تفسير سورة آل عمران

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
ابن عطية: حكى الفقهاء أن اسمها في التوراة طيبة.
ابن عرفة: ليس معناه أنها في التوراة بل ورد في التوراة حكم من الأحكام ونص فيها على ثبوته في القرآن في سورة آل عمران.
قوله تعالى: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)﴾.
قال الجرجاني: أحسن الأقوال أن (الم) إشارة إلى حروف المعجم أي أن هذه الحروف كتابك فلا يحل أن يكون الله مبتدأ وخبره (نَزلَ عَلَيكَ الكِتَابَ) بحيث يكون في الخبر ما يدل على الكتاب المضمر، واعترضه ابن عطية: بأن التوراة نزلت ردا على النصارى الذين زعموا أن عيسى هو الله، ونقلوا أقوالا سبعة فما المناسب أن يكون الخبر إلا (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فهو محل الفائدة، فإذا كان الخبر لم يبق ما يدل على إضمار الكتب.
قال ابن عرفة: والتوحيد به، منهم من قال: أن مدركه العقل، وقيل: السمع والعقل، وعكس سراج الدين الأرموي فقال: مدركه السمع؛ لأن من أبطل دلالة التمانع، قال: يقول: إن إلهين يتفقان، فقال الآخرون: وإن اتفقا فيجوز اختلافهما، وتردد المقترح في مدركها، وقال الغزالي: أخص أسماء الله تعالى القيوم، فإنه القائم بأمور العباد وغيرها يشاركه فيه غيره، فقال ابن عرفة، هذا ما يتم إلا على مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم والإيمان يقول أخص أوصافه القديم، وقال ابن الخطيب: الوصف بالحي القيوم يستلزم جميع صفات الله تعالى، فقال ابن عرفة: إن أراد استلزامها ذلك لذاتها [١٧/ ٨١] ومجرد لفظها فممنوع، وإن أراد لصحة الدليل العقل إليهما فمسلم.
قوله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ (٣)﴾
قال الزمخشري: (نَزَّلَ) يقتضي التفخيم، (وَأَنزَلَ) يقتضي الجمعية، فرده ابن عطية بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) ابن عرفة: إنما عادتهم يردون عليه بقوله تعالى: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، وأجاب الزمخشري هناك بأن (نُزِّلَ) بمعنى أنزل
345
وردوا عليه بأن ذلك إنما هو في الفعل المتعدي لواحد إذا ضعف يريد به التضعيف معنى التفريق، مثل: (غَلَّقَتِ الأَبوَابَ) لأن غلق يتعدى غير متضاعف، وأما الغير متعدي فإن التضعيف إنما هو للتعدية كالهمزة كأنه يكسبه معنى آخر.
قال ابن عطية: الباء إما للحال فالحق فيه ثابت أو للسبب، أي بسبب الحق، أي باستحقاق إن لم يزل ثم تحرك عن مذهب المعتزلة، فقال: وذلك تفضلا منه لَا على أنه واجب عليه أن يفعل.
قوله تعالى: (مُصَدِّقًا).
قال ابن عطية: حال مؤكدة؛ لأنه لَا يمكن أن يكون غير مصدقا لما بين يديه من الكتب. قيل لابن عرفة: عادتكم تردون عليه بأن المراد أنه حق في نفسه ثابت، والحق الثابت في نفسه يمكن أن يصدق غيره، ويمكن أن لَا يصدق ولا يكذب، فقال: كان يجيب بأن يقول: إن اعتبرنا الحق في نفسه فيجيء ما قلتم، وإن اعتبرناه من حيث رجوعه إلى الكتب وارتباطه به فلا بد أن يكون مصدقا لما بين يديه، ومعنى تصديقه لها تصديقه لأصوله لما فيها من الشرائع والأحكام؛ لأنه مصدق لاستحقاق تلك الأحكام وجريانها بل هو ناسخ لها، أو المراد بتصديقه لها دلالة على صحة كونها منزله من عند الله.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)﴾ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ).
قيل لابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (مِنْ قَبْلُ) ولو أسقط لم يختل المعنى؛ لأنه معلوم أن إنزالها قبل، وأنها هدى للناس من قبل؟ فأجاب: بأنكم جعلتم (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأنزل أو بالتوراة، وإنما يجعله متعلقا بهدى، فتقول: تضمنت الآية أن هداية التوراة والإنجيل كان للناس من قبل وذلك غير معلوم، إنما كان المعلوم أن إنزالها قبل الثاني، اقتضت من أول أزمنة القبلية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأول ما نزل بل تقدمت كتب قبله واستدام حكمها إلى أزمنة القبلية، وقال هنا: (هُدًى لِلنَّاسِ)، وفي البقرة (هُدًى لِلمُتقِينَ)، فقيل: للتشريف، وقيل: إن الهداية يراد بها الإيمان، قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ويطلق بمعنى التوفيق والإرشاد إلى طريق الحق.
346
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).
الآيات المعجزات، أو آيات القرآن، وهذا عموم خرج على سبب، وفيه عند الأصوليين خلاف، لكن قالوا إن السبب يجب دخوله فيه، والصحيح أنه عام فيه وفي غيره، وحيث يكون في اللفظ وصف مناسب للسبب فإنه يقصر على ذلك السبب وإلا فهو عام، والآية ليس فيها وصف مناسب للسبب، فإنه يقصر على ذلك السبب وإلا فهي عامة فيه وفي غيره، وقوله (عَذَابٌ شَدِيدٌ) باعتبار الكمية والكيفية والدوام الأبدي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)﴾
قيل لابن عرفة: هلا أتى به غير مقيد فهو أبلغ، فأجاب: بأن الآية تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: الرد على نصارى نجران في قولهم أن عيسى الله.
والثاني: الوعد.
والثالث: الوعيد.
فلذلك قال (فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، وأجاب الفخر: بغير هذا.
قيل لابن عرفة: والآية دالة على أن لفظ شيء يطلق على المعدوم، قال: تقرر أن العلم يتعلق بالموجود والمعدوم، والمستحيل؛ لأن تعلم أن الجمع بين النقيضين، ولم يدل على علمه بالكليات والجزئيات، قال: إن قلنا: إن العلم بالكليات من لوازمه العلم بالجزئيات وإلا فلا وهو مذهب المتأخرين، فيقول: علمه متعلق بالكليات، وذهب المقترح إلى أن الخلق يقتضي العلم، وإن كان قبيحا، وقال غيره: إنما يستلزم الإتقان لأنفس الخلق.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَشَاءُ (٦)﴾
دليل على مذهب [الطبائعيين*].
قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
كالنتيجة بعد هذه المقدمات.
قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ (٧)﴾
الزمخشري: أي أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه.
347
ابن عرفة: يريد النسخ، ابن عطية: وقال ابن عباس: المحكم ناسخه وحلاله وحرامه، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به، والمتشابه منسوخة، ومقدمة، ومؤخرة.
ابن عرفة: كقوله تعالى: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)؛ [١٧/ ٨١ و] ولأنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وقد حكى ابن عرفة الخلاف في المتشابه ما هو، قال: حكى الأصوليون خلافا هل يرد في القرآن ما لَا يفهم أم لَا؟ وقال بعض شراح الأصول: أما بالنسبة إلى الكلام القديم الأزلي فلا خلاف في امتناع ذلك فيه، وإنما الخلاف في الألفاظ المعبر بها عنه، بما قاله ابن عرفة: هذا تقسيم بمعنى مستوفى أم لَا؟ قيل له: مستوفى إلا على قول ابن مسعود: أن المحكم النَّاسخ والمتشابه المنسوخ، فبقى قسم ثالث وهو ما ليس بناسخ ولا منسوخ، وذلك أكثر القرآن.
ابن عرفة: بل نقول: إنه تقسيم غير مستوفى مطلقا، والأقسام ثلاثة: منها ما نص في معناه ولا يصح صرفه عنه بوجه، ومنها الظاهر والمحتمل، فالمحكم هو النص الذي لَا احتمال فيه، والمتشابه هي الألفاظ المحتملة التي تحتاج في ردها إلى الصواب لدليل عقلي وسمعي، وبقاء ما هو ظاهر في معناه.
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ).
دليل على العقل في القلب، قال الطيبي في كتابه المسمى بالبنيان في علم البيان: إن هذا من باب الجمع والتقسيم فقوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، جمع، ثم عقبه بقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)، وبقوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ) فهذا تقسيم وتفريق كأنه يقول، وأما الراسخون في العلم.
ابن عرفة: وأهل السنة يتبعون المتشابه له لفظ ظاهر، فأهل السنة يتبعونه قصد الصرفة إلى معناه من الصواب والمبتدعة يتبعون ظاهر لفظه، فإن قلت: عمر بن عبد العزيز، وأنظاره من المتقشفين الصلحاء، إنما اتبعوه ابتغاء للطاعة والثواب، فهل يكون هذا كلام الصيرورة، أي اتبعوه ليهتدوا فضلوا، قلت: أحكام القرآن على قسمين
348
تارة يراد بها نفس اللفظ، وتارة يراد مدلوله فمراد ابتغائه سبب الفتنة، أو مدلول الفتنة فهو إنما اتبعوه ابتغاء أمر كان سببا للفتنة؛ لأنهم قصدوا الفتنة.
قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).
ابن عرفة: كان بعضهم إنما ذكر الخلاف في الراسخين في العلم هل يعلم تأويله أم لَا؟ القول هذا يتبعني على الخلاف هل بين العلم القديم والحادث اشتراك جاء القول بعدم العطف.
قوله تعالى: (آمَنَّا بِهِ).
أي يقولون في أنفسهم؛ لأن من آمن بقلبه داخل في هذا.
قوله تعالى: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).
لفظ الرب هنا مناسب أي ورود المحكم فيه والمتشابه رحمة من الله بنا فنظر في الأدلة، وننظر بعقولنا فنخرجه من ظاهره الحقيقي إلى مجازه دفعا للحكم الباطل فيحصل له الأجر والمثوبة بذلك عند الله عز وجل.
قوله تعالى: ﴿لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا... (٨)﴾
قرئ (لَا تَزغ) بفتح التاء، و (قُلُوبَنَا) فاعل، أبو حيان مثل هو مثل لَا أرينك هاهنا إنما يقوله المعتزلة القائلون أن العبد يخلق أفعاله، فيقولون: كيف يطلب ترك ما ليس من فعله فيحتاجون أن يجعلوه، مثل: لَا أرينك هنا لاستحالة نهي الإنسان نفسه أي لَا يخلق لها أسباب الزيغ فيتبع قال أبو حيان: وإذ هنا اسم وليست بظرف؛ لأن الظرف لَا يضاف، فقال ابن عرفة: إن أراد أنها لَا تعرب ظرفا فنعم، وإن أراد أنها ليست بظرف لَا في اللفظ ولا في المعنى فغير صحيح بل معناها الظرفية، فإن قلت: لم أضيف الزيغ إلى القلوب والهداية لجميع الذات؟ فالجواب: أن الزيغ معنوي معلق بالذات؛ لأنه الأصل فإذا زاغ القلب زاغ الجميع والهداية قصدوا أن يخبروا بحصولها لجميع ذواتهم وحواسهم، وتقدم في الختمة الأخرى الجواب بوجهين:
الأول: إن الزيغ واقع بهم فأطلقوا أبعاده ونفيه عن العضو الأخص الذي هو سبب في عمومه في سائر البدن، والهداية في جميع البدن، فأخبروا بذلك رغبة في دوامها على ما هي عليه.
الجواب الثاني: إن الزيغ يحصل للقلب بأول وهلة، والهداية إنما تحصل له غالبا بعد تأمل، ونظر واستدلال فحصولها يشترك فيه القلب، والسمع، والبصر، وغيرهم.
قيل لابن عرفة: هل ينظر في الشبهة فيضل؟ فقد حصل الزيغ بالتأمل، فقال: لم ينظر ليضل، وإنما ينظر فيها ليهتدي فضل.
ابن عرفة: وهذا إن كان من قول الراسخين في العلم فهي هداية خاصة، وإن كان أمر لجميع النَّاس أن يقولوه فهي هداية عامة.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ (٩)﴾
ابن عرفة: كانت اللام للتقوية فظاهر، وإن كانت للتعليل فلا بد من مقدار أي جامع النَّاس لجزاء [١٧/ ٨٢] يوم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ (١٠)﴾.. ابن عطية: هم الدهرية المنكرون للبعث.
ابن عرفة: أو نصارى نجران، وهو المناسب؛ لأنه السبب في نزول الآية فالظاهر العموم، فإن قلت: وكذلك المؤمنون لَا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، قال تعالى: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، فالجواب: أن المؤمنين تنفعهم أموالهم بإنفاقه على العيال، وفي سبيل الله في الجهاد وفي الزكاة، وصدقه التطوع والولد الصالح يدعوا لأبيه بعد موته فينتفع بدعائه بخلاف الكافر، فإن قلت: تأكيده شيئا يقتضي العموم في القليل والكثير، مع أنه ورد في قصة أبي لهب: أنه خفف عنه العذاب ليلة الاثنين، ويومه لكونه أعتق الخادمة التي بشرته بولادة النبي ﷺ حينئذ، وكذلك أبو طالب أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أهون أهل النار عذابا، فالجواب: إما بأن قصة أبي لهب كانت رؤيا نومية رآها العباس فلا يحتج بها، وإما بأن التأكيد بقوله شيئا، وإن كانت نكرة في سياق النفي فهو عام في الأشخاص والعام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، فتقول: ما اقتضى إلا أن أموالهم وأولادهم لا ينقذونهم منه، ولا من يعصمه في وقت ما.
قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).
إن كان لفظ الذين عاما فالمضمر هنا للحصر، وإن كان خاصا فالمضمر للتأكيد فقط.
قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... (١١)﴾
ذكر أبو حيان: في الكاف عشرة أوجه، إما إنما خبر مبتدأ، أو مفعول بوقود أو نعتا لمصدر من لفظ (وَقُودُ) بل معناه أي عذابا: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أو منصوب بـ لن تغني، أو بفعل معناه أي بطل عملهم: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) ابن عرفة: وعادتهم يمثلون رد التشبيه للذات، كقولك: اشتريت أمة كأختي، فالتشبيه للذات إذ لَا يصح معه اشتراء أخته، ويمثلون رده للصفة، بقوله: اشتريت بعشرين كاشتراء الجارية المسماة خبران بالتشبيه هنا للنبي، فإن قلت: لم شبههم بآل فرعون دون غيرهم، قلت فأجاب: بعض الطلبة بأن آل فرعون أهلكوا هلاكا عاما مستأصلا لهم، ولم يهلك أحد من الأمم بعد نزول التوراة إهلاكا عاما مستأصلا بوجه، وأما قبلها فهلك قوم نوح بالغرق، وقوم [هود*] بالريح، وقوم لوط بالخسف، فاستحسنه ابن عرفة وقال: إن هذا السؤال وجوابه سمعته من القاضي أبي العباس ابن حيدرة في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ).
قوله تعالى: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
المراد بالآيات المعجزات أو الدلائل العقلية؛ لأن العقل يقتضي أن لهذه المخلوقات خلقا يستحيل عليه التعدد، قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل، أو المفعول، فرده ابن عرفة: بأن فعله غير متعد فلا يصح إضافته إلى المفعول.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ (١٢)﴾
قال الزمخشري: هم مشركوا مكة.
ابن عرفة: هذه [... ] إخبار لما سيقع وظاهره أنه قبل وقعة بدر.
قيل لابن عرفة: كيف يفهم، قوله بعدها: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا) فدل على أنه متقدم، فقال: لعل الآية نزلت قبل هذه، وهي بعدها في التلاوة، وقيل: هم اليهود وأن هذا كان بعد وقعة بدر، وقرئ (سَتُغْلَبُونَ) بتاء الخطاب، وبالغيبة.
351
قال ابن عرفة: من قرأ بتاء الخطاب فمعناه قل للكفار جميعا ستغلبون.
ابن عرفة: واللام للتعدية ومن قرأها بالياء، فمعناه قل لهؤلاء اليهود سنغلب نحن قريتنا، أو قل لهم كلاما هذا معناه.
ابن عرفة: واللام على هذا إما للتعدية أو للتعليل، أي قل لليهود لأجل الذين كفروا ستغلبون.
ابن عرفة: وقال بعضهم من قرأها بياء الغيبة راعى حال المرسل فهم غائبون عنه في الظاهر، ومن قرأها بتاء الخطاب راعى حال الرسول فهم بين يديه.
ابن عرفة: أو يقال هل أمر بتغليب المعنى أو اللفظ، قلت: وقريبا منه الزمخشري: قيل لابن عرفة: لَا خلاف في إنا متعبدون بألفاظ القرآن، ولا يجوز تبديلها بغيرها، فقال: هذا بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الكفار فلا.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون فيها سؤالا وهو ما الحكمة في إتيان الفعل مبنيا للمفعول مع أن الأولى هنا ذكر الفاعل لاسيما مع ما ذكر ابن عطية، وغيره: من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما غلب قريشا ببدر، قالت: اليهود هذا هو النبي الذي في كتابنا الذي لَا يهزم له راية فلما كانت وقعة أُحد كفروا جميعهم، وقالوا ليس بالنبي المنصور، فكان الأولى أن يذكر فاعل الغلبة؛ لأنهم نعم يقولون: غلبنا غيرك، فهو النبي الحقيقي لَا أنت.
قال ابن عرفة: وعادة بعضهم يجيب بأن هذا تشبيه على ذم الدعوى، وتنفير منها على جهة التعليم للقياس، وإنه لَا ينبغي لأحد أن يدعي شيئا، وتلا قوله تعالى: في سورة النمل، (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). قال ابن الخطيب: وفي الآية حجة لجواز تكليف ما لَا يطاق؛ لأنهم خوطبوا بأنهم مغلوبون معذبون ومع هذا مكلفون بالإيمان، فقال ابن عرفة: قد تقدم نظيره في قضية أبي لهب، وتقدم الجواب عنه.
قيل لابن عرفة: ما ذاك يغني ومأمور بأن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إيمانا جمليا من غير تفصيل فهذا أشد لكونه أمر بأن يقول لهم هذه المقالة ويدعوهم إلى الإيمان إلا أن يجاب بأن المراد ستغلون إن دمتم على دينكم أن وصف
352
الكفر يغني عنه إذا لم يعين فيها شخص منهم بخصوص فهمها أسلم منهم أحد لم يكن من الذين كفروا.
قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ... (١٣)﴾
قال ابن عرفة: فيها سؤال، وهو لم عبر في الأولى بالفعل وفي الجملة الثانية بالاسم، وهلا قيل فيه: مقاتلة في سبيل الله وأخرى كافرة، أو يقال فيه: تقاتل في سبيل الله وأخرى تكفر؟ والجواب: إما بأن القتال أمر فعلي فهو متحدد فلذلك عبر بالفعل، والكفر أمر اعتقادي قلبي فهو ثابت فناسب التعبير عنه بالاسم، وإما بأن الآية حذف التقابل أي [فئة*] مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت.
قوله تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ).
فيها أوجه:
أحدها: يروا المشركين مثلي المشركين رأي العين، وقد يشكل لمخالفته سورة الأنفال، لأن فيها: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا) وأجاب الزمخشري: بأن المشركين يرون المسلمين قبل القتال قليلين [فيجترءون ويحرصون*] على قتالهم، ثم يرونهم حين القتال كثيرين، [فينالهم*] الخوف والرعب الموجب لقتلهم وانهزامهم.
ابن عرفة: ويجيء هنا عكسه، وهو أن المسلمين يرون المشركين قبل القتال مثلهم ابتلاء من الله لهم، فإذا شرعوا في القتال يرونهم قليلين يذهب روعهم وخوفهم.
ابن عرفة: وهذه الرؤية [تغلط*] البصر، فيرى القليل كثيرا، والكثير قليلا، وإما بأن الله يخلق هناك ما مثل المشركين [أو يقلل بعض المشركين في أعين المؤمنين].
ابن عرفة: فعلى هذا أنه يكون من غلط البصر يكون المصدر، من قوله تعالى: (رَأْيَ الْعَينِ) [ترشيحا*] للمجاز، كقول الشاعر:
بكى الحر من روح وأنكر جلده... وعجت عجيجا من جذام المطارف
وعلى أنها رؤيا حقيقة للناس [يقللهم*] الله تعالى هنالك يكون [... ] حقيقة، قال: وهذه الرواية إن كانت عليه فيكون رأي العين تأكيدا، مثل: ضربت ضربا.
الثاني: أن المراد يرون المشركين، مثل: المؤمنين على ما قدر عليهم من وقوف الواحد [منهم*] للاثنين، في قوله تعالى: (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ) قال الزمخشري: ولذلك وصف ضعفهم بالقلة؛ لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف، فكان الكافرون ثلاثة أمثالهم.
ابن عرفة: وصفه بالقلة في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ).
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ).
قرئ بتسهيل الهمزة، قال أبو حيان: يجوز تسهيلها، قال بعضهم: لأن تسهيلها قريب من السكون فيلتقي ساكنا، فرده ابن عرفة لقوله تعالى: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) مع أنه يلتقي في أنذرتهم ثلاثة سواكن.
قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ (١٤)﴾
ابن عرفة: مناسبتها لما قبلها إن الآية المتقدمة اقتضت الحصر على الجهاد، ومدح المتصف به ومن خالف نفسه وشهوته [البهيمية*].
قال ابن عطية: قيل المزين هو الله تعالى، وقيل الشيطان.
ابن عرفة: فعلى الأول هو تزيين خلق وابتداع، وعلى الثاني تزيين بوجه فهو كقول الشاهد للقاضي أؤدي شهادتي ولا نقول أديته.
قوله تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ (٤٥)﴾
أبو حيان والفخر: (مِن) لابتداء الغاية.
ابن عرفة: الصواب أنها للسبب ولا إضمار في الآية، أو للتبعيض على أمر مضاف أي بكلمات، أي من كلماته.
قوله تعالى: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).
دليل على أن الاسم غير المسمى، الزمخشري: وعبر عنها بأنها اسمه مع أن الاسم منها عيسى، وأما المسيح فلقب له، فإنما كان ذلك لاشتراكها في التمييز.
ابن عرفة: فهو من استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، أو من استعماله في القدر المشترك، وهو مطلق التمييز.
قوله تعالى: (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).
أبو حيان: التضعيف للتعدية وليس للمبالغة.
ابن عرفة: وذكر غيره أن التضعيف يكون للأمرين في حالة واحدة وأن ذلك غير ممتنع، فأفاد المبالغة من التضعيف، ومن التعريف مع حرف الجر مثل (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ).
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ (٤٧)﴾
الزمخشري: الخطاب لله تعالى، ومن [بدع*] التفاسير أنه لجبريل.
ابن عرفة: والصواب أنه لجبريل على حذف مضاف، أي يا رسول [ربي*].
ابن عرفة: وفي الآية سؤالان:
الأول: كيف استبعدت ولادتها فعللت ذلك بمسبب البشر لها، وهي لَا تدري ما يكون من أمرها، وعادتهم يجيبون بوجهين، أنها منذورة محررة للمسجد، والمنذور المحرر للمسجد لَا يتزوج ولا يولد له.
الثاني: أنها بشرت بالمسيح عيسى ابن مريم منسوب إلى أمه دون النسبة إلى الأب، فلذلك استبعدت الولادة، وعللته بعدم مس البشر إياها.
السؤال الثاني: هلا قالت: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فتعلق النفي بالمستقبل، فإنها بشرت بولد يزداد لها في المستقبل فكيف تعلل استبعادها ذلك بنفي المس عنها فيما مضي؟ قال: وجوابه عندي بأنه، كقوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) فالنفي، وذلك في الموتة الأولى تنبيها على عمومه؛ لأنها انتفاء ذواقها لهم في الجنة أي لَا يذوقون غيرها فيها كما لَا يذوقونها هي فيها، وكذلك هنا أي كما علمتم عدم مس البشر لي فيما مضى فكذلك في المستقبل.
ابن عرفة: وفي سورة مريم: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) وهو دليل على أنها أرادت بالمس الوطء الحلال.
قوله تعالى: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).
وفي قصة زكريا: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ)؟ فأجاب ابن عطية: بأن أمر زكريا حاصل في الإمكان الذي يعتد وإن قل، وقصة مريم لَا تتقارب ألبتَّة، لأن زيادة الولد بين الرجل وامرأة معهود، وإن كانا شيخين، بخلاف زيادته بغير رجل ليس من جنس مقدور البشر بوجه، فعبر عنها بالخلق الذي هو خاص بالله، إذ لَا يقال: فلان يخلق كذا بوجه.
قوله تعالى: (إِذَا قَضَى أَمْرًا).
ابن عرفة: أي قدره، والظاهر أن المعنى إذا أراد في الأزل أمرا أبرزه بقوله: (كُنْ) قيل لابن عطية: هل يوجد أن الأمر تابع للإرادة؟ فقال: هذا إلا بقوله (مَسَّنِيَ).
ابن عرفة: والآية على صحة خطاب المعدوم، والمعتزلة ينكرونها وينكرون الكلام القديم، ويردونه هنا إلى سرعة التكوين، ونحن نثبته.
ابن عرفة: فإن قلت: لم قال زكريا: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ولم تقل مريم كذلك مع أن العكس كان يكون أولى؛ لأن وجود الولادة من مريم أغرب وأعجب من وجودها من زكريا؟ قال والجواب: إن زكريا دعا بذلك، وتكرر طلبه فطلب الآية ليشكر الله على إسعافه له بالمطلوب، ومريم لم يقع منها طلب لذلك بل بُشِّرت بذلك عفوا.
قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (٤٨)﴾
أي يصيره عالما بذلك.
ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: [ويَعْلَمُ الكتابَ*]؛ لأن هذا من باب الإعلام لَا من باب التعليم، والإعلام عام يقول: أعلم زيد عمروا مقيما، أي صيره عالما بذلك، والتعليم خاص، قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) فلأي شيء أطلق على الأنبياء، وجعل خاصا بهم دون العلم؟ قال: والجواب بوجهين:
أحدهما: أن ذلك تشريف له واعتناء به؛ لأن [الإقبال بالتعليم للشخص*] اعتناء به].
والثاني: أن هذا من باب العلم التكميلي؛ لأن العلوم الضرورية لَا يحتاج فيها الإنسان إلى تعليم، فلو قيل: [(ويَعْلَمُ) *] دخل فيه الضروري فيكون تحصيل الحاصل.
ابن عرفة: وكان الشيوخ مختلفون في [... ] هل يشتركان في شيء أم لَا؟ فمنهم من كان يمنع اشتراكهما مطلقا إذ لو اشتركا في أمر لجاز ارتفاعه، وإذا جاز ارتفاعه جاز ارتفاعهما، فيلزم عليه ارتفاع النقيضين، وهذا باطل، وكان ابن الحباب يجيز اشتراكهما بقولهم في حد التناقص، أنه اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب فهما مشتركتان في مطلق الاختلاف.
ابن عرفة: من راعي الأمور الوجودية منع اشتراكهما، ومن راعى الأمور الاعتبارية [جوز*] اشتراكهما، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية مع قوله تعالى: في سورة الأعراف: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) على جواز اشتراك النقيضين في أمر ما، قال: لأن الإخبار عن عيسى عليه الصلاة والسلام بآية علم الكتاب، والحكمة، والتوراة [إخبار*] بوصف كمال، يدل على أن معرفة الكتابة في الشخص من صفات الكمال، ووصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكونه أميا لَا يقرأ ولا يكتب كمال في حقه، والكتابة نقيض لَا كتابة، فقد اشترك النقيضان في أن كلاهما وصف كمال.
قال ابن عرفة: والجواب أن يقول الممتنع اشتراك النقيضين في الوصف العقلي، وهذا وصف جعلي شرعي، فإنه يلزم من اشتراكهما الوصف العقلي.
قيل لابن عرفة: النقيضان مشتركان في أن كلاهما معنى، أو كلاهما ذات فقال: تلك أمور اعتبارية لَا وجودية.
قوله تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (٤٩)﴾
قال تعالى: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ).
والنصارى من ذرية إسماعيل، سموا نصارى؛ لكونهم نصروا عيسى عليه السلام، يدخل فيهم بنوا إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
قال ابن عرفة: أعلن أن دعوى المدعي لَا بد من اقترانها بالدليل الدال على صحتها، هكذا اقتضى الشرع والعقل، أما الشرع فلقوله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، "لو أعطي النَّاس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم"، وأما العقل فلأن
357
قبول دعوى المدعي على خصمه من غير دليل ترجيح من غير مرجح، وهو باطل وإعمال الدعوتين جمع بين النقيضين وإبطالهما يرد إلى الإهمال والتعطيل، فلذلك ترد دعواه الرسالة بالآية فظاهر كلام ابن التلمساني شارح المعالم الدينية: إن الأمر الخارق للعادة ما يسمى آية إلا إذا كان معه التحدي كذا نقل عنه بعض الطلبة.
وقال ابن عرفة: بل الآية أعم كان معها التحدي حسا أو حكما فهي معجزة.
قوله تعالى: (أَنِّي أَخْلُقُ)،
أي أقدر.
قال الشاعر:
[ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري*]
ابن عرفة: معناه تقدر مثلا أنك تقدر عشرة، وتصدق ذلك بالفعل وبعض القوم يقدر شيئا ثم لايستطيع أن يفعله.
