواع عبادات.
وعلى ذلك وضع٩٠ كل نوع منها لقوة٩١ النعمة التي هي المرغوبة المختارة في الطبيعة، وإلى ما يديم٩٢ تلك
[ النعمة ]٩٣ يدعو العقل لبذل٩٤ ما ينقطع منه، ثم جعلت قوى النفس بشهواتها، ونعم الأموال بأنواع الكد والجهد.
فعلى ذ
٢ - ساقطة من ط ع..
٣ - في الأصل سئلوا..
٤ - من ط م و ط ع..
٥ - في الأصل: فيترك، في ط م و ط ع: لأنه تارك فعل الكفر في كل وقت فتبرك..
٦ - من ط ع، في الأصل و ط م: بقولهم..
٧ - من ط م، في الأصل و ط ع: له..
٨ - في تفسير الآية: ١٢٠..
٩ - من ط م و ط ع، في الأصل: والبعث..
١٠ - من ط م و ط ع. ، في الأصل: محمد.
١١ - من ط ع..
١٢ - من ط م و ط ع، في الأصل يجعلا..
١٣ - من ط ع..
١٤ - في النسخ الثلاث: وقيل..
١٥ - من ط م، في الأصل و ط ع: على ضم، هذا وجاء في حجة القراءات ص ١١٤ ما يلي: قرأ أبو عمرو: (وأرنا) مختلسا، والاختلاس هو الإتيان بثلثي الحركة، وقرأ ابن كثير (وأرنا) ساكنة في جميع القرآن، وقرآ الباقون (وأرنا) بكسر الراء..
١٦ - في الأصل: أفعال الحج سمى مناسكا، في ط ع: وأفعال الحج سميت مناسكا، قي ط م: وأقفال الحج سمى مناسكا..
١٧ - من ط م و ط ع. ، في الأصل: يسأل..
١٨ - أدرج في ط ع قبل هذه الكلمة العبارة التالية: الحكمة في تأخير البيان عن الخطاب المجمل، وجعلت عنوانا..
١٩ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٢٠ - في ط م: ما بينه..
٢١ - من ط م و ط ع..
٢٢ - من ط م، في الأصل و ط ع: تعظيمه..
٢٣ - في ط م: تأخره..
٢٤ - من ط م..
٢٥ - من ط م، في الأصل و ط ع: عند..
٢٦ - في الأصل و ط ع: معانيا..
٢٧ - من ط م، في الأصل و ط ع: الأحوال..
٢٨ - من ط م و ط ع، في الأصل: وإبراهيم..
٢٩ - في ط ع: عليهم الصلوات والسلام، في ط م صلى الله عليه وسلم..
٣٠ - في ط م: عليه السلام..
٣١ - في ط م: رحمه الله..
٣٢ - سقط هذا السلام من ط م..
٣٣ - في النسخ الثلاث: كذلك..
٣٤ - من ط م و ط ع..
٣٥ - في النسخ الثلاث: قيل..
٣٦ - من ط م، في الأصل و ط ع: جعله..
٣٧ - في الأصل و ط ع: ينقلب..
٣٨ - من ط م.
٣٩ - من ط م، في الأصل و ط ع: شكر.
٤٠ - من ط م، في الأصل و ط ع: عن.
٤١ - من ط م..
٤٢ - من ط م، في الأصل و ط ع:: أمر عام..
٤٣ - من ط ع، في الأصل و ط م: يكون..
٤٤ - من ط م..
٤٥ - من ط م و ط ع. في الأصل امتداد امتزاجنا..
٤٦ - من ط ع، في ط م: لكن، ساقطة من الأصل..
٤٧ - ساقطة من ط ع..
٤٨ - من ط م، في الأصل و ط ع: فيه..
٤٩ - من ط م، في الأصل و ط ع: التصديق..
٥٠ - في ط ع: بمثل..
٥١ - في النسخ الثلاث: ولا ندبه..
٥٢ - من ط م، في الأصل و ط ع: من القوة..
٥٣ - من ط م و ط ع. في الأصل: يجيب..
٥٤ - من ط م..
٥٥ - في الأصل: حقوق شائعة، في ط م: حقوقا شائعا، في ط ع: حق شائع..
٥٦ - في ط م: نفقات..
٥٧ - في النسخ الثلاث: و..
٥٨ - من ط م و ط ع. في الأصل: العمرة..
٥٩ - من ط م، في الأصل: المدينة، ساقطة من ط ع..
٦٠ - من ط م و ط ع. في الأصل: العمرة.
٦١ - في ط ع: مثل ذلك، ساقطة من الأصل..
٦٢ - من ط م..
٦٣ - في ط ع: والوفاء..
٦٤ - من ط م، في الأصل و ط ع: وعد..
٦٥ - من ط م..
٦٦ - في ط م: المعتبر..
٦٧ - من ط م..
٦٨ - من ط م، في الأصل و ط ع: وقته..
٦٩ - من ط م، في الأصل و ط ع: فعله..
٧٠ - من ط م و ط ع. في الأصل: المختلف..
٧١ - من ط م..
٧٢ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٧٣ - من ط م..
٧٤ - من ط م، في الأصل: صولها، في ط ع: وصولها..
٧٥ - في ط م: يكتب..
٧٦ - في ط م: يخلف..
٧٧ - ساقطة من ط ع..
٧٨ - من ط م و ط ع. في الأصل: أوقات..
٧٩ - في النسخ الثلاث: عمره..
٨٠ - من ط م و ط ع. ، في الأصل: بها..
٨١ - من ط ع، في الأصل: مجعولة، في ط م: هي مجهولة..
٨٢ - من ط م..
٨٣ - ساقطة من ط م..
٨٤ - من ط م، في الأصل و ط ع: اختلفا..
٨٥ - من ط م..
٨٦ - في ط ع: يضار..
٨٧ - من ط م و ط ع. في الأصل: عبادة..
٨٨ - من ط م، في الأصل و ط ع: أيام..
٨٩ - في ط م: قضاء..
٩٠ - من ط م، في الأصل و ط ع: وقع..
٩١ - في ط م: يفوت، في ط ع: لفوت..
٩٢ - في النسخ الثلاث: يدوم..
٩٣ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٩٤ - في النسخ الثلاث: يبذل..
فعلى ذلك: خفف حقوق الأَموال؛ فلم يجعل إلا في الفضل الذي لا اختيار لهم ألا يبلغوا بالجهد ذلك، ففي ذلك جعلت الحقوق على ما يحتمل الوسع لهم من الترتيب، مع اليسر الذي أَخبر اللَّه أَنه يريد بهم ذلك، لا العسر، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
دل سؤال التوبة أَن الأَنبياء - عليهم السلام - قد يكون منهم الزلات والعثرات، على غير قصد منهم.
ثم فيه الدليل على أَن العبد قد يُسأَل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها؛ لأنهم سأَلوا التوبة مجملًا. ولو كان سبق منهم شيء علموا به وعرفوه لذكروه؛ فدل سؤالهم التوبة مجملًا على أَن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها.
وقوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ (١٢٩)
يحتمل وجوهًا:
يحتمل (رَسُولًا مِنْهُمْ): من المسلمين؛ لأَنه أَخبر أَن عهده لا يناله الظالم.
ويحتمل (رَسُولًا مِنْهُمْ): من جنسهم، من البشر؛ لأنه أَقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم، كقوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا...) الآية.
ويحتمل (رَسُولًا مِنْهُمْ): أي من قومهم، ومن جنسهم، وبلسانهم، لا من غيرهم، ولا بغير لسانهم - واللَّه أعلم - كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ).
وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ).
قيل: الآيات هي الحجج.
وقيل: الآيات هي الدِّين.
ويحتمل: يدعوهم إلى توحيدك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ).
يعني القرآن: ما أَمرهم به، ونهاهم عنه، ونحو ذلك.
وقوله: (وَالْحِكْمَةَ)
وقيل: الحكمة ما فيه من الأَحكام من الحلال والحرام.
وقيل: الحكمة: هي السنة هاهنا.
وقيل: الحكمة: هي الإصابة. وبعض هذا قريب من بعض، وباللَّه التوفيق.
وقال الحسن: الحكمة: هي القرآن؛ أَعاد القول به. يعني تكرارًا.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحكمة: الفقه.
وقوله: (وَيُزَكِّيهِمْ).
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يأْخذ زكاة أَموالهم -فذلك يزكيهم- كقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
وقيل: يزكيهم إلى ما به زكاة أَنفسهم.
وقيل: يزكيهم بعمل الصالح.
فإن قال لنا قائل ممن ينتحل مذهب الاعتزال: أَليس اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أَضاف التزكية والهداية إلى رسوله، ولم يكن منه -حقيقة- فعل التزكية والهداية، ولا خلق ذلك منه -كيف لا قلتم أيضًا- فيما أَضاف ذلك إلى نفسه: أَن ليس فيه منه خلق ذلك، ولا حقيقة سوى الدعاء والبيان، على ما لم يكن في إضافة ذلك إلى رسوله سوى الدعاء والبيان؟!
قيل: كذلك على ما قلتم: أَنه أَضاف ذلك إلى رسوله بقوله: (وَتُزَكِّيهِمْ)، وبقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، غير أَنه جعل إلى نفسه فضْلَ هدايةٍ، لم يجعل ذلك لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَثبت زيادة تزكيةٍ، لم يثبت ذلك لرسوله عليه السلام؛ كقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وكقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ).
فدل إضافة تلك الزيادة إلى نفسه على: أن له فضلَ فعلٍ، ليس ذلك لرسوله، وهو خلق فعل الاهتداء، وفعل التزكية، وباللَّه التوفيق.
وبعد: فإن الرسول لا يحتمل أَن يملك قدرة فعل أَحد يُقدره عليه لو أَراده بما
وفي تحقيقها جواز خلق ذلك له، ومثله في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يحتمل، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
أي: لا شيء يعجزه، والعزيز بذاته، وكل شيء دونَه غيرُ عزيز، ذليل.
وقيل: العزيز: المنيع.
وقيل: العزيز: المنتقم من أَعدائه.
والحكيم: هو المصيب في فعله. والحكيمُ في أَمره ونهيه. والحكيم هو الذي أَحكم كل شيء جعله دليلًا على وحدانيته.
ثم ذكر بعض المفسرين علل المناسك فقال: سميت العرفات عرفات؛ لما قيل له: عرَفتَ. ومِنًى؛ لما قيل له: تمنَّهُ. ورَمي الجمار؛ لما استقبل لإبراهيم الشيطان فرمى.
فهذه العلل لا تطمئن بها القلوب، وتنفر عنها الطباع، أَلا ترى أَنه ذكر في قصة آدم فعل ذلك جملةً؛ فزال المعنى الذي ذكر في إِبراهيم عليه السلام؟!
ثم قد ذكر في الخبر أَن الملائكة قالت لآدم: حججناه، قبلك بأَلفي عام؛ فثبت أَنهم قد فعلوا هذا كله.
ثم يمكن نصب الحكمة فيه من طريق العقل، وهو أَن الحج قصد لزيارة ذلك المكان؛ فأَمر بمختلف الأَفعال الواقع بها الزيارة.
كالصلاة: إنها الخضوع لعينه؛ ولذلك أَمر فيها بإحضار الأَفعال المختلفة من حال الخضوع.
ثم المرءُ قد يخضع مرة بالقيام، ومرة بالركوع، ومرة بالسجود. أَمر بإحضار مختلف الأَفعال التي فيها الزورة.
غير أن الصلاة تخالف الحج؛ فلأنَّ أفعالها فعل المعاش أُمر فيها بإِحضار حالة تذكره الخضوع، والوقوف لله، مفرقًا بين تلك الحالة وحالة المعاش؛ ولهذا تُقْضَى في كل مكان.
ثم أَفعال الحج في ظاهرها إلى أَفعال المعاش، وما إليه وَقع القصد -لا عينها- غير
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
وقوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ).
ثم اختلف في الملة؛ قيل: الملة: الدِّين.
وقكل: الملة السنة.
وقيل: الإسلام.
وكله واحد. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).
بما يعمل من عمل السفه.
ويحتمل: (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي بنفسه؛ فكان انتصابه لانتزاع حرف الخافض.
وقيل: جهل نفسه فيضعها في عير موضعها.
وقوله: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا).
بالنبوة والرسالة والعصمة.
ويحتمل: ما جزاهم في الدنيا بثناء حسن لم ينقص من جزائهم في الآخرة.
وقوله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
في المنزلة والثواب.
ويحتمل (لَمِنَ الصَّالِحِينَ)؛ لمن المرسلين.
ويحتمل: أَن يكون بشَّره في الدنيا: أَنه كان من الصالحين في الآخرة؛ فيكون -في ذلك- وعدٌ له بصلاح الخاتمة، كما وعد محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأَخر.
وفي ذلك أيضا: وعد بصلاح الخاتمة - واللَّه أعلم - فأَخبر بما كان بشَّره. ويجوز: تفاضُلهم في الآخرة، على ما كانوا عليه.
قيل: أَخْلِصْ.
ويحتمل: أَن يكون أَمرًا بابتداءِ إِسلام، على ما ذكرنا من تجدده في كل وقت يهمد.
ثم يحتمل: أَن يكون وحيًا أوحى إِليه، أَن قل كذا، فقال به. فإِن كان وحيًا فهو على أَن يُسلم نفسه لله.
ويحتمل: أَن يكون إِسلام القلب -بتغاضي الخلقة بالإسلام- فإن كان على هذا؛ فهو على الإسلام دون توحيده.
ويحتمل: أَن يكون إِسلام خِلقة؛ كقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، بالخلْقة.
وعلى ذلك يخرج قوله لإبراهيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)؛ فدعاهم، فأجابوه في أَصلاب آبائهم إِجابة الخِلقة وقت كونهم.
وقيل: يحتمل: أَن يكون أَمر بابتداءِ الإسلام، كقوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا...)، إلى آخره. ثم قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، يكون جواب قوله: (أَسْلِمْ) واللَّه أعلم.
وقوله: (وَوَصَّى (١٣٢)
يعني بالملة. والملةُ تحتمل ما ذكرنا.
وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
وهو الإسلام؛ ردا على قول أُولَئِكَ الكفرة: إِن إبراهيم كان على دينهم؛ لأَن اليهود زعمت أَنه كان على دينهم يهوديا. وقالت النصارى: بل كان على النصرانية. وعلى ذلك قالوا لغيرهم: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا).
فلما ادَّعى كلُّ واحد من الفريقين: أَنه كان على دينهم، أَكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في قولهم، ورد، عليهم في ذلك فقال: قل يا مُحَمَّد: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا)؛ فعلى ذلك قوله: (اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
﴿ اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ : أخبر عز وجل أن دينه كان دين الإسلام، وهو الذي اصطفاه له، والدين٦ الذي اختاروا هم من اليهودية والنصرانية لقوله تعالى :﴿ أم للإنسان ما تمنى ﴾ [ النجم : ٢٤ ] ﴿ فلله الآخرة والأولى ﴾ [ النجم : ٢٥ ] : أي ليس له.
٢ - من ط م و ط ع...
٣ - من ط ع، في الأصل: كانوا، في ط م: في ذلك..
٤ - في ط م: في ذلك..
٥ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٦ - في ط م: لا الدين..
وقوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا (١٣٣)
يقول: أَكنتم شهداءَ إِذ حضر يعقوب الموت؟! أَي: ما كنتم شهداءَ حين حضر يعقوب الموت.
قيل: ويحتمل: أَن اليهود قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَلست تعلم أَن يعقوب يوم مات أوصى بَنِيه بدين اليهودية؛ فأَنزل اللَّه تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) أَي: أكنتم شهداءَ وصية يعقوب بنيه؟! أَي: لم تشهدوا وصيته، فكيف قلتم ذلك؟!
ثم أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن وصية يعقوبَ بنيه فقال:
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ...) الآية.
وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
يعني: مخلصين بالتوحيد، وبجميع الكتب والرسل، ليس كاليهود والنصارى يؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعضٍ، ثم يدعون: أَن ذلك دين إبراهيم، ودين بنيه.
ثم في الآية دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأَنه أَخبر عن الأَخبار التي قالوا، من غير نظر منه في كتبهم، ولا سماع منهم، ولا تعلم، دل: أَنه باللَّه علم، وعنه أَخْبر.
وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
كان - واللَّه أعلم - لما ادعَوْا أَن إِبراهيم ومن ذكر من الأنبياءِ كانوا على دينهم؛ فقال عند ذلك: لا تُسألون أَنتم عن دينهم وأَعمالهم، ولا هم يُسأَلون عن دينكم وأَعمالكم، بل كل يُسأل عن دينه وما يعمل به.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨)
٢ - ساقطة من ط ع..
٣ - أدرج تفسير هذه الآية في الأصل و ط م بعد تفسير قوله تعالى: (فإن آمنوا... فقد اهتدوا) [البقرة: ١٣٧]..
فالآية تنقض على من يستثني في إيمانه؛ لأَنه أَمرهم أَن يقولوا قولا باتًّا، لا ثُنْيا فيه ولا شك.
وكذلك قوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ)
ثم يحتمل: أن يكون هذا ردًّا على أُولئك الكفرة، حيث فرقوا بين الرسل، آمنوا ببعضهم وكفروا ببعض. وكذلك آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعضها؛ فأَمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - المؤمنين، ودعاهم: إلى أن يؤمنوا بالرسل كلهم، والكتب جميعًا، لا يفرقون بين أَحد منهم، كما فرق أُولئك الكفرة.
ويحتمل: أَن يكون ابتداء تعليم الإيمان من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهم بما ذكر من الجملة.
ثم اختلف في الحنيف:
قيل: الحنيف: المسلم.
وقيل: الحنيف: الحجاج.
وقيل: كل حنيف ذكر بعده مسلم فهو الحجاج، وكل حنيف لم يذكر بعده مسلم فهو مسلم.
وقيل: الحنيف: المائل إلى الحق والإسلام.
وقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا (١٣٧)
رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: لا تقرأ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ)؛ فإِن اللَّه ليس له مثل، ولكن اقرأ: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ)، أو (بما آمنتم به). وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، تصديقًا لذلك.
وعلى ذلك قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، إِن الكاف زائدة، أي: ليس
ثم اختلف في الحنيف : قيل : الحنيف المسلم، وقيل : الحنيف٢ الحجاج، وقيل : كل حنيف ذكر بعده مسلم فهو الحجاج، وكل حنيف لم يذكر بعده مسلم فهو مسلم، وقيل٣ : الحنيف المائل إلى الحق والإسلام.
٢ - من ط م و ط ع، في الأصل: المسلم..
٣ - من ط م، في الأصل و ط ع: وقال..
[ وقوله :﴿ فإنما هم في شقاق ﴾ ]٦ ؛ قيل : الشقاق هو الخلاف الذي فيه العداوة، والله أعلم.
وقوله :﴿ فسيكفيكهم الله ﴾ هذا وعيد من الله عز وجل لهم، ووعد وعد نبيه بالنصر٧ له ؛ لأن أولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض، فوعد له عز وجل بقتل بعض وإجلاء آخرين إلى الشام وغيره.
٢ - ساقطة من ط ع..
٣ - من ط ع، في الأصل و ط ع: بمثل، انظر المحتسب ١/١١٣ وتفسير الطبري ٣/ ١١٤..
٤ - ساقطة من ط ع..
٥ - وأدرج بعد هذه الكلمة في الأصل و ط ع ما ذكرنا في نهاية تفسير الآية (تلك أمة) انظر ذلك؛ وأدرج بعد هذه الكلمة في ط م أيضا العبارة التالية: ويحتمل (بمثل ما آمنتم به) أي بلسان غير لسانهم (فقد اهتدوا)..
٦ - ساقطة من ط ع..
٧ - من ط ع، في الأصل و ط م: بالصبر..
ويحتمل: آمنوا بلسانهم، بمثل ما آمنتم بلسانكم، من الرسل والكتب جميعًا فقد اهتدوا.
ويحتمل بمثل ما آمنتم به: أَي بلسانٍ غير لسانهم فقد اهتدوا.
وقوله: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ).
قيل: الشقاق هو الخلاف.
وقيل: الشقاق هو الخلاف الذي فيه العداوة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
هذا وعيد من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهم، ووَعدٌ وَعَدَ نَبيَّه بالصبر له؛ لأَن أُولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض، فوَعَد له عَزَّ وَجَلَّ النصر له بقتل بعضهم، وإِجلاء آخرين إلى الشام وغيره.
وقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً (١٣٨)
قيل: دين اللَّه.
وقيل: فطرةُ اللَّه؛ كقوله: " كل مولود يولد على الفطرة ".
وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ): سنة اللَّه.
ثم يرجع قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي: دينًا وسنة، وحجة تدرك بالدلائل التي نصبها وأَقامها فيه، ليس كدين أُولئك الذين أَسسوا على الحيرة والغفلة بلا حجة ولا دليل.
وقيل: إن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماءٍ ليطهروهم بذلك؛ فقال اللَّه عز وجل: (صِبْغَةَ اللَّهِ) يعني الإسلام هو الذي يطهرهم لا الماء.
وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ).
قيل: موحدون.
وقيل: مسلمون مخلصون.
ويحتمل: ونحن عبيده.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ
وقوله: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ).
رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قالت اليهود والنصارى: نحن أبناء اللَّه وأَحباؤه، ونحن أَولى باللَّه منكم، فأنزل اللَّه - في ذلك -: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ).
وقيل: في اللَّه، يعني: في دين اللَّه. أَي: أَتحاجون وتخاصمون في دين اللَّه؟!
وقوله: (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ).
أَي: أَتحاجون في اللَّه مع علمكم وإِقراركم أنه ربنا وربكم بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
وقوله: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).
قيل: لنا دينُنا ولكم دينُكم؛ كقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
ويحتمل: (لَنَا أَعْمَالُنَا) ولا تُسئلون أَنتم عنها، (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) لا نُسأل نحن عن أعمالكم، كقوله: (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقوله: ، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ).
دينًا وعملا، لا نشرك فيه غيره.
وقوله: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ (١٤٠)
قيل: بل تقولون.
وقيل: على الاستفهام في الظاهر: أيقولون، لكنه على الرد والإنكار عليهم، وذلك أَن اليهود قالوا: إن إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه كانوا هودًا أو نصارى. قال اللَّه تعالى: قل يا مُحَمَّد: أَنتم أعلم بدينهم أَم اللَّه، مع إِقراركم أَنه ربكم، لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء؟!.
ومعنى الاستفهام: هو تقرير ما قالوه، كالرد عليهم والإنكار.
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)
[ وقوله ]٢ ﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾ قيل : الشهادة التي [ عنده : علمهم أنهم كانوا مسلمين، ولم يكونوا على دينهم، وقيل : الشهادة التي ]٣ عندهم بالإسلام أنه دين الله، وأنه حق، وقيل : الشهادة التي كانت عندهم محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وأخذ عليهم المواثيق والعهود بقوله :﴿ لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ] فكتموه، وكذبوه، وقيل :﴿ من أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾ في قول اليهود لإبراهيم عليه السلام وما ذكر من الأنبياء كانوا هودا أو نصارى، فيقول الله عز وجل لا تكتموا الشهادة إن كان عندكم علم بذلك٤ /٢٠-ب/ وقد علم الله أنكم٥ كاذبون، وقيل : الأسباط بنو يعقوب سمو أسباطا أنه ولد لكل رجل منهم أمة.
وقوله :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ خرج على الوعيد ؛ أي لا تحسبوا انه غافل عما تعملون. ويجوز أن يكون لم ينشئهم على غفلة مما يعملون، بل على علم بما يعملون ؛ خلقهم ليعلم أن ليس له في شيء من عمل الخلق له حاجة ليخلقهم على رجاء النفع له، ولا قوة إلا بالله، خلقهم، وهو يعلم بأنهم٦ يعصونه٧
٢ - من ط م و ط ع..
٣ - من ط م..
٤ - من ط م و ط ع، في الأصل: ذلك..
٥ - من ط م، في الأصل و ط ع: أنهم..
٦ - في ط م: أنهم..
٧ - انتهت في هذه الآية المقابلة على ط م بانتهائه وتحولت إلى م. انظر ما ذكرته في عملي في المقدمة، أدرج في م و ط ع تتمة الآية..
وقيل: الشهادة التي كانت عندهم: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ بينَه اللَّه في كتابهم وأَخذ عليهم المواثيق والعهود بقوله: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، فكتموه وكذبوه.
وقيل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) في قول اليهود لإبراهيم - عليه السلام - وما ذكر من الأَنبياءِ كانوا هودًا أَو نصارى؛ فيقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: لا تكتموا الشهادة إن كان عندكم علم بذلك. وقد عَلِم اللَّه أَنكم كاذبون.
وقيل: (وَالْأَسْبَاطَ): بنو يعقوب؛ سموا أسباطًا؛ لأَنه وُلِد لكل رجل منهم أُمَّةٌ.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
خرج على الوعيد، أَي: لا تحسبوا أنه غافل عما تعملون.
ويجوز أَن يكون لم ينشئهم على غفلة مما يعملون، بل على علم بما يعملون خَلَقهم؛ ليُعلم أَن ليس له في شيء من عمل الخلق له حاجة؛ ليخلقهم على رجاء النفع له، ولا قوة إلا باللَّه.
خلقهم وهو يعلم أنهم يعصونه.
وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
قد ذكرنا هذا فيما مَرَّ.
* * *
قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣).
هذا - واللَّه أعلم - وعد كان وعده عَزَّ وَجَلَّ لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يحوله إلى الكعبة من بيت المقدس، وإخبار عما يقول له اليهود قبل أن يحول وقبل أن يقولوا له شيئًا.
ألا ترى إلى قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، أنه لو لم يكن فيها وعد بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لكان تقلب وجهه إلى السماء بذلك تخييرًا منه وتحكمًا عليه.
وليس لأحد على اللَّه التخيير والتحكم عليه في الأحكام والشرائع ولا في غيرها، فدل أنه على الوعد له ما فعل. واللَّه أعلم.
ثم فيه إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث كان أخبره على ما أخبر من التحويل إلى الكعبة.
والقول منهم نقل أنه علم ذلك باللَّه واختلف في قوله (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) قيل: هو اليهود، وقالوا ذلك عند تحويل القبلة إلى الكعبة، وذلك أنهم لايرون نسخ الشرائع والأحكام؛ لأنه كالبداء والرجوع عنها.
وذلك فعل من يجهل عواقب الأمور، كبانٍ بنى بناءً ثم نقضه لجهل منه به.
لكن ذلك منهم جهل بمعرفة النسخ وقدره.
ولو عرفوا ما النسخ ما نفوا نسخ الشرائع والأحكام.
وأما النسخ عندنا: فهو بيان منتهى الحكم إلى وقت ليس فيه بداء ولا نقض لما مضى، بل تجديد حكم في وقت بعد انقضاء حكم على بقاء الأول لوقت كونه، ليس على ما فهمت اليهود من البداء والنقض لما مضى كالبناء الذي وصفوا. وباللَّه التوفيق.
وإن كانت الآية في غير اليهود من أهل مكة، على ما يقول بعض أهل التفسير، فقالوا: لما رجع مُحَمَّد إلى قبلتنا من القبلة الأولى يرجع إلى ديننا. فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
قل يا مُحَمَّد: لله المشرق والمغرب والأمكنة كلها والنواحي، يأمر بالتوجه إلى أي ناحية شاء شرقًا وغربًا، فالطاعة له في الائتمار لأمره، والقبول لدعائه، لا للتوجه نحو الشرق أو نحو الغرب لِهَوى هووا ولتمنٍّ تمنوا؛ لأن اليهود جعلوا قبلتهم المغرب اتباعًا لهواهم، لا اتباعًا لأمر أمروا به.
وكذلك النصارى اتخذوا المشرق قبلة لهوى أنفسهم؛ فأخبر اللَّه تعالى المؤمنين أنهم يأتمرون باللَّه حيث ما أمروا توجهوا نحوه.
هذا على المعتزلة؛ لأنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ أنه (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، ولا جائز أن يهدي وهو لا يهتدي. وهم يقولون: شاء أن يهدي ولكن لم يهتدوا.
قوله: (مَن يَشَآءُ) وعلى أن مشيئة الهداية ليست للكل على ما قالت المعتزلة: أن هدايته بيان وذلك للجميع.
وفيه دليل نسخ السنة بالكتاب؛ لأن القبلة إلى بيت المقدس لم تكن مذكورة في الكتاب، بل عملوا على سنة الأولين الماضين، وهذا على الشافعي؛ لأنه لا يرى نسخ الكتاب بالسنة إلا بعد عمل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا عمل به صار سنة، فهو نسخ السنة بالسنة، لا نسخ بالكتاب.
فهذا منه قبيح فاحش.
وفيه نبذ الكتاب وهجره، وقد نهينا عنه، والتحكم على اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه لم يجعل الكتاب من القدر ما يقع فيه الزجر على ما كان عليه آنفا لولا علمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فنعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى.
ولكن لم يعرف ما النسخ وما قدره، ولو علم لما قال بمثله. وهو عندنا: ما ذكرنا من بيان منتهى الحكم إلى وقته، ولله جل جلاله نصب الأحكام والشرائع في كل وقت، يبين ذلك مرة بالكتاب، وتارة على لسان المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وباللَّه التوفيق.
وكما جعل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعمل به، فنسخ الكتاب فيه تلك الشريعة. فكذلك في غيره من الناس. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (١٤٣)
(وَكَذَلِكَ)، لا يتكلم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلا على العطف على ما سبق من الخطاب، وهو - واللَّه أعلم - معطوف على قوله: [(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ...)] الآية، كأنه قال: كما وفقكم على الإيمان بما ذكر، وهداكم للإسلام، كذلك جعلكم (أُمَّةً وَسَطًا) يعني عدلًا، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
قيل: " على " بمعنى " اللام " أي للناس. وهذا جائز في اللغة سائغ، كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي للنصب.
وقيل: (عَلَى) بمعنى " على "، أي أن يشهدوا على الأمم للأنبياء على تبليغ الرسالة، ويشهد الرسول لهم بالعدالة.
وفيه دليل قبول شهادة أهل الإسلام على أهل الكفر، ورد شهادتهم علينا؛ لأنه لو قبلت شهادتنا عليهم على التبليغ، ثم شهد أُولَئِكَ بأنهم لم يبلغوا، لكان فيه تناقض. فدل أن شهادتنا تقبل عليهم، ولا تقبل شهادتهم علينا. واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الذين أبوا إجابة الرسل. (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أن جحدتم الرسالة، وذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا...) الآية أضاف اللَّه إليه جعلهم (أُمَّةً وَسَطًا). ثبت أن لله في فعل ذلك فعل به ذكر مننه. واللَّه أعلم.
قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، فالوسط: العدل. أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه جعل هذه الأمة عدلًا، فالعدل هو المستحق للشهادة والقبول لها.
ففيه الدلالة على أجعل إجماع هذه الأمة، حجة؛ لأنه وصفها بالعدالة، وصيرها
والثاني: قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن فيهم صدقة، يلزم اتباعهم.
والثالث: ما قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) ولا يجوز الوعيد في مثله إذا لم يكن ذلك هو الحق عند اللَّه.
والرابع؛ قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩).
أمر عَزَّ وَجَلَّ عند التنازع الرد إلى كتاب اللَّه وإلى سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فدل أنه إذا لم يتنازع لم يجب الرد إلى ما ذكر. واللَّه أعلم.
وقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: يسأل اللَّه تعالى يوم القيامة الأمم عن تبليغ الأنبياء رسالته إليهم، فينكرون. ثم يأتي بهذه الأمة يشهدون عليهم بالتبليغ. فذلك قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، ويشهد الرسول عليهم يعني لهم بالعدالة والتزكية. واللَّه أعلم.
أحدهما: على الكفرة. وفي ذلك دليل قبول شهادة المسلمين عليهم، ورد شهادتهم عليهم، لما يتناقض فيزول منفعة الشهادة عليهم.
والثاني: ليكون من شهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، شهود على من يكون بعدهم.
وفي ذلك دليل من تأخر الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، عن الخلاف لهم، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) إذا خالفتموه وعصيتموه.
وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
فهذا - واللَّه أعلم - لما كانوا في المتابعة على قسمين:
منهم من تبعه لما وافق هواه.
ومنهم من تبعه لما علم أنه الحق من عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؛ ليبين لهم ويقع علم ذلك عندهم: من المتبع له بهواه، ومن المتبع له بالأمر والطاعة له.
وقيل أيضًا في قوله: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ)، قيل: ليعلم من يتبع الرسول ما قد علم أنه يكون كائنًا، وليعلم ما قد علم أنه يوجد موجودا.
وقيل: إنه يجوز أن يراد بالعلم المعلوم. معناه - واللَّه أعلم - إلا ليكون المتبع له، والمنقلب على عقبيه.
ثم الأصل في هذا ونحوه من قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) أنا لا نصف اللَّه تعالى بالعلم في الخلق، قال: غير الحال التي الخلق عليها؛ لأن وصفنا إياه بالعلم على غير الحال التي عليها الخلق يومئ إلى وصفه بالجهل؛ لأنه لا يجوز أن يقال: يعلم من الساكن في حال السكون حركة، أو السكون في حال الحركة، أو يعلم من الجالس قيامًا، أو القائم جلوسًا.
وكذلك لا يجوز أن يقال: يعلم من العدم موجودًا، أو من الوجود معدومًا في حال وجوده؛ لأنه وصف بعلم ما ليس، وهو محال. وباللَّه العصمة.
وقيل: إن كل علم يذكر على حدوث المعلوم يذكر بذكر الوقت للمحدَث -بفتح الدال- أي: يسند علمه إلى المحدث بذكر الوقت؛ لئلا يفهم بذكره قدم المعلوم في
وإذا وصفنا اللَّه بما هو حقيقة بلا ذكر الخلق مع ذلك نصفه بالذي نصفه به في الأزل لتعاليه عن التغير والزوال وعن الانتقال من حال إلى حال. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ).
يعني: تحويل القبلة، لكبيرة: ثقيلة، على من كان اتباعه لهواه، دون أمر أمر به، إلا على الذي يتبع أمر اللَّه فيها ويعتقد طاعته فإنها ليست بثقيلة عليه ولا كبيرة.
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)
قال بعض أهل التفسير: إن قومًا صلوا إلى بيت المقدس ثم ماتوا على ذلك، فلما حولت القبلة إلى الكعبة قالوا: ضاعت صلواتهم التي صلوا إليها، إشفاقًا عليهم.
لكن هذا بعيد لا يحتمل؛ لأن الذي اعتقد الإسلام من الصحابة، رضي اللَّه تعالى عنهم، وعرف موقع أمر اللَّه وأمر رسوله، لا يجوز أن يخطر ببالهم هذا، أو يعملون لو خطر ببالهم، حتى يسألوا عن ذلك، بل كانوا أعلم باللَّه من أن يجد عدو لله فيهم ذلك؛ ولأنهم قوم يأتمرون بأمر اللَّه وطاعته، ويموتون على التصديق، وعلموا أنهم مؤمنون، ثم يشككون في أحوالهم، لكن إن كان ثم سؤال فهو من اليهود الذين اعتقدوا بطلان التناسخ في الأحكام والشرائع، فكانوا يحتجون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأنه ينهى عن التفرق والاختلاف، ثم يدعوهم إلى ذلك. أو قوم من الكفرة آذوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفرطوا في التكذيب له والخلاف والمعاداة، فأرادوا الإسلام، فظنوا أن ما كان منهم من العصيان والتكذيب يمنع قبول الإسلام، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، لما كان منكم في حال الكفر.
ألا ترى أن آخر الآية يدل عليه.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).
أخبر أنه (رَحِيمٌ) يتجاوز عمن تاب.
أو قوم علموا ألا تناسخ في الدِّين ولا اختلاف فيه؛ فظنوا أن نسخ الأحكام وتبديلها
فنقول: إن الإيمان في الأصل الذي لا يقع على اعتقاد الصلاة إلى جهة دون جهة، بل يقع على الائتمار. فالإيمان من الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، الذين ماتوا كان على اعتقاد الائتمار فهم مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى بيت المقدس، مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى الكعبة. فلا تفرق ولا اختلاف في الإيمان، إذ في الأصل به وقع الاعتقاد للائتمار. وباللَّه التوفيق.
ثم قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) تأويله: أي لا يضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس. ولو كان على الصلاة فهو لوجهين:
أحدهما: أنها إنما قامت بالإيمان، فهو سبب لها، وقد يذكر الشيء باسم سببه.
والثاني: أن اليهود عرفوه إيمانا، فورد الخطاب على ما عندهم معروف؛ كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، لا أن كان ثم آلهة، لكن لما عندهم، وكذلك قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، لا أن كان ثم خالق سواه، ولكن لما عرفوا كل صانع خالقًا، فخرج على الخطاب على ما عرفوا هم ذلك الأول. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
وقوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ (١٤٤)
قد ذكرنا أنه يخرج على الوعد له.
قوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا).
قال بعض المُفْتُون: إنه كان يقلب بصره إلى السماء لما يكره أن تكون قبلته قبلة اليهود. ولكن هذا بعيد؛ لأن مثل هذا لا يظن بأحد من المسلمين، فكيف برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟
ويقال: إنه كان حبب إليه الصلاة حتى لا يصبر عنها، وقد نهى عن الصلاة إلى بيت المقدس، ولم يؤمر بعد بالتوجه إلى غيرها، فكان تقلب وجهه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالتوجه إلى غيرها، أو أن يقال: " قبلة ترضاها "؛ لأنها كانت قبلة الأنبياء من قبل، فلا شك أنه كان يرضاها. وهذا جائز في الكلام. يقول الرجل لآخر: أعطيك شيئا ترضاه، وإن لم يظهر منه الكراهية في ذلك، ولا التردد.
وقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
وقد ذكرنا القول في القبلة، والاختلاف فيه فيما تقدم.
وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
يحتمل قوله: (أَنَّهُ الْحَقُّ) على وجهين:
أحدهما: أي علموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حق، لكنهم يعاندون ويتبعون هواهم.
والثاني: أي علموا بما بُين له في كتبهم أن محمدًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه حق.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
وهو على ما ذكرنا أنه على الوعيد والتهديد. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (١٤٥)
في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون ولا يتابعون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قبلته حيث آيسه عن متابعتهم إياه؛ لأنها لو كانت في أهل الكتاب كلهم لكان لهم الاحتجاج على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ودعوى الكذب عليه؛ لأن من أهل الكتاب من قد آمن. فدل أنهم لم يفهموا من عموم اللفظ عموم المراد، ولكن فهموا من عموم اللفظ خصوصًا. وكان ظاهرًا في أهل الإسلام وأهل الكفر جميعًا المعنى الذي وصفنا لك. فظهر أنه لا يجوز أن يفهم من مخرج عموم اللفظ عموم المراد.
وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه في موضع الإخبار بالإياس عن الاتباع له.
ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحي عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وفيه أن كثرة الآيات وعظمها في نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه.
(وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).
ويحتمل قوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)، أي وما لك أن تتابعهم في القبلة، وهذا التأويل كأنه أقرب لما خرج آخر الآية على الوعيد له بقوة.
وقوله: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ).
وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي.
ويحتمل: أن يكون المراد من الخطاب غيره.
وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ (١٤٦)
لأن الأولاد إنما تعرف بالأعلام وأسباب تتقدم، فعلى ذلك معرفة الرسل، عليهم السلام، إنما تكون بالدلائل والأعلام، وقد كانت تلك الدلائل والأسباب في رسول الله ظاهرة، لكنهم تعاندوا وتناكروا وكتموا بعد معرفتهم به أنه الحق، دليله قوله: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
والكتمان أبدًا إنما يكون بعد العلم بالشيء؛ لأن الجاهل بالشيء لا يوصف بالكتمان.
ورُويَ عن عبد اللَّه بن سلام، أنه قال: أعرفه أكثر مما أعرف ولدي؛ لأني لا أدري ما أحدث النساء بعدي.
وفيه الدلالة أن نعته وصفته كانت غير مغيرة يومئذ، وإنما غيرت بعد حيث أخبر أنهم كتموا ذلك.
وقيل: (لَا يعْلَمُونَ): لا يؤمنون؛ وهو على ما بينا من نفى بذهاب نفعه، وجائز أن يكونوا عرفوه بما وجدوه بنعته في كتبهم، كما قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧).
وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
يحتمل: أن يكون الخطاب له والمراد غيره.
ويحتمل: هو، وإن كان يعلم أنه لا يمتري؛ لما ذكرنا في غير موضع أن العصمة لا
وقوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا (١٤٨)
قيل فيه بوجوه:
قيل: " هو موليها " يعني اللَّه موليها، ومحولها.
وقيل: " هو " يعني المصلي، هو موليها.
وقيل: ولى -أقبل وأدبر- (هُوَ مُوَلِّيهَا) هو مستقبلها.
ويقال في قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) لكل ملة من المسلمين قبلكم جعلت قبلتها الكعبة.
وقوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: بادروا الأمم السالفة بالخيرات والطاعات.
وقيل: (فَاسْتَبِقُوا) هو اسم الازدحام، يقول: يبادر بعضكم بعضا بالخيرات.
ويحتمل: أي استبقوا في أمر القبلة والتوجه إليها غيركم من الكفرة. واللَّه ورسوله أعلم.
وقوله: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا).
قيل: أينما كنتم يقبض اللَّه أرواحكم من البقاع البعيدة والأمكنة الحصينة.
وقيل: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا) أي في أي حال كنتم -عظامًا ناخرة أو بالية أو رفاتًا- يجمعكم اللَّه ويحييكم، ولا يتعذر عليه ذلك، وهو كقوله: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أخبر أن شدة الحال عندكم لا يتعذر عليه، ولا يشتد من الإحياء والإماتة.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
من جمع ما ذكرنا من الأشياء المتفرقة وإحياء العظام البالية.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (١٤٩)
نقول - واللَّه أعلم -: حيثما كنت من المدائن والبلدان (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، شطره: تلقاءه ونحوه وجهته.
وهذا يبطل قول من يقول؛ إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت، وبعد من أهل الآفاق، حيث أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان. وبالله العصمة والتوفيق.
وقال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: ذكر المسجد، ومعناه موضعًا منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به.
وقوله: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).
قيل: (وَإِنَّهُ) تحويل القبلة، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ).
وقيل: (وَإِنَّهُ) يعني محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ) ويحتمل يعني: القرآن هو الحق من ربك.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
قد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (١٥٠)
على ما ذكرنا.
وقوله: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
خاطب الكل، وأمرهم بالتوجه إليه حيثما كانوا، حتى لا يكون هو المخصوص به دونهم.
وقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)
تأويل هذا الكلام - واللَّه أعلم - أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة، والنصارى ناحية المشرق بهواهم، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
ثم اختلف في قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).
قيل: أراد بـ (الناس) أهل الكتاب، وأراد بـ "الذين ظلموا" غيرهم من الكفرة.
وتأويله: لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة، ولا الذين ظلموا.
وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) يعني أهل الكتاب (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فيقولوا: ليس هذا الوصف في كتبهم أنه يصلي إلى بيت المقدس وقتا ثم يتحول إلى الكعبة، (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يقول: إلا من ظلم منهم عليكم في الكلام بلا حجة ولا دليل فيقولوا: ليس هذا الوصف. ومثل هذا جائز في الكلام، يقول لآخر: ليس لك على حجة إلا أن تظلمني بلا حجة.
وقال الفراء: هذا كما يقول الرجل لآخر: الناس لك حامدون إلا الظالم المتعدي عليك، صواب في المعنى، خطأ في العربية. وذكر بيتا يدل على الجواز.
ما بالمدينة دار غير واحدة | دار إِلَى خليفة إلا دار مروان |
وقيل أيضًا: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) على القطع من الأول والابتداء بهذا، أي: لا تخشوا الذين ظلموا في الضرر لكم، ولكن اخشوني في ترككم إياها، وأن يقال: لا تخشوهم بالقتال والغلبة، فذلك لهم منه أمن وإظهار على الأعداء، وعلى هذا يخرج قوله: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) يعني الأمن من الأعداء، ولا نعمة أعظم من الأمن وإظهار الحق كقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)، قيل: هو الأمن من الأعداء، أو أراد بالنعمة كل نعمة من الإسلام، والنصر، وغيره.
(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) القبلة.
(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الإرشاد والصواب.
وقوله :( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) ؛ تأويل هذا الكلام، [ والله أعلم ]٢، أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة والنصارى ناحية المشرق بهواهم، أنزل الله عز وجل :[ ( لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ]٣ [ البقرة : ١٤٢ ]، وقال :( فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ البقرة : ١١٥ ] ؛ عذرهم وحجاجهم بما في كتب لهم أنه يحولهم، وذلك معنى قوله :( لئلا يكون للناس عليكم حجة ).
[ ثم اختلف في قوله :( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ) ]٤ ؛ قيل : أراد بالناس أهل الكتاب، وأراد بالذين ظلموا غيرهم من الكفرة. وتأويله : لئلا يكون لأهل الكتاب حجة ولا الذين ظلموا، وقيل :( لئلا يكون للناس ) يعني أهل الكتاب ( عليكم حجة )، فيقولوا : ليس هذا الوصف في كتبهم : أنه يصلى إلى بيت المقدس وقتا، ثم يتحول إلى الكعبة، ( إلا الذين ظلموا ) ؛ يقول : إلا من ظلم منهم عليكم في الكلام بلا حجة [ ولا دليل ]٥، [ فيقولوا : ليس هذا الوصف ]٦. ومثل هذا جائز في الكلام : يقول [ رجل ]٧ لآخر : ليس لك علي حجة إلا أن تظلمني بلا حجة، وقال الفراء : هذا كما يقول الرجل لآخر : الناس لك حامدون إلا المعتدي عليك. صواب في المعنى، خطأ في العربية، وذكر بيتا يدل على الجواز :
ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروان٨
[ بمعنى ولا دار مروان ]٩ وقيل أيضا :( إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ) على القطع من الأول والابتداء بهذا : أي لا تخشوا الذين ظلموا في الضرر لكم، ولكن اخشوني في ترككم إياها، ويقال : لا تخشوهم بالقتال والغلبة ؛ فذلك لهم منة أمن من١٠ الأعداء. وعلى هذا يخرج قوله :( ولأتم نعمتي عليكم ) يعني [ الأمن من ]١١ الأعداء. أو أراد بالنعمة كل نعمة من الإسلام والنصر وغيره ( ولعلكم تهتدون ) القبلة، وتهتدون الإرشاد والصواب.
٢ - من ط ع و ط م، ساقطة من الأصل..
٣ - من ط ع، في الأصل: (لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء) في ط م: (لله المشرق والمغرب) الآية (يهدي من يشاء)..
٤ من ط ع و م، ساقطة من الأصل، وأدرج قبلها في ط ع: وقوله (إلا الذين ظلموا)..
٥ - من ط ع و م..
٦ - ساقطة من م، وأدرج بعدها في الأصل: ولا دليل..
٧ - ساقطة من النسخ الثلاث..
٨ - نسب هذا البيت في: كتاب سيبويه إلى الفرزدق ٢/ ٣٤٠، والمقصود بالخليفة، مروان بن الحكم..
٩ -من ط ع و م..
١٠ - في النسخ الثلاث: عن..
١١ - من ط ع، في الأصل و م: لا من..
(كمَا) حرف لا يصح ذكره إلا على تقدم كلام؛ إذ هو حرف عطف ونسق، وهو - واللَّه أعلم - كما أرسلنا إليكم رسولا، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة وأنعم عليكم بإكرامه إياكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كذلك يجب عليكم أن تذكروه وتشكروا له.
ويحتمل على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التفسير: كأنه قال: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم، وذلك في القرآن كثير.
قال الفراء: يحتمل: كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم أذكركم، فيكون فيه جوابه؛ لذلك جزم، وهذا كقول الرجل: كما أحسنت فأحسن.
وقوله: (وَيُزَكِّيكُمْ)، قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يأخذ زكاة أموالكم، ففيه زكاتهم.
وقيل: (وَيُزَكِّيكُمْ) يدعوكم إلى ما به زكاة أنفسكم وصلاحها، وهو التوحيد، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ) هو القرآن.
(وَالْحِكْمَةَ)، قيل فيه بوجوه:
قيل: " الحكمة ": الفقه.
وقيل: " الحكمة ": الحلال والحرام.
وقيل: " الحكمة ": السنة.
وقيل: " الحكمة ": المواعظ.
وقيل: " الحكمة ": هي الإصابة؛ ومنه سمي الحكيم حكيمًا؛ لأنه مصيب.
وقال الحسن: (الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ): واحد، وهو على التكرار؛ كقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)، وهما واحد.
وقوله: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من التوحيد والشرائع، والمحاجة مع الكفرة،
وقوله: (رَسُولًا مِنْكُمْ): خاطب العرب، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم، وإنزال الكتاب بلسانهم وهم كانوا يتمنون ذلك، كقوله: (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)، فمنَّ عليهم بذلك، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم، وكفى بهم فضلًا، وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤٢).
* * *
وقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
قيل: (فَاذْكُرُونِي) قيل: بالطاعة في الدنيا، (أَذْكُرْكُمْ) في الآخرة بالتجاوز عن سيئاتكم.
وقيل: اذكروني في الرخاء والسعة، أذكركم في الضيق والشدة.
وقيل: اذكروني في الخلوات، أذكركم في ملأ الناس وأذكركم في ملأ من الملائكة.
ويحتمل: اذكروني بالشكر بما أنعمت عليكم، أذكركم بالزيادة عليها. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)، أي: وجهوا شكر نعمتي إليَّ، ولا تشكروا غيري.
ويحتمل: (وَاشْكُرُوا لِي): أي وجهوا العبادة إليَّ، (وَلَا تَكْفُرُونِ): ولا تعبدوا غيري. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
قد ذكرنا تأويل هذه الآية فيما تقدم.
وقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
قيل فيه بوجوه:
قيل: إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره، إذا لم يبق له أحد يذكر به من
وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان، وتعرض أرواح الكفرة على النيران، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح. ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم.
أخبر عَزَّ وَجَلَّ: أن أرواح الشهداء في الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه في الأجساد في دنياهم هذه.
وقيل: إن الشهيد حي عند ربه، كما عرف في اللغة: أن الشهيد هو الحاضر، أخبر عَزَّ وَجَلَّ أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم.
وقيل: إن الحياة والموت على ضروب:
فمنها: الحياة الطبيعية، والحياة العرضية، والموت الطبيعي، والموت العرضي.
فالحياة العرضية هي اليقظة، وهي الحياة بالدِّين، كقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وكقوله في الحياة بالعلم، إنه ميت بالجهل.
والحياة الطبيعية: هي التي بها قوام النفس.
والموت الطبيعي: هو الذي به فوات النفسي.
والشهادة: هي التي بها اكتساب الحياة في الآخرة، سمي به (حياة). واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ)، أي لا تقولوا (أَمْوَاتٌ)، لما ينفر طبعكم عن الموت، ولكن قولوا (أَحْيَاءٌ) لترغب أنفسكم في الجهاد، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدِّين، مع ما يحتمل أن يكون اللَّه بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون. فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
وقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦).
وقال الحسن :( إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان، وتعرض أرواح الكفرة على النيران، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح، ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم ). أخبر عز وجل أن [ أرواح الشهداء ]٣ في الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه في الأجساد في دنياهم هذه.
وقيل : إن الشهيد حي عند ربه كما عرف في اللغة أن الشهيد، هو [ الحاضر : أخبر عز وجل أنهم حضور عند ربهم، وإن غابوا عنكم ]٤، وقيل إن الحياة والموت على ضروب : فمنها الحياة الطبيعية٥ والحياة العرضية٦ [ والموت الطبيعي ]٧ والموت العرضي ؛ فالحياة [ العرضية، هي اليقظة، وهي ]٨ الحياة بالدين كقوله :( أو من كان ميتا فأحييناه ) [ الأنعام : ١٢٢ ] وكقوله :/٢-أ/ ( في الحياة ) [ غافر : ٥١ ] بالعلم [ والموت العرضي، هو الموت ]٩ بالجهل. والحياة [ الطبيعية هي التي بها ]١٠ قوام النفس، والموت الطبيعي هو الذي به فوات النفس، والشهادة [ هي التي بها ]١١ اكتساب الحياة في الآخرة، سمي به حيا، والله أعلم.
ويحتمل قوله١٢ تعالى :( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا ) [ أي لا تقولوا ( أمواتا ) ]١٣ لما ينفر طبعكم عن الموت، ولكن قولوا ( بل أحياء ) لترغب أنفسكم في الجهاد ؛ إذ هو يرد بحياة الدنيا والدين مع ما يحتمل أن يكون الله بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون، فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا، والله أعلم.
٢ - في النسخ الثلاث: عند..
٣ - من ط ع، في الأصل و م: أرواحهم..
٤ - ساقطة من ط ع..
٥ - في النسخ الثلاث: الطبيعي..
٦ - في النسخ الثلاث العرضي..
٧ - من ط ع، ساقطة من الأصل و م..
٨ - في النسخ الثلاث: العرضي هو اليقظة وهو..
٩ - في النسخ الثلاث: إنه ميت..
١٠ - في النسخ الثلاث العرضي..
١١ - في النسخ الثلاث: هو الذي به..
١٢ - من ط ع، في الأصل و م: وقوله..
١٣ - من ط ع..
قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ (١٥٥) وما ذكر فيه تذكير من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ للخلق؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر، من المصائب.
وفي كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار " شيء "، من نحو (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) و (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) واللَّه أعلم؛ لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أخبر في غير آية من القرآن: أنه خلقهم للموت والفناء، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨). أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء، فمن عرف أن ذلك كله لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص في الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله، دون ما ذكر، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم، بل للإفضال والإحسان، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد، فكأنه، في غير تلك المدة لغيرهم لا لهم، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ.
ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين:
على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه.
ويحتمل لا على جهة العبادة، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذي فيه عبادة، وهو الصوم. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة في القحط ما أصاب أهل مكة سنين، وكذلك قوله: (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)، يحتمل: (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ) يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة. ويحتمل الهلاك بنفسها، وكذلك (وَالْأَنْفُسِ) ويحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما. وكذلك (وَالثَّمَرَاتِ).
ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره؛ لأنهم كلهم عبيده، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء، فالبعض منه كذلك، ليخف ذلك عليهم. واللَّه أعلم.
ثم أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عَزَّ وَجَلَّ، ولم يجزعوا عليها، وقالوا: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). فيه الإقرار بوحدانيته عَزَّ وَجَلَّ، وبالبعث بعد الموت.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " من استرجع عند المصيبة جبر اللَّه مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفًا صالحًا يرضى به ".
ثم الصبر: هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت؛ إذ هو كله لله عَزَّ وَجَلَّ مستعار عند الخلق، والجزع على فوت ما لغيره محال؛ ألا ترى إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣). نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا؛ إذ هو في الحقيقة ليس لنا، وأن نفرح بما أتانا؛ إذ هو في الحقيقة لغيرنا. واللَّه الموفق.
وقوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ)، فهو على إضمار " الشيء " في كل حرف، إذ هو بحق العطف على ما تقدم؛ فكأنه قال: بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع. ولا قوة إلا باللَّه.
ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين:
أحدهما: أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر.
والثاني: أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليه؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد، وفيه الخوف، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به، فيخاف عند ذلك على نفسه.
والجوع: أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك، أو بقلة الإتراب وغلاء الأسعار.
ونقص من الأموال: يكون في الجهاد، والحج، والزكوات، والمؤن المجعولة في الأموال، ويكون في الخسران في التجارات، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج.
والأنفس: يكون بالجهاد، ومحاربة الأعداء، ويكون بأنواع الأمراض.
والثمرات: ترجع إلى قلة الإنزال، وقصور الأيدي عما به ينال، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه.
ثم اللَّه سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا، لا بالكل. دل أنه -عَزَّ وَجَلَّ -
ثم إن اللَّه دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له، فكيف ومن له كليته ذلك؛ فقال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ثم وصف الصابرين فقال: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) وهدى اللَّه عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة؛ إذ جعل التوحيد داخلا في ذلك الحرف.
وفيه التبري من أن يكون له في حكم اللَّه تدبيرًا ورأى، وبذل النفسي له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء.
وقوله: (إنَّا للَّهِ)، كأنه قال: ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير، وأبدًا يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.
وقوله: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق، بل في التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل.
وفي ذلك تذكير النفسي عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئًا مما به قوامه إلى مكان قراوه، وقد انتهى الخبر بالبلوغ.
فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وبالله التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة، وجعل كل شيء منها زائلًا فانيا لينال به الدائم الباقي.
فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذي أنشيء وما له يسعى، فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي، مع ما كان كل شيء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك، فأبدل المأوى بالذي لا آفة فيه. فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح، لكن البشر - تجبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد، لا أن ينفر عنها. واللَّه المستعان.
فإن قال قائل: هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة؛ إذ قال يعقوب: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) الآية. فهو واللَّه أعلم، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن
وقوله: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦).
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧)، وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ (١٥٧) قيل: الصلاة من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يحتمل وجوهًا:
يحتمل: الرحمة والمغفرة.
ويحتمل: الصلاة منه - مباهاته الملائكة؛ جوابًا لهم لما قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا.
وقيل: الصلاة منه: الثناء عليهم. وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء اللَّه عليهم.
وقوله (وَرَحْمَةٌ) وقَالَ بَعْضُهُمْ الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار، وقيل: الرحمة: النعمة وهي الجنة.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
شهد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بالاهتداء لمن فوض أمره إلى اللَّه تعالى، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة؛ كقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) يبلوهم بالذي كان به عالمًا ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهي بحق المحنة، وهو كما يستخبر عما هو به خبير، مع ما كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهي، فاستعملت في الأمر والنهي، وإن كان لا يخفى عليه شيء، بل هو كما قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). ثم له جعل الغيب شاهدًا، فجرت به المحنة، ليعلم ما قد علمه غائبًا شاهدًا، إذ هو موصوف بذلك في الأزل. وباللَّه التوفيق.
ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو لله في الحقيقة، لكنه بفضله
والأصل في هذا: أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد، بل هو امتنان من اللَّه وإفضال منه، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه، وطابت به نفسه، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت، ثم هو نعمة على غيره ولغيره، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره، وإن كان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذكره في الابتلاء والمصائب، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عَزَّ وَجَلَّ. ولا قوة إلا باللَّه.
ثم بين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ما يكرمهم؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه، مع ما دل عليه أيضًا بقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...) الآية، فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)، وقال في موضع آخر: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرًا، ومعلوم أن كان ذلك حقا لله عليهم، بالسابق من نعمه، مع عظم مننه، لكنه سمى ما أفضل به أجرًا له، مع ما كان العبد
ثم وعد له في حال فعله بخصال ثلاثة:
إحداها: أن عليه صلاته. وصلاته تحتمل مباهاته الملائكة تعظيمًا لما بذل عبده له، وخضع لحكمه عليه، وهو أن قالوا: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ...) الآية، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة، وخضع لحكمه عليه فيها بالاسترجاع.
ويحتمل: مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) إلى ما ذكر من الإفضال. واللَّه الموفق.
ويحتمل ثناؤه ذكرهم في أخبار عباده، كقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، وقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا...) الآية. مع ما يرجى له من زيادة الهدى في الدنيا بقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، وقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
والثانية: الرحمة. قد يرجع إلى ما ذكرنا، وجائز أن تكون، رحمته هي التي أكرمته بذلك الاسترجاع.
ويحتمل: النعمة، أو رحمة يلقيها في قلوب العباد حتى يحبونه بها، أو خلف يعطيه في الدنيا.
والثالثة: ثم شهد اللَّه لهم بالهداية، وذلك يحتمل: أن يكونوا اهتدوا لدينه، ولما من عليهم في المصيبة من التسليم لله.
ويحتمل: الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) للاسترجاع. وقد رُويَ عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم "،
فلعل هذا لمن أحسن القبول وقت المصيبة، أو رجع عما كان فرط منه وتاب.
والأول في غير ذلك. واللَّه الموفق.
ثم في الآية وجوه من المعتبر:
أحدها: ما يلزم العبد من المصائب، وما يستوجبه إذا وفَّى بما عليه.
والثاني: في ذلك بيان أن الصحة، والأمن، وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم في الحكمة، لكنها إنعام من اللَّه، وله الابتلاء بأخذه؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر في ذلك. واللَّه الموفق.
والثالث: أن اللَّه تعالى ذكر أنه بَلَا العباد بالذي ذكر، ومعلوم أن ذلك يجري على أيدي العباد بهم، فأضاف ذلك إلى نفسه. ثبت أن له في ذلك، تدبيرًا حتى يبلوهم به. والله أعلم.
وفيه أن اللَّه تعالى قال: ونبلوكم بكذا، ولم يكن كان يومئذ ثم كان ذلك، وكذلك قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ...) الآية. ثم بلوا بذلك ليعلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - علم ذلك باللَّه، وتبين أيضًا أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ويقتضي القرار في الطبع، لم يحتمل أن يجيزهم به لولا الأمر به وطاعة اللَّه في ذلك.
وأيضًا أنه ذكر الخوف فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد، وكذلك قوله: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فعلى ذلك، الرجاء والطمع وجملته أن أمر
وأيضا: أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الآثام، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات، أيضًا لا يدل على وهن عقد المصائب، ولا زلة بليَ بها. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل، عليهم السلام، ولكن على وجهين:
أحدهما: أن يكون اللَّه تعالى يريد أن يحميَ وليه لذات الدنيا لينالها موفرة في الآخرة.
والثاني: أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر، فيبتلوا، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك. ولا قوة إلا باللَّه. وإنما كذلك جعلت لمحنة.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
قال دلَّ: قوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).
دلَّ أن صعودهما من اللازم في نسكه، وكذلك صعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الصفا وقال: " نبدأ بما بدأ اللَّه "، وقد قال اللَّه تبارك وتعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) الآية، ولم يقل: بينهما. فمن لم يصعد الصفا والمروة فلم يطف بهما، مع ما قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)، وفي ترك صعودهما إحلال شعائر اللَّه، إذ قد بين اللَّه أنهما (مِن شَعَائِرِ اللَّهِ). وما روي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طاف بينهما على ناقته، ومعلوم أن ناقته لا تصعدهما، فهو عندنا للعذر فعل ذلك، وإلا فإنه قد رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه صعدهما واستقبل البيت وقال: نبدأ بما بدأ اللَّه.
دليل ذلك ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه طاف بينهما على ناقته وبالبيت لعُذر به.
ولا يحتمل أيضا أن يكون بغير عذر وهو الملقب بالسعي؛ لما فيه من فعل السعي، والراكب لا يسعى.
وقال: خبر جابر أولى من خبر ابن جبير؛ فكأنه وقع عنده أنه عن ابن جبير. وذلك عن ابن جبير عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، وهو أولى؛ لأن العذر كامنٌ لا يعرف بالنظر من بعد، وإنما يعرف بالتأمل، أو بالخبر من عند ذي العذر، وعلى هذا خرج خبر ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ عنه، على أن خبر جابر لو صح على ما يروى فهو لما ذكر أنه " يرى الناس، فكأنه أراد أن يعلمهم، وذلك كالتعليم منه، والتعليم عليه لازم، فهو بتركه يلام عليه، فذلك عذر. واللَّه أعلم.
والثاني: أنه يجوز أن يكون فعله ذلك ليس هو فعل ما كان عليه، أنه كيف كان يفعله؛ فكان ذلك لمكان الدلالة للخلق بذلك هو الأمر المتوارث من صنيع الحج والعمرة، أن الأولى يفعلون ما يفعل الحاج، لا على فعل الحج، ولكن على التعليم؛ فعلى ذلك أمر المرُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. واللَّه أعلم.
ثم اختلف في الطواف بينهما بعد ما قيل: إن الجناح فيه لوجهين:
أحدهما: ما قيل: كان بالصفا صنم وبالمروة صنم فيخرجوا لمكانهما.
وقيل: كان بينهما أصنام، لذلك كان يخرجهم.
ثم قال الشافعي: إن السعي بينهما مفروض، حتى لو ترك الحاج خطوة منه وأتى
واحتج بما روت صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " إن اللَّه كتب عليكم السعي بين الصفا والمروة فاسعوا ". وهو يأتي مرة بقبول المراسيل لتوهم الغلط، ومرة يحتج بامرأة لا يعرف ولا يذكر اسمها.
والوجه فيه إن ثبت وصح أن الكتاب يحتمل غير ما قاله. وهو أن يقال: (كُتِبَ) أي حكم، كقوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ)، وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)، قيل: به حكم اللَّه عليكم.
وقال آخرون: ليس بفرض ولا لازم.
واحتجوا بما ذكر في حرف أُبي: " لا جناح عليه أن لا يطوف بينهما "، ولا يذكر ذلك في شيء واجب.
والثاني: إن هذه اللفظة لفظة رخصة، ولا يرخص بترك ما هو فرض أو لازم.
ثم الجواب عن الحرف الأول أن اللات ربما تزاد وتنقص، ولا يوجب زيادتها ونقصانها تغير حكمها، كقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)، أي: لا تضلوا. ومثل هذا كثير في القرآن.
والثانى: ما ذكرنا أن المسلمين كانوا يتحرجون عن الطواف بينهما لمكان الأصنام. فبين عَزَّ وَجَلَّ أن لا حرج عليهم في ذلك، لا أن ليس الجناح يدفع الحرج في تركه.
وأما عندنا: فهو لازم؛ لأنه نوع ما لا يتبرع به، والأصل عندنا: أن ما لا يتبرع به يخرج الأمر به مخرج الوجوب واللزوم؛ كالطواف، وسجدة التلاوة، وكالوتر، والأضحية وغيره.
وقد رُويَ عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " ما تم حج امرئ قط إلا بالسعي ". فهو وصف بالنقصان لا وصف بالفساد، وفرق بين التمام من النقص وبين
وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).
قيل: (شَاكِرٌ)، أي يجزيهم جزاء الخطير بعمل اليسير.
وقيل: يقبل القليل ويعطي الجزيل. وهو واحد.
عامل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بكرمه ولطفه عباده معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم؛ حيث وعد قبول اليسير من العمل، وإعطاء الجزيل من الثواب؛ وحيث طلب منهم الإقراض، ووعد لهم العظيم من الجزء، كمن لا حق له فيها، بقوله: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)، وحيث خرج القول منه في الابتلاء والامتحان مخرج الاعتذار لهم كأن لا حق له فيها، بقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ...)، ثم بشرهم بالجنة بما صبروا على أخذ ما له أخذه، وذلك من غاية اللطف والكرم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
قيل: (الْبَيِّنَاتِ) وهي الحجج، أي كتموا ما أنزل اللَّه من الحجج التي كانت في كتبهم.
وقيل: كتموا ما بين في كتبهم من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته.
وجائز أن يكون (الْبَيِّنَاتِ) وما بين للخلق مما عليهم أن يأتوا ويتقوا من الأحكام من الحلال والحرام.