قوله تعالى: (فَأَنْفُخُ فِيهِ).
قال الفخر: احتج بها من يقول: إن الروح جسم لطيف؛ لأن النفخ إنما هو بالجسم.
ورده ابن عرفة بأن عيسى لَا ينفخ الروح.
قوله تعالى: (بِإِذْنِ اللَّهِ).
أي بقدره، وقال ابن عطية: يعلمه أي يعلمه أفعل ذلك، وتمكينه إياي.
ابن عرفة: لولا قوله: وتمكينه لكان كلاما خلقا لإبقاء مذهب المعتزلة، والمراد بالتمكين إقداره إياه على فعله؛ لأن التمكين هو القدرة على الفعل، ولذلك قال تأمل قوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) مع قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "البكر تستأمر وأذنها صماتها" فناقض بين الآية والحديث؛ لأن معنى الآية فهزموهم بقدرة الله، ومعنى الحديث الإخبار بعجز البكر عن التصرف في أمرها، وعلى العقد على نفسها؛ لأن الإذن فيهما مختلف.
ابن عرفة: وإنما قال: (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطينِ كَهَيْئَةِ) ولم يقل فيه: (بِإِذنِ اللَّهِ)؛ لأن ذلك لَا يمكن البشر فعله عادة فالفخارون والشماعون يصنعون مثل ذلك، وكذلك: (وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ) ولم يقل فيه (بِإِذْنِ اللَّهِ) لأنه ممكن من غير
358
عادة، بخلاف نفخ الروح وإحياء الموتى، فلذلك أسنده إلى قدرة الله تعالى، وإن كان الجميع بقدرته جل وعز، ولما كان في سورة العقود في معرض تعداد النعم، والامتنان من الله تعالى على عيسى ناسب تقييد الجمع فيها، بقوله: (بِإِذنِي) زاد [ابن الزبير*] أن في آية المائدة إشارة إلى توبيخ النصارى في زعمهم (إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، وأن عيسى ابن الله إلى غير ذلك، كما [يقول: أحدنا لغيره ألم أفعل لك كذا ألم أعطك كذا ويعدد عليه نعما ثم يقول: أفعل لك ذلك غيرى؟ *]، فإذا اعترف به العبد انقطعت حجة من ظن خلافه، فأعلم الله أن تلك الأمور بإذنه، وكرر ذلك تأكيد الدفع توهم حول، أو قوة لغير الله، قال: وآية آل عمران إنما هي بشارة لمريم، وإعلام بما منح ابنها عيسى فقط، فلذلك كرر لفظه: (بِإِذنِي) المائدة أربع مرات، وهنا مرتين.
قوله تعالى: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ).
احتج بها ابن رشد على إبطال الحكم بعلم المنجمين؛ لأنه قال في كتابه الجامع الرابع من بيانه: إن المنجم [... ] (١) الكل على أنه مصدق لها بالقول، وهو مشكل؛ لأن غيره من بني إسرائيل [مصدق لها موقن بها*].
ابن عرفة: والصواب عندي أنه مصدق لها بالفعل، ونظيره أن يخبرك إنسان بأن الأمير يدخل هذا راكبا على فرسه معمما بعمامته ملتحفا بردائه به، فيدخل هذا على تلك الصفة بالأمير مصدق لذلك الإنسان بالفعل، وكذلك بالتوراة تضمنت أنه يأتي بعدها رسول من عند الله اسمه عيسى تكون معجزاته إحياء الموتى، وإبراء الأكمة، والأبرص، والإخبار بالمغيبات، والحوادث، فيجيئه على هذه الصفة المقتضية لتصديقه لما في التوراة معجزة، وآية من جملة الآيات.
ابن عرفة: والصدق والتصديق بينهما عموم وخصوص من وجوه دون وجوه فقد يكون الكلام في نفس الأمر صدقا ولا مصدق له وقد يصدق به وهو كذب، فإن التصديق هنا بالفعل بحرف الجر، في قوله: (مِنَ التَّوْرَاةِ) للتبعيض، وإن كان من القول هو لبيان الجنس لأنه صدق جميع التوراة.
ابن عرفة: والتصديق لما تضمنه التوراة من الإخبار.
وقوله: (وَلأُحِلَّ لَكُم (٥٠)
(١) النص في البيان والتحصيل هكذا:
"وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "من صدق كاهناً أو منجماً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل الله على قلب محمد"، ويمكن أن يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك ويجعله على صدقه دليلاً فيما يقول، كما لا ينبغي أن يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين فيما يزعمون من إنهم إنما يعالجون بالقرآن، فلا يعلم الأمور الغائبة على وجوهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب أو من اطلع عليها علام الغيوب من الأنبياء ليكون ذلك دليلاً على صحة نبوته، قال الله عز وجل في كتابه حاكياً عن عيسى ابن مريم - ﷺ -: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) فادعاء معرفة ذلك والإخبار به على الوجه الذي يعرف ذلك الأنبياء ويخبر به تكذيباً لدلالتهم" اهـ.
359
راجع لما فيها من الطلب والتكاليف بالأوامر والنواهي، لأن التصديق والتكذيب إنما هو من خواص الخبر، فقد قيل لابن عطية: أو يكون مصدقا لجميعها، أو يكون قوله: (وَلأُحِلَّ لَكُم) دليل على أن ذلك بالفعل لئلا يكون ذلك نسخا وهو بيان انتهاء أحد الحكم واليهود ينكرونه لئلا يلزم عليه البداء وهو باطل.
أو هو قوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) دليل على التصديق بالفعل؛ لأن المجيء فعلي قالوا: وبعض هنا عند أبي عبيدة بمعنى كل وهو مردود من وجوه:
أحدها: تفريق المبالغة بين القضية الكلية بأن سورها كل، والجزئية سورها بعض، أو ليس بعض الإنسان إنسانا أحل لهم ما حرم عليهم، ابن عطية: قال ابن جريج: قال: [أحل*] لهم لحوم الإبل والشحوم، زاد الربيع وأشياء من السمك وما لا مخلب له من الطير وكانت في التوراة محرمة، ابن عطية: أي مما لَا مخلب له من الطير.
قوله تعالى: (وَلأُحِلَّ لَكم).
قال الزمخشري: رد على قوله: (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) جاز ويجوز أن يكون، ومصدقا أيضا مردودا عليه، ورده أبو حيان بأن (بِآيَةٍ) في موضع الحال، (وَلأُحِلَّ) تعليل ولا يصح التعليل على الحال، كان العطف بالحرف المشترك في الحكم موجب التشريك في جنس المعطوف عليه، بأن عطف على مصدر متوهم، أو مفعول به، أو ظرف، أو حال، أو تعليل، أو غير ذلك مشاركة بنفي ذلك المعطوف، وابن عرفة: لما ذكر ابن بشير الخلاف هل هو حدث، أو سبب الحدث؟ قال: احتج من قال أنه حدث بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عد موجبات الوضوء ذكر فيها النوم، وعطفه على البول، والغائط، واختلف الأصوليون في العطف هل يفيد التشريك في المعنى كما يفيده في الإعراب أو لا.
ابن عرفة: فمنهم من أنكر الخلاف؛ لأن العطف بالواو، وأجيب: بأن هذا الخلاف فيما إذا قيدا أحد المعطوفين بوصف، أو حكم من الأحكام هل يقتضي العطف تقييد الآخر به أم لَا؟ ابن عرفة: أنه يلزم إذا قلت: قام زيد العدل وعمرو أن يكون عمرو متصفا بالعدالة وهو مراد أبو حيان: وهو ضعيف.
قوله تعالى: (مِنْ رَبِّكُمْ)).
أضاف الرب إليهم؛ لأنه في مقام تكرير النعمة عليهم ليستألفهم للإيمان.
360
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ).
ابن عرفة: عطفه بالفاء المقتضية للتعقيب يدل على حصول [العلم*] بالنتيجة من المقدمتين عقلي إذ لو كان [عاديا لجاز فيه التراخي*]، فقال ابن عرفة: إنما هذا علم ملازم للنتيجة؛ لأن التقوى تقوى العمل الصالح مع الإيمان، ولم [... ] عن الأطباء قولهم: المحسوسة، ونقله القرافي في شرح المحصول، عن ابن الخشاب.
ابن عرفة: إن كانت (حسَّ) متعدية بحرف الجر، فيرد التعقيب بقوله تعالى: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ).
قرأها علي بن أبي طالب: تحس من حس فهو متعد بنفسه، لأن من في [مِنْ أَحَدٍ*] زائدة، وأنشد صاحب الجمل [لزبيد*] الطائي.
[خَلا أنّ الْعِتَاقَ من المَطَايَا أَحْسَن بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ*]
قوله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ (٥٢)﴾
(إِلَى) لانتهاء الغاية، أي من ينصرني نصرة تنتهي إلى نصرة الله إياي، ونصرة الخلق له بالمقاتلة والمجاهدة، ونصر الله بإظهار الحجج والمعجزات على يديه، وقول الحواريين: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) مما يصحح هذا التأويل.
قوله تعالى: (آمَنَّا بِاللَّهِ).
أن متقدمان على قولهم: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)، فهو ابتداء، وإن كان بعد فهو خبر.
قوله تعالى: (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
وقال في سورة العقود: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ).
قال ابن عرفة: فالجواب إيمان بعد أمر الله لهم به مباشرة، وجواب التكليف الواقع عن الله المناسب أن يكون أبلغ من جواب التكليف الصادر عن غيره.
الثاني: أن الوحي لهم ليس هو كالوحي المرسل، وإنما هو إلهام ففيه غرابة وإعجاب فناسب المبالغة في الإخبار بحصول الإيمان.
قيل لابن عرفة: هل تدل على أن الإسلام والإيمان مترادفان، قال: لعل المراد به هنا الانقياد.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ (٥٣)﴾
ليس بتكرار بل الأول إيمان اعتقاد، والثاني: إيمان بالفروع والشرائع.
قوله تعالى: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
تقتضي تبعيتهم للشاهدين وهم أشرف منهم لكن ذلك على جهة التواضع منهم.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤)﴾
إن أريد في الحقيقة فهي فعل لَا أفعل، وإن أريد مجرد الإطلاق اللفظي المجازي فهي أفعل من.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى... (٥٥)﴾
اختلفوا في العامل في إذ، فقيل: (اذْكُر)، وقيل: (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، واستبعد ابن عرفة فيها ما قبلها، واستبعد الياء لئلا يلزم عليه المفهوم، إلا إن يجاب بالمفهوم منفي بالدليل العقلي، والظاهر أن العامل فيها (وَمَكَرَ اللَّهُ).
قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ).
التأكيد في مقام التشريف، يريد المخاطب تشريفا، وذكر الزمخشري: في (مُتَوَفِّيكَ) أربع تأويلات، فقال: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أجلك وعاصمك من أن يقتتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك.
قال ابن عرفة: وهذا بين على مذهبه لأنهم يقولون: إن المقتول له أجلان فلم يستوف أجله وممكن فهمه على مذهبنا.
قوله تعالى: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ).
قيل: هم الحواريون، فالمراد اتبعوك من حيث كونك متبوعا فقط، وقيل: المراد المسلمون وهم أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمراد اتبعوك من حيث كونك تابعا ومتبوعا، فالمتأخرون من المسلمين الكائنين حين نزوله اتبعوه من هذه الحيثية هنا، والمتقدمون منهم اتبعوه من هذه الحيثية حكما، ومطهرك من أقوالهم السيئة، وأفعالهم الخبيثة، ومجاورتهم ومخالطتهم.
ابن عرفة: قال ابن زيد: الذين اتبعوه النصارى، والذين كفروا، أي جاعل النصارى فوق اليهود.
ابن عرفة: إنما المراد بالنصارى الحواريون فقط، وأما هؤلاء النصارى فغير داخلين في الآية لأنهم لم يتبعوه، ولو اتبعوه لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، نعم فوق الحديث الصحيح "من أن الله سيذل اليهود ويجعل كل ملة فوقهم" وقد ظهر ذلك ولله الحمد وهو أحد المعجزات الدالة على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
قال أبو حيان: إلى متعلق بالعامل في فوق، وهو على فوق فاعل جاعل على أن الفوقية مجاز فإن كانت حقيقته وهي الفوقية بالجنة، فالعامل فيه متوفيك، أو رافعك، أو مطهرك.
قيل لابن عرفة: كيف يعمل فيه جاعل، وهو عامل في (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، والمجرور بمعنى واحد، فأجاب باختلافهما الأول: [... ]
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ... (٥٦)﴾
هذا من الإتيان في البيان المطلوب، وزيادة كما فى حديث الموطأ: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، لأن قبل الآية: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فاقتضى الاحتمال بعقابهم في الدار الآخرة ثم بين كيفية عذابهم فيها، وزاد مع ذلك عقابهم في الدنيا.
قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).
يحتمل الرجوع لأمر في؛ لأن عذاب الدنيا هو الذي يتوهم أن لهم فيه ناصر لعلمهم منه، فأفاد التسوية إن كانوا يعلمون أو لَا ناصر لهم في الآخرة، فكذلك في الدنيا وعذابهم الشديد فيها بالذلة، والصغار إلى آخر الدهر، فما من يهودي في قطر من الأقطار إلا وهو [أذل أهل ذلك القطر*]، وأحقرهم، قال: وتولى الله عذابهم بنفسه تشريفا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتشديدا عليهم في العذاب. زيادة
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ (٥٧)﴾
إن قلت: لم أتى أعذبهم بهمزة المتكلم ونوفيهم بنون العظمة، فأجيب بوجهين: إما الإشارة إلى عظم إلى ما يقال في المؤمنين من الأجر والثواب، فناسب بنون العظمة، لأن العظيم لَا يثبت على فعل الجميل إلا بعظيم، وإما لأن المؤمنين عظموا الله حق تعظيمه وامتثلوا أمره ونواهيه، فخاطبهم بنون العظمة الدالة على تعظيم ما عظموه بخلاف الفريق الآخر.
قال ابن عرفة: وهذا عندي تقسيم مستوفى؛ لأن النَّاس على ثلاثة أقسام: كافر، ومؤمن طائع، ومؤمن عاص.
فقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
عبارة عن المؤمن العاصي، قال الفخر: واحتج بها المعتزلة أن لَا يحب الشر، ولا يريده، فرده ابن عرفة بوجهين:
الأول: أنه ليس المعنى والله لَا يريد الظالمين فهو ذم لهم، مثل: لَا حبذا زيد، وما يلزم من ذمهم على الظلم إن الله لم يرد ذلك منهم.
والوجه الثاني: أن المستدل بها لابد أن يضمر فيها مضافا تقديره: والله لَا يحب ظلم الظالمين، وليس هذا بأولى من أن يقول التقدير: والله لَا يحب ثواب الظالمين.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ... (٥٨)﴾
يتعارض فيها المجاز والإضمار؛ لأن الإشارة إلى الآيات المتقدمات، وقد كانت تليت عليه حين نزول هذه الآية، فإما أن يكون نتلوه مضارعا عبر عنه في الماضي فهو مجاز أو يكون مستقبلا حقيقة، والمعنى مثل ذلك نقلها عليك فيكون فيه إضمار.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (٥٩)﴾.. الزمخشري: إن شأن عيسى وحاله كشأن آدم خلقه وخالقه، ابن عطية: وقال إن صفة عيسى كصفة آدم، واختاره، ابن عطية: إن المراد أن المتصور من عيسى في الذهن كالمتصور من آدم، وابن عرفة: فجعله بمنزلة الجمعة للمقدمتين أي: إن مثل عيسى في نفس الأمر الحق اليقين الذي يخالفون فيه كمثل آدم، ابن عطية: والمثل والمقال واحد.
ابن عرفة: وتقدم الإشكال في قوله: (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ) فمنهم من قال: الكاف زائدة لئلا يلزم عليه إثبات المثل لله عز وجل، وتقدم الجواب، بأن ثبوته يؤدي إلى نفسه؛ لأنه إذا تقرر أنه ليس مثله مثل ينتفي المماثل؛ لأن مثل المثل، إما الذات
المكرمة فينتفي الذات، أو مثلها، فلا يكون لها مثل وهو المطلوب، وأورد بعضهم سؤالا، قال: إن قلت: هلا قيل: إن عيسى عند الله كآدم؟ فهو أخص، وأجاب: بأنه لو قيل كذلك لصدق التشبيه في الأمور العرضية فقط، ولم يتناول صفات النفس كلها، فلما جعل المماثل لعيسى كالمماثل لآدم كانت المماثلة بين عيسى وآدم في الأمور الذاتية؛ لأن قوله: مثل زيد مماثل لمثل عمرو، أبلغ من قولك: زيد كعمرو، والزمخشري، قال بعضهم للروم: لم تعبدون عيسى، فقالوا لأنه لَا أب له فقال: آدم أولى؛ لأنه لَا أبوين له فقالوا: كان يحيي الموتى، فقال: فحزقيل أولى أولا؛ لأنه أحيا ثمانية آلاف، وأحيا عيسى أربعة نفر، فقال كان يبرئ الأكمه والأبرص، قال: فجرجيس أولا؛ لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالما.
ابن عرفة: فعجزوا عن الجواب من عبادتهم وإلا فكان يقولون أنهم عبدة للمجموع.
قوله تعالى: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
ابن عطية: قال أبو علي الفارسي: هذا القول مجاز مثل: امتلأ الحوض.
وقال ابن عرفة: هذا اعتزال؛ لأن المعتزلة ينفون كلام النفس القديم الأزلي ويردونه إلى سرعة التكوين فقط، الزمخشري: أي [أنشأه بشرا*]، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) أي أنشأناه من طين، ثم قال له: كن لحما، ودما، وعظما، وركب فيه الروح.
قيل لابن عرفة: قد يحتج بهذا من يقول مجرور الكلام؛ لأن الفاء للتعقيب فهو تعقيب، إن قال له: كن كان، فقال ابن عرفة: الكلام قديم وسماعه حادث، أعني إظهاره للملائكة وغيرهم.
قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ... (٦٠)﴾
قال الزمخشري: أي هو الحق.
ابن عرفة: الصواب هذا الحق، أي هذا المذكور كله الحق من ربك، وأما قوله: (هُوَ) إنما يتناول في نفس الأمر، وقاله ابن عطية: فإن قلت: هلا قيل: فلا تكن ممتريا، أو فلا تمتر فهو أبلغ، الجواب: كالجواب في قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ
بِظَلام لِلعَبيدِ) أي لم قدر وقوع الامتراء العظيم، أو أن قيل: لما تصور إلا عظيما.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ... (٦١)﴾
قال ابن عرفة: تقدم الفرق بين فاعل وتفاعل؛ لأن المرفوع في فاعل هو البادئ بالمفاعلة بخلاف تفاعل فإنها محتملة، وتقدم الرد على ذلك، بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) مع أن إبراهيم هو البادئ بالمحاجة.
قال ابن عرفة: وإذا بنينا على ما قال ابن عطية: في قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) وأنه قياس تمثيلي مع ما ذكر إمام الحرمين في الإرشاد من أن قياس الغالب على الشاهد بالجوامع الأربعة محصل العلم.
وقال الفخر في المحصول إنه محصل علما، وكذا قال في المقترح، وكذا في البرهان، وانظره ابن التلمساني في المسألة الثانية من كتاب القياس فيؤخذ من هذه الآية محل للعلم، لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
قوله تعالى: (فَقُلْ تَعَالَوْا).
ابن عطية: تعالوا كلمة قصد بها تحسين الأدب مع المدعي ثم اطردت حتى بقولها: الإنسان لعدوه ولبهيمته.
ابن عرفة: ليس كذلك إنما بقولها لمن هو صاعد مرتفع لموضع علل عليه، ثم استعملت في نداء من تريد تعظيمه، وأما العدو فلا يقال له: تعالى إلا مجازا، كما في قوله تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ)، فجعل هنالك النفس آكد من البنين، والزوجات، وتقدم الجواب بأن ذلك حيث لَا يتحقق الإنسان أنه يموت فإنه يفتدي من العذاب بابنه وزوجته وتقدمهما في ذلك على نفسه؛ لأنه طامع في الحياة، وأما إذا تحقق أنه لابد له من الموت مقتولا فإنه يبادر بنفسه قبل ولده، وزوجته ليكون أسهل عليه حيث يقاسي مرارة القتل فقط، فقال: وإذا قدم عليه ابنته، وزوجته فيقاسي أمرين، أول مشاهدته لقتلها، ثم الثاني: قتله بعدهما، والمباهلة تقتضي الهلاك بلا شك فلذلك بدأ بالبنين؛ لأنهم أشد حسرة حيث يهلك بنوه، ثم زوجاتهم، وهم ينظرون إليهم كيف صاروا قردة، وخنازير، ثم يهلكوهم أخيرا، وأما تلك فهي في
المفاداة من العذاب والسلامة منه، ولا شك أن الإنسان إذا علم أنه يعيش، فإنه يفتدي من العذاب ببنيه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ... (٦٢)﴾
قال النحويون ضمير الفعل الفصل يؤتى به للتأكيد، وقال الطيبي في تبيان بيانه: يؤتى التخصيص المسند بالمسند إليه، أو العكس، واختلفوا في القصص، والخبر، فقيل: هما بمعنى واحد، ومنهم من جعل القصص أخص من الخبر، وفرق بينهما بوجهين:
الأول: أن القصص إنما يصدق على كلام يشتمل على جملة تابعة بجملة أخرى فما يصدق إلا على جملتين فأكثر والخبر يصدق على ذلك وعلى الجملة الواحدة.
الثاني: أن الخبر هو الإعلام بمعنى القضية فقط، والقصص هو الإعلام بمعناها مع المحافظة على حكايته بألفاظه وبعضها أو العوارض والأوصاف الواقعة في تلك القضية، قال أبو حيان: والإشارة للقرآن.
ابن عرفة: أي هذا قص عليكم قصصا حقا، ويحتمل عندي أن الإشارة إلى قضية المباهلة المتقدمة بمعنى أن الله وعد بحفظها، وعدم المخالفة فيها فأنت تقصها إلى آخر الدهر من غير منازع عنها، ولا نكير.
قوله تعالى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ).
قال ابن عطية: من لتأكيد استغراق الجنس.
قيل لابن عرفة: إنما ذلك في مثل ما جاءني من أحد، فقال: اختلفوا في النكرة في سياق النفي هل يعم أم لا؟ فكلام ابن عطية بناء على أنها تعم، وقول أبو حيان: لا لاستغراق الجنس بناء على أنها لَا تعم، واحتج بهذه من قال: أن الاستثناء من النفي نفي صريح، وإنَّمَا يقول: لنفي يحتمل النفي والإثبات، فإذا اقترنت به قرينة عينية لأحد المحتملات، وهنا القرينة تعين المراد به الإثبات.
قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ابن عرفة: مناسبة هاتين الصفتين؛ لأنه لما تضمن الكلام السابق توحيد الله، وما اتصف به من صفات الكمال، فيقول القائل: فلم وجدنا بعض النَّاس مشركين كفارا عبدوا عيسى وعزيرا، فقال: لأنا نصفه بالعزة والعزيز ممتنع لَا يصل إلى إدراك عظمته
رجلا له كل إنسان وهو أيضا حكيم يضع الأشياء في محلها يهدي بعض النَّاس إلى الإيمان فامتنع عن الآخرين، وحجبهم عن إدراك وجه الصواب وأضلهم وكفروا.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)﴾
ابن عرفة: وهذا إشارة إلى أن كفرهم [عناد*] أو شبيه بالعناد فما كفرهم إلا عناد وحسد وفيه إيماء لتعذيبهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ... (٦٤)﴾
الخطاب بالذات للنبي صلى اله عليه وسلم ولكل واحد من أمته، لقوله: (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
قوله تعالى: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا).
ابن عرفة: تضمنت الأولى نفي الإشراك في الاعتقاد، والثاني: نفي الاشتراك في العمل فيكون تأسيسا، والتأكيد بقوله (شَيئًا) دخل على النفي فأكده، فهو نفي أخص لا نفي الأخص.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ (٦٥)﴾
قال ابن عرفة: فرق بعضهم في المحاجة والمجادلة بوجهين:
أحدهما: أن المحاجة هي استدلال الخصم على دعوى يعتقد حقيقتها، والمجادلة أعم من ذلك فتصدق على هذا، وعلى إلزام الخصم مذهب ألا يقول به فالمحاجة بين سني ومعتزلي يستدل كل واحد منهما على حقيقة دعواه، والمجادلة بين رجلين من أهل السنة يلزم أحدهما الآخر مذهب المعتزلة، وبين رجلين من المعتزلة يلزم أحدهما الآخر مذهب أهل السنة.
الوجه الثاني: أن المجادلة أقوى من المحاجة. لأن الجدل هو الشد مأخوذ من قولك جدلت الحبل، إذا شددت فتله.
قيل لابن عرفة: يرد الأول بقوله تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) مع أنه يعتقد حقيقة ما هو يجادلهم عنه وبطلان ما عداه، فقال: سميت مجادلة باعتبار دعوى الكفار فإنها باطلة عنده هو، وكذلك قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال ابن عرفة: وانظر ما معنى الآية هل أنهم ادعوا أن إبراهيم كان على دين اليهودية
والنصرانية في الأحكام الاعتقادية، أو معناه كان متشرعا بشريعة اليهود متبعا لها في الأحكام الفرعية؛ لأن الملل كلها أجمعت على اعتقاد توحيد الله عز وجل، ونفي الشريك عنه، وليس في ذلك خاصا بملة اليهود، والنصارى بوجه، وإنما تختص الملتان في الأحكام الفرعية فقط.
قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ).
قال ابن عرفة: وكان بعضهم من يقتضي أزمنة البعدية، وكان يرد عليه بهذا، قاله المفسرون، قالوا: إن التوراة أنزلت بعد إبراهيم بألف سنة، والإنجيل أنزل بعده بألفين سنة، فلا يصح أن يكون نزل أول أزمنة البعدية، أو في أثنائها.
قوله تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
يجاب عليه بوجهين:
الأول: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنه قصد الرد عليهم بالدلالة الأخروية التقديرية المجازية لَا بنفس الأمر الواقع في الوجود، أي يقولون: أنه يهودي، ومجرد إنزال التوراة بعده في أول زمن من أزمنة البعدية ينفي كونه كان يهوديا فكيف والواقع في الوجود أنها نزلت بعده بأزمنة متطاولة.
الجواب الثاني: قال بعض الطلبة لابن عرفة: إن إبراهيم بينه وبين موسى عليهما الصلاة والسلام أنبياء وشرائع كثيرة فالمراد بذلك أول الأزمنة الكائنة بعد انقضاء شريعته ونسخها بشريعة نبي آخر بعث بعده يليه، فرده ابن عرفة: بأنه إنما المراد وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده شخصه وذاته لَا من بعد شريعته وملته، فما الجواب إلا ما تقدم.
قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ... (٦٦)﴾
غلط ابن عطية: فقال: هؤلاء بدل أو صفة، وسكت عنه أبو حيان وهو خطأ صريح؛ لأن المضمر لَا ينعت، ولا ينعت به.
ابن عرفة: وهذا على سبيل التبكيت لهم والإبطال لدعواهم، كما يقول لمن يعلم أنه حاجج في مسألة بغير علم ها أنت حاججت في هذه المسألة بعلم ثم تعطف عليه، فتقول بل حاججت فيها بغير علم، وكما تقول لمن تعلم أنه لم يتصدق من ماله بشيء ها أنت تتصدق من مالك بشيء يدل لم يتصدق منه بشيء، وكان بعض الشيوخ يقول:
يؤخذ من هذا منع تكلم الإنسان في شيء بما لَا يعلم كما في قوله تعالى: (بَل كَذبُوا بِمَا لَم يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) قال: وحكى لنا شيخنا القاضي ابن عبد السلام: أنه رأى في سوق الكتبيين بتعلب، وعلى عامره بخط مسيري أبي علي عمر القروي في اليوم الفلاني، في مسألة من النحو مع الطلبة وهو غير ضابط لأصولها.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا... (٦٧)﴾
ابن عرفة: ظاهر هذا أنه تكرار وليس بتكرار، بأن ما تقدمه للاستدلال على بطلان مقالة اليهود والنصارى فيه أنه كان على دينهم، وذلك في قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) إن هذا بعد كالنتيجة بعد المقدمتين.
قال ابن عطية: وجاء النفي في الآية على ترتيب حسن، بقاء نفس الملل، وقرر الحال الحسنة، ثم بين أن تلك الملل فيها الفساد، وهو الشرك.
ابن عرفة: لم يتضح نكته، الحسن في ترتب ذلك، وعادتهم يقررونه بأن دين اليهود والنصارى كلاهما له مزية في مطلق وصف اتباع نبي ودين الإسلام له المزية العظمى يوصف اتباع النبيين، ودين الشرك أقبح الأديان إذ لَا يستند له بوجه فأحرى بحجة وقدم غيره لاشتراكهما في مزية الاتباع، فإن قلت: هلا قيل: (وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) كما قيل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا)، والجواب: أن النسبة تشعر بالاتباع، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان دينه موافقا لدين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه كان متبعا له؛ لأنه قبله.
قوله تعالى: ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ... (٦٨)﴾
قالوا (النَّبِيُّ) إما صفة، أو بدل، أو عطف، ابن عطية: في قوله صفة نظر، قلنا: مشتق من النبأ، أو النبوة.