وقوله: (وَالهدَى).
قيل: الصواب والرشد.
وقيل: (وَالْهُدَى) ما جاءت به أنبياؤهم من شأن مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودينه وأمروا من هديه من
وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) اختلف في الناس.
قيل: هم اليهود كتموا بعد ما بين لهم.
وقِيل: بينا للمؤمنين ما كتمهم اليهود من نعته ودينه.
ويحتمل: البيان بالحجج والبراهين.
ويحتمل: البيان بالخبر، أخبر المؤمنين بذلك.
وقوله: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ)، قال بعض أهل الكلام: اللعن: هو الشتم من الله تعالى، لكنا لا نستحسن إضافة لفظ الشتم إليه؛ لأن المضاف إليه الشتم يكون مذمومًا به في المعروف مما جبل عليه الخلق. ونقول: اللعن: هو الطرد في اللغة، طردهم اللَّه عز وجل عن أبواب الخير.
وقوله: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)، يعني الداعين عليهم باللعن، سموا بذلك " اللاعنين ".
ويحتمل: تستبعدهم عن الخيرات وأنواع البر.
وقيل: (اللَّاعِنُونَ) هم البهائم، إذا قحطت السماء، وأسنت الأرض قالت البهائم: منعنا القطر بذنوب بني آدم، لعن اللَّه عصاة بني آدم.
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا (١٦٠)
قيل: (تَابُوا) عن الشرك، و (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم، و (وَبَيَّنُوا) صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: (إلَّا الَّذِينَ تَابُو) عن الكتمان، و (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالكتمان، و (وَبَيَّنُوا) ما كتموا.
وقوله: (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
قيل: يتوب عليهم: يقبل توبة من يتوب.
وقيل: يتوب عليهم، أي: يوفقهم على التوبة.
وقيل: (الرَّحِيمُ): هو المتجاوز عن ذنبهم في هذا الموضع.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)
قيل: لعنة اللَّه، هو إدخاله إياهم النار وإخلادهم فيها.
ولعنة الملائكة قوله: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، جوابًا لما سألوهم من تخفيف العذاب، كقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ)، وكقوله: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)، فتقول لهم الملائكة: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)، هذا ما قيل من لعنة الملائكة.
وقيل: لعنة الناس أجمعين، أنهم لما طلبوا من أهل الجنة: الماء بقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، هذا لعنة الناس. واللَّه أعلم.
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
قيل: لا يقالون ولا يردون إلى ما تمنوا، كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
وقيل: لا ينظرون ولا يؤجلون.
وقيل: لا يناظرهم خزان النار بالعذاب.
* * *
قوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤).
وقوله: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ).
ذكر هذا الاسم؛ لأن كل معبود يعبد عند العرب يسمون إلهًا؛ كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، وكقوله (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)؛ لهذا ذكر أن إلهكم الذي يستحق الألوهية والعبادة واحد بذاته، لا واحد من جهة العدد بالخلق ذي أعداد وأزواج وأشكال، بل واحد بذاته وبجلاله وعظمته وارتفاعه وتوحده عن شبه
وقوله :( إلهكم إله واحد ) فيه إثبات إله واحد، وفي قوله :( لا إله إلا هو ) نفي غيره من الآلهة. [ فمن قال ]٢ : لم كان هذا دليلا ؟ وهو في الظاهر دعوى ؟ قيل له : دليل وحدانيته [ في وجوه :
أحدها :]٣ في قوله تعالى :( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار )
٢ - في النسخ الثلاث: فإن قيل..
٣ - ساقطة من النسخ الثلاث..
وقوله: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، فيه إثبات إله واحد، وفي قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ونفى غيره من الآلهة.
فَإِنْ قِيلَ: لم كان هذا دليلًا؟ وهو في الظاهر دعوى.
قيل له: دليل وحدانيته في قوله:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
خلق السماوات وجعل فيها منافع، وخلق الأرض وجعل فيها منافع للخلق، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض لبعد ما بينهما؛ إذ لا منفعة للخلق في منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرف في الأرض بالكواكب، وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار؛ فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر، وإذا وصل هذا قطع الآخر. فإذ لم يكن، ولكنه اتصل، دل أنه فعل واحد، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم.
وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد؛ لأنه لو كان اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل.
وفيه ذهاب عيش الخلق، وفي ذهابه تفانيهم وفسادهم. فدل أنه واحد.
والثاني: أنه جعل للخلق في الليل والنهار منافعًا، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما، كقوله: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد.
وفيه دلالة حدوث العالم؛ لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال. فدل تغييرها وزوالها على إنما حدث زوال مثل هذه الأشياء بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لها محدثًا.
فيه دلالة البعث والحياة بعد الموت؛ لأن الليل يأتي على النهار فيتلفه ويذهب به حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شيء، وكذلك النهار يأتي على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من أثر الليل شيء. ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد. في النشوء من غير نقصان ولا تفاوت. فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته وأتلفه، وإن لم يبق له أثر، على ما قدر من إيجاد ما أتلف، وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار، ومن النهار بالليل، وإن لم يبق له أثر.
وقوله: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، وقيل: اختلافهما وما جعل أحدهما مظلِمًا والآخر مضيئًا.
وقيل: اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما، إذ ماينتقص من أحدهما يزداد في الآخر، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان، وباللَّه التوفيق، ولتغير التدبير، ولا يجري كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه في العام الأول.
وقوله: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) فالآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ جعل الفلك التي تجري في البحر من آياته. والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين؛ لأن الفلك قبل أن يعمل فيها وينحت لا تسمى فُلْكا، ولكن يسمى خشبًا، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه، لزال به موضع الحجاج وتسميته باسم الآيات؛ فدل أن له فيها صنعًا وتقديرًا حيث صار من عجيب آياته.
ثم فيه أعجوبة، وهو أن الطباع تنفر من مغافصة البحر بالاطلاع على أمواجهه وأهواله، وأراهم من عظم آياته مما يجريه في البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم؛ فدل أنه من عند قادر لطيف خبير.
وفيه أيضا دلالة وحدانيته؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما؛ فدل أن محدثهما واحد.
ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤنات.
وفي ذلك دلالة النبوة؛ لأن يعلم أن اتخاذ السفن وبما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر، ثبت أنه علم ذلك ممن علم جواهر الأشياء، وما يصلح الأشياء وما لايصلح، وفي الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.
وقوله: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، قد ذكرنا هذا أن فيه دلالة البعث.
وقوله: (وَبَثَّ فِيهَا)، قيل: خلق.
وقيل: بسط.
وقيل: فرق.
(مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ).
قيل: جعل فيها من كل جوهر الدابة.
منها: ما جعل مأكولًا منتفعًا بها من كل أنواع المنافع؛ ليدلهم وليرغبهم على ما وعد لهم في الجنة.
ومنها: ما جعل غير مأكولة ولا منتفع بها، بل جعلها أعداء لهم ليدلهم على تحذير ما أوعدوا وحذروا في النار.
وقوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) يحتمل وجهين: يحتمل: تصرفها مرة للعذاب، ومرة للمنافع؛ لأنه جعل فيها منافع كثيرة للخلق: بها تجري السفن في البحار، وبها تنشر السحاب في الهواء، وبها تنتفي الأشياء، وبها يتميز ما للخلق مما للدواب مما يكثر ذلك. ثم يعلم من عظم لطفه أنه جعل الهواء بحال لا يقر فيها شيء وإن لطف، والسحاب مع غلظه وكثافته جعل الهواء مع لطافتها ورقتها مقرًّا للسحاب حتى يعلم أن ليس لغير اللَّه فيه تدبير.
ويحتمل: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) صرفه إياها مرة صباء، ومرة دبورا، ومرة جنوبًا ومرة نسيمًا، ومرة يمينا، ومرة شمالا للمنافع.
ثم فيه دلالة أنها من الأجسام، لا من الأعراض؛ لأنه جل وعز جعلها ماسة مانعة لا صارعة من قام في ناحيتها، وذلك صفة الأجسام، لا صفة الأعراض، لكن لا ترى للطافتها؛ فدل أنها من الأجسام ما لا يرى ولا يمس، كالهواء لا يرى ولا يمس وهو من الأجسام، وكالذرة التي في الشمس ترى ولا تمس.
وفي اتساق التدبير وإتقان الصنعة وإحكامها دليل أن إلهكم هو الواحد الذي دعتكم هذه الأشياء إلى الإقرار بوحدانيته، وألزمتكم العبودية له بما أودع له في كل هذه المصنوعات من أدلة وحدانيته وآيات ربوبيته؛ ولهذا قال: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ليعتبروا ما فيها من الأدلة والحجج؛ إذ من لا يعقل جهة الحكمة في خلق هذه الأشياء: مم خلقت؟ ولماذا خلقت؟ وما الحكمة فيها؟ يستوي عليه خلقها وغير خلقها.
ثم فيه دلالة أن ما خلق من السماوات والأرض، والليل والنهار، والرياح والسحاب، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته، وجعلها مسخرة مذللة لهم. وباللَّه التوفيق.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧).
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: (يَتَّخِذُ) يعبد (مِنْ دُونِ اللَّهِ).
وقيل: (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا) في التسمية. يعني: يتخذ الجواهر التي تصاغ أو تنحت ونحو ذلك، مما يتعلق كونهم بصنيعهم، يسفههم بهذا، أنهم تركوا عبادة من به قامت لهم كل نعمة، وسلم لهم كل خير، وعبدوا ما قد اتخذوه بالمعالجات ولا قوة إلا باللَّه.
وقيل: (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا)، أي أشباهًا في التسمية، أو أعدالًا في العبادة، أو شركاء في الحقوق كقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا
ثم بين عظم سفههم: علمهم بجهلها بعبادتهم، وعجزها عن الدفع عنها، ثم قاموا بنصرها والدفع عنها سفهًا بغير علم.
وقوله: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).
قيل: يحبون عبادة الأنداد وطاعتهم كحبهم عبادة اللَّه وطاعته؛ لأنهم يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ويقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ).
وقيل: يحبون عبادة الأنداد كحب المؤمنين عبادة ربهم.
وقيل: يحبون آلهتهم كما يحب الذين آمنوا ربهم.
ثم قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) منهم لآلهتهم.
قيل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي: أشد حبًّا لأجل اللَّه.
وقيل: أي أشد اختيارًا لطاعته، وأكثر ائتمارًا وإعظامًا وإجلالًا لأمره من إعظامهم وإجلالهم آلهتهم. واللَّه أعلم.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي لعبادته منهم لعبادة الأوثان من حيث لا يؤثر المؤمن على عبادة اللَّه، أعني في الاختيار لا فيما يوجد من ظاهر الأحوال في الدارين جميعًا، وهم يتركون عبادة الأوثان بوجود ما هو أعجب منها أو بأدنى شيء من متاع الدنيا.
ثم المحبة -محبة الشهوة والميل إليها، وهو في الخلق، لا يحتمل في اللَّه، ومحبته- الطاعة وإيثار الأمر والإعظام، فهو في اللَّه يحتمل.
وبعد فإن الحب يخرج على الثناء، وعلى العبادة والطاعة، وعلى التبجيل والتعظيم، وقد يخرج على ميل القلوب، فحب الكفرة هذا، وهو حب الجسداني به الذي يولده
وحب اللَّه من المؤمنين من هذين الوجهين فاسد، بل همو من الوجوه التي ذكرنا، وقد كان حب الهيبة والرغبة؛ إذ علموا النعم كلها من اللَّه تعالى، وعلموا أن السلطان والعزة لله ولا أحد ينال شيئًا من ذلك إلا باللَّه، فأوجب ما عنده من النعم الرغبة، وما له من السلطان الهيبة. فذلك طريق حب المؤمنين مع ما ظهر من أياديه التي لا تحصى وأفضاله التي لا تحاط، والعلم بهما موجبًا تعظيم الأمور والمبادرة بالقيام بها مع الأدلة المظهرة تعاليه عن تقدير العقول وتصوير الأوهام. فيكون حبه في الحقيقة في تعظيم أموره، وحسن صحبة نعمه، ومعرفة حقوقه، لا في توهم ذاته، وإشعار القلب ما يعقله ليرجع المحبة إلى ذلك، بل هو فيما ذكرت؛ ولذلك أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقول لهم: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)، وهو أن من أحب آخر محبة الجلال والرفعة عظم رسوله وانقاد لما يدعوه إليه وإن كان في ذلك هلاكه، وتعظيمًا لأمره وتبجيلًا، فكيف فيما نجاته وفوزه في الدارين. واللَّه الموفق.
وقوله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).
قوله: (يَرَى) قرئ بالياء والتاء جميعًا.
ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يقول: ولو ترى الذين ظلموا يا مُحَمَّد: شهدوا لك: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
ومن قرأ بالياء، يقول: ولو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذا رأوا العذاب يعلمون أن القوة لله جميعًا.
ويحتمل: لو علم الذين ظلموا إذا علموا عذاب الآخرة يعلمون أن القوة لله جميعا،
ويحتمل: المراد من قوله: (يَرَى)، أي: يدخل، كقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى) أي لمن يدخلها ويصليها.
وقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ (١٦٦)
(الَّذِينَ اتُّبِعُوا) يعني: الرؤساء، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعني: الأتباع والسفلة، تبرأ بعضهم من بعض العبادة من الأتباع من القادة، وهو كقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا
وقيل: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا)، يعني: الشياطين، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعني: الإنس.
وقيل: يبرأ اللَّه كلا غدا أن أوثانهم لن تغني عنهم شيئًا، ولا شركاؤهم الذين أضلوهم، ولا أشرافهم شغلوا عنهم حين عاينوا النار.
وقوله: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ).
قيل: (الْأَسْبَابُ) والأرحام والأنساب؛ كقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وكقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧).
وقيل: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) يعني العهود والأيمان التي كانت بينهم في الدنيا.
وقيل: تواصلهم في الدنيا وتوادهم لم ينفعهم شيئًا؛ لأنهم كانوا يتواصلون ويتوادون في الدنيا رجاء أن ينفع بعضهم بعضًا؛ كقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
وقوله: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ) التي لم يريدوا اللَّه بها.
(حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ)، أي: حسرة عليهم وندامة.
وقيل: أعمالهم التي عملوها في الدنيا تصير حسرات عليهم حين يرفع اللَّه لهم الجنة، فينظرون إلى مساكنهم التي كانت لهم، وبأسمائهم لغيرهم، وبأسماء غيرهم لهم.
قال: وهذا عندي لا يصح أن يجعل اللَّه لأحد نصيبًا في الجنة ثم يحرمه، ولكن هذا على أصل الوعد -وعد من أطاع اللَّه الجنة، ومن عصاه النار- فهو على أن هَؤُلَاءِ لو أطاعوا كان لهم نصيبًا في الجنة، وهَؤُلَاءِ لو عصوا كان لهم نصيبًا في النار.
أو يكون ذكر النصيب لهَؤُلَاءِ في الجنة هو الذي ادعوه لأنفسهم كما قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فيحرمون ونورث عنهم ما ذكروا أنه لهم في الجنة؛ كما قال اللَّه تعالى: (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠).
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)
قيل فيه بوجوه:
قيل: إنهم كانوا يحرمون التناول من أشياء والانتفاع من نحو البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي، فيقولون: حرم الانتفاع بها؛ فأنزل اللَّه تعالى فقال: (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) وانتفعوا بها؛ فإن اللَّه لم يحرمها عليكم، كقوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣).
وقيل: خلق في الأرض ما هو حلال وما هو حرام؛ فأباح التناول من الحلال ونهى عن الحرام.
وقيل: إن قومًا يحرمون التناول من الرفيع من الطعام والرفيع من الملبوس، ويتناولون من الدرن والرثة، فنهوا عن ذلك.
ولا يحتمل أن يراد بالطيبات الحلال منها، ولكن ما تطيب النفس من التناول؛ لأن
وعلى ذلك قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...) الآية. فيكون كأنه الذي في الأرض حلالًا وحرامًا، ثم فما حل طيب دون ما حرم. فأمر بأكل ما طاب من ذلك إذا قدر عليه؛ لأنه على قدر طيبه يعظم محله في القلب، وعلى ذلك يرغب نفسه بالشكر لمن أنعم به عليه، والتعظيم لمن أكرمه بالذي طابت له به النفس. واللَّه أعلم.
واختلف في قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
قيل: آثار الشيطان.
وقيل: وساوس الشيطان.
وقيل: سبل الشيطان؛ كقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
فهو يرجع إلى واحد.
وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وذكر في موضع آخر، وسماه وليًّا بقوله: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ). فالوجه فيه أنه يريهم في الظاهر الموالاة ولكنه يريد في الباطن إهلاكهم، فإذا كان كذلك فهو في الحقيقة عدو.
وجائز أن يكون (أَوْلِيَاؤُهُمُ)، أي هو أولى بهم إذ عملوا ماعملوا بأمره، أو أولياؤهم بما وافقوهم في الفعل، وشاركوهم في الأمر، وكانوا في الحقيقة لهم أعداء، إذ ذلك هلاكهم. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)؛ لأنه يوسوس ويدعو فإن أطاعه -وإلا ليس له عليه سلطان سوى ذلك- فهو ضعيف؛ لأن من لا ينفذ على رعيته سوى قوله فهو ضعيف، يوصف بالضعف - واللَّه أعلم - ولكون ضعيفا على من يتأمل مكائده ويتحفظ أحواله.
وقوله: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ (١٦٩)
قيل: يحتمل: أن يكون السوء هو الفحشاء، والفحشاء هو السوء. لما أن كل واحد
ويحتمل: أن يكون السوء ما خفي من المعاصي، والفحشاء ماظهر منها.
وقيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد من نحو الزنى وشرب
وقوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
يخرج على الأول، وهو السوء والفحشاء، يأمرهم بذلك فيقولوا: اللَّه أمرنا بها.
ويحتمل قوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ما قالوا: إن اللَّه حرم هذه الأشياء، أو القول على اللَّه ما لا يعلمون بما لا يليق به من الولد وإشراك غيره في عبادته. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: أن آباءهم كانوا أوصوهم ألا يفارقوا دينهم الذي هم عليه، فقالوا عند ذلك: لا ندع وصية آبائنا، كقوله: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
أو كانوا قومًا سفهاء أصحاب التقليد، فقالوا: إنا قلدنا آباءنا، فلا نقلد غيرهم.
وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).
يخرج هذا الكلام على وجهين:
أي: تقلدون أنتم آباءكم وإن كانوا لا يعقلون شيئًا.
ويحتمل: (أَوَلَوْ كَانَ)، أي: وقد كان آباؤكم لا يعملون شيئًا فكيف تقلدونهم؟ وهو كقوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)، أي وقد جئتكم. أو أن يقال: من جعل آباءكم قدوة يقتدى بهم؟
وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً (١٧١)
قيل فيه بوجهين:
قيل: مثلنا (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) أي يصوت (بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) يسمعون الصوت ولا يفهمون ما فيه.
وقوله :( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) سماهم بذلك، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك، إذ الحاجة من هذه الأشياء الانتفاع بها، ولذلك سماهم سفهاء لما لم ينتفعوا بعلمهم وعقلهم.
وقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
سماهم بذلك وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك؛ لما لم ينتفعوا بها، إذ الحاجة من هذه الأشياء الانتفاع بها؛ ولذلك سماهم سفهاء لما لم ينتفعوا بعلمهم وعقلهم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ).
يتوجه وجهين:
أحدهما: الإذن في الأكل ما تستطيبه النفس وتتلذذ به، ليكون أرضى وأشكر لله فيما أنعم عليه، ويكون على إرادة الحلال بقوله: (طيباتِ)، فيكون في الآية دليل كون المرزوق حلالًا وحرامًا، إذ قيل: " من ذا "، ولم يقل: " كلوا ذا "، ولو كان كل الرزق حلالًا لكان يقول: " كلوا مما رزقناكم ". واللَّه أعلم.
ثم حق المحنة التمكين مما يحرم ويحل، ومما ترغب إليه النفس وتزهد. فجائز جميع ذلك كله في الملك وفي الرزق ليمكن لكم من الأمرين بالمحنة، إذ ذلك حق المحنة.
واللَّه الموفق.
وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، يدل على أن الذي كان لهم الأكل وأمرهم بالتناول منه هو الحلال.
ثم فيه الدليل على أن من الرزق ما هو طيب حلال، وما هو خبيث حرام؛ إذ لو لم يكن منه طيبٌ وخبيثٌ لكان لا يشترط فيه ذكر الطيب، بل يقول: " كلوا مما رزقناكم ".
فَإِنْ قِيلَ: فما وجه الحكمة في الامتحان بجعل الخبيث رزقًا لهم؟
قيل: هذا أصل المحنة في كل شيء، يجعل لهم الغذاء؛ فلا يأمرهم بالامتناع عنه، ويجعل لهم قضاء الشهوة في المحرم ويأمرهم بالكف. وهو الظاهر من المحن.
وقوله: (وَاشْكُرُوا لِلََّهِ).
وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)
أي: إن كنتم منه ترون ذلك.
ويحتمل: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وأي إياه توحدون.
ويحتمل: (إِنْ كُنْتُمْ) ومِمَّن تعبدونه -إياه تقصدون- فاجعلوا عبادتكم له خالصة، لا تعبدوا غيره ليكون له. ولا قوة إلا باللَّه.
وقيل: " إن " بمعنى: إذ آثرتم عبادته فاشكروا له.
ويحتمل قوله: (وَاشكُرُوا لِلَّهِ) على جميع ما أنعم عليكم من الدِّين، والنبي، والقرآن وغير ذلك من النعم، أي: كونوا له شاكرين.
وقوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ (١٧٣)
ذكر " الميتة " فمعناه: حرم عليكم الأكل من الميتة والتناول منها، فإذا كان كذلك فليس فيه حرمة ما لا يؤكل والانتفاع به من نحو الصوف، والشعر، والعظم ونحوه.
ألا ترى أن هذا إذا أريد من الشاة وهي حية وأبين منها لم تصر ميتة لا يجوز الانتفاع به، وغيره من اللحم إذا أبين منها صار ميتة؛ لما روي في الخبر: " ما أبين من الحي
ولأن الصوف واللبن وغيرهما ليسوا بذوي الروح فيموت باستخراج الروح منها؛ كالحيوان على ما ذكرنا من الخبر.
ورُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه سئل عن الأنفحة استخرجت من الميتة، فقال: أفيها دم؟ فقيل: لا. فقال: لا بأس، كلوا؛ فإن اللبن على ذكاة فيه. أو كلام نحو هذا.
وكذلك رُويَ عن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنه قال: لا بأس.
فَإِنْ قِيلَ: ألا فسد بنجاسة الضرع؛ كالوعاء النجس يكون فيه اللبن يفسد بفساده؟
قيل: إن الشيء إذا كان موضعًا للشيء ومعدنه في الأصل فإن فساد ذلك الموضع لا يوجب فساد ما فيه.
ألا ترى أن الدم الذي يجري بين الجلد واللحم إذا ذبح لا يفسد اللحم لما كان ذلك موضعه ومظانه؟! فعلى ذلك اللبن في الضرع.
وأما الإهاب: فإنه إذا دبغ فقد طهر؛ لما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أيما إهاب دبغ فقد طهر ".
والدم المذكور في هذه الآية هو الدم المسفوح. دليله قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)،
وقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
واختلف فيه على أوجه:
قيل: قوله: (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) هو تفسير قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ)، وهو كقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)، فصار قوله: (غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) تفسير قوله: (مُحْصَنَاتٍ)؛ لأنها إن كانت محصنة كانت غير مسافحة ولا متخذة الأخدان. فعلى ذلك إن كان مضطرَّا كان غير باغ ولا عاد. واللَّه أعلم.
وقيل: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ) أي غير مستحل لتنارله، (وَلَا عَادٍ) بعدو على أكله للجوع.
وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ) غير متجاوز حده، (وَلَا عَادٍ) ولا مقتصر نهايته.
وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ) فيه (وَلَا عَادٍ) على حد اللَّه إذ حرمه عليه في غير حال الاضطرار، فيصير باغيا في الأكل، عاديا على حد اللَّه.
وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) وفي مجاوزته في أكل الحد المجعول له من إقامة المهجة ودفع الضرورة، فأكل بشهوة أو لحاجة غير حاجة الجوع خاصة.
وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ) على المسلمين، (وَلَا عَادٍ) وعليهم.
لكن تصريح النهي عن الانتفاع بالشيء وحرمة هتكها صاحبها نهي عما هتك لا عما كان مباحا لهم كما رُويَ عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " لا صلاة للمرأة الناشزة ولا للعبد الآبق " وذلك نهي عن الإباق والنشوز لا عن الصلاة، فمثله لو كان نهيا، فكيف ولا نهي؟! ولكن ذكر إباحة على صفة لم يذكر الحل والتحريم في الابتداء مع تلك الصفة وجملته أن بغيه لا يحرم ما قد أحل بالخبر هو بالاتفاق؛ فكذلك ما أحل بالسبب، دليل ذلك: أمر الكفرة وسائر الفسقة أنه لم يحرم بينهم شيء من ذلك.
ثم اختلف في حرمة عين الميتة في حال الاضطرار وحلها:
وقال آخرون: عينها محرمة لكن التناول منها مباح. وهو قول أصحابنا رحمهم اللَّه.
فمن قال بحل عينها للضرورة ذهب إلى أن الحظر والإباحة لا يقع في الأصل لعين الشيء، ولا يتكلم فيها بحل ولا حرمة بحيث العين، بل الحرمة والحل هي الواردة عليها، موجبة حق الحرمة، ثم الحرمة ترتفع بالضرورة. فيبقى عينه على ما كان في الأصل.
ومن قال بحرمة عينها وبحل التناول منها ذهب إلى أن الحرمة حدثت لما كانت ميتة ومهلًّا لغير وجه اللَّه. فحدوث الحل للضرورة يدل على أن العلة كانت هي الضرورة في حق رفع حرمة التناول، ولم ترفع حرمة عينها إلا أنه أبيح التناول منها للضرورة على بقاء الحرمة. ولكن يجب ألا يتكلم في هذا ومثله بحرمة العين وحلها بعد أن تكون الإباحة للضرورة؛ إذ لله أن يحل عينا محرمة في حال الاضطرار، وله أن يحرم عينها ويحل التناول منها للاضطرار. فالتكلم فيه فضل وتكلف. وباللَّه التوفيق.
أحدها: لأنه ظالم. وفي المنع عن التناول منها زجر عن الظلم، وفي إباحة التناول منها إعانة على الظلم، لذلك حرم عليه.
والثاني: أن القاتل عوقب عندما يأوي إلى الحرم بترك المؤاكلة والمشاربة والمجالسة إلى أن يضطر فيخرج عقوبة له. فكذلك هذا يحرم عليه التناول منه عقوبة له إلى أن ينزجر.
وقال: إنه قد استحق بالبغي على أهل الإسلام العقوبة العظيمة، ويعاقب بهذا أيضًا.
ثم من قول هذا الرجل في الباغي: أنه إذا أتلف أموال أهل العدل لا يتعرض له بها ولا يغرم. وكذلك العادل إذا أتلف أموال أهل البغي لا غرامة عليه.
ثم نقول لهذا المخالف لنا: إن الباغي المقيم يمسح يومًا وليلة، وإذا سافر لم يرخص له المسح. وهو في الحضر رخصة كهي في السفر. فما باله حرم إحدى الرخصتين على إباحة الأخرى مع وجود الظلم والبغي؛ فقال: لأن الضرورة طريق التناول فيه رخصة، لا ترخص الظالم، إذ هو تخفيف.
والأصل في المسألة أن الباغي على أهل الإسلام لا يأتمر بأحكام أهل الإسلام؛ إذ لو ائتمر أمر بالكف عن بغيه. وإذا لم يأتمر في ذا، لاشك أنه لا يأتمر في الثاني، ولا يؤمر بما فيه العبث، ولا يزجره التحريم عن التناول، إذ على العلم بحرمة البغي بغى ما اشتهت نفسه، فكيف ينتهي للحرمة فيما اضطرت إليه نفسه؟ ولم يملك الغلبة عليها في شهوتها إيثارًا لها، كذلك إنظارًا لها للكف لا معنى لإحداث الحرمة عليه ببغيه.
ثم المسألة في القدر الذي يجوز أن يتناول منها.
فعندنا: أن الإباحة كانت للاضطرار، فهو على القدر الذي له الدفع والإزالة، وذلك بدون ما فيه شدة المجاعة، وذلك الأصل في انتفاء الضرورة.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ): أي في الكتاب يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: أن كتموا ما في كتبهم من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله، وصفته.
ويحتمل: ما كتموا من الأحكام والشرائع من نحو الحدود والرجم وغير ذلك من الأحكام. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم.
وقوله: (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).
يحتمل وجهين:
يحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أوجب ذلك لهم في الآخرة أكل النار.
ويحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أكلوا في الآخرة عين النار.
وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
قيل: لا يكلمهم بكلام خير، ولكن يكلمهم بغيره، كقوله: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ).
وقيل: لا يكلمهم غضبًا عليهم؛ يقال: فلان لا يكلم فلانًا، لما غضب عليه.
قيل: استحبوا الضلالة على الهدى.
وقيل: اختاروا العذاب على المغفرة. وما قاله الكلبي فهو أحسن: أنهم اشتروا اليهودية -التي هي تحصل عذابًا- بالإيمان -الذي يحصل مغفرة- وقد ذكرنا هذا فيما تقدم أيضًا.
وقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).
قيل: فما أدومهم في النار.
وقيل: فما أصبرهم على العمل الذي يوجب لهم النار.
وقيل: فما أجرأهم على عمل أهل النار.
وقيل: ما أعملهم بأعمال أهل النار.
وقال الحسن: فما لهم عليها صبر ولكن ما أجرأهم على النار.
وقد يقال لمن يطول حبسه: فما أصبرك على الحبس. ألا على حقيقة الصبر، لكن على وجوده فيه.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
أي: خالفوا. وإلا قد اختلف أهل الإيمان والكفر، ولكن أراد - واللَّه أعلم - بالاختلاف: الخلاف، أي: خالفوا الكتاب ولم يعملوا به.
(لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)
قيل: لفي خلاف بعيد.
وقيل: لفي ضلال طويل.
وقيل: لفي عداوة بعيدة.
وقيل: حرف " البعيد " في الوعيد إياس؛ كأنه قال: لا انقطاع له.
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)قيل: (لَيْسَ الْبِرَّ) في نفس التوجه إلى ما ذكر دون الإيمان.
ويحتمل: (لَيْسَ الْبِرَّ) في ذلك، ولكن البر لمن يقصد إليه، إذ قد يقع ذلك لحوائج تعرض، تخرج عن القربة.
ويحتمل: (لَيْسَ الْبِرَّ) في التوجه إلى كذا، ولكن البر في الائتمار لأمره والطاعة له، والبر هو الطاعة في الحقيقة.
وقيل: (لَيْسَ الْبِرَّ) تحويل الوجه إلى المشرق والمغرب، (وَلَكِنَّ الْبِرَّ) ما ثبت في القلب من طاعة اللَّه وصدقته الجوارح.
وقيل: (لَيْسَ الْبِرَّ) أن تصلوا ولا أن تعملوا غير الصلاة. كل ذلك يرجع إلى واحد.
وجملته أن يقال: ليس البر كله ذلك، لكن ما ذكر، إذ ذلك الوجه هم استعظموه حتى قال اللَّه تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).
والثاني: أن يكون ذلك بنفسه ليس ببر، وإنما صار برًّا بالأمر به، أو بما ذكر من الإيمان والخيرات. فلمَّا زال عنه الوجهان سقط فعله أن يكون برًّا.
وقوله: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، بأنه واحد، لا شريك له. يعني صدق باللَّه بأنه واحد، لا شريك له.
(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، وصدق بالكتب، والملائكة، والكتاب، والنبيين.
وللبر تأويلان:
أحدهما: ما قيل.
والثاني: على الإضمار؛ كأنه قال: ليس البر بر من يولي وجهه، ولكن البر بر من آمن باللَّه، كما قال: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ
وقيل: أجعلتم صاحب السقاية كمن آمن باللَّه؟
وقيل: إن البر بمعنى: البار، يقول ليس البار من يحول وجهه قبل كذا، ولكن البار " من آمن باللَّه " الآية.
وقوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ).
قيل: أعطى على حاجته.
وقيل: على قلته آثر غيره على نفسه؛ كقوله: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
وقيل: (عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) أي ذوي قرابته.
وفيه دلالة أن الأفضل أن يبدأ بصلة قرابته، ثم اليتامى؛ لأن على جميع المسلمين حفظهم؛ ولأنهم أضعف، فيبدأ بهم قبل المساكين.
رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. قيل: فما المسكين يا رسول اللَّه؟ قال: الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس، ولا يفطن به فيتصدق عليه ".
قيل: هو الضيف ينزل بالمسلمين.
وقيل: هو المنقطع -حاج أو غاز- وقيل: هو المجتاز وهو واحد.
قوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ).
قيل: هم المكاتبون.
(وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)، ظاهر.
(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)
ويحتمل: العهود التي بينهم وبين الناس.
ويحتمل: العهود التي فيما بينهم وبين ربهم. وقد ذكرنا العهد من اللَّه تعالى -ما هو؟ - فيما مضى.
وفي حرف ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ عنه، (والموفين) على النسق على الأول.
قيل: إذا عاهدت عهدًا بلسانك تفي به بعملك وفعلك.
ثم ليس في القرآن آية أجمع لشرائط الإيمان من هذه، وكذلك رُويَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن الإيمان، فقرأ هذه الآية.
وهكذا رُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية.
وقوله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ).
قيل: في الآية تقديم وتأخير: " السائلين وفي الرقاب والصابرين ". وعلى هذا يخرج حرف ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه: " والموفين بعهدهم ".
وقوله: (الْبَأْسَاءِ).
من البأس، وهو الفقر.
(وَالضَّرَّاءِ).
(وَحِينَ الْبَأْسِ).
قيل: عند القتال.
وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا).
في إيمانهم، أنهم مؤمنون، وصبروا على طاعة ربهم.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
وقيل: الذين صدقوا في إيمانهم وأُولَئِكَ هم المتقون. رُويَ عن عمرو بن شرحبيل، أنه قال: " من عمل بهذه الآية فهو مستكمل الإيمان ".
قال الفقيه أبو منصور: تمام كل شيء باجتماع ما يزينه. ألا ترى أن المصلي إذا اقتصر على فرائضها لم يتم له؟!
* * *
قوله تعالى: وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩).
قيل: نزلت الآية في جيشين من العرب، كان وقع بينهما حرب وقتال، وكان لإحداهما فضل وشرف على الأخرى. فأرادوا بالعبد منهم الحر من أُولَئِكَ، وبالأنثى منهم الذكر. فأنزل اللَّه تعالى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى). وهي منسوخة؛ لأن فيها قتل غير القاتل. نسخها قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).
قيل: لا تسرف ولا تقتل غير قاتل وليك.
وقيل: لا تسرف في القتل، أي: لا تقتل أنت إذ هو منصور.
فثبت بهذا نسخها؛ إذ لم يؤذن بقتل غير القاتل.
وقوله أيضًا: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، ولا يحتمل نفس غير القاتل يقتل بنفس. دليله قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)، ولا يتصدق على غير القاتل. ثبت أنها منسوخة بما ذكرنا.
وفي الثاني: قال اللَّه تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، لما إذا هم بقتل آخر يذكر قتل نفسه، فيرتدع عن قتله، فيحيا به النفسان جميعًا، فلو لزم قتل غير القاتل لم يكن فيه حياة، إذ لا يخشى تلف نفسه.
ثم هذا يدل على وجوب القصاص بمن الحر والعبد، وبين الكافر والمسلم، إذ لو لم يجعل بينهما قصاص لم يرتدع أحد عن قتلهم، إذ لا يخشى تلف نفسه بهم. فدل أنهم يقتلون بهم. واللَّه أعلم.
هذا فيما يجعل الآية ابتداء، لا في الحيين، اللذين ذكرا به.
ثم يقال: ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم فيه وجعله شرطًا ونفيه في غير شكله. دليله ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ". ثم إذا زنى البكر بالسيب وجب ذلك الحكم، فدل أن ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص في الحكم، ولكن فيه إيجاب الحكم، في كل شكل إذا ارتكب ذلك وهو أن يقتل الحر إذا قتل آخر. والحرية لا تمنع الاقتصاص لفضله. وكذلك العبد إذا قتل آخر يقتل به، والرق لا يمنع ذلك للذل الذي فيه.
وكذلك الأنثى تقتل إذا قتلت أخرى، ولا يمنع ما فيها من الضعف في وجوب القصاص. وباللَّه التوفيق.
فَإِنْ قِيلَ: على عموم الاسم في أحدهما، وخصوص القول في الآخر.
قيل: ليس هكذا. لو كان في ذكر الوفاق في الاسم منع الحق عن ذلك الوجه المذكور إذ ذكر في الخلاف لم يدخل فيما ذكر في الوفاق ما ليس منه. فإذا دخل علم أن ذكر الوفاق في الخلاف في حق إدخال ما ليس من شكله بمحل واحد.
ثم يقال: إن نفس العبد للعبد في حق الجناية، لا للمولى. إنما للمولى في نفسه الملك والمالية، ألا ترى أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص أخذ به، ولو أقر عليه مولاه لم يؤخذ به. فدل أن نفسه له، لا للمولى. فكان كنفس الحر للحر. فيجب أن يقتل الحر به، إذ هو ساوى الحر في حق النفس، فيجب أن يسوى بينهما في حق القصاص.
وقال بعض الناس: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأنه أفضل منه. ثم هو يقول: إنه يقتل الذكر بالأنثى. وهو أفضل. وقال: إن القصاص إنما ذكر في المؤمنين. ثم قال بالعموم، وألزم قتل الكافر بالمؤمن، ولم يذكر في القصاص الكافر، وترك القصاص للكافر من المؤمن على عموم إيجاب القصاص على المؤمنين. فإذا جاز ترك القصاص، على ما ذكر فيه، وإدخال من لم يذكر في حق الاقتصاص، ما يجب إنكار مثله في الذي ذكر عقيب ذكر الحق؛ وهم بأجمعهم تحت الإيجاب مذكورين. ثم الإناث بالإناث مع اختلاف الأحوال يلزم القصاص، كيف لا لزم مثله في الأحرار؟
والأصل في هذا: ألا يعتبر في الأنفس المساواة. ألا ترى أن الأنفس تقتل بنفس واحدة. هكذا رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، " أنه قتل رجلًا بامرأة ". وروي أنه قتل سبعة نفر بامرأة، وقال: لو تمالأ عليها أهل صنعاء لقتلتهم. وقال: ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: لا يقتل مسلم بكافر ".
ثم قال صاحب هذا القول: لو أن كافرًا قتل كافرًا ثم أسلم القاتل يقتل به. فهو قتل
والمسلم أحق أن يقتل بالكافر من الكافر بالمسلم. وذلك أن المسلم هتك حرمة الإسلام بقتل الكافر؛ لأنه اعتقد باعتقاد دين الإسلام حرمة دم الذمي، وهو بقتله كمستخف بمذهبه.
وأما الذمي فإنه لا يعتقد باعتقاد مذهبه حرمة دماء أهل الإسلام، فهو ليس بقتل المسلم كمستخف بمذهبه، والمسلم كمستخف بدينه، على ما ذكرنا. لذلك كان أحق بالقصاص من الكافر.
ألا ترى أن من قتل في الحرم قتل به؛ لأنه هتك حرمة الحرم كالمستخف به.
وإذا قتل خارجًا منه، ثم التجأ إليه، لم يقتل به حتى يخرج منه؛ لأنه ليس كمستخف له، والأول مستخف؛ لذلك افترقا. فكذلك الأول. واللَّه أعلم.
والخبر عندنا يحتمل وجهين:
أحدهما: قيل: إن قومًا قتل بعضهم بعضًا في الجاهلية، فأسلم بعضهم، فأراد أُولَئِكَ أن يأخذوا من أسلم منهم بالقصاص، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقتل مسلم بكافر "، كما قال: " كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هذا ".
والثاني: أنه أراد بالكافر المستأمن؛ لأنه قال: " لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ". فنسق قوله: " ذو عهد " على المسلم، فكان معناه: لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد به. فكل كافر لا يقتل به ذو عهد في عهده لم يقتل به المسلم. فالذمي يقتل به ذو العهد، لذلك يقتل به المسلم. والمسلم إذا قتل مستأمنًا لم يقتل به. وكذلك الذمي. فدل
وقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).
اخنلف في تأويله:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو القاتل. إذا عفى له: معناه: عنه. فيتبع الولي بأخذ الدية بالمعروف، شاء القاتل أو أَبى.
احتج بما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في رجل اختصم إليه في قاتل أخيه، فقال: أتعفو عنه؟ قال: لا. قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا. قال: أتقتله؟ قال: نعم ".
عرض عليه الدية، ولو كان غير حقه لم يعرض عليه.
وقال في بعض الأخبار: " ولي القتيل بين خيرتين: بين قتل وأخذ دية ".
وأما عندنا: تأويل قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ليس هو القاتل؛ لأنه يكون معفوا عنه؛ ولأنه لا يتبع أحدًا وهو المتبع، بل هو الولي؛ لأنه هو المعفو له، لا القاتل، حيث أمر بالاتباع بالمعروف؛ كأنه قال: من بذل له وأُعطيَ من أخيه شيء فاتباع بالمعروف؛ وذلك جائز في اللغة؛ العفو بمعنى البذل والإعطاء، على ما قيل: خذ ما آتاك عفوًا صفوًا، أي فضلًا. وكذلك رُويَ عن عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)، أي: أُعطيَ له. والحق عندنا: هو القود، لا غير، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول "، وقد روي في بعض الأخبار: " إلا أن تفادى ". والمفاداة: هو فعل اثنين، فلا يأخذه إلا عن تراضٍ
وفي الآية دلالة: أن الحق: هو القصاص، لا غير، بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وأخبر أن المكتوب عليه والمحكوم القصاص، فلو كان الخيار بين القصاص والعفو وأخذ الدية -شاء أو أبى- لكن لا يكون مكتوبًا عليه القصاص، ويذهب فائدة قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وإنما كان يكون عليه أحدهما، كما لا يقال في الكفارة: بأن المكتوب عليه العتق، بل أحد الثلاثة. فلما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) دل أن أخذ الدية كان كالخلف عنه.
وما رُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال لولي القتيل: " أتعفو عنه "؟ قال: " لا ". فقال: " أتأخذ الدية "؟ قال: " لا ". إنما عرض عليه الدية، لما علم أن القاتل يرضى بذلك، على ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بغض زوجها. فقال لها: " أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، وزيادة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أما الزيادة فلا " وإنَّمَا قال لها ذلك لما علم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يرضى بطلاقها إذا ردت عليه حديقته؛ فعلى ذلك الأول.
ولو كانت لفظة " العفو " تعبر عن إلزام الدية ما أحوجه إلى ذكر الإشارة إلى العفو مرة، وإلى أخذ الدية ثانيًا؛ فثبت أن ليس للذي يعفو أن يأخذ الدية بالعفو.
وقيل في قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ): أصلها أنها نزلت في دم بين نفر يعفو أحدهم عن القاتل، ويتبع الآخرون بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه ذكر " الشيء "، والشيء: هو العفو عن بعض الحق. فألزم الاتباع للآخرين عند عفو بعض حقه؛ ثبت أن العفو لا يلزم الدية.
ورُويَ عن عمر وعبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم أوجبوا في بعض عفو الأولياء، للذين لم يعفوا - الدية، على ترك السؤال عمن عفا عنك عفوت بدية، ولو كان ثم حق ذكروه له؛ فدل أن العفو لا يوجب الدية.
ثم لا يخلو إما أن يكون حقه القصاص ثم له تركه بالدية؛ فهو إلزام بدل حق قِبَلَ آخر من غير رضاه، وذلك مما لم يعقل في شيء، أو كلاهما، فهو أيضًا كذلك، لا يكون أحدهما إلا باجتماعهما، أو أحدهما وهو مجهول؛ فالعفو عنه يبطل حقه، إذ العفو ترك. وقال: إن في أخذ الدية إحياء النفس التي أمر اللَّه بإحيائها، وفي الامتناع عن أداء الدية إليه والبذل له إذن بالقتل.
ومن قول الجميع: إن أحدا لو قال لآخر: اقتلني، أنه لا يعمل بإذنه. فإذا كان معنى الامتناع عن أداء الدية هو إذن بالقتل، لم يأذن له.
يقال له: أبعدت القياس والتشبيه؛ لأن فيما نحن فيه إذنًا بالقتل، وظهر الأمر به، وفيما ذكرت لم يظهر، حيث قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)، فأنى يشبه هذا بذلك ويقاس عليه؟ أو أن يقال: لو كان الأمر كما ذكرت لكان يجيء أن يكون الصلح على كل شيء ماله، وفيه تلف نفسه أن ليس له منعه.
ومن قول الجميع: إن له المنع وجائز وقوع الصلح على ما فيه تلف ماله. ثبت أن ما يقوم له وهم.
وبعد، فإن الذي ذكرت تدبير الحق عليه أن يفعل، لا تدبير الإلزام. ولو كان ذلك لازمًا، لكان يقتله ببذله نفسه فيغرم فاعل ذلك؛ وهذا كما يغني الرجل بشراء ما به قوام نفسه عند الضرورة إلا أن يلزم لو أبى ذلك، فمثله ديته، بمعنى أن في ذلك تلف نفس تلك قيمته، فمثله الأول.
وما روى في التخيير بين أخذ الدية، وما ذكر فهو - واللَّه أعلم - على بيان الحل والرخصة على ما قيل: إن من حكم التوراة القتل، ولا يجوز لهم العفو ولا أخذ الدية، ومن حكم أهل الإنجيل العفو، لا يقتل بالقصاص، ولا تؤخذ الدية، فحكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على أهل القرآن: أن جعل لهم القتل مرة، والعفو ثانيا، وأخذ الدية تارة؛ فدل أنه يخرج مخرج بيان الحل والرخصة. إذا طابت به نفس من عليه ذلك يبذله إذا طلب، ولا يوجب قطع الخيار من الآخر. ولهذا ما نقول في قوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقوله في التخيير في الكفارة: إن ذلك إلى من عليه، لا إلى من يأخذ.
إذ الحق هاهنا من جانب واحد. فيجعل الخيار إلى من عليه إذا كان من كلا الجانبين يعتبر
وقوله: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).
لما ذكر من إباحة العفو في حكم القرآن، ولم يكن في حكم غيره من الكتب، وأخذ الدية أو القتل، ولم يكن في حكم التوراة والإنجيل إلا واحد.
ويحتمل: أن كان في التوراة هذا أو هذا كما قال: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). واحتمل أنه ذكر القود شرعًا لنا، وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ)، لنا خاصة.
وقوله: (وَرَحْمَةٌ).
فيه دلالة ألا يقطع صاحب الكبيرة عن رحمة اللَّه؛ لأنه أخبر أن التخفيف رحمته في الدنيا، فإذا لم يوفِهم في الدنيا من رحمته فلا يوفيهم في الآخرة منها.
وفي قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، دلالة ألا يزول اسم الإيمان بارتكاب الكبيرة؛ لأنه سماه أخا من غير أخوة نسب؛ دل أنه أخوة في الدِّين لأنه سماه أخًا. وكذلك قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا)، أبقى لهم اسم الإيمان بعد البغي والقتل. دل أن ارتكاب الكبيرة لا يخرجه من الإيمان.
وهذا يرد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة أخرجته من الإيمان، وما ذكر من التخليد في قتل العمد يخرج على وجهين:
أحدهما لاستحلال قتله، أو يتغمد ديته، وإلا فيخرج الآيتان على التناقض في الظاهر لو لم يجعل على ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
قيل: من اعتدى على القاتل بعد ما عفى عنه، أو بعد ما أخذ الدية.
وقيل: (بَعْدَ ذَلِكَ)، أي: من بعد النهي عن قتله.
وقيل: إذا أرى من نفسه العفو، ثم أخذ الدية، ثم أراد قتله، فهو الاعتداء. ثم اختلف بعد هذا بوجهين:
قال قوم: إذا فعل ذلك يترك القصاص فيه للعذاب المذكور في الآخرة: وقال
وجائز عندنا: أن يكون العذاب الأليم في الدنيا، إذ لم يخلق شيء من العذاب أشد من القتل؛ إذ القتل هو الغاية من الألم والوجع. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
قيل: فيه بوجهين، وإلا فظاهر القصاص لا يكون حياة، لكن قيل: من تفكره في نفسه قتلها إذا قتل آخر ارتدع عن قتله، فتحيا النفسان جميعًا.
والثاني: من نظر فرأى آخر يقتل بغيره امتنع عن قتل آخر ففيه حياته أو تذكر أنه مقتص منه إذا قتل حمله حبه في إحياء نفسه على أن يرتدع عن قتل كلٍّ، ففيه الحياة للأنفس جميعًا؛ ولهذا نقول بوجوب القصاص في الأنفس كلها وإن اختلفت أحوالها، إذ لو لم يجعل بين الأنفس على اختلاف الأحوال قصاص لم يكن في القصاص حياة. فأحق من يجعل فيه القصاص عند مختلف الأحوال لما يغضب الشريف على الوضيع فيحمله غضبه على قتله، فجعل القصاص، أو لما يستخف به.
وأما الوارث لما يطمع وصوله إلى مورثه فيحمله على قتله، فسبب القتل ليس ما يذكر، لكنه شدة الغضب، وفي المواريث زيادة، وهو ما يصل إلى ماله، وفي الكافر من استخفافه بدينه من المقتول، فطلب فيه المعنى الذي فيه الإحياء وهو حرمان الميراث؛ فعلى هذا التقدير يقتل المسلم بالكافر؛ لأن المسلم قد يستخف بالكافر في دار سلمه، فيحمله استخفافه إياه على قتله. ففيه معنى يدعو إلى الفناء، فيجب أن يقتص من المسلم بالكافر لتحقيق معنى الحياة. وعلى هذا التقدير يقتل الحر بالعبد؛ لأن الحر يستخف بالعبد، فيدعوه استخفافه به على قتله، فهو يقتل به.
أو نقول: يقتل الولد بالوالد لما يستعجل الوصول إلى ملكه، فيحمله على قتله؛ فلزم حفظ ما لأجله الحياة، ثم في الوالد شفقة ومحبة تمنع الوالد عن قتل ولده؛ لذلك انتهى عنه القصاص، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يقاد الوالد بولده ". وباللَّه التوفيق.
وأما الولد فإنما يحب والده له لنفسه ومنافع له. فإذا كان الولد له لم يقتص منه.
* * *
قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢).
وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
تكلموا فيه بأوجه:
قيل: إنه منسوخ بما بين عَزَّ وَجَلَّ في آية أخرى من حق الميراث.
ومنهم من قال: لم ينسخ.
ثم قيل: فيه بوجهين:
قيل: إنه قد كان ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد في الإسلام، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه. فقوله: (كُتِبَ) إنما وقع على من كان لا يرث.
ومنهم من يقول: بأنها كانت للوارث ولم ينسخ، وإنما يقع الأمر في غير من يرث ممن ذكر. لكن في ذلك ذكر (كُتِبَ)، وذلك إيجاب.
ولا يحتمل أن يفرض عليهم صلتهم مع التحذير عن اتخاذهم أولياء بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) وقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)، وفي إلزام الفرضية من حيث المعروف إبقاء الموالاة وإلزام المحبة، وقد حذر وجود ذلك؛ فثبت أن الآية فيمن يتوارثون اليوم لكنها نسخت. واللَّه أعلم.
ومنهم من يقول: لا، ولكنه وقع على من كان يرث وعلى من كان لا يرث بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ)، فهو كان مكتوبًا عليهم مفروضًا في حق الوصاية.
ثم من رأى نسخه استدل بقوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، ذكر فيه الوصاية على بيان كل ذي حق حقه. فليس الذي أوصى اللَّه يمنع وصايته التي كتب عليهم. لكن في الآية دليل لم ينسخ بهذه لوجهين:
أحدهما: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ). فهو وصيته ذكره كذكر الوصاية في الأول، ففيه جعل حق كالحق المجعول لهم إذا لم يذكر ذلك الوصية مع الميراث ثم نفاه.
والوجه الآخر: أنه قال: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، فجعل حكم الإرث على ذكر الوصية، والإرث بعد الوصية؛ فبانَ أن لها حكم البقاء.
ثم قيل: فيه بوجهين:
قال قائلون: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، لم يكن ميراثًا، ولا هو
ومنهم من جعل ذلك فيمن كان وارثًا. فورود البيان من بعد يقطع عنه المكتوب له.
ثم من الناس من ادعى نسخ هذا بقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)، ولو جعل الوصية له ما جعل اللَّه لهم فيه من النصيب خص به الكثير دون القليل؛ فثبت أن ذلك (الكتاب) رفع عنهم مما جعل لهم الحق في الذي قل أو كثر.
ثم الوجه فيه عندنا: فهو أنه إن لم يكن نسخ بهذه الآيات، على ما قاله بعض الناس، فهو منسوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". فبين أنه قد كان أعطى ذا حق حقه على رفع ما كانت لهم من الوصاية فيه.
ثم اختلفوا في الخبر الذي روي: " إن اللَّه تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ".
قال قائلون: فلا يجوز ورود النسخ على الآية؛ إذ السنة لا ترد على نسخ الكتاب.
وقال آخرون: لا، ولكنه من أخبار الآحاد. وأخبار الآحاد، على قولكم، لا ترد على نسخ خبر مثله، فكيف على كتاب رب العالمين؟
فأما الأول -في أن السنة لا تعمل في نسخ الكتاب-: فقد سبق القول فيه، أن الذي حملهم على هذا هو جهلهم بموقع النسخ، وإلا لو علموه ما أنكروه. وهو ما قلنا: إن النسخ بيان منتهى الحكم إلى الوقت المجعول له.
فأما من قال: بأنه من أخبار الآحاد، فإن الأصل في هذا أن يقال: إنه من حيث الرواية من الآحاد، ومن حيث علم العمل به متواتر.
ومن أصلنا: أن المتواتر بالعمل هو أرفع خبر يعمل، إذ المتواتر المتعارف قرنًا بقرنٍ مما عمل الناس به لم يعملوا به، إلا لظهوره، وظهوره يغني الناس عن روايته، لما علموا خلوه عن الخقاء.
ولهذا يقول في الخبر الذي جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع "، فترد به الخبر المروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه من أخبار الآحاد. هو من حيث
فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شيء علموا كله من كتاب أو سنة غير ما ورد، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة، فكذا هذا، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به؛ فلهذا قضينا بنسخه. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
قيل فيه بوجهين:
يحتمل: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) هذه الوصاية المكتوبة للوالدين، إن كان هذا أراد بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية، فإنما إثمه عليه.
ويحتمل: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) الوصية (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) ومن الموصي (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).
ثم يحتمل بعد هذا وجهين:
يحتمل: أنه أراد تبديل الوصي بعد موت الموصي.
ويحتمل: تبديل من حضر الوصي ذلك الوقت من الشهود وغيره.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) أي: سميع لمقالته ووصايته. و (عَلِيمٌ) بجوره وظلمه، أو (عَلِيمٌ) بتبديله. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
يحتمل: (فَمَن خَافَ) أي: علم من الموصي ظلمًا وجورًا على الورثة بالزيادة على الملث، (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تبديله ومنعه ورده إلى الثلث وقت وصاية الموصي.
ويحتمل: (فَمَن خَافَ)، أي: علم من الموصي خطأ وجوزا بعد وفاته بالوصية، (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تبديله ورده إلى ما يجوز من ذلك ويصح، وهو الواجب على الأوصياء أن يعملوا بما يجوز في الحكم، وإن كان الموصي أوصى بخلاف ما يجيزه الحكم ويوجبه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وكان صرف (الخوف) إلى (العلم) أولى؛ إذ هو تبديل الوصية وقد نهى عنه وأذن به للجور، فإذا لم يعلم فهو تبديل بلا عذر، وقد يخفف للخوف حق العلم إذا غلب الوجه فيه، كما أن أذن للإكراه إظهار الكفر، وذلك في حقيقته خوف عما في التحقيق على العلم بغلبته وجه الوفاء في ذلك.
وقوله: (فَأصلَحَ بَينَهُم)، يعني بين الورثة بعد موت الموصي، ورد ما زاد على الثلث بين الورثة على قدر أنصبائهم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، لجور الموصي وظلمه إذا بدل الوصي ذلك ورده إلى الحق.
ويحتمل: (غَفُورٌ رَحِيمٌ)، لمن رد على الموصي جنفه وميله في حال وصايته. والله أعلم.
والأصل في أمر الوصاية للوارث، أن آيات المواريث لم تكن نزلت في أول ما بهم حاجة إلى معرفة ذلك، فيجوز أن يكون في الابتداء كانت الوصايا بالحق الذي اليوم هو ميراث، يبين ذلك ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ابنتي سعد، الذي قتل بأُحدٍ، وقد كان استولى عمهما على ميراثه، فسألت أمهما عن ذلك، فقال: لم ينزل فيه شيء. ثم دعاهما، وأعطاهما ما بَيَّنَ
وكذلك كان للنساء الحول في تركة الأزواج وصية لهن؛ فعلى ذلك كان الأمر بالوصية، فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) كالمبين بما كان قد أوجب التبيين على الميت، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث "، ومما يبين ذلك أنه معلوم أن تكون الوصية للوارث ليست تثبت فيما هي له؛ لأنه اليوم فيكون حصول الوصية بنصيب بعض الورثة على ذلك الوجه لا يجوز وصية الميت لأحد، فكذلك للورثة. وهذا يبين أنها كانت في وقت لم يبين الميراث، فلا يكون الوصية لمن تثبت له وصية بنصيب غيره في التحقيق، فكان يجوز، ثم بطل ببيان السنة، إذ ليس في متلو القرآن حقيقة ذلك، وإنما يكون بحق الانتزاع منه والنسخ، ومعناه بالانتزاع أبعد عن الاحتمال منه بالسنة. ولا قوة إلا باللَّه.
ثم حق التواتر عندنا يقع بظهور العمل بالشيء على غير ظهور المنع منهم، والتكثير
قال الشيخ، رحمه الله، وكان صرف الخوف إلى العلم أولى، إذ هو تبديل الوصية، وقد نهي عنه، وأذن به للجور. فإذا لم يعلم فهو تبديل بلا عذر، وقد [ يخف لخوف ]١ حق العلم إذا /٢٧-أ/ غلب الوجه، كما أذن للإكراه إظهار الكفر، وذلك في حقيقته خوف عما في التحقيق على العلم بغلبة الوفاء في ذلك.
وقوله :( فأصلح بينهم ) يعني بين الورثة بعد [ موت ]٢ الموصي ورد ما زاد على الثلث بين الورثة على قدر أنصبائهم.
وقوله :( إن الله غفور رحيم ) لجور٣ الموصي وظلمه إذا بدل الوصي ذلك، ورده إلى الحق، ويحتمل :( غفور رحيم ) لمن رد على الموصي جنفه وميله في حال وصايته، والله أعلم.
والأصل في أمر الوصاية للوارث أن آيات المواريث لم تكن نزلت في أول ما بهم حاجة إلى معرفة ذلك، فيجوز أن يكون في الابتداء كانت الوصايا بالحق الذي اليوم هو ميراث ؛ يبين ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنتي سعد [ بن الربيع ]٤، قتل بأحد، وقد كان استولى عمهما على ميراثه، [ فسألت أمهما ]٥ عن ذلك، فقال : " لم ينزل في شيء " ثم دعاهم، وأعطاهم ما بين الله في كتابه في قوله :( يوصيكم الله ) الآية [ النساء : ١١ ]. وكذلك كان للنساء الحول في تركة الأزواج وصية لهن. فعلى ذلك [ كان ]٦ الأمر بالوصية، فقال الله عز وجل ( يوصيكم الله ) كالمبين بما كان أوجب التبيين على الميت، فقال :[ رسول الله ]٧ " إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " [ الترمذي : ٢١٢١ ]. ومما يبين ذلك أنه معلوم أن تكون الوصية للوارث ليست تثبت فيما هي له، لأنه اليوم، فيكون حصول الوصية بنصيب بعض الورثة. [ وعلى ]٨ ذلك الوجه لا يجوز وصية الميت لأحد، فكذلك للورثة، وهذا يبين أنها كانت في وقت لم يبين الميراث، فلا تكون الوصية لمن يثبت له ميراث٩ بنصيب غيره في التحقيق، فكان يجوز، ثم بطل ببيان السنة ؛ إذ ليس في متلو القرآن حقيقة ذلك، وإنما يكون ذلك بحق الانتزاع منه والنسخ، ومعناه بالانتزاع أبعد عن الاحتمال منه بالسنة، ولا قوة إلا بالله.
ثم حق التواتر عندنا يقع بظهور العمل بالشيء على غير ظهور المنع منهم والتكثير عليهم بالفعل١٠. وفي هذا وجود ذلك من طريق الفعل١١.
ثم القول أيضا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع ظهر فيهم ما قد ذكر الله في المواريث :( غير مضار وصية من الله ) [ النساء : ١٢ ]، وتخصيص الورثة قصد مضارة بغيرهم١٢ واستعمال الرأي فما قد تولى قسمه على غيره الذي قسم، والله أعلم.
٢ - من ط ع و م، ساقطة من الأصل..
٣ - من ط ع و م، في الأصل: لجواز..
٤ - ساقطة من النسخ الثلاث، انظر سنن الترمذي ٤/٤١٤ باب ما جاء في ميراث النساء، رقم الحديث (٢٠٩٢)..
٥ - في الأصل و م: أيهما في ط ع: أيتهما..
٦ - من ط ع و م، ساقطة من الأصل..
٧ - من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
٨ -الواو ساقطة من ط ع..
٩ -في النسخ الثلاث: وصية..
١٠ - من ط ع، في الأصل و م: بالفعل..
١١ - من ط ع، في الأصل و م: بالعقل.
١٢ - في النسخ الثلاث: بغيره..
ثم القول أيضًا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع ظهر فيهم مع ما قد ذكر اللَّه في المواريث: (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ)، وتخصيص الورثة قصد مضارة بغيره، واستعمال الرأي فيما قد تولى قسمه على غير الذي قسم. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥).
هَؤُلَاءِ الآيات فيهن فرضية بقوله: (كُتِبَ)، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار لعذر والأمر بالقضاء، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، أي يريد بكم الإذن لكم في الفطر للعذر، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة في القضاء معنى، وفي ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء. وعلى ذلك إجماع الأمة.
ثم بين عَزَّ وَجَلَّ أن لم تكن هذه الأمة بمخصوصة في الصيام، بل هي أحق من فيهم
يحتمل: العذر الذي كتب عليهم.
ويحتمل: الفرضية في الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك؛ ولذلك اختلف في (الكاف) في قوله: (كما) - أنها زائدة، أو حقيقية.
ثم اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام: فمن الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، من جعله صوم عاشوراء وأيام البيض. ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر.
ورُويَ عن جماعة في أمر صوم عاشوراء: أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر، فلم
وأصل هذا أنه كان يصام، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض فأبدل ذلك بصوم الشهر، فارتفعت عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء لم يكن معه فرضية القضاء، وبقي الفصل فيه؛ النسخ لم يكن من حيث نفس الصوم، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ولا يصوم. فثبت أنه في نسخ الفرضية. فبقي فيه حق الأدب والفضل، وتبين النسخ الصوم إذ مثله، وإن ذلك غير صوم الشهر الذكر في صوم الشهر بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا...) الآية. إذ ذلك كان غير موضع الشهر، ولو كان الكل واحدًا لكان الذكر في موضع منه كافيًا عن الإعادة؛ فثبت أنه على تناسخ الصيام. وقد روي عن معاذ رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " أحيل الصيام ثلاثة أحوال ". وبين الخبر على وجهه في ذلك.
ويحتمل: أن يكون المراد منه صوم الشهر، ويكون تكرار الذكر في الرخصة لمكان رفع الفداء، أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير، أو التحريض على حفظ العدد. والله الموفق.
وأي ذلك كان؛ فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك؛ لأن كيفية الابتداء لم تكلف،
ثم قد خاطب جل ثناؤه بالصيام من قد آمن بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فكان فيما خاطب وجهان:
أحدهما: أنه خاطب المؤمنين فعرف المخاطبون أن الاسم يذكرهم؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن خروجه من حكم الآية، من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم، وكذلك سائر عبادات الأفعال.
وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قربًا.
وفيه إذ لم يقل: يا أيها الذين، قلتم: نحن مؤمنون به صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، دلالة ظاهرة على هجر هذا القول، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم، كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد. واللَّه أعلم.
والثاني: أن اللَّه تعالى خص بالعبادات المؤمنين، وأنهن لا يلزمن غيرهم وإنما يلزم غيرهم فيها الاعتقاد، لا الأفعال التي هي تقوم بالاعتقاد، وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التي توجب بإيجاب أفعال بها تقوم، بل له أوجب غيره.
ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات؛ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه، لا لغيره.
ثم لا قيام لغيره مع عدمه؛ ثبت أن المعنى الذي به يصير المرء أهلًا لاحتمال فعل العبادات، لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك. وله وجهان يحيلان الأمر أيضًا: أحدهما: العقل، أنه من البعيد أن يكون من لم يقبل العبودية، ولا أقر بالرسالة تؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة، بل يقول: ألزمونا الأول، حتى يكون الثاني، وهو كما أحال الناس المناظرة في الرسل مع منكري الصانع والمرسل، فمثله الأول، بل يجب كل قربة به؛ إذ لا يكون إلا به. واللَّه أعلم.
والثاني: القول بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء. ثم لذلك وجهان من المعتبر:
أحدهما: بأنهم إذا لم يدخلوا في خطاب القضاء، بما ليس معهم في الحال ما يحتمل معه القضاء، فكذلك خطاب الابتداء؛ إذ هو الذي به لزم القضاء في الإسلام. والله
والثاني: أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام، ولا يجوز الابتداء في حاله. فكان ذا تكليف لم يجعل اللَّه للمكلف وجه القيام، وقد تبرأ اللَّه عن هذا الوجه من التكليف بقوله عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا)، مع ما بين اللَّه تعالى بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أن ما للكافر التمتع في الدنيا، لا العبادات في ذلك. واللَّه الموفق.
فثبت بالآية التي ذكرنا جميع المؤمنين في الخطاب؛ إذ بين الرخصة لِذِي العذر في الإفطار على وجوب القضاء فإذ لم يحتمل خروج من له العذر في الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء، ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ولا يسعه الفطر، وعلى هذا جاء ممن ابتلي بالجماع نهارًا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أكد عليه الأمر وألزم الكفارة على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض ولا مسافر، فكان في ذلك دليل تأكيد الفرض، وفي ذلك إيجاب الكفارة لتعديه على الصيام على حال لا يحتمل الإرخاص، إذ قد كان تلك البلية في الليالي، فلم يُؤمَروا بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم لولا النوم، وفي ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين.
ثم قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (١٨٥)
والشهر اسم للكل، ولو كان المراد راجعًا إليه لكان الصيام في غيره؛ لأنه عند هجوم غيره يتم شهوده، ثم يتناقض؛ لأنه قال: (فَلْيَصُمْهُ)، ومحال أن يصوم في غيره ابتداء؛ فرجع التأويل إلى أن من شهد منكم شيئًا من الشهر (فَلْيَصُمْهُ). فمن اعترضه الجنون
وقد رُويَ عن مُحَمَّد، رحمه اللَّه، على هذا: أن من أدرك مجنونًا ثم أفاق في بعض الشهر، أنه لا يقضي ما مضى، على ما ذكرت.
وعن أبي حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أنه يقضي، إن كان في أول الشهر بالغًا، لما أخبرت أن صيامه لم يجز لعدم النية، والصبي والكافر بنفسه، ومن فوته لعدم النية، فهو داخل في حكم فرضه، فعليه القضاء. واللَّه الموفق.
ومن جن الشهر كله لا يقضي لشرط الشهود، وهو لم يشهد شيئًا منه مع إمكان الإسقاط بدليل آخر، وإن كان حق الخطاب في الظاهر قد اقتضاه على مثل المريض الذي لا يصح، والمسافر الذي لا يقيم. واللَّه الموفق.
وفي قوله: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، دلالة أن ابتداء الآية في غير صوم الشهر؛ إذ صوم الشهر يحفظ بالأهلة لا بالأيام، لكن اللَّه تعالى إذ علم الأمر الظاهر في الخلق أنهم يعدونه بالأيام وإن كان لهم عن ذلك غنى.
وقد رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابع يديه كلتيهما، وعقد أصبعًا منها في آخر المرات ".
وجاء عن غير واحد أنهم قالوا: " ما كنا نصوم على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تسعة وعشرين أكثر مما نصوم ثلاثين ". فجائز ذكر قوله: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، يعني يعدها الخلق.
واللَّه الموفق.
أو (تَتَّقُونَ) نقمة اللَّه في الآخرة، ومخالفته في الفعل في الدنيا. وقد جعل اللَّه جل ئناؤه عباداته أعوانًا للمعتادين بها على الكف عن المعاصي، والخلاف لله في الشهوات، فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، وغير ذلك. واللَّه الموفق.
والأصل: أن العبادات تذكر أصحابها عظم أحوالهم في أوقات فيها من المقام بين يدي الجبار، وتطلعهم على الموعود لهم في الميعاد. وهما أمران عظيمان:
أحدهما: في الزجر بما يعلم من عظم المقام واطلاع الواحد القهار عليه.
والثاني: في الترغيب بما يشعر قلبه من لذيذ الموعد ما يضمحل لديه كل لذة دونه، وتنقطع شهواته التي بينه وبين ما وعد، واللَّه أعلم.
ثم قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... (١٨٤) الآية، من غير
أن ذكر فطرا، فلا أشار إلى ما ذكر من السفر والمرض اللذين جعلا له تأخير الصيام إلى أيام أخر، ولا أشار إلى أعين تلك الأيام.
وكذلك قال مثله فيما كان عرف الوقت لابتداء الصيام بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) على أثر المعرف له بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، لكن الفطر يعرف أنه مضمر فيه بالعقل والسمع:
فأما السمع: فما جاء من الآثار في الإذن بالإفطار للسفر والمرض؛ دل أن في ذكر
العدة (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) إضمار فطر. واللَّه أعلم.
والعقل: أن اللَّه تعالى جعل المرض والسفر سببي الرخص، فلا يجوز أن يصيرا سببي زيادة فرض على ما كان قبل اعتراضهما، على أن قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) دليل أنه لو كان يلزم القضاء مع فرض فعل الصوم لكان ذلك عسرًا وحرجًا في الدِّين، وقد أخبر اللَّه تعالى أنه ما يجعل علينا الحرج في الدِّين.
وعلى ذلك قال بعض الناس: يلزمهما القضاء إن أفطرا أو لا، محتجا بما لم يذكر في القرآن الأنطار، وذكر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) كأنه جعل الوقت لهما غير الذي هو لغيرهما.
يؤيد ذلك المرُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الصائم في السفر كالمفطر "،
ولكن الآية عندنا على الإضمار، وعلى ذلك يجري ذكر الرخص على إئر ذكر الحضر، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) من غير ذكر الأكل أنه على إباحته.
وقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) ولم يذكر منه الإحلال، لكنه معلوم أنه على الشك ما لم يوجد؛ إذ لا يكون العذر سبب الزيادة في الفرض. وكذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ...) الآية وذلك على إطلاق الحلق، ثم يلزمه الفداء؛ لأن الأذى والمرض يلزمانه. فمثله الأول.
ثم الأصل: أنه لا أحد يلزم فرض صيام الشهر في غيره إذا لم يدرك الشهر، وقد أمر من نحن في ذكره؛ فبان أنه لزمه بإدراك الشهر لإدراك وقت الإمكان بلا عذر. وقال: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وقال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وليعلم أن الذي يلزمه بالشهر في أوقات الإمكان. وذلك على ما يلزم الإحداث الطهارة لأوقات عبادة لا تقوم دونها، وفعل الجنابات لأوقات الحلول وإن تأخرت فمثله أمر الشهر.
دليله ما بينا، وما ثبت عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن صحابته: فعل الصيام في ذلك الوقت والفطر جميعًا؛ ثبت أن الصوم يجوز على المرض والسفر؛ إذ هما لأنفسهما لا يناقضان الصيام بما جاز معهما، وقد أمر به المتمتع وهو المسافر، أن ليس ذلك على حاضري المسجد الحرام، وذابح الصيد والمبادئ بهما لا يضادان الصيام، ثم كان القضاء عن الشهر بظاهر التلاوة؛ فبان أنه يجوز فيهما.
والخبر على من يجهده الصيام حتى خيف عليه، وكذلك ما جاء من الآثار: " أن ليس من البر الصيام في السفر ". واللَّه أعلم.
وعلى هذا يخرج قول أصحابنا في المكره على الفطر: أنه إن كان مريضًا أو مسافرًا
وقد فرق بين ذي بدل وما لا بدل له، نحو إتلاف مال آخر، وأكل الميتة، ولأن علته الاضطرار وليست علة الفطر في السفر تلك، إذ قد يجوز، لا له، فهو عذر النفس، لا ضرورة النفس؛ فكأنه غير معقول العلة، وفيه تعظيم الدِّين. وليس في أكل الميتة وما ذكر. ولا قوة إلا باللَّه.
ثم السفر الذي له الرخص: أجمع أنه لم يرد به المكان، لما جاء الفطر في الأمصار، ثبت أنه لنفس السفر.
ثم كان السفر - حقيقته الظهور والخروج عن الأوطان، وقد يكون مثله في الخروج عن الأوطان إلى الضياع ونحوه، ولم يؤذن في الفطر؛ ثبت أنه راجع إلى الحد، وعلى ذلك متفق القول.
ثم كان الحد المرخص عندنا: الخروج على قصد سفر ثلاثة أيام لخصال ثلاث:
أحدها: الإجماع على أن هذا الحد مرخص ودونه تنازع. والتنازع يوجب النظر؛ لا الفتوى بالرخص، وفي ذلك أمر بفعل الصيام.
والثاني: مجيء الخبر من وجهين:
أحدهما: في تقدير مسح السفر بثلاثة أيام، ومعلوم أنه جعل للسفر حدا ووقتًا لفعل رخصة المسح وأوقات الأفعال على اختلافها. يتفق على أنها لا تقصر عن احتمال الأفعال على الوفاء، وليس بما لم يدخل الليالي في حق السفر عبرة؛ لأن الأسفار وإن كانت مؤسسة: على قطع الطرق والسير فيها، فإن دوام السير يجحف صاحبه ويهلكه، وفي ذلك منع السفر؛ ثبت أن أوقات السعي والسير مشترطة داخلة في حق السفر.
لذلك صارت الليالي كالمعفوة، فتكون محيطة بما فيها من فعل المسح.
والثاني: ما جاء من الأثر في النهي عن سفر ثلاثة أيام إلا لمحرم. وهو المنهي لما
والوجه الثالث: أن السفر عذر، والنهايات في الأعذار الثلاث، فكذلك بالأيام؛ إذ بها يسافر. وقال موسى عليه السلام: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦).
وأما المرض فلم يجز أن يكون اسمه سببًا للرخصة؛ إذ ربما كان المرض يخفف الصيام ويسهل عليه سبيل فعله.
ومن البعيد الترخيص بما يسهل فيه الفعل، والتضييق لما يشتد؛ فثبت أنه ليس لاسم المرض. وعلى ذلك الإجماع فهو - واللَّه أعلم - لما يخاف أن يزداد له بترك الأكل الداء، ويقبح على المرء اكتساب الداء وتعاطي الضارية، فرخص له الفطر بذلك، وذلك معنى البشرية، إذ به تخفيف ما به أو منع، أو ما يعتريه من الضرر، ولهذا ما رخص أصحابنا لمن به رمد يخاف الزيادة فيه.
وقد رُويَ عن أنس بن مالك، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يفطر المريض
وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ).
قال قائلون: يطيقون الفداء. وذلك في الأمر الأول في المسافر والمريض أن له أن يقضي في أيام أخر، وأن يفدي. وفيه: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، أي: أن تقضوا الصيام - واللَّه أعلم - إذ قد يحتمل أيضًا أن كانت الرخصة من قبل فيمن عليه بالخيار بين أن يصوم وبين أن يفدي، والصوم خير على ما ذكر في الآية، ثم نسخ ذلك، إن كان على التأويل الأول بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...) الآية، أنه ألزم القضاء على كل حال، وإن كان الثاني فقوله: (فَلْيَصُمْهُ)، أنه ألزم الفعل على حال، وبمثل ذلك خبر معاذ في إحالة الصيام: أنه كان للمرء خيار بين الفطر والفداء وبين الصيام، ثم نسخ.
في قوله: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) على أثر ذكر السفر والمرض دلالة جعل الصيام في السفر خيرًا من الفطر والفداء في غيره، وإن احتمل الذي ذكرت. واللَّه أعلم.
وعلى ذلك معتبر القول في الشيخ الفاني الذي لا يقوم للقضاء أن له الفطر والفداء؛ لأن الصوم قد ثبت أنه يحتمل الوفاء بالفداء لكن نسخ بالصيام، فإذا ارتفع الصيام بالعجز عمن يحتمل الخطاب بعبادات الأموال وهم المشايخ، جاز أن يخاطبوا بالصيام ليخرجوا عنه بالفداء. وعلى ذلك ما جاء في الأثر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالأمر بالصيام عن الميت، أنه الصيام الذي هو صيام من لا يحتمل فعله وهو الفداء. واللَّه أعلم.
وقد قرئ (يُطَوَّقُونَهُ) بمعنى يُكلَّفونه، ولا يطيقونه، لكن في الآية (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ولو كان " لا يطيقونه ": لا يرغبون فيه، إلا أن يشترط فيه طاقة الجهد. والله أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا).
من زيادة فداء، وما يستزيد من الخيرات التي لم يفترض ليعوَّد به الخير. أو (تَطَوَّعَ) فيما أذن له في الفداء بالصوم. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
أضاف عَزَّ وَجَلَّ الفعل إلى الشهر بقوله: (فَلْيَصُمْهُ)؛ فلذلك إذا قصد به صوم الشهر جائز الصوم وإن لم ينو الفرض سوى ما ذكرنا. وكذلك سائر الفرائض نحو الظهر والعصر ينوي ذلك، فيكون ذلك على ما جعله اللَّه من فرض وإن لم ينو الفرض. ولا قوة إلا باللَّه.
وعلى ذلك من نوى بالصيام غير صيام الشهر جائز عن صيام الشهر، لما أمرنا بصيام الشهر ولم نؤمر بأن نجعل ذلك لشيء سواه، والشهر موجود لنفسه لا يحتاج صاحبه إلى أن يوجده كان من ذلك على كل حال. وكذلك كل حق معين في شيء لم يزل عنه نيته إلى غيره؛ كمن يأمر إنسانًا بشراء شيء بعينه لم يتحول عنه بالنية، على أن ذلك كالظهر والعصر ونحو ذلك؛ فيحال على تحقيق ذلك قصد غير، وبعد فإن كلا يجمع ألا يجوز غير؛ فثبت أن استحقاق الشهر بصومه لا يستحق عليه غيره من الصيام فجاز عنه.
وعلى ذلك أجاز أبو حنيفة في السفر غيره، من حيث أذن له في تأخير هذا، أو غيره فرض عليه نحو صوم الظهار والقتل، ولا رخصة له في تأخيره، فجاز فيه؛ إذ هو وقت صيام حول إلى وقت غيره، فصار هذا الوقت بالحكم لغيره، وليس كنية المتطوع؛ لأنه في موضع الرخصة وفي العمل به وقد يكون له مقدار التطوع من الفضل على غيره فهو أولى به. ولما قد يجوز النفل بلا نية نفل، فكأنه لم ينو النفل. فهو رجل لم يعمل برخصة الله بل عمل بوجه العزم. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
قيل: (تَتَّقُونَ) الأكل والشرب والجماع.
ويحتمل: (تَتَّقُونَ) المعاصي؛ لأن النفس إذا جاعت شبعت عن جميع ما تهوى
ويحتمل: (تَتَّقُونَ) عذاب اللَّه وعقابه. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
ألزم بعض الناس على المريض والمسافر قضاء عدة الأيام وإن صاموا، فاستدلوا بظاهر الآية فقالوا: أوجب عليهم القضاء على غير ذكر الإفطار فيها.
واحتجوا أيضًا بما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "، فقد حقق له حكم الإفطار في أن لا صوم له؛ فدل أنه لم يجز، فكان كتقديم الصوم عن وقته.
وأما عندنا: فهو على إضمار الإفطار، كأنه قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) فأفطر، (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). وهو كما ذكر عَزَّ وَجَلَّ في المتأذي: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أي: من كان به أذى فرفع من رأسه ففدية. وكما قال في المضطر: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ومثله كثير في القرآن. فلا يجوز لأحد أن يأتي ذلك، ولأن المرض والسفر أعذار رخص الإفطار فيها تخفيفا وتوسيعًا على أربابها، فلو كان على ما قال هو لكان فيه تضييق عليهم؛ ولأنه إذا قضى في عدة من الأيام إنما يقضي عن ذلك الوقت، فلو لم يجز الفعل في ذلك الوقت وفي تلك الحال، لكان لا يأمر بالقضاء عن ذلك الوقت ولا عن تلك الحال؛ فدل أنه على ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وأصله: ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه صام في السفر، وروي أنه أفطر، ورُويَ عن الصحابة، أنهم صاموا في السفر. ولو كان لا يجوز لكان لا معنى لصومهم.
ورُويَ عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " الصوم أفضل والفطر رخصة ".
وقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ).
قرأ بعضهم: " وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَه "، فمعناه يكلفونه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: " لا يطيقونه ". لكن هذا لا يحتمل؛ وذلك أنه قال: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، دل أن قوله: " لا يطيقونه " لا يحتمل.
وقيل: كان أول ما ترك الصوم كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا كل يوم، فلما نزل صوم شهر رمضان نسخ ما كان قبله عمن يطيق الصوم، ويثبت الرخصة لمن لا يطيق من نحو الشيخ الفاني، والحبلى والمرضع إذا خافت على ولدها.
وقيل: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، أي: الفدية.
وقيل: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، ثم عجزوا، (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) كل يوم.
وقيل: إن المريض والمسافر إن شاءا أفطرا وقضيا، وإن شاءا أفطرا وفديا.
لكن ذلك كله منسوخ بما ذكرنا بنزول (شَهْرُ رَمَضَانَ).
ورُويَ عن أنس، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " أحيل الصوم ثلاثة أحوال: فمرة يُقضَى، ومرة يطعم، ومرة يصام، ثم نسخ هذا كله ".
ثم الأصل في هذا: أن من عجز عن قضائه جعل له الخروج بالفداء بعجزه عن ابتدائه، من نحو الشيخ الفاني وغيره.
ومن لم يعجز عن قضائه، لم يجعل له الخروج بالفداء، من نحو المرضع والحبلى والمريض والمسافر؛ لأنهم لم يعجزوا عن غير المفروض والبدل أبدًا، إنما يجب إذا عجز عن إتيان الأصل. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا).
يحتمل: زيادة الطواف.
ويحتمل: أصل التطوع أن كل ما يتطوع به فهو خير له إذا ثطوع في الأصل خير.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ (١٨٥).
قوله: (هُدًى لِلنَّاسِ).
قيل: يهتدون به الطريق المستقيم.
وقيل: بيان للناس من الضلالة.
وقوله: (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى).
قيل: حجج للناس إذا تأملوه.
- وقيل: (وَبَيِّنَاتٍ) أي: فيه الحلال، والحرام، والأحكام، والشرائع.
وقوله: (وَالْفُرْقَانِ).
قيل: يفرق بين الحق والباطل.
وقيل: (وَالْفُرْقَانِ)، المخرج في الدِّين من الشبهة والضلالة.
قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: " نزل الفرقان إلى السماء الدنيا من اللوح جملة في شهر رمضان في ليلة القدر -في ليلة مباركة- جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلًا رسلًا في الشهور والأيام على قدر الحاجات ".
وقولهه تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
يحتمل قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهو مقيم صحيح، (فَلْيَصُمْهُ). ثم رخص للمريض والمسافر الإفطار بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
ويحتمل قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي: من شهد منكم بعقله الشهر (فَلْيَصُمْهُ) فلا يدخل في الخطاب المجانين ولا الصبيان، ألا ترى أن أول الخطاب خرج للمؤمنين بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) فهَؤُلَاءِ لم يدخلوا فيه؛ فدل أن قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي؛ شهد منكم بعقله، (فَلْيَصُمْهُ).
ثم يحتمل أن تكون فرضية الصوم بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَلْيَصُمْهُ).
والثاني: قال اللَّه تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، بما رخص للمريض والمسافر الإفطار، ولو كان غير فرض لم يكن لما ذكر من الامتنان علينا بالتيسير معنى؛ لأن المنة لا تذكر فيما له تركه؛ فدل أنه فرض.
ويحتمل: أن يكون فرضيته بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)؛ لأن قوله: (كُتِبَ)، أي: فرض. فدلت هذه الآيات على أنه فرض.
ثم اختلف في قضاء ما فات منه برخصة الإفطار في السفر أو في المرض:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يجوز إلا متتابعًا. وكذلك روي في حرف أبي بن كعب في قوله: " فعدة من أيام أخر متتابعات ".
وأما عندنا: فإنه يجوز متتابعًا ومتفرقًا؛ اتباعًا لما رُويَ عن خمسة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنهم قالوا: " إن شاء تابع، وإن شاء فرق " سوى أن عليًّا، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، قال: يتابع، لكنه إن فرق جاز، ثم عن عليٍّ، وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، وآخر لست أذكره، أنهم قالوا: بجواز ذلك، ولا يحتمل أن التتابع شرطًا فيه خفي ذلك على هَؤُلَاءِ، أو تركوه إن عرفوه؛ فدل
وقراءة أُبي إن ثبتت عنه، فهو على الأرب؛ لما ذكر من إجماع الصحابة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، وبما أنه وجب بوقت، وكل ذي وقت فليس التتابع بشرط فيه في غير ذلك الوقت.
ولو كان التتابع شرطًا، لكان حق الإفطار يلزم الكل؛ حتى يكون القضاء موصولا أو الابتداء.
فأما إذا جاز التفريق بين بعض له حكم الابتداء وبعض له حكم القضاء، لجاز في غيره من الأبعاض؛ إذ كل ذلك له في الابتداء جاز الفعل والترك. فصار حق كل يوم في القضاء لنفسه لا لغيره؛ إذ كذلك حقه في الترك القضاء، وفي الفعل في الابتداء. ولا قوة إلا باللَّه.
وما ذكر من المسائل فهي مبنية على هذا الذي ذكرت: أن التتابع للفعل لا يحتمل اعتراض رخصة التفريق على إمكان الجمع؛ ثبت أن الجمع شرط فيه. وما نحن فيه يحتمل صوم كل يوم على الانفراد أن يؤخر فعله في الشهر بالرخصة عن غيره كذلك القضاء. واللَّه أعلم.
وبعد، لو كان التتابع شرطًا لم يكن لقوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، كبير فائدة؛ لأن في التتابع شرط الجملة، لا أن يكلف له العدد، وعلى الرجل أن يتم المدة التي للقضاء، لا أن يحفظ الحساب لإكمال العدة. واللَّه أعلم.
والأصل: أن كل صوم يؤمر بالتتابع بحيث الفعل يكون التتابع شرطًا فيه حيثما كان الفعل. وكل صوم يكون التتابع فيه بحيث الوقت، ففوت ذلك الوقت يسقط حق التتابع.
ولهم على هذا مسائل:
إذا قال: " لله عليَّ أن أصوم شعبان "، فلزمه أن يصوم متتابعًا، لكنه إذا فات شيء منه يقضي إن شاء متتابعًا، وإن شاء متفرقًا؛ لأن التتابع بحيث الوقت يسقط لسقوطه.
والثاني: ما قال عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، واليسر رخصة، لم يجز أن يجعل فيه ما هو عسر وضيق: وهو التتابع. واللَّه أعلم.
ثم في قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، دلالة أنه إذا صام من غيره لم يجز؛ لأنه أضاف عَزَّ وَجَلَّ الصوم إلى الشهر، وأشار إليه بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَلْيَصُمْهُ) فلو جاز له أن يصوم من غيره لكان فيه صرف إلى غير ما جعله اللَّه، وفي ذلك خوف اعتراض لأمره، وإشراك في حكمه. ونسأل اللَّه العصمة من الزيغ عن الحق.
وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
قالت المعتزلة: من صام في السفر أو في المرض فعل ما لم يرد اللَّه؛ لأن اللَّه عز وجل أخبر أنه لم يرد العسر، وإنَّمَا أراد اليسر، فإذا صام في المرض أو في السفر أراد العسر، واللَّه تعالى أخبر أنه لم يرد، فدل أنه فعل ما لم يرد اللَّه.
لكن الوجه عندنا: أن قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ)، معناه: أراد اللَّه بكم اليسر لما رخص لكم الإفطار في السفر؛ لأنهم أجمعوا على أن الصوم في السفر أفضل، والإفطار رخصة، ولا جائز أن يقال: لم يرد اللَّه ما هو أفضل، وأراد ما هو دونه على قولهم، ولكن يقال: أراد لمن أفطر اليسر، وأراد لمن ترك الإفطار العسر، وإرادته نافذه، فلا جائز أن ينفذ في وجه ولا ينفذ في وجه آخر.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، أي: يريد أن ييسر عليكم بالإذن في
الفطر، لا أن يعسر عليكم بالنهي عنه.
وقد يحتمل الفعل، لكنه لم يذكر عن أحد أن اللَّه تعالى أراد به اليسر فصام؛ فثبت أن الإرادة موجبة، مع ما لا يحتمل على قولهم أن يكون الصائم في السفر غير مراد، وقد قضى به فرض اللَّه، وأطاع اللَّه فيه. والمعتزلة يقولون بالإرادة في كل فعل الطاعة فضلًا عن الفريضة.
وقوله " (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ).
قيل: يعني تعظمون اللَّه، (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) لأمر دينه. ويجوز أن يريد بالتعظيم الأمر بالشكر لما أنعم عليهم من أنواع النعم من التوحيد والإسلام وغيره.
أي: ربكم بهذه النعم التي أنعمها عليكم.
ويحتمل: أنه أمر بالتعظيم له والشكر لما رخص لهم الإفطار في السفر والمرض.
واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
وقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ).
هو على الإضمار - واللَّه أعلم - كأنه قال: وإذا سألك عبادي: " أين أنا عن إجابتهم "، فقل لهم: إني قريب الإحسان، والبر، والكرامة لمن أطاعني.
ويحتمل: (فَإِنِّي قَرِيبٌ). قرب العلم والإجابة، لا قرب المكان والذات كقرب بعضهم من بعض في المكان؛ لأنه كان ولا مكان، ويكون على ما كان، وكذلك قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وكقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) كل ذلك يرجع إلى قرب العلم والإحاطة وارتفاع الجهات، لا قرب الذات على ما ذكرنا.
وإن كانت القصة على ما قاله بعض أهل التفسير: بأن اليهود قالوا: كيف يسمع ربك دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزل قوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)، هذا لما لم يعرفوا الصانع؛ ألا تراهم جعلوا له الولد، وجعلوا له شركاء، فخرج سؤالهم، إن كان، مخرج سؤال المتعنت، لا سؤال المسترشد.
أي: أقبل توحيد الموحد. وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، في قوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، أي: وحدوني أغفر لكم.
وقيل: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)، على حقيقة الإجابة.
وقوله: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي).
أي: إلى ما دعوتهم.
يحتمل: على ما ذكرنا في قوله؛ (أُجِيبُ) لكم، إذا استجبتم لي بالطاعة والائتمار.
ويحتمل: (أُجِيبُ) لكم، إذا أخلصتم الدعاء لي.
ويحتمل: على ابتداء الأمر بالتوحيد، كأنه قال: وحدوني.
ألا ترى أنه قال: (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) إذا نعلوا ذلك.
وقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ (١٨٧)
سماه (لَيْلَةَ الصِّيَامِ). الليل مضاف إلى يومه، كأنه قال: ليلة يوم الصوم، وإن لم يكن فيها صوم في الحقيفة؛ لانتظار الصيام فيها بالنهار، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ قال: " منتظر الصلاة ما دام ينتظرها في الصلاة "، وكذلك قوله: (فَمَن فَهِدَ مِنكم أدشهرَ فَتيَممُته)، أضاف الصوم إلى الشهر يدخل فيه الليل والنهار؛ لأن اسم الشهر يجمع الليل والنهار جميعًا.
وقوله: (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ).
قيل: (الرَّفَثُ)، الجماع. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه.
وقيل: (الرَّفَثُ) هو حاجات الرجال إلى النساء من نحو الجماع، والمس، والتقبيل وغيره.
وقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).
وقيل: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن. يسكن الزوج بالزوجة، والزوجة بالزوج.
وهو كقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا)، أي: سكنا، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ). ويحتمل: أن يكون أحدهما لباس الآخر بالليالي. واللَّه أعلم.
وقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
(تَخْتَانُونَ) وتخونون واحد.
قيل: نزلت الآية في شأن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، وذلك أن الناس إذا صاموا، ثم نام أحد منهم، حرم عليهم الطعام والجماع حتى يفطر من الغد، فواقع عمر، رضي اللَّه تعالى عنه، امرأته يومًا بعد ما نام أو نامت. فغدا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، فنزل قوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ)، أي: تظلمون؛ لأن كل خائن ظالم نفسه، فتاب اللَّه عليه وعفا عنه، ثم رخص لهم المباشرة بقوله: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) على الرخصة، هو على الإباحة، لا على الأمر به.
وقوله: (وَابْتَغُوا).
أي: اتبعوا.
(مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ).
قيل: فيه بوجوه:
قيل: (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، من الولد.
وقيل: (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، من ليلة القدر، وما فيه من نزول الرحمة.
وقوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
ذكر عن عدي بن حاتم، أنه قال: كنت أضع خيطين تحت وسادتي بعد نزول هذه الآية: أحدهما أبيض، والآخر أسود، فكنت أنظر فيه متى ما تبين لي إلى أن أتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته، فقال: " إن وسادك لعريض "، يعني أن الفجر هو المتعرض في الأفق.
ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " لا يغرنكم الفجر المستطيل، إنما الفجر
وروي أنه قال: " الفجر فجران: فجر مستطيل في السماء، وفجر مستطير في الأفق، هو الذي يحرم الطعام على الصائم ويحل الصلاة ".
وروي أنه قال: " لا يغرنكم أذان بلال، فإنه إنما يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم ".
وفي بعض الأخبار قال: " لا يغرنكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه إنما يؤذن بليل "، أو كلام نحو هذا.
والأصل في هذا: أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جعل حد الصيام من وقت تبين النهار إلى وقت غيبوبة الشمس وأباح من وقت غيبوبة الشمس إلى وقت تبين النهار، الطعام، والشراب، والجماع تخفيفًا منه.
وقوله: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).
وقد اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة:
قيل: (المباشرة) عنى اللَّه به: الجماع وما دون الجماع، فإنما نهوا عنها.
ثم قوله: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، فيه أدلة من أوجه الآية، كأنها نزلت في نازلة بلوا بها، لا أن كانوا يباشرون نساءهم في المساجد؛ لأن المساجد كانت أجل عندهم من أن يجعلوها مكانا لوطء النساء. ولكنه - واللَّه أعلم - أن الاعتكاف: هو اللبث في مكان، يأخذ الحق في نفسه عند عكوفه في المسجد وخروجه منه، فذكر أن العكوف نفسه يحرم الجماع في الأحوال كلها، ليس كالصوم الذي يحرم حالًا دون حال في الوقت الذي لم يكونوا فيها، ليعلموا أن حكم المقام في المساجد أخذ وليسوا هم
وفيه دليل أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، حيث خص المساجد دون غيرها من الأمكنة.
وفيه دليل أن المعتكف قد يخرج من معتكفه، لكنه لا يخرج إلا لما لا بد
يحتمل: لما يرفع إليه من الحوائج.
ويحتمل: حاجة الإنسان: الحاجة المعروفة التي لا يحتمل قضاؤها في المسجد.
ثم الضرورة تقع بالخروج في العكوف بوجهين: مرة في نفسه، ومرة فهي أفعال يكتسبها.
وبهذا يقول أصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، في فرضية الخروج إلى الجمع؛ لأن من اعتكف على ألا يشهد الجمعة لا يؤذن له في ذلك، لما لا جائز أن يؤذن بإيجاب قربة هي ليست عليه بتضييع أخرى هي عليه؛ إذ ذلك فرض كفاية يسقط بأداء البعض، لذلك كان ما ذكرنا.
فَإِنْ قِيلَ: روي أنه كان أيخرج، لاتباع الجنازة وعيادة المريض.
ورُويَ عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " إن من السنة ألا يخرج المعتكف من معتكفه "، دل هذا من عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أن خبر علي بن أبي طالب، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، على ما ذكرنا، إن ثبت.
وفي قوله: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) دليل أن الاعتكاف يكون في جميع المساجد؛ لأنه عم المساجد.
وما روي: أن " لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام " إن ثبت، فهو على التناسخ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اعتكف في مسجد المدينة، فدل فعله أنه منسوخ. واللَّه أعلم.
وقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
قيل: (تِلْكَ) المباشرة معصية، (فَلَا تَقْرَبُوهَا) في الاعتكاف، فحد الأمر ألا تقربوها.
وقيل: إنه جمعل لكل طاعة وأمر ونهي حدًّا وغاية، فلا يجاوز ولا يقصر عنه.
وقيل: (تلك) فرائض اللَّه.
قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ).
قيل: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تدلوا بها إلى الحكام. وقراءة أُبي: " فلا تدلوا بها إلى الحكام "، وجهان:
على إضمار لا؛ كقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ)، أي: ولا تكتموا الحق.
وقيل: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) بما تلبسوا على الحكام، وتقيموا على ذلك حججا باطلة، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه المسلم فكأنما قضيت له بقطعة من النار ".
ثم من الناس من استدل بهذا على أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، فيما يقول بمضي العقد إذا شهد الشهود على ذلك عند الحاكم، وقضى به، ثم ظهر أن الشهود شهود زور؛ حيث قال: (وَلَا تَأْكُلُوا)، وكما روي من الوعيد للأخذ مكان ما أخذ قطعة من نار، فإذا لم يحل ذلك لم يمض العقد.
غير أن الأصل عندنا في كل ما لو اجتمع الخصمان على ذلك بسبب جعل ذلك لهما، فإذا قضى الحاكم بذلك السبب نفذ.
وقوله: (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
يعني: طائفة من أموال الناس.
* * *
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (١٨٩)
يحتمل: (يَسْأَلُونَكَ)، أي: سألوك عن الأهلة.
ويحتمل: (يَسْأَلُونَكَ) أنهم يسألونك من بعد، فإن كان على هذا ففيه دليل رسالته؛ لأنه كان كما أخبر من السؤال له.
ثم معنى السؤال عن الأهلة - واللَّه أعلم - هو أنهم لما رأوا الشمس تطلع دائمًا على حالة واحدة، ورأوا القمر مختلف الأحوال من الزيادة والنقصان فحملهم ذلك على السؤال عن حال القمر، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه جعل الهلال معرفًا للخلق الأوقات والآجال والمدد ومعرفة وقت الحج؛ لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام لاشتد حساب ذلك عليهم، ولتعذر معرفة السنين والأوقات بالأيام. فجعل - عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه وبرحمته، الأهلة ليعرفوا بذلك الأوقات والآجال، ويعرفوا وقت الحج، ووقت الزكاة؛ طلبًا للتخفيف والتيسير عليهم.
ثم قال: (مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، جعل الأهلة كلها وقتا للحج. ولهذا قال أصحابنا: إنه يجوز الإحرام في الأوقات كلها، على ما يجوز بقاء الإحرام في الأوقات كلها.
وأما أفعال الحج: فإنها لا تجوز إلا في وقت فعل الحج، وهو قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، فإنما هي على أفعال فيه، دليله قوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، ولا تفرض من الحج في غير الإحرام؛ دل أنه عنى به أفعال الحج، وقد جاء: أنه سمى الإحرام على الانفراد حجا، وسمى الطواف بالبيت حجا، والوقوف حجا، وقال: " الحج عرفة " وسمى الذبح حجا، حيث قال: " أفضل الحج
وقوله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا).
لا معنى لعطف هذا على الأول إلا على إضمار السؤال، كأنهم سألوه عن الأهلة وعن إتيان البيوت من ظهورها، فأخبر: أن ليس البر في إتيان البيوت من ظهورها.
(وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ثم اختلف في قصة هذا الكلام:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن بعض العرب إذا أحرم أحدهم لم يدخل بيته من بابه، ولكن يدخل من ظهر البيت؛ مخافة تغطية الرأس إذا دخل من بابه.
وقيل: إن بعض العرب إذا خرج أحدهم لحاجة ولم يقض حاجته، فرجع لم يدخل البيت من بابه، ولكن يدخل من وراء ظهره، يكره دخول بيت غير منجح -يتطيرون به- ويتفاءلون قضاءها ثانيًا. فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ) فيما تصنعون، (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
ويحتمل: أن يكون على التمثيل والرمز، ليس على التحقيق؛ كقوله: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، وكقوله: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، فهو ليس على حقيقة الطرح وراء الظهر، ولكن كانوا لا يسمعون كلام اللَّه ولا يعبئون به. وكذلك كلام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لا يسمعونه ولا يكترثون إليه، فأخبر أنه كالمنبوذ والمطروح وراء الظهر لما لم يعملوا به؛ فعلى ذلك الأول، أخبر أنه (لَيْسَ الْبِرُّ) في ترك اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والائتمار بأمره، أي: ليس فعل البر مخالفة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يأمر، ولكن البر في الاتباع له والائتمار بأمره.
وقال القرامطة: إن المراد من الأبواب هو علي بن أبي طالب، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، والبيوت بيوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. أمروا بإتيان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من عند علي، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، على ما جاء أنه قال: " أنا مدينة العلم وعلي بابها ". فمن أراد الدخول في البيت، لا بد من أن يأتي الباب فيدخل من الباب.
لكن الجواب لقولهم على قدر ما تأولوا - أنه ذكر البيوت، وذكر الأبواب أيضًا والبيوت كثيرة، والأبواب كذلك أيضًا، فعليٌّ وغيره من الصحابة من نحو أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، فيه شرع سواء؛ ألا ترى أنه قال: " أنا مدينة الحكمة "، والمدينة لا يعرف لها باب واحد، بل يكون لها أبواب؛ فدل أن تأويلهم في عليٍّ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، خاصة، لا يصح. وباللَّه العصمة.
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
أي: اتقوا اللَّه ولا تعصوه، ولا تتركوا أمره، وانتهوا عن مناهيه.
وقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (١٩٠)
قيل: هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال.
وقيل: أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).
ويحتمل: أنه أخبر كأنهم نهوا أولًا ثم أذن لهم فقاتلوا فأنكر عليهم، فأنزل اللَّه أنه أذن لهم إخبارًا. فلا يدري أيتهما أول، ولكن فيه الأمر بالقتال، والنهي عن الاعتداء هاهنا؛ قيل: هو نهي عن قتل الذراري والنساء والشيخ الفاني، على ما جاء أنه بعث سرية أوصى لهم ألا يقتلوا وليدًا ولا شيخًا.
وقيل: نهاهم أن يقاتلوهم في الشهر الحرام إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال. والله أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
أي أنه لا يحب الاعتداء، لم يحب من اعتدى.
وقوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ (١٩١)
قيل: لفظ (حَيْثُ) يعبر عن المكان؛ ففيه إذن بقتلهم في جميع الأمكنة، وفي تعميم الأمكنة تعميم الأوقات، فهو على عموم المكان إلا فيما استثنى من المسجد الحرام مطلقًا.
وأما قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ)، فالاستثناء فيه مقيد، فلا يخرج عن ذلك العام. واللَّه أعلم.
ومنهم من قال: لا يقتل فيهما جميعًا.
وقال أصحابنا رحمهم اللَّه تعالى: يقتل في الشهر الحرام، ولا يقتل في الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال، فحينئذ يقتلهم.
وكذلك يقولون فيمن قتل آخر ثم التجأ إلى الحرم: لم يقتل فيه، ولكن لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس حتى يضطر فيخرج، فيقتل.
وإذا قتل في الحرم يقتل. فعلى ذلك لا يقاتل في الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال، فعند ذلك يحل القتل.
وإنما لم يحل القتال في الحرم إلا أن يبدءوهم به، وإن كان ظاهر قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) يبيح القتل في الأمكنة كلها، بقوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ)، استثنى الحرم دون غيره من الأماكن.
وأما قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، ظاهر هذه الآية يحرم القتال في أشهر الحج، لكن فيه دليل حل القتال بقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، يعني بالفتنة الشرك، جعل القتل فيه كبيرًا، ثم أخبر أن الشرك فيه أكبر وأعظم من القتل.
فالأصل عندنا: أن الابتلاء إذا كان من وجهين يختار الأيسر منهما والأخف؛ فلذلك قلنا: إنه يختار القتل في الحرم على بقاء الفتنة -وهو الشرك- إذ هو أكبر وأعظم. والله أعلم.
وقوله: (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).
يحتمل: (وَأَخْرِجُوهُمْ) من مكة كما (أَخْرَجُوكُمْ) عام الحديبية.
ويحتمل: أن أمرهم بأن يضيقوا عليهم ويضطروهم إلى الخروج كما فعل أهل مكة بهم.
ويحتمل: الإخراج على ما جاء: " ألا لا يحجن مشرك بعد عامي هذا ".
وقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).
أي: الشرك أعظم جرمًا عند اللَّه من القتل فيه.
وقوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)
كما ذكرنا أن هذا وقوله: (وَاقتُلُوهُم)، كله يخرج على المجازاة لهم.
وفيه لغة أخرى: " ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ".
فإذا قتلونا لا سبيل لنا أن نقتلهم، فما معنى هذا؟
قيل: يحتمل قوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ)، أي: إذا قتلوا واحدًا منكم فحينئذ تقتلونهم، أو لا تقتلوهم حتى يبدءوا هم بالقتل، أو أن يقول: لا تقتلوهم حتى يقتلوا بعضكم، فإذا فعلوا ذلك فحينئذ تقتلونهم. واللَّه أعلم.
وقوله: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).
أي هكذا جزاء من لم يقبل نعم اللَّه، ولم يستقبلها بالشكر.
ويحتمل: كذلك جزاء من بدأ بالقتال في الحرم أن يقتل.
وقوله: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
يحتمل وجهين:
يحتمل: (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك، وأسلموا يتغمدهم اللَّه برحمته.
ويحتمل: (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن بدء القتال، وأسلموا، فإن اللَّه يرحمهم ويغفر ذنوبهم.
وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (١٩٣)
أنه أمرنا بالقتال مع الكفرة ليسلموا.
فَإِنْ قِيلَ: أيش الحكمة في قتل الكفرة، وهو في الظاهر غير مستحسن في العقل؟ قيل: إنا نقاتلهم ليسلموا، ولا نقتلهم إلا أن يأبوا الإسلام، فإن أبوا ذلك ثم لم نقتلهم لا يسلمون أبدًا؛ لذلك قتلناهم، إذ في القتل ذهاب الفتنة.
ويحتمل: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، على وجه الأرض، أي تطهر من الشرك.
وقوله تعالى :( ويكون الدين لله ) أي ليكون الدين دين الله في الأرض لا الشرك، و( الدين ) الحكم. وقوله :( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) ؛ فإن قيل : فإذا صار الدين كله لله، فلا ظالم هنالك، فما معنى هذا الكلام ؟ قيل : يحتمل [ أن ]٤ لا عدوان إلا على الظالم الذي أحدث الظلم من بعد، ويحتمل : أن لا عدوان إلا على من بقي منهم مع الظلم. فإن قيل : فلم٥ سمي عدوانا، والعدوان هو ما لا يحل ؟ قيل : لأنه جزاء العدوان، وإن لم يكن هو في الحقيقة عدوانا٦، فسمي باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة، وإن لم يكن هو سيئة كقوله :( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : ٤٠ ]، وكما سمي جزاء الاعتداء [ اعتداء ]٧، وإن لم يكن في الحقيقة اعتداء، فكذلك الأول.
٢ -من ط ع، في الأصل و م: يأتوا..
٣ - في النسخ الثلاث: يقدروا..
٤ - من ط ع..
٥ - في ط ع: فلما..
٦ - في النسخ الثلاث: عدوان.
٧ - من ط م و ط ع، ساقطة من الأصل.
وقوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).
أي: ليكون (الدِّينُ) دين اللَّه في الأرض لا الشرك. و (الدِّينُ): الحكم.
وقوله: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).
فَإِنْ قِيلَ: فإذا صار الدِّين كله لله، فلا ظالم هنالك، فما معنى هذا الكلام؟
قيل: يحتمل: أن لا عدوان إلا على الظالم الذي أحدث الظلم من بعد.
ويحتمل: أن لا عدوان إلا على من بقي منهم مع الظلم.
فَإِنْ قِيلَ: فلم سمي عدوانًا، والعدوان هو ما لا يحل؟
قيل: لأنه جزاء العدوان، وإن لم يكن هو في الحقيقة عدوانا، فسمي باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة وإن لم يكن هو سيئة في الحقيقة؛ كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) وكما سمي جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن هو في الحقيقة اعتداء؛ فكذلك الأول.
وقوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ (١٩٤)
قيل: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الشهر الحرام يريد مكة فصده المشركون عن دخولها، فجاء من عام قابل في الشهر الحرام فدخلها وأقام ثلاثًا، وقضى عمرته التي فاتته في العام الأول، فسميت عمرة القضاء، فذلك تأويل قوله: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)، هذه الثانية صارت قصاصًا بالأول.
وقيل: إن في الجاهلية كانوا يعظمون الشهر الحرام، ولا يقاتلون فيه، فلما أن ظهر الإسلام عظمه أهل الإسلام أيضًا، ولم يقاتلوا فيه، حتى جعل الكفار يغيرون على أهل الإسلام ويستنصرون عليهم، حتى نسخ ذلك وأمروا بالقتال فيه بقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)، كأنه قال: ما هتكتم من حرمة الشهر قصاص لما هتكوا.
وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).
قد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
يحتمل: (وَاتَّقُوا) مخالفة اللَّه.
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
يعني: مع المؤمنين جملة.
ويحتمل: (وَاتَّقُوا) القتال في الحرم قبل أن يبدءوا هم، فـ (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) في النصر والمعونة لهم.
وقوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (١٩٥)
قيل فيه بوجوه:
قيل: أمر بالإنفاق ترتيبًا على الخروج إلى الجهاد، وإلا فكل منفق على نفسه بما يعلم حاجته إليه، ولا يلقي نفسه في الهلاك من حيث منع الإنفاق.
وقيل: في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، هو أن يذنب ذنبًا ثم ييأس عن العفو عنه.
وقيل: (وَأَنْفِقُوا) أي: لا تضنوا بالإنفاق مخافة الفوت في الوقت الثاني؛ فإنه يخلف لكم ما أنفقتم.
وقيل: (وَأَنْفِقُوا) أي: أعينوا أصحابكم، ولا تلقوهم إلى التهلكة بترك المعونة لهم بالإنفاق والتجهيز لهم.
وقيل: (وَأَنْفِقُوا) أي: تصدقوا، فإن فيه حياة أبدانكم وأنفسكم.
وقوله: (وَأَحْسِنُوا).
قيل: (وَأَحْسِنُوا) إلى أصحابكم بالإعانة والتصدق.
وقيل: (وَأَحْسِنُوا) الظن باللَّه في الإنفاق.
وقيل: (وَأَحْسِنُوا) الظن بربكم في الخروج إلى الغزو.
ويحتمل: (وَأَحْسِنُوا) أي أسلموا.
* * *
قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)
وقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
اختلفوا في تأويله وفي قراءته:
قال بعض الناس: العمرة فريضة بهذه الآية؛ لأنه أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج.
وقيل: هي الحجة الصغرى.
وأما عندنا: هي ليست بفريضة، وليس في قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) دليل
ثم في الأمر بالإتمام وجوه:
أحدها: أنهم كانوا يفتتحون الحج بالعمرة، فأمروا بإتمامها، على ما رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ عنه، قال: " متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج، ومتعة النساء ".
والثاني: أنهم كانوا لا يجعلون العمرة لله، فأمروا بجعلها لله.
وعلى ذلك روي في حرف ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قرأ: " وأتموا الحج والعمرةُ لله " بالرفع على الابتداء، ويحتمل الأمر بالإتمام ما رُويَ عن عليٍّ وابن مسعود رضيَ اللَّهُ عنهما سئلا عن قول اللَّه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قالا: " من تمامهما أن تحرم من دويرة أهلك ".
واحتج أصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، أيضًا بما رُويَ عن جابر رضيَ اللَّهُ تعالى عنه: " أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، العمرة واجبة هي؟ قال: لا. وأن تعتمر خير لك ".
وروى أيضا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " الحج مكتوب، والعمرة تطوع "، وفي بعضها قال: " الحج جهاد، والعمرة تطوع ".
وعن ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " الحج فريضة، والعمرة تطوع ".
والأصل: احتج أصحابنا أيضًا بشيء من النظر؛ وذلك أن اللَّه تعالى فرض الصلاة والزكاة والصيام في أوقات خصها بها، وأجمع أهل العلم أن المتطوع بالصدقة والصلاة والصيام يفعل ذلك متى شاء، ثم أجمعوا أن العمرة لا وقت لها؛ فدل ذلك على أنها تطوع؛ إذ لو كانت فريضة كان لها وقت مخصوص يفعل فيه كغيرها من الفرائض.
فَإِنْ قِيلَ: إن الحج التطوع مخصوص بوقت مخصوص المفروض منه، فكما لا يدل الخصوص الذي في الحج التطوع على وجوبه، فكذلك العموم الذي في العمرة لا يدل أنها تطوع.
قيل: وجدنا الفرض كله مخصوصًا بوقت، ووجدنا التطوع على ضربين: منه ما هو مخصوص؛ كالحج، ومنه ما هو غير مخصوص؛ كالصلاة والصيام والصدقة. فلما لم نجد في الفرض ما ليس بمخصوص بوقت، أجعلنا كل ما ليس بمخصوص بوقت تطوعًا غير فرض.
واحتجوا أيضًا: بأنا وجدنا العمرة تفعل في أشهر الحج، ولم نجد صلاتين تفعلان في وقت واحد فريضتين، ولكن تفعل الصلاة التطوع في وقت الفريضة؛ فثبت لما جاز أن يجمع بين فعل الحج والعمرة في وقت واحد أنها تطوع؛ كالصلاة التي تفعل في وقت القهر وغيرها.
واحتج من جعلها فرضًا بأن قال: لم نجد شيئًا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض، فلو كانت العمرة تطوعًا لكان لها أصل في الفرض.
قيل: العمرة إنما هي الطواف والسعي، ولذلك أصل في الفرض -فرض الحج- مع ما أنا وجدنا الاعتكاف تطوعًا، وليس له أصل في الفرض. فعلى ذلك العمرة.
والأصل: أن كل ما يبتدئ اللَّه إيجابه على عباده فإنه يوجب فعلها بأوقات أو يجعل لأدائها أوقات، والعمرة ليس لوجوبها وقت، ولا لأدائها. ثبت أنها ليست مما أوجبها اللَّه تعالى.
وقوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).
قوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية على الإضمار، كأنه قال - واللَّه أعلم -:
ثم اختلف أهل العلم في الإحصار: ما هو؟ وبم يكون؟ وهل يحل؟
رُويَ عن ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " إذا أحصر الرجل من مرض أو حبس أو كسر أو شبه ذلك، بعث الهدْي وواعد يوم النحر ومكث على إحرامه على أن يبلغ الهدْي محله، وعليه الحج والعمرة جميعًا من قابل ".
وعن عروة بن الزبير قال: " الحصر من كل شيء يحبسه: عدو ومرض ".
وروي مرفوعًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج
وهذا عندنا كقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر "، فمعناه: فقد حل له الإفطار. فعلى ذلك الأول: حل له أن يحل.
ثم قال بعض أهل اللغة من نحو الكسائي وأبي معاذ: إن الإحصار من المرض، والحصر من العدو.
فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنهما قالا: " لا حصر إلا عن حصار العدو ".
ولكن في هذا نسخ الكتاب بقولهما، إن ثبت، وهو لا يرى نسخ الكتاب بالسنة فضلًا أن يراه بقول واحد من الصحابة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، مع ما ترك قولهما؛ لأنه رَوى عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: ذهب الحصر.
فقال: لأن المرأة حبسها من له أن يحبسها، فهي أشد حالا ممن حبسه عدو، وليس له أن يحبسه.
فيقال له: المريض أمرضه من له أن يمرضه فاجعله أشد حالا من الذي حبسه عدو وليس له أن يحبسه، أو فرق بين المرأة والمريض، فقال: بل بينهما فرق.
وذلك أن الخائف بعدو يخاف القتل على نفسه، وقد أباح اللَّه للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة، فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن.
قيل له: كما رخص للخائف في ذلك فقد رخص للمريض ألا يحضر القتال؛ فالرخصهّ له أكثر من الرخصة للخائف.
فإن قال: إن المريض لا يبرأ بالقعود، والخائف يأمن.
قيل له: إن الرخص التي جعلت للأعذار لا تجعل لترفعها، ولكن الرخصة لتُوَفّيه المشقة. فيقال له أيضا: قد جعلت المرأة محصرة إذا منعها زوجها وهي لا تخاف القتل على نفسها. فبطلت علته وانتقضت.
فإن قال: إنكم لم تجعلوا من ضل الطريق محصرًا وهو ممنوع من المضي على حجه، فما الفرق بينه وبين المريض؟
فيقال: لو جعلنا الضال عن الطريق محصرًا، لم يجز له أن يحل من إحرامه إلا بدم يوجهه إلى الحرم فيذبح عنه.
وإذا وجد من يذهب إلى الحرم فيذبح هديه، فليس بضال؛ لأنه قد وجد دليلًا يدله على طريقه؛ لذلك افترقا.
وبعد، فإن المرض أحق أن يكون عذرًا في ذلك من العدو وغيره؛ لأنه يقاتل العدو والسباع فيدفع عن نفسه الإحصار، والمرض لا سبيل له إلى دفعه. دل أنه أحق أن يجعل عذرًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يكون محصرًا من الحج، ولا يكون من العمرة؛ لأن الحج مما يحتمل الفوت، والعمرة لا.
وأما عندنا: فإنه يكون محصرًا منهما جميعًا؛ لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذكر الإحصار على إثر
واختلف أهل العلم: أين يذبح الهدْي؟
فعندنا: أنه لا يجوز أن يذبح إلا في الحرم؛ رُويَ عن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: " يبعث بهدْي ويواعدهم يومًا، فإذا نحر عنه حل ". وعن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، مثل ذلك. وعن ابن الزبير وعروة ابن الزبير - رضي الله تعالى عنهما -: أن المحصر يبعث بالهدْي فإذا نحر عنه حلق.
وظاهر القرآن يدل على ما رُويَ عن هَؤُلَاءِ؛ لأن اللَّه تعالى قال: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، فجعل للهدْي محلا يبلغه، وبين موضع محله فقال: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) وكانت الكعبة محلا لجزاء الصيد والدم المحصر.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: المحل: اسم الموضع الذي يحل فيه. ولو كان كل موضع له محلا لم يكن لذلك المحل فائدة.
واحتج من خالف أصحابنا رحمهم اللَّه بما روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذبح الهدْي يوم الحديبية ثم قال: ولم يبلغنا أنه نحره في الحرم. قبل روي أنه نحر هدْيه يوم الحديبية في الحرم، يرويه مروان بن الحكم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الحديبية فحال المشركون بينه وبين دخول مكة، وجاء سهيل بن عمرو يعرض عليهم الصلح فصالحهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
ورُويَ عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: نزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية في الحل وكان يصلي في الحرم، هذا يبين أنه كان قادرًا أن ينحر هدْيه في الحرم حيث كان يصلي.
ولا يحتمل أن يترك نحر الهدْي في الحرم وهو على ذلك قادر، ولأن الحديبية مكان مجمع الحل والحرم جميعًا فإنما ذبح في الحرم لا في الحل؛ لما ذكرنا أنه لا يحتمل أن يذبح في الحل، وله سبيل إلى الذبح في الحرم.
فَإِنْ قِيلَ: حل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية من إحصاره بغير هدْي؛ لأن الهدْي إلى نحره كان هديا ساقه لعمرته لا لإحصاره، فنحر هدْيه على النية الأولى، وحل من إحصاره بغير دم.
قلنا: ليس الأمر عندنا هكذا؛ لأنه لا يتوهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يكون حل بغير دم، وقد أمر اللَّه المحصر بالدم.
فإن قال كذلك قال: وليس في حديث صلح الحديبية أنه نحر دمين، وإنما نحر دمًا واحدًا، فما وجه ذلك عندكم؟
قيل: وجه ذلك عندنا - واللَّه أعلم - أن الهدْي الذي ساقه كان هدْي متعة أو قران فلما منع عن البيت سقط عنه دم القران فجاز له أن يجعله من دم الإحصار. فَإِنْ قِيلَ: فكيف قلنا: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أزال الهدى عن سبيله، وأنت تزعم أن من باع هديه فهو مسيء؟ قيل له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يصرف الهدْي عن نحره لله والتقرب به إليه، وإنما صرف النية إلى ما هو أفضل منها وأوجب، فكان ذلك في فعله متبعا والذي باعه صرفه عن سبيله وترك أن ينحره بعد أن كان نوى به القربة فكان مسيئا، ومما يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعل الهدْي لإحصاره ما روي أنه لم يحلق حتى نحر هديه، وقال: " يا أيها الناس انحروا وحلوا ".
ثم المسألة ما يجب على المحصر بالحج والعمرة من القضاء إذا حل، فعلى قول أصحابنا إذا كان محرمًا بالحج يلزمه الحج مكان الأول وعمرة بتفويت الحج؛ قال الله
وقال قوم: عليه حج واحد.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: أمر اللَّه بالقصاص فيأخذ منكم العدد، أي حجة بحجة وعمرة بعمرة.
وروى في خبر عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما قال: " فقد حل وعليه الحج من قابل "، هذا يدل على قول ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، لأنه قال: " وعليه الحج من قابل "، ولم يذكر عمرة.
إلا أنه قد يجوز أن يكون عليه العمرة وإن لم تذكر في الحديث، كما أن الدم عليه واجب وإن لم يذكر في الحديث، فعلى ذلك العمرة يجوز وجوبها وإن لم تذكر. أما إيجابهم العمرة لفسخ الحج بغير طواف وحجة مكان حجته: فإن كان التأويل في قوله: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) أي: بالعمرة التي لزمته بإحلاله كما قال ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ وابن الزبير - رضي اللَّه عنهم - فكفى به حجة، وإن كان تأويل الآية غير ذلك فإنا وجدنا من يفوته الحج يلزمه أن يطوف بالبيت ثم يجب بعد ذلك قضاء الحج فأوجبوا على المحصر عمرة مكان الطواف الذي يجب على من يفوته الحج وأوجبوا الحج لما دخل فيه.
فَإِنْ قِيلَ يجب أن تسقط عنه العمرة التي يجب على من يفوته الحج لأن الذي يفوته الحج لا يحل منه بدم وإنما يحل بالطواف، والمحصر قد حل بالدم فقام الدم الذي لزمه يحل به مقام الطواف الذي يفوته الحج.
فَإِنْ قِيلَ: ما الدليل على أن الدم الذي يحل به المحصر جعل عليه ليتعجل به الإحلال، ولم يجعل بدلًا عن الطواف؟
قيل: لأن أهل العلم أجمعوا على أن الذي يفوته الحج ليس له أن يفسخ الطواف الذي لزمه بدم يهريقه يجعله بدلًا عن الطواف، فدل أنه إنما يهريق الدم ليتعجل به إلى الإحلال، لا بَدَلاً عن الطواف. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
رُويَ عن عليٍّ وابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنهما قالا: " شاة " وأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، يرون الشاة مجزئًا في المتعة، والإحصار، والفدية، والحُجةُ لهم في ذلك ما ذكرنا من قول الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، وما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لكعب بن عجرة: " النسك شاة "، وإجماع الناس على أنها مجزئة في الأضحية.
ثم المسألة في المحرم إذا حلق رأسه من أذى:
رخص اللَّه تعالى للمتأذي حلق رأسه بفدًى، بقوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، روي في الخبر عن كعب بن عجرة، أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا كعب، أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم يا رسول اللَّه. قال: فاحلقه، واذبح شاة أو أطعم ستة مساكين ". وقال كعب: فيَّ نزلت هذه الآية.
قال أصحابنا - رضي اللَّه تعالى عنهم -: لا يجوز أن يذبح الفدية إلا بمكة.
وأما الصدقة والصوم فإنه يأتي به حيث شاء.
وذلك عندهم بمنزلة هدْي المتعة؛ لأن هدْي المتعة إنما وجب بجمعه بين الحج والعمرة في سفر واحد؛ ولأنه لو شاء أن يفرد لكل واحد منهما سفرًا فعل، فبأخذه بالرخصة لزمه دم.
وكذلك دم الفدية إنما وجب لأخذه بالرخصة في حلق رأسه، فصار سبيل الدمين سواء، يجبان بمكة، وكذلك دم الإحصار إنما وجب؛ لأنه أخذ بالرخصة في حلق رأسه فحل من إحرامه. ولا يجوز أن يذبح إلا بمكة. فدم الفدية أينما كان إنما وجب؛ لأنه رخص له في حلق مثل ذلك.
فأما الصوم: فإن المتمتع إذا لم يجد هديا، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فأجمعوا على أن له أن يصوم السبعة بمكة وفي غيرها. فصوم الفدية كذلك. وكذلك الثلاثة الأيام إذا صامها بعد إحرامه بالعمرة عندنا، وبعد إحرامه بالحج عند مخالفينا بمكة بغيرها، فهي مجزئة، وكذلك صيام الفدية تجزئه حيث صامه قياسًا على صوم المتمتع.
فأما الصدقة: فإن الشافعي رحمه اللَّه ذكر أنها لا تجزئ إلا بمكة.
وقال: لأن أهل الحرم ينتفعون بها كما ينتفعون بالهدْي.
فيقال له: أرأيت إن ذبح الهدْي بغير مكة، ثم تصدق به على أهل الحرم هل يجزئه ذلك؟ فإن قال: لا، قيل له: قد بطلت علتك حيث لم يجز التصدق على أهل الحرم، وبان أن الدم خص بأن يهراق في الحرم؛ لأن اللَّه تعالى قال: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). فأما الصدقة فهي مجزئة حيث كانت.
ثم اختلف في الذي يحلق قبل أن يذبح بغير أذى:
فقال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: يجب عليه دم. والحجة له: بأن اللَّه - تبارك وتعالى - منع المحصر من الحلق (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، فإن حلق رأسه لأذى فعليه دم آخر؛ لأن الآية الكريمة في الحلق في المحصر، فإذا كان الذي يصيبه الأذى في رأسه قبل الوقت الذي أذن له فيه فدية، بل الذي يحلق رأسه بغير أذى أحرى أن يكون عليه الفدية. وأبو حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، يزيد في التغليظ عليه، فيقول: لا يجزئه غير الدم، ويخير صاحب الأذى بين الدم، والصدقة، والإطعام، كما أخبر اللَّه تعالى. فدليل القرآن شهد لمذهبه.
وخالفه جماعة من أكل العلم فيمن حلق قبل أن يذبح وليس بمحصر، ووافقوه في المحصر. واحتجوا بما رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه لما سئل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال: " اذبح ولا حرج ". لكن قوله: " افعل ولا حرج "، يرجع إلى الإثم، دون الكفارة،
وأصله في ذلك: أن أحوال الضرورة سبب تخفيف الحكم وتيسيره، لم يجز إيجاب ذلك الحكم في غير أحوال الضرورة والعذر. وعلى هذا يخرج قولهم في جميع الأصول: إن الحكم في حال الاضطرار والعذر خلاف ما هو في حال الاختيار. ولهم على هذا مسائل مما يكثر عددها.
وفي الآية دليل لزوم الفداء على المتدهن؛ لأن اللَّه تعالى قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا)، وقد ذكرنا أن فيه إضمارًا. ثم معروف حاجة المريض في حال مرضه إلى الدهن، فصار كأنه مذكور في الآية. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
وقد ذكرنا هذا وأقاويلهم.
وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ).
اختلف أهل التأويل فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: من حين يحرم آخرها يوم عرفة.
وعن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، قال: " ولا تصومهن حتى تحرم ".
أما تأخيره الصوم حتى يكون آخره يوم عرفة لما لعله يجد الهدْي، ومثال ذلك ما أمر اليتيمم عن تأخير الصلاة، رجاء أن يجد الماء فيغنيه عن التيمم، فعلى ذلك يؤخر الصوم حتى يكون آخره يوم عرفة رجاء أن يجد الهدْي.
وأما ما اختلفوا فيه من صيامهن حلالا بعد العمرة، فإن من لم يجوز ذلك ذهب إلى أن اللَّه تعالى قال: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ)، فتأول ذلك على الإحرام. وقد يجوز أن يكون الأمر كما قال، ويجوز أن يكون معناه: في أشهر الحج.
ألا ترى أن اللَّه تعالى يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، ومعناه - واللَّه أعلم -: أن الحج يفعل في هذه الأشهر، ولفعله أشهر معلومات. فلما احتملت الآية ما ذكرنا وجدنا السنة في المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية، كذلك رُويَ عن جابر بن عبد اللَّه، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " قدمنا مكة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مهلين بالحج لأربع ليال مضين من ذي الحجة، فطاف بالبيت سبعًا، وسعَى بين الصفا والمروة، ولم يحل؛ لأنه كان ساق الهدْي وأمر من لم يسق الهدْي أن يطوف ويسعى ويقصر ثم يحل.
فلما كان يوم التروية أمرهم أن يلبوا بالحج، فإذا كنا نأمر المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية، فكيف يصوم الثلاثة الأيام بعد ذلك، وإنَّمَا بقي له يوم واحد؟ فدل ما وصفناه: أنه يجوز له أن يصومهن حلالًا بعد العمرة. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ).
اختلف فيه:
قيل: إذا رجع من منى.
وقيل: إذا رجعتم إلى أهليكم.
وقوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
قيل: تلك العشرة وإن كانت متفرقة، فهي كالموصولة في حق الحج.
وقيل: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، عن الهدْي وافية، أي: يكمل بها حق الدم.
وقيل: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، في حق الثواب، أي: ثوابها كثواب الهدْي. والله أعلم.
وقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
جعل الحكم الذي ذكره في المتمتع والمحصر، لمن لا يحضر أهله المسجد الحرام؛ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " ليس على أهل مكة هدْي في المتعة ".
ولأن أهل مكة لو كانوا كغيرهم لم بكق للمخصوص معنى.
وإذا كان المعتمر في أشهر الحج إذا رجع إلى أهله ثم حج من عامه ذلك فلا هدْي عليه، فالمكي مقيم في منزله بعد عمرته فهو أحرى ألا يجب عليه دم المتعة إن حج من عامه ذلك، ولكنه إن تمتع فعليه دم الحلال؛ لأنه منهي عن التمتع.
ثم اختلف أهل التأويل في (حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، من هم؟
قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: كل من كان من أهل المواقيت فما دونها إلى مكة، فلهم أن يدخلوها بغير إحرام، فلهم جميعًا حكم حاضري المسجد الحرام.
ورُويَ عن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه خرج من مكة يريد المدينة، فلما بلغ قديدًا بلغه أن بالمدينة جيشين من جيوش الفتنة، فرجع ودخلها بغير إحرام.
وعندنا: إذا جاوز جميع المواقيت ثم رجع فعليه الإحرام.
وقال آخرون: لبس حاضري المسجد الحرام.
وأما الدليل، لأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، ما ذكرنا.
وقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ (١٩٧)
عن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ): شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
وعن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: إنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
ونرى أن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أراد ما أراده الأولون؛ لأنه لا يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج، فكيف تكون الأيام التي بعد النفر من أيام الحج، ولا عمل فيها للحجاج؟
ثم المسألة - فيمن يحرم بالحج قبل أشهر الحج، ما عليه؛ وهل يجوز إحرامه؟
وعن جابر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لا يحرم بالحج قبل أشهر الحح.
فأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، يكرهون الإحرام قبل أشهر الحج، واتبعوا في كراهيتهم ما رُويَ عن السلف النهي عن ذلك، لكنهم يقولون: إن أحرم يجوز.
واحتج بعض أصحابنا في ذلك بأن قال: للحج ميقات ووقت، وأجمعوا أن من أحرم
بالحج قبل الميقات فإحرامه صحيح، فعل ذلك من أحرم قبل وقته فإحرامه صحيح، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، الأشهر كلها، كقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا)، وهي الأشهر كلها، وهي معلومة؛ وهي، كقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ). فإن كان هذا تأويل الآية، ففيه دليل جواز الإحرام بالحج في الأشهر كلها.
وقال آخرون: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، أي في أشهر معلومات، وهو ما ذكرنا من قول جماعة من السلف، قالوا: إنها شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، غير أنه يتوجه وجهين:
أحدهما: أن لفعل الحج أشهر معلومات، دليله قوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، سماه حجّا بعد سبب الإلزام، فثبت أن ما بعد الإحرام حج.