ابن عرفة: وجرى مجرى الأسماء؛ لأنه بولايته للعوامل والصفة لَا على العامل فلذلك تردد فيه، وقال: فيه نظر، ولم يبينه.
قيل لابن عرفة: في كلامه تضاد؛ لأن عطف لَا يكون إلا بما هو أعرف، والنعت لا يكون إلا بالمساوي، أو ما هو دونه في التعريف، فقال: تلك واحدة، واعتبار إلا أن المراد التعريف النحوي، قلت: قال ابن عصفور في الكبير: هذا الرجل إن كان عطف بيان بالألف واللام فيه للحضور، والأول يفيد الحضور فقط، والثاني يفيده
ويفيد معاني الحضور من الرجال فكان أعرف، وإن جعلته نعتا فالألف واللام فيه للعهد، أو كل أمة فتكون للجنس.
قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ... (٦٩)﴾
أي وبال إضلالهم عائد عليهم، وأما نفس إضلالهم فمحال؛ لأنهم يضلون المؤمنين بالانتقال من الإيمان إلى الكفر، وهم لَا يعرفوا قط الإيمان، فمحال أن يرجع إضلالهم عليهم، أو يكون مجازا تعدية المشاكلة، مثل: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) ويكون المراد أنهم بإرادتهم إضلال المؤمنين، ازدادوا إضلالا إلى كفرهم فتضاعف إثمهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)﴾
قال ابن عرفة: فيها إيماء لما يقوله الأصوليون من أن وجود المقتضى للحكم، لا يكون موجبا للحكم إلا بعد انتفاء المانع عنه، لأن مشاهدتهم لآيات الله مقتضية لإيمانهم فما المانع من إيمانهم، ففي السؤال عن المانع من الإيمان إيماء لكونه شر، ولا في العمل بالمقتضى، ابن عطية: فالآية دالة على أن كفرهم عناد.
ابن عرفة: أما رؤساؤهم فكفرهم عناد، وإما عوامهم فليس كفرهم عنادا، أو كفر الجميع ليس بعناد؛ لأن الحيسوبي إذا ضرب خمسة في خمسة قد يخطئ ويقول أنها ستة وعشرون مثلا، وقد يعلم يعاين ذلك.
قوله تعالى: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ... (٧١)﴾
ابن عرفة: يحتمل أن يكون الحق الأول غير الثاني، فالأول القرآن وصفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والثاني: الرسالة، ويحتمل أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر، فيكون الثاني، هو الأول، ونقل ابن عطية عن ابن جريج أن المعنى ويلبسون التوراة والإنجيل بالقرآن.
ابن عرفة: هذا خطأ صراح؛ لأن القرآن حق، والذي دخلت عليه الباء في الآية هو الباطل.
ابن عرفة: وعادتهم يوردون فيها سؤالا وهو أن القاعدة في استعمال الكلام على أمرين، أعم وأخص، إن نبدأ في الإثبات بالأعم ثم بالأخص، وفي النفي نبدأ بالأخص ثم الأعم؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والذم على فعل الشر يتنزل منزلة نفيه، والكفر بآيات الله أعم من إلباس الحق
بالباطل على ما فسروه، لأن الكافر قد يلبس بخلط التوراة بغيرها، وقد لَا يفعل ذلك، وإلباس الحق بالباطل أخص؛ لأنه كفر بلا شك.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا الجواب: بأن مقام الذم يقصد فيه الإطناب والمبالغة، لأنه يقتضي تكرار الذم بعد أخرى، فذموا على إلباس الحق بالباطل، بالمطابقة وباللزوم وهذا أبلغ في الذم قصدا للتغيير على الكفر، والإبعاد.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... (٧٢)﴾
لما تضمن الكلام السابق ذمهم على الكفر وإلباس الحق بالباطل، عقبه بيان بعض الجزئيات الذي لبسوا فيها الحق بالباطل، وهذه الآية إن كانت نزلت بعد الآية المتقدمة بمهملة وتراخ، فذكر أهل الكتاب فيها بلفظ الظاهر دون [المضمر*]، وإن كانت نزلت عقبيها فكان الأصل أن يعبر فيها عن أهل الكتاب، بالمضمر لتقدم ذكرهم، لكن قالوا الحكمة في تكرار الاسم بلفظ الظاهر دون المضمر وجهان: إما التعظيم والتفخيم، كقوله: لَا أرى الموت ذا الغناء والفقير، وإما للتخفيف مبالغة في الذم؛ لأن الضمير كلي والظاهر جزئي فأعيد بلفظه تحقيقا لوقوع هذه المقالة الذميمة الخبيثة منهم والقول، إما من الرؤساء للعوام، أو من بعضهم لبعض.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (٧٣)﴾
قال ابن عطية: إن (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) جملة اعتراض، وهذا صعب وأكثر ما يكون ذلك حيث يكون المتكلم بذلك كله شخصا واحدا، وهذان الجملتان من كلام شخص، والجملة المعترضة بينهما من كلام غيره فيحتاج إلى دعامة.
ابن عرفة: ومنهم من قال: إن الأخيرة من كلامهم على إضمار، أي فعلنا ذلك أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم استفهاما ما في معنى النفي، بدليل قراءة ابن كثير أن يؤتي بالمدلات أن إرادة الاستفهام كثيرا تحذف، وبدليل لفظه أحد وهي لَا يستعمل إلا في النفي فالكلام، تم عند قوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) جملة اعتراض، ثم قال: هل (يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) يا أمة محمد بل الهدى الذي أوتيتموه، لم يؤته أحد من الأمم قبلكم، وهيهات أن يكون لهم حجة عليكم عند ربكم بأن يقولوا: أوتينا ما لم يؤتوه، ولا يكون ذلك موجه وفي كلام المعربين إشارة إلى هذا.
قوله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ... (٧٤)﴾
أي برحمته الواسعة، فالمراد رحمة خاصة، وإلا فالرحمة تعم الطائع والعاصي، ولاسيما إن قلنا أن الكافر منعم عليه (والله واسع عليم) مشعر بهذه الآية متضمن مقامها فذكرها بعد هو المسمى بالترسل، أو بأن العلم يستلزم الاختصاص، والواسع يستلزم الرحمة.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (٧٥)﴾
قال ابن عرفة: لما تقدم ذم أهل الكتاب بكفرهم وعصيانهم وحالهم الإجمالي عقبه ببيان حالهم، أو لما تضمن الكلام السابق اختصاص الله تعالى من شاء من خلقه بالرحمة بين هنا إن من جملة اختصاصه بعض الكفار بالوفاء بالأمانة، وبعضهم يخون فيها.
قال ابن عطية: والقنطار هنا عبارة عن المال الكثير فيتناول أكثر من القنطار المعهود وأقل منه، وإمَّا الدينار فيحتمل أن يكون كذلك مثالا لما قل، ويحتمل أن يريد بالطائفة التي لَا تخون إلا في دينار فأكثر، ولم يعتني بذكر الخائن، في أقل منه لأنهم [لا يؤتمنون عليه*] ويحتمل أن يكون بالتنبيه بالأعلى على الأعلى، وبالأدنى على الأعلى بدلالة أخرى وهو مفهوم الموافقة.
قوله تعالى: (قَائِمًا).
على رأسه إشارة إلى نهاية الجفاء والضغطة، ابن عطية: وانتزعوا من الآية جواز السجن، لأن الذي يقوم عليه عزيمة، فهو يمنعه من تصرفاته.
ورده ابن عرفة: بأن هذا إخبار عن الواقع، فلا ينتزع منه حكم شرعي.
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
علل قبح فعلهم بقبح مقالتهم، وما ذكره ابن عطية: هنا موافق للمعنى، ومخالف لظاهر لفظ الآية، قال المفسرون: (إِلَّا مَا دُمْتَ) استثناء من الأحوال.
قيل لابن عرفة: لعله من الأزمان، فقال: القيام حالة إلا في حالة القيام.
قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ).
دليل على أن قولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) إخبار، ونقل منهم عن التوراة والإنجيل وهذا أبلغ من، ولو قيل: ويكذبون على الله.
قوله تعالى: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حجة لأهل السنة، في أن الكذب يطلق على القول غير المطابق عمدا كان أو سهوا.
قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى... (٧٦)﴾
ابن عرفة: ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المخالف، فقوله: (بَلَى) راجع لـ (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، و (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ) راجع لقولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)
إما من وضع الظاهر موضع المضمر، أي فإن الله محبه، وإما أن يريد جنس المتقين الشامل لذكره ولغيره، فيتناول التقي الذي لم يوضع تحت يده وأمانته ويكون قوله (وَاتَّقَى) من عطف السبب على المسبب، لأن المراد اتقاء الله بالوفاء بالعهد، فإنه قد يوافي بالأمانة رياء وسمعة، ليقال: فلان أمين.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ... (٧٧)﴾
قال الزمخشري: مجازا على الاستهانة والسخط عليهم.
ابن عرفة: الكناية جعل اللفظ على غير حقيقته، مع إمكان إرادة الحقيقة، مثل: فلان كثير رماد القدر كناية عن الكرم، ولا يمكن أن يراد الحقيقة والمجاز، مثل زيد أسد؛ لأن الحقيقة مستحيلة.
ابن عرفة: وهذا على مذهبه لأنه النظر، وما ينفي إلا ما هو في حيز الإمكان فيتعين عنده أن المراد بذلك الغضب عليهم.
ابن عرفة: ويمكن أن يكون كناية على مذهبه أيضا ويكون من باب السلب والإيجاب، مثل الحائط لَا يبصر إلا من باب العدم، والملكة مثل: زيد لَا يبصر، وأما على مذهبنا فهو كناية عن الغضب.
قيل لابن عرفة: كيف ينفي النظر والله تعالى يبصرهم فلا بد أن يراد به الغضب عندنا، أو عند المعتزلة؛ لأنه يبصر كل شيء، فقال لَا ينظر نظر رحمة.
ابن عرفة: وهذا ترق؛ لأن هذه عقوبات بعدم نيلهم الملائمة لهم من عدم الثواب، وعدم الكلام، وعدم النظر، وعدم التطهير، ثم تتمم ذلك بزيادة نزول الأمر المؤلم بهم فهو أنسب، ويحتمل بقاؤه على ما هو عليه، وظاهر كلام الزمخشري: أنهم يأولون اللفظ فقط، وظاهر كلام ابن عطية: أنهم يبدلون اللفظ، لقوله تعالى: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا).
قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ... (٧٨)﴾
يحتمل أن يريد في نفس الأمر وفي المشاهدة.
قوله تعالى: (وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
احتج بها المعتزلة على أن العبد يستقل بنفسه.
ابن عرفة: ويجاب: بأن الأولى على حذف مضاف، أي يقولون: هو منزل من عند الله، فأتى النفي على ذلك، أي وما منزل من عند الله.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ... (٧٩)﴾
نفي للقابلية العقلية يستلزم نفي الفعل ونفي القابلية عادة، أو شرعا، أو على جهة التأدب لَا يستلزم نفي الفعل [كقولهم*]: ما كان لزيد الضعيف أن يقتل عمرا القوي وقد قتله، والبشر إما عيسى، وإما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والظاهر أنه عام فيدخل تحته [عيسى ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -*] وغيرهما ونفي الخلاف راجعا لسبب نزول الآية ما ينفي قول النقاش، وقول ابن عباس، والربيع.
ابن عرفة: وهذه المعطوفات تأسيس وترق؛ لأنه يؤتى الكتاب، إما بعلمه ويبلغه، أو ليعمل به، والأول باعتبار التبليغ، والثاني: هو الحكمة راجع إلى العمل بمقتضاه.
قوله تعالى: (مِنْ دُونِ اللَّهِ).
إن قلت: مفهومه ثبوت طلب العبادة مع الله ويتأكد السؤال باعتبار السبب؛ لأنهم ما ادعوا أنه طلب عبادته من دون الله، وهذا كما تقدم في: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ... (٨٠)﴾
ابن عرفة: نفي الأمر أعم من النهي فعلق الحكم على الأعم دون الأخص، فهلا قيل: وينهاهم أن يتخذوا فهو أخص، لأن عدم الأمر بفعل الشيء لَا يستلزم النهي عن فعله، فقد لَا يأمر ولا ينهى، قالوا: والجواب: بأن ذلك باعتبار دعواهم وطلبهم ذلك من الرسل وتقولهم في الطلب، قال أبو عمرو الداني في التيسير: قرأ نافع، وابن كثير، والكسائي برفع الراء وأبو عمرو بالاختلاس من طريق البغداديين، وبالإسكان من طريق غيرهم، والباقون بنصبها، وهذا نص الشاطبي، فقال في البقرة [وَإِسْكَانُ بَارِئْكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ لَهُ... وَيَأْمُرُهُمْ أَيْضاً وَتَأْمُرُهُمْ تَلَا*]، وقال هنا [وَرَفْعُ وَلاَ يَأْمُرْكُمُو رُوحُهُ سَماَ... وَبِالتَّاءِ آتَيْناَ مَعَ الضَّمِّ خُوِّلَا*] فظاهر البيت الأول أنه يسكن الراء، وظاهر أنه يقرأ بالرفع، وقال أبو شامة أبو عمرو: على أصله من الاختلاس والإسكان، وذكر الشاطبي له مع أهل الرفع دليل على أنه رجح الاختلاس على الإسكان.
قال ابن عطية: إما قراءة نصب الرافع وعطف على قوله، ثم يقول ابن عطية: وهذا خطأ؛ لأنه يلتبس به المعنى، وصوب أبو حيان قول الطبري، إن كانت لَا زائدة لا لتأكيد النفي، لأن المعنى [ما كان لبشر*] استثناء عدم أمر باتخاذ الملائكة والنبيين وصوبه ابن عرفة: إلا أنه ينفي فيه المفهوم، وهو كونه يأمر بعبادة نفسه، أو بعبادة غيره فقط لكنه من استيفاء لعدم وقوعه.
قال ابن عرفة: وانظر أبا حيان فكلامه فيها طويل باسط من هذا.
قوله تعالى: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ).
أخذوا منها تقبيح الردة على الكفر الأصلي، وقد فرق الشارع بينهما بأن الكافر يقر على كفره بضرب الجزية عليه، والمرتد لَا يضرب عليه الجزية، وهذه الآية صريح في أنها خطاب للمسلمين.
وقال الفخر: إذا كانت لَا زائدة لتأكيد النفي، فالمعنى قال: إنما ذكره الزمخشري: إذا كانت زائدة فهو خطأ، وقولهم: إنها خطاب للكفار يحتاج فيه إلى
تأويل، قوله (مسلمون) فإنهم قائلون للإسلام، أو لحديث، "كل مولود يولد على الفطرة".
وقال الفخر: احتج بها... على أن العلم إذا حصل لَا يرتفع أصلا ولا يمكن ضرورته جهلا بوجه، فرده ابن عرفة بأن مذهبنا أن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد فقد يخلق في قلبه العلم، ثم يسلبه عنه، وأيضا فإذا حصل العلم فاتفقنا على أن بقاؤه جائز، لَا واجب، وإذا جاز بقاؤه جاز رفعه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ... (٨١)﴾
قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق براءة الرسل من مطلبهم أن يكونوا معبودين من دون الله، بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) إلى آخر الآية عقيه بما يؤكد ذلك وهو الإخبار بأن الله أخذ عليهم العهد أن يبلغوا الكتب، والوحي، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأخطأ ابن عطية فيما حكى عن مجاهد في قوله: هكذا من القرآن وغيره خطأ، ولا يحل كتب ذلك ولا نقله، وفي مثله كانوا يخونون ابن عطية، والزمخشري أجاد فلم ينقل هذا وذكرها في الآية أربعة أوجه:
أحدها: وإذا أخذ الله الميثاق وعلى النبيين.
الثاني: المراد الميثاق الذي وثقه الأنبياء على اسمهم.
ابن عرفة: فالمصدر على الأول مضاف للمفعول، وعلى الثاني للفاعل.
والتأويل الرابع: بعيد وهو أن المراد بالنبيين أهل الكتاب تهكما بهم؛ لأنهم قالوا: نحن أولى بالنبوة من محمد.
قوله تعالى: (لَمَا آتَيْتُكُمْ).
فيها وجوها:
أحدها: شرطية مفعول وتكلفوا في الجملة ضميرا يعود عليها.
ابن عرفة: لَا يحتاج إليه؛ لأن الشرط إذا كان مفعولا لم يحتج إلى ضمير، وإنما يحتاج إليه إذا كان مبتدأ، وذكروا إذا كانت موصوله إن هناك ضمير تقديره ثم حاكم رسول به.
ورده ابن عرفة: بأن العائد المجرور، لَا يجوز حذفه إلا إذا كان هناك ضميره غيره مجرورا يمثل الحرف الداخل عليه والعاملان فيها مبتدآن لفظا ومعنى، وذكروا أيضا أن الرابط ضمير مستتر في قوله: (مَعَكُم) ورده ابن عرفة: بأن ذلك الضمير إنما يعود على الثانية لَا على الأول.
ابن عرفة: وفي الآية التفات من الغيبة في النبيين للخطاب في مفعول (آتيتكم) إلا أن يقال: إنه حكاية لما تقدم، لَا أنه نفس لما تقدم فليس بالتفات.
قوله تعالى: (قَالُوا أَقْرَرنَا) الإقرار على أنفسهم، والشهادة على غيرهم، وفي قوله تعالى: (وَأَنَا مَعَكُم) تشريف للقائم بالشهادة.
قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢)﴾
إما أن يريد الحصر، أو هم العاملون الفسق.
قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ... (٨٣)﴾
ابن عرفة: عادة الطلبة يقولون: لم قال (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ) ولم يقل: أخلاف دين الله مع أن الخلافين أخص من الغيرين، لأن الغيرين يصدقان على المثلين والخلافين، وأجيب: بأن ذلك في الإثبات والاستفهام هنا على سبيل الإنكار، وهو معنى النفي، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، كما قالوا: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ).
قوله تعالى: (طَوْعًا وَكَرْهًا).
وقال في البقرة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)، وفي النساء (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) الكُره بضم الكاف هو البغض ضد الرضا، والكَره بفتحها هو الإكراه عند الطوع.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا... (٨٤)﴾
أنكر الزمخشري: تفريق من فرق بأن على مقتضي أوائل الإنزال وإلى انتهاءه وآخره.
ابن عرفة: وهو صحيح؛ لأن هذه الآية خطاب للنبي ﷺ وحده، فالقرآن أول ما نزل عليه فناسب تعديته بعلى، وآية البقرة خطاب له ولأمته، والقرآن لا ينزل عليهم بل نزل عليه وتلقاه أمته منه فناسب إلى النفي لانتهاء الغاية، وكرر (وَمَا أُوتِيَ) في البقرة، ولم يكرر هنا؛ لأن آية البقرة خطاب لجميع النَّاس واحتيج فيها إلى تأكيد الأعم وتكراره، وهذا خطاب للنبي ﷺ وحده، فلم يحتج فيها إلى تأكيد الأمر، لأن أدنى شيء من التكليف كان في حقه.
قوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ).
أي في الأحكام الاعتقادية لَا في الأحكام الشرعية، لأن ثواب شرائعهم بينهم مختلفة، ومنهم من قال: لَا نفرق بينهم في التفضيل كما ورد "لَا تفضلوني على يونس ابن متى، ولا تفضلوني على موسى" وهو مردود، بقوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا... (٨٥)﴾
حمله الزمخشري على التوحيد وإسلام الوجه لله.
ابن عرفة: والظاهر حمله على دين الإسلام المحمدي؛ لأن الشرط يقتضي الاستقبال، وليس بعد نزول الآية من دين الإسلام إلا الملة المحمدية، وفي الآية ترجيح لمذهب ابن حبيب، القائل: بإلحاق الزكاة وسائر أخوات الصلاة بالصلاة، في أن تاركها كافر، لقوله في الحديث: "ما الإسلام، قال: أن تشهد أن لَا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، وقال: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) قيل لابن عرفة: هناك لمن تركها، والآية تقتضي من طلب غير الإسلام، وقصد ذلك وتهاون به فقال: بل هي عامة، وقال ابن الخطيب: احتج بها من يقول إن الإسلام بمعنى الإيمان إذ لو كان غيره لزم أن يكون الإيمان غير مقبول، وأجيب بأنه غيره لكنه أعم من الإسلام فلا يقبل الاتصاف بالأعم فقط، مع التمكن من الأخص، وأجاب ابن عرفة: بأن يقول:
الإسلام هنا بمعنى الاستسلام والانقياد، وليس هو الإسلام الشرعي، كما قال الزمخشري.
قوله تعالى: (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
ذكر في إعرابه وجها، وزاد ابن عرفة: أن (فِي الآخِرَةِ) خبر المبتدأ، و (مِنَ الْخَاسِرِينَ) في موضع الحال، والحال من تمام الخبر ففي لازمة إذ بها تحصل الفائدة.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا... (٨٦)﴾
(كَيْفَ) سؤال عن حال، أي ليس لهم حال يهمون فيها، ولما انتفت حال اهتدائهم انتفت هدايتهم، أي لَا يهتدون في المستقبل إلا أن يتوبوا، وليس المراد أنهم لا يهتدون حين كفرهم لئلا يلزم عليه تحصيل الحاصل، كقولك: كل كاتب محرك يده حين هو يكتب.
قوله تعالى: (وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ).
مغ ابن عطية النسخ في الآية، قلت: يريد لأنه خبر والخبر لَا ينسخ.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ... (٨٧)﴾
الإشارة بلفظ البعيد للقريب للتعظيم في بابه تحقيرا لما اتصفوا، واللعنة مختلفة بالفعل، ولعنه النَّاس والملائكة بالقول، ابن عطية: والنَّاس إذا آتت مطلقة فهي خاصة ببني آدم، وإذا قيدت بالجمع فجاز والنَّاس هنا إما خاص بالمؤمنين، وإما عام والمعنى أنهم في الآخرة يلعنهم المؤمنون ويلعن بعضهم بعضا، وكل من هذه صفته يلعن صاحب هذه الصفة ولا يشعر أنه متصف بها فيلعن نفسه من حيث لا يشعر، واستبعده ابن عرفة: أن جعلت الضمير في: (خَالِدِينَ فِيهَا) عائد على اللعنة؛ لأنه لَا يلعن نفسه دائما، بل في بعض الأوقات، وإن أعدناه إلى النار فيصح.
قوله تعالى: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ... (٨٨)﴾
ابن عرفة: الصواب عندي أن يوقف على (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) لأنك إذا وصلته لم يكن في قول: (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) فائدة الإلزام الأول، فإذا وقفت وابتدأت به كان معطوفا على مقدر، أي لَا ينصرون ولأنهم ينظرون، أي لَا ينصرهم أحد فيزيله
عنهم، ولا يؤخر عنهم العذاب عن وقت حلوله بهم، فإذا حل بهم يخلدون فيه، ولا يخفف عنهم.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ... (٨٩)﴾
أي بادروا في أول أزمنة البعدية (وَأَصْلَحُوا) أي داوموا على التوبة، وإلا فالتوبة تستلزم الإصلاح.
قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
من إقامة السبب بمقام مسببه، أي فإن الله يتوب عليهم، ويقبل توبتهم لأنه غفور رحيم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ... (٩٠)﴾
قال الزمخشري: هم اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، ثم كفروا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم آباؤهم الذين مضوا، ففيه تخليط الأسلاف بالمخاطبين، وأجاب ابن عرفة بأن الآية فيهم لَا في أسلافهم، وهم متبعون لأسلافهم في الإيمان بموسى والكفر بعيسى، ثم ازدادوا عليهم بكفرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم آباؤهم الذين مضوا ففيه تخليط الأسلاف بالمخاطبين، وأجاب الزمخشري: وكفروا محمدا بعدما كانوا مؤمنين قبل بعثه وازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك، وطعنهم فيه ونقضهم ميثاقهم، والإضافة في قوله تعالى: (بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) إما لتحقيق وقوع الإيمان منهم فنفى كفرهم بعده زيادة شناعة عليهم، أو لضعف الإيمان الواقع منهم، والأول أنسب.
قوله تعالى: (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا).
إن قلت: قد تقرر أن اجتماع المماثلات باطل فكيف يصح كفر مع كفر مثله؟ فالجواب: أنه يصح باعتبار المعلقات فكفروا أولا بعدم التوحيد، ثم ازدادوا بادعاء التجسيم، ثم نسبوا إليه الابن ثم إلى غير ذلك، فإن قلت: لَا يلزم من زيادة أحد هل يؤخذ منها أن الإيمان، يزيد وينقص؛ لأن ضده وهو الكفر يزيد وينقص، قلنا: لا يلزم من زيادة أحد النقيضين زيادة الآخر، ولاسيما إذا قلنا أن الزيادة والنقص أمر جعلي شرعي، وليس بعقلي.
قوله تعالى: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).
تأوله ابن عطية: بأمرين:
أحدهما: إما لَا توبة لهم فتقبل، مثل على لاحبٍ يهتدي بمناره، وأما إن كان عند العز عزه والمعاينة، زاد الزمخشري أنها كناية عن عدم إيمانهم، مثل: فلان كثير رماد القدر فهو من إقامة المسبب مقام السبب، أي يؤتون كفارا فيدخلون في جملة من لا تقبل توبته، والآية في قوم معينين من اليهود؛ لأن منهِم من أسلم وحسن إسلامه، فإن قلت: لم أدخل الفاء في قوله: (فَلَنْ يُقبَلَ مِنْ أحَدِهِم) ولم يدخلها لن تقبل توبتهم، فأجيب: بقوة السببية، وظهورها في الآية الثانية دون الأولى، لأن موتهم كفارا سبب في عدم قبول الفدية منهم وكفرهم النبي سبب في عدم قبول توبتهم، بدليل ما قالوا من أنها في قوم مخصوصين؛ لأن هناك من أسلم وحسن إسلامه، وقبلت توبته، قال ابن عرفة: واستعمل في الآية شبه مقدمتين صغرى وكبرى، فكأنه قال (الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) يموتون كفارا، وكل من كفر ومات كافرا لا تقبل منه الفدية بملء الأرض ذهبا.
قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (٩٢)﴾
قال ابن عرفة: في الآية تخفيف وتشديد، والتخفيف من قوله تعالى: (مِمَّا تُحِبُّونَ) ولم يقل: من أحب الأشياء إليكم فيتناول ذلك النفقة من المحبوب والأحب والصحابة، إنما كانوا ينفقون من الأحب لمحافظتهم على أسنى الدرجات، والتشديد في النفي بلن وهي أبلغ من لَا، وفي تعليق الغاية بحتى المقتضية دخول ما بعدها فما قبلها دون إلى الغير مقتضية للدخول وهذا مثل قوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) واختلفوا في البر، فقيل: هو درجة الكمال، أي لن تكونوا أبرارا، وقيل: هو الجنة، وقيل: هو الثواب.
ابن عرفة: فإن قلنا: به درجة الكمال، فظاهر، وإن قلنا: المراد به الجنة أو الثواب فيبقى السؤال فيمن أنفق مما يكره كمن يكره الموز والرمان فيتصدق بهما مع أن له الثواب، فلا بد أن تكون الألف واللام للعهد، والمراد الخاص، وهو ثواب خاص لَا مطلق الثواب، فلذلك عرفه بالألف واللام.
قوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
اعتراض خشية أن يتصدق بشيء محبوب عند النَّاس وهو يكرهه ويظهر أنه المحبوب له لينال هذا الثواب الخاص، فإن الله به عليم بما في نيته وكذلك من يتصدق
بشيء ويكون النَّاس يكرهونه، وهذا كله بحسب حال المتصدق ونيته فرب محبوب له مكروه والعكس، قال الفخر: هذا يدل على أن النفقة من المحبوب واجبة.
ابن عرفة: إنما يقتضي الوجوب الذم على الترك لَا تعليق على الثواب الخاص.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ... (٩٣)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون (كُلُّ) من ألفاظ العموم وإدخالها على النكرة أبلغ في إفادة العموم، فهلا قيل: كل طعام كان حلا، وأجيب بوجهين:
الأول: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأن الألف واللام للجنس فأدخلت (كُلُّ) هنا لتأكيد العموم، وصار كتكرار اللفظ مرتين فكأنه قيل: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا).
الجواب الثاني: قال بعض الطلبة لابن عرفة: الألف واللام للعهد أي كل هذا الطعام المعهود لكم الذي حرمه يهود زمانكم كان حلا لأسلافهم من بني إسرائيل.
قوله تعالى: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ).
ابن عطية: وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما [اقتضاه*] أو للمصلحة من جهة، ومن هذا تحريم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مارية على نفسه فعاتبه الله في ذلك، ولم يعاتب يعقوب عليه السلام، فقيل: إن ذلك [لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم*]، وقيل: إن هذا تحريم تقرب وزهد، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس.
ابن عرفة: هذا كلام خلف لَا ينبغي نقله ولا اعتقاده في حق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والصواب: ما كان بعض المشايخ يقول في سبب هذا على جهة المثال أنه بمنزلة رجلان يحبهما معا لكنه محبته لأحدهما أكثر فحرما معا على أنفسهما طعاما لذيذا، فإن الولد قد يعاتب الأحب إليه منهما على تحريمه ذلك، وحرمانه نفسه منه، ولا يعاتب الآخر، فلذلك عاتب الله محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يعاتب يعقوب صلى الله عليه وعلى آله وسلم على تحريم الطعام.