والوجه الثاني: أن للحج أشهر معلومات، لا يدخل فيها غيره، ثم أدخل فيها العمرة رخصة، دليله: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، هكذا، وشبك بين أصابعه، "، فيكون معناه: أن للحج أشهر، أي: لفعله أشهر معلومات. واللَّه أعلم.
اختلف فيما به فرض الحج؟
قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا نوى الحج صار محرمًا، لبى أو لم يلب.
وقال آخرون: إذا نوى أن يعمل بجميع ما أمر وأن ينتهي عن جميع ما نهى، صار بذلك محرمًا،
وأما عندنا: فإن تأويل قوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، أي: لبى فيهن بالحج.
دليله ما رُويَ عن ابن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وابن عمر، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، أنهم قالوا: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، أي: لبى. وأما بالنية مجردًا فإنه لا يكون محرمًا.
وما روي أيضًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لعائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، وقد رآها حزينة: " ما لك؟ فقالت: أنا قضيت عمرتي، وألفاني الحج عاركا. فقال: ذلك شيء كتبه اللَّه تعالى على بنات آدم، فحجي وقولي ما يقول المسلمون في حجهم ".
فبين قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، رد حجي وقولي ما يقول المسلمون في حجهم أن التلبية واجبة إذ كان المسلمون يفعلونها وأمر عائشة رضيَ اللَّهُ عنها، باتباعهم فيها.
وعن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " لا يحرم إلا من أهل أو لبى ".
فدلت هذه الأحاديث النبوية على أن التلبية فرض الحج، وعن هَؤُلَاءِ الأئمة وأمثالهم الذين نأخذ منهم الدِّين فلا تجوز مخالفتهم ولا العدول عن سبيلهم.
والحجة لذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، في حجته لما أمرهم بأن يحلوا العمرة، فقالوا له: إنك لم تحل. قال " إني قلدت الهدْي، فلا أحل من إحرامي إلى يوم النحر ".
وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدْي ". فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن الذي منعه من الحل تقليده الهدْي، وأن ذلك قام مقام الإحرام لو جدده بعد الطواف. ورُويَ عن عليٍّ، وعبد اللَّه بن مسعود، وجابر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم قالوا: إذا قلد فقد أحرم.
وكذلك قال عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: إذا قلد وهو يريد الحج أو العمرة - فقد أحرم.
وما رُويَ عن عائشة رضيَ اللَّهُ تعالى عنها -: لا يحرم إلا من أهل أو لبى، فذلك
ألا ترى ما رُويَ عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يبعث بهديه ويقيم، فلا يحرم عليه شيء.
وقوله: (فَلَا رَفَثَ).
قيل: (الرَّفَثُ)، جميع حاجات الرجال إلى النساء.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: (الرَّفَثُ)، الجماع. وعن عبد اللَّه بن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، مثله.
وأجمع أهل العلم أن المحرم لا يجوز له أن يقبل امرأته، ولا يمسها بشهوة.
ويوجبون على من فعل ذلك دما.
رُويَ عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -: إذا باشر المحرم امرأته أهرق دمًا.
وعن عليٍّ - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: إذا قبل المحرم امرأته فعليه دم.
وسئلت عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، عما يحل للمحرم من امرأته؟ فقالت: يحرم عليه كل شيء سوى الكلام.
وقوله: (وَلَا فُسُوقَ).
قيل: (الفُسُوقُ)، السب.
وقوله: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ).
قيل: " الجدال "، المراء. وذلك أن العرب كانت تؤخر الأشهر الحرم وتعجل، وفي ذلك نزل قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)، فبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " إن السَّنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق السماوات والأرض "، فعلى ذلك استدار وقت الحج إلى حيث جعل، لا يتقدم أبدًا ولا يتأخر، فلا تماروا فيه.
وعن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لا تجادل صاحبك حتى تغضبه.
وأشبه الأمور - واللَّه أعلم - بتأويل الآية: أن اللَّه سبحانه وتعالى أمر بحفظ اللسان والفرج في الإحرام عن كل ما يذكر من فسوق، ومعصية، ومجادلة، ومخاصمة، وعن الرفث بالفعل والقول؛ لأنه يروى أن الفضل بن عَبَّاسٍ كان رديف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من المزدلفة إلى منى، وكان الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصرف وجهه بيده من خلفه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن هذا يوم من ملك سمعه، وبصره، ولسانه غفر له، أو كما قال ".
ورُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه ".
ويجزيه؛ وفيه ترغيب منه في كل خير.
وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
قيل: (وَتَزَوَّدُوا) للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة، ولا تخرجوا بلا زاد لتكونوا عيالا على الناس.
ويحتمل: أن يكون الأمر بالتزود للمعاد، يدل عليه قوله: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، يقول: إن تقوى اللَّه خير زاد من زاد الدنيا.
وقوله: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
يحتمل: (وَاتَّقُونِ)، المعاصي والمناهي وكل فسق.
ويحتمل: على التقديم والتأخير، كأنه قال: " تزودوا يا أولي الألباب "، (وَاتَّقُونِ) في المسألة من الناس.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (١٩٨)
قيل: التجارة، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من التجارة في عشر من ذي الحجة، فلما أن كان الإسلام امتنع أهل الإسلام عن التجارة، وأحبوا أن يكون خروجهم للحج خاصة، دون أن يختلط غيره من الأعمال، فرخص اللَّه عَزَّ وَجَلَّ للحاج وطلب الفضل.
ورُويَ عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رجلًا سأله، فقال: إنا قوم نكرى، ويزعمون أنه ليس لنا حج، فهل لنا حج؟ فقال: ألستم تحرمون وتقفون؟ فقال: بلى. قال: فأنتم حجاج، وقال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عما سألتني عنه مثله، فلم يجبه حتى أنزل اللَّه تعالى هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنتم حجاج " ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنه مثله.
وأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، يرون حج الأجير والتاجر تامًّا، وظاهر القرآن يدل على ذلك. وكان عند القوم أن الاستئجار على الطاعة لا يجوز أمرًا ظاهرًا حتى سألوا في هذا.
وأصله: أن الحج لا يمنع أفعال غيره، فأشبه الصوم، ويجوز فيه الإجارة، كذا في وأما الصلاة فهي مانعة لما سواها من الأفعال؛ فاختلفا.
وقوله (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ).
قيل: إن أهل الجاهلية كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ومن مزدلفة بعد طلوع الشمس، فأمر أهل الإسلام بالخلاف في الحالين جميعًا: أن يجعلوا الإفاضة من عرفة بعد الغروب، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس. واللَّه أعلم.
والإفاضة: هي الإسراع في المشي في اللغة.
وقيل: الإفاضة: الانحدار.
وقوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ).
يعني المزدلفة.
ويحتمل قوله (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) وجهين:
يحتمل: صلاة المغرب والعشاء،
ويحتمل: الدعاء فيهما جميعًا.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنهما -: (الْمَشْعَر الْحَرَام)، الجبل وما حوله، وهو الجبل الذي يوقف عليه يقال له: " قزح "، وسمي " جمعًا "، أيضًا؛ لأنه يجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وقيل: يسمى جمعًا، لأنه اجتمع فيه آدم وحواء.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: سمي العرفات عرفات؛ لأن جبريل، صلوات اللَّه تعالى عليه، لما علَّم إبراهيم - عليه السلام - المناسك كان يقول له: عرفت عرفت. واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: الأمر بالذكر أمر بالشكر له على ما أنعم عليهم من أنواع النعم.
ويحتمل: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ)، وأرشدكم لأمر المناسك.
ويحتمل: الأمر بالتوحيد؛ كأنه قال: وحدوه كما وفقكم لدينه، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)، عن الهدى، وعن المناسك، وعن معرفة النعم والشكر. واللَّه أعلم.
هدى: عرف، ليوحدوه.
وهدى: وفق، لطاعتهم.
وقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
قيل: إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات، ويقولون: إنما نحن أهل حرم اللَّه، لا نفيض كغيرنا، ممن قصدنا، فأنزل اللَّه فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، أمرهم بالوقوف بعرفات، والإفاضة منها من حيث أفاض غيرهم من الناس.
وذكر عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: كانت قريش، ومن كان على دينها يقفون بالمزدلفة ولا يقفون بعرفة، أوكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنزل الله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).
وفيه دليل أن الوقوف بعرفة فرض، وعلى ذلك جاءت الآثار؛ رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
ويحتمل في قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، معنى آخر: وهو أنهم رأوا غيرهم من أهل الآفاق فإذا قصدوا على الإحرام من وراء الحرم، وهم أمروا بالإحرام في الحرم، فلما خصوهم بذلك ظنوا أن قضاء غيره من المناسك في الحرم. والله أعلم.
قال الشيخ أبو منصور - رحمة اللَّه تعالى عليه -: أمر بالإفاضة بحرف " ثم "، بعد ذكر المزدلفة والإفاضة من عرفات بتقديم المزدلفة، فَبَانَ أن حرف " ثم " مما قد يبتدأ به أيضًا.
وقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (٢٠٠)
قيل فيه بوجهين:
قيل: إنهم في الجاهلية كانوا إذا قضوا المناسك يجتمعون في مكان ويذكرون آباءهم ومناقبهم ويفتخرون بذلك، فلما أن أسلموا أمرهم أن يذكروا ربهم في الإسلام كذكرهم آباءهم في الجاهلية أو أشد ذكرا، فإنه أولى بذلك من الآباء.
وقيل: أن يكونوا يذكرون آباءهم -ما أنعم عليهم وأحسن إليهم- فقال: اذكروا لي
وقوله: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)
وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢).
وقوله: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ..) الآية في قوم لا يؤمنون بالبعث والإحياء بعد الموت، طلبوا خيرات الدنيا، ولم يطلبوا الخيرات في الآخرة، فأعطوا ما سألوا من حسنات الدنيا، وهو كقوله: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، فأعطوا ما سألوا من نصيب؛ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، أي يؤتى حرث الدنيا والآخرة، فمن كان ركونهم إلى الدنيا وميلهم إليها لم يركنوا إلى دعاء غيرها، وأما من آمن بالبعث والإحياء بعد الموت فإنهم سألوا خيرات الدنيا والآخرة جميعًا بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) طلبوا حسنات الدنيا؛ لأن الدنيا جعلها محل الزاد للآخرة، لأنه جعلها لهم، إنما خلقهم للآخرة؛ كقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
ثم اختلف في (الحسَنَة) في الدنيا، و (الحسَنَة) في الآخرة:
قيل: حسنة الدنيا: العلم والعبادة، وحسنة الآخرة: الجنة والمغفرة.
وقيل: حسنة الدنيا: النصر والرزق، وحسنة الآخرة: الرحمة والرضوان. وكله واحد.
ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إن لله عبادًا يحيون في عافية، ويموتون في عافية، ويدخلون الجنة في عافية. قيل: يا رسول اللَّه، بم؟ قال: بكثرة قولهم: (رَبَّنَا
وقوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
قيل فيه بوجوه:
قيل: فيه تقديم وتأخير، كأنه قال: حسابه سريع.
وقيل: (سَرِيعُ)، كما أن الإبطاء في الحساب يكون للتفكر فيه والاستذكار وحفظ عقد الأصابع أو لشغل شغله، فاللَّه - تعالى - يتعالى عن ذلك أن يوصف به أو يشغله شيء.
وقيل: (سَرِيعُ)، أي قريب، كأن قد جاء، كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وكقوله: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ)، وكقوله: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، أي قرب.
وقيل: كناية عن عذاب شديد، أي شديد العقاب والعذاب، وهو كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، وهو كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من نوقش الحساب عذب ".
وقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ (٢٠٣)
قيل: إنه يحتمل وجهين:
قيل: إنه أراد بالأيام المعدودات أيام النحر والذبح، أي: اذكروا اللَّه بالنحر والذبح في أيامكم. فهو عند أبي حنيفة، رحمه اللَّه تعالى، يوم النحر ويومان بعده.
وقيل: أراد بالأيام المعدودات أيام رمي الجمار، دليله قوله تعالى: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، وهي أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر.
ورُويَ عن عليٍّ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " الأيام المعدودات: يوم النحر ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها ".
وقوله: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ).
قيل: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ)، أي: بعد يوم النحر بيومين. يقول: من نفر من منى قبل غروب الشمس في اليوم الثاني فلا إثم عليه، ومن لم ينفر حتى غربت الشمس وأقام إلى الغد -اليوم الثالث- فيرمي الجمار، ثم ينفر فلا إثم عليه.
وقيل: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ)، من أيام التشريق فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه.
ثم لا يحتمل قوله: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، أن يكونا جميعًا على الرخصة، التعجيل والتأخير جميعًا، فلا يلحقه الإثم بكليهما؛ لأنه إذا كان التعجل هو الرخصة فالتأخر لا يكون رخصة، وإذا كان التأخر هو الرخصة فالتعجل ليس برخصة، لكن الوجه فيه - واللَّه أعلم - ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) غفر له، (وَمَنْ تَأَخَّرَ) وغفر له ما كان له من الإثم والذنب في اليوم الذي أخر. واللَّه أعلم.
ويحتمل: أنه خيره، أي: إن فعل ذا أو ذا فلا إثم عليه.
وعن ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال في قوله تعالى: (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ): رجع مغفورًا له.
وقوله: (لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: (لِمَنِ اتَّقَى)، قتل الصيد في الإحرام، وعلى ذلك قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) وأي فلا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: من اتقى معاصي اللَّه جملة.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ).
قيل: إن رجلًا من الكفار كان يأتي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيخبره أنه يحبه وكان يعد له الإيمان والمتابعة له في دينه، ويحلف على ذلك، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعجبه ذلك ويدنيه في المجلس، وفي قلبه خلاف ذلك، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ)...) الآية.
وقيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يرون من أنفسهم الموافقة له في الدِّين، ويظهرون أنهم على دينه ومذهبه، ويضمرون الخلاف له في السر والعداوة، ويحلفون على ذلك، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...) الآية. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)
قيل: أشد الخصام.
وقيل: أجدل بالباطل.
وقيل: أظلم في الخصومة، لا يستقيم أبدًا.
قيل فيه بوجوه:
قيل: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ)، أي يقتل النساء، وهن حرث، كقوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)، وفي إهلاك النساء إهلاك النسل.
وقيل: أراد بالحرث: الحرث نفسه -وهو الزرع، والنسل والدواب- يحرق الحرث، ويعقر الدواب وكل حيوان.
وقيل: إنهم كانوا يسعون بالفساد ويعملون بالمعاصي، فيمسك اللَّه تعالى عنهم المطر، فيهلك كل شيء من الناس وغيرهم.
ويحتمل: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ)، قتل ولد آدم، وفي إهلاكهم إهلاك كل حرث؛ لأنهم هم الذين يحرثون ويتناسلون. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، ظاهر.
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦)
(قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ) عن صنيعك، وهو السعي في الأرض بالفساد، حملته الحمية على الإثم تكبرا منه. قال اللَّه تعالى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ)، يقول - واللَّه أعلم -: أعرض عنه، واتركه وصنيعه، فإن جهنم مصيره ومأواه.
ورُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه أنه قال: " إن أبغض الناس من يقال له: اتق اللَّه، فيقول: عليك نفسك ".
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)
يحتمل: (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ)، أي يهلك نفسه، أي يبيع نفسه في عبادة اللَّه تعالى وطاعته. فذلك شراؤه إياها.
ويحتمل: (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ)، أي يبذل نفسه للجهاد في سبيل اللَّه، وهو كقوله:
وقوله :( والله رؤوف بالعباد ) ؛ يحتمل إن أراد كل العباد، وهو أن الكافر إذا أسلم، وأخلص دينه لله، يتغمده في رحمته، ويقبل منه ذلك، ويتجاوز عنه عما كان منه في الشرك والكفر، والله أعلم. ويحتمل إن أراد بالعباد المؤمنين٤ خاصة، [ فهو ]٥ رحيم بهم.
٢ - من ط ع..
٣ - من ط ع و م، ساقطة من الأصل..
٤ - من م، في الأصل و ط عك بالمؤمنين..
٥ - ساقطة من النسخ الثلاث..
وفيه دلالة أن أبا بكر الصديق، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، كان أشجع الصحابة وأصلبهم، وإن كان ضعيفًا في نفسه، لما لم يتجاسر أحد من الصحابة على مثله. وما روي أيضًا أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده. فدل هذا كله أنه كان أشجعهم وأصلبهم في الدِّين.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في صهيب، ابتاع دينه بأهله وماله على ذلك والله أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)
ويحتمل: أن أراد كل العباد، وهو أن الكافر إذا أسلم وأخلص دينه لله تعالى يتغمده في رحمته ويقبل منه ذلك، ويتجاوز عنه عما كان منه في الشرك والكفر. واللَّه أعلم.
ويحتمل: أن أراد بالعباد: المؤمنين خاصة، رحيم بهم.
* * * *
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).
(السِّلْمِ)، فيه لغتان: بالكسر والنصب. فمن قرأ ذلك بالكسر فهو الإسلام.
فَإِنْ قِيلَ: كيف أمر بالدخول، وهم فيه؛ لأنه خاطب المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟
قيل: بوجوه:
أحدها: أنه يحتمل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم، آمِنوا بقلوبكم.
ويحتمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ببعض الرسل من نحو عيسى، وموسى، وغيرهم من الأنبياء، آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: أمره إياهم بالدخول أمر بالثبات عليه.
وقيل: إنه تعالى إنما أمرهم بالدخول فيه؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت، لأنه فعل، والأفعال تنقضي ولا تبقى، كأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا فيما مضى من الأوقات، آمنوا في حادث الأوقات. وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ).
وقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم.
وقوله: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ (٢٠٩)
أي: ملتم وتركتم من بعد ما ظهر لكم الحق.
وقوله: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
وقيل: (عَزِيزٌ) أي منتقم بميلكم وترككم الحق بعد الظهور.
ويحتمل: (عَزِيزٌ)، أي غني عن طاعتكم له وعبادتكم إياه.
وقيل: (عَزِيزٌ)، من أن يقهر أو يذل أو يغلب؛ لأن العزيز نقيض الذليل.
وقيل: (عَزِيزٌ)، لا يقدر أحد أن يصل إليه، أو يقهره إلا ذل بنفسه، كما يقال: عزيز لا يرام.
وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ
(يل فيه بوجوه:
قيل: (أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ) بأمره. وهو قول الحسن.
وقيل: (يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، أي أمر اللَّه؛ وهو كقوله: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) وكقوله: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)، على إضمار الأمر فيه.
وقيل: قوله: (فِي ظُلَلٍ)، في بمعنى (الباء)، وكأنه قال: يأتيهم اللَّه بظلل من الغمام، وذلك جائز - استعمال (في) مكان (الباء)؛ لأنهما جميعًا من حروف الخفض، والعرب تفعل ذلك ولا تأبى.
والأصل في هذا ونحوه: أن إضافة هذه الأشياء إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا توجب حقيقة وجود تلك الأشياء منه على ما يوجد من الأجسام، لما يجوز إضافته إلى ما لا يوجد منه تحقحق ذلك، نحو ما يقال: جاءني أمر فظيع، و (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، وجاء فلان بأمر كذا، وجاءكم رسول. فذكر المجيء والإتيان لا على تحقيق وجود ذلك منه، فعلى ذلك يخرج ما أضاف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إلى نفسه من المجيء والإتيان والاستواء، أليس على تحقيق المجيء والإتيان والاستواء، منه على ما يكون من الأجسام.
وفي الشاهد أن ملوك الأرض يضيفون إلى أنفسهم ما عمل بأمرهم من غير أن يتولوها بأنفسهم. وكذلك أضاف جل ذكره أمر القيامة إلى نفسه لفضل ذلك الأمر.
ثم الأصل: أن الإتيان والانتقال والزوال في الشاهد إنما يكون لخلتين: إما لحاجة بدت، فيحتاج إلى الانتمّال من حال إلى حال، والزوال من مكان إلى مكان ليقضيها. أو لسآمة ووحشة تأخذه، فينتقل من مكان إلى مكان لينفي عن نفسه ذلك. وهذان الوجهان في ذي المكان، واللَّه - تعالى - يتعالى عن المكان، كان ولا مكان فهو على ما كان.
فاللَّه - تعالى - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تأخذه سآمة. فبطل الوصف بالإتيان والمجيء والانتقال من حال إلى حال أو من مكان إلى مكان. وباللَّه التوفيق.
وقيل: إن النص قد ورد بالاستواء والمجيء، وأورد، الخبر بالنزول، والرؤية. ثم قد ورد السمع بأن (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، لزم نفي التشبيه فيما ورد عن ذاته، ولزم الإقرار بما جاء من عنده من غير طلب الكيفية له والتفسير. فالسبيل فيه الإيمان
وفي الشاهد الإتيان في العرض: ظهوره، وفي الجسم: نقله من مكان إلى مكان، وهو - جل ذكره - جل أن يوصف بجسم أو عرض. كذلك إتيانه لا يشبه إتيان الأجسام والأعراض، ويكون إتيان لا يعرف كيفيته، وكما جاز أن يكون هو مثبتًا بدليل لا يشبهه عرض ولا جسم. واللَّه أعلم.
وقوله: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ (٢١١)
يحتمل وجوها:
يحتمل: أن يكون أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بسؤاله إياهم عما آتاهم من الآيات، على إثر سؤال كان منهم، بطلب الآيات، فقال: سلهم يا مُحَمَّد كم آتيناهم وأجدادهم من الآيات على يدي موسى، فكفروا به، ولم يؤمنوا. فأنتم -وإن آتيناكم آيات- لا تؤمنون أيضًا. يخبر نبيه عليه السلام أن سؤالهم أن كان سؤال تعنت، لا سؤال قبول وتصديق.
واللَّه أعلم.
ويحتمل: أن يكون لا على إثر سؤال كان منهم، ولكن على الابتداء أن سل علماء بني إسرائيل وأئمتهم كم آتيناهم من آية منه فجحدوها وكتموها وهو كقوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، الآية.
ويحتمل: (سَلْ)، لا على الأمر به في التحقيق، لكن على التحقيق، والتبيين أنك لو سألتهم لأخبروك.
أو يكون المراد من ذلك في الذين تضيق صدورهم عند الإخبار أنهم لو جاءتهم الآيات التي سألوا عنها لا يؤمنون، ليخبروا بذلك فتطمئن لذلك قلوبهم، فتزول عنها الخطرات وأنواع الوساوس. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ).
قيل: (نِعْمَةَ اللَّهِ)، دين اللَّه، من بدله بعد ظهوره وبيانه.
وقيل: (نِعْمَةَ اللَّهِ)، يعني محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أي: من كفر له بعدما علم أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويحتمل: (نِعْمَةَ اللَّهِ)، النعم المعروفة التي كان آتاهم من المن، والسلوى، والغمام
وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
خوَّفهم عَزَّ وَجَلَّ وحذرهم على تبديل ذلك وتركه والكفر بنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد معرفتهم أنه حق. واللَّه أعلم.
ويكون تبديل نعمة اللَّه بتوجيه الشكر إلى غيره، وهو أن يعبد غيره. واللَّه أعلم.
وقوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا (٢١٢)
قال الحسن زين لهم الشيطان ذلك، وكذلك قوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ). ولكن معناه - واللَّه أعلم - أي زين لهم التزيين ثم التزين يكون بوجهين:
يزينه الطبع لقرب الشهوات، والعقل لقيام الأدلة، فيكون التزين بالثواب.
وأما ما زين للذين كفروا الحيوة الدنيا لما ركب فيهم من الشهوات وميل الطبع إليه.
وأما الوجهان الآخران منهما للمؤمنين.
وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
يحتمل وجهين:
يحتمل: (فَوْقَهُمْ)، في الحجة، يقول اللَّه تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا).
ويحتمل: (فَوْقَهُمْ)، في الجزاء والثواب.
وقوله: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، بغير تبعة.
ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، لا على قدر الأعمال، ولكن على قدر الشهوة وزيادة عليها؛ لأن رزق الجنة على ما تنتهي إليه الشهوات، ورزق الدنيا مقدر على قدر الحاجة والقوت؛ إذ لا أحد يبلغ مناه في الدنيا وحاجته، وفي الآخرة كل ينال فوق مناه.
ولأن أكل الشهوة في الدنيا هو المؤذي.
ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أي من غير أن ينقص ذلك عن ملكه وخزائنه، وإن عظم عطاياه وكثر مناله، ليس كخزائن المخلوقين تنتقص بالدفع وتنفد. واللَّه أعلم.
وقوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)، قال أبو موسى الأشعري، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، وآخر معه من الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، قالا: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، كلهم كفار إلى أن بعث اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فيهم النبيين.
وقال عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، مؤمنين كلهم زمن نوح، عليه السلام، الذين كانوا في السفينة إلى أن اختلفوا من بعد، فبعث اللَّه فيهم النَّبِيِّينَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، مؤمنين كلهم زمن آدم، عليه الصلاة والسلام، إلى أن أنزل اللَّه الكتاب عليهم وبعث فيهم الرسل.
ولو قيل بغير هذا كان أقرب.
قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، يعني صنفًا واحدًا.
ومعنى الأمة معنى الصنف، كقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ
ثم خص اللَّه تعالى صنفا ببعث الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم من بين غيرها من الأصناف تفضيلًا لهم وإكرامًا، وبعث كل رسول إلى قومه فيهم كفار وفيهم مؤمنون؛ لأن الأرض لا تخلو من ولي أو نبي، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، ليعلموا أن سائر أصناف الخلق خلقوا لهم ولحاجاتهم. وهو قول الحسن.
وكذلك قول أبي حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن الأرض لا تخلو عن نبي أو ولي. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ)، لمن أطاعه، (وَمُنْذِرِينَ)، لمن عصاه.
وجائز أن تكون البشارة والنذارة جملة عن الوقوع بما به يقعان مختلف؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، وقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).
وقوله: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ)
يحتمل قوله: (لِيَحْكُمَ)، وجهين:
يحتمل: (لِيَحْكُمَ)، الكتاب المنزل عليهم بالحق فيما بينهم، وهو كقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢).
وقرأ بعضهم: (لِيَحْكُمَ)، بالياء، وقرأ آخرون: " لتحكم "، بالتاء.
فمن قرأ بالياء جعل الكتاب هو المنذر.
ومن قرأ بالتاء صير الرسول هو المنذر؛ فكذلك في هذا: ليحكم الكتاب بينهم بالحق، وليحكم الرسول بالكتاب فيما بينهم بالحق.
وقوله: (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)
يحتمل قوله: (فِيهِ) وجوهًا:
يحتمل: (فِيهِ)، في مُحَمَّد - ﷺ -.
ويحتمل: (فِيهِ)، في دينه.
ويحنمل: (فِيهِ)، في كتابه.
وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)
وقوله: (بغيَا بَينَهُمْ).
قيل: (بَغيَا بَينَهُمْ)، أي: حسدًا بينهم.
وقيل: (بغيَا بَينَهُمْ)، ظلمًا منهم، ظلموا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).
تأويله - واللَّه أعلم - أي هدى اللَّه الذين آمنوا، ولم يختلفوا من بين الذين اختلفوا.
ويحتمل: هدى اللَّه من أنصف ولم يعاند، ولم يهد الذين عاندوا ولم ينصفوا.
وقوله: (بِإِذْنِهِ)، قيل: بأمره، وقيل: بفضله.
لكن قوله: (بِإِذْنِهِ)، بأمره، لا يحتمل، ولكن (بِإِذْنِهِ)، أي: بمشيئته وإرادته.
وقوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
فيه دلالة أنه من شاء أن يهتدي فاهتدى، ومن لم يشا أن يهتدي لم يهتد؛ لأنه لو كان شاء أن يهتدوا جميعًا أنه من شاء أن يهتدوا جميعًا، على ما يقوله المعتزلة، لكان يقول: واللَّه يهدي إلى صراط مستقيم، ولم يقل: (مَنْ يَشَاءُ)، فدل قوله: (مَن يَشَآءُ)، على أنه شاء إيمان من آمن، ولم يشأ إيمان من لم يؤمن، فالآية تنقض على المعتزلة قولهم: إنه شاء أن يؤمنوا، لكن آمن بعضهم ولم يؤمن البعض.
وفي قوله: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ)، دلالة على ألا يفهم من البعث والإتيان والمجيء الانتقال من مكان إلى مكان، ولا الزوال من موضع إلى موضع؛ لأنه ذكر البعث، وهم كانوا بين ظهرانيهم، فدل أنه يراد الوجود، لا غير.
وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
قيل: معنى قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ)، على إسقاط " الميم ".
وقوله: (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ).
قيل: شبه الذين خلوا من قبلكم.
وقيل: (مَثَلُ الَّذِينَ)، خبر الذين خلوا من قبلكم، وقيل: سنن الذين خلوا من قبلكم من البلاء والمحن التي أصابت الماضين من المؤمنين.
وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ...) الآية، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا كما ابتلي من قبلكم، أي: لا تظنوا ذلك عمله، وإن كان فيهم من قد يدخل - واللَّه أعلم - كقوله تعالى: (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤).
وقيل: إن القصة فيه أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم؛ فإنه لو كان مُحَمَّد نبيًّا لم يسلط عليه؟ فقال المؤمنون لهم: إن من قتل منا دخل الجنة. فقالوا: لم تمنَوْن الباطل والبلايا؟ فأنزل اللَّه تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، من غير أن تبتلوا وتصيبكم الشدائد، (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ).
وقوله: (وَزُلْزِلُوا)
قيل: حركوا.
وقيل: جهدوا.
وقوله: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)
قيل فيه بوجهين:
قيل: يقول الرسول والمؤمنون جميعًا (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)، ثم يقول اللَّه لهم: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
وقيل: يقول المؤمنون (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) ثم يقول الرسول: ألا إن نصر اللَّه قريب ويحتمل هذا في كل رسول بعثه اللَّه تعالى إلى أمته يقول هذا، وأمته يقولون أيضًا.
وليس لنا إلى معرفة ذلك سبيل إلا من جهة السمع، ولا حاجة إلى معرفته.
وفي قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ...) الآية.
وفي قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ).
وفي قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، وجه آخر، وهو أنهم. - واللَّه أعلم - ظنوا لما أتوا بالإيمان أن يدخلوا الجنة، ولا يبتلون بشيء من المحن والفتن، وأنواع الشدائد، فأخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن في الإيمان المحن والشدائد لابد منها، كقوله عليه السلام: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ". واللَّه أعلم.
وكقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، ولأن الإيمان من حيث نفسه ليس بشديد؛ لأنه معرفة حق وقول صدق، ولا فرق بين قول الصدق وقول الكذب، ومعرفة الحق ومعرفة الباطل في احتمال المؤن، والإيمان: مخالفة الهوى والطبع وذلك في أنواع المحن. واللَّه أعلم.
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
فظاهر هذا السؤال لم يخرج له الجواب؛ لأن السؤال " عما ينفق "، فخرج الجواب " على من ينفق "، غير أنه يحتمل أن يكون (ماذا) بمعنى (مَن)، وذلك مستعمل في اللغة، غير ممتنع.
ويحتمل: أن يكونوا سألوا سؤالين:
أحدهما: عما ينفق؟
والثاني: على من ينفق؟ فخرج لأحدهما الجواب على ما كان من السؤال: " على من ينفق "، ولم يخرج جواب ما كان من السؤال: " عما ينفق ". وهذا أيضًا جائز، كثير في القرآن: أن يكثر الأسئلة، ويخرج الجواب لبعض ولم يخرج لبعض، ويكون جواب
ويدل لما قلنا، أنه كان ثم سؤالان، أن أحدهما: " عما ينفق " والآخر: " على من ينفق "، ما رُويَ عن عمرو بن الجموح الأنصاري، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: يا رسول اللَّه، " كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فأنزل اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...) الآية.
ثم اختلف في هذه النفقة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه النفقة كانت تطوعا، فنسخت بالزكاة.
وقِيل: هذه النفقة صدقة يتصدقون بها على الوالدين والأقربين الذين يرثون، فنسختها آية المواريث.
وقيل: فيه الأمر بالإنفاق على الوالدين والأقربين عند الحاجة، وكان هذا أقرب. والله أعلم. وفيه دلالة لزوم نفقة الوالدين والمحارم.
* * *
قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨).
وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
والكراهة المذكورة هاهنا والمحبة: هي كراهة الطباع والنفس، ومحبة الطباع
وقوله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).
يحتمل هذا في القتال خاصة، وهو أن يكونوا كرهوا القتال؛ لما فيه من المشقة والشدة، (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)؛ لما فيه من الفتوح والظفر وسعة العيش ومنال الثواب والدرجات في الآخرة.
(وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا)، يعني التعود على الجهاد، (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)، لما فيه من اجتراء العدو والأسر والقتل والذل والصغار وقطع الثواب في الآخرة.
ويحتمل هذا في كل أمر يحب الرجل، في الابتداء ويكون عاقبته شرّا له، ويكره أمرًا فيكون عاقبته خيرًا له. هذا لجهلنا بعواقب الأمور وخواتيمها؛ ليعلم أن ليس إلينا من التدبير في شيء. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، أي: ويعلم ما هو خير لكم في العواقب مما هو شر لكم، " وأنتم لا تعلمون ".
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (٢١٧)
معناه - واللَّه أعلم -: يسئلونك عن القتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام، (قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، لو لم يكن من الكفرة ما ذكر من الصد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والكفر به، وإخراج أهله منه، لكن إذ فعلوا ذلك، لم يكن القتال بجنبه كبيرًا، بل الكفر فيه أكبر من القتل. فكأنه - واللَّه أعلم - ذكر هذه الأحرف وعنى به الكناية عن الكفر، ثم جعل الكفر أكبر من هذا كله مع المعرفة أن الذي يؤذيه أقل منه. ثم ألزمهم اختيار الأيسر عند البلوى بما بين. والقتال بنفسه كبير؛ لأن فيه تفاني الخلق، ولم يخلقوا للفناء.
ثم فيه نقض على المعتزلة بوجهين:
أحدهما: أنه ذكر القتل، وجعل الكفر أكبر منه، ولو أوجب القتل التخليد، ما أوجب الكفر، لكان فيه التساوي، ولا يكون الكفر أكبر من القتل فبان أن الكبيرة لا توجب
والثاني: قال: والكفر أكبر منه، فصيره أكبر، ثم ألا يخلو أكبره، من أن يكون بنفسه، أو بالكافر، أو باللَّه. ولا يحتمل أن يكون بالكافر؛ لأن فعل الكفر أصغر عنده من فعل الزنى والقتل؛ لأنه يدين بالكفر ويستحسنه، ويستقبح ذلك. فبان أنه يكبر بنفسه أو باللَّه.
فإن قالوا: بنفسه.
قيل لهم: لما جاز أن يكون كبره بغير من ينشئه لما لا جاز خلقه بغير من يفعله، أو يكون باللَّه؟ وهو قولنا.
وقوله: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ)
فيه دلالة إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنهم يفعلون كذا، فكان كما قال: فدل أنه إنما عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله: (إِنِ اسْتَطَاعُوا)، ولكن لا يستطيعون أن يردوكم عن دينكم.
ففيه إياس الكفرة عن رد هَؤُلَاءِ إلى دينهم، وأمن هَؤُلَاءِ عن الرجوع إلى دينهم.
وقيل: (إن) بمعنى (لو)، أي: لو قدروا أن يردوكم عن دينكم إلى دينهم لفعلوا.
أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عما ودوا إن استطاعوا، لكن اللَّه بما أكرمهم وبشرهم من النصر
وإظهار الدِّين لا يستطيعون على ذلك أظهر بقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
وقوله: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
ذكر إحباط الأعمال، بالموت على الكفر، والعمل يحبط بالكفر دون الموت.
والوجه فيه: أنه لا يحتمل أن يكون الموت هو سبب إحباط الأعمال، بل الكفر بنفسه إذا وجد؛ إذ الموت لا صنع فيه للعباد، والكفر فيه لهم اختيار، لم يجز جعل العمل حبطًا بما لا صنع له فيه، دل أن الكفر هو المحبط، لا الموت، ولكن ذكر الموت في هذا لما فيه تمام الحبط والإبطال، وما لم يمت ترجى له المنفعة بحسناته؛ لأنه إذا كفر جحد تلك الحسنات فأبطلها، فإذا أسلم بعد ذلك ندم على جعل ذلك باطلًا، فصار مقابلا لسيئاته
وقوله: (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
أما في الدنيا: فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الأحسن الذي يستوجب بالخير والدِّين عند الناس، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله أصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير.
وأما حبطه في الآخرة: فذهاب ثواب أعماله، وكأن ما يستوجب المرء من الثواب إنما يستوجب بما يأتي من الأعمال ويحضرها عند اللَّه، لا بالعمل نفسه؛ ألا ترى إلى قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، وقوله: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)، دل هذا أن الثواب إنما يستوجب بإحضاره وإتيانه عند اللَّه، لا بالعمل نفسه. واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (٢١٨)
تضمن قوله: (آمَنُوا) والإيمان باللَّه، والإيمان بجميع ما جاء به الرسل من الرسالات وغيرها.
وقوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا).
الهجرة تكون على وجهين:
أحدهما: الهجرة المعروفة التي كانت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، وهو كقوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٠).
ثم رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " لا هجرة بعد فتح مكة ".
وقال الحسن في قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): أي بالعداوة منه لمن كفر باللَّه.
وقال أبو بكر الصديق - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن يهجر قومه وداره ويخرج لله.
وقوله: (وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
المجاهدة تكون على وجوه:
مجاهدة العدو، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس.
وقوله: (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ).
فيه دلالة على أن الذي يحق رجاؤه يعمل ما ذكر اللَّه.
وقوله: (رَحْمَتَ اللَّهِ)، يحتمل وجهين: الرحمة: الجنة، والرحمة: المغفرة.
وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
لما كان منهم من التقصير فيما ذكر من المجاهدة والمهاجرة.
* * *
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا
(قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، بعد الحرمة (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، قبل الحرمة، (وَإِثْمُهُمَا)، بعد الحرمة (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)، قبل التحريم.
والمنفعة في الميسر: بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر، وهو القمار.
وذلك أن نفرًا كانوا يشترون الجزور فيجعلون لكل رجل منهم سهمًا، ثم يقترعون، فمن خرج سهمه برئ من الثمن حتى يبقى آخر رجل، فيكون ثمن الجزور عليه وحده، ولا حق له في الجزور، ويقتسم الجزور بقيتهم.
وقيل: يقسم بين الفقراء؛ فذلك الميسر.
ثم قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، في ركوبهما؛ لأن فيهما ترك الصلاة، وترك ذكر اللَّه، وركوب المحارم والفواحش.
ثم قال: (وَمَنَافِعُ للِنَّاسِ)، يعني التجارة، واللذة، والربح.
ثم اختلف فيه:
قال قوم: إن الخمر محرمة بهذه الآية حيث قال (إِثْمٌ كَبِيرٌ)، والإثم محرم بقوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ).
وقال قوم: لم تحرم بهذه الآية؛ إذ فيها ذكر النفع، ولكن حرمت بقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ)، والرجس محرم، وقال اللَّه تعالى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وعمل الشيطان محرم.
ثم أخبر في آخرها أنه: (يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ)، وذلك كله محرم.
والأصل عندنا في هذا: أنهم أجمعوا على حرمة الميسر مع ما كان فيه من المنافع للفقراء وأهل الحاجة والمعونة لهم؛ لأنهم كانوا يقتسمون على الفقراء، فإذا حرم اللَّه هذا ثبت أن المقرون به أحق في الحرمة مع ما فيه من الضرر. الذي ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ): ولم يبين في السؤال أنه عن أي أمرهما كان السؤال؛ وأمكن استخراج حقيقة ذلك عن الجواب بقوله: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، كان السؤال كان " عما فيهما "؛ فقال: فيهما كذا.
وعلى ذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)، كأن السؤال عما يعمل في أموال اليتامى، من المخالطة وأنواع المصالح، وكذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) كأنه قال: عن غشيان في المحيض، إذ في ذلك جرى الجواب فلم يبين
وقيل: هذه الآية تدل على حرمتهما بما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، وقد قال اللَّه تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) إلى قوله: (وَالإثْمَ)، ثبت أن الإثم محرم.
وأكثر السلف على أن الحرمة فيهما ليست بهذه الآية، ولكن بقوله (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ).
وقوله: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، يبلغ أمر الخمر والميسر إلى ما يكون فيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ)، من نحو ما بين عند السكر والميسر في سورة المائدة من وقوع العداوة والبغضاء والصد عما ذكر، (فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ)، في ذلك الوقت بوجوه:
أما في الخمر: إلى أن يسكر، وفي التجارة فيها.
وفي الميسر: لما كان يفرق ما فيه ذلك على الفقراء، وما فيه من التجارة ونحو ذلك.
وعلى التأويل الأول يخرج قوله: (قُل فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ)، أي: في الشرب والعمل إذ حرما، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، قبل أن يحرما. واللَّه أعلم.
ثم الذي علينا: أن نعرف حرمتهما اليوم إن كانت في هذه الآية أو لم تكن، فينتهي الانتفاع بهما ويحذر ذلك، وقد بين اللَّه الكافي من ذلك في سورة المائدة، وجاءت الآثار في تحريمهما، على ما في الميسر من الخطر والجهالة التي جاءت الآثار على كون أمثالها في حكم الربا، وفي الخمر ما لا يتخذ للمنافع وإنما يتخذ للهو والطرب، وكل ذلك مما نهينا عنه، مع ما في ذلك من ذهاب العقل الذي هو أعز ما في البشر، وغلبة السفه في أهله. فحقيق لمن عقل اتقاه لو كان حلالًا؛ لما في ذلك من التبذير، فكيف وقد ظهرت الحرمة.
ثم كان معلومًا علة حرمة الخمر إذا سكر منها الشارب، ثم جاء به القرآن، وليست تلك العلة في شرب القليل منه، فلم يلحق بحق القليل غيرها، وأُلحق بالكثير كل شراب يعمل ذلك العمل، لما فيه المعنى الذي ذكره، إذ كانت الخمر لا تتخذ في المتعارف للمصالح ولا لأنواع المنافع، بل تتخذ لما ذكرت من اللهو والطرب، ولا يستعمل شربها
وكل جوهر لا يتخذ لا يقصد باتخاذ ذلك فهو غير محرم بعينه. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).
(الْعَفْوَ): هو الفضل عن القوت، وذلك أن أهل الزروع كانوا يتصدقون بما يفضل عن قوت سنة، وأهل الغلات يتصدقون بما يفضل عن قوت الشهور، وأهل الحرف والأعمال يتصدقون بما يفضل عن قوت يوم، ثم نسخ ذلك بما رُويَ عن أنس بن مالك، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " الزكاة نسخت كل صدقة كانت، وصوم شهر رمضان نسخ كل صوم كان، والأضحية نسخت، كل دم كان ". فإن ثبت هذا فهو ما ذكرنا.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، قال: كان هذا قبل أن تقرض الصدقة.
دليل ذلك ظهور أموال كثيرة لأهلها في الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عنهم أجمعين، إلى يومنا لم يخرجوا من أملاكهم، ولا تصدقوا بها، ولا أنكر عليهم؛ فثبت أن الأمر في ذلك منسوخ، أو هو على الأدب.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).
وقوله: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
قيل: أما في الدنيا: فتعلمون أنها دار بلاء وفناء، وأما الآخرة: دار جزاء وبقاء، فتفكرون فتعملون للباقية منهما.
وقال الحسن: إي - واللَّه - ومن تفكر فيهما ليعلمن أن الدنيا دار بلاء، وأن الآخرة دار بقاء.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. بل يعلم بالتفكر أن الدنيا للزوال، علم أنها هي للتزود لدار القرار، فيصرف سعيه إلى التقديم، وجهده في فكاك
وفي قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) دلالة جواز تأخير البيان؛ لأنه أمر بالتفكر والتدبر، وجعل لهم عند الفكر الوصول إلى المراد في الخطاب، فدل أنه يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع.
وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ (٢٢٠)
كأن في السؤال إضمارًا؛ لأنه قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)، ولم يبين في أي حكم، وإضماره - واللَّه أعلم - أن يقال: يسألونك عن مخالطة اليتامى. يبين ذلك قوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) أن السؤال كان عن المخالطة.
وكذلك قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)، ولم يبين في أي حكم، فكأنه قال: يسألونك عن شرب الخمر والعمل بالقمار والميسر، ثم قال: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، دل قوله: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) أن السؤال كان عن شرب الخمر والعمل بالميسر. وهذا جائز في اللغة، وفي القرآن كثير أن يكون في الجواب بيان السؤال أنه عما كان وإن لم يذكر في السؤال؛ كقوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) دل ما ذكر من الفتيا أن الاستفتاء كان عن الميراث. وكذلك قوله: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ)، دل قوله: (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) أن السؤال كان عن نساء اليتامى. وهذا جائز، وربما يخرج الجواب على إثر نوازل، فيعرف مراده بالنوازل دون ذكر السؤال.
ثم السؤال يحتمل وجهين:
يحتمل: أن يكون عن مخالطة الأموال والأنفس جميعًا بقوله: (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، فإنما حملهم - واللَّه أعلم - على سؤال المخالطة، ما قيل: لما نزل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، وقوله: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا) أشفق المسلمون من خلطة اليتامى، فعزلوا لهم بيتا، وعزلوا طعامهم وخدمهم وثيابهم، فشق ذلك عليهم جميعًا، فسألوا عن ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه
وفي الآية دليل جواز المناهدات والمؤاكلات في الأسفار وغيرها حيث أباح لهم المخالطة بأموال اليتامى. فإذا احتمل ذلك مال الصغار من اليتامى فاحتماله في مال الكبير أشد؛ إذ مال الكبر يحتمل الإباحة والإذن، ومال الصغير لا.
وفي الآية دليل جواز القليل من المعروف واليسير منه في ملك الصغير، واحتماله ذلك؛ لأنه - جل وعز - أباح لهم المخالطة مع اليتامى على العلم في الاستيفاء مبلغ الكبير بل يقصر عنه.
وفيه دليل أن علة الربا ليس هو الأكل، على ما قاله بعض الناس، ولكن هو الكيل والوزن؛ لأنه أباح لهم المخالطة في المأكول من الطعام والمشروب من الشراب، على غير كيل ولا وزن، على العلم بقصور الصغير عن الاستيفاء قدر الكبير وبلوغه مبلغه، فلو كان علته الأكل لكان لا يبيح لهم أكل الربا؛ فدل أن علته ليس الأكل، ولكن هي الفضل عن الكيل أو الوزن في الجنس.
وفيه دليل جواز بيع الثمرة بالثمرتين لخروجه عن الكيل.
وهكذا كل شيء خرج عن الكيل والوزن، لترك للناس مكايلته وموازنته، وإن كان كيليا يجوز بيع واحد باثنين. واللَّه أعلم.
وفيه دليل أن لا بأس بأن يؤدب الرجل اليتيم بما هو صلاح له. وذلك كما يؤدب ولده وأن يعلمه بما فيه الاعتياد لمحاسن الأخلاق والتوسيع، كما أمر بالصلاة إذا بلغ سبعًا، والضرب عليها إذا بلغ عشرًا اعتيادًا. ألا ترى أنه روي في الخبر: " شر الناس الذي يأكل وحده ويشرب وحده ". وفي المخالطة التخلق بالأخلاق الحسنة، وفي تركها التخلق بالأخلاق السيئة، والاعتياد بعادة السوء.
وقوله: (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ)، فيه دليل إضمار، وهو طلب الصلاح لهم: إما بالتولي لهم في أموالهم والنظر لهم بما يعقب نفعا لهم، وطلب التخلق بالأخلاق الحسنة والاعتياد بالعادة المحمودة؛ فذلك (إصلاح) خير، بطلبكم الصلاح لهم، أو خير لهم بما يعود نفع ذلك إليهم. وإلا فظاهر الصلاح حسن لكل أحد، فلا وجه لتخصيصهم به؛ فدل أنه على طلب النفع والنظر لهم. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، فيه دليل الترغيب؛ كقوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) رغبهم عَزَّ وَجَلَّ بما أخبر أنهم (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، بطلب الصلاح والنظر والنفع لهم، إذ
ثم أوعدهم عَزَّ وَجَلَّ بقوله:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ).
أي - واللَّه أعلم - يعلم طالب النفع والنظر لهم من طالب الفساد والإسراف في أموالهم.
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ).
قيل: يضيق عليكم، ولم يأذن لكم بالمخالطة معهم.
وقيل: لأعنتكم، فلم يرض لكم في الخلطة.
وقيل: لأحرجكم. وهو واحد.
وأصل العنت: الإثم، كقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، يعني: أثمتم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
فيه وعيد لهم على ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية:
فقال قائلون: الحظر على كل مشرك ومشركة -كتابيًّا كان أو غير كتابي- ثم نسخ بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). فالإماء على الحصر؛ لأنه إنما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).
وقال آخرون: هو على المشركات خاصة دون الكتابيات، والكتابيات مستثنيات،
ثم الآية تضمنت أحكامًا:
منها: أن من قول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى أجمعين -: أن المناهي بحيث النهي لا توجب الحرمة.
والثاني: أن الآية كيف كان حملها على الخصوص في بعض أحق والعموم في بعض ومخرج الخطابين واحد.
والثالث: أن في الآية ذكر المنع، لعلة وهي الدعوة إلى النار، فكيف لم يلزم حفظ ما لأجله وجب الحرمة على وجوده؟ وهذا هو الأصل: أن تحفظ الأحكام المعللة بالعلل ما دامت توجد العلل.
والرابع: البيان في تولى النكاح؛ إذ للأولياء خرج الخطاب بقوله: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا).
وأما قولنا في النهي: فإن النهي يوجب الانتهاء، ولكن لا يوجب الحرمة إلا بدليل يقوم على مراد الحرمة في النهي، لما رأينا من المناهي كثيرة لم توجب الحرمة، فلو كان
وأما قولهم وسؤالهم عن الخصوص والعموم: فذلك جائز عندنا، خروج الآية على العموم يعقل بها الخصوص. وهو كثير في القرآن مما لا يحتاج إلى ذكره وشرحه، ومن ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) عقل إيجاب تعظيم الرسل والأنبياء والإيمان لهم على العموم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في حق البعض دون البعض، وكذا قوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ). فالتخلف غير موجود في بعض الأحيان، وإنَّ حق النهي عن الرغبة عن نفسه أخذ الجميع، فعلى ذلك هاهنا يجوز خروجه عامًّا يخص بالعقول.
وأما قولهم: وجوب الحكم لعلة، وهو الدعاء إلى النار، فله وجهان:
أحدهما: أن الكتابي أقر بكتاب، يقدر على إلزام الدِّين بالدعاء إليه، ففيه رجاء الإسلام، وغيرهم من أهل الشرك لا طمع فيهم بمثله.
والثاني: أن علة الحظر قوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، والزوجات لا يدعون أزواجهن إلى ذلك، بل الأزواج هم الأصل في الدعاء، وهم الأمراء على الزوجات، والزوجات بين الأتباع للأزواج والمذللات في أيديهم؛ لذلك أبيح.
ثم الأصل: أن النكاح جعل لأمرين: إما لإبقاء النسل، وإما للتحصن والتعفف عن السفاح. ثم قد ينكح من لا نسل فيه، فما بقي إلا وجه المنع عن السفاح. ثم الدعاء إلى النار أعظم من السفاح، بهذا لم يبح النكاح.
ثم الدلالة على تخصيصها على وجهين:
أحدهما: قول الخصوم بالنسخ: أنه ورد على بعض دون بعض، وما ذلك إلا الخصوص.
والثاني: أن ذكر ذلك في الكتابيات لم يجر بحيث إظهار ما يحل وما يحرم، إذ شرط نكاحهن إنما هو عند العجز عن الحرائر، فجرى الذكر فيهن، إذ هن الأصل في عقود النكاح، وأن الإماء دخيلات في حق النكاح، وإنما جرى الذكر في حلهن بملك اليمين؛
وأما قولهم: خاطب الأولياء في النهي بقوله: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ)، وخاطب الأولياء أيضا في الأمر بإنكاح الأيامى بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، فدل أن الولي شرط في جواز النكاح.
فجوابنا: أنه إنما خاطب الأولياء في النهي عن النكاح، وفي الأمر بالنكاح، لما العرف في الأمة ألا يتولى النساء النكاح بأنفسهن، بل الأولياء هم الذين يتولون عليهن النكاح برضائهن وأمرهن وتدبيرهن؛ لذلك خرج الخطاب للأولياء مع ما ليس في تخصيص الأولياء، بالخطاب دليل إخراج النساء عن ولاية النكاح. ألا ترى أنه ذكر في الآية (الصلاح) بقوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، لم يصر ذلك شرطًا في الجواز، فعلى ذلك الأولى. وهذا يدل أيضًا على أن ليس في تخصيص المحصنات من الكتابيات حظر نكاح الإماء منهن.
والثاني: أن قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)، يحتمل أن يكون في الصغار خاصة، نهى الأولياء عن تزويج الصغار من المسلمين المشركات من غير الكتابيات. فإذا كان محتملًا ما ذكرنا، لم يكن لمخالفنا الاحتجاج به علينا في إبطال نكاح المرأة نفسها دون وليها. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ).
اختلف في تأويله:
قال قوم: هو في غير الكتابيات، يبين ذلك قوله: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فنسق الكتابيات بالإحلال على ما لم يختلف فيه أحوال الحل من أول الإسلام إلى الأبد ولا من قبل ذلك نحو الطيبات من الطعام - من طعام المؤمنين
فَإِنْ قِيلَ: على ذلك لِمَ لا كانت آية الإحلال في التخصيص بذكر المحصنات دليلًا على حرمة نكاح الإماء؟
قيل: يكون الجواب لأوجه:
أحدها: أن ذكر الحل في حال لا يدل على الحرمة في غيرها. كذلك ذكر الحل في صنف لا يدل على حرمة في غيره. ولو كان ذا يدل، لكان يجيء أن يكون حكم ما لا يرد فيه السمع مخالفًا لما يرد فيه. وذلك فاسد؛ إذ السمع هو دليل الحكم فيما لا سمع فيه بالمعنى الذي ضمن فيه. واللَّه أعلم. وأيد ذلك قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ثم هن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن؛ فمثله الأول.
والثاني: أنه منسوق على مثله في المؤمنات. ثم لم يكن ذلك في المؤمنات على تحريم الإماء؛ فمثله في الكتابيات.
فَإِنْ قِيلَ: لما بين في إماء المؤمنات؟
قيل لهم: لم يزعم أحد أن ذلك على نسخ هذه الآية؛ فثبت أنه ليس في الذكر في المحصنات تحريم الغير؛ فكذلك في المنسوق على ذلك مع ما لو كان في مثل هذا الاستدلال على الحرمة، لكان في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)؛ إذ وقع على غير الكتابيات - دليل على الإحلال، فيكون ذكر الحرمة في نوع دليل الحل في غيره على مثل ذكر الحل في نوع. وفي ذلك تناقض الأدلة. واللَّه أعلم.
ووجه آخر: أن (وَالْمُحْصَنَات)، يحتمل أن يريد به العفائف، وأهل الصلاح، والإماء قد يستحققن هذا الاسم، كقوله تعالى: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ)، وقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)، وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)، وإذا استحققن الاسم فهن في الآية حتى يظهر الإخراج. والله
وبعد، فإنا نقول: أكثر ما في ذلك أن يكون في ذلك النهي عن تزوج الإماء من أهل الكتاب، فإن النهي في ذلك لا يدل على الحرمة؛ لأنه معلوم المعنى الذي له يقع النهي عن نكاح الإماء -أنه لمكان رق الأولاد، ولمكان مخالطة الإماء الرجال وخلوتهن بالموالي- وذلك مما ينفر عنه الطباع، ثم كان النساء الزانيات جميع ذلك فيهن موجود، والنهي قائم، وقد يلحق أولادهن أعظم الشين الذي يضعف على الرق، ثم لم يمنع النهي جواز نكاحهن بما هو نهي نفار الطباع، لا معنى في ذلك له بكون الحرمة؛ فمثله أمر الإماء. واللَّه الموفق.
ثم دليل حلهن: أن كل امرأة حرمت لنفسها، فسواء وجه الحل بها في ملك اليمين والنكاح، وكل امرأة كانت حرمتها بالحق فيختلف فيها المكان، فإذا كانت هذه محللة بملك اليمين ثبت أنها لم تحرم لنفسها، فهي تحل بالنكاح كما تحل بملك اليمين. على هذا الأصل أمر المجوسيات والمحارم ونحوها. واللَّه أعلم.
وقال قوم: الآية في جميع المشركات والكتابيات، ثم نسخت الكتابيات بالآية التي في سورة المائدة، وكان النسخ بشرط الإحصان، فبقيت الإماء على الحرمة. دليل ذلك وجهان:
أحدهما: قوله تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ)، أنه يدخل في ذلك الكتابي وغيره؛ فكذا في الأول.
والثاني: قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ...) الآية.
والثالث: أن الكتابي مشرك في الحقيقة، إذ هو بما لا يغفر له، والكتابي في الدعاء إليها وغيره سواء؛ فلذلك كان على ما ذكرت.
فنحن نقول في ذلك - وباللَّه التوفيق -: ليس فيما ذكم دليل على ما ادعى؛ لأنه جائز خروج آية واحدة في أمرين يختلف موقعهما من الخصوص والعموم بالدليل نحو قوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا
والثاني: أنه يجوز أن تكون الآية في غير أهل الكتاب. دليل ذلك الأمر بالمعروف من التفرقة في التسمية، وإن كانوا في الشرك مجتمعين؛ قال اللَّه تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، وغير ذلك مما قد فصل الله بينهم في النسبة وإن كانوا في حقيقة الشرك مجتمعين، فجائز أن تكون الآية على ذلك، ثم حرم تزويج المسلمات من أهل الكتاب لا بهذه الآية، لكن بغيرها من الأدلة.
ألا ترى أنا لا نترك مماليك أهل الإسلام تحت أيديهم لا بهذه الآية؟! فمثله أمر الإنكاح. واللَّه أعلم.
ثم في الآية دليل ذلك، وهو قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ...) الآية، وكل يجمع ألا يحل نكاح الأمة المؤمنة على الحرة الكتابية، فلو كانت هي مرادة في هذه الآية لكان نكاح من هو خير منها في النكاح لا يحرم عليه، حتى إن الذي يقول بهذا التأويل يحرم لطول الكتابية فضلا عن نكاحها. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، دليل أن الإماء غير داخلات في الخطاب؛ لأنهن لا يدعون بل الغالب عليهن أن يتبعن ويجبن لمن هن تحتهم فيما دعين إليه، لا أن يدعون. هذا الأمر المتعارف. واللَّه أعلم.
ثم نقول: جعل كأن الآية نزلت في الكتابيات، فقال: " ولاتنكحوا الكتابيات "، فإن الكتاب في جميع ما جرى به الذكر في حقوق النكاح والطلاق والأحكام تضمن خطاب الأحرار، خاصة فيما أبهم، وعرف أمر الحرمة في الإماء والعبيد بالأدلة العقلية مما دلت عليه أحكام السمع؛ فكذا هذا. واللَّه الموفق.
وقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا)، محمول على التحريم باتفاق الأمة وإن احتمل ما هو بهذا المخرج على غير التحريم، على أن اللَّه تعالى قد بين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ
ثم فيها دلالة عموم الآية في الذكور؛ لأنه في تعارف الخلق: أن الرجال هم الذين يدعون، لا النساء، والنساء تتبعهم. وذلك المعنى في رجال أهل الكتاب وغيرهم سواء، فتكون الحرمة فيهم سواء. وعلى ذلك المروي من الخبر: أن رجلًا أسلم وتحته ثماني نسوة وأختان ونحو ذلك فأسلمن. دل أنهن يتبعن الرجال، لا أنهن يدعون إلى ما يخترن من الدِّين. واللَّه أعلم.
ثم الدليل على أن النهي أيضًا نهي تحريم في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، أنه لولا خبث فيهن في الحقيقة يوجب حرمة الاستمتاع لكان لا ينهى عن التناكح، وذلك من أبلغ أسباب دعوتهن إلى الإسلام بما ذكرت من الفرق في طاعتهن الأزواج فيما يختارون من الدِّين في المتعارف بمن رويت فيهن الخبر، وخاصة ذلك في المشركات أحق في الحل منه في الكتابيات؛ إذ هن إنما أخذن دينهن عن آبائهن بالاعتياد والتقليد، ومعلوم اعتيادهن ما فيه رضاء الأزواج وإيثار ذلك على ما فيه رضاء الآباء حتى يؤثرنهم عليهم بما جعل اللَّه بينهم مودة ورحمة. والكتابيات أخذن دينهن لما علمن أنه دين الرسل وأنهن أمرن بالتمسك به. فإذا نهوا عن نكاح المشركات وأبيحوا نكاح الكتابيات -
واللَّه أعلم.
ثم اللَّه - سبحانه وتعالى - أخبر أنه حرم الخبائث وأحل الطيبات، فلولا أن فيما حرم خبثًا، يحتمل الوقوف عليه، وفيما أحل طيبًا لسوى الحرمة والحل له - كان كذلك لم يحتمل التسمية في وصف التحريم والتحليل هو لا غير. وهذا كما وصف المؤمن بالحياة والسمع والبصر، والكافر بضد ذلك بما في كل معنى ذلك، لا أنه اسم لقب دون أن يكون له حقيقة له يسمى. فمثله الذي ذكرت.
ثم كان (الخبث) يكون من وجهين:
من خبث الأحوال، ومن خبث الأفعال، وله سمي الكفر (رجسًا)، وكذا الخمر والميسر، وذلك كله بخبث الأفعال. وعلى ذلك يجوز أن يكون تحريم تزويج المسلمات المشركين لخبث الفعل: وهو خوف وقوع الكفر؛ إذ هن يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلدونهم الدِّين، فيكون التحريم لهذا الخوف؛ إذ هو الوجه الذي عليه جرى حرمات النكاح من ذلك نحو نكاح ما كثر عددهن بقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، فمنع عن الخمس، وأكثر الخوف وقوع الجور الذي هو في العقل خبيث، ونكاح الأمة بعد الحرة؛ إذ الطبع ينفر عن مناكحة من يخالط الرجال ويخلو بهم، لا يؤمن عليه السفاح، فما يؤثر مثلها عند الغناء بالحرة عنده عنها إلا لأمر حدث بينهما مما يبعث ذلك على الجور، فنهوا عن ذلك.
وكذلك نكاح المحارم بما قد يجري من الأمور في النكاح مما يحمل على تضييع الحدود وأنواع النشوز الذي يمنع ذلك القيام بحق النسب وصلته، فيكون في ذلك تضييع الفرض. وكذلك محارم المرأة، وعلى هذا يجب تحريم المسلمة على الكتابي وغيره لخوف وقوع فعل الخبث بينهما، وهو الكفر. ولم يقع النهي عن نكاح الزانية والزاني على ذلك؛ لأنه ليس في الطباع احتمال اتباع أحدهما الآخر في ذلك الوجه بل ينفر عن ذلك أشد النفار، فلا يخاف فيه هذا، فهو على الأدب بما يلحق الولد الطعن وصاحبه يشتم به، لا أن يلحقه وصفه موافقة ما ثم إلا لمكان الآخر يكون النهي نهي تحريم، بل كان على الإرشاد بما يلحق من الطعن دون ما أن يحدث من تعدى حد أو جور في الفعل. وعلى ذلك أمر نكاح الأمة. واللَّه أعلم.
ثم وجه التفصيل بين الكتابية والمشركة - واللَّه أعلم - في إباحة التناكح: أن المشركة
وعلى ذلك لو أسلمت لم يعظم درجة إسلامها، لولا أنا نرجو من رحمة اللَّه أن اللَّه -إذا قبلت هي الإسلام- بالاختيار لينير قلبها حتى ينشرح صدرها للحق لكان لا يكون لإسلامها فضل حمد. واللَّه الموفق.
ووجه آخر: أن الكتابية لما آمنت بكتب الأنبياء، عليهم الصلوات والسلام، في الجملة، فقد آمنت بذلك بالرسل جميعًا، لكنها كذبت من كذبت، لما وقع الخبر عندها بخلاف الحقيقة، فأمكن أن تنبه عن حقيقة ذلك بالكتاب الذي آمنت به؛ ليكون إيمانها في الحقيقة إيمانا بمن كذبته بما ظنت أن في ذلك الكتاب تصديقًا. والمشركة احتيج فيها إلى ابتداء الإلزام، لا أن كان معها ما به اللزوم مما قد وجد إيمانها به. والله أعلم. وعلى هذا لا يسلم للمرتد حق الكتاب إذا اختاره؛ لأنا نعلم أنه يظهر ذلك، لا أنه في الحقيقة مختار؛ إذ كتابنا مصدق كتابهم، فلم يجز أن تظهر له بما به التصديق التكذيب ليرجع إلى رد هذا بقبول الآخر. فلذلك دم تحل ذبائحهم. واللَّه أعلم.
ودليل النهي عن النكاح والإنكاح حتى يكون الإيمان، أن الإيمان معروف عندهم، يعلمون به حقيقة الشرط. واللَّه أعلم.
ومخاطبات الأولياء في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا)، يخرج على الأمر المعروف من التولى، أو على الوقت الذي إليهم حق التولية، أو على أن الحق لهن عليهم في التزويج إذا أردن، فنهوا عن ذلك؛ ليعلم أن لا حق يجب لهم في ذلك. واللَّه أعلم.
أحدهما: الخبر عما يدعو بعضهم بعضا إلى عبادة غير اللَّه، وذلك دعاء إلى النار، كما قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، بما يوجب الفعل الذي دعوا إليه ذلك فكأنما دعوا إلى ذلك، إذ هوالمقصود من الثاني. وعلى ذلك تسمية الجزاء باسم العمل الذي له الجزاء. واللَّه أعلم.
ويحتمل: (يَدْعُونَ) في التناكح للهو واستكثار الأتباع في معاداة اللَّه تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح، واللَّه يدعو إلى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته.
واللَّه أعلم.
وقوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، يعني: يدعون إلى العمل الذي يستوجب به النار.
(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ)، يعني يدعو إلى العمل الذي يوجب لهم الجنة والمغفرة واللَّه أعلم، وقوله: (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
* * *
قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
دل جوابه على أن السؤال كان عن قربان النساء في الحيض، أو كان عن موضع
قال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: يستمتع بها ما فوق السرة وما تحت الركبة، ويجتنب غير ذلك.
وقال مُحَمَّد - رضي اللَّه تعالى عنه -: يجتنب شعار الدم، على ما جاء عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " يتقي شعار الدم، وله ما سوى ذلك ". ثم دل هذا
وحجة أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، ما روي أنه قال: لها ما تحت السرة، وله ما فوقها، وما روي أن أزواج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا حضن أمرهن أن يتزرن ثم يضاجعهن.
وأما مُحَمَّد، رحمه اللَّه تعالى، فإنه ذهب إلى ما ذكرنا: أنه ينهى عن قربان ذلك الموضع للأذى، وأما الموضع الذي لا أذى فيه فلا بأس. ويجوز أن ينهى عن قربان هذه الأعضاء من نحو الفخذ وغيرها؛ لاتصالها بالموضع الذي فيه الأذى.