قيل لابن عرفة: إن رجلا قال: أي شيء رأى يعقوب عليه الصلاة والسلام في تحريم هذه الأشياء على نفسه التي هي العروق ولحوم الإبل وألبانها فقال: ينهى عن ذلك القول فقط، ويقال: لَا يتعرض للأنبياء عليهم السلام.
قوله تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ... (٩٤)﴾
ابن عرفة: الظاهر أن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها لدخول الفاء فيها، قال: وفي الآية تخفيف وإشهار لسيفه -رحمه الله تعالى- بوجهين:
أحدهما: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) فيها إشارة إلى العفو فمن تاب من هؤلاء اليهود بخبر
هذا الإقرار، ورجع عن مقالته بتحريم ما حرموه، وإنما ينال هذا الوعيد من دام على
ذلك من بعد هذا البيان المقتضي لتحليل كل الطعام.
الثاني: تعريف الكذب، ولم يقل كذبا فهو الوعيد خاصا بمن افترى كذبا خاصا، وهو الكذب على الله في أن ينسب إليه تحريم ما حرمه، أي فمن افترى على الله بعد هذا البيان، ذلك الكذب المتقدم منهم قبل هذا البيان.
قوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ... (٩٥)﴾
ابن عرفة: الظاهر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكل مؤمن؛ لأن هذه أمور واضحة ظاهرة لكل مؤمن، وقوله: (صَدَقَ اللَّهُ) على حذف مضاف، أي صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) لأنهم ما ادعوا قط نسبة الكذب إلى الله.
قيل لابن عرفة: وكيف يخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق عن نفسه؟ فقال: هذا شبيه من يدعي دعوى ثم يدعي عليها بمقدمتين، ثم يقول فقولوا كذا وكذا أحق؛ لأن الخصم إذا سلم له المقدمتين فقد وافقه على صحة النتيجة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ... (٩٦)﴾
الأول قيل: هو الذي لم يسبقه بشيء، وقيل: هو السابق غيره، قال الفخر: فلو قال [أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ من هذين حر، فاشتراهما معا*]، وقال في المدونة في كتاب العتق إذا قال لأمته أول ولد تلديه حر فولدت توأمين، أنه يعتق الأول منهما، فإِن قال أول ولد تضعيه فوضعت توأمين أنهما يعتقان.
قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ... (٩٧)﴾
ابن عرفة: أي علامات على ما بين من كونه (مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) والظاهر أن المقام إبراهيم ما منح الله تعالى البيت من أن إبراهيم دعا فيه فأستجيب، ونفى
384
ابن [... ] ذلك في النَّاس، فكل من دعا فيه يستجاب له في الغالب وهي خصوصية ليست في غيره، قال ابن الخطيب، [ومن آيات*] الحج، فرده ابن عرفة: بأن من أركان الحج الوقوف بعرفة، وهي في الحل، فليس الحج من آياته الخاصة به، ابن عطية: قال يحيى بن جعدة، أي ومن دخل البيت كان آمنا من النار.
ابن عرفة: أي ومن دخله مؤمنا، ومن قتل واستجار به فإنه يقتل عند مالك، ابن عطية: ومن آياته البينات زمزم، وفي منعها لهاجر [بهمز*] جبريل الأرض بعقبه، وفي حفر عبد المطلب لها آخرًا بعد دثورها بتلك الرؤية المشهورة، وبما نبع من الأبيض الماء تحت خف ناقته في سفره إلى منافرة قريش ومخاصمتهما في [أمر*] زمزم، وذكر ابن إسحاق [القصة*]، قلت: روي في السير أن عبد المطلب رأى في نومه في الحجر أربع مرات قائلا يأمره بحفر زمزم، وقال له في الرابعة: احفر زمزم لَا تنزف أبدا ولا تذر تسقي الحجيج الأعظم، وهو بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل، [**قال ابن شهاب الدين: فجرت بقرة بالجزيرة، فقامت وأعلنت ورمت بنفسها في موضع زمزم، فلما أحمل لحمها أقبل أعصم وهو الأبلق ينقر فيه، ومحت على قرية النمل فحفر فيه عبد المطلب، فلما بدا له الطير كبر... من اشتراك قريش فيها فطلبوا التحاكم معه عند كاهنة بني سعد بن هزيم بأشراف الشام وخرجوا والأرض... لَا ماء فيها فقرع ماء آل عبد المطلب ومنعهم قريش من مائهم فحفروا لأنفسهم قبورا ينزلون فيها أن ماتوا، ثم بدا لهم فارتحلوا، فلما انبعث بعير عبد المطلب راحله ففجر من تحتها عين من ماء عذب فكبر عبد المطلب واستقر هو وولده وقريش، ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا، فارجع إلى سقايتك فهي لك].
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
لما تضمن الكلام السابق التنبيه على بركة البيت، كان ذلك كالسبب الحاصل على حجة وأعمال السفر إليه، وإن كان معظم الحج عرفة كما في الحديث "الحج عرفة" لكن إنما ذلك لأجل أن عرفة له وقت معين يفوت بفواته نحوا لَا ترى أن من أحصر عن الوقوف فهو محصر، ومن أحصر على الحج فليس بمحصر ولا يحله إلا البيت.
قال الزمخشري: ودلت الآية على تأكيد الحج من أربعة أوجه:
الأول: لفظه على. والثاني: عموم النَّاس.
385
والثالث: إبدال قوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). والرابع: قوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ).
فتارك الحج كأنه كافر، ومنهم من زاد قوله تعالى: (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) ابن عرفة: وكان بعضهم يريد فيها وجها خامسا، وهو إسناد ذلك إلى كلمة الجلالة إلا أنا نفرق بين قول السيد لعبده افعل كذا، وبين قوله... أن تفعل كذا فإن هذا أبلغ في الدلالة على الاعتناء بذلك الأمر والاهتمام به، وقال: وهذا أيضا أبلغ من صريح الأمر، لأن صريح الأمر يختلف فيه هل هو للوجوب أو للندب؟ وهذا لَا خلاف فيه أعنى لفظ علي، وذكر عبد الحق في تهذيب الطالب عن بعضهم أن من شرط الاستطاعة وجود الماء في كل سهل ابن عرفة: ومعناه عندي وجوده كتاب منهله ينفذ فيها ماء الأخرى إما إذا كانت بحيث يصل إليها غالبا، فلا وحكى ابن الخطيب: اختلاف المتكلمين هل اختلاف الاستطاعة مع العقل أو قبله؟ قال: والآية حجة لمن يقول: إنها قبله.
ورده ابن عرفة بإن الاستطاعة تطلق على معنيين، فتارة بها التمكن من الفعل كقولك: زيد القاعد مستطيع على القيام، فهذه لَا خلاف أنه لَا يشترط فيها المقارنة، وليست هي المصطلح عليها عند المتكلمين، وتارة يراد بها القدرة على الفعل، فهذه هي التي تعرض لها الأصوليون، وذكر فيها الخلاف، والآية من القسم الأول، واختلفوا هل الحج على الفور أو لَا؟ ابن عطية: واحتج بها القائلون بالتراخي بوجهين:
أحدهما: استئذان الأبوين فيه العام والعامين، أجيب: بأن طاعتها واجبة فتعارض واجبان ورد بمنع ذلك بل هو من تعارض واجب ومندوب.
الثاني: خرج اللخمي الوجوب من قول مالك: في المرأة يموت عنها زوجها، فتريد الخروج إلى الحج، أنها لَا تحج في أيام عدتها.
ورده ابن عرفة: بأن العدة سابقة ولا يمكن طلاقها، والحج يمكن تلاقيه، قيل: بل وجوب الحج سابق على العدة، فقال: يفرض أنها بغت في العدة فسبق وجوب العدة على وجوب الحج، وأما المرأة إذا كان معها ذو رحم منها محرم وجب عليها الخروج، وكذا حكى الباجي عن مالك: إذا كانت في رفقه مأمونة، وفي سماع أشهب في الحج الثاني يسأل عن خروجها مع ختنها، وقال: تخرج مع جماعة النَّاس، ابن
386
رشد: لم ير لها ذلك، لأن ختنها ليس من ذوي محارمها، إذا كانت حلالا له قبل أن يتزوج ابنتها، ومثله في سماع ابن القاسم [من كتاب*] النكاح من [كراهته*] سفر الرجل مع [زوجة أبيه أو مع*] ابنه، وحمل مالك حديث: "لَا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا معها ذي محرم منها" على السفر المباح والمندوب إليه دون السفر الواجب لإجماعهم على أن المرأة إذا أسلمت من بلد الحرب لزمها الخروج إلى بلد الإسلام، وإن لم يكن معها ذو محرم منها فأوجب على المرأة الحج، وإن لم يكن معها ذو محرم يحج بها خلافا لأهل العراق، وفي قولهم إن فرض الحج حافظ عنها بعدم ذي الرحم، انتهى.
وحكى ابن العربي قولا في المذهب بوجوب الحج وتكرر وجوبه، بعد خمس سنين، الزمخشري: وروي "حجوا حجا قبل أن لَا تحجوا"، قبل: أن يمنع البر جانبه يعني بسبب إخافة الطريق، وعن ابن مسعود: "حُجُّوا [هَذَا الْبَيْتَ*] قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ فِي [الْبَادِيَةِ*] شَجَرَةٌ لا تأكل منها دابة إلا هلكت، وهذا لم يقع، وعن عمر لو ترك النَّاس الحج عاما واحدا ما نظروا بعين ولو تمالوا على تركه كلهم لعجلوا بالعقوبة، ولم يؤخروا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ... (٩٨)﴾
قال ابن عطية: الكتاب التوراة، وجعلهم أهل [بحسب زعمهم ونسبهم*]، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون.
ابن عرفة: أو سماهم أهله لنزوله على النبي، الذي هم متبعونه.
قوله تعالى: (لِمَ تَكْفُرُونَ).
قال ابن عرفة: في إتيان الفعل بلفظ المضارع دون الماضي رحمة ومنهم بقبول توبة من تاب منهم، ورجع عن كفره.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ).
ابن عرفة: هذا دليل على تعلق علم الله تعالى بالجزئيات والكليات، قيل له: فالشهادة عندك هنا بمعنى العلم لَا معنى الإنظار والنظر، فقال: نعم وهو دليل على تسمية ما في القلب عملا.
وكذلك قال القرافي: أنه يسمى عملا، ولا يسمى فعلا، ولذلك قال الفخر: في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إنما الأعمال بالنيات" أجمعوا على أنه يشتق من ذلك شيئان، النية والنظر، قالوا: وأما ما مصدرية، أو موصولة بمعنى الذي.
ابن عرفة: والظاهر أنها مصدرية لأنه أبلغ في كمال علم الله تعالى، لاقتضاء، إنها تعلقت بالمعاني، وأن العقوبة إنما هي على نفس العمل لَا على متعلق العمل.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ... (٩٩)﴾
قيل لابن عرفة: قلتم إن الاستفهام هذا للإنكار والتوبيخ، وأنه يتنزل منزلة النفي، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والتوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على ما فوقه، فوبخوا أولا على معصية قاصرة وهو كفرهم في أنفسهم، فلا فائدة في توبيخهم على تسببهم في كفر غيرهم، فقال: التوبيخ هنا مسود بالنفي عليهم بأفعالهم القبيحة، ولا شك أن قولك للشخص: لم تسرق أخف من قولك: لم تسرق وتزني، لأن الثاني أبلغ في القبح.
قوله تعالى: (تَبْغُونَهَا عِوَجًا).
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف (تَبْغُونَهَا عِوَجًا) وهو محال.
قال ابن عرفة: ليس محال بوجه، لأنه إما أن يريد أنه محال في نفس الأمر، فاعوجاجه محال، وإن أراد في اعتقادهم فالواقع خلافه؛ لأنهم قد لبسوا على بعض المؤمنين، وحسبوا فليس بمحال بوجه إلا أن يريد أن كفرهم عنادا فهم يعتقدون حقيقة ذلك، ويطلبون العوج فيه.
قيل لابن عرفة: لعله يريد إن كان الاعوجاج عندهم حاصلا فطلبهم له تحصيل الحاصل، وإن كان غير حاصل فهو محال لَا يصح طلبه، فقال ابن عرفة: يمنح ذلك بل هو غير حاصل، وهو ممكن الحصول عندهم، وفي اعتقادهم فطلبه ليس محال، ثم أجاب الزمخشري: عن السؤال بجوابين.
وقال الزمخشري: في سورة طه في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧).. أنه إنما أسند العوج إلى الأرض، وإن كان حسيا؛ لأن الأرض، وإن كانت مستوية في رؤية العين، فقد يكون فيها اعوجاج خفي لَا يدركه البصر.
ابن عرفة: ولذلك نشاهد الصناع من النقاشين والبنائين في فرش الدور وغيرها في السطح المستوي يزنونه بالماء فيظهر لهم فيه الميل والعوج، وإن كان في رؤى العين مستقيما.
قوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
قال ابن عرفة: إشارة إلى غفلتهم عن نزول العذاب بهم، أي لَا يتوهموا أن إمهال الله لكم بالعقوبة غفلة منه عنكم، بل هو يعلم منه بتأخير ذلك إلى يوم القيامة، وقال في الأولى: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) لأن الأول أخف من الثاني، فرتب عليه الوعيد الأخف، وأجاب الفخر: بأن كفرهم ظاهر [وعنادهم] عن سبيل الله، إنما كان في [خفية*] بالحيلة والدس، فناسب تعقبه، بقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهو جواب حسن.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ... (١٠٠)﴾
قال ابن عرفة: الطاعة موافقة الأمر، [**وهي لم تقع منهم للمؤمنين، وإنما كان مساو بحسبما وحيله فلم أطلق عليه اتباعه طاعة؟ ثم أجاب بوجهين، إما بأن المراد أن توافقهم في الأمر المتوكد (يَرُدُّوكُمْ)]، وإما أن يكون أطلق عليه أمرا مجازا، أو يجوز في لفظ الطاعة.
قوله تعالى: (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).
إن الذين يردونهم إيمانهم الفرق المجيبون لهم فالضمير إما عائد على الفريق باعتباره معناه، أو على الذين كفروا، وإما من ناحية أنهم إذ أطاعوا رؤسائهم صاروا من حزبهم ومن قومهم، فكان الجميع يردونهم عن دينهم، فإن قلت: ما فائدة قوله: (بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) مع أن قوله للذين آمنوا يعني عنه، فالجواب: أنه ذكر زيادة في تقبيح ذلك الفعل.
قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ... (١٠١)﴾
هذا شبه ما قالوا في استثناء عين المقدم، فقال: إن تطيعوا أهل الكتاب تكفرون، لأن كفركم حال وجود الآيات معكم والرسل محال فطاعتكم أهل الكتاب، وهذا إن قلنا: إن استلزام الدليل للمدلول، أو المتقدمين للتنحية عقلي فظاهر، وإن قلنا أنه عندي فكذلك أيضا يقول: كفرهم حالة سماعهم الآيات ومشاهدتهم لها محال، قال ابن الخطيب: وهذا تعجب منهم.
ابن عرفة: إنما هو استبعاد لأن التعجب إنما يكون من أمر واقع خفي سببه، هذا لم يقع بوجه، فإنما هو استبعاد.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ).
العصمة في اللغة مطلق الامتناع، وفي الاصطلاح عند الأصوليين امتناع خاص، فكان الشيوخ مختلفون في جواز الدعاء بالعصمة، فمن حملها على المعنى اللغوي، أجازا الدعاء بها، ومن نظر للاصطلاح منع ذلك وخصصها بالأنبياء.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ... (١٠٢)﴾
قال ابن عطية: نزلت في قصة الأوس والخزرج.
وقال ابن عرفة: إنما هو لنفي وقوع ما يتوهم مما تضمنت القضية الشرطية المتقدمة فرض وقوعه، وهي أن تطيعوا فتضمنت هذا الأمر بلزوم تقوى الله تعالى، واستدامتها حتى لَا يقع منهم طاعة للكفار بوجه، وفسرها ابن عطية بثلاثة أوجه: إما أن المراد اتقوه التقوى اللائقة به كقولك للأمير الواحد: أطعني على قدرتك، فيلزم عليه تكليف ما لَا يطاق فتكون الآية منسوخة، أو المراد عموم التقوى بالإطلاق فتكون مخصوصة بقوله تعالى: (فَاتقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أو المراد التقوى المستطاعة فتكون مساوية لتلك الآية سواء زاد ابن عرفة: وجها رابعا وهو أن المراد اتقوا الله واجب تقاته، أي اتقوه فيما أوجب عليكم فيتناول الأمور الواجبة، ويخرج عنه الندب، فتكون هذه الآية أخف من قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم). وعلى ما قال ابن عطية: إما أشد منها، أو مساوية.
قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا... (١٠٣)﴾
390
ابن عرفة: قال بعضهم ولا تفرقوا تأسيس؛ لأن الأمر لَا يقتضي التكرار ولا الدوام، فيصدق بفعله وفناها والنهي يقتضي الانتهاء دائما، وإن قلت: إن الوقت يقتضي التكرار فيكون فيه دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده.
وقال ابن عرفة: وهذا في الأحكام الاعتقادية.
ابن عرفة: وفيه ترجيح لقول الغبريني القائل بأن كل مجتهد في العقليات مصيب.
ابن عرفة: وإن قلنا: إنها في الأحكام الشرعية فيكون فيها دليل على ترجيح الاتفاق على الاختلاف، وأنه مهما أمكن رد أقوال العلماء إلى الآية نسق كان الأولى.
قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).
قال ابن عرفة: هذا كما يقال: يصدق تبين الأشياء، وذلك أن من أكل طعاما فأمرضه، ثم صح فانتهى من ذلك الطعام، واستحضر ما ناله من الألم، وعلم أنه إن أكله يعود له مرضه، فإنه يجتنبه ويترك شهوته، وكذلك هؤلاء الأوس والخزرج كان بينهم في زمن كفرهم تباغض وقال: بغي فأنعم الله عليهم بالإسلام الرافع لذلك المثبت للمحبة وزوال البغض وتألفوا الكلمة فإذا استحضروا هذا ذكروه علموا أنه ضد الإسلام، وهو الكفر موجب لضد ذلك، وهو الشأن والبغضاء، فيكون ذلك سببا في ثبوتهم على دينهم وعدم تفرقهم.
ابن عرفة: (وَاذْكُرُوا) هو العامل في إذ عمل الفعل في المفعول، فيكون إذ بدلا من نعمة لأن اذكروا إنما يتعدى إلى مفعول، وقد أخذه.
قيل لابن عرفة: نقل بعضهم عن الشلوبين، أن إذ يكون تعليلا، وهو هنا مناسب فعلها للتعليل فقال: العلة غير المعلول، والنعمة هنا هي نفس التآلف بينهم، وذهاب العداوة.
قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).
قال ابن عطية: إما عائد على (شَفَا) أو على (حُفْرَةٍ) أو على (النَّارِ).
ابن عرفة: والمعنى يرجح عوده على (شَفَا)؛ لأن إلإنقاذ من الشيء يقتضي تقدم حصول فيه، وهم لم يحصلوا قط في النار، ولا في حفرها، ولكن في شفا الحفرة.
ابن عرفة: والآية تضمنت تذكريهم في الامتنان عليهم بأمرين ضروري ونظري، فالضروري (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) لأنه أمر واقع
391
في الدنيا مشاهد لهم لَا يخالفون فيهم، والنظري: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) فإنه أمر معيب لَا يعلم إلا بالنظر والاستدلال فعطفه على الأمر الضروري يقتضي التسوية بينهما، وأنهم كما علمتم هنا ضرورة فاعلموا الآخر ضرورة.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
قال الزمخشري: أي إرادة أن تهتدوا فاعتزل؛ لأنه جعل الله تعالى أراد هداية جميعهم مع أن منهم من عصى، ولم يهتد، فالصواب أن لعل للترجي، وهو مصروف للمخاطب أي حيث بترجى هدايتكم من يعلم مشاهدتكم لهذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ... (١٠٤)﴾
ابن عرفة: الأمر متعلق بالجميع، ويسقط بفعل البعض، أو متعلق ببعض غير معين، قلت: انظر التلمساني شارح المعالم الفقهية بالمسألة التاسعة من باب الأوامر.
ابن عرفة: وهل يسقط بنفس الشروع فيه أو بعد تمام فعله، فقال: إنه لَا يسقط عن البعض إلا بعد فراغ البعض الآخر من فعله واستدل بقولهم: فيمن شرع فيه إنسانا فعل الأول أنه لأنه يلحق به ويكون كفاعلة ابتداء واختيارا.
ابن عرفة: أنه بنفس شروع البعض فيه يسقط فرضه عمن بقي واحتج بقوله: في المدونة في كتاب الجنائز، وإذا حدث أمام الجنازة استخلف من يقم بهم باقي التكبير، فإن توضأ وأدرك بعض التكبير كان في سعة إن شاء رجع، أو ترك فكونه خير بين الرجوع والترك قيل: فراغ المستخلف منها دليل على أن فرضها سقط بنفس الشروع فيها بالمعروف فيما طريقة الندب، فحكى إمام الحرمين فيه في الشامل قولين: وذكر ابن بشير لما تكلم على صلاة الوتر.
ابن عرفة: وهذه أحد المسائل المذكورة في علم أصول الدين، أعني وهي ومسألة الإمامة، ومسألة التسعير في الطعام.
قال الزمخشري: لَا يصح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ممن علم بالمعروف والمنكر، فالجاهل قد ينكر على من لَا ينفع الإنكار في حقه كالإنكار على أصحاب المياصر والجلادين.
ابن عرفة: المياصر جمع ماصر أو حبل أو سلسلة توضع على الطريق، والنهر يحبس بها المارون، أو السفن، كما يفعل المكاسون والعشارون.
ابن عرفة: والجلادون هم الذين يجلدون النَّاس بالأسواط، ويقطعون الأيدي.
قال الزمخشري: والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب، فأما النهي عن المنكر فواجب كله، لأن جميع المنكر تركه واجبا لاتصافه بالقبيح، قال بعض الشيوخ يلزمه أيضا أن يقول المعروف فعله واجب، لأنه حسن فيصير الندب واجبا لأنه حسن.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا... (١٠٥)﴾
قال ابن عرفة: فيها سؤال، وهو ما الفائدة في قوله: (وَاختَلَفُوا) مع أن تفرقهم يشعر باختلافهم، لكن إن قلنا: إن تفرقهم بالأديان واختلافهم في المذاهب والاعتقاد، فلا سؤال لكنه بعيد، وإن قلنا: إن التفرق في الاعتقاد والمذهب، وهو الظاهر فالسؤال وارد، قال: وتقدم لنا الجواب عنه بأن التفرق أخص والاختلاف أعم، والتفرق يشعر بكون هذا في شق، وهذا في شق هذا يثبت، وهذا يبقي وللخلاف في العلم فيتناول هذا ويتناول من وقف فلم يحكم بنفي ولا إثبات فاقتضى الأول بأن منهم من أثبت العادم منهم من نفاه واقتضاء الثاني: أنه من شك فيه فلم يثبته، ولم ينفيه فيصدق عليه أنه خالف، ولم يناقض حتى يكون هو وصاحبه مفترقين، ولا يكون كالذين اتصفوا بالتفرق والتناقض، بل لَا يكونوا كمن خالف ولم يحكم بالنقيض.
ابن عرفة: وهذا كله في الأمور الاعتقادية فقط.
قال ابن عرفة: وهل الذين تفرقوا عام في ذي المذاهب الصحيح، والفاسد أو هو خاص بالمبطلين، لَا يدخل فيه المحققون قولان كما في الحديث: "ستفترق هذه الأمة على اثنين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي"، فهل المفترقون مجموع الاثنين وسبعين فقط؟ حكى ابن عطية: عن ابن عباس: أنها إشارة إلى كل من افترق من الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق، وعن الحسن أنها لليهود والنصارى، وعن الزجاج: احتمال ذلك.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... (١٠٦)﴾
قيل: إن (عظيم) هو العامل في يوم، ومنعه ابن عطية: لاقتضائه أنه عذاب العذاب في ذلك اليوم.
ابن عرفة: إنما هو عظيم في بعضه، والصواب أنه عظيم في جميعه، ابن عطية: ولا يجوز أن يعمل فيه؛ لأنه مصدر قد وصف.
ابن عرفة: بل يجوز؛ لأن العوامل تعمل في الظروف والمجرورات، [فأجري مجرى الفعل*].
ابن عرفة: وهذا راجع أما للذين تفرقوا إن كان التقسيم فيها مستوفيا، وأنهم شاملون الاثنين وسبعين فرقة، وإما راجع للذين تفرقوا ولتسميهم وهم المؤمنون، إن كان المراد بالذين تفرقوا الكافرون فقط.
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ).
تشديدا وتخويفا، قوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) نقل أبو حيان عن صاحب [نهاية التَّأْمِيلِ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ*] على حذف القول، أي يقال لهم: (أَكَفَرْتُمْ) وجعله مثل قوله تعالى: [(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) *]، فقال: تقديره يقال لهم: [(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) *] قال وأجاب صاحب التأميل بأن الفاء في قوله [وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ تَقْدِيرُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَحُذِفَ فَيُقَالُ، وَلَمْ تُحْذَفِ الْفَاءُ. فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا تَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ. وَلِقَوْلِهِ: أَكَفَرْتُمْ، وَمِنْ نَظْمِ الْعَرَبِ: إِذَا ذَكَرُوا حَرْفًا يَقْتَضِي جَوَابًا لَهُ أَنْ يَكْتَفُوا عَنْ جَوَابِهِ حَتَّى يَذْكُرُوا حَرْفًا آخَرَ يَقْتَضِي جَوَابًا ثُمَّ يَجْعَلُونَ لَهُمَا جَوَابًا وَاحِدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «٢» فَقَوْلُهُ: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ جَوَابٌ لِلشَّرْطَيْنِ، وَلَيْسَ أَفَلَمْ جواب جَوَابَ أَمَّا، بَلِ الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ: [أَأَهْمَلْتُكُمْ فَلَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ آيَاتِي*] (١)، وصوبه ابن عرفة.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ... (١٠٧)﴾
قال ابن عرفة: تقدم منا سؤال وهو لم ذكر سبب تعذيب أولئك وعدد لهم وهددوا، ولم يذكر سبب رحمة هؤلاء وثوابهم فلم يقل (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضتْ وُجُوهُهُمْ)، فيقال لهم اهتديتم إلى الإيمان واتبعتم الرسول فأنتم خالدون في رحمة الله، قال والجواب: إما أنه من حذف التقابل، وإما بأن هذا جرى على الصفح المألوف من فضلاء الملوك، والأشراف في الدنيا، إن من عصاهم يعذبونه ويعددون عليه أفعاله القبيحة زيادة في عذابه بالقول والفعل ومن تكرموا عليه فأطاعهم يكافئونه بمجرد إسداء النعم عليه، ولا يذكرونه بما سلفت له حسبما قال الشاعر:
وإن امرءا أسدى إلي بنعمة... وذكر فيها مرة لبخيل
قلت: وأشار إلى تعذيب الله لهم عدل وجزاء عن كفرهم، ورحمته بهم محض تفضيل لَا جزاء عملهم بوجه.
(١) النص مضطرب جدا في النسخة المطبوعة، وتم نقله كاملا من (البحر المحيط. ٣/ ٢٩٤).
قوله تعالى: (هُم فِيهَا خَالِدُونَ).
ولم يذكر في (الَّذِينَ اسْوَدتْ وُجُوهُهُم) وصف الخلود في العذاب، قال: فعادتهم يجيبون بأن النفوس مولعة بسوء الظن، فمن نزل به أمر مؤلم تظن دوامه، ولا يطمع في زواله غالبا، ومن كان في نعيم فإنه يتوقع زواله، لأن الإنسان من طبعه الهلع والجزع، فذكر الخلود في الثاني احتراسا ولم يذكر في الأول اكتفاء بما حصل في النفوس من ظن دوامه، قال: وهذا الجواب: تقدمنا في قوله تعالى: في سورة هود (فَأمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) الآية، وقال في الفريق الآخر (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).
قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨)﴾
قال الزمخشري: أي ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، فسبحان من يحلم عمن [يصفه*] بإرادة القبائح والرضا بها، وأجيب: بأنا نحن نقول سبحان من يحلم عمن يجعل له شريكا في ملكه.
ابن عرفة: ولا شك أن الآية قوية في صحة مذهبهم لكن تقدمنا الجواب: بأن المراد بالآيات الحجج الظاهرة على بعث الرسول الدالة على صدقه، والإرادة على قسمين فإرادة القديمة الأزلية اقتضت ربط عذابه ببعث الرسل، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) فهم في العدم أراد أن لَا يعذب أحد حتى يعذر إليه بأن يبعث إليه رسولا بين له الشرائع والأحكام الاعتقادية والشرعية، فإذا تقرر هذا فهما فرض بعد ذلك أراد تعذيب من غير بعث رسول الله كان هذا الفرض ظلما؛ لأنه مخالف لما قرره الشرع فهذه الإرادة تفيد باعتبار الوجود والتقدير، لكنها قد يتوهم فلذلك احتيج إلى نفيها، وانظر تفريق المنطقيين بين الضرورة السابقة والضرورة اللاحقة، وإن كان الأصوليون قد قالوا أن بعثه الرسل جائزة غير واجبة، وأنه يجوز عقلا أن يعذب الله الخلق من غير أن يبعث إليهم أحدا لكن الشرع ورد أنه أريد في الأزل أن لَا يعذبهم إلا بعد الأعذار إليهم فإذا توهمنا بعد ذلك أنه أراد تعذيبهم فمن ظلم وهو المنفي في الآية، وإلا فالله تعالى أراد الخير والشر تعالى أن يكون في ملكه ما لَا يريد.