ويحتمل أن يكون ذكر الإزار كناية عن الموضع الذي فيه الأذى؛ وعلى ذلك روي عن عائشى: ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها سئلت: عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: " يحل له كل شيء إلا النكاح ". وسئلت: عما يحل للمحرم من امرأته؟ فقالت: لا يحل له شيء إلا الكلام.
وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ) أي: لا تجامعوهن.
(حَتَّى يَطْهُرْنَ) فيه لغتان:
في حرف بعضهم (يَطْهُرْنَ) بضم الهاء وتخفيفها، وفي حرف آخرين بتشديد الهاء وفتحها:
فمن قرأ بالتخفيف فهو عبارة عن انقطاع الدم، ومن قرأ بالتشديد فإنه عبارة عن حل قربانها بعد الاغتسال.
ثم من قول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إن المرأة إذا كانت أيامها عشرا تحل لزوجها أن يقربها قبل أن تغتسل، وإذا كانت أيامها دون العشر لم يحل له أن يقربها إلا
ويحتمل: أن تكون الآية فيما كانت أيامها دون العشر في اللغتين؛ إذ الغالب كان على أن الحيض لا يحيط بكل وقت، على ما روي أنه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش: " تحيَّضي في علم اللَّه من الشهر ستا أو سبعا ". فعلى ذلك أنه إنما جعل قربانها بالاغتسال.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ): إنه على ما دون العشر من المدة بما الغالب كان على ألا يمتد إلى أكثر الوقت ولا يقصر عن الأقل، على ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال في النساء: " هن ناقصات عقل ودين ".
ووصف نقصان دينهن: أن تحيض إحداهن في الشهر ستًّا أو سبعًا، ووصفهن جملة بنقصان دينهن، ثم ذكر ما بين في التفسير عن الجملة، ثبت أن ذلك كان الغالب في الجملة حتى خرج عليه الجواب أنه لا يمتد إلى الأكثر ولا يقصر عن الأقل. واللَّه أعلم.
وأيد هذا ما أخبر عن ابتداء الآية أنه الأذى، وأمر بالاعتزال، ثم جعل لها بعد الانقطاع قبل الاغتسال حكم الأذى؛ فلم يجز أن يجعل الحكم لما ليس بحقيقة حكم الأذى، فيجعل للطهر الذي هو ضده ذلك الحكم، واللَّه أعلم، وبما أنه ليس لذلك حكم الأذى
وعلى ما ذكرت من العرف ينصرف أمر الوقت: أنها لو أخرت الاغتسال عن وقت الصلاة فإن للزوج أن يقربها بما لزمها من قضاء الصلاة، وهذا النوع من الأذى لا يمنع لزوم القضاء. وحصل الخطاب على الوقت بالعرف أنهن لا يتأخرن، وبما ذكرت عن لزوم القضاء الذي يمنعه حكم الأذى، وبذلك صار غسل الحيض كغسل غيره من الأحداث، وهو لا يمنع القربان. واللَّه أعلم.
وحرم إتيان الأدبار، بما عليه اتفاق الآثار، وبما خص المكان بالأمر بالقربان، وبما أمر بالاعتزال للحُيَّضِ، ولو كان يحل غِشْيانهن في الأدبار لم يكن للأمر بالاعتزال معنى؛ إذ قد بقي أحد الموضعين من المقصود بالغِشْيان لو احتمل. واللَّه أعلم.
والأصل في ذلك: أن الحل في الابتداء لم يتعلق بقضاء الشهوات، ولا كان هذا لها، وإنما القضاء للشهوات خاصة الجنة، فأما الدنيا فإنما جعلت لقضاء الحاجات؛ إذ بها يكون بقاء النسل والأبدان، وبها يكون قوام الأبدان ودوام الحياة إلى انقضاء الأعمار، وركبت فيهم الشهوات لتبعثهم على قضاء تلك الحاجات؛ إذ لولا الشهوات لكان كل أمر من ذلك على الطباع يكون كالأدوية الكريهة والمحنة الشديدة، فخلق اللَّه تعالى فيهم الشهوات ليدوم ما به جرى تدبيره في أمر العالم، ولا تتعلق الحاجات بإتيان الأدبار. ولو أحلت لكان الحل لحق الشهوة خاصة، والدنيا لم تخلق لها؛ فلذلك لم تجعل بها حل مع ما لو كان يحتمل ذلك لاحتمل التناكح في نوع؛ فإذا لم يحتمل بأن أن ذلك إنما جعل للنسل. واللَّه الموفق.
وقال بشر: إذ حرم الغشيان للحُيَّضِ بما هو أذى، وهو يكون على ما يتقذر، فالذي مجراه الدبر والذي منه يخرج من الأذى أوحش وأخبث، وذلك قائم في كل الأوقات، كقيام الحيض في أوقاته، فالحرمة لذلك أشد، ذكر بوجه، أمكن أن يبسط ما قال على الذي وصفته. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
قيل فيه بوجوه:
ويحتمل: لا تأتوهن حُتضًا، ولكن (فَأْتُوهُنَّ) طهرا.
وقيل: (فَأْتُوهُنَّ) في الموضع الذي أباح لكم إتيانها، وهو القبل، ولا تأتوهن في أدبارهن.
ويشبه -إذ " حيث " يعبر به عن المكان- أن يكون (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أن تبتغوا الولد، بقوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم).
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب.
(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).
من الأحداث والأذى.
والثاني: ممن فعل هذا قبل النزول (الْمُتَطَهِّرِينَ) أنفسهم بالتكفير، والتواب هو الرجاع عما ارتكب، والتارك عن العود إلى ذلك، غير مصر على الذنب.
ويحتمل: التواب: الذي لا يرتكب الذنب.
وقوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (٢٢٣)
الحرث: هو الزرع. وفيه دليل النهي عن الاعتزال عنها؛ لأن الزرع إذا ترك سُدًى فيضيع ويخرب.
وفيه دليل أن الإباحة في إتيان النساء طلب التناسل والتوالد، لا قضاء الشهوة؛ لأنه سمى ذلك حرثًا، والحرث ما يحرث فيتولد من ذلك الولد.
وفيه دليل أن الإتيان في غير موضع الحرث يحرم منهن، وعلى ذلك جاءت الآثار أنها سميت اللوطية الصغرى، ما جاء أنه نهى عن إتيان النساء في محاشهن، يعني: في أدبارهن، وفي بعض الأخبار: إتيان النساء في أدبارهن كفر.
يعني؛ على أي جهة شئتم بعد أن يكون ذلك في المزرع، ولا بأس بالاعتزال عنها إذا أذنت؛ لما ذكرنا أن الأمر بذلك أمر بطلب النسل، لا قضاء الشهوة. فإذا كان كذلك فلها ألا تتحمل مشقة تربية الولد، وأما الزوج فإنما عليه المؤنة، وذلك مما ضمن اللَّه لكل ذي روح بقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)؛ لذلك نهِيَ هو عن الاعتزال دون إذنها، ولم تنه هي عن الإذن عن ذلك. واللَّه أعلم.
والأصل: أن الشهوات مجعولة لما بها إمكان قضاء الحاجات التي يقضي بها جرى تدبير العالم، وبه يكون دوام النسل، وبقاء الأبدان، الحاجة لا تحتمل الوقوع في الأدبار؛ لذلك لم يجعل فيها.
وقوله: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ).
قيل فيه بوجهين:
قيل: (وَقَدِّمُوا) العمل الصالح.
وقيل: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) من الولد تحفظونه عند الزيغ عما لا يجب.
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
يحتمل قوله: (أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ)، أي: ما قدمتم من العمل الصالح فتجزون على ذلك؛ كقوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ).
ويحتمل: (أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ)، أي: ملاقو ربكم بوعده ووعيده.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧).
وقوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ).
قيل: كان الرجل يحلف ألا يصنع المعروف، ولا يبر، ولا يصلح بين الناس، فإذا أمر بذلك، قال: إِنِّي حلفت على ذلك، فنهوا عن ذلك، يقول: لا تحلفوا على أمر هو لي معصية ألا تصلوا القرابة، وألا تبروا، وألا تصلحوا بين الناس، وصلة القرابة خير لكم من الوفاء باليمين في معصية اللَّه تعالى. و " العرضة " العلة، يقول: لا تعللوا، أي: لا يمنعكم أن تبروا أو ما ذكر.
حرفان يخرجان على الوعيد: (سَمِيعٌ) بمقالتكم وأيمانكم، (عَلِيمٌ) بإرادتكم في حلفكم.
وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ): إن كسب القلوب لا يكون عقدًا ولا حنثًا، إنما هو تعمد الكذب.
كقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)، فعلى ذلك أَمْر يمين اللغو والتعمد. وهذا يبين أن اليمين يكون في موجود، لا فيما يوجد؛ إذ فيه وصف المآثم، وفيما يكون لم يكسب قلبه ما يأثم فيه. فعلى ذلك أمر اللغو؛ فهو في الماضي، ولا يأثم بالخطأ، ويأثم في غير اللغو بالتعمد.
ثم قال اللَّه تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)، وبين أن المؤاخذة تكون في هذا بالكفارة وفي الأول بالمأثم، وفي اللغو لا يؤاخذ بهما، فلزم تسليم البيان لما جاء في كل ذلك، ثم جميع المؤاخذات في كسب القلب بالمأثم ولزوم التوبة؛ فكذا في هذا.
وقد رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر اللعان، أنه قال: " إن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ " ومعلوم كذب أحدهما ولزوم التوبة، مع ما في تركه الوعيد الشديد من الغضب أو اللعن. ولو كانت فيه كفارة لكان لا سبيل إلى العلم بها إلا بالبيان؛ فهي أحق أن يبين لو كانت واجبة، دل ما لم يبين أنها غير واجبة على أنها تجب للحنث، والحنث عقيب العقد يدفعه، وكان هاهنا ملاقيا له، فهو يمنعه على نحو جميع الحرمات التي تفسخ الأشياء، فهي عند الابتداء تمنع. وليس ذلك كالطلاق ونحوه؛ لما قد يكون بلا شرط، واليمين لا يصح إلا به ولم يكن فأنفذ.
وقوله: (وَاللَّهُ). وقد يخرج مخرج الاستخفاف الحلف باللَّه كاذبًا والجرأة على اللَّه، فيجيء أن يكون كفرًا، لولا أن المؤمن يخطر بباله ما يحمله على ذلك دون قصد
وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)، قال سعيد بن جبير: هذا محمول على قوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، أي: لا يؤاخذكم اللَّه بنقض أيمانكم التي حلفتم بها؛ لأنها معصية لله، ولكن يؤاخذكم بحفظها والمضي عليها.
ثم اختلفوا في اللغو ما هو؟
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الإثم.
وقيل: هو الغلط.
ْثم اللغو المذكور الذي أخبر أن لا مؤاخذة على صاحبه يحتمل ألا يؤاخذه بالإثم، ويحتمل ألا يؤاخذه بالكفارة، بل إنما يؤاخذ بالكفارة بما يعقد.
ثم ذكر في الآية الثانية: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)، ولو حمل على أنه لا يؤاخذ في هذا أيضًا بالإثم وقع الكلام -بحيث لا يفيد- في حد التكرار.
والأصل عندهم: بأن حمله على ما يفيد أحق من حمله على ما لا يفيد؛ فثبت أن الأول في نفي الإثم، والثاني في نفي الكفارة.
وعلى هذا القول في الغموس: إنه لعظم الوزر والإثم لم يلزم أن يكفر، فليس فيه الكفارة.
وقال الفقيه أبو منصور - رحمه اللَّه تعالى -: والقياس عندي في التعمد بالحلف على الكذب أن يكفر؛ ولهذا ما لحقه الوزر لما أن الأيمان - جُعلت للتعظيم لله - تعالى - بالحلف فيها، والحالف بالغموس مجترئ على اللَّه - تعالى - مستخف به؛ ولهذا نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الحلف بالآباء والطواغيت؛ لأن في ذلك تعظيمًا لهم وتبجيلاً.
فالحالف بالغموس كالذي هو مجترئ ومستخف، فالوزر له بالجرأة لازم، ثم المتعمد مجترئ مستخف باللَّه - تعالى - على المعرفة؛ لأنه لا يسع، فسبيله سبيل أهل النفاق - إظهارهم الإيمان بما فيه استخفاف، وإن كان سببها للتعظيم، للاستخفاف لزمهم العقوبة بذلك، كذا الأول، ولكنه بالحلف خرج فعله على الجرأة للوصول إلى مناه وشهوته، لا للقصد إليه. وعلى ذلك يخرج قول أبي حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - في سؤال السائل: إن العاصي مطيع للشيطان، ومن أطاع الشيطان كفر، كيف لا كفَّر العاصي؟ فقال: لأنه خرج فعله في الظاهر مخرج الطاعة له، لا أن القصد يكون طاعته، وإنَّمَا يكفر بالقصد لا بما يخرج فعله فعل معصية؛ فكذا الأول. واللَّه أعلم.
وعلى ذلك جاء في أمر اللعان من القول بأن " أحدكما كاذب فهل منكما من تائب "، ففيه وجهان:
والثاني: أنه أمر بالتوبة، وقد يعلم من كذب أن عليه ذلك مع ما في القرآن من اللعن والغضب، ولم يأمر بالكفارة -وهي لا تعلم إلا بالبيان- فهي أحق أن تبين لو كانت واجبة. واللَّه أعلم.
والأصل عندنا في اليمين الغموس: أنه آثم، وعليه التوبة، والتوبة كفارة. وهكذا في كل يمين في عقدها معصية أن تلزمه الكفارة وهي التوبة. وأما الكفارة التي تلزم في المال، فهى لا تلزم بالحنث؛ لأنه بالحنث يأثم، والحنث نفسه إثم؛ لذلك لم يجز إلا بالحنث.
وما رويت من الأخبار - من قوله - عليه الصلوات والسلام -: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير ": أنه إذا كان يمينه بمعصية يصير باليمين آثمًا، فيكلف بالتوبة.
وقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)
وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
وقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: الإيلاء معلوم في اللغة أنه اليمين. وكذلك كان
ورُويَ عن عليٍّ - رضي اللَّه تعالى عنه - التفريق بين الغضب والرضا. ثم أوجب التربص للمُولِي. فمن كانت يمينه بدون أربعة أشهر فهو بعد المدة ليس بِمُولٍ، فلم يلزمه الحكم الذي جعل اللَّه للإيلاء؛ ألا ترى أنه في المدة ذكر (الفيء)، وهو لو وجد منه لم يجب عليه ما في الفيء من
ثم اختلف الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - في الوقف بعد الأربعة الأشهر، على اتفاقهم على حق لزوم الطلاق أو حقه بمضي المدة، ثم لا يجوز أن يحلف بحق الطلاق فيلزم، ويجوز أن يحلف بالطلاق فيلزم؛ لذلك كان الطلاق أحق مع ما ذلك زيادة في المدة للتربص. وجميع المدد التي جعلت بين الزوجين لم تحتمل الزيادة عليها لما جعلت له المدة، فمثله مدة الطلاق. وهذا على أن اللَّه - تعالى - حذر نقض اليمين بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا)، وأطلق في هذا أربعة أشهر، بما روي في قراءة أُبي بن كعب، أنه
وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ (٢٢٧)
كقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا). وليس ذلك على إحداثه بعد مضي المدة، كذلك الأول. واللَّه أعلم.
ثم اختلف فيه على وجوه:
قال ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: الإيلاء على يوم فقط، وأما التربص بأربعة أشهر؛ لأنه لم يذكر في الكتاب للإيلاء مدة، وإنما ذكر المدة للتربص.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: الإيلاء على الأبد، ذهب في ذلك إلى أن الإيلاء كان طلاق القوم، والطلاق يقع إلى الأبد.
وقال آخرون: من ترك القربان في حال الغضب مُولٍ، وإن لم يحلف. لكن هذا ليس بشيء؛ لأن اللَّه تعالى ذكر الإيلاء، والإيلاء هي اليمين. دليله ما ذكرنا من حرف ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ: (للذين يقسمون)؛ فدل هذا أن حكم الإيلاء لا يلزم إلا باليمين على ترك القربان.
ورُويَ عن عليٍّ بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رجلا سأله - أنه حلف ألا يقرب امرأته سنتين. فقال: هو إيلاء، وأنها تبين إذا مضت أربعة أشهر. فقال: إنما حلفت ذلك لمكان ولدي. فقال: لا يكون إيلاء. فرأى في ذلك إيلاء إذا كان عاصيًا وإذا كان إيلاؤه هو ترك قربانه إياها بمكان الولد لم ير ذلك إيلاء. ثم لا يجوز أن يحمل ما حمل هَؤُلَاءِ. أما ما حمل علي بن أبي طالب، رضي اللَّه تعالى عنه، واعتباره بالعصيان وغير العصيان، فالإيلاء هو اليمين، والأيمان لا يختلف وجوبها ووجوب أحكامهما في حال العصيان وفي حال الطاعة. فعلى ذلك حكم الإيلاء.
ولو حمل على ما حمل ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، لكان لا يبقى الإيلاء بعد مضي اليوم، فإذا لم يكن يمين بعد اليوم لم يبق حكمها.
فإذا بطل ما ذكرنا ثبت قولنا: إن مدة الإيلاء إذا قصرت عن أربعة أشهر لم يلزمه حكم الإيلاء. ولو كان على الأبد لكان لا فائدة في ذكر المدة، وألا يعتبر العصيان ولا الطاعة ولا الغضب ولا الرضاء على ما ذكرنا.
وروي في بعض الأخبار، أنه قال: الإيلاء ليس بشيء. معناه ما قيل: إن الإيلاء كان طلاق القوم، فقوله: " ليس بشيء " يقع للحال دون مضي المدة ثم اختلفوا أيضًا بعد مضي المدة، قيل أن يفيء إليها في المدة.
قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إذا مضت أربعة أشهر وقع الطلاق.
وقال قوم: إنه يوقف بعد مضي المدة، فإما أن يفيء إليها، وإما أن يطلقها.
واحتجوا في ذلك إلى أن اللَّه تعالى ذكر الفيء بعد تربص أربعة أشهر بقوله: (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا)؛ لذلك كان له الفيء بعد مضي الأربعة الأشهر، وروى في بعض الأخبار الوقف فيه، ورُويَ عن عمر وعلي وعثمان وعائشة وابن عمر - رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم - في الْمُولي: إذا مضت أربعة أشهر فإما أن يفيء وإما أن يطلق. إلى هذا يذهبون. لكن هذا يحتمل أن يكون من الراوي دون أن يكون ما قالت الصحابة. وأما عندنا: إن قولهم: ذكر الفيء بعد تربص أربعة أشهر، فذلك لا يوجب الفيء بعد مضيها؛ ألا ترى إلى قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ليس أنه يمسكها بعد مضي الأجل، ولكن معناه: إذا قرب انقضاء أجلهن فأمسكوهن. فعلى ذلك جعل لهم الفيء، إذا قرب انقضاء أربعة أشهر.
وأما ما روي من (الوقف)، فليس فيه الوفف بعد مضي أربعة أشهر، يحتمل الوقف في الأربعة الأشهر.
ثم اختلف في الطلاق إذا وقع:
قال قوم: هو رجعي. وهو قول أهل المدينة. فهو على قولهم؛ تعنُّت؛ لأن الزوج يقدم إلى الحاكم، فيطلق عليه الحاكم، ثم كان له حق المراجعة، فيكلف الحاكم العنت.
وأما عندنا: فهو بائن. وعلى ذلك جاءت الأخبار، رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. وعن ابن مسعود - رضيَ اللَّهُ تعالى عنه - مثله. ورُويَ عن أُبي بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - في قوله: " فإن فاءوا " أي فيهن يعني في الأربعة الأشهر، (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فثبت أنه جعل الرحمة والمغفرة فيها.
والثاني: قوله: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، ولو لم يجعل له القربان والنقض في المدة لكان لا سبيل له إلى نقضها بعد مضي المدة؛ إذ هي تتأكد؛ فثبت أنه لا بما اعتبروا يلزم.
ثم قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يحتمل وجهين:
يحتمل: بما جعل له الخروج مما ضيق على نفسه؛ لأنه لا تطول عليه المدة.
ويحتمل: أن المغفرة كانت بما ارتكب ما إذا مضى عليه وجد ذاته مستحقًا للعقوبة، فغفر له صنيعه، ورحمه بأن يجاوز عنه ما فعل.
وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ):
رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: عزيمة الطلاق مضيُّ أربعة
وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
سميع: بإيلائهم، عليم: بترك الفيء وتحقيق حكمه، أو عليم بما أراد بالإيلاء، كأنه قال: إنه عن علم بما يكون من خلقه وبما به صلاحهم وما إليه مرجعهم، وهو السميع بجميع ما به تناجوا وأسروا وجهروا. واللَّه الموفق.
والفيء: الجماع، وهو الرجوع في الحاصل؛ لأنه حلف ألا يقربها، فإذا قربها رجع عن ذلك. وهكذا رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنهما قالا: الفيء: الجماع.
* * *
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
ثم اختلف الناس في الأقراء في قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: الأقراء: هي الأطهار.
قال عمر وعلي وعبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين -: هي الحيض.
وقالت عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -: هي الأطهار. وبه أخذ أهل المدينة، وقالوا: قلنا ذلك بالسنة والأخبار عن الصحابة - رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين - واللسان، والمناقصة:
أما السنة: فقوله لعمر: " مر ابنك فليراجعها، ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل من غير جماع؛ فتلك العدة التي أمر اللَّه تعالى أن تطلق لها النساء "؛ فدل أن العدة التي تطلق
لكن الجواب لهذا من وجهين:
أحدهما: أنه جعل ذلك عدة للطلاق، لا عدة عن الطلاق. والعدة للطلاق غير العدة عن الطلاق؛ وكذا نقول في الطهر الذي تطلق فيه النساء: إنها عدة للطلاق، لا عنها.
والثاني: أن من قول الرجل أن له الإيقاع في آخر أجزاء الطهر، وقد ذكر في الخبر: " الطلاق لقُبُلِ عدتهن "، ولو كان المعنيُّ به: الطهر، لكان الطلاق في آخر أجزاء الطهر قبل الحيض - في آخر أجزاء الطهر، لا في القُبُل. فثبت أن القول بجعل الطهر عدة عن
وأما اللسان فهو قول الناس: قرأ الماء في حوضه، وقرأ الطعام في شدقه، أي: حبس، والطهر بسبب حبس الدم.
لكن عندنا: الطهر جبلة وأصل، وعليها خلقت وأنشئت، والحيض عارض، فإذا كان في الرحم دم خرج، وإلا كانت على أصل خلقتها طاهرًا؛ لأن الطهر يحبس الدم، فإذا كان هذا ما ذكرنا بطل احتجاجه باللغة واللسان.
وأما المناقصة فهي أن يقول: جعلتم هي معتدة مع زوال الأذى عنها ما لم تغتسل في إبقاء حق الرجعة.
فأما دعوى المناقصة فهي بعيدة؛ لأن الكتاب جعلها باقية ما لم تغتسل على حكم الأذى؛ فإن كان فيه طعن فعلى الكتاب.
وقال: ذكر اللَّه تعالى: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) باسم التذكير، لا باسم التأنيث؛ فدل أنه أراد الأطهار، يقال: ثلاثة رجال، وثلاث نسوة، فإذا أدخل فيه (الهاء) عقل أنه أراد الطهر.
قيل: إن اللغة لا تمنع عن تسمية شيء واحد باسم التذكير والتأنيث كالبر والحنطة ونحو ذلك إذا لم يكن من ذي روح، فإذا كان كذلك فلا دلالة فيه على جعل ذلك طهرًا.
وقال: القرء: هو الانتقال من حال إلى حال؛ يقال: أقرأ النجم: إذا غاب، وأقرأ: إذا طلع، ونحوه.
لكن هذا ليس بشيء؛ لأنه لو كان القرء هو الانتقال من حال إلى حال لكان يقال للنجم إذا طلع: أقرأ؛ فيكون الاسم للظهور، لا للغيبوبة، أو لهما جميعًا؛ فلا دلالة في ذلك.
وأما الأصل عندنا: فقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، فأمر بالإمساك عند بلوغ أجلهن. والبلوغ: اسم للتمام. ثم لا يخلو بلوغ الأجل من أن يكون بالإشراف على أول أجزاء الطهر أو عند انتهائه. فإن كان على انتهاء الطهر فلا غاية له ينتهى إليه ليقطع عليه الحكم، وإن كان على الإشراف عليه أيضًا كذلك، ثم لو حمل على الانتهاء أيضًا يبعد بما يعرف ذلك بالحيض الذي يقطع جهة الإمساك؛ فحمل على ما يعرف، لا على ما لا يعرف - واللَّه أعلم فثبت أنه الحيض؛ لأن لها الغاية.
والثاني: قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)، كذا اتفقوا فيه أنه مذكور على البدل، ولم يعرف ذكر الأبدال في
واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عدة الأمة حيضتان "؛ ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض.
ثم الدليل على أن المراد من قوله: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، وإن احتمل الطهر، يرجع إلى الحيض وجوه: أحدها: ، أن (ثلاثة) اسم لتمام العدد، فيصير كأنه قال: ثلاثة أطهار، لو أراد به الطهر، أو ثلاثة حيض، لو أراد به الحيض. ثم هم على اختلافهم اتفقوا على أنه بالحيض ثلاثة، وبالطهر طهران وبعض الأول. ثبت أن الحيض أولى مع ما كان فيه الاحتياط إذ احتمل الوجهين أن يدخلا جميعًا في الحق لا يزال بعد أن ثبت إلا بالبيان، ويبين ذا أن في الخبر تلك العدة التي أمر اللَّه أن تطلق لقبلها النساء، أنه الحيض حتى يكون قبله الطهر مع ما يحتمل عدة فعل الطلاق في الانقضاء يبين ذلك ما رُويَ عن
والثالث: قوله (فإذا بلغن أجلهن) والبلوغ اسم للتمام ووفاء بعد المراجعة من بعد الإشراف عليه، وهو بالطهر لا يعلم حتى يرى الدم؛ لأن الطهر لا غاية له، وذلك يمنع على قولهم الرجعة؛ فثبت أنه الحيض؛ لأن له الغاية، وإن لم ينقطع الدم وقت ولما كان الطلاق وقت ابتداء الحرمة، وذلك طهر، ووقت تقضي العدة وقت تمام ذلك، فهو التطهر، مع ما ينقضي سبب الملك بالطلاق، ووقته الطهر، وبقية الملك بتقضي العدة، فيجب أن يكون وقته الطهر على إلحاق جميع الفروع مع الأصول، وإلحاق التوابع بالمتبوعين، ولا قوة إلا باللَّه.
ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض.
وقال الشافعي: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عدة الأمة حيضتان " أي: قرءان والقرءان هما الطهران.
فيقال له: أبلغت في المقلة، وأفرطت في الحجاج، حيث فهمت من الحيض القرء، وهو أوضح عند أهل اللسان بالسماع من المفهوم له به مع ما في ذلك تجهيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - باللسان، وهو أفصح العرب وأعلم البشر، حيث عبر عن الطهر بالحيض.
ووجه آخر: أنهم اتفقوا على أنه لو طلق في بعض الطهر فالبقية منه عدة، ومثله من الاعتداد قرءان ونصف، والكتاب أوجب الاعتداد بالثلاث؛ فثبت أن الأمر بالاعتداد أمر بالحيض، لا بالإطهار للمعنى الذي وصفنا، وإن كان القرء اسمًا للطهر والحيض في اللغة.
ثم الأصل في المسألة: أن أول ابتداء الحل لزوجها ولغيره بالطهر، وكذلك نهاية الحل إنما جعلت بالأطهار.
ثم الأصل: أن ابتداء حرمتها على الزوج الأول بالطهر، فيجعل أنتهاء الحرمة في مثله بالطهر. وحاصل هذا أنه جعل نهاية الحل فيه وفي غيره بما به ابتداء الحل، فكذا يجعل نهاية الحرمة فيه وفي غيره بما به ابتداؤه. وإذا ثبت أن المنظور في الحل والحرمة في الابتداء بالابتداء، وجب أن يكون المنظور في الحل والحرمة بالانتهاء.
وقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
ففى الآية دلائل:
أحدها: أن ذكر حرمة الكتمان فيمن آمن ليس بشرط فيه دون غيره؛ إذ قد يلزم ذلك من هو غير مؤمن، إذ هو غير مستحسن في العقل. ففيه الدليل على أن الحكم الموجب لعلة يجوز لزومه فيما ارتفعت عنه تلك العلة وعدمت وهو كقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقد يلزم إصلاح ذات البين في غير الإيمان، وكذا قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقد يلزم ترك الربا للمعاهد، وقد يجوز ذلك للمسلم في غير داره؛ فدل أن الحكم إذا ذكر لعلة في أحد لا يمنع لزوم ذلك في غير المذكور.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: فيه دليل على أن إضافة الحكم إلى سبب لا يمنع حقه ارتفاعه. وفيه دليل ألا يحل ذلك لمن قد آمن في الخلق؛ لأن حقه التصديق وإظهار الحق، وفي الكتمان والتكذيب ترك ما فيه من الشرط. واللَّه أعلم.
ثم اختلف في قوله: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الحبل والحيض. وكذلك رُويَ عن عليٍّ وعبد اللَّه بن مسعود وعبد الله ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم قالوا: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ): الحبل والحيض؛ فثبت أن موضع الحيض الرحم. ثم الرحم يشغله الحبل عن خروج الدم؛ فبان أن الحامل لا تحيض. وعلى ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنما ذلك دم عرق انقطع ". وهو الأمر الظاهر المتعارف في النساء أن الحبل يحبس الدم.
وقال بعض أهل التأويل: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ): الحبل خاصة دون الحيض؛ لوجهين:
والثاني: أن الحيض لا ينسب بكونه في الرحم، فإذا كان غير منسوب إليه لم يحتمل كونه فيه. واللَّه أعلم.
لكن الوجه فيه ما ذكرنا من قول الصحابة، وما فيه من الدلالة أنهن مؤتمنات فيما يخبرن؛ لوجهين:
أحدهما: ما جاء في الخبر من أن الأمانة أن تؤتمن المرأة على فرجها.
والثاني: لولا أنها ممن يقبل خبرها فيه لما أوعدن على الكتمان.
ثم يحتمل الكتمان من وجهين:
أحدهما: أن يكتمن ذلك يستوجبن به الإنفاق من عند أزواجهن بقولهن: العدة باقية، وذلك يحتمل الحيض والحبل جميعًا.
ويحتمل: ما قاله بعض أهل التأويل من إبقاء حق الرجعة.
ويحتمل قول أبي حنيفة، رحمه اللَّه تعالى، في كتمانها، إذ قال في المرأة إذا جاءت بولد في العدة، فشهدت امرأة على الولادة والحبل: لم يكن ظاهرًا أن يقبل قولها؛ إذ هي أمرت بالإظهار، والكتمان أورث تهمة في القبول.
ويحتمل: ألا يحل لهن أن يكتمن الحبل فيلحقن بغيرهم من الأزواج. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا).
يحتمل وجهين:
يحتمل: أنهن لا يملكن الرجعة، ولا منع أزواجهن عن المراجعة، بل ذلك إلى بعولتهن.
ويحتمل: (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) في نكاح في العدة، لا في حق الرجعة؛ إذ الزوج يملك نكاحها في العدة، وغيره من الناس لا يملك، كقوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ).
وقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ)، فيه دليل أن قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ)، إنما عنى به المطلق طلاقا لم يقطع على نفسه جهة العود.
وقوله في ذلك: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)، يحتمل وجوهًا:
ويحتمل: إن أرادوا إمساكهن بالمعروف، كقوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا)، فهو ممسك لها وإن كان مضرًّا.
ثم الأصل في هذا: أنه وإن قال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ليس على ألا يصير ممسكًا لها بغير المعروف.
وأصل هذا: أن ليس في القول بأن (لَمْ تَفْعَلُوا)، دليل الجواز، والفساد إذا فعل ذلك.
ثم اختلف في قوله: (فِي ذَلِكَ)، أي: في الوقت الذي يعيد به، أو (فِي ذَلِكَ) القروء. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: إِنِّي أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي؛ لأن اللَّه تعالى يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
وقال آخرون: لهن من الكفاف ما عليهن من الخدمة.
وقال غيرهم: لهن من الحق في المهور بتسليم الأزواج إليهن ما عليهن من تسليم الأبضاع إلى الأزواج؛ فيدل هذا على أن الخلوة، والتسليم منها، يحل محل قبض الحق منها لزوجها.
وقيل: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ)، الحقوق ما تلزمهن من حقوق الأزواج، يلزم مثلها على الأزواج لهن، وإن كانت مختلفة.
وقوله: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
قيل: هو الطلاق بيد الرجل وليس بيدها.
وقيل: هي الإمارة والطاعة والأمر.
وقيل: هي ما فضل اللَّه به عليها من الجهاد والميراث وغيره.
وقيل: هي فضيلة في الحق وبما ساق إليها من المهر.
وقال الشيخ أبو منصور، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
أي من الحقوق على الأزواج. ثم يحتمل حقوقهن المهر والنفقة، ويحتمل ما أتبع من قوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، ويحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار. وعليها من الحقوق:
مقابل الأول: البذل له وألا يوطئن فرشهن أحدًا.
ومقابل الثاني: أن يحسن إليهن في البر باللسان والقول المعروف الذي فيه تطيب نفسه به، كما وصف الحميدة منهن. " من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا دعوتها أجابتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ".
ومقابل الثالث: ألا تتلقاه بمكروه، ولا تقابله بما يضجره ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه. واللَّه أعلم.
و" الدرجة ": التي ما له من الملك فيها، والفضل في الحقوق عليها، وما جعل " قوامًا عليها "، وغير ذلك. واللَّه أعلم.
ويحتمل: ما لهن من قوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، وعليهن بذل حقهم المعروف، والإحسان إليهم فيما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت، مع حفظ ماله عندها. واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ (٢٢٩)
فيه دلالة أنه يطلق بنيتين بمرتين.
وقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
أن له الرجعة بعد طلاقين، بذكره مرتين. وفيه أن المطلق في الطهر الثالث من غير رجعة مطلق للسنة؛ لما خير بين الإمساك أو التسريح من غير مراجعة، وهو على مالك؛ لأنه يقول: ليس له أن يزيد على تطليقة واحدة إلا أن يراجع.
والتسريح بإحسان: هو التطليقة الثالثة، كذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن " التسريح بإحسان "، فقال: " هو التطليقة الثالثة ".
قيل: وذلك أن في (التسريح) قطع الحقوق التي أوجبها النكاح، فأمر عند قطعها عنها بالإحسان إليها مبتدئا، والإحسان أبدًا إنما يكون عند ابتداء الفعل، لا عند المكافأة. وأما (المعروف) في الإمساك فالنكاح أوجب ذلك؛ كقوله: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). قيل: " الميثاق الغليظ ": الحقوق التي أوجب النكاح. وهذا - واللَّه أعلم - وجه الحكمة، و (المعروف) ما عرفا في النكاح، و (الإحسان) هو ما يبتدئ مما لم يعرفا.
وقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).
فظاهر هذه الآية الكريمة يوجب ابتداء الخطاب للأزواج، ثم آخرها يوجب الخطاب لهما جميعًا، ثم آخرها يوجب الخطاب لغير الأزواج يحفظ. عليهما حدود الصحبة، فيشبه أن يكون في الآية الإضمار (فهما الحكمين)، فيكون كقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)، فيكونان هما اللذان يحفظان عليها الحد والمحدود.
ويحتمل: أن يكون الخطاب في قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) للحكام؛ لأنهم هم الذين يتولون النظر في أمور الناس ليقوموهم على حفظ حدود اللَّه.
ثم القول عندنا في قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)، إذا. كان النشوز واقعًا من قبل الزوج فإنه لا يحل له أخذ شيء على الخلع استدلَالًا بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا). وأما إذا كان النشوز من قبلها فإنه لا بأس أن يأخذ قدر المهر، ويكره الزيادة وتجوز. أما قدر المهر فإنه لا بأس إذا كان من قبلها استدلَالًا بقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، ذكر رفع الحرج عن الذي فدى فيما عنه نهي في غير هذا وهو المؤتمن؛ لذلك قلنا: إنه يجوز إذا كان النشوز من قبلها قدر المهر. وأما الزيادة فإنها تكره استدلَالًا بما روي في الخبر: أن امرأة أتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فذكرت بغض زوجها، فقال: " أتردين عليه حديقته؟ " فقالت: نعم، وزيادة. فقال: " أما الزيادة
وقال ابن داود: خالف الشافعي ظاهر الكتاب فيما جعل له أخذ ما فدى والزيادة، والكتاب رفع الحرج عن أخذ ما فدى، لم يجعل له غيره بقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).
وقال ابن شريح: ما ذلك الأخذ في الطلاق، إنما ذلك في الطلاق كرها؛ لأنه ليس في الآية ذكر الطلاق. واستدل بقوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)، فجعل له أكل ما أخذ بالوصف الذي ذكره، ثم كان له أخذ ما تبذل في غير الطلاق، فعلى ذلك في الطلاق وفي الطلاق، أحق. واللَّه أعلم.
والأصل عندنا: جواز ما بذلت أخذه مما احتيج به الرجل إن كان له ذلك في غير الطلاق، وهو في الطلاق أجوزه؛ لأنها تنتفع، غير أنه يكره له الفضل لما ذكرنا من الآية والخبر. ثم يجوز هو لأنه تبادل، فكان كالعقود التي تكره لربح ما لم يضمن على الجواز
والأصل: بأن الطلاق بالبذل بينها، وهو لو لم يملك البينونة مطلقًا لم يملكه بما شرط؛ فثبت أنه يملك.
وأصله: أنه بالطلاق، ويصرف إليها ما ملك عليها بالعقد فانتفعت بإزاء ما بذلت؛ لذلك سلم للزوج ما أخذ. واللَّه أعلم.
قال: ويكره أخذ الزيادة بما فيه رفع النكاح، فيصير أخذ ما يأخذ بالذي أعطى، فما يفضل عليه ليس بإزائه بدل، وذلك وصف الربا. واللَّه أعلم.
ثم اختلف في قوله: (إِلا أَن يَخَافَا):
قيل: (يَخَافَا) علما، يعني الرجل والمرأة.
وقيل: علم الحكمان ألا يقيما حدود اللَّه. وعلى ذلك قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، (خِفْتُمْ) ويعني علمتم.
وقيل: الخوف هو الخوف، فكأنه أقرب؛ لأن العلم يكون فيما مضى من الحال أنهما أقاما حدودًا أو لم يقيما. وأما الخوف في حادث الوقت أمكن؛ لأنه لا يعلم باليقين؛ لذلك كان ما ذكرنا، وهو كقوله: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
ثم اختلف في قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بقوله: (عليهما)، (عليه) خاصة. وهذا جائز في اللغة إضافة الشيء إلى الاثنين، والمراد واحد منهما، كقوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وإنَّمَا يخرج من أحدهما، ومثله كثير.
وقال آخرون: أريدا جميعًا: المرأة بالفداء، والزوج بالأخذ؛ لأن الزوج نهي عن أخذ شيء مما آتاها بقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)، ثم أباح ورفع الحرج منه بالأخذ على الشرط.
وقيل: أراد بذلك الزوج خاصة. وهو ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا).
قيل: إذا لم يفهم بحد من حدود اللَّه تعالى ما يفهم من حد الخلق، كيف فهم من استواء الرب ومجيئه من قوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، و (وَجَاء رَبُّكَ) ما فهم من استواء
وقوله: (حُدُودُ اللَّهِ).
قيل: أحكام اللَّه وسننه.
وقيل: أوامره ونواهيه.
وقيل: آدابه وهو واحد.
وقوله: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
يحتمل وجهين:
يحتمل: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) مستحل بها، فيكفر بتعديه ذلك، فهو ظالم - ظلم كفر.
ويحتمل. (وَمَنْ يَتَعَدَّ) تجاوز أمر اللَّه وما نهاه عنه غير مستحل لها، فهو ظالم نفسه، غير كافر.
وقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (٢٣٠)
هذه الآية رجعت إلى الأولى قوله: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)، فإن طلقها بعد التطليقتين تطليقة أخرى (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، وقوله: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، قيل: التطليقة الثالثة، وعلى ذلك جاء الخبر، وهو واحد عندنا، يدل عليه أيضًا قوله تعالى: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
ويحتمل: عقد النكاح خاصة، دون الجماع من الثاني؛ إذ ليس في الآية ذكر الدخول بها. وأما عندنا: فهو على الجماع في النكاح الثاني، يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا، حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها "، فيكون النكاح مضمرًا، وهو أولى؛ لأن الآية في عقوبة الأول ولا يشتد عليه النكاح حتى يتصل به الوطء.
وفيه دلالة على كراهية التطليقة الثالثة - إذ هي لا تحل له بعدها إلا بعد دخول زوج آخر بها، وذلك مما ينفر عنه الطبع ويكرهه.
فيه دليل على أن في التراجع إيجاب عقد بهما جميعا؛ فدل على قطع رجعه الثاني المحل للزوج الأول، وذلك أن لا رجعة فيه لغيره. وقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)، أضاف (الرد) إلى الأزواج؛ فدل أنهم ينفردون به دونهن.
ثم ذكر الكتاب: (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، جعل سبب الحل على الزوج الأول نكاح الثاني، لم يجز أن ينهى عنه، وقد جعل هو سبب رفع الحرمة؛ إذ مثل هذا -في أحكام اللَّه تعالى- لا يوجد ولا يستقيم وهو كالوضوء فيما جعل سببًا لإقامة الصلاة، ولم يجز أن يجعل سببًا لها ثم يكره الإقدام عليه وينهى عنه، وكالتحريم إذ جعل سببًا للدخول بها في الصلاة لم يجز النهي عنها، وبها قوامها. كذا هذا، لما جعل سببًا لرفع الحرمة به لا جائز أن ينهى عنه.
ثم فيه دلالة جواز نكاح المحلل. فإن سئلنا عن قوله عليه الصلاة والسلام: " لعن الله المحلِّل والمحلَّل له ". قيل: لحوق اللعن لأجل النكاح على قصد الفراق والطلاق، ليس لأجل التحليل على الأول، ورفع الحرمة عنه، دليله قوله عليه الصلاة والسلام: " إن
ثم المحلَّل له لما طلب بنكاح الزوج الثاني ما ينفر عنه الطباع ويكرهه من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها، واستمتاعه بها منع لهذا المعنى عن إيقاع الثالثة، لكن إذا تفكر حرمتها عليه إلا بنكاح آخر، انزجر عن ذلك.
ثم العقد نفسه لا ينفر عنه الطباع ولا يكرهه؛ ثبت أن الدخول شرط فيه ليكون زجرًا ومنعًا عن ارتكابه.
وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)، يخرج على الترخيص؛ وذلك - واللَّه أعلم - أن الطلاق يحرمها عليه ويبينها منه كما تحرم عليه هي بأنواع الحرم يحرم فأخبر - عز وجل - وأباح له النكاح بعد وقوع الحرمة - أن هذه الحرمة ليست كغيرها من الحرم التي لا ترتفع أبدًا. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)
وقال عَزَّ وَجَلَّ: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)، ذكر في الآية الأولى (الإمساك)، والإمساك المعروف: هو إمساكها على ما كان من الملك. وذكر في الآية الأخيرة (الرد)، والرد لا يكون إلا بعد الخروج من الملك. هذا هو الظاهر في الآية. لكن بعض أهل العلم يقولون: إنه يمسكها على الملك الأول ويردها من الحرمة إلى الحل؛ لأن من مذهبهم: أن الطلاق يوجب الحرمة، ولا يخرجها من ملكه. وهذا جائز أن يحرم المرأة على زوجها وهى بعد في ملكه. فإذا كان كذلك فأمر بالإمساك على الملك الأول وبالرد من الحرمة إلى الحل. وهو قول أهل المدينة أي يردها من العدة إلى ما لا عدة، ويمسكها بلا عدة.
وأما عندنا: فهو واحد بحدث الإمساك، دليله قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)،
ولو لم يكن الإمساك سوى القصد إليه، لكان لم يكن بالقصد إليها مضرًّا.
وهو فيما أمر بالإمساك بالمعروف فيه وجهان:
ويحتمل ما قيل: ألا تطول عليها العدة، على ما ذكر في القصة من تطويل العدة عليها، وفيه نزلت الآية.
وفيه دلالة أن الزوج يملك جعل الطلاق بائنًا بعدما وقع رجعيا؛ لأنه يصير بائنا بتركه المراجعة؛ فعلى ذلك يملك إلحاق الصفة من بعد وقوعه، فيصير بائنًا. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
قال الشيخ - وحمه اللَّه تعالى -: الأصل عندنا في المناهي: أنها لا تدل على فساد الفعل ولا تستدل بالنهي على الفساد، كقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، على ذلك قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)، أنه يصير ممسكًا لها وإن كان فيه ضرارًا لها، وهكذا هذا في كل ما يشبه هذا من قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا)، أنه إذن بالفعل في حال فهو وإن أوجب نهيًا في الفعل، فذلك لا يدل على الفساد في حال أخرى.
وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا).
معناه - واللَّه أعلم - أي لا تعملوا بآيات اللَّه عمل من يخرج فعله بها مخرج فعل الهازئ؛ لأنه معقول أن أهل الإيمان والتوحيد لا يتخذون آيات اللَّه هزؤا، ولا يقصدون إلى ذلك.
وقيل: إنهم في الجاهلية كانوا يلعبون بالطلاق والعتاق، ويمسكونهم بعد الطلاق والعتاق على ما كانوا يمسكون قبل الطلاق وقبل العتاق، فنهوا عن ذلك بعد الإسلام والتوحيد.
ثم اختلف في (آيَاتِ اللَّهِ):
قيل: حجج اللَّه.
وقيل: أحكام اللَّه.
وقيل: دين اللَّه.
ويحتمل: (آيَاتِ اللَّهِ)، الآيات المعروفة.
وقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
قوله: (نِعْمَتَ اللَّهِ)، يحتمل وجوهًا:
ويحتمل: (نِعْمَتَ)، الإسلام وشرائعه.
ويحتمل: (نِعْمَتَ)، هي التي أنعمها على خلقه جملة.
النعمة على ثلاثة أوجه:
النعمة بالإسلام، تقتضي منه المحافظة.
والنعمة الخاصة، تقتضي الشكر.
والنعم العامة جملة، تقتضي منه التوحيد.
وقوله: (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ)، وهو القرآن. ففيه دلالة أن (الْكِتَاب)، هو منزل، ليس كما يقول القرامطة؛ لأنهم يقولون: بأن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألف القرآن، وإنما كان
وقوله: (وَالْحِكْمَةِ)، اختلف فيه:
قيل: (وَالْحِكْمَةِ، الفقه.
وقيل: (وَالْحِكْمَةِ)، الحلال والحرام.
وقيل: (وَالْحِكْمَةِ)، المواعظ.
وقيل: (وَالْحِكْمَةِ)، هي الإصابة: إصابة موضع كل شيء منه.
وقيل: (الحكمة)، القرآن، وهو من الإحكام والإتقان، كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: " اذكروا ما أعطاكم من الفقه والإصابة والكتاب المحكم والمتقن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ".
وقوله: (يَعِظُكُم به)، يعني بالقرآن.
وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (٢٣٢)
اختلف في تأويله:
قال قائلون: فيه دليل فساد النكاح دون الأولياء، واحتجوا بأن قالوا: قال اللَّه تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)، ولا ينهى عن القول من غير أن يعمل، إذ القول فيما لا يعمل غير ضار لعضلها به؛ فثبت أنه عامل، وأن له فيه حقًّا إلى أن نهوا، ثبت أن قوله: " لا تعضل "، منع؛ إذ لو لم يجعل منعًا لم يكن ضارًّا به.
وقال آخرون: فيه دليل جواز نكاحهن دون الأولياء؛ لأنه تعالى قال: (أَنْ يَنْكِحْنَ)، واستدلوا: بأن النكاح على وجود العضل يجوز، ولو كان العضل سبب المنع في الجواز لم يحتمل جوازه إذا فات. وفيه أن العضل إذا لم يكن، جاز للنساء تولى النكاح. واحتجوا أيضًا بما أضاف النكاح إليهن بقوله: (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ)، وأضاف الإنكاح إلى الأولياء على إرادة إدخال الصغار، والثاني على وجوب الحق لهن عليهم، لا أن يجب لهم عليهن.
ثم الأصل: بأن كل نكاح أريد بالذكر الصغار وأضيف الإنكاح إلى الأولياء؛ كقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، وقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، مع ما احتمل دخول البالغين في هذا، دليله قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، والفدية لا تصح من الصغار، وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، والصغار لا يخاطبن بإقامة حدود اللَّه، وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وإن كان متأخرًا في الذكر.
بهذا قيل إن وقوع الإنكاح بالإضافة في الصغار إلى الأولياء، وفي الكبار إليهن، ثم ذكر الكفاءة والمهر، وجرى إضافته إلى الأولياء، لذلك كان لهم التعرض في فسخه.
ثم قوله: (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، رجع ذلك إلى المهر؛ لأن (التراضي) فعل
والأصل في مسألة النكاح: أن الحق في النكاح لها على الولي، لا للولي عليها، دليله: ما يزوج على الولي إذا عدم، ويجوز عليه إذا وجد، وزوج عليه إذا أبى، وهي لا تجبر بإرادة الولي إذا أبت؛ فبان أن الحق لها قبله، ومن ترك حق نفسه في عقد له قبل آخر لم يوجب ذلك فساده. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، فيه دليل على أن النهي عن العضل إنما كان في الأزواج كانوا لهن، دليله قوله: (أَزْوَاجَهُنَّ)، ولا يسمى (الأزواج) إلا بعد النكاح، ويدل أيضًا قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)، ذكر (الطلاق) فدل أنه كان في أزواج كان لهن.
ويحتمل: أن يكون في الابتداء من غير أن كان ثم نكاح، وجائز تسمية الشيء باسم ما يئول الأمر إليه لقرب حالهن بهم.
وأما أهل التفسير بأجمعهم قالوا: إن الآية نزلت في أخت معقل بن يسار المزني، أن زوجها قد طلقها وانقضت عدتها، ثم أراد الزوج أن يتزوجها ثانية وتهوى المرأة ذلك، فيقول الولي: لا أزوجها إياه؛ فنزل قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، وهو يحتمل المعنى الذي ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقوله: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
قيل: (يُوعَظُ بِهِ)، أي ينهاكم به، كقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا) أي: ينهاكم.
وقيل: (يُوعَظُ بِهِ)، أي: يؤمر به.
وقوله: (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ).
قيل: إذا وضعن أنفسهن حيث هوين فذلك أزكى وأطهر لكم من العضل من ذلك؛ ولعل العضل يحملهن على الفساد والريبة.
وقيل: المراجعة خير لكم من الفرقة، وأطهر لقلوبكم من الريبة.
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ويحتمل: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) وفيما صلاحكم، (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ذلك.
* * *
قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
وقوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ)، هن المطلقات، يرضعن أولادهن، وهو كقوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ذكر هاهنا الأجر، وذكر هناك الرزق والكسوة، وهما واحد.
وقال آخرون: لا، ولكن قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) هن المنكوحات، وقوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) هن المطلقات. دليل ذلك: ذكر الأجر في أحدهما، والرزق والكسوة في الأخرى، على أن المنكوحة إذا استؤجرت على رضاع ولدها منه لم يستوجب الأجر، ويستوجب قبل الزوج الرزق والكسوة؛ فدل هذا على أن ذكر الأجر في المطلقات، وذكر الرزق والكسوة في المنكوحات.
فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة ذكر الرزق والكسوة في المنكوحة في الرضاع، وقد يستوجب ذلك في غير الرضاع؟
قيل: فائدة ذكر الرزق والكسوة فيه - واللَّه أعلم - لأنها تحتاج إلى فضل طعام وفضل كسوة لمكان الرضاع؛ ألا ترى أن لها أن تفطر لذلك؟! فثبت أن لها فضل حاجة في حال الرضاع ما لا يقع لها تلك الحاجة في غير حال الرضاع؛ فخرج ذكر الرزق والكسوة فيه - واللَّه أعلم - ذكر تلك الزيادة والفضل، واللَّه أعلم.
وفي القرآن دليل أن مؤنة الرضاع على الأب من أوجه:
أحدها: قوله تعالى: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).
والثالث: قوله تعالى: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).
فثبت أنه حق على الوالد إلى أن ذكر فيه إيتاء الأجر.
وفيه دلالة على أن شرط الطعام والكسوة للظئر يجوز بقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ)، غير أن الكسوة لا تجوز إلا بإعلام الجنس، والطعام يجوز؛ لأن الظئرة تكسى كسوة الأهل وتطعم طعامهم. فلابد في الكسوة من إعلام جنسه، إذ لا يجوز أن تكون كسوة واحدة لها وللأهل، ويجوز في الطعام ذلك؛ لأن الكسوة ليست بذي غاية تعرف، فاحتيج إلى ذكر الجنس ليقع في حد قرب المعرفة والعلم، وأما الطعام فهو ذو غاية عند الناس غير متفاوت ولا متفاضل عندهم؛ لذلك جاز هذا، ولم يجز الآخر إلا أن يعلم الجنس، فإذا علم الجنس فحينئذ يصير عندهم كالطعام. واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - فدل على جوازه قوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)، أي - واللَّه أعلم - مثل ما على المولود له، ويكون ذلك بعد موته؛ لذلك يجوز شرط الكسوة والطعام في الرضاع.
وقوله: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، ليس فيه جعل الحولين شرطا في الرضاع لوجوه:
أحدها: قوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، فلو لم يحتمل الزيادة والنقصان لم يكن لقوله: (لِمَن أَرَادَ) معنى.
والثاني: الإرادة والقدرة ربما تذكر على غير إرادة وقدرة في الحقيقة، ولكن على إرادة حقيقة الفعل. دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من أراد الحج فليفعلْ كذا، ومن استطاع أن يفعل كذا فليفعل "، ليس ذلك على حقيقة القدرة والإرادة، ولكن هذا - واللَّه أعلم - على معنى: " من فعل كذا فليفعل كذا "؛ فكذلك الأول ليس على حقيقة الإرادة، ولكن تذكر ذلك لما لم يكن الفعل إلا بقدرة وإرادة. واللَّه أعلم.
والثالث: لا يخلو " الحولين " من أن يقدر بالأهلة فقد ينتقص عن سنتين، أو أن يقدر بالأيام فقد يزداد على المعروف من الوقت؛ فثبت أنه بحيث الاحتمال لما ذكرنا؛ إذ
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، في تأويل قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)، وقوله: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)، قال: إن كان الحمل ستة أشهر، ففصاله في عامين، وإن كان الحمل تسعة أشهر، فيقدر الباقي؛ فدل هذا على أن (الحولين) ليسا بشرط في الفطام، ولا وقت له، لا يجوز الزيادة عليه ولا النقصان. واللَّه أعلم.
وقد ذكرنا أن قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، يحتمل وجهين:
قيل: إنه في المطلقة، وقيل: إنه في المنكوحة. وقد دللنا على أنه في المنكوحة.
واللَّه أعلم.
وقوله: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا).
قال قوم: قوله: (إِلَّا وُسْعَهَا)، إلا ما يسع ويحل. لكن هذا لو كان على ما ذكر لكان بالأمر يحل ويسع، فكان كأنه قال: لا نكلف إلا ما نكلف. وذلك لا يكون.
وقال قوم: (إِلَّا وُسْعَهَا)، يعني: طاقتها وقدرتها. وهذا أشبه، ومعناه: لا يكلف الزوج بالإنفاق عليهما والكسوة إلا ما يحتمل ملكه وإن كانت حاجاتها تفضل عما يحتمله ملكه، لم يفرض عليه إلا ما احتمله ملكه - واللَّه أعلم - كقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).
ثم اختلف في تحريم الرضاع في حال الكبير:
وقال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: لا يحرم. وذكروا في ذلك إلى الآثار رويت عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه عليه السلام سئل عن الرضاع، فقال: " ما أنبت اللحم وأنشز العظم "، وفي بعضها عنه: " لا رضاع بعد حلم، ولا رضاع بعد فصال ". ورُويَ عن علي بن أبي طالب وابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهما قالا: لا رضاع بعد الحولين. وعن عليٍّ وابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنهما قالا: لا رضاع بعد الفطام أو الفصال، الشك منا. ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعض الأخبار: أنه دخل على عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، فرأى معها رجلًا، فرأت عائشة: ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، الكراهة في وجهه، فقالت: " إنه أخي من الرضاعة أو عمي "، فقال لها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " انظرن من إخوانكن، ما الرضاعة؟ إنما الرضاعة من المجاعة ".
وأصله: أن ينظر: فإن كان غذاؤه باللبن أو أغلب غذائه فهو يحرم، وإذا كان بالطعام أو غالب غذائه به، فهو لا يحرم.
وأصله: ما ذكر في الخبر: " ما أنبت اللحم وأنشز العظم، فهو يحرم "، فإذا كان غذاؤه بالطعام سوى اللبن، فالطعام هو الذي ينبت اللحم وينشز العظم، فلم يحرم.
ثم الأصل: بأن كل مذكور على الكمال والتمام لا يمتنع عن احتمال الزيادة والنقصان.
دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك عرفة بليل وصلى معنا بجمع فقد تم حجه "، وقوله عليه السلام: " إذا فعلت هذا فقد تمت حجتك "، وقوله: " إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ". وصفهما بالتمام والحرمة باقية.
وقال زفر: بزيادة سنة، ذهب في ذلك إلى أنه لما جاز أن يزاد بالاجتهاد على حولين بستة أشهر، جاز أن يزاد بالاجتهاد على الحولين بسنة.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: وعلى ما زيد على المذكور من الحبل مثل أقل وقت الرضاع، يزاد على المذكور من الرضاع مثل أقل الحبل، أو لما احتمل الأقل الانتقال إلى الوسط يحتمل الوسط الانتقال إلى الأكثر، وذلك في قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا).
وقوله: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)، يحتمل وجهين:
يحتمل: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)، في ترك الإنفاق عليهما.
ويحتمل: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) في انتزاع الولد منها، وهي تريد إمساكه.
وقوله تعالى: (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)، كذلك يحتمل وجهين:
ويحتمل: لا يضار الوالد بولده في ردها الولد عليه ورميه إليه بعد ما، ألف الولد الأم.
ويحتمل: لا يضار الوالد في تحميل فضل النفقة عليه وملكه لا يحتمل ذلك، بل إنما يحمل عليه ما احتمله ملكه.
وفي قوله: (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)، دليل أنه إنما يسمى (الوالد) على المجاز، ليس على التحقيق؛ لأنه لم يلد هو، إنما ولد له؛ فثبت أن الرجل يستحق اسم الفعل بفعل غيره، وكل معمول له يستحق اسم الفاعل وإن لم يعمل هو، نحو ما سمي (والدًا)، وإن لم يلد هو، وإنما ولد له.
ثم اختلف في تأويل قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو معطوف على قوله: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) ومعناه: ألا يضار الوارث أيضًا باليتيم.
وقال آخرون: هو معطوف على الكل: على النفقة، والكسوة، والمضارة.
وقال غيرهم: هو راجع إلى النفقة والكسوة دون المضارة. وهو قولنا؛ لوجهين:
أحدهما: أن نسق الكلام إنما هو على قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فنسقه على حرف (على) أولى من نسقه على حرف (لا)، ليصح، إذ، لو حمل على قوله: (لَا تُضَارَّ) ولكان ما يوازيه من الكلام، إنما هو: الوارث مثل ذلك.
والثاني: أنه لو حمل على إضرار من الوارث بالولد في الميراث لقال: وعلى المورث بحق الميراث، فلا ضرر يقع فيه، بل يقع الإنفاق؛ فثبت أن حمله عليه أحق.
ثم اختلف في قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد (بالوارث) الوالد، والأم، والجد، ولا يدخل ذو الرحم المحرم فيه. ذهبوا في ذلك إلى ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال ذلك.
وأما أصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، ذهبوا إلى ما رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه أوجب النفقة على العم، وقال: لو لم يبق من العشيرة إلا واحد لأوجبتُ عليه النفقة. وروي أيضا عن زيد بن ثابت، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى:
ألا ترى أنه يأكل من بيت الأجنبي إذا بذل ورضي، فلو لم يكن أكله من بيت هَؤُلَاءِ بحق لم يكن للتخصيص فائدة.
فإن عورض (بالصديق)، أنه لا يفرض عليه قيل: لما أنه لو فرض عليه، لانقطعت الصداقة بينهما. ثم لقائل أن يقول: كيف لا أوجبت النفقة على كل وارث على ظاهر الآية؟
قيل: الآية مخصوصة بالإنفاق؛ لأن المرأة وارثة، ولا تفرض عليها نفقة الزوج؛ دل أنه أراد وارثا دون وارث، وهو الوارث من الرحم المحرم. واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا).
قيل: فإن أراد الأبوان فِصال الصبي وفطامه بدون الحولين ليس لهما إلا بتراضيهما جميعًا واتفاقهما على ذلك، وأما بعد تمام الحولين فإنه إذا أراد أحدهما الفصال دون الآخر يفصل وأصله واحد بأن الفصال بعد الحولين فصال على التمام والكمال فجاز أن يفصل إذا أراد أحدهما. وأما الفصال قبل الحولين فصال عن غير تمام ذكره الكتاب، فلا يفصل إلا باجتماعهما واتفاقهما على ذلك. وأما ما بعد الحولين هو على تمام النص، فجاز ذلك لرأي واحد منهما، وما قبله لا يجوز إلا لرأيهما جميعًا.
وأصله: أنه بالحولين قد ظهر التمام والكفاية، ثم بالنص، وما دونه يعلم بالاجتهاد، وعند التنازع يزول موضع بيان الصواب فيرد إلى الحد المذكور، مع ما في القرآن للتمام ذكر إرادة الفرد، وللفصل التشاور. واللَّه أعلم.
و (الجناح) و (الحرج) واحد: وهو الضيق، ومعناه: أي لا ضيق ولا تبعة عليهما، ولا إثم إذا أرادا فطامه بدون الحولين.
وقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).
فيه دلالة جواز الرضاع بعد الحولين وحرمته؛ لأنه ذكر في قوله: (فَإن أرَادَا فِصَالا) بتراضيهما بدون الحولين.
ثم قوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ) يصير استرضاعا بعد الحولين.
إذ ذكر الرضاع في الحولين بقوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، وذكر الفصال بدون الحولين بقوله: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ) فحصل قوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ) بعد الحولين. وهذا يدل لقول أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، ويقوي مذهبه.
ويحتمل: أن تكون الآية في جواز استرضاع غير الأمهات إذا أبت الأم رضاعه؛ وهو كقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).
وقوله تعالى: (إِذَا سَلَّمْتُمْ)، يعني إذا سلمتم الأمر لله تعالى، (مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، أي قبلتم، ليس هو على الإيتاء، ولكن على القبول، دليل ذلك قوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، ليس هو الإيتاء نفسه، ولكنه على القبول كأنه قال: فإن تابوا وقبلوا إقامة الصلاة وعهدوا إيتاء الزكاة فخلوا سبيلهم، فعلى ذلك الأول.
و (مَا آتَيْتُمْ) أي قبلتم إيتاء ما عهدوا وهو الأجر.
وقد يكون (مَا آتَيْتُمْ)، أي: عقدتم عقد الإيتاء؛ إذ الإيتاء هو الإعطاء والعطية عقدتم
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
أي: فيما أمركم من الإنفاق، والكسوة، ونهاكم من إضرار أحدهما صاحبه.
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
وهو وعيد على ما سبق من الأمر والنهي.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
قيل: هي ناسخة لقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ). إنها وإن كانت مقدمة في الذكر، وتلك مؤخرة، (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، ناسخة لتلك. إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل؛ ألا ترى إلى ما جاء في الخبر: أن امرأة أتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت: أن بنتًا لها تُوفي عنها زوجها، واشتكت عينها، وهي تريد أن تكحلها. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قد كانت إحداكن في الجاهلية تجلس حولًا في منزلها ثم تخرج عند رأس الحول، فترمى بالبعر، وإنما هو أربعة أشهر وعشرا ". فثبت
وقال آخرون: إنه قد أثبت في الآية متاعًا أو وصية، ثم ورد النسخ على كل وصية كانت للوارث بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". وإلا كان الاعتداد الواجب اللازم هو أربعة أشهر وعشرًا.
وفي الآية دلالة جواز الوصية بالسكنى إذا بطلت بحق الميراث، لا بحق الوصية - واللَّه الموفق - وهو جائِز فيمن لم تنسخ له الوصية.
وأمكن الاستدلال بالآية على عدة الوفاة بالحبل إن ثبت ما روي: " أنه يكون أربعين يومًا نطفة، وأربعين يومًا علقة، وأربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في العشرة ".
فَإِنْ قِيلَ: الأمة أليست لا تختلف عن الحرة في تبيين الحبل، ثم لم يجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا، فإذا لم يجعل ذلك كيف لا بَانَ أن الأمر بتربص أربعة أشهر وعشرا إلا لهذا المعنى؟
قيل: لوجهين:
أحدهما: أن الحرائر هن الأصول في النكاح، وفيهن تجري الأنكحة، فيخرج الخطاب لهن.
والثاني: أنها حق أخذت الحرة، والحقوق التي تأخذ الحرائر هن الأصول في النكاح، إذا صرف ذلك إلى الإماء تأخذ نصف ما تأخذ الحرائر.
والثالث: أنه لا يقصد آجالهن؛ لما فيه رق الولد واكتساب الذل والدناءة.
ورُويَ عن عليٍّ بن أبي طالب، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنه قال: تعتد أبعد الأجلين احتياطًا. ذهب في ذلك إلى أن الاعتداد بوضع الحبل إذا ذكر في الطلاق، ولم يذكر في الوفاة؛ فيحتمل أن يكون ذلك في الوفاة كهو في الطلاق ويحتمل ألا يكون، فأمرها بذلك احتياطًا.
وأما عندنا: ما رُويَ عن عمر، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ،
ثم الأمر بالإحداد أربعة أشهر وعشرا، ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ".
فَإِنْ قِيلَ: أليس وجب ذلك على المطلقة، والخبر إنما جاء في الموت، قيل: ليس للموت ما وجب ولكن لمعنى في الموت، وهو فوت النعمة في الدِّين، وذلك الفوت في الطلاق كهو في الموت؟!
ألا ترى أنه لم يجب ذلك في موت أبيها ولا في موت ولدها، دل أنه لم يجب للموت نفسه، ولكن لفوت النعمة في الدِّين؛ ألا ترى أنه روي في الخبر أن المرأة الصالحة مفتاح الجنة، فأمرت بإظهار الحزن على ما فات منها من النعمة بترك الزينة والتشوف؛ إذ النكاح نعمة. ثم الدخول بها سواء في وجوب المهر والعدة وترك الزينة وإظهار الحزن على فوت النعمة، وأما المطلقة قبل الدخول بها لم يلزمها ذلك؛ لأن العدة لم تلزمها فتتجدد لها النعمة، لما لها أن تنكح للحال، فتكتسب نعمة. واللَّه أعلم. ألا ترى أن الصبي الصغير إذا مات عن امرأته تلزمها أربعة أشهر وعشر، دل هذا على أن وجوبها لفوت النعمة. والله
أعلم.
وقوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
قوله: (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) قيل: لا تبعة عليكم ولا إثم (فِيمَا فَعَلْنَ) قيل: تزين
وقوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ (٢٣٥) قيل: (التعريض) هو أن يرى من نفسه الرغبة فيما يكنى به من الكلام، على ما ذكر في الخبر: أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال لها: " إذا انقضت عدتك فآذنيني، فاستأذنته في رجلين كانا خطباها، فقال لها: أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقه، وأما فلان فإنه صعلوك لا شيء له؛ فعليك بأسامة بن زيد ". فكان قوله عليه
وفي الآية دلالة أن لا بأس للمتوفى عنها زوجها الخروج بالنهار لما ذكر من التعريض، لأن الرجل لا يأتيها منزلها فيعرض لها، ولكن المرأة قد تخرج من منزلها فتصير في مكان احتمال التعريض، فعند ذلك يقول لها ما ذكرنا. وعلى ذلك جاءت الآثار؛ رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أن امرأة مات زوجها، فأتته، فاستأذنته للاكتحال، لم يأت أنه نهاها عن الخروج ". وما رُويَ عن عمر، وابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، بالإذن لهن بالخروج بالنهار، والنهي عن البيتوتة في غير منزلهن. ولأن المتوفى عنها زوجها مؤنتها على نفسها، فلا بد لها من الخروج. وأما المطلقة فإن مؤنتها على زوجها، والزوج هو الذي يكفي مؤنتها ويزيح علتها؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم.
ثم (التعريض) لا يجوز في المطلقة لوجهين:
أحدهما: ما ذكرنا ألا يباح لها الخروج من منزلها ليلًا ولا نهارًا، والمتوفى عنها زوجها
والثانى: أن في تعريض المطلقة اكتساب عداوة وبغض فيما بينه وبين زوجها؛ إذ العدة من حقه. دليله: أنه إذا لم يدخل بها لم تلزمها العدة، وأما المتوفى عنها زوجها لزمتها العدة وإن لم يدخل بها؛ لذلك يجوز التعريض في المتوفى عنها زوجها، ولا يجوز في المطلقة.
قال الشيخ: - رحمه اللَّه تعالى -: " ولأن زوجها في الطلاق حي، يعلم ما يحدث بينهما الضغن والمكروه في الحال، وليس ذلك في الوفاة ".
وقوله تعالى: (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)، يعني أخفيتم تزويجها في السر.
وقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)
سرا وعلانية. وقيل: يعني الخطبة في العدة.
وقوله: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
قيل فيه بأوجه:
قيل: لا تأخذوا منهن عهدًا ألا يتزوجن غيركم.
وقيل: (لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)، يعني الزنى. و (السر) الزنا في اللغة.
وقيل: (السر) الجماع؛ تقول: آتيك الأربعة والخمسة ونحوه.
ثم قال اللَّه تعالى: (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا)
يقول لها قولا لينًا حسنًا، ولا يقول لها قولا يحملها على الزنى، أو على ما يظهر من نفسها الرغبة فيه، على ما ذكر في الآية: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)، وأن يعد لها عدة حسنة، أو أن يبر ويحسن إليها لترغيب فيه، ولا يقول لها ما لا يحل ولا يجوز. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)
قيل: هو على الإضمار، كأنه قال: " لاتعزموا على عقدة النكاح ".
وقيل: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ)، لا تعقدوا (النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)، يعني
وفيه دليل حرمتها على الأزواج لبقية الملك، فالخطاب للأجنبيين، لا للأزواج؛ إذ للأزواج الإقدام على النكاح وإن كن في عدة منهم.
قال الشيخ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، في قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ): حمل على التحريم، وإن احتمل الذي هو بهذا المخرج غير التحريم؛ لاتفاق الأمة على صرف المراد إليه، ولقوله: (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)، أي: ما كتب عليها من التربص، ولما كان النهي عن ذلك بما لزمها العدة للزوج الأول فهي باقية بها على ما سبق من النكاح المحرِّم لها على غيره؛ فلذلك بقيت الحرمة، ولهذا جاز لمن له العدة النكاح فيها؛ إذ لا يجوز أن يمنع حقه. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ).
وهو حرف وعيد، أي يعلم ما تضمرون في القلوب وتظهرون باللسان من التعريض، (فَاحْذَرُوهُ) ولا تخالفوا أمره ونهيه.
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
فيه إطماع المغفرة وإمهال العقوبة من ارتكب النهي وخالف أمره. واللَّه أعلم.
(وَاعْلَمُوا...) الآية، حذره علمه بما في أنفسهم، ليكونوا مراقبين له فيما أسروا وأعلنوا، وليعلموا أنهم مؤاخذون بما أضمروا من المعاصي والخلاف له، وأن الذي لا يؤاخذ به العبد هو الخطر بالبال، لا بالعزم عليه والاعتقاد.
ثم أخبر أنه (غَفُورٌ)؛ ليعلموا أن استتار ذلك مما غفره وأنهم قد استوجبوا بفعلهم الخزي، لكن اللَّه بفضله ستره عليهم ليشكروا عظيم نعمه، أو لئلا ييأسوا من رحمته فيستغفروه.
وذكر (حَلِيمٌ)؛ لئلا يغتروا بما لم يؤاخذوا بجزاء ما أضمروا في ذلك الوقت، فيظنون الغفلة عنه، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢).
* * *
قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
فيه دليل رخصة طلاق غير المدخولات بهن في الأوقات كلها؛ إذ لا يتكلم بنفي الجناح إلا في موضع الرخصة، ولم يخص وقتًا دون وقت. وأما المدخولات بهن فإنه عز وجل ذكر لطلاقهن وقتًا بقوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)؛ لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: أن لا بأس للرجل أن يطلق امرأته في حال الحيض إذا لم يدخل بها.
وجهه: أنه إذا كان دخل بها فعرف وقت طهرها مه، سبق من الدخول بها، فأمر بالطلاق في ذلك الوقت ليكون أدعى إلى المراجعة إذا ندم على طلاقها. وأما التي لم يدخل بها لا يعرف وقت طهرها لما لم يسبق منه ما به يعرف ذلك الوقت، فلم يؤمر بحفظ ذلك الوقت. ولأنه إذا لم يدخل بها فإن الطلاق بينهما منه، فجعل كل الأوقات له وقتا للطلاق، لما لم يجعل له حق المراجعة قبلها ليكون بعض الأوقات له أدعى إلى ذلك. واللَّه أعلم.
والثاني: أن المدخول بها يتوهم علوقها منه، فجعل الطلاقها وقتًا لتستبين حالها: أحامل، أم لا؟ لئلا يندم على طلاقها؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته ثم علم أنها حامل يندم على طلاقها؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وفيه دليل رخصة طلاق المبين منه إذا لم يملك إمساكها عند الندامة. لأن الطلاق قبل الدخول تبين المرأة من زوجها.
والأصل في الأمرين - جعل الطلاق في وقت حلها للأزواج. وكل الأوقات في غير المدخول بها وقت الحل.
وقوله تعالى: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)
ومعناه - ولم تفرضوا لهن فريضة، كأنه عطف على قوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، دليله قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ)، دل الأمر بالمتعة أن قوله تعالى: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ)، معناه - ولم تفرضوا لهن. ودل قوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) "، أن ذلك في غير المفروض لها؛ حيث أوجب في المفروض نصف المفروض
أحدهما: أن مهر المثل إنما يقدر بها إذا دخل بها، فإذا لم يدخل بها لم يعرف الزوج ما قدر مهر مثلها؟، فإذا لم يعرف ما قدر مهر مثلها لم يعرف النصف من ذلك.
والثاني: أنهم أوجبوا المتعة تخفيفًا وتيسيرًا؛ لأن الحاكم يلحقه فضل كلفة وعناء في تعرف حالها وحال نسائها، إذ مهر المثل إنما يعتبر بنسائها، وليس ذلك في المتعة. والله أعلم.
ثم قدر المتعة: يعتبر شأنه اعتبارًا بقدرها؛ لأنه لو اعتبر شأنه قدر ما أوجب لها غناءها وغناء أهلها، ومهر المثل لا يبلغ ذلك، فكان في ذلك تفضيل المتعة على مهر المثل -وقد ذكرنا أن المتعة أوجب تخفيفًا- ولو نظر إلى قدرها دون قدره لكلف الزوج ما لا طاقة له به ولا وسع؛ لذلك وجب النظر إلى قدره اعتبارا بقدرها. واللَّه أعلم.
وقوله: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)، أو نسق على قوله: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، فهو على: " ما لم تفرضوا لهن فريضة "، وعلى ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا). وعلى هذا إجماع القول في جواز النكاح بغير تسمية.
وفي ذلك دليل أن قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)، هو ما يبتغى من النكاح بالمال، لا بتسمية المال، فيكون النكاح موجبًا له، به يوصل إلى حق الاستمتاع، لا بالتسمية؛ ولهذا كان لها حق حبس نفسها عنه حتى يسلم إليها ما منع عن الملك إلا مهر به مسمى أو غير مسمى، كقوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ...) الآية.
وإذا جاز النكاح بلا تسمية لم يفسده فساد التسمية، بل الذي أفسد في أعلى أحواله كأنه لم يكن، وعلى ذلك اتفاق فيما يتزوج المرأة على ما لا يحل من خمر أو ميتة أو نحو ذلك أن يجوز؛ فيكون في ذلك أمران:
أحدهما: أن ما لا يتعلق جوازه بالشرط، ففساد الشرط لا يفسد.
ثم جعل الطلاق قبل المماسة سببا لإسقاط بعض ما أوجب العقد، فهو - واللَّه أعلم - لما لم يوصل إليه كمال ما له قصد النكاح، إذ هو مجعول للتعفف، وحقيقته في إمكان الاستمتاع، لا بالعقد، ولولا ذلك لما جعل النكاح، ولم يبطل كل المهر لما تقلب في الملك الذي له البدل، إذ هو في الحقيقة للملك، لا للاستمتاع. دليل ذلك: ما لا يزداد لكثرة الاستمتاع؛ فثبت أنه بدل الملك في التقلب فيه، إذ ليس هو سببًا لفسخ السبب الموجب للملك، الذي له وجب البدل، بل هو تقلب فيه، لم يرفع عنه البدل كله. والله أعلم. فأوجب عَزَّ وَجَلَّ نصف المهر، وأسقط نصفه بما قد فقد أحد القصدين ووجد الآخر. واللَّه أعلم.
ثم إذا لم تكن التسمية جعل اللَّه تبارك وتعالى المتعة مقام نصف المسمى عند التسمية، وإن كان لو تركا، والتدبير بعد بيان الواجب فيما لم يسم مهر المثل نحو وجوب المسمى فيما سمى، لكان الذي يغلب على الوهم أنا لا ندرك تدبيرنا غير نصف مهر المثل، فتولى اللَّه سبحانه وتعالى بيان ذلك ليعلم الناس - واللَّه أعلم - أن اللَّه تعالى بين كل ما بالخلق إليه حاجة على قدر ما يحتمله وسعهم ويبلغه عقولهم، وأن الذي لا يحيط به تدبرهم، بين لهم بالإشارة إليه تفضلًا منه على عباده ليؤلف به بينهم، ويمنعهم عن التنازع. واللَّه أعلم.
ثم لم يبين لنا ماهية المتعة بالإشارة إليها. ومعلوم أن قدر الذي يتبين فيما علم قصور التدبير عن الإحاطة بدرك ذلك النوع من الحكمة فيما لم يبين، فهو - واللَّه أعلم - بما علم أن العقول تبلغه، وأنه بالتدبير فيما يتبين وجه الوصول إليه. ولا قوة إلا باللَّه.
ثم قد بين أن الحق أوكد عند التسمية، منه فيما لم يكن التسمية، بوجهين:
أحدهما: بقوله تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)، فيما كان الطلاق قبل المماسة، وعند التسمية أوجب نصف المسمى، احتمله ووسعه أو لا. ومعلوم أن الاحتمال على قدر الموسع أخف مما كان يجب احتماله عند الخروج من الوسع. واللَّه أعلم.
والثاني: بما علم من وقوع الاختلاف يكون بين الأمة فيما لا تسمية إذا مات أحد الزوجين في حق إكمال المهر وارتفاع ذلك بما كان ثم تسمية، فهو الدليل على أن الحق في أحد الزوجين أوكد منه في الآخر، على أن العقود والفسوخ كلها تثبت لها عند
ولم يبين لنا ماهية المتعة - ما هي؟
ومعروف أن المتعة هي التي يتمتع بها، وأن مهر المثل مما قد يتمتع به.
فجعلنا نصف مهر المثل نهاية المتعة بما هو النهاية فيما كان مبنيا على التغليظ، فلا يجاوز بها.
ذلك مع ما فيه وجهان:
أحدهما: إحالة وجوبها أكثر من مهر مثلها، فيكون الدخول بها سببًا لإسقاط الحق، وقد جعله اللَّه تعالى سببًا لمنع السقوط؛ فثبت أن مهر المثل معتبر في المتعة.
والثاني: أنها بحكم البدل عن ذلك. دليله وجهان:
أحدهما: أن المطالبة كانت بمهر المثل، والطلاق سبب إسقاط حقوق النكاح لإيجابها؛ فثبت أن المتعة كانت مكان ما فيه المطالبة، لا أن حدث الوجوب بالطلاق.
والثاني: أنه متى وجب مهر المثل لم يوجد لها نحو أن يدخل بها. ثبت أنها كانت بدلًا، فلا يزاد البدل، مع ما كان التحويل إلى غير نوع مهر المثل. إنما هو - واللَّه أعلم - لما قد يتعذر تعرفه، أو أن لم يعرف ذلك بالاجتهاد والتفحص عن أحوالها ومحلها ومحل قومها، وفي ذلك مؤن وتكلف. ثم بعد العلم بذلك لا بد من الاجتهاد في الوسط من ذلك، ثم في أمرها منهم، فجعل اللَّه تفضله من الوجه الذي للمرء سبيل العلم به عن ذلك التكلف. أو لو رفع هو إلى الحاكم أمكنه الوصول إلى العلم به بدون ما ذكرت من النظر.
فكان ذلك - واللَّه أعلم - نحو ما فرض اللَّه تعالى من زكاة الإبل، لا فيها إذا صار بحيث لو كانت فيها لكانت جزءًا يتعذر أخذ مثله، ثم التسليم إلى الشراء، فجعل في ذلك بدلا على أن الذي عليه لو خرج بتسليم العين جاز؛ فمثله ما نحن فيه.
وهذا هو وجه جعل اللَّه تعالى متعة على أنها كانت واجبة نحو الإمساك، لو رام ذلك، إذ عليه النفقة والكسوة، فإذا طلقها فجعلت هي مكان مهر المثل إذا فات السبب الذي كان
ثم ليس في ظاهر الآية إبطال المهر فيما لم يسم، ولا النصف فيما سمى. وإنَّمَا في الأول الأمر بالمتعة، وفي الثاني بيان أن لها نصف الفرض.
والقول: بأن نصف هذا العبد لفلان، أو لفلان، كذا من الحق لا يبطل عنه الحقوق جملة، أو عن النصف لآخر بذلك القول، بل فيه بيان ذلك أنه له وغيره متروك لدليله. ولا قوة إلا باللَّه.
وكذلك قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، ليس في ذلك أن لا عدة عليهن، ولكن فيه أن لا عدة لهم، ويجوز أن تكون عليها، لا له.
وكذلك عندنا: العدة هي التي عقيب الخلوة لا يملك هو فيها إمساكها، ويلزمه المؤن فكأنها عليه، لا له في المعتبر.
فلما ذكرت يبطل قول من ادعى أن القول بالمهر والعدة فيما لا مماسة فيه خلاف الظاهر - واللَّه أعلم - مع ما لو كان في الظاهر ذلك لأمكن أن يكون من المسيس الإمكان، لا حقيقته. دليل ذلك: أنه لو وجدت القبلة أو المعانقة في الملأ من الخلق لوجد المسيس في الحقيقة، ولم يجب به ذلك؛ فثبت أن المراد من ذلك معنى في المسيس، لا ما يلحقه اسمه.
ثم الذي يؤيد أنه الإمكان والاجتماع وجهان:
أحدهما: قول تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١)، فأعظم عليه أخذ شيء مما آتاها بما كان من إفضاء بعض إلى بعض. والإفضاء في اللغة معروف: أنه الانضمام، لا المجامعة، مع ما كانت المجامعة إلى الأزواج، يضاف فعلها، وفي هذا إضافة الإفضاء إلى كل واحد منهما. ثبت أنه في معنى ذلك من كل واحد منهما نحو الذي من الآخر، وذلك يكون في الاجتماع خاصة. واللَّه أعلم.
والثاني: وجود القول من خمسة من نجباء الصحابة الخلفاء، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، فمن دونهم ممن لا يحتمل خفاء الآيات عليهم، ومن شهد الخطاب أحق بفهم الحقيقة من المراد أن يسألوا عن ذلك من أن يطلعهم على حقيقته إذا كان بحيث احتمال
على أن في الآية، لو كان في تصريح جماع، لكان يلزم ذلك بالخلوة لوجهين سوى ما ذكرت:
أحدهما: جرى أحكام الكتاب والسنة في البدل لأشياء مقصودة اسما وتحقيقًا يستوجب حق العرفاء بها بحق شرط اللَّه القبض في الرهن، والقتال في المغانم، والإيتاء في الأجور والمهور والخروج لأمر الهجرة وأمر رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما أسلما لأمر اللَّه، فعلى ذلك أمر المهور والعدة في الخلوة إذ هي سلمت نفسها لذلك، وعلى ذلك أمر الخروج من الأمانات بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، ولو كان لا يخرج إلا بإدخال في الأيدي في الحقيقة، لكان لا سبيل إلى القيام بما كلف اللَّه تعالى. وعلى ذلك إجماع القول في الإجارات إذا أمكن الانتفاع بها. واللَّه أعلم.
والثاني: أن النساء لا يملكن من تسليم ما عليهن من الحق، ومحال أن يلزمهن من الحق أكثر مما ذكر، لكن اللَّه تعالى وسعهن؛ فثبت أن ليس عليهن غير الذي فعلن، فاستوجبن ما لهن، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ)، والله أعلم.
ثم قد أجمع على وجوب المهر في موت أحدهما، وأن الموت لا يسقطه، وإن لم يكن ثم دخول. فهو - واللَّه أعلم - أن المقصود بالنكاح الملك وقيام الزوجية إلى موت أحدهما، وإن كان ذلك الاستمتاع وقد وجد تمامه. وقد بينا أن المهر للملك، لا لنفس الاستمتاع، فوجب كماله وإن مات أحدهما، لما بلغ الملك نهايته.
وعلى هذا يخرج قولنا فيما لم يسم لها المهر؛ إذ مهر المثل إنما هو بدل الملك. دليله: أنه يوجب لها المطالبة به عند قيامه وإن لم يسم به.
وأصله: ما بينا من تعلق هذا الملك بالبدل حكمًا، وإن لم يكن تعلق به شرطًا، وقد وجد ثَمَّ.
وإذا ثبت ذلك فعلى ذلك، إذ المعقول بالنكاح أن تبذل المرأة نفسها له ليستمتع بها، فإذا جاءت الخلوة وجد تمام المقصود منها بالنكاح، على ما وجد في موت أحدهما، فيجب كمال المهر كما وجب بالأول، ويستوي في ذلك مهر المثل والمسمى. والله أعلم.
وعلى ذلك فيما لم يوجب جعله بذل المنفعة، إذ هو قيمة البضع، ويجب قيمة الأشياء بإتلافها، ولم يوجد هاهنا. وعندنا: أنه وإن كانت قيمة ذلك فهي بدل ملك ذلك، لا بدل الانتفاع نفسه، إذ لا يجب في الزنى؛ ثبت أنه للملك يجب أو لشبهته، وقد وجد في الأول على تمام ما رجع إليه المقصود، وجب على ما مر بيانه. واللَّه أعلم.
وأوجب قوم في المسماة بعد النكاح نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول استدلَالًا بظاهر الآية. ولكن التسمية عند الناس إنما تكون في العقد حتى لا يعرف لها وجود غيرها، وهي التسمية في العقد، فهي المرادة في الخطاب، إذ هي المعروفة من الفرض، ثم غيرها بحق الاستدلال، فإن ألزم الدليل لها حق التسمية في العقد لزم، وإلا لا. ثم وجد جميع الأسباب التي تحتمل الاعتياض جعل ذكر الفرض بعد السبب كلا ذكر، فمثله أمر النكاح، فأوجب ذلك فساد التسمية، فلم يجب المسمى من بعد إلا حيث يوجبه الدليل، وقد قام دليل الوجوب عند وجود ما له حكم الدخول بها، يجب عند ذلك، وإلا لا.
ثم وجه لزوم القول بما يخرج على أحوال أحديهما أن لهذا التسمية إذا جازت جازت بحق مهر المثل، إذ كل سبب ليس له عوض بالحكم لم يجز. ثم كان مهر المثل يسقط قبل الدخول بها، كذلك الواجب به. واللَّه أعلم. وأيضًا فإن الحكم يوجب تبيين مهر
والثالث: أنه معلوم أنه لو كان الذي في علم اللَّه تعالى من طلاقها، لو كان ظاهرًا وقت التسمية، لكان حقها عليه المتعة، ولم يكن يجب النظر إلى مهر المثل إلا من وجه تحديد المتعة. فكذلك إذا ظهر - واللَّه أعلم - وأمكن أن يقال: الأصل في ذلك أن المتعة ليس يوجبها الطلاق، ولكن النكاح يوجب، ثم كان الواجب بالنكاح مجهول، لا يدري أهو مهر المثل أو المتعة؟؛ إذ لا يجوز أن يجبا، ولا أن يوجب الطلاق أحدهما، لما هو بيان ذلك؛ فثبت أن الواجب في الحقيفة أحدهما، لكن لها مطالبة مهر المثل في الظاهر، ولها التسمية عنه بما العرف في النكاح أنه للدوام ثم هو للاستمتاع، فحمل الأمر على ذلك الظاهر وبه أجيزت التسمية. فلما ورد الطلاق قبل الدخول ظهر حقيقة الواجب، فبطل الذي كان بحق المهر، لما ظهر أن الواجب في علم اللَّه تعالى المتعة. واللَّه أعلم.
وعلى أصل هذا المعتبر أمر المفروض الظاهر أنه نوع الإيمان، وذلك مما لا يزداد ولا ينتقص، فيجب بالطلاق نصف مهورهن. ثم إذا كان من نوع ما يزاد وينقص فيحدث أحد الوجهين، فليس في الكتاب تسمية ذلك النوع على المعروف، ولا القضاء فيه بشيء.
ومعلوم أن ذلك لو كان في يدي الزوج ليجب نصف ذلك فيما كان الطلاق قبل الدخول بها، فيصير بحكم المفروض. وإن لم يكن بما كان حدث من الحق، أو بما كان في علم اللَّه تعالى أن الحق في ذلك النصف؛ إذ ذلك حكم الطلاق قبل الدخول بها على حق المنصوص، فيكون الذي حدث من النصف حقه، أو بما كان ذلك مهرًا والحادث محتمل جعله مهرًا، فهو فيه على ما عليه معتبر الحقوق من لحوق الفروع الأصول. فإذا كان ذلك بعد القبض فقد انتهى أمر الحق، وحدث ما حدث على ملكها، إذ على ذلك يحدث.
فقلنا: لو نقص المهر في العين لكان يصير النصف له بحق بعض القبض فيه، ثم نقض العقد، وإذا كان كذلك لا يخلو أمر الزيادة من أن يرد عليه فيرجع بشيء لم يسلم إليها، وذلك فضل على ما أخذ من الحق يأخذه بالحكم، فيكون ربا؛ لأنه لم يسمه، ولا يسلم إليه، فزال المعنى الذي هو لها فيه، فيكون أخذه بلا عوض في عقد التبادل، فيصير ربا، ولو أبقى له على فسخ القبض في المهر والعقد فيصير ذلك لما فضل من أصل قد فسخ العقد فيه مما لم يكن لها إلا ببدل بلا بدل، وذلك وصف الربا، وقد حرم اللَّه الربا؛
وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي يوسف، رحمه اللَّه تعالى، في العلة والهيئة: أنه يظهر الواجب في الحكم.
وعند أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، ذلك في حق النقض يصير كذلك، دليله: ما لم يكن يجوز فيه تقلب الزوج، لو كان منه، ثم النقض لا يرد على ما ليس له حكم المهر، فيبقى ذلك للمرأة على ما كان لها قبل الطلاق؛ إذ الطلاق نقض الملك في المهر، وليس ذلك بمهر. واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والمذكور من المتعة فيما فيه الدخول يحتمل ما عليه في حال النكاح من الكسوة والنفقة، إلى تمام العدة، فتكون الآية في ذكر النفقة بعد الفراق؛ إذ لا يجوز أن يكون الطلاق سببًا لإيجاد حق غير واجب قبله. ويحتمل أن يكون في حق المتبرع شرط عليه ليكون تسريحًا بالإحسان على ما رغب في غير المدخول بها من الإتمام؛ إذ لا يجوز أن يكون ذلك بدلًا فيكون لملك واحد بدلين، مع ما جعل اللَّه تعالى الطلاق سببا لتخفيف الحقوق على الزوج، ورفع المؤنة، ورد الأمر إلى الغناء بالآخر بقوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)، لم يحتمل به الوجوب، فيصير سببًا لإلزام المؤنة. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله تعالى: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).
فيه دليل لأبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، حيث قال: إن الذمي إذا تزوج امرأة ولم يسم لها صداقًا، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، لا متعة لها؛ لأن اللَّه تعالى إنما أوجب المتعة على المحسنين، والذمي ليس بمحسن. والدليل على أن المتعة إنما أوجبت تخفيفا، ومهر المثل لا؛ لأن مهر المثل أوجب على المرء احتمله ملكه أو لم يحتمل، والمتعة لم تلزم إلا ما احتمله ملكه؛ فبان أنها أوجبت تخفيفًا فإذا كان تخفيفا؛ لم يزد على مهر المثل.
والثاني: أن المتعة أوجبت بدلًا عن نصف مهر المثل، ثم لا جائز أن يراد بالبدل المبدل، كما قيل في سائر الأبدال. واللَّه أعلم.
والمتعة - هي ثلاثة أثواب؛ لأنه يخرجها من المنزل، وأقل ما تخرج المرأة من المنزل إنما تخرج بثلاثة أثواب.
قيل له: في الآية بيان وجوب المتعة في حال وبيان وجوب نصف المهر في حال، وليس في بيان وجوب النصف نفي وجوب الكل؛ لأنه إذا قيل: " لفلان نصف هذا الشيء "، ليس فيه دليل أن النصف الآخر ليس له، فإذا كان ما ذكرنا ليس لمخالفنا الاحتجاج علينا بظاهر الكتاب، ولا السنة إلى مخالفة الآية، فصار معرفة ذلك بتدبير آخر من جهة الكتاب، مع ما أنه لا يوجب المهر كله لعين المسيس، فكانا -نحن وهو- اتفقنا جميعًا على إيجابه لا بالكتاب. واللَّه أعلم.
وإن شئت قلت: إن الخلوة لا توجب كمال الصداق، وإنما يوجبه صحة العقد. دليله: مطالبة المرأة الزوج بكماله بعد صحة النكاح؛ فدل أن وجوبه لا بالخلوة، ولكن بصحة العقد، فالكلام إنما وقع في إسقاط البعض، فيسقط إذا قام دليل الإسقاط. والله أعلم.
وإن شئت قلت: إن المرأة لا تملك سوى تسليم نفسها إليه، فالعقد إنما وقع على ما يقدر على تسليمه إليه، ليس على ما لا تقدر؛ لأنها لا تقدر على تسليم الاستمتاع إليه؛ إذ لو كان العقد واقعًا على ذلك لكان يبطل؛ لأن من باع ما لا يقدر على تسليمه إلى المشترى لبطل العقد بأصله، فعلى ذلك عقد النكاح إذا جعل واقعًا على تسليم الاستمتاع إليه كان باطلًا كالبيع للمعنى الذي وصفناه. واللَّه أعلم.
ثم اختلف في المرأة التي مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولا فرض لها مهرًا: رُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لها مهر مثلها، وروى عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " أنه قضى لبروع بنت واشق بمهر مثلها ".
ورُويَ عن عليٍّ بن أبي طالب رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لها المتعة بكتاب الله تعالى. وقال: لا ندع كتاب اللَّه بقول أعرابي. ذهب - واللَّه أعلم - إلى أن الكتاب ذكر المتعة في الطلاق، ثم كان ذلك الحكم في غير الطلاق كهو في الطلاق؛ فعلى ذلك الفرقة التي وقعت بالموت توجب المتعة كوجوبها في الفرقة الواقعة في غير الطلاق، كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، ذكر (المطلقات)، ثم
وأما عندنا فإنه لا تلزم المتعة، ولكن يلزم مهر المثل لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، ذكر في الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، وفي الدخول كل المفروض؛ فعلى ذلك ما أوجب من الحكم في التي لم يدخل بها ولم يسم لها مهرًا دون ما أوجب في حكم الدخول. واللَّه أعلم.
والثاني: أن المقصود بالنكاح إنما يكون إلى موت أحد الزوجين، فإذا كان كذلك لزم كل المسمى أو كل مهر المثل. واللَّه أعلم.
والثالث: الخبر الذي ذكرنا: أنه قضى بمهر المثل، وخبر أمثال هَؤُلَاءِ مقبول إذا كانت البلية في مثله بلية خاصة، إذ بمثل هذا لا يبلى إلا الخواص من الناس؛ لذلك كان ما ذكرنا.
وقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
ذهب قوم إلى ظاهر الآية - أنه ذكر فيها (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، ولم يخص المفروض في العقد دون المفروض بعد العقد، فكله مفروض، فلها نصف المفروض سواء كان المفروض في العقد أو بعد العقد.
وعلى ذلك قال قوم: إن الرجل إذا تزوج امرأة على جارية ودفعها إليها، فولدت عندها ولدًا، ثم طلقها قبل الدخول بها، أن لها نصف الجارية؛ لأن اللَّه تعالى قال: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، وأنتم لا تجعلون له نصف ما فرضتم، فخالفتم ظاهر الكتاب.
أما الجواب لمن جعل المفروض بعد العقد كهو في العقد فيما جعل لها نصف ما فرض، فإن الخطاب من اللَّه تعالى إنما خرج في المفروض في العقد لا في المفروض بعد العقد؛ الأنه لم يتعارف الفرض بعد العقد، فإذا لم يتعارف في الناس الفرض بعد العقد إنما يعارف في العقد، خرج الخطاب على هذا المتعارف فيهم، وهو المفروض في العقد، فيجعل لها نصف ذلك وما يفرض بعد العقد وإنما يفرض بحق مهر المثل، فإذا وجد الدخول وجب ذلك وإلا لم يجب.
قال الشيخ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، في قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)، قيل: يريد به المؤمنين فيكون في هذا التأويل دلالة على ما قاله أبو حنيفة. رضيَ اللَّهُ تعالى عنه: أن لا تلزم الذمي المتعة.
وقيل: على من قصدهم الإحسان إلى الأزواج ويتقون الخلاف، لما كان عليه النكاح من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. واللَّه الموفق.
واعتل قوم في حق العدة وكمال المهر، أنه ذكر فيه الطلاق لا على تخصيص الحكم له، بل بكل ما يكون به تسريحها فمثله يكون ذكر المماسة - لا على تخصيص، ولكن بكل ما يكون به تحقيقها. ولا قوة إلا باللَّه.
قال: وقدرت المتعة في الاختيار بالقدر الذي كان يمتعها بالإمساك، إذ لا بد من كسوتها، ليعلم أن ليس للفرار عن ذلك الحق يطلق، أو بما به يخرجها من منزله فأمر أن يمتعها بما به التي تخرج من المنازل. وأقل ذلك ثلاثة أثواب. واللَّه أعلم.
وفي هذه الآيات دلالة واضحة على أن الشيء التافه لا يحتمل أن يكون مهرًا؛ لما أوجب عند العدم، فيما لا تسمية فيه، الشيء الخطير، وهو الذي يمتعها، وأقل ما تمتع هى له فيه ثلاثة أثواب وفيما سمى أمرا عند ذلك بالعفو وجب، لا يحث على العفو عنها، ولا يرغب بين الزوجين إلا الأخذ بالفضل بمثله دل أن لذلك حدَّا قد يجري بمثله التنازع، فيرغبون في إبقاء ذلك واختيار ما به التآلف على أن اللَّه - جل ثناؤه - قد جعل بناء النكاح بالأموال وبها أحل، وقال في ذي العذر: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ...) الآية، ولو كان بحبة طول حرة لكان لا أحد يعجز عنها فيشترط ذلك في
وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ).
قيل: المرأة.
وقوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ).
اختلف أهل التأويل فيه:
قال علي وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنهما هو: الزوج - وقال قوم: هو الولي. وأمكن أن يكون قول من قال بأنه الولي؛ لما أن المهور في الابتداء كانت للأولياء.
دليل ذلك قول شعيب لموسى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي
ثَمَانِيَ حِجَجٍ)، شرط المهر لنفسه، وكما روي من الشغار، ثم نسخ من بعد وصار ذلك للنساء بقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) وقوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)، وقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، ولأنهم أجمعوا على ألا يجوز لأحد المعروف في ملك الآخر إلا بإذنه؛ فعلى ذلك لما ثبت أن المهر لها لا يجوز للولي المعروف فيه.
وقوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ)، يعني المرأة تترك النصف ولا تأخذ منه شيئًا. وقوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)، يعني الزوج يجعل لها كل الصداق، يقول: كانت في
وفيه دلالة على أن (العفو) هو الفضل في اللغة، وهو البذل، تقول العرب: عفوت لك، أي: بذلته. فإن كان (العفو) هو البذل فكان قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي ترك له وبذل، (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)، يكون فيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى - في ذلك.
وقوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
معناه - واللَّه أعلم -: حق على المتقي أن يرغب فيه، وكذا قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)، أن يرغب فيه.
ثم لإضافة ذلك إلى الرجال وجهان:
أحدهما: لما أنهم هم الذين تركوا حقهم، ومن عندهم جاء هذا التقصير.
والثاني: أن في تسليم ذلك من الرجال الكمال، وهم في الأصل موصوفون بالكمال، ومن عندهم يستوفى ما فيه الكمال.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى): يحتمل اشتراك الزوجين في ذلك، لا معنى الأخذ بالعفو والفضل أولى لمن يريد اتقاء دناءة الأخلاق، أو أولى الفضل ممن أكرم باتقاء الخلاف لله تعالى.
ويحتمل: الأزواج بما قد ضمنوا الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، فهو أقرب إلى وفاء ذلك واتقاء الخلاف له، على أن سبب الفراق جاء منه، فذلك أقرب لاتقاء الجفاء منهم، وأظهر للعذر لهم فيما اختاروا. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
حرف وعيد عما فبه الئعدى ومجاوزة الحدود والخلاف لأمره.
وقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)
و (المحافظة) هو المفاعلة والمفاعلة هي فعل اثنين. فهو - واللَّه أعلم - أنه إذا حفظها على وقتها ولم يسهو عنها حفظته، وهو كما ذكر في آية أخرى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ). وفي حرف ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -: (إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر). فعلى ذلك إذا حفظها على أوقاتها مع أحكامها وسننها، ولم يدخل ما ليس فيها - من الكلام، والالتفات، وغير ذلك مما نهي عنه - حفظته. وكذلك قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ)، وقوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ)، من المفاعلة، فإذا بادر إليها بدرت إليه. وباللَّه التوفيق.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى).
اختلف أهل العلم في تأويله:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)، أراد كل الصلاة لا صلاة دون صلاة. وهو - واللَّه أعلم - أن الصلاة هي الوسطى، هي من الدِّين. وهو على ما جاء: الإيمان كذا كذا بضعة، أعلاها كذا كذا، وأدناها كذا، فعلى ذلك قوله: والصلاة هي الوسطى من الدِّين، ليست بأعلاها ولا بأدناها، ولكنها الوسطى من الدِّين.
وقال آخرون: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)، هي صلاة العصر. وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " هي العصر ". وذكر في حرف حفصة - رضي اللَّه تعالى عنها -:
وقال قائلون: هي الفجر؛ ذهبوا في ذلك إلى أن النهار يجمع الصلاتين، والليل بطرفيه كذلك، فالفجر أوسطها. وكذلك رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: هي الفجر.
وقال آخرون: هي الظهر؛ ذهبوا في ذلك إلى أنها إنما تقام وسط النهار، فسميت بذلك. وكذلك رُويَ عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: هي صلاة الظهر.
ومن قال: هي العصر، ذهب في ذلك إلى ما روى من الخبر، وإلى أن العصر هي الواسطة من صلاتي النهار وصلاتي الليل لأن صلاتين بالنهار قبلها، وصلاتين بالليل بعدها، فهي الواسطة.
والقياس: أن تكون هي المغرب؛ لأن الظهر سميت أولى، والعصر تكون الثانية، فالمغرب هي الواسطة. لكن لم يقولوا به.
وفيه دلالة أن الصلاة وتر؛ لأن الشفع مما لا وسطى له.
ثم جهة الخصوصية - أيها كانت؟ فإن كانت عصرًا: فهو ما ذكر أن الكفرة حملوا على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العصر، فلم يتهيأ لهم إقامتها، فقالوا: احفظوا عليهم صلاة هي أكرم عليهم من أنفسهم وأموالهم. فظهر بهذا أن لها فضلاً وخصوصية من عند اللَّه ورسوله. وما روي في الخبر أيضا من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من فاتته العصر وتر أهله وماله ".
فإن كانت فجرًا؛ فلأن الكتاب ذكرها بقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، ولما قيل: إن ملائكة الليل والنهار يشهدونها، فظهرت لها الخصوصية والفضل.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى): تكلم فيه بوجهين: أحدهما؛ أن الصلاة هي الوسطى، من أمر الدِّين فهي على أن الأرفع من أمر الدِّين هو التوحيد والإيمان وذلك هو الذي لا يرتفع بعذر، ولا يسقط بسقوط المحنة، إذ ذلك في الدارين جميعًا وهو الإخلاص، ونفى جميع معاني الخلق به عمن يوحده ويؤمن به وسائر العبادات قد يقدم مع وجود أمور الدنيا والدِّين والمعاش معها وفي حالها بالذي به قوامها، والتوحيد لا، ثم الصلاة مما بها ترك جميع ما ذكرت في حال فعلها فيما به فعلها، فهي تشبه الإيمان من هذا الوجه، ثم تسقط هي للأعذار، ولا تجب في غير دار المحنة على ما عليه أمر غيرها من العبادات؛ فصارت بذلك الوسطى من أمر الدِّين. والله الموفق.
والثاني: أن تكون هي صلاة من جملتها، فتذكر بحرف التخصيص لها من الجملة، لوجهين:
أحدهما: لبيان جملة الفرائض أنها وتر، لا الشفع؛ إذ لا وسطى للشفع، فيكون في ذلك بطلان قول قوم أنكروا العدد لها، وقوم زعموا أنها صلاتان في الجملة. واللَّه أعلم.
والثاني: أن يراد بذلك التفضيل للصلاة من الصلوات في الحث على فعلها والترغيب في محافظتها، ويجيء أن تكون تلك معروفة عند الذين خوطبوا، إما بالاسم أو بحال من النوازل؛ لأنه لا يحتمل أن يرغب في فعل لا يعلم حقيقة ذلك. واللَّه أعلم.
ثم يكون لاختلاف من لم يشهد النوازل التي عرفت المراد، فقال كل مبلغ جهده فيما أدى إليه رأيه من الترغيب في الفعل أنه على ذلك، لكنهم اختلفوا:
فمنهم من اعتبر بالركعات، فقال: أكثرها أربع، وأقلها ركعئان، والوسطى منها ثلاث، فصرف التأويل إلى المغرب. واستدل في الترغيب بما جاء " إن اللَّه وتر يحب الوتر " وبما جاء من الترغيب، في تعجيلها والمبادرة في فعلها، حتى لم يؤذن بالاشتغال عنها عند
وقوم ردوا إلى صلاة الفجر بما في ذلك من الترغيب والتخصيص بالأمر، كقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، وما أخبر من شهود ملائكة الليل والنهار، ولأن وقتها الوسط من أحوال الخلق، إذ أحوالهم تكون سكونًا مرة، وانتشارًا ثانيا، وبذلك ختم أوقات السكون وافتتاح أحوال الانتشار، ووسط الشيء: هو الذي فيه حظ الحواشي، وقد وجد ذلك في وقت هذه الصلاة. واللَّه أعلم.
ومنهم من صرف إلى العصر بما جاء في ذلك من الترغيب ومن الوعيد في ترك ذلك، وبها ختم أحوال الزلات التي تدخل في المكاسب، فتكون بها التوبة عنها والاستغفار منها. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله تعالى: (حَافِظُوا) على مخاطبة الجملة على الاشتراك؛ إذ المفاعلة اسم ذلك على تضمن الترغيب في الجماعات، أو على لزوم كثرة عدد الصلاة، أو على ما خرج الأمر بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة لها، وكل في ذلك - واللَّه أعلم - على أن الظهر سميت أولى، فعلى ذلك تكون المغرب الوسطى.
وقوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
قيل: خاشعين خاضعين فيها، لا يدخل فيها ما ليس منها؛ وعلى ذلك رُويَ عن زيد ابن أرقم، أنه قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما نزل قوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، مطيعين أمرنا بالسكوت في صلاتهم خاضعين خاشعين، ونهي عن الكلام؛ وعلى ذلك سمي الدعاء قنوتًا.
وقال آخرون: (قَانِتِينَ)، أي مطيعين. وذلك ما قيل: إن أهل الأديان يقومون في
و" القنوت " هو القيام، على ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن أفضل الصلوات، فقال: طول القنوت. وأصل القنوت - ما ذكرنا - هو القيام، غير الذي يقوم لآخر، يفوم على الخضوع والخشوع والسكوت. وليس في الآية أنه أمر بذلك في الصلاة، غير أن أهل التأويل صرفوا إلى ذلك؛ لأنها ذكرت على أثر ذكر الصلاة. وكذلك قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (٢٣٩) ليس فيه أن ذلك في الصلاة، لكنهم صرفوا إليها ذلك؛ لأنه ذكر على أثر ذلك الصلاة. ثم اختلف فيه:
قالوا: (رُكبَانًا) على الدواب، حيثما توجهت بهم الدواب يصلون عليها في حال السير والوقوف. وعلى ذلك جاءت الآثار من فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفعل الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، في النوافل، فتكون الفرائض عند العذر به مرادة بالآية، بل على ما ظهر فعل النوافل في غيره بالسنة.
وأما قوله: (فَرِجَالًا) فمما اختلف فيه:
قال: ما يكون (فَرِجَالًا)، فمشاة، وهو من الرجل وترجل: مشى راجلا.
وأما عندنا: فهو على المعروف من الصلاة على الأرجل والأقدام قيامًا وقعودًا، لا يزال عن الظاهر. والمعروف الذي عرف الفعل به على ما عرف من الصلاة على الأرجل.
فَإِنْ قِيلَ: صلاة الخوف فيها مشيٌّ، فقامت.
قيل: إن المشي ليس في فعل الصلاة؛ لأنهم في الوقت الذي يمشون لا يفعلون فعل الصلاة، وهو كما يقال: إن الصلاة لا تقوم مع الحدث، فإذا أحدث فيها فذهب ليتوضأ، ليس هو في وقت الحدث مصليًا، وإن بقي في حكم الصلاة. فعلى ذلك المشي في صلاة، ليس هو في فعل الصلاة، وإن كان باقيًا على حكم الصلاة؛ واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)
يحتمل: قوله (كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وقوله (فَاذْكُرُوا) يحتمل: أن يصرف إلى الصلاة، أي: صلوا كما علمكم أن تصلوا في حال الأمر.
ويحتمل: أن يصرف إلى غيره من الأذكار، كقوله تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
ويحتمل: أن يصرف إلى الشكر، أي: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واشكروها بي، كقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ). واللَّه أعلم.
وفي قوله: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، وقوله: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، و (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، دليل أن اللَّه تعالى صنع في فعل العباد حيث أضاف التعليم إلى نفسه، وهو أن خلق فعل التعليم منه؛ إذ لو لم يكن منه فيه صنع لكان أضيف ذلك المعلم دون البيان؛ فدل إضافته إليه على أن له فيه فعلًا. نعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى.
قال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ). أي: صلوا له كما علمكم من الصلاة في حال الأمن، إذ معلوم تقدم الأمر بالصلاة وتعليم حدودها. (وَقُومُوا) في الرخصة في التخفيف بحال العذر.
ويحتمل: اذكروا اللَّه بشكر أنما أمنكم كما علمكم من الشكر له في النعم، وأى ذلك كان فهو الذي علمهم بعد أن كانوا غير عالمين به. واللَّه أعلم. ودل إضافة التعليم في هذه الآية، وكذلك في قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، وقوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ)، إليه على وجود الأسباب من اللَّه تعالى له في الأمرين على أن كان من اللَّه تعالى في أحد الأمرين ما ليس منه في الآخر، ومعنى الأسباب فيهما واحد؛ ثبت
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
قد ذكرنا فيما تقدم أنها تخرج على وجهين:
على النسخ بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
ويحتمل: على نسخ الوصية خاصة دون نسخ العدة، وأن الأمر بالاعتداد في الآيتين أمر واحد - أربعة أشهر وعشرًا، ونسخ الوصية بآية الميراث وبقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:
" لا وصية لوارث ".
وفيه دلالة: أن للموصَى له خيارًا بين قبول الوصية وبين ردها.
وفيه أيضا: أن له أن يردها إذا قبل بقوله تعالى: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، إذ في الخروج ردها وذلك بعد القبول.
وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، قد ذكرنا فيما تقدم أنها تحتمل وجهين:
تحتمل: ما فعلن في أنفسهن من معروف، من التشويف والتزيين. وكذلك روى في حرف ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: " لا جناح عليهن أن يتشوفن ويتزين ويلتمسن الأزواج ".
ويحتمل: وضعهن أنفسهن في الأكفاء بمهر مثلهن. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
تحتمل الآية أن تكون في المطلقات المدخولات بهن وقد فرض لهن أن يأمر الأزواج
أحدها :]١ أن تكون في المطلقات المدخولات بهن، وقد فرض لهن أن يأمر الأزواج بالمتعة أدبا لا وجوبا على ما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه متع بعشرة آلاف على ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنه أنهما قالا :[ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم٢ ( إن كنت من المتقين أو من المحسنين فمتعها ) [ البيهقي في الكبرى ٧/٢٥٧ ] ؛ فهو أمر أدب لا أمر إيجاب، يجبر على ذلك.
[ والثاني : إن ]٣ كانت في المطلقة التي لم يدخل بها، ولا فرض [ لها ]٤ صداقا فهو على ما يقوله، وهي واجبة، يجبر على ذلك. فتخرج هذه الآية والتي قبلها قوله :﴿ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] على نخرج واحد، غير أن في إحداهما بيان قدر المتعة، وليس في الأخرى سوى ما ذكر.
والثالث٥ : أن الأمر بالمتعة أمر بالإنفاق عليها والكسوة لها إذا دخل بها ما دامت في العدة أو على الاختبار على ما ذكرنا لا على الإيجاب ؛ إذ لو كان على الوجوب لكان في ذلك إيجاب بدلين : الصداق والمتعة، ولم يعرف عقد من العقود أوجب بدلين، فكذلك هذا، والله أعلم.
والرابع٦ : أن الطلاق سبب إسقاط لا سبب إيجاب ؛ فإذا كان كذلك لم يجز أن يوجب السبب الذي هو سبب الإسقاط، لذلك لم يجب، والله أعلم.
٢ ساقطة من النسخ الثلاث..
٣ في النسخ الثلاث: وإن..
٤ من ط ع وم، ساقطة من الأصل..
٥ في النسخ الثلاث: ويحتمل وجه آخر وهو..
٦ في النسخ الثلاث: والثاني..
وإن كانت في المطلقة التي لم يدخل بها ولا فرض لها صداقًا فهو على ما يقوله - وهي واجبة يجبر على ذلك؛ فتخرج هذه الآية والتي قبلها، قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)، على مخرج واحد، غير أن في إحديهما بيان قدر المتعة، وليس في الأخرى سوى ما ذكر.
ويحتمل وجه آخر: وهو أن الأمر بالمتعة أمر بالإنفاق عليها والكسوة لها إذا دخل بها، ما دامت في العدة. أو على الاختيار على ما ذكرنا، لا على الإيجاب؛ إذ لو كان على الوجوب لكان في ذلك إيجاب بدلين -الصداق والمتعة- ولم يعرف عقد من العقود أوجب بدلين؛ فكذلك هذا. واللَّه أعلم.
والثاني: أن الطلاق سبب إسقاط، لا سبب إيجاب. فإذا كان كذلك لم يجز أن يوجب السبب الذي هو سبب الإسقاط؛ لذلك لم يجب. واللَّه أعلم.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
ما سبق ذكره من الأحكام من الأمر بالاعتداد، والإنفاق عليهن، والتمتع وغير ذلك (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، أمره ونهيه.
قال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ): أي كما يبين في هذا يبين في جميع ما يعلم لكم إلى بيان ذلك حاجة على قدر ما أراد من البيان -من بيان كفاية أو مبالغة- ليعلم أن جميع ما إليه بالخلق حاجة داخل تحت البيان، يوصل إلى ذلك بقدر ما تحتمله العقول على ما يكرم اللَّه المجاهدين فيه في طلب مرضاته.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥).
وقوله: (أَلَمْ تَرَ)، حرف تعجب وتنبيه، ليتأمل فيما يلقى إليه مما أريد الإنباء عنه، أو فيما قد كان سبق الإنباء عنه، ليتجدد بالنظر فيه عهدا. وعلى ذلك المعروف من استعمال هذه الكلمة، وكذلك وجه تأويله إلى الخبر مرة وإلى العلم به ثانية، وإلى النظر فيه ثالثاً، على اختلاف ما قيل. وفيه كل ذلك. واللَّه تعالى أعلم.
قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ)، " ألم تخبر "،
و" ألم تنظر "، ومثل هذا إنما يقال عن أعجوبة.
فالقصد فيه - واللَّه تعالى أعلم - أنه جواب قوله: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)، أخبرهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن قصة هَؤُلَاءِ: أن جهلهم بآجال أُولَئِكَ حملهم على هذا القول؛ مثل جهل بني إسرائيل بآجالهم حملهم على الخروج من ديارهم حذر الموت، ثم لم ينفعهم ذلك بل أُميتوا. كذلك هذا.
ثم اختلف في قصة هذه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أخرجوا فرارًا من الجهاد في سبيل اللَّه، فأماتهم اللَّه، ثم أحياهم، وأمرهم أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل اللَّه.
وقال آخرون: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فمن خرج أكبر ممن بقي، فنجا الخارجون، وهلك الباقون، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلًا، فأماتهم اللَّه، ثم أحياهم.
فلا تدري كيف كانت القصة. فإن كانت القصة في الفرار من الجهاد في سبيل اللَّه، وله نظير في الآيات، قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى
وإن كانت القصة في الطاعون، فقد جاء الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إذا كنتم في أرض وفيها وباء فلا تخرجوا فرارًا منها ". " وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها ".
ومعناه واللَّه أعلم: أنهم إذا كانوا فيها يخرجوا مخرج الفرار إن تحولوا، أو أن الفرار أنجاهم إن لم يكونوا فيها فدخلوا فأصابهم فأماتهم اللَّه، يظنون أنهم إذا لم يكونوا فيها لم يصبهم ذلك. ففي الوجهين سيان القضاء. وقد جاء: " أن لا عدوى ولا هامة ".
فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه كان إذا مر على حائط مائل أسرع المشي، كيف نهى عن الخروج عن أرض فيها وباء وطاعون؟
قيل: إن كل ما كان مخرجه مخرج آية وفيها إهلاكهم فذلك لا يكون إلا بأمر سبق
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ويجوز أن يكون فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليعلم أن مثله من الخوف لا يعد نقصانا في الدِّين؛ وذلك كالعدة تتخذ للحرب والأغذية للبدن، لا على ظن باللَّه أنه لا يملك الحياة دونها أو قهر العدو، ولكن على التأهب والائتمار؛ إذ قد جعل الذي خيف فيه والذي رجى. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)، حين أحياهم بعد ما أماتهم، وذلك فضل منه. و (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)، بكل نعمة أنعمها عليهم، يستحق الشكر من الخلق بذلك.
هذه الآية على المعتزلة إذ قالوا: ليس لله أن يفعل بخلقه إلا الأصلح لهم في الدِّين، ولو فعل غير ذلك كان جائزا. فإذا كان هذا عليه، فأنى يكون الأفضل؛ وإنما يقال (ذو فضل)، و (ذو مَنٍّ)، إذا أعطى ما ليس عليه. وأما من أعطى ما كان عليه لا يقال: إنه (تفضل) أو (مَنٍّ)، كمن يقضي دينًا عليه لآخر لا يستوجب الشكر بذلك، لأنه قضى ما كان عليه قضاؤه؛ فكذلك اللَّه تعالى إذا أخبر أنه (ذو فضل) و (ذو مَنٍّ) لم يكن ذلك عليه، فاستوجب الشكر على الخلق بذلك. وباللَّه التوفيق.
ثم الكلام في أن أُولَئِكَ ماتوا بآجالهم، أو لا بآجالهم؟
قالت المعتزلة: لم تكن آجالهم. ومن قولهم: أن لكل أحد أجلين: إن قتل فأجله كذا، وإن مات فكذا.
قيل: ذلك تأجيل من لا يعلم أنه يقتل أو يموت، فإذا علم اللَّه أنه يموت لم يكتب له أجل القتل. وكذلك ما روي في الخبر: " أن صلة الرحم تزيد في العمر ". إذا كان في علم اللَّه تعالى في [الأزل] أنه يصل الرحم فكتب عمره أزيد ممن يعلم في [الأزل] أنه
قيل له: لأنه كتب أجل المقتول بقتل هو معصية بما علم اللَّه أنه ينقضي به. وكتاب الآجال هو بيان النهايات والأعمار.
وقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
قد ذكرناه متضمنًا فيما تقدم.
وقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
عامل اللَّه تعالى بلطفه وكرمه الخلق معاملة من لا حق له في أموالهم، لا كمعاملة العباد بعضهم بعضًا، وإن كان العبيد وأموالهم كلهم له حيث طلب منهم الإقراض لبعضهم من بعض ثم وعد لهم الثواب على ذلك فقال: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً). ثم لما سمع اليهود ذلك قالوا: إن إله مُحَمَّد فقير، وهو قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا ِإنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ). ومرة قالوا لما رأوا الشدة على بعض الناس فقالوا: إنما يفعل ذلك ببخله حيث قالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ). فرأوا المنع إما للبخل وإما للفقر. فأكذبهم اللَّه في قولهم ذلك فقال: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ).
قيل: (يَقْبِضُ)، أي يقتر، (وَيَبْسُطُ)، أي يوسع.
وقيل: (يَقْبِضُ) ما أعطى، أي يأخذ. و (وَيَبْسُطُ) ويترك ما أعطى، ولا يأخذ منه شيئًا.
وقيل: إنها نزلت في أبي الدحداح؛ وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة. فقال أبو الدحداح: إن تصدقت بحديقتي، فلي مثلها في الجنة؟ فقال: نعم. وقال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم. وقال: والصبية معي؟ قال: نعم. فرجع أبو الدحداح فوجد أم الدحداح والصبية فيها، فقام على باب الحديقة، فنادى: يا أم الدحداح إِنِّي جعلت حديقتي هذه صدقة، واشترطت مثيلتها في الجنة، وأم الدحداح
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) الآية، في توجيه الآية إليه: فمنهم من يوجهها إلى جميع المحاسن يؤثرها ويختارها لله، فله أضعاف ذلك في الموعود - آجلا وعاجلا - فالآجل ما وعد، والعاجل ثناء الناس وجلالة القدر له في القلوب، متعارف ذلك للأخيار. وسماه قرضا بما هو اسم المعروف، ليذكره عظم نعمه عليه، إن قبله قول المعروف بالشكر له في ذلك، وإن كان ذلك حقا له عليه. واللَّه أعلم.
والثاني: ليعرف الخلق كيفية الصحبة والمعاشرة بينهم. إن اللَّه تعالى عامل عبده فيما هو له معاملة من يستحق الشكر منه بما يسدى إليه من النعم، ولله حقيقة ذلك، ليعقل الحكماء أن مثل ذلك في معاملة الإخوان، وفيما كان نعمه في الحقيقة أوجب وأحق، وليعظموا المعروفين بالمعروف بما أكرمهم اللَّه تعالى بالأسماء الجليلة. ولا قوة إلا باللَّه. ومنهم من يوجهها إلى الصدقات خاصة؛ سماها قرضا لوجوه:
أحدها: أن جعل معاملة الفقراء والتصدق عليهم معاملة اللَّه تفضيلا لهم، على ما نسب مخادعة المؤمنين إلى اللَّه تعالى تعظيمًا لهم، فمثله الصدقة. ثم وعد فيه العوض لتصير الصدقة بمعنى الإقراض، إذ يرجع في عوضه، فيزول وجه الامتنان عن الفقير بما يأخذ منه البدل. وباللَّه التوفيق.
والثاني: سمى ذلك قرضًا بما هو له على ما لم يزل اللَّه تعالى عود به عباده بالذي عرفوا به كرمه وجوده حتى سمى تسليم الذي له في الحقيقة قرضا كالتسليم إلى من لا حق له في الحقيقة، وعلى ذلك أمر الشراء بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، واللَّه أعلم.
والثالث: أنه ذكرهم وجه القصد في الصدقات، والموقع لها، ليكون ذلك تبينًا لعظيم منه الفقر عليه إذ وصل به إلى اللَّه ذكره وأجل محله عنده، فيصير عنده أحد الأعوان له والأنصار على عظيم الموعود وجليل القدر عند اللَّه. فيحمده على ذلك ويشكر له دون أن يمن عليه أو يؤذيه. واللَّه الموفق.
[ قال الشيخ، رحمه الله تعالى : في قوله :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ الآية ]٦ في توجيه الآية إليه [ وجهان ]٧ :
فمنهم من يوجهها إلى جميع المحاسن : يؤثرها، ويختارها لله، فله أضعاف ذلك في الموعود آجلا وعاجلا ؛ فالآجل ما وعد، والعاجل ثناء الناس وجلالة القدر له في القلوب، متعارف ذلك للآخيار، وسماه قرضا [ لوجهين :
الأول ]٨ : بما هو اسم المعروف ليذكره عظم نعمه عليه أن قبله قول المعروف بالشكر له في ذلك، وإن كان ذلك حقا له عليه، والله أعلم.
والثاني : ليعرف الخلق كيفية الصحبة والمعاشرة بينهم : أن الله تعالى عامل عبده في ما هو له معاملة من يستحق الشكر منه بما يسدي إليه من النعم، ولله حقيقة ذلك. ليعقل الحكماء أن مثل ذلك في [ معاملة الإخوان ]٩ وفي ما كان، يعمه في الحقيقة أوجب وأحق ليعظموا المعروفين بالمعروف بما أكرمهم الله تعالى بالأسماء الجليلة، ولا قوة إلا بالله.
ومنهم من يوجهها /٤٥-أ/ إلى الصدقات خاصة ؛ سماها قرضا لوجوه :
أحدها : أن جعل معاملة الفقراء والتصدق عليهم معاملة الله تفضيلا لهم على نسب مقارضة١٠ المؤمنين إلى الله تعظيما لهم، فمثله الصدقة، ثم وعد فيه العوض لتصير الصدقة بمعنى الإقراض ؛ إذ يرجع في عوضه، فيزول وجه الامتنان عن الفقير بما يأخذ منه البدل، وبالله التوفيق.
والثاني : سمى ذلك قرضا بما هو [ له ]١١ على ما يزال الله تعالى، عود به عباده بالذي عرفوا به كرمه وجوده حتى سمى تسليم الذي له في الحقيقة قرضا كالتسليم إلى من لا حق له في الحقيقة. وعلى ذلك أمر الشراء بقوله :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين [ أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة ] ﴾١٢ [ التوبة : ١١١ ] والله أعلم.
والثالث : أنه ذكرهم وجه القصد في الصدقات والموقع لها يكون ذلك تبينا لعظم منه الفقر عليه ؛ إذ وصل [ به إلى الله ]١٣ ؛ ذكره، وأجل محله عنده، [ فيصير عنده ]١٤ أحد الأعوان له والأنصار على عظيم الموعود وجليل القدر عند الله، فيحمده على ذلك، ويشكر له دون أن يمن عليه أو يؤذيه، والله أعلم.
٢ أدرج بعدها في النسخ الثلاث: فقالوا..
٣ من ط ع، في الأصل وم: ويوسع..
٤ من ط ع وم، ساقطة من الأصل..
٥ من ط ع..
٦ من ط ع..
٧ ساقطة من النسخ الثلاث..
٨ ساقطة من النسخ الثلاث..
٩ من ط ع وم، في الأصل: مقابلة الأحوال..
١٠ في النسخ الثلاث: مخادعة..
١١ من ط ع..
١٢ من ط ع..
١٣ من ط ع، في الأصل: بإلى، في م: بالله..
١٤ من ط ع..
وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦).
في هذه الآية والتي قبلها قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات؛ لأن القصة فيهم كانت ظاهرة في أهل الكتاب، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يختلف إلى أحد منهم، ولا نظر إلى كتبهم، ثم أخبر على ما كان، دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
ثم فيه دلالة: أن كل نبي منهم كان إنما يشاور الأشراف من قومه والرؤساء منهم، وإليهم يصرف تدبير الأمور، ولا إلى السفلة منهم والرُّزالة.
وفيه دلالة أيضًا: أن الأنبياء، صلوات اللَّه عليهم وسلامه، لم يكونوا يتولون الجهاد والقتال بأنفسهم، ولكن الملوك هم الذين يتولون ذلك. ثم الملوك هم الراجعون إلى تدبيرالأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، في أمر الدِّين والآخرة، حيث سألوا (ملكا) يقاتلون معه عدوهم.
ذكر أن كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فمضوا زمانًا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم، فقال النبي لهم، وهو من نسل هارون ابن عمران أخى موسى: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ) عدونا، فقال لهم نبيهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) استخبار عن سؤالهم الذي سألوا، أحق هو أم شيء
قوله تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ)، أي: فرض، (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، فيه دلالة على أنه قد كان فيهم ما كان في هذه من قوله: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)، من كراهية القتال والجهاد في سبيل اللَّه.
وقيل: (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرًا لم يتولوا عما سألوا. ثم قال لهم نبيهم.
قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا (٢٤٧)
قيل: سمي " طالوتا " لطوله وقوته.
وقوله: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ).
يتوجه مثل هذا الكلام وجهين:
أحدهما: على الإنكار، فلا يحمل على الإنكار؛ لأنه كفر.
والثاني: على الاسترشاد وطلب العلم لهم منه في ذلك عن جهة جعله له ملكًا، لما قد عرفوا أن لا يستوجب الملك، ولا يولى إلا أحد رجلين: إما بالوراثة من الآباء، أو بالسعة في المال، لذلك قالوا: (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)، لأنهم كانوا أبناء الملوك وأرباب الأموال.
ثم بين لهم - عَزَّ وَجَلَّ - أن جهة الاختيار ليس إليهم، وأن سبب الملك ليس ما ذكرنا دون غيره، بل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يختار من يشاء لذلك بأسباب سوى ما ذكروا بفضل علم وبفضل قوة، حيث قال:
(قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ).
قرر عندهم أن الملك يحتاج إلى فضل علم وفضل قوة.
ويحتمل: علم الأشياء الأخر على حفظ الرغبة وغيره.
قال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ): فهو - واللَّه أعلم - لأي معنى جعل له الملك علينا؛ أو كيف يكون له الملك علينا، ونحت بظاهر الأسباب التي تحقق الملك أملك، فنكون بها أحق بالملك منه فبين اللَّه أن المعنى الذي له صار أحق بالملك منهم في ذلك الأمر. واللَّه أعلم.
والحرف (أَنَّى) وإن كان مما يتعارف في الإنكار فليس هو كذلك في الحقيقة؛ إذ قد أخبرهم من هو نبي عندهم، ومن تقرر عنده نبوة أحد لا يحتمل تكذيبه إياه في هذا. والله أعلم.
وقد يحتمل كون أهل النفاق فيهم، فيكون منهم الإنكار أيضًا كما كان أمثال ذلك في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يؤيد سؤالهم الآية حتى قال: (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) كذا. واللَّه تعالى أعلم. ويؤيد ذلك كثرة مخالفتهم إياه لما امتحنوا بالنهر. واللَّه الموفق.
وفي هذا ونحو ذلك دلالة جواز الآيات بغير الرسل إذا كان فيها تصديق الرسل، وكذلك قصة مريم، وكذلك عمل صاحب سليمان، وغير ذلك مما جاء به الكتاب، لكن ذلك يجوز إذا كان منهم تصديق الرسول، فيكون في التحقيق كآيات لهم ظهرت على ألسن غيرهم أو أيديهم. ومن أراد بها ادعاء الرسالة لنفسه فيعجز عن ذلك، بل لا يكرم اللَّه بها من يعلم أنه يدعو إلى تصديق الكذب ومضاهاة الرسل. وبهذا يجاب لمن يعارض بمن يتعلم القرآن، ثم يأتي موضعًا لا يعرف فيحتج به في نبوته، مع ما في ذلك أوجه تمنع الاحتجاج به من ذلك، بما فيه من الإخبار عن الأسئلة والإنباء عن أمور لا توجد هنالك - واللَّه أعلم - وبما لايعلم أوله أنه من تعلم تقدم منه إلى من هو حجة له، أو عن وحي إليه، إذ لم يكن امتحن من قبل. والحجة ما يخرج من المعتاد وحمل الطبيعة، يكرم بها وقت الدعوة بلا سبب سبق منه في مثله ولا عناية. ولا قوة إلا باللَّه. وبعد فإنه قد ظهر في جميع من لسانه ذلك اللسان ممن لا يطاق الدفع لمثله ولا إنكار وانتشر أمر الآتي به، فيظهر بذلك كذبه، ويفتضح عند الدعوى قبل المحنة والتأمل فيما جاء به إلا أن يأتي به من ليس ذلك لسانه، ولا معنى للاحتجاج به في أمثالهم. واللَّه الموفق.
وقوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
(وَاسِعٌ)، أي غنى، يغني من يشاء ويعطيه، (عَلِيمٌ)، بمن يصلح للملك.