قال ابن عرفة: وتقدمنا في الآية سؤال، وهو أن البيانيين فرقوا بين دخول حرف النفي على الاسم مقدما على الفعل وبين مباشرته للفعل، فجعلوا قولك: ما يقوم زيد هو الأصل؛ لأنه أخص من قولك: ما زيد يقوم؛ لأن هذه ضمير الفاعل، والأول ليس فيه ضمير فما يعدل عن الأول إلى الثاني إلا لنكتة تتوخى قال: فكان يمشي لنا؟ الجواب: بأنه إن أريد نفي الفعل لذاته أدخل حرف النفي عليه مثل ما يطير زيد، فليس الطيران بمنتف عنه بخصوصيته بل لذات الطيران، لأن من ذاته انتفاؤه من نوع الإنسان من حيث هو، وإن نفي الفعل لَا لذاته بل لوصف في الفاعل خاص به مانع منه أدخل حرف النفي على الاسم مباشرة كقولك في زيد المقعد: ما زيد يقوم؛ لأن القيام من صفة أبناء جنسه وإرادة الظلم هنا إنما انتفت لوصف في الفاعل مانع عنها وهو الألوهية المستلزمة لأوصاف الكمال، بدليل وقوع أراد الظلم بعض المخلوقين لبعض زاد بعضهم أن قولك: ما أنا فعلت هذا لحرض بالمخاطب أنه فعله وكذلك الآية فيها تعريض للعالمين أن من شأنهم الاعتداء والتظالم فيما بينهم.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)﴾
قال ابن عرفة: من باب الإتيان بالحكم مقرونا بعلته ودليله: أنه إذا ثبت أنه مالك لما في السماوات وما في الأرض الملك الحقيقي، فهو قادر على إعدامهما وقادر على إعادتهما كما كانت، فصح بها إثبات المعاد.
قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ... (١١٠)﴾
الخطاب للصحابة، أو لجميع النَّاس المؤمنين، والظاهر الأول؛ لأن تفضيل الصحابة لأوصاف فيهم ليست في غيرهم إلا أن يكون مما آتى بعدهم فيه تلك الأوصاف فيبلغ هذه المنزلة، أي في الوصف الذي شارك فيه الصحابي، ولكن يتميز عنه الصحابي بوصف الصحبة فهو خير على كل حال.
قيل لابن عرفة: إنما المراد أن مجموع هذه الأمة خير من مجموع سائر الأمم تفضل المجموع على المجموع يتناول الصحابة ومن بعدهم، فقال: الصحيح أن المضمرات كلية لَا كل، فما المراد إلا تفضيل كل واحد، واحد من هذه الأمة على سائر الأمم المتقدمة، وليس كل واحد من هذه الأمة فيه تلك الأوصاف، فيبقى حملها على الصحابة فقط، وإن كل واحد منهم أفضل من سائر الأمم المتقدمة، قال: ومن لم
يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر متصف بالخيرية لوصف الإيمان لَا بل لَا خيرية، ومن غير المنكر بالفعل أفضل ممن لم يقدر على تغييره فغيره بقلبه.
ابن عرفة: واحتج الأصوليون بهذه، على أن الإجماع حجة وهو بناء على قول الحسن ومن تبعه، بأنها خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قلت: وصف الإيمان سابق في الوجود على الأمر بالمعروف فلم أخره عنه في الآية؟، قلت: عادتهم يجيبون بأنه تنبيه على السلامة في ذلك من الرياء والصحة فلو قدم الإيمان لقيل خبرا عن الأصل؛ لأن الأمر بالمعروف يستلزم الإيمان، فكان يقول: قدم في الذكر ما هو متقدم في الوجود فلما أخر علم أنه لفائدة، وما نهى إلا الإشعار بالسلامة من المظاهر والرياء فهو حين أمره بالمعروف مستحضر لوصف الإيمان، وأسبابه المانعة له من الرياء والسمعة.
قوله تعالى: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
ولم يقل أكثرهم الفاسقون إشارة إلى أنهم آمنوا بالله وآمنوا بأنبيائهم في كل شيء؛ لأن من جملة ما أخبرهم به أنبيائهم إرسال محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في آخر الزمان فكفرهم به فسق.
قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى... (١١١)﴾
قال الزمخشري: في هذه الجملة مع قوله منهم المؤمنون كلاما زائد أنه على سبيل الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب.
ابن عرفة: كان بعضهم يتعقبه من وجهين:
الأول: أن الاستطراد إنما يكون غير مقصود أن يؤتى بالجملة في ضمن جملة أخرى، لم يقصد الإخبار بها أولا بل جاءت على سبيل الاستثناء... لعزب من المناسبة والقرآن منزه عن ذلك، وهو بخلاف الاستطراد الذي يذكره البيانيون، فإن الاستطراد عندهم، قال مالك: هو أن يكون من الفنون فيتوهم استرساله فيه ويخرج منه إلى غيره، ثم ترجع فإن تمادى بذلك الخروج، قال الله تعالى: (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ).
الجواب الثاني: أن جملة (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) أتى بها احتراسا أو تتميما لما قبلها؛ لأنه لما تقدمها، (وَأكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) خشي أن يتوهم المؤمنون
أن الكفار يغلبونهم بالكثرة والقوة، فاحترس من ذلك بهذه الآية، وقال: لَا تتوهموا أنهم يضروكم غاية أمرهم أنهم يؤذونكم بالقول فقط، وهذا أحسن مما قال الزمخشري.
ابن عرفة: والضرر المنفي فعلي والأذى قولي، أي لَا يصدر منهم لكم إذا إلا كما يصدر من المريض العاجز عن الحركات، والمريض العاجز لَا يصدر منه إلا الإذاية بالقول خاصة فكذلك هؤلاء.
قوله تعالى: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ).
ولم يقل: يولوكم أدبارهم، أجاب ابن عرفة بأنه لو قيل: يولوكم أدبارهم لما حصلت كمال الطمأنينة للمؤمنين؛ لأن الجيش له مقدم ومؤخر، وساعة وقلب، ففي الممكن إذا انهزم مقدمه المباشرون للقتال ولوا أدبارهم أن مخلفهم الساعة والمؤخر، فلما قال: (يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ) أفاد العموم وأشعر بانهزام جميع جيشهم ثم لما كان المعهود في الجيوش المنهزمين أنهم كثيرا ما يفرون حتى يأخذ العدو سلبهم أو بعضه، ثم يكرون عليه فيهزمونه ويستخلصون منه ما أخذ لهم احترز من ذلك بقوله: (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ).
قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ... (١١٢)﴾
ابن عطية: الاستثناء منقطع، وفي الكلام حذف تقديره: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) هلكوا لَا نجاة لهم فلا نجاة لهم من الموت إلا بحبل من الله.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن يجاب بأن الذلة على نوعين ذلة أخص، وذلة أعم، فمعناها الأخص هو كون اليهودي إذا وجد بدار الحرب مباح دمه وماله، والمعنى الأعم هو إذلالهم واحتقارهم فقط، فقوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) هو المعنى الأخص، وقوله: (إِلَّا بِحَبْلٍ) أوضاع مقدرة شرعا، وحبل من النَّاس وهو ما أخذونه منهم من الجزية، وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) إما راجع لصفة الشخص الفعل، أو لصفة المعنى وهو الإرادة أعنى أنه راجع لبعض الانتقام منهم، أو لإرادة الانتقام منهم، وما أراد الله لابد من وقوعه.
قوله تعالى: (وَضُرِبَت عَلَيهِمُ الْمَسْكَنَةُ).
ابن عرفة: المسكنة هي الذلة لكن الأول راجع لإذلالهم غيرهم لهم وهذا راجع إلى اتصافهم في أنفسهم بالذلة.
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ).
قال ابن عرفة: الكفر يراد به الشرك بالله، ويراد به كفران النعمة وهو هنا راجع للتوحيد والألوهية، وقال الشلوبين: الكفر بالنعمة لَا يأتي إلا مضمرا بها، وقال غيره: أنه يصح الملامة والقرينة بعينه، قال: وأدخل كان هنا للدلالة على تكرار ذلك منهم ودوامه، ولو فيل: كفروا صدق بالمرة الواحدة.
قوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).
قال ابن عطية: أنه تأكيد؛ لأن قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لَا تكون بحق بوجه، وتقدمنا الجواب بأنه تأسيس، قال: وذلك إن نفي الحق تارة يكون في نفس الأمر وفي الاعتقاد، وتارة يكون في نفس الأمر فقط، لَا في الاعتقاد ومثاله قتل المسلم في الجهاد لرجل رآه في صف المشركين، واعتقد أنه مشرك، فإذا هو مسلم فهذا قتله بحق في اعتقاده، وفي نفس الأمر ليس بحق قريبا منه بقدر للزمخشري: في سورة البقرة، وحق هنا في سياق النفي؛ لأنه منفي بقوله: (غير) فيعم قتل الأنبياء، قد يكون بحق في الاعتقاد، وأما في نفس فليس إلا بغير حق.
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
إن قلت: ما أفاد قوله: (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) وأجيب بوجهين:
الأول: أن العصيان أعم يطلق على المخالفة في الواجب وفي المندوب حسبما ذكر المازري في المعلم في حديث: "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم"، والاعتداء راجع لقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).
قوله تعالى: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ... (١١٣)﴾
يعني ساعات الليل وأوقاته وهم يسجدون، وهو نظير قولك: رأيت زيدا أياما عشرة، فإنه يقتضي عموم الرؤية في عدد تلك الأيام لَا عمومها في زمن كل واحد من تلك الأيام على لو رآه ساعة واحدة منها لصدق، أنه رآه ذلك اليوم، وكذلك يتلون آيات الله ساعات الليل، أي في كل ساعاته ولا يقتضي تعميم إجراء كل ساعة منها بالتلاوة.
قوله تعالى: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... (١١٤)﴾
ابن عرفة: النهي عن المنكر من باب دفع المؤلم فكان الأصل تقديمه لكن إنما ذلك إذا تعارضا معا والآية ليست من تعارضها مقابل إشارة إلى اتصافهم بالأمرين فكان الأهم في صفات المدح الابتداء الأمر بالمعروف؛ لأنه أخف من النهي عن المنكر فيكون ترقيا في وصفهم.
قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).
مبالغة في حقهم؛ لأن قولك: زيد صالح، وقال ابن حزم: إن الصالحين أدون ذلك عليه بعضهم.
ابن عرفة: والصواب ما قال ابن حزم.
قال ابن عطية: قال بعض النَّاس: دخلت مع بعض الصالحين في مركب فسألته عن الصوم في السفر، فقال: إنها المبادرة يا ابن أخي، قال: فجاءني بجواب ليس من أجوبة الفقهاء.
ابن عرفة: بل من أجوبة الفقهاء.
قال ابن عرفة: وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالأنبياء عليهم السلام؛ لأنه من ممايزات العقل التي أثبتها السمع من الأنبياء هذا مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة، أن المعاد واجب عقلا، بناء على [مباحث*] التحسين والتقبيح العقليين عندهم، ابن عطية: وفي الحديث " [اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"*] " وينظر قول ابن الفارض: [... ].
قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦)﴾
قال ابن عطية: إضافة تخصيص يقتضي ثبوت ذلك لهم، ودوامه.
ابن عرفة: هذا يدل على أن الصحة عندهم لَا تقتضي الدوام، والذي ذكر الأصوليون من باب الأخبار أنها تقتضي الدوام لكن دواما مطلقا، (خَالِدُونَ) أصرح في الاستمرار الأبدي.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (١١٧)﴾
ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق أن أموالهم وأولادهم لَا تغني عنهم شيئا عقبه ببيان عاقبة ما ينفقون من أموالهم، وهذا إما إبطال لها من أصلها واو إبطال بشرتها؛ لأن المال في الدنيا تارة يكون البخس فيه بعدم حركته، وترك التجزئة وتارة يكون البخس فيه من حوالة الأسواق فيه بالخسارة، وهو ظاهر في التشبيه هنا، وهل هو تشبيه مفرد بمفرد، كقوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) ففيه حذف شيء واحد إما من الأول، أو من الثاني، أو من حذف التقابل وشبه فيه إنفاقهم وإحباطهم في الآخرة بالزرع الأخضر، وإهلاكه بالريح، ونقل ابن عطية: أن المراد ظلموا أنفسهم بالحرث في غير وقت الزراعة، ولا يبعد أن هؤلاء أنفقوا مالهم في غير محل الإنفاق؛ لأن شرطه وقوع الإيمان منهم، والفرض أنهم كفار، ولكن أنفسهم يظلمون.
ابن عرفة: تقدمنا الجواب بأنه روعي فيه مقتضى اللفظ، لقوله تعالى: (يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فعبر عنها بلفظ الحضور وهو اسم الإشارة فناسب إسقاط كان المقتضية للمعنى والانقطاع، وآية النحل ليس فيها ما يدل على الحضور بوجه، وأجاب الأستاذ أبو جعفر الزبير: بأن آية النحل في قوم مضوا؛ لأن قبلها (كذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم)، وأما هذه فهي للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فناسب إسقاط كان، وتقديم المعمول عنها لرءوس الآي وليس هو للحصر؛ لأنهم ظلموا أنفسهم وغيرهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا (١١٨)﴾
قال ابن عطية: اختلفوا، فقيل: نزلت في قوم مؤمنين كان لهم خلقا في الجاهلية وبقوا على عهدهم معهم في الإسلام، وقيل: نزل في حالة المؤمنين مع المنافقين.
قال ابن عرفة: فإن قلنا: إن المؤمنين كانوا يعلمون أعيان المنافقين فظاهر، وإن كانوا غير معلومين لهم لزم تكليف ما لَا يطاق، فالقول الأول أصوب.
قوله تعالى: (مِنْ دُونِكُمْ).
أي من غيركم، ابن عطية: ومنه قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "ما من خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالخير، وبطانة تأمره بالشر والمعصوم من عصمه الله" فقال ابن عرفة: يحتمل أن يكون كلية، وإن كل خليفة له بطانتان، ويحتمل أن
401
يكون كلا، وإن البعض الواحد له بطانة تأمره بالخير، والبعض الثاني له بطانتان للخير والشر، ابن عطية: ويدخل في الآية استكتاب أهل الذمة.
قال ابن عرفة: من باب أحرى؛ لأن الكاتب له أقرة وتصرف واستيلاء، فإذا منعت الصحبة والمصادقة فأحرى المكانة وقد نهى عنها مالك في المدونة.
ابن عرفة: وفي الآية إيماء للنهي عن مصادقة المسلم الذي علم منه الحقد والحسد والمضرة، انتهى.
ابن عرفة: وفي الآية عندي اللف والنشر.
قوله تعالى: (قَدْ بَدَتِ الْبَغضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِم).
راجع لقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)، وقوله تعالى: [(وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ) *] راجع لقوله (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) أي بالأقوال، ابن عطية: وخص الأفواه دون الألسنة إشارة إلى [شدقهم*] وثرثرتهم بأقوالهم.
قال ابن عرفة: أو لأن الحروف منها ما مخرجه من اللسان، ومنها ما مخرجه من غيره، والفم يجمع ذلك كله، فعبر بالأفواه ليعم جميع الحروف، وأنهم لَا يبغوا منها في كلام، قيل لابن عرفة: قال تعالى في سورة الفتح (يَقولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم) فقال: تلك الآية وردت في معرض الذم لهم وإذا ذم الإنسان على التكلم في شيء ببعض الحروف فأحرى أن يذم على الكل، وهذه خرجت مخرج التهييج على منافرتهم والبعد عنهم بذكر أوصافهم القبيحة، فناسب الإطناب فيها والمبالغة.
قوله تعالى: (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ).
يحتمل الكبر في الكمية، أو في الكيفية، فإما أن يراد أن الذي في صدورهم في الحسد، والغل أكثر مما يظهرونه وأنه دائم لَا ينقطع، بخلاف ما يتكلمون به، منه فإنه ينقطع بسكوتهم.
قوله تعالى: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ).
الألف واللام للعهد، أي اللام المعهودة، والبيان ضد الإجمال، فيكون الراجح أنها آية القرآن لَا المعجزات.
402
قوله تعالى: (إِنَّ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ابن عرفة: الظاهر أنه العقل النافع لَا العقل التكليفي.
قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ... (١١٩)﴾
قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق نهي المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أخلاء وأصحابا، وكان النهي عن ذلك محتملا لأن يكون اتصفوا بذلك بالفعل، أو لم يفعلوه بل هم في حيز الاتصاف عقبه بما يدل من تنفيرهم عن ذلك بذلك مع زيادة الإشعار باتصافهم به، فهذه الآية تأسيس لَا كما قال ابن عطية: وغيره من أنها تأكيد.
ابن عرفة: إن قلت: لم قال: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ) فحذف هاء التنبيه من الثاني، وقال قبله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ) بإثباتها في الأول والثاني، فأجاب بعض طلبته بأن تلك الآية خطاب للكفار بلا خلاف فأعيدت هاء التنبيه، لأن المخاطبين أولا هم المخاطبون ثانيا، وأما هذه فقيل: إنها للمؤمنين، وقيل: إنها إشارة للكفار وهم غائبون والغائب [ينبه*]؛ لأنها تنبيه [للمخاطب*]، ولذلك جعله أبو حيان: من باب الاشتغال، كقوله: ها أنت زيدا ضربته.
الجواب الثاني: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأن التنبيه يشعر بالقرب، فلذلك لم يؤتَ بهاء التنبيه الدالة على القرب بخلاف تلك، فإن المحاجة تقتضي أن أحد الخصمين في شيء، والآخر في شيء آخر فالنهي عن محبتك من لَا يحبك، فأحرى محبتك لمن يكرهك، وهذا في الأمر الديني؛ لأن من الكافرين من كان يحب بعض المؤمنين، لَا لوصف الإيمان بل لقرابة بينهما، أو صحبة قديمة، أو يد سلفت، أو نحو ذلك.
قوله تعالى: (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ).
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون الكتاب واحدا بالنوع، أو واحدا بالشخص، وفي آية النساء: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)، فهل التبعيض أيضا في نوع الكتب، أو في شخصه بمعنى إن أنتم تؤمنون بالكتب كلها، وهم يؤمنون بالتوراة خاصة، ولا يؤمنون بالقرآن، أو المعنى إن أنتم تؤمنون بجميع التوراة، وهم يؤمنون ببعضها فقط؛ لأن فيها صفات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإعلام بصحة نبوته، وهم يكفرون به، وهذا هو الظاهر.
قوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ).
إن قلت: هلا قيل: عضوا عليكم أناملهم، فالجواب: أنه إشارة إلى شدة غيظهم، وشغل بالهم بحيث يعضوا على أناملهم وأنامل غيرهم.
قال ابن عطية: وواحدة الأنامل أنملة بضم الميم وفتحها والضم أشهر، ونقل بعض الطلبة، إن القاضي ابن حيدرة كان يقول: الفتح أشهر، وكذا قال ابن عرفة في كتاب الجنايات في المدونة.
قال ابن عطية: عض الأنامل إشعار بغيظ النفس، كما أن قرع الأسنان إشعار بالندم.
قال ابن عرفة: وقال الشهرستاني في أول كتابه نهاية الإقدام: لعمري لقد طفت المعاهد كلها، وقلبت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على لحية، أو قارعا من نادم.
قال ابن عرفة: وكان الفقيه أبو علي عمر بن خليل، وغيره ينتقدون عليه قوله: واضعا كف حائر، قالوا: فإن هذا إبطال لمذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأكثر أهل السنة لاقتضاء أنه حائر لم تقف على حقيقة أمر بوجه.
قوله تعالى: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ).
قيل: إنه خبر كقوله تعالى: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ)، وكقوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) هو أمر المراد به الخبر، وقيل: إنه دعاء.
ابن عرفة: والظاهر أنه خبر؛ لأنه مستقبل، أي يموتون بغيظكم، وليس الموت من فعلهم حتى يؤمرون.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ... (١٢٠)﴾
قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق الإخبار سالم المنافقين من المؤمنين في حال غيبتهم عنه عقبه بما يدله على فاعلهم منهم مطلقا في الغيبة، والحضور وكفى بالحسنة على الملائم بالسيئة على الشيء المؤلم، وأورد الزمخشري: أن لم ذكر السن في الحسنة والإصابة في السيئة؟ فأجاب بجواب لَا يقتضي، وأجاب ابن عطية: بأنه
تنبيه على شدة غيظهم، لأن العدو يتألم بحصول، أو في شيء ملائم لعدوه، ولا ينتفي من عدوه إلا بنزول عظيم البلاء به وأشده.
قال ابن عرفة: وفي الآية حذف التقابل، قال: وذلك الأمر الملائم المعبر عنه بالحسنة سبب في الفرح، والأمر المؤلم المعبر عنه بالسيئة سبب في الحزن، فإذا مست المؤمنين حسنة جعل للمنافقين أمران ضرر في أبدانهم، وهو مشقة مشاهدتهم ذلك وسماعه وحزن في قلوبهم وإذا مست المؤمنين سيئة جعل للمنافقين بذلك تنعما في أبدانهم بشهادتهم لذلك، وسماعهم إياه، وفرح قلوبهم وابتهاج في نفوسهم، فكأنه يقول: (إِنَّ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) ويحزنون بها، وإن تصبكم سيئة تنفعهم ويفرحون بها؛ لأن السوء يهدي للتنعيم، والحزن ضد الفرح، أي إذا تنعمتم تضرروا هم وحزنوا فإذا أصابكم سوء في ضرر تنعموا وفرحوا.
قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا).
قال ابن عرفة: هذا من اللف والنشر للمخالفة، أي وإن تصبروا على مس السيئة وتتقوا ربكم إذا مستكم الحسنة.
قيل لابن عرفة: كل إنسان لابد له من نيل الخير والشر، فهلا عبر بـ إذا الدالة على تحقيق الوقوع، فقال: إن أعم تدل على المحقق والممكن على فرض وقوع ذلك.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
ذكر الزمخشري: قراءة الباء فقط وأنها راجعة للمنافقين ابن عرفة والقراءة بتاء الخطاب، فإما أن يراد بها: قل لهم يا محمد أن الله بما يعملون محيط، وهو إخبار عن إحاطة علم الله تعالى المؤمنين في سرهم وتقواهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ... (١٢١)﴾
قال ابن عطية: ذهب الطبري إلى أنها متصلة بما قبلها والظاهر عدمه؛ لأن تلك من منافي اليهود، وهذه ابتداء قصة المؤمنين في أمر آخر.
ابن عرفة: والظاهر الاتصال، ويكون دليلا على أن عاقبة الصبر والتقوى حميدة؛ لأن هؤلاء لو ثبتوا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جمع المؤمنين واستشارهم، فقال عبد الله بن أبي وأكثر النَّاس: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم.
ابن عرفة: قال ابن عبد البر: إن الأكثر أشاروا عليه بالخروج لهم، الزمخشري: وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إني رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي، فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولتها هزيمة".
قال ابن عرفة: الذي في السير، والحديث الصحيح، "فأولته رجلا من قرابتي"، فكانت وقعة أحد أصيب عمه حمزة، وابن عمته عبد الله بن جحش، وحامل رايته مصعب بن عمير رضي الله عنهم، وكان من أبلى من المؤمنين في الكفار بلاء شديدا حمزة، وعلي بن أبي طالب، وأبو دجانة الأنصاري، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم، الذي في صحيح كتاب الرؤيا، ورأيت أني هززته سبعا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين يوم أحد، ثم هززته، ورأيت أيضا فيها بقر وأولته خيرا، فإذا هو النفر من المؤمنين يوم أحد.
قوله تعالى: (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ).
ولم يقل: أماكن إشارة إلى ما قالوا من أن الرماة كانوا خمسين، وأنه جعلهم خلفه من الخيل، وأمرهم أن يلبثوا هنالك فلذلك عبر بلفظ المقاعد إشارة إلى الثبوت والقعود فيها، وقوله: (تُبَوِّئُ) حالة مقدرة باعتبار أوائل الغد، ومحصلة باعتبار واسطة.
قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا... (١٢٢)﴾
ثم قال: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إلى الذين هموا بالانصراف، خوف العجز والضعف على المبادرة، ثم ندموا على ذلك السر بل كان الله وليهم يصرف عزيمتهم على ذلك إلى نقيضه، وهو المقام والقوة توكلا على الله عز وجل في الإعانة والنصرة.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ... (١٢٣)﴾
ابن عرفة: التذكير بالنعمة على وجهين: تارة يقع مطلقا، وتارة يقع في كل الإياس منها، وهو أعظم وأشد في النفوس، وكذلك وقع هذا؛ لأن قبلها: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) قدروا النصرة في محل الإياس من النصرة.
قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ).
لأنها في موضع الحال.
ابن عرفة: لأن أن مفرد وما بعده، في حكمه؛ لأنها خفض بها، والمفرد لَا يبدل من الجملة، وكذا قال ابن القصار.
قوله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا... (١٢٥)﴾
قيل لابن عرفة: كيف عبر بـ إن، وهلا عبر بـ إذا؟ لأن المراد أمرهم بالصبر الذي لا يقطع زمانه فأحرى مع إيقاع الصبر المحقق، وردهما ابن عرفة بأن الجواب إنما يترتب على فرض وقوع الشرط سوء أكان محققا أو غير محقق فلا يقع الإمداد إلا بعد ثبوت الصبر، قال: وإنما الجواب أنه عبر بإن تنبيها على كمال الملازمة ولا [تنافي*] بين الصبر والإمداد؛ لأن إن تدخل على [المحال*]، أي ولو كان الصبر منهم محالا، وفرض وقوعه فإن مددكم [بالملائكة*] يكثر نحو (إِنَّ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)، فإن قلت: أول الآية يقتضي الإمداد بثلاثة آلاف وآخرها بخمسة آلاف، فالجواب: أنه كما تقول للشخص: يكفيك أن ينصرك بعشرة من الخيل، فيقول لك: نعم، فتقول له: أنا أنصرك بخمسة عشر، أي أنصرك بما يكفيك وزيادة، فالأول اقتضى الإخبار عن نصرتهم بما يكفيهم، والثاني: اقتضى أنهم إن صبروا واتقوا ربهم ينصروا بأزيد مما أقروا به كافيهم، فإن الهمزة داخلة للتقرير عليهم، بأمرهم موافقون عليه، فقول: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) يقتضي أنهم موافقون على أن ذلك كافيهم، قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الأولى: أن بعضهم قال: لم قال: (بِخَمْسَةِ آلافٍ) فاختص هذا العدد دون غيره قال: فأجيب بأن الألف هو نهاية العدد، وغايته، والجيش منقسم على خمسة ذكرها عياض في كتاب النكاح من إكماله، وهي الميمنة والميسرة، والمقدم والمؤخر، والقلب وسمي الساعة وهو الوسط، فجعل لكل قسم منها ألف يقابله فروعي غاية العدد لكل واحد منها.
وقوله تعالى: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا).
ابن عرفة: نصرة الإنسان في هذه الحالة أقرب وأعجب؛ [لأنه عذاب مفاجئ*] فوري يأتي على غفلة، فلا طاقة لهم به.
قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ... (١٢٦)﴾
ابن عطية: قيل: الضمير في جعله عائد على الإنزال والإمداد، الزمخشري: أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشرى لكم بأنكم منصورون، أبو حيان: وقيل: الضمير عائد على النصر، وقيل: على الوعد به.
ابن عرفة: والظاهر أنه للوعد؛ لأن المباشرة مقدمة على المبشر به، فليس النصر مبشرا بل هو المبشر به.
قوله تعالى: (العَزِيزِ الحَكِيمِ).
ابن عرفة: الذي ينصركم إن شاء بسبب وإمداد، وإن شاء بغير سبب ولا إمداد.
قوله تعالى: ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)﴾
الخيبة هو عدم الاتصال بالمطلوب والمراد هنا ما هو أخص من ذلك، وهو خسرانهم.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ (١٢٨)﴾
قال ابن عرفة: فيه عندي حذف التقابل؛ لأن التوبة لَا تقابل العذاب، وأنه تقابل المعصية، والتقدير، أو يتوب عليهم فيرحمهم، أو يدوموا على كفرهم فيعذبهم فحذف من الأول نقيض ما ذكر في الثاني، ومن الثاني نقيض ما ذكر من الأول.
قوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
تأكيد لمقام الوعيد، واعتزل الزمخشري هنا وله فيها شبهة. لكن قوله تعالى: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ (١٢٩).. ظاهر في مذهب أهل السنة، وإذا تأوله الزمخشري على مذهبه فجعله لفا ونشرا، فيرد المغفرة، لقوله تعالى: (أَوْ يتُوبَ عَلَيْهِمْ)، والعذاب لقوله تعالى: (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) ونحن نقول: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) من الكفار، أو العصاة، ويعذب من يشاء من الكفار أو العصاة بالإطلاق.