وكأنهم سألوا نبيهم: ما آية ملكه؟
فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت تحمله الملائكة.
ذكر في القصة: أن التابوت يكون مع الأنبياء، إذا حضروا قتالا قدموا التابوت من بين أيديهم إلى العدو، ويستنصرون به على عدوهم. وفيه سكينة، كأنها رأس هرة فإذا أن ذلك الرأس سمع التابوت أنين ذلك الرأس دف نحو العدو، وهم يمضون معه ما مضى، فإذا استقر ثبتوا خلفه. فلما هربت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء سلط اللَّه تعالى عليهم عدوهم، وأخذوا منه التابوت لما سئموا وملوا، ثم رد عليهم بعد زمان طويل، وجعل ذلك آية من آيات ملك طالوت. فلا ندري كيف كانت القصة.
ثم اختلف في قوله: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
قيل: (سَكِينَةٌ)، ريح هفافة، فيها صورة كوجه الإنسان.
وقيل: السكينة لها وجه كوجه الهرة، لها جناحان، فإذا تصوتت عرفوا النصرة.
وقيل: السكينة: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء (١).
وقيل: (فِيه)، أي: في التابوت (سَكينَةٌ)، أي طمأنينة من ربكم، كأن التابوت في أي مكان كان اطمأنوا إليه وسكنوا.
فلا ندري ما السكينة؟ سوى أننا عرفنا أن قلوبهم كانت تسكن إليه وتطمئن. فليس لنا إلى معرفة (السكينة)، وكيفيتها حاجة.
وقوله: (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
قيل: " البقية " فيه رضاض الألواح -وهو كسرها- وثياب موسى، وثياب هارون. وقيل: عصا موسى، وعصا هارون.
وقيل: فيه سُنَّة موسى وهارون، وعلمهما. واللَّه أعلم بذلك.
وفي الآية دليل جرى الآية على أيدي الأولياء، لما أعطى لطالوت آية لملكه تشبه آيات الأنبياء حيث أخبر أنه كان (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) هي القوة في داره، وهم كانوا لم يمروا ذلك وقت حمل الملائكة إياه، لكن تلك الآيات في الحاصل تكون للأنبياء يجريها اللَّه تعالى على أيدي الأولياء إلا أن يكون للأولياء ذلك. ثم من ادعى من الأولياء بتلك الآيات النبوة لنفسه يعجزه اللَّه تعالى عن ذلك، ويخرج الآية من أن تصير آية له، نحو من أتى مدينة من المدائن التي لم يبلغ أهلها هذا القرآن، ولا عرفوه ولا سمعوا ذلك من أحد قط، فجعل يقرأ ذلك عليهم عن ظهر قلبه، وادعى بذلك رسالة لنفسه، أيسع أهل ذلك البلد أن يصدقوه فيما ادعى، أم لا؟ فإن لأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، جوابان:
أحدهما: بأن في القران ما يظهر به كذب هذا المدعى في دعوته من نحو قوله: (يَسْأَلُونَكَ) عن كذا، ومن نحو الأخبار، والحكايات، والقصص التي فيها مما لا يحتمل كونها إلا بتقدم أسباب فيكذبه ذلك، فلم يلزمهم تصديقه. وباللَّه العصمة.
والثاني: قالوا: إذا ادعى ذلك به يعجزه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن تلاوته، وإجرائه على لسانه، وادعاء ما ادعى بذلك. وكأن هذا أقرب. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢).
أي: من المدينة.
: هم سبعون ألفا.
وقيل: كانوا مائة ألف، سار بهم في حر شديد، فنزلوا في قفرة من الأرض، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء، فقال لهم طالوت:
(إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)
قيل: نهر بين الأردن وفلسطين.
وقيل: هو نهر فلسطين.
وقيل: إنما قال لهم: إن اللَّه مبتليكم بنهر نبيهم.
وقوله: (فَمَن شَرِبَ) غرفة كفاه، ومن شرب أكثر منه لم يروه؛ لأنهم عصوه.
وقيل،
(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي).
أي: ليس معي على عدوي، أي: لا يخرج معي.
ويجوز (فَلَيْسَ مِنِّي) من أتباعي وشيعتي.
وجائز أن يكون به ظهور النفاف والصدف (مِنِّي) في الدِّين.
(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي).
يقول: (مِنِّي)، أي معي على عدوي.
فيه دليل أن يسمى الشراب باسم الطعام، والطعام باسمه.
(إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)
استثنى (الغرفة)، كأنه قال: من شرب منه فليس مني إلا غرفة.
ففيه جواز الثنيا من الكلام المتقدم وإن كان دخل بين حرف الثنيا وحرف الأول شيء آخر. وهو يدل لأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، حيث قالوا: فيمن أقر، فقال:
وقيل: شرب شرب الدواب. و (الغرفة) هي شرب.
وقوله: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)
قيل: (القليل) هم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا اغترفوا غرفة واحدة بأيديهم، وكانت الغرفة يشرب منها هو وخدمه ودوابه.
وقيل: إنما استثنى الغرفة باليد لئلا يكرعوا كراع الدواب، ففعل بعضهم ذلك، فرد طالوت العصاة منهم، فلم يقطعوا معه، وقطع معه الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلًا وهو قوله تعالى:
(فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ).
قيل: هو قول بعضهم لبعض: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)؛ لأنهم أكثر منا، وكانوا مائة ألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر. واللَّه أعلم بذلك العدد.
وقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ)
قيل: الذين يعلمون ويقرون بالبعث.
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ).
أي: عددهم.
وقيل: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ)، يعني يخشون أنهم يقتلون؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الموت، فطابت أنفسهم بالموت (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً).
وقوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي بأمر اللَّه. لكنه لا يحتمل الغلبة بالأمر، ولكن (بِإِذْنِ اللَّهِ)، عندنا: بنصر اللَّه.
وقوله: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
بالنصر والمعونة لهم.
يعني لقتالهم.
وقوله: (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
يقول: اصبب. ويقال: أتمم علينا صبرا.
وهكذا الواجب على كل من لقي العدو أن يدعو بمثل هذا.
وعلى قول المعتزلة لا معنى لهذا الدعاء، لأنه قد كان فعل بهذا الأصلح.
فاستجاب اللَّه دعاءهم، وهزم عدوهم؛ وهو قوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ (٢٥١)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بأمر اللَّه. لكن لا يحتمل؛ لأنهم كانوا يقاتلون بالأمر، ولا يهزمون بالأمر.
وقال آخرون: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بعلم اللَّه، كان في علمه في الأزل أنهم يهزمونهم.
وقيل: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بنصر اللَّه. وهو أقرب. واللَّه أعلم.
وقيل في القصة: إن داود، عليه السلام، كان راعيًا، وكان له سبعة إخوة مع طالوت خرجوا معه للقتال. ولما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أرسل داود إليهم لينظر ما أمرهم ويأتيه بخبرهم. قال: فأتاهم وهم في الصفوف. فبرز جالوت، فلم يخرج إليه أحد.
فقال: (يا بني إسرائيل) لو كنتم على حق لخرج إليَّ بعضكم. فقال داود لإخوته: أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟ قال: فقالوا: اسكت. قال: فذهب داود إلى طالوت، فقال: أيها الملك، إِنِّي أراكم تعظمون شأن هذا العدو. ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت: أنكحه ابنتي، وأجعل له نصف ملكي. فقال داود لطالوت: فأنا أخرج إليه. فلما قال داود: (أنا أخرج إليه)، قال له طالوت: من أنت؟ قال: أنا داود بن فلان. فعرفه طالوت، ورأى أنه أجلد إخوته. قال: فأعطاه طالوت درعه وسيفه. قال: فلما خرج داود في الدرع جرها في الأرض؛ لأن طالوت كان أطول منه. قال: فأخذ داود العصا ثم خرج إلى جالوت. فمر بثلاثة أحجار، فقلن: يا داود خذنا معك، ففينا ميتة جالوت. فأخذها ثم مضى نحوه. وعلى جالوت بيضة هي ثلاثمائة رطل. فقال له جالوت: إما أن ترميني، وإما أن أرميك؟ فقال له داود: بل أنا أرميك. فرماه بها، فأصابه
وقوله: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ).
فالملك يحتمل: علم الحرب، وسياسة القتال؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدي الملوك، وهو كقوله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).
ويحتمل: (الْمُلْكَ)، بما عقد له من الخلافة؛ كقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
وذكر: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الأمرين لما كان من قرب زمانه على ما عليه ابتداء الآية أن الملك يكون غير نبي، فجمعا جميعًا له فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة.
(وَالْحِكْمَةَ)، قيل: هي الفقه.
وقيل: هي النبوة. وقد تقدم ذكره.
وقوله: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).
قيل: صنعة الدروع، كقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ).
وقيل: كلام الطير، وتسبيح الجبال، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). وذلك مما خص به داود دون غيره من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
ويحتمل: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)، أشياء أخر.
وقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالكفار بعضهم ببعض شرهم عن المسلمين، لما شغل بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرغوا عن أنفسهم للمسلمين، وإلا كان
وقيل في القصة : إن داود عليه السلام كان راعيا، وكان له سبعة إخوة، مع طالوت خرجوا٦ للقتال، ولما أبطأ خبر إخوته على أبيهم، أرسل داوود إليهم ينظر ما أمرهم ؟ ويأتيه بخبرهم، قال : فأتاهم، وهم في الصفوف، فبرز جالوت، فلم يخرج إليه أحد، فقال : يا بني إسرائيل لو كنتم على حق [ لخرج بعضكم إلي ]٧، فقال داوود إخوته : أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف ؟ قال : فقالوا : اسكت، قال : فذهب داوود [ إلى طالوت، فقال : أيها الملك إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو ]٨، ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف ؟ قال طالوت : أنكحه ابنتي، وأجعل له نصف ملكي، فقال داوود لطالوت : فأنا أخرج إليه، [ فلما قال داوود، أنا أخرج إليه، قال له طالوت : من أنت ؟ قال : أنا داوود ابن فلان، فعرفه٩ طالوت، ورأى أنه أجلد إخوته، فأعطاه طالوت درعه وسيفه، قال : فلما خرج داوود في الدرع وجرها في الأرض لأن طالوت كان أكول منه، قال : فأخذ ]١٠داوود العصا، ثم خرج إلى جالوت، فمر بثلاثة أحجار، فقلن : يا داوود خذنا معك، ففينا ميتة جالوت، فأخذها، ثم مضى نحوه، وعلى جالوت بيضة ؛ وهي ثلاثمئة رطل، فقال له جالوت : إما أن ترميني، [ وإما أن ]١١ أرميك [ فقال له داوود بل أنا أرميك ]١٢ فرماه بها، فأصابه في آخرها، فوقعت في صدره، فنفذته، وقتلته، ١٣ وقتل الحجر بعدما نفذ أناسا١٤ كثيرة، وهزم الله جنوده، وهو قوله :﴿ فهزمهم بإذن الله وقتل داوود جالوت ﴾ والقصة طويلة، فلا ندري كيف كانت ؟ وليس لنا إلى معرفتها حاجة.
وقوله :﴿ وآتاه الله الملك والحكمة ﴾ فالملك يحتمل علم الحرب وسياسة القتل ؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدي الملوك، وهو كقوله :﴿ وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ﴾ [ ص : ٣٠ ] ويحتمل الملك بما عقد له من الخلافة كقوله :﴿ يا داوود إنا جعلناك خلفية في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ﴾ [ ص : ٢٦ ]. ﴿ وآتاه الله الملك والحكمة ﴾ الأمرين [ ما كان ]١٥ من قرب زمانه على ما عليه ابتداء [ الآية ]١٦ أن الملك يكون غير نبي، فجمعنا له، فيكون على ذلك تأويل /٤٦-أ/ الحكمة أنها النبوة.
[ وقوله ]١٧ ﴿ الحكمة ﴾ قيل : هي الفقه، وقيل : هي النبوة، وقد تقدم ذكره.
وقوله :﴿ وعلمه مما يشاء ﴾ ؛ قيل : صنعه الدروع كقوله :[ ﴿ وعلمناه صنعه لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ﴾ [ الأنبياء : ٨٠ ]١٨، [ وقوله ]١٩ :﴿ وألنا له الحديد ﴾ [ سبأ : ١٠ ] ؛ وقيل : كلام الطير وتسبيح الجبال [ لقوله ]٢٠ :﴿ ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ﴾ [ سبأ : ١٠ ] ؛ وذلك مما خص به داوود دون غيره من الأنبياء عليهم السلام ويحتمل :﴿ وعلمه مما يشاء ﴾ أشياء أخرى.
وقوله :﴿ ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ اختلف فيه، قال بضعهم : دفع بالكفار بعضهم ببعض شرهم عن المسلمين لما فتك٢١ بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرغوا عن أنفسهم للمسلمين، وإلا كان ذلك فساد الأرض، وقال آخرون : دفع بالرسل والأنبياء شرهم عن المسلمين، وكفاهم بهم، وقال غيرهم : دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض : دفع بالمجاهدين في سبيل الله عن القاعدين عن الجهاد، وإلا لغلبت المشركون على الأرض، قيل : يدفع بالمصلي عمن لا يصلي وبالمزكي عمن يزكي، وبالحاج عمن لا يحج، وبالصائم عمن لا يصوم.
ثم اختلف في قوله :﴿ لفسدت الأرض ﴾ ؛ قيل : لو لم يدفع بعضهم لقتل بعضهم بعضا وأهل فريق فريقا، وفي ذلك تفانيهم وفسادهم، وفي ذلك فساد الأرض، وقال آخرون : لو لم يدفع ﴿ لفسدت الأرض ﴾ وأراد بفساد أهلها لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أرضي الإسلام وأهلها ؛ فإذا غلبوا فسد أهلها. وقال :﴿ لفسدت الأرض ﴾ إذا غلب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع ؛ ففيه فساد الأرض، والله اعلم.
وقوله :﴿ ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾ يدفع ذلك كله عن المسلمين. وعلى قول المعتزلة :[ ليس ]٢٢ هو بذل فضل على أحد لأن عليه أن يفعل ذلك، وأن يدفع ذلك كله عن المسلمين على قولهم ؛ فإذا كان عليه ذلك لا يصير هو بما يدفع مفضلا ولا ممتنا، فنعود بالله من الرسف في القول.
٢ من ط ع..
٣ من ط ع..
٤ من ط ع، في الأصل: يهزمون..
٥ من ط ع..
٦ أدرج بعدها في الأصل وم: معه..
٧ من ط ع، في الأصل وم: لخروج إلى بعضكم..
٨ من ط ع..
٩ في ط ع:: فصرفه..
١٠ من ط ع، في الأصل وم: قال فأعطاه طالوت درعه وسيفه، قال: فلما خرج في الدرعه جرها في الأرض لأن طالوت كان أطول منه، قال: فلما قال داوود: أنا خرج إليه وسيفه، قال: فلما قال له طالوت من أنت ؟ قال: أنا داوود بن فلان فعرفه طالوت، ورأى أنه أجلد إخوته، قال: أخذ..
١١ من ط ع، في الأصل: وأنا، في م: وأنا أن..
١٢ من ط ع..
١٣ من ط ع، في الأصل: فقلت، في م: قتله..
١٤ في الأصل وم: أناسا، في ط ع: جنودا..
١٥ من ط ع..
١٦ من ط ع..
١٧ ساقطة من النسخ الثلاث..
١٨ من ط ع..
١٩ ساقطة من النسخ الثلاث..
٢٠ من ط ع..
٢١ في النسخ الثلاث: سفك..
٢٢ من ط ع..
وقال آخرون: دفع بالرسل والأنبياء شرهم عن المسلمين، وكفاهم بهم.
وقال غيرهم: دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض - دفع بالمجاهدين في سبيل الله عن القاعدين عن الجهاد، وإلا لغلب المشركون على الأرض.
وقيل: بدفع بالمصلي عمن لا يصلي، وبالمزكي عمن لا يزكي، وبالحاج عمن لا يحج، وبالصائم عمن لا يصوم.
ثم اختلف في قوله: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)
وقيل: لو لم يدفع بعضهم ببعض لقتل بعضهم بعضًا، وأهلك فريق فريقًا، وفي ذلك تفانيهم وفسادهم، وفي ذلك فساد الأرض.
وقال آخرون: لو لم يدفع لفسدت الأرض، أراد بفساد الأرض فساد أهلها؛ لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضي الإسلام وأهلها. فإذا غلبوا فسد أهلها.
وقال: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)، إذا غلب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع، ففيه فساد الأرض. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
وعلى قول المعتزلة: ليس هو بذي فضل على أحد؛ لأن عليه أن يفعل ذلك، وأن يدفع ذلك كله عن المسلمين على قولهم، فإذا كان عليه ذلك لا يصير هو بما يدفع مفضلا ولا ممتنًّا. فنعوذ باللَّه من السرف في القول.
وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
يحتمل قوله: (آيَاتُ اللَّهِ)، ما ذكره من قتل داود جالوت بالأحجار.
ذكر في القصة مع ضعف داود وقوة جالوت، على ما قيل: إن قامته كانت قدر ميل، وإن بيضته كانت ثلاثمائة رطل.
ويحتمل: ما ذكر من قيام القليل للكثير؛ لأنه قيل: إن جنود جالوت مائة ألف، وجنود طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر. وذلك من الآيات.
ويحتمل: جميع ما قص اللَّه عليه في القرآن من خبر الأمم السالفة. واللَّه أعلم.
وفي قتل داود جالوت، وقتل القليل الكثير، دليل: أنهم لم يقتلوا لقوة أنفسهم،
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: من آيات وحدانيته: قتل داود جالوت مع ضعف داود وقوة عدوه.
* * *
قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤).
وقوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)
قوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
يحتمل: تفضيل بعضهم على بعض ما ذكر (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)، ومنهم من اتخذه خليلا، ومنهم من سخر له الريح والطير، ما كان في الأنبياء مثله.
ويحتمل: (بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، في الحجاج، والحجج على القوم؛ لأن فيهم من كان أكثر محاجة لقومه وأعظم حججا، وهو إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، وموسى.
ويحتمل: " التفضيل " التمكين في الأرض، مكن لبعضهم ما لم يكن للباقين.
ويحتمل: ذلك في الآخرة في الشفاعة، ورفع الدرجات.
ويحتمل: (بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، في الرسالة؛ لأن منهم من أرسل إلى الإنس والجن جميعًا، ومنهم من أرسل إلى الإنس خاصة، ومنهم من أرسل إلى قومه خاصة، ومنهم من أرسل إلى نفر. واللَّه أعلم.
وقد ذكرنا ألا يكون من اللَّه تفضيل لبعض الرسل على بعض على قول المعتزلة؛ لأنه فعل ما عليه أن يفعل، وكل من فعل ما عليه أن يفعل، فإنه لا يوصف بالفضل والإفضال؛ دل أنه ليس على ما يقولون ويذهبون إليه.
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) هذه الآية والآيتان من بعدها - قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)، وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)، على المعتزلة. لأنه أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا. وهم يقولون: شاء ألا يقتتلوا، ولكن اقتتلوا. والاقتتال هو فعل اثنين، وفيهم من اقتتل ظالما، وفيهم من اقتتل غير ظالم، دليله قوله: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)، ثم قال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)، أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا وأخبر أنه يفعل ما يريد ثبت الفعل في الإرادة وهم يقولون لا يفعل ما يريد.
وكذلك قوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أخبر أنه لو شاء ما اختلفوا وهم يقولون: شاء ألا يختلفوا ولكن اختلفوا ثم لا يجوز صرف الآية إلى مشيئة القسر والجبر؛ لأن المشيئة التي ذكرها اللَّه تعالى معروفة في الناس فلا يجوز صرفها إلى غير المشيئة المعروفة إلا بعد تقدم ذكر أو بيان أنها هي المرادة وقوله: (مَا اقْتَتَلُوا) ولا اختلفوا فجعلهم على أمر واحد ودين واحد كقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)، والمعتزلة يقولون: شاء أن يصيروا أمة واحدة ولكن لم يصيروا فنعوذ باللَّه من السرف في القول والقول في اللَّه بما لا يليق به.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ (٢٥٤) يحتمل الأمر بالإنفاق، أمر بتقديم الطاعات والمسارعة إلى الخيرات قبل أن يأتي يوم يمنعه ويعجزه عن ذلك وهو الموت.
ويحتمل أمره بالإنفاق من الأموال في طاعة اللَّه من قبل أن يأتي يوم، وهو يوم القيامة (لَا بَيْعٌ فِيهِ) قيل: لا فداء، (وَلَا خُلَّةٌ)، (وَلَا شَفَاعَةٌ).
يحتمل قوله: (وَلَا خُلَّةٌ) أي لا ينفع خليل خليله كما ينفع في الدنيا وكذلك لا شفيع تنفع شفاعته كما تنفع في الدنيا.
ويحتمل: (وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)، أي: لا ينفع أحد أحدا، ولا يخال أحد أحدا، ولا يشفع أحد أحدا.
ويحتمل: (يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ)، أنهم يملكون بيع أنفسهم من اللَّه تعالى ما داموا أحياء، فإذا ماتوا لم يملكوا، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). فأول الآية وإن خرج الخطاب للمؤمنين فالوصف فيها وصف الكافرين، لكن فيها زجر للمؤمنين مثل صنيع الكفار.
وقوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قيل: اللَّه هو اسم المعبود، وكذلك تسمي العرب
ويحتمل أن يكون على الإضمار: أن قل اللَّه الذي لا إله إلا هو لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويقرون بالإله؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وكقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وكقوله: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، فإذا كانوا يقرون به فأخبرهم أن الذي يقرون به وشممونه هو اللَّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ويحتمل أن يكون لقوم من أهل الإسلام عرفوا اللَّه تعالى وآمنوا به، ولم يعرفوا نعته وصفته فعلمهم نعته وصفته أنه الحي القيوم إلى آخره.
* * *
قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
وقوله (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قيل هو الحي بذاته لا بحياة هي غيره كالخلق هم أحياء بحياة هي غيرهم حلت فيهم لابد من الموت، واللَّه عَزَّ وَجَلَّ يتعالى عن أن يحل فيه الموت؛ لأنه حي بذاته وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم، تعالى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عما يقول فيه الملحدون علوا كبيرا.
والأصل: أن كل من وصف في الشاهد بالحياة وصف ذلك للعظمة له والجلال والرفعة. يقال: (فلان حي)، وكذلك الأرض سماها اللَّه تعالى (حية)، إذا اهتزت وربت وأنبتت، لرفعتها على أعين الخلق. فعلى ذلك اللَّه سبحانه وتعالى (حي) للعظمة.
وكذلك الأرض سماها اللَّه تعالى: (حية) للعظمة والرفعة ولكثرة ما يكون يذكر في المواطن كلها، كما سمى الشهداء (أحياء)؛ لأنهم مذكورون في الملأ من الخلق.
ويحتمل: أنه يسمى (حيًّا) لما لا يغفل عن شيء، ولا يسهو، ولا يذهب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وباللَّه العصمة.
وقوله: (الْقَيُّومُ)، القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم.
وقيل: (الْقَيُّومُ)، هو القائم على كل شيء يحفظه ويعاهده، كما يقال: (فلان قائم على أمر فلان)، يعنون أنه يتحفظ أموره حتى لا يذهب عنه شيء.
وقوله تعالى: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ).
قيل: (السِّنَة)، النعاس.
وقيل: (السِّنَة)، هي بين النوم واليقظة، وسمى (وسنان).
وقيل: (السِّنَة)، هي ريح تجيء من قبل الرأس، فتغشى العينين، فهو (وسنان) بين النائم واليقظان.
ويحتمل قوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) على نفي الغفلة والسهو عنه؛ إذ لو أخذه، صار مغلوبًا مقهورًا، فيزول عنه وصفه (حي، قيوم)، كقوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) على نفي الغفلة.
ويحتمل: أنه نفى عن نفسه ذلك؛ لأن الخلق إنما ينامون وينعسون طلبًا للراحة والمنفعة -إما لدفع حزن أو وحشة- فأخبر أنه ليس بالذي يحتاج إلى راحة، وإلى دفع حزن أو وحشة.
وقيل: لا يفتر ولا ينام.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والنوم والسِّنَة حالان تدلان على غفلة من حلَّا به، وعلى حاجته إلى ما فيه راحته، وعلى عجزه، إذ هما يغلبان ويقهران. فوصف الرب نفسه يما يعلو عن الذي دلا عليه من الوجوه.
وقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
وهو العالي على ذلك، القاهر له، لا تأخذه سِنة ولا وحشة، ولا معنى يدل على العجز والحاجة. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، أخبر أن ما في السماوات وما في الأرض، عبيده وإماؤه، ليس كما قالوا: (فلان ابن الله)، و (الملائكة بنات الله)، بل كلهم عبيده وإماؤه، والناس لا يتخذون ولدا من عبيدهم وإمائهم، فاللَّه أحق ألا يتخذ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
ثم اختلف في الشفاعة:
قالت المعتزلة: لا تكون الشفاعة إلا لأهل الخيرات خاصة الذين لا ذنب لهم، أو كان لهم ذنب فتابوا عنه. ذهبوا في ذلك إلى ما ذكر اللَّه تعالى في قوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، أخبر أنهم يستغفرون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا. فإذا كان الاستغفار في الدنيا إنما يكون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا، فعلى ذلك الشفاعة إنما تكون في الآخرة لهَؤُلَاءِ.
وأما عندنا: فإن الشفاعة تكون لأهل الذنوب؛ لأن من لا ذنب له لا حاجة له إلى الشفاعة. وقوله: (لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)، يكون لهم ذنوب في أحوال التوبة، فإنما يغفر لهم الذنوب التي كانت لهم، فقد ظهر الاستغفار لأهل الذنوب؛ فعلى ذلك الشفاعة.
فَإِنْ قِيلَ: أرأيت رجلًا قال لعبده: إن عملت عملًا تستوجب به الشفاعة فأنت حر، فأي عمل يعمله ليستوجب به الشفاعة حتى يعتق عبده: الطاعة، أو المعصية؟ قيل: الطاعة، فعلى ذلك الشفاعة، لا تكون إلا لأهل الطاعة والخير لا لأهل المعصية.
قيل: إن الشفاعة التي يستوجبها أهل الذنوب إنما يستوجبون بالطاعات التي كانت لهم حالة الشفاعة؛ لأن أهل الإيمان وإن ارتكبوا مآثم ومعاصي فإن لهم طاعات، فبتلك الطاعات يستوجبون الشفاعة، كقوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)، فالشفاعة في شره بخيره.
وقالوا: لا شفاعة في الشاهد لأحد في الآخرة؛ لأن الشفاعة هي أن يذكر عن مناقب أحد عند أحد وخيراته، ليس سوءا، وكذا في الآخرة.
والجواب لهم من وجهين:
أحدهما: أنه إنما يذكر في الدنيا خيرات المشفع له لجهالة هذا بأحواله، فيذكر خيراته ليعرفه بها، فيشفع فيه. واللَّه تعالى عارف لا يتعرف.
فإن قال لنا قائل: إن جميع ما ذكر في هذه الآية -من أولها إلى آخرها- كلها دعوى، فما الدليل على تلك الدعوى؟
قيل: يحتمل أن يكون دليله ما تقدم ذكره من قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...) الآية.
والثاني: من أنكر الصانع فيتكلم أولا معه في حدث العالم، وحاجته إلى محدث، فإذا ثبت حدث العالم، فحينئذ يتكلم في إثبات الصانع ووحدانيته. وباللَّه التوفيق.
وفي قوله تعالى: (واحد)، ليس من حيث العدد؛ لأن كل ذي عدد يحتمل الزيادة والنقصان، ويحتمل الطول والعرض، ويحتمل القصر والكسر، ولكن يقال: ذلك (واحد) من حيث العظمة والجلال والرفعة، كما يقال: فلان واحد زمانه، وواحد قومه، يعنون به رفعته وجلالته في قومه وسلطانه عليهم، جائز القول، فهم لا يعنون من جهة العدد؛ لأن مثله كثير فيهم من حيث العدد. واللَّه أعلم.
وقوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).
هذا على المعتزلة؛ لأنهم لا يصفونه بالعلم، وقد أخبر أن له العلم.
ثم احتمل: (عِلْمِهِ)، علم الغيب.
وقال آخرون: علم الأشياء كلها. لا يعلمون إلا ما يعلمهم اللَّه من ذلك، كقول الملائكة: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا).
ومن قال: علم الغيب، فهو الذي قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ).
وقوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، وسع علمه. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه.
وقال آخرون: (كُرْسِيُّهُ)، قدرته، وهو وصف بالقدرة والعظمة.
وقيل: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، والكرسي هو أصل الشيء، يقال: كرسي كذا، والمراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق. وذلك وصف بالعظمة والقوة.
وقيل: إن الكرسي هو الكرسي، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه.
ثم لا يجوز أن يفهم من إضافته إليه ما يفهم من الخلق، كما لم يفهم من قوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)، و " نور اللَّه "، و " بيت اللَّه " ونحوه ما يفهم من إضافته إلى خلقه.
فعلى ذلك لا يفهم من قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
وقوله تعالى: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا).
قيل: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)، لا يشق عليه حفظهما. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه تعالى عنه، ورُويَ عنه أيضًا أنه قال: لا يثقل عليه.
وقيل: (وَلَا يَئُودُهُ)، لا يجهده.
وقيل: لا يعالج بحفظ شيء مثال الخلق.
وقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
(الْعَلِيُّ) عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي، (الْعَظِيمُ) عن أن يحاط به.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، قال: علمه، ألا ترى إلى قوله: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)، كل شيء في علمه، لا يَئُودُهُ حفظ شيء، واللَّه أعلم.
قال الشيخ: - رحمه اللَّه تعالى - (الْعَلِيُّ)، عن جميع أحوال الخلق وشبههم، و (الْعَظِيمُ) القاهر والغالب.
* * *
قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)
وقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
قيل: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، أي: لا يكره على الدِّين. فإن كان التأويل هذا فهو على بعض دون بعض.
وقال قوم: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي: لا دين يقبل بإكراه، بل ليس ذلك بإيمان.
والثاني: أن (الرُّشُدُ) هو قد تبين من الغي، وبين ذلك لكل أحد حتى إذا قبل الدِّين قبل عن بيان وظهور، لا عن إكراه.
وقال آخرون: قوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، أي: لا إكراه على هذه الطاعات بعد الإسلام؛ لأن اللَّه تعالى حبب هذه الطاعات في قلوب المؤمنين فلا يُكرهون على ذلك.
ومعناه: أن في الأمم المتقدمة الشدائد والمشقة، ورفع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ تلك الشدائد عن هذه الأمة وخففها عليهم، دليله قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، وقوله: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، ومثل ذلك كثير، كانت على الأمم السالفة ثقيلة وعلى هذه الأمة مخففة، فإذا كانت مخففة عليهم لا يكرهون على ذلك.
وقال آخرون: هو منسوخ بقوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللَّه ".
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ويحتمل (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ما قال في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
وقوله تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
يعني قد تبين الإسلام من الكفر باللَّه فلا تكرهون على ذلك.
وقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ).
اختلف فيه:
قيل: (بِالطَّاغُوتِ)، الشياطين.
وقيل: كل ما يعبد من دون اللَّه فهو طاغوت من الأصنام والأوثان التي تعبد من دون اللَّه "
وقيل: (بِالطَّاغُوتِ)، الكهنة الذين يدعون الناس إلى عبادة غير اللَّه بكفر هَؤُلَاءِ وتكذيبهم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ومن جملته: ومن يكفر بالذي يدعو إلى عبادة غير اللَّه، ويكذبه في ذلك، ويؤمن بالذي يدعو إلى عبادة اللَّه، ويصدقه، أنه داع إلى حق. وقوله تعالى: (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ).
فيه دلالة: أن الإيمان باللَّه هو إيمان بالأنبياء والرسل والكتب جميعًا، إذ لم يذكر معه غيره، والكفر بالذي ذكرت يمنع حقيقة الإيمان باللَّه؛ لأنه في آخر السورة ذكر (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)، على طريق التفضيل -، من آمن باللَّه آمن به وبأمره ونهيه وشرائعه - لكن الذي قال: (لَا نُفَرِّقُ
وقوله تعالى: (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: فقد عقد لنفسه عقدًا وثيقًا لا انقصام لذلك العقد ولا انقطاع، لا تقوم الحجة ببعضه.
ويحتمل: (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)، بنصره إياه بالحجج والبراهين النيرة التي من اعتصم بها لا انفصال بها عنه ولا زوال.
ثم فيه نقض على المعتزلة؛ لأنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ أن من آمن باللَّه فقد استمسك بكذا.
والمعتزلة يقولون: صاحب الكبيرة يخلد في النار، وهو مؤمن باللَّه، فأية عروة أوهَى من هذا على قولهم؟ وأن له زوالاً وانقطاعًا من ثوابه الذي وعد له عَزَّ وَجَلَّ بإيمانه وتصديقه به. وباللَّه العصمة.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لقولهم، (عَلِيمٌ) بثوابهم.
أو (سَمِيعٌ)، بإيمانهم، (عَلِيمٌ)، بجزاء إيمانهم. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (٢٥٧)
قيل: الولي: الحافظ.
وقِيل: الولي: الناصر، وهو ناصر المؤمنين وحافظهم.
وقيل: سمى وليًّا لأنه يلي أمور الخلق من النصر والحفظ والرزق وغيره. وعلى ذلك يسمى الولي وليًّا لما يلي أمور الناس.
وقيل: قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، أي: اللَّه أولى بهم إليه رجاؤهم أطعمهم، وهو الذي يكرمهم، وأن الطاغوت أولى بالكافرين، كما قال: (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)، أي أولى بهم. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ).
وقوله: (يُخرِجُهُم)، بمعنى: أخرجهم. وجائز هذا في اللغة (يفعل) بمعنى (فعل)، و (فعل) بمعنى (يفعل)، جاز فيها، غير ممتنع عنه.
والآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ إذ من قولهم: إن جميع ما أعطى مؤمن من الإخراج من الكفر، أعطى مثله الكافر؛ فكأنهم يقولون: أخرجهم جميعًا من الظلمة، وعليه إخراج الكفار أيضًا من الظلمات، إذ ذلك هو الأصلح له، وعليه أن يعطى ما هو الأصلح لهم في الدِّين. فإذا كان هذا قولهم، فهو ولي الكفرة والمؤمنين جميعًا على قولهم؛ إذ هو بالسبب الذي ذكر الولاية للمؤمنين فيعطى أيضًا للكفرة.
فإن قالوا: إنه أضاف (الكفر) إلى الطاغوت، وأنتم تضيفونه إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؟
قيل: هو ظاهر الكذب؛ لأنا لا نضيف ذلك إليه (الكفر). إنما نقول: إنه خلق فعل الكفر من الكافر كفرًا، وخلق فعل النور من المؤمن نورا. على أنه إن كان هذا في الكفرة فما القول في الأول من قولكم: إنه منعم على المؤمن، ثم لا نعمة فيه على المؤمن إلا بالأمر والأقدار، والأقدار منه موجود للكافر في كفره على قولكم، ثم لا نعمة تقع في الأمر والدعاء للمؤمن إلا ويقع مثله للكافر، إذ هو في الأمر والدعاء كالمؤمن سواء. ولا قوة إلا باللَّه.
وليس في القول: إنه خالق، بأنه خالق فعل كل أحد على ما عليه إضافة الكفر إليه، بل إنما يضيف الخير إليه بما منه فيه من الإفضال على الشكر له. فدل أن له عَزَّ وَجَلَّ في المؤمن فضل صنع، ليس ذلك له في الكافر.
و (الكفر) في اللغة الستر، وكذلك (الظلمة): هي الستر. يقال: (كفرت الشيء) أي سترته، وكذلك يقال: (ليل مظلم)؛ لأنه يستر ضوء النهار ونوره، فيستر الأشياء عن أبصار الخلق.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...) الآية: دلت هذه الآية على أن كان من اللَّه إلى الذين آمنوا معنى لم يكن منه إلى الذين كفروا به كان إيمانهم، ولو لم يكن إلا الأمر والأقدار أو البيان، على ما قالت المعتزلة، لكان كل ذلك عندهم إلى الكفرة، فلا وجه لتخصيص المؤمنين بما ذكر،
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَومَ الظَّالِمِينَ)، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَومَ الْفَاسِقِينَ)، ونحو ذلك يخرج على وجوه:
أحدها: أنه لا يهديهم وقت اختيارهم ذلك، ويكون على ألا يخلق منهم فعل الهداية، وهم يختارون فعل الضلال.
ويحتمل: من في علمه أنه لا يهتدي، فيرجع المراد به إلى الخاص.
ويحتمل: لا يهدي طريق الجنة في الآخرة من كفر باللَّه في الدنيا.
ويحتمل: لا يجعلهم في حكمهم، كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
وقوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ذكر أن الكفرة هم أصحاب النار، وذكر في آية أخرى أن الملائكة أصحاب النار بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، لكنه ذكر الملائكة أصحاب النار؛ لما يتولون تعذيب الكفرة فيها، فسماهم بذلك، وذكر الكفرة أصحاب النار؛ لأنهم هم المعذبون فيها، والملائكة هم معذبوهم بها. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا
وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ (٢٥٨)
فقد ذكرنا فيما تقدم أن قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ)، إنما يفتتح به لأعجوبة، كقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ).
وفيه إباحة التكلم في الكلام والمناظرة فيه والحجاج بقوله: (حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)، ورد على من يمنع التكلم فيه وهو كذلك؛ لأنا أمرنا بدعاء الكفرة جميعًا إلى وحدانية الله تعالى، والإقرار له بذلك، والمعرفة له أنه كذلك، وكذلك الأنبياء بأجمعهم أمروا وندبوا إلى دعاء الكفرة إلى شهادة أن " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له "، فإن دعوناهم إلى ذلك لا بد من أن يطلبوا منا الدليل على ذلك، والبيان عليه، والوصف له كما هو له، والتقرير عندهم أنه كذا، فلا يكون ذلك إلا بعد المناظرة والحجاج فيه؛ لذلك قلنا: أن لا بأس بالتكلم والمناظرة فيه. وفيه دلالة على إباحة المحاجة في التوحيد.
وفيه الإذن بالنظر في النظر؛ لأنه حاجه لينظر. واللَّه أعلم.
وقوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ).
قال أهل الاعتزال في قوله تعالى: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ): هو إبراهيم، عليه السلام، لا ذلك الكافر؛ لقوله تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أخبر أن عهده لا يناله الظالم، والملك عهد.
لكنه غلط عندنا لوجوه:
أحدها: أن إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، ما عرف بالملك.
والثاني: أن الآية ذكرت في محاجة ذلك الكافر إبراهيم، ولو كان غير ملك، وكان إبراهيم، عليه السلام، هو الملك، لم يقدر المحاجة مع إبراهيم، عليه السلام إذ لا
والثالث: قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، ثم قيل: إنه جاء برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر. فلو لم يكن ملكا لم يتأت له ذلك بين يدي إبراهيم، إذا كان إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، هو الذي (آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، فدل أن المراد به ذلك الكافر.
ثم (الْمُلْكُ) يكون في الخلق بأحد أمرين: إما الفضل والشرف والعز والسلطان والدِّين، وإما من جهة الأموال والطول عليها والقهر والغلبة. فإن لم يكن له (الْمُلك) من جهة الأول لكان له ذلك بفضول الأموال؛ لذلك كان ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: أعطي (الملك) ليمتحن به، كما يعطى الغنى والصحة ليمتحن بهما.
وقوله تعالى: (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).
وكان هذا من إبراهيم - عليه السلام - واللَّه أعلم - عن سؤال سبق منه أن قال له ذلك الكافر: من ربك الذي تدعوني إليه؟ فقال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وإلا لا يحتمل ابتداء الكلام بهذا على غير سبق سؤال كان منه. وهو ما ذكر في قصة فرعون حيث دعاه موسى إلى الإيمان بربه، (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠)، فعلى ذلك الأول.
وقوله تعالى: (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).
أنه دعا برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، على ما قيل في القصة.
(قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ).
قال بعض الجدليين: هذا من إبراهيم، عليه السلام، صرف المحاجة إلى غير ما كان ابتداؤها، ومثله في الظاهر انقطاع وَحَيد عن الجواب؛ لأن من حاج آخر شيئًا، وناظره فيه لعلة ضمن وفاء تلك العلة وإتمامها إلى آخره، فإذا اشتغل بغيرها كان منه انقطاع عما ضمن وفاءها؛ فإبراهيم اشتغل بغيرها وترك الأول وهو في الظاهر انقطاع؛لأن جوابه أن يقول: أنا أفعل كما فعلت، أو أن يقول له: إن هذا الحي كان حسا، ولكن أحيي هذا الميت.
لكنه، صلوات اللَّه عليه وسلامه، فعل هذا ليظهر عجزه على الناس؛ لأن ذلك كان منه تمويهًا وتلبيسًا على قومه أخذ به قلوبهم، فأراد إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، أن
والثاني: أراد أن يريه أن هذا مما قدر عليه بغيره، إذ الذي لم يجعل له القدرة عليه لم يقدر عليه، ثم لما ثبت عجزه في أحدهما يظهر عجزه في الآخر. واللَّه أعلم.
وقيل: بأن هذا من إبراهيم انتقال من حجة إلى حجة، ليس بانقطاع. وهو جائز.
وقوله: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)، قيل: انقطع وتحير.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
ذكر الظالم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله، حيث هذا اللعين المحاج في غير موضعه.
وقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ (٢٥٩)
قيل: هو نسق قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ).
وقيل: هو نسق على قوله: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)؛ لأنه بذلك أنكر البعث.
ثم اختلف في المار على القرية:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كافر قال ذلك.
وقال آخرون: لا، ولكن قال ذلك مسلم.
وقال أكثر أهل التأويل: هو عزير.
فإن كان قائل ذلك كافرًا فهو على إنكار البعث والإحياء بعد إماتة. وإن كان مسلمًا فهو على معرفة كيفية الإحياء، ليس على الإنكار، وهو كقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وليس لنا إلى معرفة قائله حاجة، إنما الحاجة إلى معرفة ما ذكر في الآية. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
قيل: خالية من سكانها.
وقيل: (خاوية)، ساقطة سقوفها على حيطانها، وحيطانها على سقوفها.
هو على ما ذكرنا.
وقوله تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).
أراد - واللَّه أعلم - أن يرى الآية في نفسه، والآية هي آية البعث، ويحتمل أن تكون آية في المتأخرين.
وقوله تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ).
سأل منه - جل وعلا - الاجتهاد بظاهر الحال الذي ظهر عنده، ليظهر أنه اجتهد بدليل أو بغيره على ما يدركه وسعه؛ فبان أن المجتهد يحل له الاجتهاد بما يدرك في ظاهر الحال، وإن كان حكم ما فيه الاجتهاد بالغيب.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أراد اللَّه تعالى بقوله: (كَمْ لَبِثْتَ)، التنبيه؛ كقوله لموسى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، ليريه الآية من الوجه الذي هو أقرب إلى الفهم ثم جهة الأعجوبة فيه بوجهين:
مرة بإماتة الحمار، إذ من طبعه الدوام، ومرة بإبقاء طعامه، ومن طبعه التغير والفساد عن سريع. جعل في بقاء طعامه وحفظه من الفساد آية ومن طبعه الفساد، وفي إحياء حماره بعد إماتته وطبعه البقاء؛ ليعلم ما نازعته نفسه في كيفية الإحياء درك ذلك؛ وهو قوله: (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ثم قيل في وجهةِ ما أراه بأوجه.
قيل: إنه أحيا عينيه وقلبه، فأدرك بهما كيفية الإحياء في بقية نفسه.
وقيل: أحيا نفسه، فأراه ذلك في حماره.
وقيل: إنه أراه ذلك في ولده؛ لأنه أتى شابًّا، وولده وولد ولده شيوخ. وذلك آية.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ...) الآية: فإن قال قائل: كيف سأله عن لبثه، وقد علم أنه لم يكن علم به؟ وأيد ذلك إخباره بقوله (لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ).
قيل: القول (كَمْ لَبِثْتَ)، يحتمل وجهين؛ وكذلك القول بقوله: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ
أحدهما: على قول ألقي إليه ونطق أسمع هو.
والثاني: أن يكون على ما حدثته نفسه بمدة لبثه في حال نومه، فتأمل في ذلك أحوال نومه، وأخبر عما عاين من أحوال الوقت الذي كان فيه مما كان ابتداؤه وقت نومه، فقال بالذي ذكرتم لَمَّا تأمل شأن الحمار، واستخبر عن الأحوال، قالت له نفسه: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)، ثم أمعن نظره في حماره، وما رأى من تغير أحواله، وأبقاه اللَّه تعالى على ما ذكر. وكل ذلك خبر عما حدثته نفسه، هي بعثه، على التفكر في أحواله، والنظر فيما عاين من أمر الحمار، أو كان علم أن ذلك موت فيه، لكنه استقل ذلك بما شهد نفسه بما عاينها على ما كانت عليها. فلما تأمل شأن حماره وعلم أنه رفع إلى آيات عجيبة، فزع إلى اللَّه تعالى، فأنباه اللَّه تعالى بالذي وصف في القرآن. واللَّه أعلم.
ولو كان على القول فإن في السؤال عما يعلم السائل جهل المسئول وجهين:
أحدهما: الامتحان على ما به ظهور أحوال الممتحن من الاجتهاد في تعريف الحقائق بالاستدلال والخضوع له بالاعتراف بقصوره عن الإحاطة به، كفعل الملائكة عند قوله تعالى: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ)، بقولهم: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، والأول كما فعل صاحب هذا أنه قال: (لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، ومثله أمر أصحاب الكهف. واللَّه أعلم.
والثاني: أن يراد بالسؤال التقرير عنده؛ ليكون متيقطا لما يراد به من الاطلاع على الآية، كما قال لموسى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى...) الآية. وهذا فيما كان السؤال في الظاهر خارجًا في الحقيقة مخرج المحنة، نحو ما ذكرنا في أمر الملائكة، وأمر موسى، عليه السلام، فأما السؤال الذي هو في حق السؤال إنما هو في حق الاستخبار، ليعلم ما عليه حقيقة الحال بالسؤال. لكن الذي ذكرت فيما كان سبيله أن يكون من له الامتحان. ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ).
قيل: لم يأت عليه السنون، أي: كأنه لم يأت عليه السنون.
وقيل: (لَمْ يَتَسَنَّهْ)، لم يتغير ولم ينتن.
وقوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا).
وهو من الأحياء.
و (نُنْشِزُهَا) بالزاي - وهو من الارتفاع والنصب.
وفيه لغة أخرى: " ننشرها " بالراء، وهو من الإحياء. و " ننشرها " من النشر.
وقوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(أَعْلَمُ)، بالنصب والخفض:
فمن قرأه بالنصب، صرف قوله: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ)، إلى المسلم.
ومن قرأ (اعلم) بالخفض صرف إلى الكافر، يقول اللَّه له: اعلم أن اللَّه على كل شيء قدير. ويحتمل أيضًا صرفه إلى المسلم: " واعلم "، على الإخبار، كأنه قال: اعلم ما كنت تعلمه غيبًا مشاهدة.
وفي هذه الآيات إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أن هذه القصص كانت ظاهرة بينهم، ولم يكن له اختلاف إليهم، ولا النظر في كتبهم، ثم أخبر على ما كان؛ ليعلم أنه إنما علم ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ ثناؤه.
وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان إبراهيم، عليه السلام، موقنا بأن اللَّه يحيي الموتى، ولكن أحب أن يعاين ذلك؛ لأن الخبر لا يكون عند ابن آدم كالعيان، على ما قيل: " ليس الخبر كالمعاينة ".
وقيل: يحتمل سؤاله عما يسأل لما نازعته نفسه وحدثته في كيفية الإحياء، وقد تنازع النفس وتحدث بما لاحاجة لها إليه من حيث نفسه؛ ليقع له فضل علم ومعرفة.
وقيل: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: ليسكن قلبي وأعلم أنك قد استجبت لي فيما دعوتك، وأعطيتني الذي سألتك.
وقيل: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)، أي: أو لم توقن بالخلة التي خاللتك؟ قال: بلى.
وقيل: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)، قال: (بَلَى)، (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، بأنك أريتني الذي أردت.
ويحتمل: أن يكون إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أراد بسؤاله ذلك أن تكون له آية حسية؛ لأن آيات إبراهيم كلها كانت عقلية، وآيات سائر الأنبياء كانت عقلية وحسية، فأحب إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، أن تكون له آية حسية، على ما لهم، كسؤال زكريا ربه حيث قال: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَاتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) جعل له آية حسية؛ فعلى ذلك سؤال إبراهيم، عليه السلام.
وقوله تعالى: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).
معناه: وجههن إليك، كقول الرجل: " صر وجهك إليَّ "، أي: حول وجهك إليَّ.
وروي في حرف ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: " فصِرْهن إليك "، بالكسر، بمعنى قطعهن، قيل: هو التقطيع.
وقيل: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)، اضممهن.
* * *
قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
وقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
يحتمل ضرب مثل النفقة في سبيل اللَّه بالحبة التي ذكر وجهان:
أحدهما: أن يبارك في تلك النفقة، فيزداد وينمو، على ما بارك في حبة واحدة فصارت سبعمائة وأكثر.
والثاني: قال: (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)، ورأوا الصدقة تتلف وتتلاشى في أيدي الفقراء فقالوا: كيف تربى، وهي تالفة؟ فقال: تربى كما أربي الحبة في الأرض بعد ما تلفت فيها وفسدت، فصارت مائة وزيادة. فعلى ذلك الصدقة في طاعة اللَّه والنفقة فيما يربى وإن كانت تالفة.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
قيل: (وَاسِعٌ)، غني.
وقيل: (وَاسِعٌ)، جواد، يوسع على من يشاء.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى (٢٦٢)
قال المفسرون: للجهاد، خصوا الجهاد بهذا. واللَّه أعلم.
لأن العدو إذا خرجوا لقتال المسلمين خرجوا للشيطان، ويسلكون سبيله وطريقه، والمؤمنون إنما يخرجون ليسلكوا طريق اللَّه تعالى، وينصروا دينه وأولياءه؛ لذلك كان التخصيص له لقولهم، وإلا كان يجيء أن يسمى الطاعات كلها والخيرات (سبيل الله)؛ لأنه سبيل اللَّه وطاعته، كقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).
وقوله: (ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى). اختلف فيه:
قيل: (مَنًّا)، على اللَّه، و (أَذًى)، للفقير.
وقيل: (مَنًّا)، على الفقير، و (أَذًى)، له.
ثم قيل: منه على الفقير عد ما أنفق عليه وتصدق، وأذاه وتوبيخه عليه بذلك. وأما منُّه
على اللَّه تعالى؛ كقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧).
وقوله تعالى: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم.
وقوله تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
قيل: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، كلام حسن، يدعو الرجل لأخيه بظهر الغيب.
وقيل: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، يستغفر اللَّه ذنوبه في السر و (وَمَغْفِرَةٌ) له، يغفر له، ويتجاوز عن مظلمته.
وقيل: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، الأمر بالمعروف خير ثوابا عند اللَّه من صدقة فيها أذى ومن.
قال الشيخ، رحمه الله تعالى : ووجه ذلك أن الصدقة قربة، وهي خير، فإذا أتبعها الأذى أبطلها، فيكون ﴿ قول معروف ﴾ أي رد جميل للسائل خير من إجابة في البذل ثم الرد بالأذى لأن هذا يبقى، وإن كان لا ينتفع٢ به الآخر، والصدقة لا، وإن كان ينتفع٣ بها الفقير، والله أعلم. [ وقال بعضهم : المن والأذى أن يقول للسائل : خذه، لا بارك الله فيه لك ]٤.
وقوله تعالى :﴿ والله غني ﴾ عن صدقاتكم ﴿ حليم ﴾ لا يعجل /٤٨-ب/ بالعقوبة عليكم بالمن والأذى.
٢ من ط ع، في الأصل وم: ينقطع..
٣ أدرج قبلها في الأصل: لا..
٤ من ط ع، وادرجت في الأصل وم بعد: لا يجعل.. والأذى..
قيل: معناه - واللَّه أعلم - هذا خير لكم من ذلك، وهو كقوله: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)، أي: خير لكم في الآخرة من اللهو والتجارة، في دنياكم، وإن لم يكن اللهو والتجارة من جنس ما عند اللَّه، فعلى ذلك الأول.
ويحتمل: أن تكون الآية على الابتداء، لا على الجمع: هذا خير، وهذا شر.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ووجه ذلك أن الصدقة قربة، وهي خير، فإذا أتبعها الأذى أبطلها، فيكون (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، أي: رد جميل للسائل خير من إجابة في البذل، ثم الرد بالأذى؛ لأن هذا يبقى، وإن كان لا ينشفع به الآخر، والصدقة لا، وإن كان ينتفع بها الفقير. واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (المن) و (الأذى)، أن يقول للسائل: خذه، لا بارك اللَّه فيه لك.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَنِيٌّ)، عن صدقاتكم، (حَلِيمٌ)، لا يعجل بالعقوبة عليكم بالمن والأذى.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
المن والأذى: ما ذكرنا.
ثم اختلف في قوله تعالى: (كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: هم المنافقون، كانوا ينفقون أموالهم رياء. دليله قوله تعالى: (وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، شبه الصدقة التي فيها (مَنٌّ) و (أذىً) بالصدقة التي فيها رياء.
وذلك - واللَّه أعلم - أن الصدقة التي فيها (مَنٌّ) و (أذى) لم يبتغ بها وجه اللَّه، فكان كالصدقة التي ينفقها للزيادة لا يبتغى بها وجه اللَّه تعالى أوقال آخرون: كل صدقة فيها رياء فذلك، كافرًا كان منفقها أو مسلما؛ لأنها لم يُبتغَ فيها وجه اللَّه تعالى، والدار الآخرة.
ثم ضرب المثل للصدقة المبتغى بها الرياء، والصدقة التي فيها المن والأذى بالصفوان الذي عليه التراب: وهو الحجر الأملس، فقال:
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا).
قيل: (الوابل) هو المطر الشديد عظيم القدر.
وفي ضرب الأمثال تعريف ما غاب عن الأبصار بما هو محسوس؛ وذلك أن الصفوان الذي به ضرب المثل، والتراب محسوس، ومن التراب جعل الأغذية للخلق والدواب.
ثم الثواب الذي وعد للصدقة ليس بمحسوس، بل هو غائب، فعرف الغائب بالمحسوس.
فقال: لما كان التراب الذي به تكون الأغذية يذهب بالمطر الشديد حتى لا يبقى له أثر،
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَومَ الْكَافِرِينَ).
قالت المعتزلة: لا يهدي القوم الكافرين بكفرهم الذي اختاروا.
وقلنا نحن: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر، ويهديهم وقت اختيارهم الإيمان.
وفي قوله: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)، وجه آخر، هو أن يحتمل قوله: (مَعْرُوفٌ)، هذه التسبيحات والثناء والحمد، (وَمَغْفِرَةٌ)، ستر ما ارتكب من المأثم. وقوله: (خَيْرٌ)، أي أحب على البذل من صدقة يتبعها أذى. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
في الأمثال التي ضربها اللَّه تعالى وذكرها في القرآن وجوه:
أحدها: جواز قياس ما غاب من الحكم عن المنصوص بالمنصوص إذا جمعهما معنى واحد.
والثاني: أن علوم المحسوسات والمشاهدات هي علوم الحقائق، وهي الأصول التي بها يستدل ويوصل إلى صرفة الغائب.
والثالث: فيها إثبات رسالة مُحَمَّد، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، وذلك أن العرب كانت لا تضرب الأمثال، ولا كانت تعرفها في أمر التوحيد وتعريف ما غاب عن حواسهم من أمر القيامة ونحو ذلك. ثم بعث اللَّه تعالى محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنزل عليه القرآن، وذكر فيه الأمثال؛ ليذكرهم تلك الأمثال ليعلموا أنه إنما عرفها باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، لا أنه أنشأ هذا القرآن من تلقاء نفسه. وذلك من آيات نبوته ورسالته. وعلى ذلك جعل عدم الكتابة وإنشاء الشعر من آيات نبوته ورسالته؛ لأن من عادة العرب إنشاء الشعر والكتابة، ويفضلون أربابها على غيرهم؛ لئلا يعرف هو بها، ويقولون: إنه أخذ من الكتب، أو اختلق من نفسه، كقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ
والرابع: فيها دلالة أن اللَّه - جل وعلا - خالق الدنيا وما فيها من المحاسن والخبائث، والأعالي والخسائس، حيث ضرب مثل الرفيع بالرفيع والخسيس بالخسيس؛ فدل أن خالق هذه الأشياء كلها هو اللَّه تعالى، لا شريك له ولا شبيه.
ثم شبه الصدقة التي هي لله - عَزَّ وَجَلَّ - مرة بالربوة من الأرض: وهي المرتفعة منها، ومرة بالحبة التي تنبت كذا كذا سنبلة، وفي كل سنبلة كذا كذا حبة، ومرة بالأضعاف المضاعفة؛ كقوله: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً). فهو - واللَّه أعلم - لما علم عَزَّ وَجَلَّ رغبة الناس مرة في العدد في الدنيا، ومرة في البساتين المرتفعة أرضها وتربتها ليشرفوا على غيرهم من الخلائق والبقاع، ومرة في الكثير من الأشياء والعظيم منها رغبهم عَزَّ وَجَلَّ في الصدقة بما ذكرنا من الأشياء لعلمه برغبتهم فيها، ليرغبوا في ذلك. واللَّه أعلم.
وعلى ذلك حرم اللَّه تعالى الصدقات على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يرغب الناس في الصدقة؛ لئلا يظنوا فيه ظن السوء ويقولون: إنه إنما يرغبهم فيها لينتفع هو بها.
وقوله تعالى: (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) واختلف فيه:
قيل: (وَتَثْبِيتًا): تصديقا، كقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧).
وقيل: (وَتَثْبِيتًا)، أي: تيقينا بالإسلام.
وقيل: يثبتون في مواضع الصدقة.
وقيل (وَتَثْبِيتًا) في الصدقة، إذا كانت لله أمضى وتصدق بها، وإن خالطه شيء أمسك. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ).
قيل: الربوة: المرتفع من الأرض.
وقيل: الربوة: الظاهر المستوي من المكان.
والوابل: قد ذكرنا أنه المطر الشديد العظيم القطر.
وقوله تعالى: (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ)، يعني الحبة أضعفت في ثمرها في الحمل ضعفين حين أصابها وابل. كذلك الذي ينفق ماله لله في غير منة يمن بها يضاعف نفقتها، كثرت النفقة أو قلت.
وقيل: يضاعف اللَّه للمنفق الأجر مرتين.
وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ).
والطل، هو المطر الضعيف.
وقيل: هو الطش من المطر.
وقيل: هو الرذاذ من المطر مثل الندى، لا تزال الحبة خضراء دائمًا ثمرها، قل أو كثر.
وقوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
ليس لهذا الخطاب جواب؛ لأن جوابه أن يقول: يود، أو لا يود. لكن الخطاب من اللَّه تعالى يخرج على وجوه ثلاثة:
خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع.
وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكر والتدبر، وهو كقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وكقوله عز وجل: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ).
وخطاب لا يفهم مراده إلا بالسؤال عنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو من له علم في ذلك؛ كقوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، وكقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
فإذا كان ما ذكرنا، فيحتمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث
ثم إن هذا الخطاب يحتمل أن يكون في أهل النفاق؛ وذلك أن المنافق يرى من نفسه الموافقة لأهل الإسلام في الظاهر، وهو مخالف لهم في السر، وعنده أنه يستحق الثواب بذلك وقت الثواب، كان كصاحب الضيعة التي ذكرت في الآية: أن صاحبها يغرس فيها الغرس، وينبت فيها النبات في حال شبابه وقوته؛ رجاء أن يصل إلى الانتفاع بها في وقت الحاجة والضعف، فإذا بلغ ذلك واحتاج - حيل بينه وبين الانتفاع فيها. فكذلك المنافق الذي كان دينه لمنافع في الدنيا وسعة لها، إذا بلغ إلى وقت الحاجة حرم ذلك. وكذلك هذا في الكافر؛ لأنه رأى لنفسه النفع بعمله لوقت تأمله كصاحب الضيعة، ثم عند بلوغه الحاجة حرم عنه ذلك لاعتراض ما اعترض من الآفة، وهو كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)؛ لأن الكافر بما يدين من الدِّين إنما يدين لنفع يتأمله في الدنيا، والمؤمن إنما يدين بما يدين لنفع يتأمله ويطمع في الآخرة. فرجاء الكافر في غير موضعه؛ لذلك كان ما ذكر. والله أعلم.
ثم الأمثال التي ضربت ينتفع بها المؤمنون؛ لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيها، لم ينظروا إلى أعينها. وأما الكفار إنما ينظرون إلى أعين الأمثال، لا إلى ما فيها، فاستحقروها واستبعدت عقولهم ذلك؛ لذلك قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ).
ووجه ضرب هذا المثل: هو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه حين كبرت سنه وضعفت قوته، ولا حيلة له يومئذ.
وقوله تعالى: (إِعْصَارٌ).
قال ابن عَبَّاسٍ: الإعصار: ريح فيها سموم.
وقيل: الإعصار: ريح فيها نار تحرق الأشجار.
وقيل: هي الريح تسطع إلى السماء، وهي أشد.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ...)
وأن يكون المعنى من ذلك أي: لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا، وبما تنالون من النافع بالذي أظهرتم من موافقة المؤمنين، كاغترار من ذكرت بجنسه في خاص ما عليه حاله إلى أن صار إلى ما أراه اللَّه من عاقبته أنه يود عنه نهاية ذلك، أن لم يكن منه الاغترار في ذلك، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه ذلك بتلك الحال؛ فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق.
ويحتمل: أن يكون ذلك مثلًا لمن كفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممن يؤمن بالبعث، أن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز، كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة؛ فكذا ما ينبغي لهم إذ بين لهم عواقب الكفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يؤثروا الذي نالوا بعد علمهم بشدة تلك العاقبة. واللَّه أعلم.
والمثل خرج على غير ذكر الجواب فيه؛ لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث مبينًا أو بما في الحال التي لها نزول الآية دليل التعريف، أو بما أراد اللَّه امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي عقل فضله، وليكرم به أهل التدبر في آياته في صرف وجوه من دونهم إليهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم. واللَّه أعلم.
وجملة ذلك: أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب، وما إليه مرجع الفاعل مقصود في الابتداء، فبين لمن أغفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته لما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم يكن له تلك، ليكون سروره بما يحمد عاقبته. فعلى هذا الأمر: الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار إليها صاحبها. واللَّه الموفق.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
فيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة بقوله: (مَا كَسَبْتُمْ)؛ لأن أموال التجارة هي التي تكتسب، وليس في كتاب اللَّه تعالى بيان وجوب الزكاة في أموال التجارة في غير هذا الموضوع، وليس فيه سنة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن ذكر عن بعض الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - القول به؛ فيحتمل أن يكون ما قالوا قالوا بهذه الآية. وأما زكاة الفضة، والذهب، والمواشي فيما لها ذكر في الكتاب والسنة، فالزكاة تجب فيها لعينها، اكتسب فيها أو لم يكتسب. وأما أموال التجارة فإن الزكاة تجب فيها بالاكتساب. وفيه دليل أن النفقة المذكورة فيه لازمة واجبة؛ لأنه قال: (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، ذكر الإغماض، والإغماض لا يذكر في المعروف، إنما يذكر في اللازم والواجب الذي لا مخرج له عنه إلا بالأداء، إلا عن عفو وصفح والرضاء بدون الحق - ثبت أنه على اللزوم.
وفيه دليل وجوب الحق في الرطاب والخضراوات؛ لأنه ذكر في الآية المخرج، والرطاب هي التي تخرج من الأرض. وأما الحبوب إنما تخرج من الأصل الذي يخرج من الأرض؛ لذلك كان الرطاب والخضراوات أولى بوجوب الحق من غيره بظاهر الآية.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والوجوب في الحبوب بما كانت تخرج من الحقوق، والحقوق بظاهر هذه الوجوه في التي تخرج من الأرض. وأما أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه تعالى - فإنهما قالا: يحتمل قوله: (أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)، يعني من الأصل الذي يخرج لكم من الأرض، كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)، ولا ينزل من السماء اللباس كما هو، ولكن أراد الأصل الذي به يكون اللباس، وكذلك قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، وهو لم يخلقنا من التراب، وإنما خلق الأصل من التراب، وهو آدم - عليه السلام - فعلى ذلك الأول. واللَّه أعلم.
والوجه فيه: أنه منَ اللَّه تعالى علينا بما أخرج لنا من الأرض من أنواع ما أخرج بحبة تلقى في الأرض فتفسد فيها، فيخرج منها النبات بلطفه، لا صنع لأحد فيها. وتلك المنة لا تكون على أربابها خاصة دون الفقراء أو بل هي على الفقراء كهي على أربابها؛ لأنه أخرجه رزقًا للكل، ففيه حق الفقراء والأغنياء جميعًا. ومن ثم جاز وجوب العشر على
وفي قوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، دلالة على ألايتصدق بالرديء عن الجيد. فإذا تصدق به يلزمه فضل ما بين الرديء إلى الجيد، على قول مُحَمَّد - رحمه اللَّه تعالى - بظاهر قوله: (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رضي اللَّه تعالى عنهما -: يجوز ولا يختار له ذلك؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - أطمع الناس قبول ذلك إذا تغامضوا، فهو أحق أن يطمع فيه القبول لكرمه ولطفه؛ ولأنه ليس لصفة ما يكال ويوزن من نوعه قيمة، فإذا لم تكن له قيمة لا يلزمه فضل الصفة.
وقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
قوله: (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) في الدنيا بالتصدق والإنفاق، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) بترك الصدقة.
ويحتمل: (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)، في الدنيا بطول الأمل وفناء المال، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) بسوء الظن بربه.
(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) بالصدقة، و (وَفَضْلًا) ذكرًا في الدنيا.
ويحتمل قوله: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) في الآخرة، و (وَفَضْلًا) في الدنيا، يعني خَلَفًا.
وقيل: (مَغْفِرَةً) لفحشائكم، و (وَفَضْلًا) لفقركم.
وقوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، أي: غني يقدر إخلاف ما أنفقتم، (عَلِيمٌ) جزاء صدقاتكم.
ويحتمل: (عَلِيمٌ) ما تنفقون من الصدقة والحسنة.
وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، و (اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، ونحوه دلالة أن اللَّه - تعالى - إنما رغب الناس على الصدقات والنفقات ابتلاء ومحنة منه، لا حاجة وفقرًا.
قيل: (الْحِكْمَةَ) في هذا الموضع معرفة القرآن وتفسيره. وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضيَ اللَّهُ تعالى عنه - وكذا روي مرفوعا.
وقيل: (الْحِكْمَةَ) الفهم في القرآن.
وقيل: الفقه.
وقيل: (الْحِكْمَةَ) النبوة.