وقال الزمخشري: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) توبته ونحن نقول: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) مغفرته سواء إن [... ] لابن عرفة: إن هذا مخصوص بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فقال: بل هو على عمومه، ويجعله مخصوصا بها لو كانت التلاوة يغفر لجميع الخلق، وإذا جعلته مخصوصا بها يلزم أن بعض من شاء الله المغفرة له لَا يغفر له بمعني أنه لَا يتوب وهو مذهب المعتزلة القائلين: بخلود العاصي في جهنم، وإن الله لم يرد عصيانه، بل هي
على عمومها، أي يغفر لمن يشاء المغفرة لهم، ويعذب من يشاء تعذيبه، وقولنا: العاصي في المشيئة بمعنى أنا لَا نعلم المشيئة به ما هو، وإلا فهو محكوم له في الأول بالشقاوة وبالسعادة، أو بالجنة أو بالنار.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ولم يقل: غفور شديد العقاب، إشارة لقوله سبحانه: "سبقت رحمتي غضبي".
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً... (١٣٠)﴾
قال ابن عطية: فهذا النهي في أنها أثناء قصة أُحد، ولم يذكر وجها لمناسبتها لما قبلها، وفرق ابن عرفة: وجه المناسبة بأنه لما تقدم الكلام في الكفار المخالفين في الاعتقاد عقبه ببيان أن ذلك الوعيد لَا يخص من خالف في الاعتقاد فقط، بل يتناول العصاة لإطلاق المخالفين في الفروع، [ومَن*] وافقوا في الاعتقاد فقط، فذكر أحد المخالفة وهي أكل الربا.
قوله تعالى: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً).
قال ابن عرفة: تضعيفه إما باعتبار تعدد الأشخاص المعاملين للرجل الواحد بالربا، أو باعتبار تعدده بين الشخصين المتعاملين في دين واحد، مثل الأول أن يكون للشخص الواحد دين لغرماء شيء، فيطلب كل واحد منهم أن يربي له في دينه ويؤخره به، ومثال الثاني: أن يكون على الشخص دين واحد فيحل غير يده فيه، ويؤخره به لأجل فإن تم محل فيربي به ويؤخره لأجل ثالث، وكذلك لرابع وخامس فهو أيضا (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) قيل لابن عرفة: يلزم في الآية المفهوم، وهو أن يكونوا إنما نهوا عن الربا المحصول على هذه الصفة، فإذا كانت فيه الزيادة مرة واحدة، لم يكن منهيا عنه؛ لأن النهي عن الأخص لَا يستلزم النهي عن الأعم، فقال: يقول: نهوا عن الربا المضاعفة مرة واحدة ويختار أنه يسمى تضعيفا، قلنا: وتقدم لابن عرفة في الختمة الثانية النهي عن الأكل منه يستلزم النهي عن استعماله في الإطلاق عن اللباس وغيره،
من وجوه التناول وعبر بالأكل؛ لأنه أحسن أوقاف الإنسان التي يشارك فيها البهيمة، وهما الأكل والجماع، وقوله تعالى: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) حمل النفس على التأكيد، وأن الربا ربا الجاهلية، ويحتمل أن يكون تأسيسا على ما قال اللخمي في كتاب الصرف: من أن الربا ثلاثة أقوال، قيل: هو فتح الدين بالدين، وهو ربا الجاهلية، وقيل: المراد به بيع حرم التعامل فيه؛ لأن الربا في اللسان هو الزيادة، وقيل المراد: كل بيع محرم كان تحريمه من جهة الزيادة أو غيرها، وهو قول عائشة وعمر.
قال ابن عرفة: فعل القول الأول يكونوا نهوا من أكل مثل ربا الجاهلية، ومفهومه جواز أكل الربا غير المضاعف ببيع الطعام بالطعام إلى أجل، وبيع الذهب بالذهب متفاضلا.
قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)﴾
قال ابن عرفة: إن قلت: لم أتى في الرحمة بلفظ الرجاء مع أن طاعة الله والرسول لازمة للرحمة، فأجاب بوجهين: إما أنه على عادة الأمراء والسلاطين في وعدهم أنهم يعبرون على الأمر الثابت المحقق الذي يلتزمون فعله بلفظ الرجاء، وإما أنه باعتبار نية المكلف، وأنه يفعل العبادة غير معتقد..... للثواب والرحمة بل بترجي ذلك، ويطمع فيه فقط، ولا ينبغي له أن يكتفي بعمله، ولا يقطع بذلك بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ... (١٣٣)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول المسارعة مفاعلة لَا يجعلها لتكلف بها إلا مع فعل الغير، وهي فرض على الأعيان لَا على الكفاية، فكل واحد من النَّاس مكلف بها أن يفعلها حالة فعل الآخر لها فيلزم عليه التكليف يفعل الغير، وهو تكليف ما لا يطاق، قال: فأجبناه نحن بأنه ليس المراد سارعوا بعضكم إلى مغفرة، وإنما المراد سارعوا الموت فكل واحد منا مكلف بل يسبق أجله بفعل الخيرات، والطاعة خوف أن يسبقه الأجل فيقطعه عن ذلك ويمنعه من دخول الجنة، فإن قلت: هلا قيل: إلى غفران من ربكم؛ لأنه جنس المغفرة مفرد، قال: فالجواب أنه لو قيل: إلى غفران لما تناول الأمن هو كثير النسيان فسارع إلى الغفران الكثير مع أن كل واحد لَا يخلو من ذنب يغض به، وإن قل فلما قال: (إِلَى مَغْفِرَةٍ) عم ذلك قليل السيئات وكثيرها، قال: هم محتاجون إلى مغفرة فهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنهم إذا أمروا
410
بالمسارعة لتحصيل قليل المغفرة فهو مأمور المسارعة إلى ما يجعل كثيرها من باب أحرى.
قال ابن عرفة: فإِن قلت: أمروا بالمسارعة لتحصيل الأمر الملائم فهلا أمروا بالمسارعة إلى السلامة والنجاة من الأمر المؤلم المنجي من العذاب، فهو أولى؛ لأن دفع المؤلم آكد من جلب الملائم، قال: فالجواب أنه لو كان كذلك لما تناول إلا فعل الواجبات خاصة، وهي ما في فعله الثواب، وفي تركه العقاب، والقصد في الآية أمرهم بتحصيل الواجب المندوب، فلذلك عبر بالملائم دون الملام من المؤلم.
ابن عرفة: وذكر المغفرة يستلزم السلامة من النار.
ابن عرفة: والمسارعة تستلزم المسابقة؛ لأن من أسرع إلى الشيء فهو يسبق غيره إليه، ولا بد بخلاف المسابقة فإنه قد يسبق إليه من غير إسراع، وقال أبو جعفر الزبير: أنما قال هنا: (سَارِعُوا) وفي سورة الحديد:
(سَابِقُوا) لتقدم المسارعة في التوبة على المسابقة فقدمت عليها في التلاوة؛ ولأن من سابق فقد سارع، ومن أسرع فقد سبق، وقد فعله سبق، وهو نص في حصول المقصود، وسارع من أسرع، وليس بنص في حصول المقصود؛ لأنه قد يسرع ولا يتصل بالغرض.
قوله تعالى: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ).
ابن عطية: كتب هرقل إلى النبي ﷺ كتبت إليَّ تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " [فأين الليل إذا جاء النهار*] " ابن عرفة: والإشكال أيضا فيها نفسها؛ لأنها إذا كان عرضها السماوات والأرض فأين تكون هي مع أنهم قالوا: هي في السماء فكيف تحصيل الحرم الكبير والصغير لكن، أجيب بوجهين:
الأول: قال ابن عرفة: هي كعرض السماء والأرض الآن، ثم يوم القيامة، ثم (تُبَدُّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) وتصير أكبر مما هي الآن عليه، فيمد في السماوات حتى تصير أكبر من الجنة فهل فيها.
411
الثاني: قال ابن عطية: إنها فوق السماوات، وأن السماوات بالنسبة إليها كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وكذلك كل [سماء*] أكبر من التي تحتها [... ] ثريا مقلوبة، ونحوه ذكر مكي: في سورتي الطلاق والحديد.
وقال ابن عرفة: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إذا جاء الليل أين يكون النهار"، قلنا: إن السماء [كورية*]، فيقول: يصير الليل عند قوم آخرين، وإنما يبقى الإشكال أنها كانت بسيطة، إساءة ظن حكم الفلاسفة بل هي السنة....
قال ابن عطية: والطول إذا ذكر لَا يدل على قدر العرض بل قد يكون الطويل يسير العرض، كالخيط.
قال ابن عرفة: الصواب تمثيله بالخط عند من يثبت الجوهر الفرد فإنه طويل لا عرض له.
قال ابن عطية: وقال قوم: معناه كعرض السماوات والأرض، كما هي طباق لا يأت بفرش كبسط الثياب.
ابن عرفة: إنما يتم هذا على القول بأنها بسيطة، وإذا كانت كورية فلا عرض لها بوجه؛ لأن الكورة ليس لها عرض ولا طول، إلا كما يقول ابن عباس: إنها بسيطة ويقرن بعضها إلى بعض.
قوله تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
قال ابن عطية: مذهب المنذر ابن سعيد، وغيره، أن الجنة والنار ليسا الآن مخلوقتين، وهو قول ضعيف، ومذهب جمهور العلماء لهما قد خلقتا، وهو ظاهر قوله تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ابن عرفة: ولا يلزم عليه كفر ولا إيمان، كما أنه لا يلزم أيضا على الاختلاف في السماء هل هي بسيطة، أو كورية كفر ولا إيمان.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ... (١٣٤)﴾
أي العسر واليسر.
ابن عرفة: يحتمل أن يكون جميع المؤمنين بالنسبة إلى المنفوق المتفق عليه، فهل المراد أنهم ينفقون في يسرهم وعسرهم، أو أنهم ينفقون على الموسر والمعسر، والأول أدخل في مقام المجد والثناء.
قوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).
ابن عرفة: إذا عفى الإنسان عمن قتل ابنه فإنه يصح عفوه، ولا يجوز عفو عمن قطع الطريق عن ابنه.
ابن عرفة: والمراد مجموع هؤلاء بحسب الإمكان فإن من النَّاس من لَا يعمل له أحد ما يوجب غضبه.
قال الزمخشري: وعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصمه الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم كلها إلا في الأمة التي مضت".
قيل لابن عرفة: كيف وهذه الأمة أفضل من سائر الأمم، فأجاب بوجهين: إما أن يراد أن هذه الأوصاف فيهم أقل مما هي في مجموع سائر الأمم كلها لَا في أحد كل أمة على انفرادها، وإما أن يكون المراد أنهم لفضلهم وشرفهم الفساد فيهم، والعصيان بالنسبة قليل إليه في أحد كل أمة على حدتها، والعفو فيهم قليل بالنسبة إليه مع كل أمة على حدتها لعله لقلة سببها.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
قال الزمخشري: يجوز أن يكون الاسم للجنس، فيتناول كل محسن، ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، ويجوز أن يكون للعهد والمراد به هؤلاء فقط.
ابن عرفة: فإن كانت للعهد فيكون المحسن مرادفا للنفي، وإن كان للجنس فيكون المحسن أعم من المتقي، كما تقول: كل إنسان حيوان والحيوان أعم، وكذلك هنا كل متقٍ محسن.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً... (١٣٥)﴾
الزمخشري: أي فعلة زائدة القبح: (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم) معناه أذنبوا ذنبا أي ذنب كان.
413
ابن عرفة: جعل الزمخشري قسم الشيء قسما له؛ لأن الظلم أعم من الفاحشة والصواب أن يقال: الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة، أو فيهما عموم وخصوص من وجه دون وجه، فالفاحشة تطلق على ظلم النفس وغيره، وظلم النفس يطلق على الفاحشة وغيرها، فإذا ظلم نفسه بأدنى الظلم الذي ليس بزائد في القبح فليس بفاحشة، وإذا ظلم غيره بأقبح الظلم فهو فاحشة، وليس بظلم نفس، فإن قلت: الظلم قبيح منهي عن الاتصاف به، فهلا عبر بأن الدلالة على عدم الوقوع وعلى إرادة عدم الوقوع، فالجواب: أنه إذا كان جواب الشرط هو المقصود عبر بـ إذا كقولك: إذا ولي عمر بن عبد العزيز، فاسكن حيث شئت من البلاد وإذا ولي عبد مجدع الأطراف فاسمع له وأطع، فليس المراد ولاية العبد، وإنَّمَا المراد عموم الأمر بالسمع والطاعة، فالمقصود في الأول الشرط، وفي الثاني جوابه، وكذلك المراد هنا تأكيد الاتصاف بذكر الله تعالى والاستغفار، أي استغفروا الله لأجل ذنوبكم، وهذا هو التوبة، وفسر ابن عطية الإصرار بأمور وحاصلها فعل الذنب وعدم التوبة، فإن تاب منه فليس بمصر وهو خلاف ما قال ابن زيد، فإنه في الرسالة والتوبة فريضة من كل ذنب من غير إصرار، والإصرار المقام على الذنب واعتقاد العودة إليه، فقال ابن عرفة: الإصرار أعم من ذلك لكن هذا أقبح صورة.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ).
قيل لابن عرفة: يؤخذ من الآية أن من هم بالفاحشة ولم يفعلها أنه يغفر له، ولا يعاقب على ذلك، فقال: نعم، الحكم كذلك إلا أنه لَا يؤخذ من الآية، فإن قلت: فهلا قيل: من يغفر ذنوبهم إلا الله كما قيل: (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)، فالجواب: أنه قصد عموم مغفرة الذنوب لهم ولغيرهم، ولاسيما على مذهب أهل السنة القائلين: بأن المعاصي في المشيئة فلا يلزم أن لَا يغفر الذنوب إلا التوبة بل يغفر بها وبغيرها، وذكر الزمخشري: هنا آثارا ظاهرها حسن يوافق عليه أهل السنة، لكن مقصده جاء غير حسن؛ لأنه إنما جلبها تقوية لمذهبه الفاسد وأنشد فيها لرابعة:
ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لَا تجري على اليبس
قال ابن عطية: وروى أبو بكر أن رسول الله ﷺ قال "ما من عبد يذنب [ذنبا*] ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا [غُفر له*] " قال ابن عرفة:
414
الصلاة ليست بشرط في التوبة، وإنما ذكر من حيث كونها سببا في المغفرة فهي وصف لأنها شرط.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ... (١٣٦)﴾
قال ابن عرفة: هذا من باب الاستعارة بالمطلوب وزيادة؛ لأنهم إنما طلبوا المغفرة فاسمعوا بها، وبزيادة النعم في الجنات.
قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ... (١٣٧)﴾
قال ابن عرفة: الآية دالة على وجوب النظر والسير في الأرض إما حسي وإما معنوي بالنظر في كتب التواريخ المتعددة، بحيث يحصل للناظر فيها العلم، أو ما يقرب منه وهو أولى؛ لأن التواريخ المتقدمة يحصل بها من الكشف والاطلاع ما لا يحصل للناظر فيها العلم، أو ما يقرب منه وهو أولى؛ لأن التواريخ بالسير الحسي في الأرض لعجز الإنسان وقصوره، وماذا عسى أن يمشي من الأرض، وإذا نظر الإنسان شخصين يعرفهما أحدهما عالم عامل والآخر مسرف على نفسه ظالم لغيره متبع للضالة وقد ماتا فإنه يتحقق حرمان العاصي من النعيم، أو يظن ذلك، ويترجح عنده سلامة الطائع من العذاب، ويرجو ثوابه وتفقهه والأمور الشرعية إنما هي مبنية على غلبة الظن لا على اليقين، فهذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها.
قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)﴾
قال ابن عرفة: وجه الترتيب أن البيان راجع للتصور، والهدى والموعظة راجعة للأول الراجحة فما وقع به التصديق فالمتكلف أولا يتصور الأشياء في ذهنه كلها ثم يهتدي إلى معرفة طريق الحق من تلك الأشياء المتصورة، وطريق الباطل فحكم بأن هذا حق، وهذا باطل وذلك تصديق، ثم بعد ذلك هو موعظة، أي مرجح لطريق الحق بالدليل والناظر فيه أولا يتصور به الأشياء، ثم يصدق فيحكم بأن هذا حق، وهذا باطل، ثم يستدل على حقيقة هذا وبطلان غيره، وترجيح اتباع الحق، ولذلك أسند البيان للناس؛ لأن التصور حاصل للجميع، والهداية والوعظ إنما حصلت للمتقين فقط.
ابن عرفة: والاتعاظ هو أن تقيس فعله بفعل غيره من العصاة، ويخاف أن ينزل به من العقوبة بمثل ما نزل بمن فعل ذلك وليهتدي فمن أطاع الله عز وجل ويرجو أن يناله من الخير والثواب مثل ما نال ذلك الطائع.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا... (١٣٩)﴾
ابن عرفة: الوهن هو ذل وضعف في النفس بمؤلم مستقبل كسماعنا الآن... عند النصارى وخوفنا منها أن تكون على... فتحدث بذلك في نفوسنا روع وهلع، والحزن هو التفجع على أمر مؤلم وقع ومضى، وقدم الوهن؛ لأنه المقصود بالذات.
قوله تعالى: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
قالوا: إنه حال من الضمير (وَلَا تَهِنُوا).
ابن عرفة: والصواب أنه مستأنف؛ لأنهم لم ينهوا عن الوهن في هذه الحالة بل مطلقا وهم الأعلون أيضا مطلقا سواء وهنوا أو لَا، فإن قلت: هلا قيل: أو كنتم مؤمنين؟، قلت: إنما عبر بأن تهييجا على الاتصاف بأن الإيمان ولاسيما أنها تعريض بالمنافقين فهم داخلون فيها فكذلك عبر بأن.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ... (١٤٠)﴾
قيل: جواب الشرط مقدر، أي: فلا ضعف ينالكم تأسيكم بهم وتسليكم بما لهم معكم، وما نالهم من أيديكم، وقيل: المذكور هو نفس الجواب.
ابن عرفة: وكان بعضهم يجري هذا على الخلاف في لأن المذهب هل هو مذهب أو لَا؟، فإن قلت: إنه مذهب، فيكون المذهب هو الجواب، فإنه لازمة التسلي والتأسي بهم، فإِن قلنا: إنه ليس بمذهب، فالجواب: قوله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) قال ابن عطية: سبب نزول الآيتين، أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كان بنوا إسرائيل أكرم على الله منَّا حين كان المذنب منهم يصبح، فعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة ومؤمنا من ذلك الفعل.
قال ابن عرفة: وضم هذا السبب للآية نفيه أن المستغفر من الذنب مساو لمن يذنب، لكن إن من لم يذنب إن كان للعلم بفاعل الفاحشة، واجتنبها فليس مساويا له
416
بوجه، بل هو أعلى منه، وإن تركها حين عالم بفاعلها فهو مساو لمن فعلها واستغفر الله منها وقد جاء "التائب من الذنب كمن لَا ذنب له".
قال ابن عطية: والذنب عطف على جملة ناس، وناس على جملة أخرى، وليس الذين تبعت كرر معه واو العطف؛ لأن تلك الطبقة الأولى منزه عن الوقوع في الفواحش.
قال ابن عطية: أراد أنه من عطف الموصوفات لَا من عطف الصفات.
ابن عرفة: وهذا [اعتزال*] خفي؛ ولذلك قال ابن عبد السلام: [**يحدنا منه]؛ لأنه إذا كان من عطف الصفات يكون داخلا تحت سنن المتقين، والزمخشري وأصحابه: لا يسمونه متقيا، ولذلك قال الزمخشري: أعدت للمتقين [وللتائبين*] فجعل المؤمنين ثلاث طبقات: متقين وتائبين عن الذنب، ومصرين عليه، [فسمي*] المذنب التائب متقيا.
قيل لابن عرفة: لعل ابن عطية جعلها قضية حقيقية فسلم من الاعتزال، فقال: إنما تحتمل على أنها خارجية، وأما الحقيقية فبعيدة هنا، فإن قلت: هلا قيل: إذا عملوا؛ لأن العمل يصدق على الفعل الحسي والمعنوي بدليل حديث "إنما الأعمال بالنيات" وقال الفخر: أنه استثناء فيه النية والنظر، فجعلهما داخلين تحت مسمى العمل، فالجواب: أنه من باب استلزام الأخص أمر استلزمه الأعم من باب أحرى؛ لأنه إذا كان الفعل المسمى المعقب بالاستغفار مستلزما للمغفرة فأحرى أن يستلزمها المعنوي، فإن قلت: المراد نفي الفاحشة، والنهي عن فعلها حتى يصير كأنها من باب المحال، فلم عبر بـ إذا التي تشعر بتحقيق الوقوع، ولا تدخل إلا على الممكن أن التي يصح دخولها على الممكن، والمحال نحو: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) فالجواب: أنه يراد تارة ثبوث الشرط، وتارة يراد ثبوت الملازمة بينهما، فلو عبر بأن لاحتمل أن يكون ثبوت الملازمة بينهما محال؛ لأن (إِنَّ) قد تدخل على المحال فيستلزم محالات فعبر بـ إذا التي هي لا تدخل إلا على الممكن، والممكن إنما يستلزم ممكنا مثله، ولا يستلزم المحال أبدا.
417
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه إذا الاستغفار يزيل الذنب أثر الذنب المحقق فعله فأحرى أن يزيل المشكوك في فعله، والذي يقطع فعله ولم يفعله، قال كاتب هذا سمعت من ابن عرفة في ميعاده، وكان أعطاني ليلة الجلوس براءة تجعله على هذه الدولة نصها، إن قيل: لم عدل عن أن التي لَا تدخل على محقق الوقوع، ولا إمكانه إلى ذا الدالة على ذلك، مع فعل الفاحشة المطلوب شرعا نفيه لَا أنواعه؟، قلت: لأن المقصود من هذه الشرطية إنما هو ثبوت الملازمة بين فعل الفاحشة والاستغفار منها، ولفظ إذا يدل على رجحان وقوع الفاحشة الملزوم لعدم امتناعها فثبوتها يدل على ثبوت ملازمها قطعا ضرورة امتناع وقوع استلزام وقوع الممكن للمحال، والمحال قد يستلزم محالات فلا يثبت نفس الملازمة بين فعلهم الفاحشة وبين استغفارهم، فإن قلت: فإذا كان فعل الفاحشة منهم محالا كان أبلغ في رفع درجاتهم، قلت: ليس المقصود من هذا القسم حصول هذه الدرجة، بل هذه حالة الطائفة الأولى، والمقصود الإخبار عن طائفة يمكن وقوع الفاحشة منهم إلا أنهم لَا يصرون عليها، بل مبادرون بالاستغفار منها عاجلا، انتهى نقله من خط ابن عرفة.
قال ابن عطية: والفاحشة لفظ يعم جميع المعاصي، وفسرها السدي بالزنا.
قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) دليل على أن ذلك إلا أن يقال هنالك: معرفة بالألف واللام العهدية.
ابن عرفة: ويحتمل عندي أن الفاحشة هي المعاصي المتعدية للغير، والظلم هو المعاصي القاصرة على النفس، وهو أحد تفسيري الزمخشري: في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ).
قوله تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
المكلف تارة بفعل الذنب ويستغفر منه وينوي أنه لَا يعود إليه، وتارة لَا يستحضر ذلك ونفي الإصرار يعم الوجهين.
ابن عرفة: ما أفاد قوله (وَلَمْ يُصِرُّوا) بعد قوله تعالى: (ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) وهو يعني عنه لحديث ما أصرَّ من استغفر، فالجواب عنه مثل ما أجاب به الفخر في قوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) أي لم يصروا على ما فعلوه في المعاصي، وحالهم في المستقبل أنهم لو فعلوا فاحشة يستغفروا الله منها.
418
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الأول أفاد استغفارهم عن الفعل الواقع لهم ويبقي إليهم فعله، والعزم على العود، فأفاد قوله تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا) أو يجاب: بأنهم إذا فعلوا استغفروا لَا يعودون إلى الذنب مرة أخرى، فقال ابن عرفة: إذا عادوا إليه فهو ذنب آخر وفاحشة أخرى ليست منفية بعد الإصرار.
قوله تعالى: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
قال الزمخشري: حال من فعل الإصرار وحرف النفي منتصبا عليهما معا وفسره بوجوه، ومنها قول بعضهم: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إن باب التوبة مفتوح.
ابن عرفة: والمعنى على هذا منصوب على الأول فقط دون الثاني.
قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
قال الفخر عن القاضي عبد الجبار من المعتزلة: إنها دليل على أن الثواب مربوط بالعمل، فقال ابن عرفة: نعم تدل على أن هذا الثواب الخاص العمل، وليس فيها حصر بأن لَا ثواب إلا على العمل، وأيضا فالعمل على الإيمان، ونحن نقول: إذا لم يحصل الإيمان فلا ثواب واعتزل الزمخشري ورقق عن مذهبه الفاسد بآثار ذكرها وخلط الصحيح منها بالسقيم، وما توافق عليه أهل السنة، وما يخالفون فيه جملة منه تحمله على الناظر وعمومه عليه، ومن جملتها قوله عن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب، وأرتجي الرحمة ممن لَا يطاق حمق وجهالة، أي ممن لَا يطيعه راجي منه الرحمة منه، وشهر بن حوشب: ضعيف عند المحدثين، وما حكاه عن الحسن صحيح، وقوله عن رابعة:
ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لَا تجري على اليبس
قال الطيبي قبله:
ما بال نفسك تبغي أن تدنسها وثوب جسمك معسول من الدنس
فإن قلت: قال هنا: (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)، وقال تعالى في العنكبوت: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) فعطفه هنا بالواو، ولم يعطفه هناك، فأجاب أبو جعفر: بأن هنا وقع ذكر الجزاء منفصلا معطوفا فقال: جزاؤهم مغفرة وجنات، فناسب أن عطف عليها الجملة التي مدح بها ذلك الجزاء، ولما لم [يفصل*] جملة
419
الجزاء في العنكبوت، ولا وقع فيها عطف جاءت جملة للمدح غير معطوفة، فناسب النظم التعلم.
قوله تعالى: (هَنَا بيَانٌ لِلنَّاسِ).
ابن عرفة: الإشارة ولم يكن نزل كله بالإشارة لما نزل منه، قيل له: يلزمك استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، قال هو كقول سيبويه: هذا باب كذا فالإشارة لمن يأتي.
ابن عرفة: وعادتهم يقولون: فيه دليل على امتناع ورود المجمل في القرآن، وأنه كله بين، قالوا: وأجيب بأنه ليس المراد أنه بين الإجمال، بل المراد ببيانه دلالته على وجود الله تعالى ووحدانيته، وما يجمع له، وما يستحيل عليه، قالوا: وهذا ترق، فالبيان راجع للتصوير، والهدى للتصديق بالحق والباطل والموعظة راجحة لاتباع الأوامر والنواهي والاتعاظ بالخوف من عذاب الله.
قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
هذا دليل على أن الأول خطاب المؤمنين فقط؛ لأن هذا خطاب لهم فتجري الآية على أسلوب واحد، ابن عطية: وهو من وهن، ومن كلامهم: المؤمن هين لين.
ورده ابن عرفة بأن وهن معتل الفاء وهين معتل العين، فالمادة مختلفة والعجب من أبي حيان: كيف سكت عنه ولم يتعقبه، ابن عطية: وقول العرب إذا لم تغلب فاطلب وأطلابه الخديعة والمكر، ومنه فعل عمرو بن سعيد الأشدق، مع عبد الملك ابن مروان: فإنه عند قتله إياه خدعه.
ابن عرفة: هنا وهم بأن عمرو بن سعيد مكر بعبد الملك، وليس كذلك بل المنقول هو أن عبد الملك مكر بعمرو بن سعيد، فالصواب أن يقول: ومنه فعل عبد الملك بعمرو بن سعيد فذلك أن عمرو بن سعيد طلب من عبد الملك أن يوليه الخلافة بعده، وقال له: قد صحبت أباك فامتنع عبد الملك فنفى عمرو إلى الشام واشتغل واستقل بنفسه فيه بالخلافة فجاء به عبد الملك وقاتله، ثم اصطلحوا على أن ولاه الخلافة من بعده وأعطاه أميرا في كل بلاد ثم أرسل إليه أن يأتيه أمر فحذره النَّاس منه، ولم يسمع منهم حتى آتى عبد الملك فدخل عليه، فقال: إني كنت جئت لك ظفرت بك لأكبلنك فكبله، ثم أخرجه إلى النَّاس وقتله.
420
قوله تعالى: (إِنَّ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ).
ابن عرفة: فعل الشرط مستقبل، وهو هنا ماضي؛ لأن مس القرح لهم قد وقع ومضى، وحينئذ فترجع إلى السبب؛ لأن المس سبب في التألم، وهو دائم مستمر في المستقبل معناه: إن ينالكم تألم في المستقبل بسبب مس القرح، فقد مس القوم قرح مثله.