وقيل: (الْحِكْمَةَ) هي الإصابة. وفيه دليل جواز الاجتهاد، وأنه مصيب في اجتهاده.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ): اختلف في تأويل (الْحِكْمَةَ) في هذا:
قال قوم: (الْحِكْمَةَ) هي القرآن، وهو على ما وصفه (نورا) و (وَهدًى)، و (رُوحًا)، و (وشِفَآء) هو الذي يبصر به حقائق الأشياء، وبالهدى يدرك كل شيء ويتقى كل تلف، وبالروح يحيى كل ذي روح، وبالشفاء يبرأ كل سقيم ويزال كل آفة. والذي هذا وصفه فهو الخير. وباللَّه التوفيق.
وقال قوم: (الْحِكْمَةَ) هي الإصابة لحقيقة كل شيء، وبها يتقى كل شر، وينال كل خير، وذلك هو الخير الكثير، وباللَّه العصمة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْحِكْمَةَ)، هي السنة، كأنه أكرم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالذي من سلكه نجا،
وقيل: في الأصل الحكمة في التحقيق وضع كل شيء موضعه، ودفع كل حق إلى مستحقه، ولهذا قال بعض الفلاسفة في حد الحكمة: إنه العلم والعمل بالعلم في وضع الأشياء مواضعها، والعمل في إيصال كل ذي حق إلى مستحقه.
وقيل: هي من إحكام الأمور وإتقانها. وذلك مقارب؛ لما يضاد الحكمة السفه، وهو التفاوت في العقل والاضطراب في الأمور. واللَّه أعلم.
وقال قوم: الحكمة في القرآن: هي فهم الحدود والسرائر، وهو الذي به يدرك الموافقة والمخالفة من طريق الحقائق، لا من طريق الظواهر. وذلك عمل الحكماء ورعاة الدِّين. ولا قوة إلا باللَّه.
وقال قوم: الحكمة: هي الفقه، والفقه: معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، وهو الذي به يوصل إلى معرفة الغائب بالشاهد، والغامض بالظاهر، والفرع بالأصل. ولا قوة إلا باللَّه.
وأي هذه الوجوه كانت الحكمة فذلك الوجه يجمع خير الدارين، لو حفظ حقه، والذي هذا وصفه فهو الخير الكثير. وباللَّه المعونة.
وفي الآية دلالة أن اللَّه تعالى لا يؤتي كلًّا الحكمة، وأن الحكمة وإن كانت فعلًا للحكيم فإعطاء اللَّه تعالى نالها، وأنه لا يجوز أن يعطيها أحدًا ثم لا ينالها المعطى. وهذه الوجوه كلها تخالف رأى المعتزلة.
وقوله تعالى: (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، من حفظ النفس في الدنيا عن جميع الآفات، وفي الآخرة عن دفع العقوبات.
وقوله تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) يعني: وما يتعظ بما ذكر إلا ذو الفهم والعقل.
وفي الآية نقض على المعتزلة؛ لأنه قال: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ)، ثم قال: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، ولا كل أحد يؤتى الحكمة، إنما يؤتى بعضًا دون بعض. فلو كان على اللَّه تعالى أن يعطى الأصلح في الدِّين لكان قد آتى الكل، وبطل التفضل. ومن قال: يؤتى غيرها، فكان خلاف ما في الكتاب.
وقوله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
يحتمل: نفقة المحارم.
ويحتمل: النفقات التي تجري بين الخلق.
ويحتمل: المفروض من الصدقات.
ويحتمل غيرها.
ثم رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) قال: " من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليوف به ".
فيه تنبيه وتذكير أن اللَّه تعالى يعلم صدقهم ونذرهم؛ ليحتسبوا في النفقة ويخلصوا، وفي النذر يوفوا به.
وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ).
قيل: يقبله.
وقيل: يأمر بوفائه.
ويحتمل قوله: (يَعْلَمُهُ) أي: يعلم ما وفيتم منه؛ فيجزيكم على ذلك.
ويحتمل: (يَعْلَمُهُ): ما أردتم بصدقاتكم ونذوركم؛ فيكون فيه ترغيب للناس في أداء الفرائض.
وقوله تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).
في الآخرة، يعني مجير يجيرهم من العذاب.
وقيل. ما للظالمين من شفيع يشفع لهم، ولا نصير ينصرهم؛ لأنه ما من ظالم إلا وله في الدنيا ظهير.
وقوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الفريضة.
وقال آخرون: هي التطوع. وهو أَوْجَه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: لا يحتمل الإخفاء في التطوع، والإبداء في الفرض؛ لما أخبر في الإخفاء أنه خير، ولا يكون التطوع خيرًا من الفريضة. ومن حمله على الفريضة يستحب أن يظهروا الزكاة المفروضة ليقتدوا به ويرغبوا الناس عليها. ومنهم من يستحب الإخفاء أيضًا، ويقولون: في الإبداء شيئان: الصدقة نفسها، والاقتداء، وفي الإخفاء وجوه:
أحد ها: الصدقة.
والآخر: ترك المراءاة وسلامتها.
والثالث: الكف عن المن والأذى.
ومنهم من حمل قوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ) على الفريضة، و (وَإِنْ تُخْفُوهَا) على التطوع، وذهب إلى أن الفريضة ليس فيها الرياء؛ لأنه لا شيء عليه، فسواء فيها الإبداء والإخفاء، وأما التطوع ففيه الرياء؛ لأنه معروف ليس عليه، والإخفاء له أسلم. والله أعلم.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - في قوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...) الآية، جعل اللَّه - تعالى - صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
وفي بعض الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصلة الرحم تزيد في العمر ".
وعن الحسن، قال: الإبقاء على العمل أشد من العمل؛ وذلك أن العبد ليعمل العمل سرا فيكتب له عمل السر، فلا يزال به الشيطان حتى ينسخ من عمل السر إلى عمل العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد، حتى يكتب من عمل العلانية في الرياء.
قال الشيخ، رحمه الله تعالى : لا يحتمل الإخفاء في التطوع، والإبداء في الفرض لما أخبر في الإخفاء أنه خير، ولا يكون التطوع خيرا من الفريضة، ومن حمله على الفريضة يستجب أن يظهر الزكاة المفروضة ليقتدي به، ويرغب الناس عليها، ومنهم من يستجب الإخفاء أيضا. ويقولون : في الإبداء شيئان : الصدقة نفسها والاقتداء.
وفي الإخفاء وجوه :
أحدها : الصدقة.
والآخر : ترك المراآة، وسلامتها.
والثالث : الكف عن المن والأذى. ومنهم من حمل قوله :﴿ إن تبدوا الصدقات ﴾ على الفريضة، ﴿ وإن تخفوها ﴾ على التطوع، وذهب إلى أن الفريضة ليس فيها الرياء لأنه لا شيء عليه، فسواء فيها الإبداء والأخفاء٢، وأما التطوع ففيه الرياء لأنه معروف ليس عليه، والإخفاء له أسلم، والله أعلم.
[ وقوله تعالى :﴿ ويكفر عنكم من سيئاتكم ﴾ فيه دليل أن من السيئات ما تكفرها الصدقة، ومنها ما لا تفكر، وقيل : إن ﴿ من ﴾ ههنا صلة، ففيه إطماع تكفر السيئات كلها بالصدقة كقوله تعالى :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ [ هود : ١١٥ ]. وهو نقض على المعتزلة لأنهم لا يرون تفكير الكبائر بغير التوبة عنها، ولا التعذيب على الصغائر، . فأما إن كانت الآية في الكبائر فبطل قولهم : لا تكفر بعير التوبة، أو في الصغائر فيبطل قولهم :{ إنها مغفورة إذ وعدت بالصدقة لأنهم يخلدون صاحب الكبائر في النار، والله تعالى أطمع له تكفير السيئات كلها بالصدقة، والله الموفق. ]٣
وقوله تعالى :﴿ والله بما تعلمون خبير ﴾ فيه وعيد وتحذير أنه ﴿ يعلم ما تسرون وما تعلنون ﴾ [ النحل : ١٩ ] في الصدقات، ويحتمل ﴿ تعملون خبير ﴾ من جزائكم. قال ابن عباس رضي الله عنه، في قوله :﴿ إن تبدوا الصدقات ﴾ الآية٤ ( جعل الله تعالى صدقة السر في التطوع تفضل [ على ]٥ علانيتها بسبعين ضعفا وجعل الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع٦ الفرائض والنوافل في الأشياء كلها ).
وفي بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، [ أنه ]٧ قال :( صدقت السر تطفئ غضب الرب ) [ الطبراني في الصغير ١٠١١ ]. و( صنائع المعروف تدفع٨ مصارع السوء ) [ الطبراني في الأوسط ٦٢٢٢ ] ( وصلة الرحم تزيد في العمر ) [ ابن عساكر ٥/٢١٠ ] وعن٩ الحسن [ أنه ]١٠ قال :( الإبقاء على العمل أشد من العمل ) وذلك إن العبد ليعمل سرا، فيكتب١١ له عمل السر، فلا يزال به الشيطان حتى ينسخ من عمل السر إلى عمل العلانية، ثم لا يزال به. الشيطان حتى يحب أن يحمد حتى يكتب له من عمل العلانية في الرياء.
٢ من ط ع، في الأصل وم: الإظهار..
٣ من ط ع، أدرجت في الأصل وم بعد: العلانية في الرياء..
٤ أدرجت تتمة الآية في ط ع بدل هذه الكلمة..
٥ من ط ع..
٦ من ط ع وم، في الأصل: جمع..
٧ من ط ع..
٨ في ط ع: تفي..
٩ الواو ساقطة من النسخ الثلاث..
١٠ ساقطة من النسخ الثلاث..
١١ في النسخ الثلاث: فكتب..
فيه دليل أن من السيئات ما يكفرها الصدقة، ومنها ما لا يكفر.
وقيل: إن " من " هاهنا صلة، ففيه إطماع تكفير السيئات كلها بالصدقة، كقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
وهو نقض على المعتزلة؛ لأنهم لا يرون تكفير الكبائر بغير التوبة عنها، ولا التعذيب على الصغائر. فأما إن كانت الآية في الكبائر - فبطل قولهم: لا يكفر بغير التوبة، أو في الصغائر فيبطل قولهم: إنها مغفورة؛ إذ وعدت بالصدقة؛ لأنهم يخلدون صاحب الكبائر في النار، واللَّه تعالى أطمع له تكفير السيئات كلها بالصدقة. واللَّه الموفق.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ):
فيه وعيد وتحذير، أنه يعلم ما تسرون وما تعلنون في الصدقة.
ويحتمل: (تَعْمَلُونَ)، من جزائكم للصدقة.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤).
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
أخبر أنه ليس عليه هداهم، وعليه البيان والتبليغ؛ فدل أن هناك فضل هدى، لا يملك هو ذلك، وهو التوفيق على الهدى والتحقيق له.
وهذا يرد على المعتزلة ويكذبهم أن كل الهدى: البيان؛ إذ لو كان كل الهدى بيانًا لكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يملك ذلك، إذ عليه البيان، فدل أنه لا يملك الهدى المراد في الآية؛ فهو على ما ذكرنا من التوفيق.
ويحتمل قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أي: حساب ترك اهتدائهم، كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، و (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ).
(مِنْ خَيْرٍ)، أي: مال، (فَلِأَنْفُسِكُمْ)، يعني: فلأنفسكم الثواب.
وقيل قوله: (فَلِأَنْفُسِكُمْ)، يعني: منفعته لكم.
وفي قوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) دلالة على أنهم كانوا يتحرجون بالتصدق على أقربائهم من الكفار خشية ما يقع من التعاون على ما اعتيدوا من الدِّين؛ إذ المكاسب لكل أهل دين إنما تقع من العقلاء مكان ما ينفقون به لأجل الدِّين؛ فبين جل وعلا: أن ذلك يقع لكم ولأنفسكم، وتكفير ما ارتكبتم.
ثم في الآية دلالة جواز الصدقة على الكفار، ودليل جواز دفع الكفارات إليهم بقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ)؛ فهو دليل لأصحابنا؛ لأنه جعل هذه الصدقة مكفرة.
وقوله تعالى: (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ)، يعني: يوفر عليكم ثواب صدقاتكم، وإن كان التصدق على الكفرة.
وقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)، في حرمان الثواب والجزاء.
وقوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
قيل: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وقيل: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: من سبيل اللَّه، يعني: حبسوا بالفقر عن الجهاد، وهو كقوله: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ). والعرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض.
ويحتمل قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: حبسوا أنفسهم في طاعة اللَّه، لا يجدون ما يتجرون، ولا ما يحترفون، ولا ما يكتسبون.
وقوله تعالى: (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ): للتجارة.
وقوله تعالى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)، يحتمل وجهين:
يحتمل: لا يظهرون السؤال، أي: لا يسألون؛ كقوله تعالى: (وَلَا تنفَعُهَا شَفَاعَة) أي: لا يشفع لهم.
ويحتمل: فإن كان على السؤال فإنهم إذا سألوا لم يلحفوا، دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من فتح على نفسه بابًا من المسألة، فتح اللَّه عليه سبعين بابا من الفقر ". ثم ذكر في الخبر: " من
وقوله تعالى: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا):
قيل: (بِسِيمَاهُمْ)، يعني: سيما التخشع.
وقيل: (بِسِيمَاهُمْ): بسيما الفقر عليهم، و (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) يعني: إلحاحا.
وقيل: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ)، أي: بتجملهم، (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)، أي: إلحاحًا، ولا غير إلحاح.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
قيل: هي النفقة على الخيل المحتبسة للجهاد، ينفقون ليلا ونهارًا، سرًّا وعلانية، لا رياء فيها، ولا إضمار.
وعن عليٍّ وأبي أمامة الباهلي - رضي اللَّه تعالى عنهما -: هي النفقة على الخيل في سبيل اللَّه.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: هي في علف الخيل والنفقة عليها.
وقيل: نزلت هذه الآية في نفقة عبد الرحمن بن عوف في جيش العسرة.
وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري.
فلا ندري فيمن نزلت، وليس لنا إلى معرفة المنزل في شأنه حاجة سوى أنه وصفهم بالجود والسخاء، ونفقتهم على الناس ليلًا ونهارًا سرًّا وعلانية، لا رياء فيها، ولا مَنّ، ولا أذى.
وفيه نفى الرياء عن نفقتهم؛ لأن من عود نفسه الفعل في جميع الأوقات لم يراء.
وقوله تعالى: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالحزن والخوف، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ أن نعيم الآخرة لا يشوبه حزن ولا خوف؛ لذلك كان ما ذكر. واللَّه تعالى أعلم.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا)، ليس على حقيقة الأكل، ولكنه كان على الأخذ، كقوله تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). فإذا كان هذا على الأخذ فقوله تعالى: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) هو على التمثيل، ليس على التحقيق.
وقال آخرون: هو على نفس الأكل، وما ذكر من العقوبة، لما أكلوا من الربا لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون المنخنق.
وقال غيرهم: ذلك لاستحلالهم الربا، وتخبيطهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ في الحكم في تحريمهم الربا بقولهم: (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا).
ثم قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، فيه دليل جواز القياس في العقل؛ لأنه لو لم يكن في العقل جوازه لم يكن لقولهم: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) معنى. لكنهم لم يعرفوا معنى المماثلة.
ثم المماثلة على الوجهين: مماثلة أسباب، ومماثلة أحوال.
فالمماثلة التي هي مماثلة أحوال: هي ابتداء محنة في الفعل، لا يقاس على غيره، نحو أن يقال: اقعد، أو أن يقال: قم، لا يقاس القيام على القعود، ولا القعود على القيام، إنما هو محنة لا يلزم غير المخاطب به.
وأما مماثلة الأسباب: فهي مماثلة الإيجاب، نحو أن يقال: حرم اللَّه السكر في الخمر، فحيث ما وجد السكر يحرم؛ لأنه يجني على العقل، فكل شيء يجني عليه فهو محرم التناول منه.
وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا).
يقولون: لما جاز أن يباع ثوب يساوي عشرة بأحد عشر، كيف لا جاز أن يباع عشرة بأحد عشر؟
ويحتمل: فيه ابتداء حرمة أن حل ما هو بيج لا ما هو ربا.
ثم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا):
فلقائل أن يقول: إنما يحرم منه قدر الربا، وأما العقد فإنه يجوز لما ليس فيه ربا.
لكن الأصل عندنا فيه: أن الدرهم الزائد يأخذ كل درهم من العشرة قسطًا منه وجزءًا من أجزاء كل درهم منه، فلا سبيل إلى إمضاء العقد لأخذ أجزائه كل درهم من الذي فيه العقد، وهو ربا.
وفيه وجه أَخر: وهو أنه ختم الكلام على قوله: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)، ولا يزاد رأس المال في عقد قد مضى. ثم معرفة الربا من غير الربا ما ليس بإرادة بدل.
ثم فيه دلالة أن حرمة الربا كان ظاهرًا عندهم حتى حكوا، وكان حرمته فيما بينهم كهو فيما بين أهل الإسلام؛ لذلك قال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن لا يجوز بيع الربا فيما بين أهل الإسلام وبين أهل الذمة. وعلى ذلك خرج الخطاب منه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً).
وقوله تعالى: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى):
قيل: (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، بيان تحريم الربا.
وقيل: (فَمَنْ جَاءَهُ) نهي في القرآن (مِنْ رَبِّهِ) وفي تحريم الربا، (فَانْتَهَى) عن الربا.
ويحتمل: الموعظة، هي التذكير لما سبق منه، فيتذكر فيرجع عن صنيعه.
وقوله تعالى: (فَلَهُ مَا سَلَفَ)، قيل فيه بوجهين:
قيل: (مَا سَلَفَ) له في الجاهلية صار مغفورًا له، وهو كقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
ويحتمل قوله تعالى: (مَا قَدْ سَلَفَ) هو، وذلك أن الكافر إذا تاب ورجع عن صنيعه، يرجع لا أن يعود إلى فعله أبدًا، ويندم على كل سيئة ارتكبها، فيجعل اللَّه كل سيئة كانت منه حسنة، وهو كقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
وقوله تعالى: (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)، في حادث الوقت أن يعصمه.
إن المعتزلة استدلوا على الوعيد لأهل الإسلام بما ذكر فيه من العود.
لكن بدء الآية على الاستحلال، فعلى ذلك العود إليه على جهة الاستحلال، يدل عليه قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) فأثبت له الكفر بالذي كان منه في الابتداء، وهو الاستحلال؛ فكذلك العود إليه.
وقوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
قيل: (يَمْحَقُ اللَّهُ): يهلك.
وقيل: (يَمْحَقُ): يبطل.
ولكن أصل " المحق " هو رفع البركة؛ وذلك أن الناس يقصدون بجمع الأموال والشح عليها، لينتفع أولادهم من بعدهم إشفاقًا عليهم، وكذلك يمتنعون من التصدق على الناس. فأخبر اللَّه تعالى: أن الأموال التي جمعت من جهة الربا ألا ينتفع أولادهم بها، وهو الأمر الظاهر في الناس. وأخبر أن الصدقات التي لا يمتنعون من الإنفاق عنها يربى ويخلف أولادهم إذا تصدقوا، ويمحق الربا ويرفع البركة عنها؛ حتى لا ينتفع أولادهم بها. وهو ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما فيه، وإن كذبا وكتما محقت عنهما البركة ".
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) الآية ظاهرة.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
قيل فيه بوجهين:
قيل: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ) من عمركم (الرِّبَا) إذا صرتم مؤمنين.
وقيل: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، الذي تقبضون (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وفي الآية دلالة على أن الربا الذي لم يقبض إذا ورد عليه حرمة القبض أفسدته.
لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إن فوت القبض عن المبيع يوجب فساد العقد، كما كان فوت قبض الربا في ذلك العقد أوجب منع قبض الربا. والذي يدل عليه قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)، فأوجب الفسخ فيه حتى أوجب رد
وفي الآية دلالة على أنا الربا الذي لم يقبض، إذا ورد عليه حرمه القبض أفسدته ؛ لذلك قال أصحابنا، رحمهم الله تعالى : إن فوت القبض عن المبيع يوجب فساد العقد كما كان فوت قبض الربا في ذلك العقد أوجب منع قبض الربا، والذي يدل عليه قوله تعالى :﴿ وإن تيتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ [ البقرة : ٢٧٩ ] فأوجب الفسخ فيه حتى أوجب رد رأس المال.
وفي الآية دليل وجه آخر، وهو أنه جعل حدوث الحرمة المانعة للقبض يرتفع به العقد في فساد العقد، فعلى ذلك يجعل حدوث شيء في عقد معقود قبل القبض كالمعقود عليه في [ استجاب حقه ]٣ من الثمن.
وقوله تعالى :﴿ وذروا ما بقي من الربا ﴾ وقوله :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ [ الآية : ٢٧٩ ] فيهما٤ دلالة أن ما جرت بين أهل الإسلام ولأهل الحرب من المداينات والمقايضات، ثم أسلموا، ترد، وما أخذوا قهرا لا يردون ؛ وذلك أن الربا الذي قبضوا لئلا يرد فلم يؤمر برده. فعلى ذلك ما أخذوا قهرا أخذوا لئلا يرد لم يجب رده، وأما رأس [ المال ]٥ فإنما أخذوا للرد. فعلى ذلك ما أخذ بعضهم من بعض دينا أو قرضا يجب رده ؛ ففيه دليل لقول أصحابنا، رحمهم الله تعالى : على ما ذكرنا، والله أعلم.
٢ ساقطة من النسخ الثلاث..
٣ من ط ع، في الأصل وم: استجار حصته..
٤ في النسخ الثلاث: فيه..
٥ من ط عوم، ساقطة من الأصل..
وفي الآية دليل وجه آخر: وهو أنه جعل حدوث الحرمة المانعة للقبض، يرتفع به العقد في فساد العقد؛ فعلى ذلك يجعل حدوث شيء في عقد معقود قبل القبض كالمعقود عليه في استئجار حصته من الثمن.
وقوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، وقوله: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) فيه دلالة: أن ما جرت بين أهل الإسلام وأهل الحرب من المداينات والمقارضات ثم أسلموا يرد، وما أخذوا قهزا لا يردون؛ وذلك أن الربا الذي قبضوا لئلا يرد لم يؤمر برده.
فعلى ذلك ما أخذوا قهرا أخذوا لئلا يرد، لم يجب رده. وأما رأس المال فإنما أخذوا للرد؛ فعلى ذلك ما أخذ بعضهم من بعض دَيْنًا أو قرضًا وجب رده. ففيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى - على ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: فمن كان مقيمًا على الربا مستحلًا له لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه: فإن تاب ونزع عنه، وإلا ضرب عنقه.
وقوله تعالى: (فَأْذَنُوا)، فيه لغتان: بالقطع، والوصل.
فمن قرأ بالقطع، فهو على الأمر بالإعلام لمستحليه أنه يصير حربا له بالاستحلال.
ومن قرأ بالوصل، فهو على العلم، كأنه قال للمؤمنين: إنه حرب لنا.
وقوله تعالى: (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ):
عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - قوله: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)، أي: (لَا تَظْلِمُونَ) فتربون، (وَلَا تُظْلَمُونَ): فتنقصون.
وقتادة - رضي اللَّه تعالى عنه - يقول: بطل الربا وبقيت رءوس الأموال.
وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)
عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنه -: (إِلَى مَيْسَرَةٍ) قال: هو المطلوب، وهو في الربا.
وفيه دلالة جواز التقلب في البيع الفاسد؛ لأنه جعل لأرباب الأموال النظرة إلى ميسرة
وفيه جواز التقلب في البيع الفاسد ؛ لأنه جعل لأرباب الأموال النظرة إلى ميسرة من عليه المال ؛ فلو كان له حق أخذه حينما وجده بعد ما تناسخت الأيدي أو كان له حق تضمين من هو أغنى لم يكن لإنظار المعسر إلى وقت الميسرة معنى، ولكن يحتاج تضمين أيسرهم وأغناهم إذا كان يقدر، فله خصومته.
وإذا كان شرط سقطت الخصومة كما تقول في الذي يكفل عن معسر أو عمن أجل. ثم النظرة بالاختيار ممن له الحق لا أنه يكون هكذا شاء هو أو أبي ؛ دليله قوله، صلى الله عليه وسلم، ( لصاحب الحق اليد واللسان ) [ ابن عدي في الكامل ٧/٥٣٤ ] أما اللسان فيتقاضاه، وأما اليد فيلازمه بها، ويحسبه، ولكنه إذا أجل على نفسه حق اللسان واليد إلى أن يمضي ذلك الوقت. ثبت له حق اللسان واليد، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ يعني برؤوس الأموال إذا طهر إعساره.
وعن الضحاك [ رضي الله عنه، أنه ]٢ قال في قوله :﴿ وأن تصدقوا خير لكم ﴾ : أخذ رأس المال حسن، وتركه أحسن، وإنما الصدقة على المعسر، فأما الموسر فلا. وفيه جواز صداقة الدين وهبته ممن عليه دين، وهو الأخير له إذا ظهر إعساره وفقره، والله أعلم.
٢ من ط ع..
وقوله تعالى: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، يعني برءوس الأموال إذا ظهر إعساره. وعن الضحاك - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال في قوله: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، قال: أخذ رأس المال حسن، وتركه أحسن. وإنما الصدقة على المعسر، فأما على الموسر فلا.
وفيه دليل جواز صدقة الدَّين وهبته ممن عليه دين، وهو الأخْيَرُ له إذا ظهر إعساره وفقره. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
قال عامة أهل التأويل: إن هذه الآية آخر ما نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه.
فإن كان ما ذكروا فهو - واللَّه أعلم - أنه عَزَّ وَجَلَّ رغبهم في ذكر ذلك اليوم؛ لما في ترك ذكره بطول الأمل، وطول الأمل يورث الحرص، والحرص يورث البخل ويشغله عن إقامة العبادات والطاعات. فإذا كان كذلك فأحق ما يختم القرآن به هذا؛ لئلا يتركوا ذكر ذلك اليوم فيسقطوا عن منزلته الثواب والجزاء. واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ويصير كأنه قال: اتقوا وعيده تعالى في جميع ما يعدكم وما ألزمكم من الحق.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
فيه دليل جواز السلم من قوله: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)؛ لأن المداينة هي فعل اثنين، وهو السلم نفسه؛ لأنه دين من الجانبين جميعًا، وعلى ذلك رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: شهدوا أن الْمُسْلَم المضمون مما أجازه اللَّه - تعالى - في كتاب الكريم، ثم تلا هذه الآية.
فأما الخبر الذي جاء به نهى عن الدَّين: فإن ذلك على فوت القبض فيه، دليله: جواز ما كان دينًا بدين إذا قبض أحد الجانبين.
وقال آخرون: قوله: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)، هو بيع كل دين إلى أجل مسمى، فهو يسمى
وقوله تعالى: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى):
فالعرف في الإسلاف عند الناس: ألا يخلى عن الأجل، فصار الأجل بالعرف شرطا في جواز السلم وإن لم يؤجل؛ لأن الرجل لا يسلم السلف ليؤديه حالة الإسلاف؛ لأن الحاجة هي التي تحمله على الإسلاف فهو إنما يسلف ليؤديه في وقت ثان؛ لأنه لو كان عنده حاضرا لا يحتاج إلى غيره، ولكنه يبيعه فيصل إلى حاجته، ولا يتحمل الْمُؤْنة العظيمة، فصار في العرف كأنه بأجل، يفسد لترك بيان الأجل. واللَّه أعلم. وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ".
ثم أمر عَزَّ وَجَلَّ بالكتابة في التداين بقوله: (فَاكْتُبُوهُ)، وذلك - واللَّه أعلم - لأنه وصل إلى حاجته بقبض رأس المال والآخر لم يصل؛ فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود؛ فأمر عَزَّ وَجَلَّ بالكتابة؛ احترازا عن الإنكار وجحود الحق له؛ لأنه إذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه يرتدع عن الإنكار والجحود؛ فهو كما ذكرنا في قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)؛ لأنه إذا ذكر أنه يقتل ارتدع عن قتل غيره؛ فكذلك إذا ذكر أنه مكتوب عليه يمتنع من الإنكار والجحود؛ لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس، واللَّه أعلم.
ولا كذلك بيع العين بالعين؛ لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصلي به الآخر، فليس هنالك للإنكار معنى؛ لذلك لم يؤمر بالكتابة في بيع الأعيان، وأمر في المداينات. واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والنسيان يعقب التنازع، والمنازعة توجب التخالف، وفيه الفساد؛ فأمر بالكتابة لدفع ذلك، وللوفاء بالحق، ودفع الخصومات. واللَّه أعلم.
ولا يحتمل أن يفرض الكتابة، وأكثر ما فيه أن يحفظ الحق، ولمن له تركه كذلك ألا يقبضه مع ما ليست في عقد أو فسخ فيكلم فيه بوجوب واختيار، إنما هي للحق، فله فعل ذلك. واللَّه أعلم.
ثم اختلف في الكتابة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي واجبة لازمة. واستدلوا على وجوبها بقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا، أخبر برفع الجناح في التجارة الحاضرة، فلو كانت في المداينة غير واجبة لم يكن لرفع الجناح فيها معنى؛ فدل أنها لازمة في المداينة حيث رفع الجناح في الحاضرة منها.
وأما عندنا: فهي ليست بواجبة؛ لأنه قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا
كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)، ثم أمر، قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)، ذكر الرهن بدلًا عن الكتابة، ثم ذكر ترك الرهن بالائتمان. فإذا كان له ترك الرهن بالائتمان، وهو بدل الكتابة - فعلى ذلك له ترك الكتابة بالائتمان، إن كان أصله مفروضا لم يحتمل ترك بدله بالائتمان. فإذا كان ذلك له دل أنه ليس بمفروض ولا لازم. والله أعلم.
وقوله تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ):
فهذا لأن الكاتب مأمون عليه فيؤدي حق ما اؤتمن فيه، لا يزيد على ما أملى عليه بالنصيحة وأداء الأمانة. وهكذا الواجب على كل محكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والنصيحة وأداء الأمانة، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، وكقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وكقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وقوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا وذلك أن الكتبة كانوا في صدر الاسلام قليلا، فنهوا عن ترك الكتابة؛ إذ في ذلك بطلان حقوق الناس وذهابها. وأما اليوم فلا بأس بالإبقاء عليها، لم يجد من يكتب له بالأجر؛
وفيه وجه آخر: وهو أن قوله - تعالى -: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ)، أي: لا يأب الكاتب إذا كتب أن يكتب بالعدل، أي: له ترك الكتابة، ولكنه إذا كتب لا يكتب إلا بالعدل. والله أعلم.
وقوله تعالى: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ)، هو نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يكتب وإن لم يعلمه اللَّه تعالى. واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه يكتب بتعليم اللَّه إياه. ولو كان التعليم من اللَّه تعالى إيتاء الأسباب لم يكن لقوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) معنى؛ لأنه قد أعطى أسبابه.
والعدل -ما ذكرنا-: ألا يزيد على الحق، ولا ينقص منه. وأصل العدل: هو وضع الشيء موضعه.
وقوله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): ما عليه، (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ):
ولا ينقص، (مِنْهُ شَيْئًا) أي: لا يملي على الكاتب أقل من حقه ولا ينقص منه شيئًا.
ففيه دلالة على أن القول قوله في قدر الحق حيث أوعد فيما يملى على الكاتب ألا ينقص من حق الطالب شيئًا.
وقوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ)، قال قائلون: هذا كله واحد: السفيه، والضعيف، والذي لا يستطيع أن يمل.
وقال آخرون: بل هو مختلف، السفيه هو الصغير، فليملل وليه. والضعيف هو المريض الذي لا يقدر أن يُمِلَّ. والذي لا يستطيع أن يُمِلَّ هو الجاهل الذي لا يعرف أن يُمِلَّ. ثم اختلف في الولي:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الولي: هو صاحب الحق، يُمِلُّ بالعدل بين يدي من عليه الحق؛ لئلا يزيد على ذلك شيئًا، فإن زاده أو نقصه أنكر عليه صاحبه.
وقال آخرون: الولي هو وصي الصغير، أو ذو النسب منه.
قال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: الحجر لا يمنع عقوده.
وقال مُحَمَّد بن الحسن: لا يجوز عقوده، ولكن الولي هو الذي يتولى ذلك؛ استدلَالًا بظاهر قوله: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)، فإنما جعل الإملاء إلى الولي، لا إليه. ولو كان يجوز إملاؤه لكان لا معنى لجعل ذلك إلى غيره؛ دل أنه لا يجوز.
وأما أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - فإنه ذهب إلى أنه يجوز بقوله تعالى: (إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ)، أجاز تداينه؛ فدل أن الحجر لا يمنع العقد عليه ولا تداينه، ولأن السفيه لم يستفد الإذن من السلطان؛ إنما استفاده من اللَّه تعالى، ولا يجوز حجر من لم يستفد الإذن منه.
وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ):
لم يجعل الإشهاد شرطا في جواز البيع، ولكنه معطوف على قوله: (فاكتبوه). أمر عَزَّ وَجَلَّ بالإشهاد في البيع والتداين؛ للمعنى الذي ذكرنا: أن ترك الإشهاد والكتابة يحمله على الإنكار وجحود الحق، فإذا كان هنالك شهود وكتاب يمتنع من الإنكار؛ لخوف ظهور الكذب. ولم يصر شرطا في جواز التداين؛ لأن الإشهاد إنما ذكر بعد المداينة والمبايعة. وكذلك الكتابة فهو لما ذكرنا: أن الإنسان من طبعه النسيان والسهو؛ فأمر بالاستشهاد والكتابة لئلا ينسى، أو يحمله ترك الإشهاد والكتابة على الإنكار.
وأما الأمر بالإشهاد في النكاح -في عقد النكاح نفسه- دليله قوله - عليه السلام -: " لا نكاح إلا بشهود "؛ لذلك صار شرطًا في عقد النكاح، ولم يصر شرطًا في المبايعة. ووجه آخر: وهو أن الشهادة في النكاح تدفع تهمة الزنى عنهما، وقد يحوج إليه في أول أحواله. والحاجة إلى الشهادة في البيع إلى ما يتعقب فيه من توهم وقوع التنازع؛ إذ له بذل ملكه للآخر من غير عقد بيع، وليس لها بذل فرجها له من غير عقد النكاح؛ لذلك صار الإشهاد شرطا في جواز النكاح، ولم يكن شرطا في البيع. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ):
في الآية دلالة أن من قضى بالشاهد واليمين قضى بخلاف ظاهر الكتاب، وهو أيضا خلاف السنة؛ لأن قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا)، ليس هو الإشهاد، إنما هو الإحضار للشهادة؛ إذ العجز لا يقع في الإشهاد، إنما يقع عند الاستحضار، ولو كان بيمينه غنية لم يأمر المرأتين هتك سترهما؛ ولأن الآية ذكرت حق القضاء في البياعات الواقعة
وأما مخالفة السنة - فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: البينة على المدعي، واليمين على المدعَى عليه.
فإذا أتى بشاهد واحد لم يخرج الآخر من أن يكون مدعى عليه. فإذا كان كذلك، وقد جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حجة المدعَى عليه اليمين، ولم يجعل اليمين حجة للمدعي؛ فلذلك قلنا: إنه المخالف لظاهر الكتاب والسنة. ولأن اللَّه تعالى جعل المرأتين في حال الضرورة، وهو حال عدم الرجل مقام ذلك الرجل، فلو كان يجوز القضاء بالشاهد واليمين، لم يحتج إلى أن يكلف النساء من الخروج إلى أبواب القضاء والسلاطين لأداء الشهادة، وفي ذلك هتك الستر عليهن وكشف عورتهن، وتكلف القضاة فضل التفحص في حالهن ومعرفتهن؛ لذلك بطل القضاء بالشاهد واليمين. واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قضى به.
ثم قال الصحابة: رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، أنه قضى بالشاهد واليمين في
ونحن نقضي بعض أحكام الأمان بالشاهد الواحد إذا كان عدلا. واليمين باب ما يحتاط فيه إذا شهد شاهد أنه أمنه لم يقبل، ولكن يستروّ. وأما الأموال فإن الاحتياط في ذلك ترك القضاء إلى أن تقوم الحجة التي تزيل الشبهة من جميع الوجوه. وباللَّه التوفيق.
وأما شهادة النساء: فإنها جائزة في الأموال وفي غير الأموال إلا في الحدود خاصة، فإنها غير مقبولة. أما جوازها في غير الحدود؛ لأن اللَّه تعالى ذكر التداين، وذكر في التداين الأجل، والأجل ليس بمال. ثم أجاز شهادتهن في التداين وفي الأجل الذي ليس هو بمال؛ دل ذلك أن علة جواز شهادتهن ليس هو المالية نفسها، وأجيزت شهادتهن فيما لا مالية فيه وهو الأجل؛ فظهرت أن علتها ليست مالية.
وأما بطلان شهادتهن في الحدود؛ فلأن شهادتهن إنما أجيزت بحكم البدل عن شهادة الرجال، والأبدال في الحدود غير مقبولة نحو الوكالات والكفالات؛ فعلى ذلك شهادتهن لما كانت جوازها بحكم البدل لم تقبل، ولأنهن جعلن على السهو والغفلة ونقصان العقل والدَّين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنهن ناقصات عقل ودين ". فإذا كان كذلك أورث ذلك شبهة في الحدود، والحدود مما يبتغى فيها الدرء؛ لذلك لم تقبل. واللَّه أعلم.
ولأن شهادتهن إنما ذكرت فيما يبتغى به الإعلام والإعلان، لا الإسرار. فعلى ذلك تقبل شهادتهن فيما يبتغى ذلك المعنى. وأما الحدود وما يلزم بها ذلك إنما يبتغى في ذلك الإسرار والستر؛ لذلك قلنا بأن شهادتهن تجوز في النكاح والطلاق والعتاق؛ لأن النكاح يبتغى فيه الإعلان على ما جاء: " أعلنوا النكاح "؛ لذلك قبلت. واللَّه أعلم.
ومعنى آخر: أن الخصم أجاز شهادة النساء بالانفراد في كل شيء ما خلا الحدود والقصاص؛ لذلك قبل بالرجال. ولأن شهادة النساء أجيزت في الأصل توسيعا، فلا يجوز أن ترد فيما يتوسع، وتقبل فيما يضيق، وأمر النكاح والطلاق في الشهادة أوسع، فهو أحق أن يقبل.
وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)
فإن قال قائل: كيف جاز استشهاد المرأتين عند وجود الرجلين؟ واللَّه أمر باستحضار الرجلين عند الحاكم للشهادة، لا أمر بالإشهاد عليها؛ لذلك قال عَزَّ وَجَلَّ: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
أي: لا تكلف النساء حضور أبواب القضاة ومجلسهم لأداء الشهادة إلا عند العجز عن وجود الرجل؛ لما في ذلك هتك أستارهن، وكشف عورتهن. واللَّه أعلم.
والثاني: أن اللَّه تعالى ذكر امرأتين وأقامهما مقام رجل فائتٍ، والرجل الذي قامت امرأتان مقامه هو فائت أبدا غير موجود، إذ له أن يشهد عددا على ذلك الحق؛ لذلك جازت شهادتهن وإن كان هناك رجلان. واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر رجلين دون ذكر العدد، أو ذكر واحد؟
قيل: لوجوه:
أحدها: ذكر على قدر الأشياء ومراتبها عند الناس، إذا كان أمرًا عظيما فظيعا لا تقبل فيه إلا شهادة عدد، نحو الزنى، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا). وإذا كان خسيسا سهلا عند الناس قبل قول الفرد حرًّا كان أو عبدًا، من نحو الاستئذان للدخول على آخر ونحوه. ثم الأموال وغيرها هي المتوسطة المترددة بين هذين، فقبل الوسط من الشهادة، ولم يقبل دونها. واللَّه أعلم.
ووجه آخر: قيل: إنه ذكر ذلك عبادة، لا لمعنى المودع فيه، ولكن سمعا، فهو على ما ذكر، لا يطلب معناه.
والثالث: أن الواحد لم تقبل شهادته في الحقوق بالانفراد؛ لأنه ينتفع بها. لأن من صدق في قوله يتلذذ بتصديقهم إياه. فعلى ذلك لم يقبل قول المدعي في دعواه وإن كان عدلا، لما ينتفع بالتصديق وقبول قوله فيه. فإذا كانا اثنين صار تلذذ كل واحد منهما وانتفاعه لصاحبه؛ فحصلت الشهادة خالصة صافية؛ فقبلت. واللَّه أعلم.
والرابع: أن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة، فإذا كان فردا يخاف عليه النسيان؛ أمر بضم آخر إليه ليذكر كل واحد منهما صاحبه إذا نسيه. وعلى ذلك يخرِج قوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)، لما ذكر أنهن جبلن وطبعن على فضل السهو والغفلة، أمر بضم غيرها إليها إذا سهت وغفلت عنها.
ثم اختلف في قوله: (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ):
قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: يرجع الخطاب إلى الأحرار خاصة دون العبيد والكفرة. أما الكفرة؛ فلأن الخطاب في الابتداء للمؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
وأما العبيد فلم يدخلوا تحت هذا الخطاب لوجوه:
أحدها: ما ذكرنا: أن ظاهر الخطاب للأحرار دون العبيد، لما لا يملكون هم التداين والتبايع؛ فعلى ذلك خطاب الشهادة.
فَإِنْ قِيلَ: أليس العبيد يملكون التبايع والتداين؟ قيل: يملكون بالإذن والتولية لا بملك أنفسهم فذلك القدر من التداين وغيره، يملك الكفار، ثم لم يجب قبول شهادتهم، ولا دخلوا تحت ذلك الخطاب؛ فكذلك العبيد.
والثاني: ما قاله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)، ثم لا يملك العبيد الإجابة لكل ما دعوا لحق السادات؛ فعلى ذلك ليس عليهم الإجابة في الشهادة لحق السادات. واللَّه أعلم.
والثالث: أن اللَّه تعالى قسم الشهادة قسمة الميراث بقوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)، وقال في الميراث: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، ثم لا حظ للعبيد في الميراث؛ فعلى ذلك لا حظ لهم في الشهادة.
والرابع: أن الشهادات تجري مجرى الولايات والتمليكات، ثم لا ولاية نكون للعبد على غيره ولا تمليك؛ فعلى ذلك الشهادة، إذ فيها ولاية وتمليك الحاكم الحكم. والله أعلم. وعلى هذا بطلت شهادة الكفار على أهل الإسلام لما لا ولاية لهم عليهم.
والخامس: أن الشهود بين حالين: بين أن يصدقوا فتمضي شهادتهم، وبين أن يكذبوا فيضمنوا. ولما كان العبيد إذا كذبوا في شهادتهم لم يضمنوا؛ لأن ضمان الشهادة ضمان معروف؛ لأنه لا بدل له بإزاء من لم يكن من أهل الشهادة؛ دل أنهم ليسوا من أهل الشهادة.
وعلى ذلك قلنا: إن النكاح يجوز بشهادة الفاسق والمحدود في القذف، وأنهما من أهل الشهادة فيه؛ لأنهما من أهل الضمان، وإن كانت شهادتهما ردت لتهمة الكذب في سائر الحقوق. وأما العبد: فليس هو من أهل الشهادة بحال، للمعنى الذي وصفنا. والله أعلم.
وإلا القياس يقتضي أن تجوز شهادة العبيد؛ لأنها من حق اللَّه، ودليله قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ). فإذا كانت من حق اللَّه تعالى، وحقوق اللَّه تعالى لا يختلف
وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)، إلى أن قال: (فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى):
قد ذكرنا فيما تقدم أنهن لما جبلن وطبعن على فضل سهو وغفلة، ضمت إليها أخرى لتذكرها الشهادة إذا نسيت.
وفي الآية دلالة أن الرجل إذا نسي الشهادة، ثم ذكر فتذكر، يجوز أن يشهد. وأما إذا أخبر بالشهادة ولم يتذكر، لم يجز له أن يشهد؛ لقوله: (فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)، إذ لم يقل: " فتخبر إحداهما الأخرى ".
وقوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ):
فيه دلالة أن من المسلمين من لا يكون مرضيا، وكذلك فيهم من يكون عدلا ومن لا يكون عدلا، دليله قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، لأنه لو لم يكن فيهم مرضيا وغير مرضي لكان يقول: " وأشهدوا رجلين منكم "، ولم يشترط فيه العدالة والرضاء.
وهو على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: المسلم لا يكون غير عدل ولا غير مرضي. وفي الآية التي ذكرنا دلالة ما قلنا. واللَّه أعلم.
وفي قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)، دلالة أن الشهود إذا شهدوا على المدعى عليه بالحق، وهم مرضيون عنده، يجب أن يؤدي إليه حقه؛ لأنا قلنا: إن قوله: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)، أمر باستحضارهم عند الحاكم، فإذا كان كذلك فهو دليل ما قلنا. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا):
احنتلف فيه:
قيل: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) للإشهاد.
وقيل: لا يأبوا إذا ما دعوا للأداء. وهذا أشبه؛ لأن للشهود أن يقولوا: أحضر الخصم هاهنا لتشهدنا عليه، فإنا لا نحضر المكان الذي هو فيه. وليس هذا القول في الأداء، إذ الأداء لا يكون إلا عند الحاكم؛ لذلك كان أولى، كقوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا
وقوله تعالى: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ):
فيه دلالة جواز السلم في الثياب؛ لأن ما يكال ويوزن لا يقال فيه: " الصغير والكبير "، ولا يكتب: " صغيرة وكبيرة "، إنما يقال ذلك في العددي.
وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)، يقول: أعدل عند اللَّه، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ)، في الحجة.
وقوله تعالى: (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا):
أقرب إلى دفع الظنون والشكوك التي تحملكم على التناكر والتنازع الذي عاقبته الفسخ؛ ولهذا ما أمر عَزَّ وَجَلَّ بالكتابة فيه والإشهاد، وذكر كل صغير وكبير، لئلا يقع بينهم في العاقبة تنازع وتناكر، فيحمل ذلك الحاكم على فسخ العقد بينهما. وعلى ذلك نصبوا الأجل فيه شرطا لقطع وقوع التنازع والتناكر الذي حكمه الفسخ في العاقبة. والله أعلم.
وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ...) الآية:
استثنى عَزَّ وَجَلَّ التجارة الحاضرة بترك الكتابة والإشهاد والرهن وغيره، وذلك لما ذكرنا آنفا أن الديون والقروض تنسى وتشتبه على الناس؛ فلذلك أمر بالكتابة فيها، والإشهاد، ولا كذلك التجارات الحاضرات، وعلى ذلك أمر ظاهر بين الناس أنهم يكتبون ويشهدون في الديون والقروض، ولم يعلموا ذلك في التجارات الحاضرات الجاريات فيما بينهم، لارتفاع ما يخاف وقوعه في الديون والقروض وخلائها عن ذلك. واللَّه أعلم.
وقوله: (تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا):
يقول: يدًا بيد وليس فيها إيجاب القبض على المجلس.
وقوله (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ):
أمر عَزَّ وَجَلَّ بالإشهاد في التجارة الحاضرة، ولم يأمر بالكتابة، وأمر في التداين بالكتابة والإشهاد، جميعا؛ فالأمر بالكتابة لمحافظة الحقوق ومعاهدة كل قليل وكثير فيه، وأما الأمر بالإشهاد للأدب، والأمر بالرهن أمر بالوفاء، والرهن والكتابة والإشهاد كل ذلك يمنع صاحبه عن الإنكار والجحود، ويذكر عند النسيان والسهو. ذلك كله لقطع التنازع الواقع فيما بينهما في المتعقب. واللَّه أعلم.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) لا يشغل الكاتب ولا الشهيد، فيقول له: اكتب لي كذا، واشهد لي على كذا، وهو يجد غيره.
وقال آخرون: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ)، أي لا يضار كاتب صاحب الحق، فيكتب ما لا ينبغي أن يكتب بالزيادة والنقصان، وكذلك الشاهد لا يزيد على الحق ولا ينقص من الحق شيئًا، ولا يكتم الشهادة أيضًا. فهذا أقرب. واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: إذا كان المعنى راجعًا إلى ما ذكرت ألا يزيد الكاتب ولا ينقص ألا قال: لا يضارُّ بالرفع؟
قيل: إنه لا يضاره فطرحت إحداهما فإذا طرحت انتصبت علامة للطرح إذ هكذا عمل الإضمار.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " الإضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن اللَّه أمرك ألا تأبى إذا ما دعيت فتضاره بذلك ".
وقوله: (وَإن تَفعَلُوا) أي: تضاروا (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)؛ هذا يدل على أن التأويل هو ما ذكرنا من النهي عن الزيادة والنقصان والتحريف والكتمان؛ إذ في ذلك خروج عن الأمر.
والفسق هو الخروج عن الأمر كقوله (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، وهو على المعتزلة؛ كقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في المضارة من الزيادة والنقصان والكتمان (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) الحكم والأدب وما يحل وما لا يحل (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حرف وعيد.
وقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
قد ذكرنا فيما تقدم في الأمر بالكتابة والإشهاد: أنهما - واللَّه أعلم - لحفظ الحقوق، ما جل منها وما دق، وألا يحملهم على الإنكار والجحد، وأن يذكرهم ذلك حتى لا ينسوا، فعلى ذلك الأمر بالرهان لئلا يؤخر قضاء الدَّين ويذكرون ولا ينسون، واللَّه أعلم.
ثم فيه دلالة ألا يجوز الرهن إلا مقبوضا؛ لأن الرهن يقبض لأمرين:
أحدهما: لأنه إذا كان مقبوضًا محبوسًا عن صاحبه عن جميع أنواع منافعه ذكره وتقاضاه لقضاء دينه، وإذا كان في يديه لم يتقاضاه على ذلك؛ لذلك قلنا: إنه لا يجوز إلا
والثاني: أنه إنما يقبض ليستوفى منه الدَّين، ولا يستوفى إلا بعد القبض، أو يأخذ ليأخذ الدَّين منه من غير بخس فيه ولا منع عنه.
ووجه آخر -فيما لا يجوز الرهن إلا مقبوضًا- لأنه جعل وثيقة، فلا جائز أن يكون وثيقة وهو في يدي الراهن غير محبوس ولا ممنوع عن منافعه؛ فدل ما ذكرنا من طلب الناس بعضهم من بعض الرهون، أنهم طلبوا وثيقة. فإذا كان وثيقة فهو إنما يكون وثيقة إذا كان في يدي المرتهن محبوسًا عن صاحبه. ألا ترى أن الكاتب أمر بأداء الأمانة إذا أمن بعضهم بعضا بغير رهن، فلو كان الرهن يكون رهنا في يدي الراهن لذكر فيه أداء الأمانة في الرهن، ولم يكن لذكر القبض وجه؛ لذلك قلنا: إن الرهن لا يجوز إلا أن يكون مقبوضًا محبوسًا عن منافع صاحبه.
وقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) فيه دلالة ضمان الرهن دلالة استيفاء الدِّين من الرهن؛ لأنه إنما ذكر الأداء فيما أمن بعضهم بعضا بلا رهن، ولم يذكر الأداء فيما فيه الرهن، فلولا أن جعل في الرهن استيفاء الحق والدَّين وإلا لذكر الأداء فيه كما ذكر في الرهن فدل أنه مضمون به إذا هلك، هلك به. واللَّه أعلم.
وأيضا قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) فيه دليل لقولهم في الشركات: إنه يكتب اشتركا على تقوى اللَّه وأداء الأمانة؛ لأن كل واحد منهما أمين في ذلك، لذلك ذكر فيه تقوى اللَّه وأداء الأمانة، كما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - تقوى اللَّه وأداء الأمانة فيما اؤتمن.
وقوله: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ذكر إثم القلب، والإثم موضعه القلب لكنه يشيع في الجوارح ويظهر على ما روي: " إن في النفس مضغة إذا صلحت صلح البدن، وإذا فسدت فسد البدن ".
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفيه دلالة أن المأثم تعمد القلوب بأي شيء كان؛ فلذلك وصف القلب بأنه آثم؛ وهو كقوله: (يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، وكذا قوله (وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية.
* * *
قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ
وقوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (٢٨٤)
هو ظاهر، إذ ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه، ردًّا على قولهم: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، و (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)، و " الملائكة بنات اللَّه ".
وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم في غير موضع.
وقوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ).
ومن الناس من استدل على نسخها بقوله: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)، لكنه لا يحتمل؛ لأن الآية وعد وخبر بالمحاسبة، والوعد لا يحتمل النسخ؛ لأنه خلف وبداء، وذلك ممن يجهل بالعواقب، تعالى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن ذلك علوًا كبيرًا.
ثم اختلف فيه:
قال الحسن: هو على ما عزم لا على ما خطر بالنفس. وكذا قوله: " مَن هَمَّ ". ويحتمل: أن يكون على التقديم والتأخير: إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به اللَّه.
ويحتمل أيضًا: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وعزمتم عليه وعقدتم، لا على الخطر فيه أو حديث النفس، على ما روي: " مَن هَمَّ بحسنة فله كذا، ومَن هَمَّ بسيئة فكذا "، ليس على ما يخطر فيه أو حديث النفس، على ما روي، وتحدث النفس به، ولكن على العزم عليه والاعتقاد. وكذلك قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) همت هي به هَمَّ عزم، وهو هَمَّ بها هَمَّ خطر. والمرء غير مؤاخذ بما يخطر في القلب وتحدث النفس به، إنما يؤاخذ على ما عزم واعتقد عليه. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فيه دليل ما قلنا: إنه على العزم والاعتقاد عليه؛ لما ذكرنا من العفو والعقوبة عليه.
وقوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (٢٨٥)
وقوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)، يحتمل وجهين:
ويحتمل: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)، أي: آمن الرسول بما في المنزل إليه، وكان فيه ما ذكر: (آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)، إلى قوله: (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، وكذلك " المؤمنون " آمنوا بجميع ما في المنزل، وهو ما ذكرنا.
وفيه دليل أن الإيمان بالمنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إيمان بجميع الرسل والكتب كلها والملائكة والبعث والجنة والنار.
وفيه دلالة نقض قول من يشك في إيمانه ويستثني؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ شهد لهم بالإيمان، فلا يخلو الاستثناء: إما أن يكون لشكهم في إتيان ما أمروا، أو في الذي أخبر اللَّه عنه بما كان، ففيه الويل لهم.
وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه شهد لهم بالإيمان، وهم نفوا عنهم الاسم الذي شهد اللَّه لهم بالإيمان به، وبالذي ذكر، وكل صاحب كبيرة مؤمن بجميع ما ذكر، وقد سماهم اللَّه به مؤمنين، وشهد لهم به. واللَّه الموفق.
فَإِنْ قِيلَ: فقد ذكر الطاعة في آخرها.
قيل: ذكر الطاعة في الإجابة، وبتلك الإجابة شهد لهم؛ فيلزمهم ما شهد اللَّه لهم جل وعلا بما أجابوا. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)
ويحتمل: أن يكون هنا خبرا أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن المؤمنين أنهم قالوا: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) كما فرق اليهود والنصارى.
وقوله تعالى: (... وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).
يحتمل: (سَمِعْنَا) قولك ودعاءك، و (وَأَطَعْنَا)، أي: أطعناك في الإجابة.
ويحتمل: (سَمِعْنَا) القرآن، و (وَأَطَعْنَا)، أي: أطعنا ما فيه. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (... غُفْرَانَكَ رَبَّنَا).
أي: اغفر لنا ربنا
(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
أي: المرجع.
وفيه دليل أن الإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان بجميع الرسل والكتب كلها والملائكة والبعث والجنة والنار. وفيه دلالة نقض من يشك في إيمانه، ويستثني ؛ لأنه جل وعلا شهد لهم بالإيمان، فلا يخلو الاستثناء : إما أن يكون لشكهم في إتيان ما أمروا وإما في الذي أخبر الله عنه بما كان، ففيه الويل لهم. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة لأنه شهد لهم بالإيمان، وهم نفروا عنهم الاسم الذي شهد الله لهم به بالإيمان به وبالذي ذكر. وكل صاحب كبيرة مؤمن بجميع ما ذكر، وقد سماهم الله به مؤمنين، وشهد لهم به، والله الموفق.
فإن قيل : فقد [ ذكر الطاعة في آخرها، وقيل ]٥ : ذكر الطاعة في الإجابة، وبتلك الإجابة شهد لهم، فيلزمهم ما شهد الله لهم، جل، وعلا، بما أجابوا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾. . . ويحتمل أن يكون هذا خبرا أخبر الله جل وعلا، عن المؤمنين أنهم قالوا :﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ كما فرق اليهود والنصارى.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا سمعنا وأطعنا ﴾ يحتمل ﴿ سمعنا ﴾ قولك ودعاءك، و﴿ أطعنا ﴾ في أطعناك في الإجابة، ويحتمل :﴿ سمعنا ﴾ القرآن، و﴿ أطعنا ﴾ [ أي أطعناما ]٦ فيه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ غفرانك ﴾ أي اغفر لنا ربنا ﴿ وإليك المصير ﴾ أي المرجع. وهذا جمع جميع شرائط الإيمان، لذلك قلنا : إن الإيمان بجميع والأنبياء والبعث وغيره، وبالله المعصية والنجاة.
٢ في ط ع: بما..
٣ ساقطة من ط ع..
٤ من ط ع، ـ في الأصل وم: ذكرنا..
٥ من ط ع وم، ساقطة من الأصل..
٦ من ط ع، في الأصل: وأطعناك ما، في م: وأطعناك بما..
وقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (٢٨٦)
واختلف فيه:
قال الحسن: قوله تعالى: (إِلَّا وُسْعَهَا)، إلا ما يحل ويسع، لكن بعض الناس يقولون: هذا بعيد، لا يحتمل الآية، إذا كلف حل ووسع. فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى.
قيل له: هو كقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)، إذا أحل طَيَّب وإذا طيب أحل. فكذا الأول. وكذا ذكرنا الأمرين جميعًا.
وتأويل ثان (إِلَّا وُسْعَهَا): إلا طاقتها وكذلك قول المعتزلة: غير أنا اختلفنا في تقدم استطاعة الأفعال فمنعنا نحن تقدمها وقلنا لا تكون إلا مع الفعل، وقالت المعتزلة، بتقدم الفعل، وأما عندنا: فإنها على وجهين:
استطاعة الأحوال والأسباب، واستطاعة الأفعال.
أما استطاعة الأحوال والأسباب: فإنها يتقدمها، وعلى ذلك يقع الخطاب، دليله: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). قيل: يا رسول اللَّه ما الاستطاعة؟ قال: " الزاد والراحلة ". ثم كل يجمع أن من كان بأقصى بلاد المسلمين قد يلزمه فرض الحج، على علم كل منهم أن تلك الاستطاعة لو صرفت إلى استطاعة الأفعال لم يبق إلى وقت وجود الأفعال، ثم قد لزمه ذلك؛ فبان أن الكلفة إنما تقع على استطاعة الأحوال والأسباب، وكذلك الكلفة في جميع الطاعات.
فَإِنْ قِيلَ: قد يقع هذا على الخروج، فيوجد الفعل عقيب قوة الخروج، قيل: لو كان كذا لكان لا يلزم فرض الحج إلا بالخروج، وله ترك الخروج، إذ باكتساب الخروج يلزمه فرض الحج، فلا يلزم عليه فرض الحج؛ فثبت أنه لا يحتمله، بل هو على ما قاله أصحابنا - رحمهم اللَّه -: إنها استطاعة الأحوال والأسباب، وتلك تتقدم، لما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وأما استطاعة الأفعال: فإنها تحدث بحدوث الأفعال وتتلو كالأوقات التي لا تبقى في
فإن سئلنا عن التكليف: أيكون فيما لا يطاق؟
فجوابنا: أنه فيما منعنا عنه فلا. وفيما لم نمنع، وصنيعنا يشغلنا بغيره، فبلى. ثم الكافر بما أعطى من القوة والاستطاعة، شغل نفسه بغير وضيع ما أعطى من القوة. فإذا ضيع لم يكن تكليف ما لا يطيق ثم ننظر أينا أحق بالقول بتكليف ما لا يطاق.
فمن دول المعتزلة: إن القوة على الفعل ليوجده في الوقت الثاني، ثم في الوقت الثاني جعلوه غير قادر عليه بقدرة توجد، ثم جعلوه أيضًا غير قادر على الترك للفعل. والمتعارف من الأمر في الظاهر بشيء يفعله في وقت ألا يقع الأمر به وقت ما يسمعه ويقرع الخطاب السمع، بل في ثان من الوقت. فحصل عندهم الأمر على الوقت الذي هو غير قادر فيه.
فأي تكليف على فقد الطوق والوسع أبين مما قالوا؟! وباللَّه التوفيق.
ثم أفحش من هذا ما قالوا: إن القدرة تتقدم الفعل، والفعل هو الذي يدل على وجود الولاية، وهو في وقت إيجاد الفعل، إن كان كفرا يعادى، وإن كان إيمانًا يوالى. فحصل القول: على أن الموالاة والمعاداة أبدا تقع في غير وقت الانتهاء والائتمار.
ثم قولهم في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) أنه على الجبر. ولا يحتمل ذلك؛ لأنه قد أوجب لكل ذلك مرة بالجبر في الخلقة، وهو قوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)، فقد ألزمهم الإسلام بالخلقة، بأن أن الثاني على الاختيار.
ثم قولهم: في استطاعة واحدة لفعلين خطأ؛ لأن من قولهم: إن الاستطاعة لا تبقى، ثم وجود الفعلين معًا في وقت باستطاعة واحدة محال، ووجود تلك الاستطاعة لأحد الفعلين بعدم الآخر مستحيل لعدم البقاء، ووجوده عندهم على البدل محال، إذ جعلوا عين ما هو الأصل لأحدهما للآخر؛ فثبت أنه خطأ.
وقوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)
فيه دلالة: أن اللَّه تعالى إنما يأمر عبيده وينهى، وإنما يأمر وينهى؛ لمنافع لهم ولضرر يلحقهم، لا لمنافع تكون له بالأمر فيأمر، أو بضر يلحقه فينهى عن ذلك. فيكون الأمر جارًّا منفعة، وفي النهي دافعا مضرة. كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر
وقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
قيل فيه بوجهين:
قيل: (إِنْ نَسِينَا)، يعني: تركنا، كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ). وكقوله: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)، أي: ترك.
وقوله: (أَخْطَأْنَا)، يعني: ارتكبنا ما نهيتنا.
وقيل: إنه على حقيقة النسيان والخطأ، كأنه على الإضمار أن قولوا (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا...) الآية.
ثم اختلف بعد هذا:
قالت المعتزلة: أمر بالدعاء بهذا تعبدا أو تقربًا إليه. وكذلك قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، وكذلك قوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، ونحوه، خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن لا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ، وأخبر أنه لا يخلف الميعاد، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق. وكذلك قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه على ما ذكرنا، وإلى هذا يذهب المعتزلة.
وأما الأصل عندنا في هذا: أنه جائز في الحكمة أن يعاقب على النسيان والخطأ، ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا. ألا ترى أن اللَّه تعالى أوجب على قاتل الخطأ الكفارة، ثم قال: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ)، فلو لم يجز أن يعاقب على النسيان والخطأ، لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى؛ دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به.
والثاني: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ)، وفعل الشيطان
والثالث: ما ذكرنا: أن النسيان هو الترك، والخطأ هو ارتكاب المنهي، والتارك لأمر اللَّه، والمرتكب لنهيه يستوجب العقاب عليه. واللَّه أعلم. فيصبح الدعاء على ذلك؛ لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهى.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ ْقيل: إنما جاء هذا في الكفر خاصة، لا في غيره؛ وذلك أن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، يجري على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطأ، وكذلك كانوا يكرهون على الكفر فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل، فأخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك مرفوعًا عنهم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: وبعد فإن في الخبر العفو، فيكون في ذلك دليل جواز الأخذ، ولعل الوعد بالعفو مقرونا بشرط الدعاء؛ فلذلك يدعون. وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا بهذا، فأجيبا لا أن يؤمر أحد أن يدعو ابتداء. واللَّه أعلم.
وأما قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، ففيه وجهان: أحدهما: أنه وعد الرسل والمؤمنين جملة الجنة. فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التي وعدهم الجنة.
والثاني: يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود.
وأما الأمر بالاستغفار: فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: ما روي: " المؤذن يغفر له مد صوته "، فهو على استيجاب أُولَئِكَ المغفرة به؛ فعلى ذلك استغفاره، ليغفر به بعض أمته.
والثاني: أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر؛ فكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ثم الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة، فلو كان لا يجوز له التعذيب، فيكون التعذيب جَورًا، فيصير السؤال في التحقيق سؤال ألا يجورَ، وذلك مما لا يسع المحنة. وكذلك لو كان مغفورا له، كان الحق فيه الشكر لما أنعم عليه، وفي ذلك كتمان النعمة، والمحنة بكتمان نعم اللَّه وكفرانها محال؛ لذلك لا
وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، قيل: الحق هاهنا هو العذاب، كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم.
وقيل: (احْكُمْ بِالْحَقِّ)، أي احكم بحكمك الذي هو الحق.
فإذا كان ما ذكر محتملا، دل أنه ليس على ما ذهب إليه أُولَئِكَ. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).
قيل: " الإصر "، هو العهد، ويقول: لا تحمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه كما حملته على الذين من قبلنا. وكان من قبلهم إذا خُطِّئُوا خطيئة حرم اللَّه عليهم على نحوها مما أحل لهم الطيبات، كقوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وكأصحاب الأخدود، وغيرهم. فخاف المسلمون ذلك فقالوا: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا)، في جرم أجرمناه فتحرم علينا الطيبات.
وأصل " الإصر "، الثقل والتشديد الذي كان عليهم من نحو ما كان توبتهم الأمر بقتل بعضهم بعضا، كقوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).
وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)
يحتمل وجهين:
يحتمل: أن (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) من القتل والهلاك، إذ في ذلك إفناؤهم، وفي الفناء ذهاب طاقتهم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: أي مما نشتغل عما أمرتنا، فيكون كالدعاء بالعصمة. واللَّه أعلم.
ويحتمل: أن يراد به طاقة الفعل، وهي لا تتقدم عندنا الفعل. واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (وَاعْفُ عَنَّا)
قيل: اتركنا على ما نحن عليه، ولا تعذبنا.
وقوله تعالى: (وَاغْفِرْ لَنَا).
أي: استر لنا. و " الغفر "، هو الستر؛ ولذلك يسمى المغفر " مغفرًا "؛ لأنه يستر. وستر
وقوله تعالى: (وَارْحَمْنَا)
أي: تغمدنا برحمتك، لأنه لم ينج أحد إلا برحمتك،
وقوله تعالى: (أَنْتَ مَوْلَانَا)
قيل: أنت أولى بنا.
وقيل: أنت حافظنا.
وقيل -: أنت ولينا وناصرنا. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله تعالى: (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
يحتمل: الكفار المعروفين.
ويحتمل: الشياطين، أي: انصرنا عليهم.
* * *