ابن عرفة: وجواب الشرط إما المذكور بعينه أو لازمه ولكم في الكفار أسوة وسبيل، فقد نالكم مثل ذلك، قال وعادتهم يقولون: ما الفرق بين المس والإصابة قال تعالى: (إِنَّ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) والظاهر أن الإصابة أعم لصدقها على الحسي والنظري، ولذلك تكلم الأصوليون على اختلاف هل كل مجتهد مصيب، أم لَا؟ مع أنه حكم نظري، والمس في المحسوسات يقول مس كذا، ولذلك فرق ابن رشد في المقدمات بينه وبين اللمس فجعل اللمس لَا يكون إلا عن قصد، يقول تماس الحجران، والمس يكون مقصودا وغير مقصود، فلا يطلق إلا على الأمور الضرورية المحسوسة فعبر هنا بالأخص في باب التسلي؛ ليكون أبلغ، وأنشد ابن عطية قول لخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي
قال والتأسي بالنَّاس هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود، فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه، وإن تاب وحسنت حاله.
ابن عرفة: يريد الذي زنا وحده في الزنا لَا يقبل شهادته على أحد بالزنا؛ لأنا نتهمه أنه رمى غيره بالزنا لكي [يتسلى به*]؛ لأن الزاني يود أن يكون النَّاس كلهم زناة.
ابن عرفة: وحكي أن طفلا أحدب عيره النَّاس فاشتكى إلى أمه فقالت: إذا دخلت الجنة يعير كل من عيرك أحدب، وتكون أنت وحدك مستوي القامة، فقال لها: لقد زدتيني غما وهما، إذ جعلتيني في الجنة خارجا منها وأنا في الدنيا كذلك.
ابن عرفة: وخلط ابن عطية: وحكم للمجاور حرف الخلق. لأن ما وسطه حرف حلق، يجوز فتحه وتسكينه، باتفاق وما أخره حرف حلق فيه خلاف بين البصرين والبغداديين فشبه هو القرح لقولهم: أنا محموم.
421
قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا).
حمله الزمخشري على وجهين:
أحدهما: ولتبين الثابت على الإيمان من غيرهم تمثيلا، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت منكم من غير الثابت.
الثاني: وليعلمهم علما يتعلق به الجزاء.
قال ابن عرفة: هذا يوهم أن تم علما لَا يتعلق به الجزاء، قال: والفرق بين العلم والمعرفة، أن المعرفة من المتصورات والعلم تصديق وهو باطل لقولك: عرفت زيد فإنه تصديق لَا تصور، ويجاب: بأن مراده وأن متعلق العلم تصديق ومطلق المعرفة تصور موت من مات من الكافرين محاق له مصيره إلى العذاب الأليم، وموت من مات من المؤمنين شهادة له لمصيره إلى الثواب والنعيم المقيم.
قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا... (١٤١)﴾
ابن عطية: التمحص تمييز الشيء مما هو منفعل عنه، والمحص تميزه مما هو متصل به، تقول: محصت عن زيد في بني تميم فوحدته، ومحصت الذهب من الفضة، أي خلصته منها، ومنهم من قال: المحص في الأمور الحسيات، والمحص من العقوبات، فإن قلت: لم عبر عن المؤمنين بالفعل، عن الكافرين بالاسم، فأجيب بوجهين:
الأول: لحديث "سبقت رحمتي غضبي فمن اتصف بأدنى الإيمان مغفور له، والمغضوب عليه إنما هو من كفر وداوم على كفره، وصمم عليه وثبت".
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن المراد من قرح الإيمان بالمعاصي فمحص الله حسناته من سيئاته، والكفر ليس معه حسنات فلذلك عبر عنه بالاسم، فإنه لَا يتناول إلا من أخص الإيمان، ولم يخلط بمعصيته، فرده ابن عرفة: بأن هذا عزيز لَا يعلم إلا لمن هو معصوم، قال: وعبر عنهم بالوصف دون الاسم تنبيها على الصفة التي لأجلها مدح هؤلاء، وذم هؤلاء، وهذان الوجهان مدح للمؤمنين، وحسرة للكافرين فهما معا في حق النبي ﷺ بشارة سرور.
قيل لابن عرفة: ابن إسحاق قال: هي خاصة بكفار بدر ففيها أمحق الكافرين، فرده ابن عرفة: بأن المحق قسمان: حسي، ومعنوي فمحق بعض الكافرين يوجب إذلال الباقين وحسرتهم، فهو محق لهم بالمعنى.
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ... (١٤٢)﴾
أي: دخولا أولياء، وهو الدخول المسبب عن الجهاد.
قوله تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
ابن عرفة: عبر عن المجاهدين بالفعل، وعن الصابرين بالاسم؛ لأن الصبر عام فلا توجد عبادة من العبادات إلا مع الصبر، فلذلك عبر بما تقتضي الثبوت واللزوم لعمومه، وأيضا فالجهاد متلف للنفس، وكل عبادة مما سواه هي مشقة على النفس فقط، والصبر على المتلف للنفس ألزم، وأقوى من الصبر، فلذلك عبر عن الصبر بالاسم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ... (١٤٣)﴾
ابن عرفة: هذا تعارض قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "لَا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية"، فالجواب: أن ذلك كان في أول الإسلام حيث كان الكفر كثيرا، والإسلام قليلا فنهوا عن تمني لقاء العدو، ثم قعد وكسع عن قتاله حين اللقاء أشد عقاب ممن لَا يتمنون لقاء العدو، ولا خطر له ببال.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ... (١٤٤)﴾.. قال ابن عرفة: تضمنت الآية أمرين
أحدهما: أنه من البشر، كقوله تعالى: (قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُمْ) فوصف الرسالة فيه ليس ذاتيا له بل هو اختصاص من الله تعالى.
الثاني: العتب على من هم بالردة من المسلمين في غزوة أحد لما صرخ الصارخ بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد قتل، وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا ما قتل، فأخبر الله تعالى بأن الرسل من قبله قد ماتوا وثبتت أممهم على دينهم، ولم
يرتدوا عنه بوجه والحصر على بابه وحقيقته؛ لأن وصف الرسالة يستلزم جميع أوصاف الكمال؛ لأنه معصوم.
قيل لابن عرفة: ليس الحصر على بابه؛ لأنه لم يكن رسولا قبل البعث، فالقضية حينيه، وليست دائمة، قال: وكل قضية لَا تقتضي الدوام.
قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ).
وقرئ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلٌ)، ابن عطية: قراءة التعريف تعظيم وتفخيم وتنويه بهم، وقراءة التنكير تسير الأمر للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معنى الحياة فكان تنوية بينه وبين النبيين عليه عليهم وعليهم وعلى آلهم السلام في ذلك.
قال ابن عرفة: أراد أنه خلت من قبلكم رسل كثيرة وهلكوا بموت بعضها كاف في الرد عليكم في قولكم: لو كان نبيا ما قتل.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول هذه تسلية له؛ لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتقديم آيات الرسالة وذكر موت من قبله عند ذكر موته؛ هذا وقيل مثل قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).
قوله تعالى: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).
قال أبو حيان: الشرط بأن دخل على (انْقَلَبْتُمْ) لَا على موته.
ورده ابن عرفة بأنه دخل على مجموع القضية؛ لأن أصله إن مات انقلبتم على أعقابكم، وهذا شرط لازم فدخل على الاستفهام بمعنى الإنكار لملازمة الشرطية، وموته ممكن واقع، وقتله ممكن غير واقع، لقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
قوله تعالى: (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا).
لن يضر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) والتأكيد بالمصدر، وهو شيء داخل على النفي، فهو نفي أخص لَا نفي أعم.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ... (١٤٥)﴾
قال الزمخشري: إن أردت نفي ما ينتفي بذاته أتي بأداة النفي فقط، مثل ما تطير زيد ولا يحتاج إلى نفي القابلية؛ لأن العقل يصدق ذلك النفي، وإن أريد نفي ما هو
ممكن الوقوع أو قريب من الإمكان، أتاك بكان التي تقتضي بنفي القابلية مثل: ما كان لزيد أن يقوم، فهو قابل لذلك باعتبار جنسه غير قابل له بذاته، فدخلت كان هنا على النفي وأتى به في صورة الممكن ليكون أبلغ في النفي.
قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا).
ابن عرفة: تضمنت الآية أنهم على ثلاثة أقسام مؤمن مجاهد في سبيل الله ثابت على دينه، وآخرون ارتدوا على أعقابهم وهموا بالردة، وآخرون اشتغلوا بالغنائم ومتاع الدنيا، قال تعالى في سورة هود: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)، وقال تعالى في الإسراء: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا)، وقال تعالى في سورة الشورى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، وقال ابن عطية: هذه الآية مقيدة بآية الإسراء؛ لأن ذلك مشروط بالمشيئة إذ ليس كل من أراد الدنيا نالها بل كثير من النَّاس أرادها، ولم ينلها، لقوله تعالى: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) يقول الغيبة، ولم يقل ما يشاء بياء الغيبة، فقال ابن عرفة: هذا لَا يحتاج إليه إذا جعلنا من للتبعيض، ويمكن أن يجعلها للسبب، ويكون من الكلام الموجه المحتمل للشيء وصفه، مثل حديث "إذ لم تستحِ فاصنع ما شئت" أي: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) قوته بسببها إما مراده، وإما الخيبة من مراده، وإما العذاب والشقاوة، وعطف الثاني عليه يدل على الماضي هو الثواب ليس إلا قوله: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)، راجع لقوله عز وجل: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ) فهو دليل على أن من أراد ثواب الآخرة تنعم عليه في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن التكرار إنما يكون على النعمة فيعطف بمراده في الآخرة وينعم بسبب ذلك في الدنيا فيشكر الله على ذلك فيثاب أيضا عليه في الآخرة على شكره.
قيل لابن عرفة: فمن طلب الدنيا بالآخرة يجوز، قال فيه قبح، ومثاله: رجل أنزل الجهاد وجلس للتجر، ورجل آخر خرج مع المجاهدين قاصدا للتجر والغنيمة فهذا أقبح من الأول.
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ... (١٤٦)﴾
425
أنشد ابن عطية هنا:
[وكَائِنْ تَرَى مِنْ صامِتٍ لكَ مُعْجِبٍ زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ*]
قال أبو عبيد في الأمثال: البيت للأحنف بن قيس، كان يجالسه رجل يطيل الصمت حتى عجب منه الأحنف، ثم إنه تكلم يوما، فقال للأحنف: يا أبهر تقدر أن تمشي على شرف المسجد فعنده تمثل البيت وبعده
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
قال شيخنا: أخبرا شيخنا الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى بن الحباب قال أخبرنا شيخنا الفقيه الأستاذ أبو العباس أحمد بن يوسف السلمي الكناني قال: قلت لشيخنا الأستاذ أبي الحسن علي بن عصفور: لم أكثرت من الشواهد في شرحك للإيضاح على (كَأَيِّنْ)، قال: لأني دخلت على السلطان الأمير أبي عبد الله المنتصر فألفته ابن هشام خارجا من عنده، فأخبرني أنه سأله عما يحفظ من الشواهد على قراءة (كَأَيِّنْ) فلن يستحضر غير بيت الإيضاح:
[وكائنْ بالأباطحِ من صديقٍ يرانى لو أصبتُ هو المصابا*]
قال ابن عصفور: فلما سألني أنا، قلت له: أحفظ خمسين بيتا، فلما أنشدته نحو العشرة، قال حسبك، ثم أعطاني خمسين دينارا فخرجت فوجدت ابن هشام جالسا بالباب، فأعطيته شطرها.
قوله تعالى: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا).
قال ابن عرفة: هذا ترتيب حسن؛ لأن الوهن أشدها وعليه الضعف، وعليه الاستكانة، فنفى أولا الأبلغ، ثم نفى ما دونه، ثم نفى ما دونه؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وفي الآية الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وما ضعفوا لما أصابهم.
قال ابن عرفة: والضمير في (وَهَنُوا) إما على لفظ الربيين دون معناه، مثل عندي درهم ونصفه؛ لأن من قل لَا يوصف بعدم الوهن، وإما عائد على أن الربيون لفظا، ومعنى، ويكون المراد أنهم ماتوا على حالة التجلد والشدة من غير خوف في نفوسهم ولا ضعف في قلوبهم بوجه.
426
ابن عرفة: والآية دالة على أن من فعل شيئا من الطاعات من غير مشقة عليه فيها، فإنه يسمى صابرا، قال بعضهم: كمن يترك شرب الخمر والزنا من غير مشقة عليه في تركه، أو يصوم لكونه اعتاد ذلك وصار معتادًا؛ لأن هؤلاء لم ينالهم وهن ولا خوف، فسماهم صابرين، وقد حكى ابن الحباب: أنه حضر في محضرة بجاية وقت إنها هذه، قال: توقف رجل تحت الجبل فرميت عليه حجرا من أعلى الجبل شرخت رأسه، فرجع آخر في موضعه في الحين، فألقى بنفسه إلى الهلاك فالصبر إنما هو حبس النفس على لزوم الأمر المؤلم لها، وهذا عند هؤلاء غير مؤلم بل صار كأنه جبل يدل على أن صاحبه يسمى صابرا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا... (١٤٧)﴾
قال ابن عرفة: الذنوب والإسراف بمعنى واحد، وعن ابن عباس الذنوب عام، والإسراف راجع للكبائر.
ابن عرفة: وعندي أن الذنوب راجعة لعدم امتثال الأوامر والإسراف لعدم اجتناب النواهي، لأن الإسراف في اللغة هو الزيادة على الشيء، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ) وقرأ جماعة قولهم بالرفع، ابن عطية: والخبر فيما بعد [(إلَّا) *].
قال ابن عرفة: تقرر في الإيضاح وغيره أنه لَا يجوز أن [أن الذاهبة جاريته صاحبها*]، فالمعنى كان قولهم: [(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) وَانْصُرنَا.. وَإِسْرَافَنَا*].. والجواب: أما على قراءته بالرفع، [وهي*] الشاذة يكون الخبر أعم من المبتدأ، [فيصح الإخبار به*]، لأنه أعم منه؛ لأن [قولهم*] مضاف لضميرهم، فإن قالوا: أعم منه، والتقدير: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا) [قول*] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا) [وقول*] أعم من قولهم، وأما على القراءة المشهورة فيكون من باب، [فأنكرت*] الوجوه، وقلت: هم هم، ومثل: جد جده، وشعر شعره، فهو تأكيد وإطناب، وقال ابن عطية: ينحوا إلى أنهم أن ما نزل بهم من مصائب الدنيا، إنما هو بذنوب مضت لهم؛ كما جرت قصة أُحدٍ بعصيان من عصى، فقال: كيف يعتقدون هذا مع أنهم ما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا وما استكانوا.
قوله تعالى: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا).
قال ابن عرفة: اتصفوا بالصبر في الحال والعزم على استدامته في الاستقبال فلذلك طلبوا تثبيت الأقدام، ابن عطية: قال ابن فورك في رده على القدرية
بقوله: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا... (١٤٨).. ابن عطية: عن ابن جريح هو الظفر والغنيمة، وعن النقاش: هو العقل والغلبة فقط، لأن الغنيمة لم تحل إلا لهذه الأمة.
ابن عرفة: كانت الغنيمة في الأمم المتقدمة، وكانوا يأخذوها ويتصدقون بها، ويجعلونها قربانا، وإنما أحل لنا نحن الاستمتاع بها، ولم يقل ابن جريج: بل قال الغنيمة مطلقا، وقد كانت حلالا لمن بلغنا على هذا الوجه.
ابن عرفة: (وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ) أخص من الجنة.
قوله تعالى: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩)﴾
من باب ذكر المستلزم، ولازمه، لأن لازم ردهم على أعقابهم انقلابهم خاسرين.
قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا... (١٥١)﴾
قال الزمخشري: هذا مثل: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ؛ لأنه يوهم أن هناك سلطانا، وحجة مع أن الشرك بالله لَا سلطان له، كقولك: ما جاءني غلام زيد فيتوهم أن لزيد الغلام، قال الفخر: والآية حجة لمن يقول بذم التقليد بالإطلاق، فلا وإن أراد ذم تقليدها، فتكون مهلة، والمهلة في قوة الجن ومنه فنقول نحن: نعم، وهو التقليد في الباطل الذي ليس له أصل يستند إليه من حجة ولا دليل.
قوله تعالى: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ).
قال: (النَّارُ) مبتدأ، أو (مَأواهُمُ) خبر ليفيد الحصر.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ... (١٥٢)﴾
قال أبو حيان: العامل في إذ وعده.
ورده ابن عرفة بأن الوعد قديم سابق على وقت، فإن قلت: المراد متعلقة الصدق؛ لأن الوعد إذا وقع الموعود به، كان صدقا وإلا كان كذبا، فالعامل فيه صدق مع الصدق قديم، لكن المراد ظهور الصدق الموجود.
قوله تعالى: (بِإِذْنِهِ).
أي بأمره، والمناسب أن يراد بقدرته ونصرته، (وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) إما أن يراد الأمر الحقيقي يقتضي النهي؛ لأنهم تنازعوا هل يبقون على أمر النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم بالثبوت على الخيل، أو ينصرفون لأخذ الغنائم، أو المراد بالأمر الشاق.
قوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا).
ابن عرفة: المناسب أنه يريد الدنيا والآخرة؛ لأنهم مسلمون، ومنهم من يريد الآخرة فقط.
قوله تعالى: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ).
قلت: المناسب باعتبار الفهم، أن يقال: ثم صرفهم عنكم لما نالهم من الرعب، والذعر فانصرفوا عنهم، لكن ما يجعل الابتلاء إلا بصرف المؤمنين عن الكافرين، فحينئذ يزداد المنافقون كفر ويثبت المؤمن على إيمانه.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
أي ليس أفضاله عليكم قاصرا على هذه النعمة، بل له على المؤمنين فضائل سابقه، ولاحقه.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ... (١٥٣)﴾
قالوا: العامل في أن ظاهر وهو: عفى عنكم، أو مقدر: أي اذكر (إِذْ تُصْعِدُونَ) وضعف أبو حيان بأن اذكر مستقبل، (إِذْ تُصْعِدُونَ) ماض.
ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بوجهين:
الأول: أنه عامل فيه، عمل الفعل في المفعول به لَا عمله في الظرف.
الثاني: أنه عامل فيما هو متعلق به، أي اذكر حالكم (إِذْ تُصْعِدُونَ)
قال ابن عرفة: فإما أن الله تعالى عفا عنهم، أو عاقبهم بأدنى ما يستحقون، وقوله تعالى: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) إما أن يريد به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو الظاهر، أو رسوله.
قوله تعالى: (فِي أُخْرَاكُمْ).
ولم يقل: أولاكم؛ لأنهم لما انهزموا ورجعوا ثبت هو في موضعه، فصار في أخراهم بعد إن كان في وسطهم، أو في مقدمتهم، وفروا هم عنه، فصار في أخراهم.
قوله تعالى: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ).
إما أن يراد الغم بالحسرة، أي حسرة بعد حسرة، ومصاحبة بحسرة وأثابكم فما بسبب ما تسببتم من غم الكفار يوم بدر، وهذا الأخير ضعيف إلا أن يتاول بأنه تسليه لهم، ولفظ الثواب على هذه حقيقة لَا تهكم.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا... (١٥٤)﴾
أبو حيان: نعاسا يمتنع أن يكون مفعولا من أجله؛ لأنه ليس مفعولا لفاعل الفعل المعلل.
ابن عرفة: إلا لو كان نعاسا؛ لأنه من أنعس الله فلانا، وأما هذا فإنما هو من قولك: نفس زيد ففاعله ليس هو الله بخلاف فاعل الإنزال.
قيل لابن عرفة: مذهب الأشعرية، أن لَا فاعل في الحقيقة إلا الله ونسبة الفعل إلى العبد مجاز، فقال: المفعول من أجله إنما ينتصب الفعل لمن يصح وقوع الحدث منه كقوله: جئت إكراما لك؛ لأنك تقول: أكرمت المجيء والنعاس يستحيل وقوعه من الله، وإنما يقع من المخلوق، والواقع، من الله هو الإنعاس، وقال تعالى في الأنفال: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً) فقدم النعاس، فأجاب ابن عرفة: بأن فاعل الغشيان هناك، هو النعاس، فلذلك قدم الأمنة واختلف الزمخشري، وابن عطية، فقال الزمخشري عن أبي طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصالحنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، وما أحد إلا ويميل تحت [حجفته*]، يعني درقته، فعبر بلفظ النعاس في كتاب الظهار أنه أوائل النوم، ونص على أن ذلك كان في معركته القتال، لقوله في مضافا، وعبر ابن عطية ونص على أن ذلك إنما كان بعد ارتحال أبي سفيان من موضع الحرب، وانفصال القتال، وهو ظاهر الآية لقوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ) فعطفه بـ (ثم) التي تهمله، ونص حديث أبي طلحة البخاري في كنت فيمن يغشاه النعاس حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه، وقرئ (يَغْشَى) بالياء والتاء، فالتذكير لنفس النعاس، والتأنيث لمعناه، قلت: وهو السنة، أبو حيان: والأمنة مفعول من أجله؛ لأن المُؤَمِّنَ هو الله تعالى، وهو الفاعل وعكس المختصر الأمن، إلا أن يقال: الأمن مفعول، كقولك: أمن زيد يستدعي أن غيره أمنه فهو مؤمن والله أمنهم.
قوله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ).
430
ابن عرفة إن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (فِي أَنْفُسِهِم) مع أن الإخفاء يعني عنه، فالجواب: أن الإخفاء قد يكون باعتبار رجلين يسر أحدهما إلى الآخر حديثا نفيا من غيرهما، وقد يكون في حديث النفس فلذلك، قال تعالى (فِي أَنفُسِهِمْ).
قوله تعالى: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).
قيل لابن عرفة: هذه الجملة مفسرة للأولى، فقال: ليست مفسره؛ لأن القول في الاصطلاح بصفة في النطق اللفظي فلذلك قال الفقهاء: إذا حلف أن لَا يقول شيئا فإنه لا يحنث إلا بالنطق اللفظي، والجملة الأولى حملناها على كلام النفس فهما علتان مستقلتان.
قال ابن عطية: أو غيره وهذا إما تعريض لكفرهم بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لو لم يشاء على ديننا ما قلنا شيئا من هذا، وإما إشارة منهم إلى استدانة عنهم، فالرأي وأنه لو استشارهم لأشاروا عليه الجلوس وعدم الخروج.
ابن عرفة: وهو الظاهر لوجهين:
الأول: أن التعريض، مستفاد من قوله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) فأغنى عن هذا.
الثاني: قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) دليل على أنهم قصدوا بذلك التنبيه على أنه لو دبره معهم لأشاروا بالجلوس، فلذلك حسن الرد عليهم بقوله تعالى: (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) لمات من حضر أجله منكم بالقتال، وبنور من ذات اختياره.
قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ).
ابن عرفة: تكذيب للقضية المتقدمة بصدق نقيضها، وإما إبطال للقياس بأحد مقدمتيه، وهي الكبرى بمعنى الأولى لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجا، ولو لم يخرج ما نقلنا فأبطلت القضية كلها، بأن قيل لهم: بل (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) لخرجتم.
ومعنى الثاني: أن يمنعكم الكبر، وهو كلما لم يخرجوا، ولم يقتلوا يصدق ما هذا، خص منها لكن كونهم في بيوتهم أخص من لو كان لنا من الأمر شيء، فإذا ترتب الموت على كونهم في بيوتهم فأحرى أن يترتب على عدم خروجهم.
431
قال ابن عطية: وهذا من المنافقين، قول بأن للإنسان أجلين، فرده ابن عرفة بأن نقول: لعلهم وقفوا مع الأمور العارية، ولم يعتقدوا ذلك مذهبا.
قوله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ).
ابن عرفة: فيه سؤال مذكور في حسن الائتلاف لم أسند الابتلاء للصدور والتمحيص للقلوب، ثم أجاب بأن الابتلاء هو الاختيار فهو إشارة إلى كمال تعلق علم الله تعالى، فإذا كان علمه عام التعلق ناسب أن يسند لك الأعم، وهو الصدر، وأما التخصيص فهو تخليص شيء بشيء وتصفيته فالمناسب تعلقه بالمعنى المقصود من الإنسان، وهو القلب كما في حديث "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ... (١٥٥)﴾
قال ابن عرفة: في لفظ هذه من التلطفة والإشفاق ما ليس في سورة الأنفال، وهو قوله تعالى: (يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) والتطلف فيها من وجهين:
الأول: التصريح بلفظ الدبر في آية الأنفال دون هذه.
الثاني: أن لفظ التولي يقتضي تكليف الفعل، فهو إشارة إلى أن لهم في ذلك عذر أما وأنهم إنما فعلوه إنظار وتكليفا وليس باعتبارهم؛ لأنهم فرقوا بين ولّوا وتولوا، كما فرقوا بين كرم وتكرم، فلذلك رتب عليه الوعيد الأخف مع العفو.
قيل لابن عرفة: وأيضا فإن هذا إخبار عن واقع فناسب التلطف به وتلك الأخبار عما سيقع فناسب بأن نعبر عنه باللفظ البليغ الشديد صرفا عنه وإبعادا.
قوله تعالى: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ).
قال ابن عرفة: إن كانت السين للعطف فظاهر، وإن تكن كذلك فيكون (اسْتَزَلَّهُمُ) بمعنى أن أزلهم، فإن أريد بسوء العاقبة فالسين للتحقيق، وإن أريد قبح الفعل الواقع منهم في الحال مجريا من غير تحقيق، قال الفخر: واحتج بها الكعبي من
المعتزلة على أن الشر لَا يقع من الله لأجل أداة الحصر، وأجاب ابن عرفة بأن نسبته لغيره، وإنما هي في اللفظ فقط على جهة الأدب والكل من خلقه وفعله، والحصر في الآية إنما هو في لفظ ببعض، أي لم يستزلهم إلا الشيطان إلا ببعض مكسوبهم، وليس المراد أنهم لم يستزلهم إلا الشيطان بوجه.
قال الزمخشري: فإن قلت لم قيل: (بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) وأجاب: بأنه كقوله تعالى: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ابن عرفة: هذا بناء منه على أن المراد ما كسبوه من الشر فعفوا أكثره وبقي أقله هو شر يسببه بوسوسة الشيطان، وأما لفظ (كَسَبُوا) صادق على كل ما مكسوبهم من خير وشر، فالشر بعضه، فلا يرد السؤال بوجه.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
الحليم هو الذي لَا يعالج بالعقوبة فيؤخر العاصي ليستدرك فيتقي لما يغفر له.
وقوله تعالى: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا... (١٥٦)
ابن عرفة: إذا نهى الإنسان عن التشبيه بل هو متصف بوصفين، فالنهي مصروف إلى الوصف الأخص منهما، وهو القول الذي لأجله وقع النهي، والآخرة إما في النسب، أو في الدين، وهو هذا أخص من ذلك؛ لأنهم فالوه لأصحابهم من المنافقين، ونظيره ما يأتي، قلت لابن عرفة: في (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) فانظره والظاهر أن إذا ضربوا حكاية حال ماضية، قال الفخر ابن الخطيب: والآية حجة على الكرامية القائلين: بأن مجرد النطق بالشهادتين كاف في حصول الإيمان، وإن لم يصحبه الاعتقاد القلبي لقوله تعالى: (كَالَّذِينَ كَفَرُوا) فجعل المنافقين كفارا مع أنهم نطقوا بالشهادتين في الظاهر، وإن لم يعتقدوا بقلبهم شيئا، وأما هؤلاء فهم يعتقدون نقيض الشهادة فهم كفار بالضرورة.
قال ابن عرفة: وما أضعف الفخر في التفسير؛ لأن بعضهم يقول: فيما إذا اشتمل الكلام على المعاني بين أمرين معطوفين بواو، ثم رتب عليها أمران آخران، فإِنه يجوز عطفهما بـ أو، أو عطفهما بالواو كهذه الآية.
قوله تعالى: (أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).
قال ابن عرفة: هذا وقف منهم على الأمور العالية، ابن عطية: [مَن جمع غاز، وزنه فُعل كشاهد وشهد*]، قال رؤبة: فالآن أول علم ليس بالسنة، وقول الآية فلأنه أي: إن
لم تتب الآن فلا تتوب أبدا، وهو مثل معناه: إن لم يكن كذا فهو كذا، وقال الأصمعي: إن لم يكن كذا فلا يكن كذا، قلت، وقال أبو عبيد في الأمثال في باب طلب الحاجة: معناه هذا الآن فلا يكن بعد الآن.
قوله تعالى: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ).
قال الزمخشري: معناه أن الله عند اعتقادهم ذلك الأمر الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم وتضيق صدورهم عقوبة.
ابن عرفة: هذا فيه ترقيق لمذهبه الاعتزال إلى الفساد؛ لأن قولهم (لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا)، ومذهبهم أن الله لَا يخلق المعصية ولا يريدها فلذلك أسند الجعل الواقع من الله تعالى إلى متعلق القول، ولم يسنده إلى القول نفسه، ونحن نقول: اسم الإشارة راجع إلى نفس مقالتهم لَا إلى متعلقاتها وهي الحسرة والحيرة والحزن والندم، وهي مختلفة المعاني فالحزن هو التألم، والتفجع على أمر وقع من غير تسبب فعل للمتألم كمن يحزن على ميت، فالندم هو التلهف على عدم فعل الشيء، كما ورد "لا يقول أحدكم لو كان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان"، والحيرة: هو التألم من أمر أنت قادر على فعله، ومتمكن منه ففرطت فيه حتى فات، فكذلك هؤلاء كانوا قادرين على الجلوس في بيوتهم.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ).
إن قلت: ما فائدة ذكر الإحياء مع أن الكلام في موت من مات؟ قلت: فائدته التسوية بين الأحياء والأموات فمعنى أنكم كما شاهدتم الإحياء، وعلمتم أن الله تعالى هو الذي أحياهم من غير سبب كذلك فاعلموا أن الله تعالى قادر على إماتتهم من غير سبب، فقد يموتون وهم في بيوتهم، وقد يحضرون القتال ويشعرون بالجراح ويعيشون.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
قرئ بتاء الخطاب يشمل المؤمنين والمنافقين، فهو وعد ووعيد، وقرئ بياء الغيبة فخص المنافقين، ويكون صوابه وعيد فقط.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ... (١٥٧)﴾
434
قال ابن عرفة: لما قتل مرجوحية القتل في سبيل الله بقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) عقبة ببيان راجية على الموت من غير قتل.
قوله تعالى: (أَوْ مُتُّمْ).
إما أنه فيه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه، أي (أَوْ مُتُّمْ) في سبيل الله، أو هو كما قال ابن بشير في كتاب الطهارة في التيمم: إن الأصوليين اختلفوا في العطف هل يقتضي التشريك في المعنى كما تقتضيه في الإعراب أم لَا؟ وتقدم بيانه في هذه السورة في قوله تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وأشارا إليه ابن التلمساني: في المسألة الرابعة من الباب الثالث في العطف على العام، هل يفيد العموم، أم لَا؟ قال ابن عرفة: والقراءة على ثلاثة أنواع، فواحد يموت قبل حضور القتال، فهذا قال في المدونة لَا يسهم له، فلو لم يذكر في الآية لما توهم أنه لا يلحق برتبة الشهداء؛ لأن الأول لَا يسهم له في الغنيمة، والثاني: يغسل ويصلى عليه بخلاف الميت في معركة القتال، فذلك قال تعالى: (أَوْ مُتمْ) ليتناول هذين النوعين.
قوله تعالى: (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ).
قال مغفرة نكرة، والتنكير للتعظيم، ولاسيما مع قوله تعالى: (مِنَ اللَّهِ) حسبما نبه الزمخشري عليه في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) فإن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (وَرَحْمَةٌ) بعد ذكر المغفرة؟ إن الرحمة سبب في المغفرة فهلا قدمت عليها، أو لم تذكر من أصل، قلنا: المغفرة هي نعمة، وهي رفع الأمور المؤلمة، فالرحمة تعم الجلب والدفع، فالرحمة بالثواب ومحو السيئات، والمغفرة تقتضي محو السيئات فقط، فكان العطف تأسيسا.
قوله تعالى: (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
قرئ بياء الخطاب وبياء الغيبة.
ابن عرفة: فعلى قراءة الغيبة يكون خير فعلا، ولا مشاركة فيها، وعلى قراءة الخطاب يكون للمؤمنين فهي أفعل من؛ لأن موتهم في القتال أخير وأحسن من جمعهم فيه أنفقاه في السبيل في التصدق بها؛ لأنها أحسن من جميع المال لإنفاقه في شهوات الدنيا ولذاتها، فإن قلت: كلف بها من مات، قلنا: هي حكاية حال ماضية، أي خير من جمعهم المال عاشوا وجمعوه، ثم لما كان الموت بغير القتل أكثر منه بالقتل، وكان الخير يعم الجميع بالأعم، ليرتب عليه الوصف العام.
435
قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ... (١٥٩)﴾
ابن عرفة: الآية تدل على أنه في مقام التوسط بين الشدة واللين لقوله تعالى: (لِنْتَ لَهُمْ)، ولم يقل: فبما رحمة من الله كنت لينا، أو كنت تلين، فليس هو في ذاته في لين، لكنه يستعمل اللين وما قالوا: إنها زيادة في اللفظ، قال أبو حيان: ورده ابن عرفة: فإنه يلزم عليه أن القرآن مخلوق؛ لأن الحروف والألفاظ مخلوقة، إلا أن يريد أن الحروف مخلوقة والمعنى قديم ومنهم من يمنع ورود الزيادة في القرآن، كما منع إطلاق التهكم فيه، ومنهم من قال: فائدة التأكيد، فإنه قائم مقام تكرير اللفظ بعيد، فكأنه قيل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وقال بعض الطلبة: الزيادة مجاز، فيمكن في الآية وجه آخر من المجاز، وهو أن فيها تقديما وتأخيرا، كما قالوا: في (غُثَاءً أَحْوَى) كذلك نفي المعنى، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وتكون ما نكرة وصفة، وعلى ما ذكر أبو حيان: تكون ما نكره لَا موصوفة، ولا موصولة كما التعجب.
قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).
ابن عرفة: الفاء للتسبيب، وليست عاطفة إذ لَا يصح عطف الجملة الطلبية على الخبرية، وتقدير السبيبة بتمهيد أنه لين الجانب، وعلى الاتصاف على خلق عظيم، فهو قائل: لأن يعفو عنهم، فليسبب أمر بالعفو عنهم.
قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).
حمله ابن عطية والزمخشري: على الرجوع لفريق واحد.
ابن عرفة: والظاهر أنهم ثلاثة أقسام، فريق فروا فلم يرجعوا، فهؤلاء أمر بالعفو عنهم، [وآخرون*] فروا حتى قال لهم: إلي فارجعوا، فأمر بالاستغفار لهم، وآخرون ثبتوا ولم يفروا، فهؤلاء المأمور بمشاورتهم في الأمر، قيل: فرجعوا فأمر بالاستغفار لهم.
ابن عرفة: قال الفخر: أن المتشاورين، أبو بكر، وعمر، مع أن عمر لم يثبت، فقال: منصبه معلوم.
قال ابن عطية: ومن لَا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب بلا خلاف.
قال ابن عرفة: هذا غير صحيح، ولم أره لغيره، والمسألة مذكورة في أصول الدين في باب الإمامة، وفي كتب الحديث، وفي الفقه، وذكروا فيها فعل الإمام، ما
هو أشد من ذلك لَا يجب عمن له بوجه، ابن عطية: وصفه المشاور في الأحكام كونه عالما دينا، والمستشار في أمور الدنيا كونه عاقلا مجربا.
ابن عرفة: دينا أيضا لئلا يخدعه ولا ينصحه، وقد ورد "الدين نصيحة".
قيل لابن عرفة: في زمانه فمنهم من أجاز الاختيار والتعليم، فقال: هذا لم يقله أحد، وإنَّمَا الخلاف في اجتهاد محضره، وهو يسمع من غير أن يسأله أحد منهم وتسديده بذلك، وأما هو فمجتهد في نفسه ويخبرهم بما ظهر له فيمتثلونه؛ لأنه سألهم.
قال ابن عرفة: والآية دالة على اعتبار الأسباب العادية، وهل تدل على أن السبب ما ينافي التوكل، وهو الظاهر والنَّاس على ثلاثة أقسام: فقوم من المتصرفين أفرطوا وتركوا الأسباب وتوكلوا، وآخرون اعتبروا الأسباب فقط، وآخرون فعلوا الأمرين، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لصاحب الناقة "اعقلها وتوكل".
قال ابن عرفة: واتخاذ السبب عندي أولى وأقرب لمقام التوحيد؛ لأن من أكل وتوكل أكثر توحيد ممن ترك الأكل وتوكل؛ لأن الجوع والشبع بخلق الله تعالى، لا بالأكل وعدمه؛ لأن الذي أكل يؤخذ أنه من جهتين: لأنه يعتقد أن قدرة الله متعلقة بخلق ذلك الشيء المأكول، ويخلق الشبع له عند أكله إياه، والذي لم يأكل معتقد تعلق القدرة بشيء واحد وهو الشبع فقط.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ... (١٦٠)﴾
ابن عرفة: دون أي إشارة لتساوي الأمر، وأن نصرتهم وخذلانهم يالنسبة إلى قدرته متساويان، وليس أحدهما أرجح من الآخر، فإِن قلت: هلا قيل: (إِنَّ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) تنصروا وتظفروا، أو أنتم الغالبون؛ لأنه أصرح في تغلبهم على عدوهم، ولفظ الآية ليس بصريح في غلبهم لعدوهم بل بنفي، وهو أن لَا تغلبوا ولا تغلبوا، قال: وتقدمنا الجواب عنه: بأنه حذف جواب الشرط، وذكر ما يستلزمه والتقدير: إن ينصركم الله ظفرتم ولا غالب لكم، ولو قيل: ظفرتم فقط، لما أفاد انتصارهم في
المستقبل، فقيل: هذا تنبيه على ظفرهم بعدوهم في الحال والاستقبال، أي إن ينصركم الله على عدوكم انتصرتم عليه في الحال، ولا يغلبكم بعد ذلك [أحد*]، إن الله معكم، فذكر ظفرهم بعدوهم في الاستقبال بالطائفة وفي الحال باللزوم، وتقدير الثاني: [وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ*] هزمتم، (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)، وأجيب: أيضا بأن نصرة الله بأحد الوجهين: إما بأن يغلبوا عدوهم، وإما بممانعة حتى يساوونه ولا يغلبهم أحد، وذلك إذا كان أكثر منهم، وأشد قوة، وهم في غاية الضعف، فينصرهم الله عليهم، بمعنى أنه يمنعهم من غلبتهم، وإن قلت في الثاني: (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) فلا ناصر لكم، فالجواب: إذا كان المخاطب موافقا على ما خوطب به، فيؤتى بخطابه بحرف الاستفهام.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ... (١٦١)﴾
قرئ [(يُغَلَّ)، وهو من الغلول، بمعنى الخيانة في الغنيمة وغيرها، وقرئ (يَغُلَّ)] وهو من غل يغل، وهو من الغل، بمعنى الحسد والحقد، وحكى ابن عطية عن الضحاك، أن سبب نزولها أن رسول الله ﷺ بعث طلائع في بعض غزواته، ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للغانمين، ولم يقسم للطلائع فأنزل الله هذه الآية [عليه عتابا*] [**فصرفه عن الجبال معنى، والتقديرية للجهات وهذا قبيح]، ومبادرته لما فيه من التعرض لمقامه والمناقضة، لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى).
ابن عرفة: والصواب عندي فيه آخر، وهو أن يبقي على حقيقته، ويكون المراد أن جميع ما صدر منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس بغلول؛ لأنه شرع في أفعاله كلها، لَا غلول فيها بوجه، وإن كان ظاهرها الغلول لمن أراد، ويمنع منهم من رد قراءة (يغل) يعني، ما كان له أن يصور فإلا، أي لَا ينبغي أن يعتقد فيه الغلول بوجه.
ابن عرفة: ويصح العكس، وهو رد يُغل إلى يَغل، ويكون فعل على حذف مضاف، وما كان لتابعي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يَغل فإذا لم يَغل [تابعه*] صدق أنه لَا يُغل، وهذا على سبيل النهي.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ورد في الحديث "ألا لأعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء، وبقرة لها خوار، وشاة لها يَعَارٌ، فيقول يا محمد، فأقول لَا أملك من الله شيئا" الزمخشري: وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسك، فتليت عليه الآية، فقال: إذاً أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل، قال الطيبي: هذا فيه كفر.
قال ابن عرفة: إذا كانت البقرة لها خوار والبعير له رغاء، فتكون أيضا نافجة المسك ثقيلة منتنة.
قوله تعالى: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ).
عام في الفعل، فيقول: الكاسب ومكسوبه من خير وشر، وهم لَا يظلمون، فلا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ... (١٦٢)﴾
قال أبو حيان: هذا يدلك على أن فعل الجزاء التركيب في العطف بالفاء والهمزة، أن المعطوف عليه مقدر قبل الهمزة.
قال ابن عرفة: لَا دليل فيها بل التقدير فيها استواء الطائع والعاصي، (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) وتكون الهمزة كهمزة (أَطلَعَ الْغَيْبَ)، فإن قلت: هلا قيل: (أَفَمَنِ اتبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ) كما قيل: (بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) أو يقال: (بِسَخَطٍ) بالإضافة كما قيل: (رِضْوَانَ اللَّهِ) فأجيب بوجهين:
الأول: قيل لابن عرفة: أضيف الرضوان إلى الله تشريفا، وفعل السخط منه تأدبا وتعظيما لله تعالى في إضافته إليه وابعاد الشر عنه، كما قال الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ)، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، ولم يقل: وإذا أمرضني مع أن الكل من فعله وخلقه.
الوجه الثاني: قال ابن عرفة: إنما الجواب أن تنكير السخط للتعظيم، أي ليس من اتبع أدنى شيء من رضا الله تعالى، (كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ) عظيم من الله فأحرى من اتبع أعلى الرضا، قيل له: ينتفي (مَنْ بَاءَ) بأدنى السخط فقال: الآية إنما خرجت مخرج التنفير والوعظ، فالمناسب التقليل في جانب الرضا، بمعنى أن قليلة لَا يقارب عظيم
السخط ولا يدانيه، فهو نفي تشبيه، قلنا أو ياتال: أن أدنى السخط، وإن قل فهو من العظيم عظيم فيستوي في حقه أقل السخط، وأعلاه بخلاف الرضا.
قوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ... (١٦٣)﴾
قال الطيبي: عائد على المؤمنين، وقيل: عائد على النوعين، وغلب لفظ الدرجات على الدركات، فإن قلت: هلا عاد على الكافرين فهو أقرب، فأجاب الفخر بوجهين:
الأول: أن الكافرين ذكرت عاقبتهم، فقيل: مأواهم جهنم، ولم يقل: يُذكر للمؤمنين شيء.
الثاني: إن لفظ الدرجات خاص بأهل السعادة، والمناسب للكافرين الدركة لا الدرجة، وقوله (عِنْدَ اللَّهِ) هي عندية مكانة لَا مكان، وجعلوه على حذف مضاف من الثاني: أي هم ذو درجة.
ابن عرفة: وإن شئت قدرته بالأول، أي منازلهم درجات.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ... (١٦٤)﴾
ابن عرفة: المن يطلق بمعنى التذكير بالنعمة، ويطلق على التفضل بالنعمة، وهو المراد هنا.
ابن عرفة: وفي الآية حجة لأهل السنة في أن بعثه الرسل محض تفضل من الله تعالى؛ لأنها واجبة عليه، لقوله تعالى: (مَنَّ) والمن الفضل بالنعمة فرده عليه بوجهين:
الأول: قوله (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) والرسول مبعوث للجميع، فقال المن على المؤمنين باعتبار مآلهم وعاقبة أمرهم في الآخرة.
الثاني: قوله تعالى: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فالمن عليهم بكون الرسول منهم لَا في نفس بعثته، فقال: قرئ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بالفتح والضم، فكان بعضهم يصوب الفتح، فإن فيه إعظاما لقدره صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإعلاما بشرفه، وعلو منزلته، وكان بعض المحققين يصوب الضم، ويقول: هو أقرب لمقام التوحيد، فإن قلت: قد قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِي أَنْ يَغُلً) فعبر بلفظ دون لفظ الرسول، وعبر هنا بلفظ الرسول فما السر في ذلك؟ فالجواب: أن تلك في مقام الصبر والتخويف، فإذا نفوا عنه من
نسبة الغلول للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأحرى الرسول وهذه في مقام التذكير بالنعمة، فناسب فيها لفظ الرسول؛ لأنه أبلغ في الإنعام عليهم.
قوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
وتقدم الاتصاف بنقيضها كقوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى).
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ... (١٦٥)﴾
قال ابن عطية: الهمزة إما للإنكار أو للتقرير، وضعف ابن عرفة الثاني؛ لأن التقرير في الغالب إنما يكون بأمر ملائم، كقولك: ألم أحسن إليك قيل له: (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) ملائم، فقال: ليس هو من قولهم، والهمزة إنما دخلت على قولهم، قال: والمصيبة هي الأمر المؤلم البين إيلامه، وهمزة التقرير والإنكار لَا تحتاج إلى جواب، فما فائدة الجواب، قيل: إنما هو جواب لقوله: (أَنُّى هَذَا) قال الزمخشري: والمعنى: من أين لكم هذا، فرده أبو حيان بأن (أَنُّى هَذَا) ظرف لا يقدر بأين، وإنما يقدر نهي، وأجيب: بأن ذلك تقرير معنى الجواب: بها على اللفظ ولفظها المناسب فيه من قوله تعالى: (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) يحسن أن يعزل كل واحد إلى أصحابه، قال الفخر: واحتج بها المعتزلة على أن العبد يخلق أفعاله.
ورده ابن عرفة: بأنه لم يقل أحد أن العبد خلق أفعاله غيره، والمصيبة التي أصابت المؤمنين هي بفعل الكافرين، فليس هي فعل لهم، وإنما فعلهم السبب في ذلك فإذا استدلوا بالسبب، قلنا: ليس لهم دليل من الآية بل فيها ما يرده، وهو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ... (١٦٦)﴾
ابن عطية: فيها تقديم وتأخير، أي بأذن الله ما أصابكم.
قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).
أي ليظهر متعلق عمله.
ابن عرفة: وهو وعد ووعيد؛ لأنه إذا علم العبد الطائع أن سيده عالم بما هو فاعل من الطاعة يزداد فرحا وسرورا واجتهادا في عمله، وإذا علم العاصي بأن سيده عالم بما هو يفعل من وجوه المخالفات يزداد هما وغما، ويكون ذلك إنذارا له وتنفيرا عن
نعمته، وعبر عن المؤمنين بالاسم والكافرين بالفعل إشارة إلى أن ذلك الوعد إنما هو لمن ثبت له الإيمان في قلبه وفي ظاهره، وأما الوعيد فهو لمن اتصف بأدنى شيء من النفاق فجرت الأولى مجرى الأمر، والثانية مجرى النهي، وفي الحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا".
قوله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ... (١٦٧)﴾
قال أبو حيان: لَا يصح تعلق المجرورين بـ أقرب.
ابن عرفة: يقول المعنى (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ) في حالهم إلى الإيمان، أو أقرب منهم مستقلين أو موجهين إلى الإيمان في موضع الحال.
قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، نقيضه وهنا إنما عبر عن الأعم فيكون المعنى أنهم يعلمون نفي ذلك.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ).
يستحيل عليهم بالكفر.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا... (١٦٨)﴾
وذكر أبو حيان في إعرابه وجها ابن عرفة: اللام للتعليل وإخوانهم الموتى، أو للتعدية وإخوانهم الأحياء، وذكر أبو حيان في إعرابه وجها وزاد ابن عرفة بأن يكون مبتدأ وخبره (قُلْ فَادْرَءُوا) والرابط محذوف، أي قل لهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: فقد كانوا صادقين في دفعهم القتل عن أنفسهم بالقعود، ثم أجاب بوجهين:
الأول: أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببا للقعود، وأن يكون غيره، وقد تكون المقاتلة والوقوف سببا للنجاة، ورده ابن عرفة: بأن قولهم: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) موجبة جزئية، إما نقيضها سالبة كلية، وإما السالبة الجزئية نقيضها بوجه، قلت: يريد أنه لَا يكون ردا له، إلا لو كان القعود ليس سببا للنجاة مطلقا، فحينئذ يتم الرد عليهم بذلك مع أنه تارة وتارة، الجواب المعني أنه قيل لهم: لو أطاعوكم لقتلوا قاعدين، فإِن قلت: لم يدعوا نفي الموت وإنما نفوا القتل، فلما قيل لهم: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ)، فالجواب: أن الموت أعم فإذا عجزوا بالأعم دخل في صحبة الأخص، وصيغة أفعل التعجيز وقوله: (ادرَءُوا) ولم يقل: لَا تموتن إشارة إلى
ملازمة الموت لهم، وأنه أمر حتم لَا بد له منه، كما في سورة الجمعة (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) أي يأتيكم ويواجهكم، فإذا فررتم منه، فإليه تفرون.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ... (١٦٩)﴾
ابن عطية: قرأ حميد بن قيس: (وَلَا يَحسَبَن) بياء الغيبة، ورويت عن [ابن*] عامر، وذكرها [ابن*] عامر، وروى هذه القراءة بضم الباء.
ابن عرفة: إنما يحسبن الكلام ممن يقول أن السبع غير متواتر، واختلفوا في معنى قوله تعالى: (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، فقيل: أجسادهم في التراب وأرواحهم [في الجنة*]، وفضلوا بالرزق في الجنة، ابن عطية: وهم طبقات وأحوال مختلفة بحجمها أنهم يرزقون أي كما ترى حالات النَّاس مختلفة، فواحد خفيف النوم يستيقظ من أول وهلة، وآخر متوسط فكذلك حياتهم في الآخرة متفاوتة.
قوله تعالى: ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ... (١٧٠)﴾
قالوا: هذا مطاوع بشر.
ابن عرفة: المطاوع غالبا إنما هو في الماضي مثل كسرته فانكسر، وجبرته فانجبر، والذين لم يلحقوا بهم، قيل: هم من تأخر عنهم من الشهداء المقاتلين، وقيل: جميع المؤمنين لم يلحقوا برتبتهم في فضل الشهادة.
ابن عرفة: وهو ظاهر لقوله تعالى: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ولو أريد الأول لما استبشروا بهذا بل بما هو أخص منه، وهو الثواب العظيم وإنما ينفي الخوف والحزن عن من دونهم ممن لم يترقَ إلى رتبتهم.
قوله تعالى: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ... (١٧١)﴾
ابن عطية: النعمة الجزاء، والفضل الزيادة عليها.
ابن عرفة: ويظهر لي أن النعمة هي نفس الثواب مع اعتبار سببه فحاصله أن اعتبرنا الأمر الملائم من حيث ذاته فهو نعمة، ومن حيث سببه فهو فضل؛ لأن سببه من الله، ولذلك قيد النعمة بقوله تعالى: (مِنَ اللَّهِ) ولم يقيد الفضل، والآية دالة على مذهب أهل السنة في قولهم: إن الثواب محض تفضل من الله تعالى ولا يجب عليه شيء.
قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
على قراءة الكسر.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون جملة اعتراض، وغالب ظني أن في صحة كونها بالواو خلاف ومنه قوله:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة... ولو خالها تخفى على النَّاس تعلم
كذلك قوله تعالى: (إِنَّ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتبِعُوا الْهَوَى) جعلوا الجواب (فَلا تَتبِعُوا الْهَوَى).
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ... (١٧٢)﴾
استجاب إذلال له عن، وأجاب بالموافق، وأما أجاب فمطلق يتناول الإتيان بالموافق والمخالف.
قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا).
ابن عرفة: هو على التوزيع، فمنهم من يبلغ درجة الإحسان كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومنهم من هو دون ذلك فهو في رتبة المتقين كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وأمثالها.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا... (١٧٣)﴾
قال الزمخشري: الفاعل عائد على القول، أبو حيان: أو على لفظ النَّاس؛ لأن الجمع يزاد على لفظه فيفرده الغير، ومعناه فنجمع.
ابن عرفة: وأيضا فهو اسم جمع لَا جمع فإفراد ضميره أسهل من إفراد ضمير الجمع.
ابن عرفة: وانظر حيلة هذا القائل إذا لم يبالغ أن تأكيد خبره فأكده بـ إن فقط، ولم يؤكد مع ذلك باللام خشية أن يتفطن ويحترز منه فجاء به لمقام التوسط ليكون ذلك ادعاء لتصديقه وقبول خبره، وقوله تعالى: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا).
قال ابن عرفة: هذا يشبه قلب النكتة وهو الاحتجاج بدليل الخصم على نقيض دعواه فكذلك هذا المخبر أراد بقوله: أن يثبطهم عن الخروج للقتال فكان ذلك سببا في تحريضهم على الخروج والمقاتلة، وحكى ابن عطية: الخلاف في زيادة الإيمان،
فقيل: باعتبار كثرة الدلائل، وقيل: باعتبار الأعمال، وقيل: باعتبار نزول السور والأحكام شيئا فشيئا فمنهما ورد على شيء منها آمن به، وقال أبو المعالي: الإيمان عرض لَا يبقى زمانين فخلف بعضه بعضا.
ابن عرفة: والتحقيق أن القدر المجزئ منه لَا يزيد ولا ينقص، والإيمان الكامل يزيد وينقص، قيل له: القول زيادة معلومة، وفي نسخة ملزومة لاجتماع الأمثال في محل واحد فقال: قد قال إمام الحرمين: إنه عرض لَا يبقى زمانين فلا يجتمع الأمثال بوجه قال: والآية تدل على أن الزيادة في نفس الإيمان لَا باعتبار الأعمال؛ لأن حين هذا كانوا جلوسا غير منتصبين للقتال، فزادهم ذلك خشية وإيمانا وفرة في الاعتقاد القلبي، ثم بعد ذلك تحركوا للخروج والمبارزة، وحكى ابن عطية: أن المسلمين تحرجوا من الخروج، ومحكي في السير أنهم اختلفوا فمنهم من عزم على الخروج وهان عليه، ومنهم من شق ذلك عليه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ... (١٧٥)﴾
أبو حيان: إن أريد الشيطان بنفسه فهو إما علم لإبليس أو صفة؛ لأن الوصف العلم قد يخرج على..... سماع الصفة.
قوله تعالى: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ).
قيل: المعنى يخوفكم أولياءه، وقيل: يخوف أولياءه من أشياء.
ابن عرفة: وعلى الثاني يكون فلا تخافوهم التفاتا وفيه بعد؛ لأنه لَا يلتفت من الغيبة إلى الخطاب إلا قصد الإقبال على المخاطب، وهؤلاء منافقون فيهم مبعدون مطرودون، وإن أريد بالخطاب المؤمنون فظاهر لكن يجيء فيه تفكيك الضمائر، والمعنى فلا تخافوهم وتقعدوا عن الخروج وخافوا وأخرجوا إلى القتال (إِنَّ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
قوله تعالى: (إِنَّ كُنْتُم).
تأسيس على أن الخطاب يكون للمنافقين وتأكيد على أنه للمؤمنين.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ... (١٧٦)﴾
من باب [لَا أرينك هاهنا*] إلا في باب لَا يعم؛ لأن النهي بها للفاعل، وفاعل الأحزاب غير من خوطب فالمعنى لَا تحزن فيحزنك.
قوله تعالى: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ).
عداه بـ في دون الباء للمبالغة في دخولهم في الكفر، فهو مثل (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)؛ لأنهم إذا لم يحزنهم الفزع الأكبر فأحرى ما دونه وكذلك هنا.
قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ).
إشارة لحرمانهم من دخول الجنة ولا يلزم منه تعذيبهم، فقوله تعالى: (وَلَهُم عَذَاب أَلِيم) تأسيس.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا... (١٧٧)﴾
جعلهم باعوا الإيمان ولم يكن تحصل لهم بوجه إما لظهور دلائله ووضوحه فهو حاصل لهم، وإما لحديث: كل مولود يولد على الفطرة"، أو لأن من حضر في شيء... فكأنهم اختاروا الإيمان وانتقلوا عنه بعد الكفر، وقال في الأولى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) لأن كفرهم أشد لقوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وهم سارعوا إليه قبل غيرهم وهؤلاء كفروا بعد نور أو تأمل فناسب أن الأولين لهم عذاب عظيم، وهؤلاء دون ذلك؛ لأن العظيم أعظم من الأليم.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ... (١٧٨)﴾
قال أبو حيان: على قراءة الخطاب يكون (الَّذِينَ) مفعول، وإنما يدل مثلها في قول بعضهم لبعض، فرده ابن عرفة: بأن بعضهم بدل وفرق مفعول بأن، وهنا ليس ثم ما يكون مفعولا، وأعربه الطيبي إنما بمعنى بدل لهم وبدل من الذين وجد أن سدَّها مسد المفعولين، قيل: قال ابن عطية: قرئ على أبي الفارسي: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا) بفتح (أَنَّمَا) لَا تكون مفعولا ثانيا، والمفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى وليس هم نفس الإملاء.
ابن عرفة: إلا أن يجعله مثل (وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ) أي ذوي البر منها، أو البر من آمن، وأنشد سيبويه:
وكيف بحال من أصبحت... حالته كأبي مرحب
أي كحالة أبي مرحب، فالمعنى هنا (وَلَا يَحسَبَن الَّذِينَ كَفَرُوا) قال بعض الطلبة: إنما ذلك حيث يكون جملة الخبرية من ضمير يعود على المبتدأ أما إذا كان فيه
ضميرا يربط بينها وبين..... مثل ابن عرفة: في المفتوحة إنها جميع ما بعدها في قراءة المفرد فإنما المعنى (الذينَ كَفَرُوا) أملأنا الخير لهم، وهذا لَا يجوز؛ لأن الإملاء بمعنى، (الَّذِينَ كَفَرُوا) ذات معنى لَا يكون خبرا عن الذات، ثم عقبه بقوله (عَذَاب مُهِين)، لأن الإملاء فيه باعتبار الظاهر رفعة لهم لأجل إمهالهم ونيلهم شهواتهم ولذاتهم الدنيوية فناسب لفظ المهانة والزلة، وأيضا فهو نقيض الطول كما أن الإملاء مشعر بالطول.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ... (١٧٩)﴾
ابن عرفة: هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب وليس بالتفات ويكون المراد بالمؤمنين جميع من آمن به ومن سيؤمن من إلى قيام الساعة، وكان تقدم لنا في هذه الآية فيه سؤالان؛ لأن الخبيث فالإعجاب بالكثرة يدل على ما كثر من الطيب، والقاعدة أن القليل هو الذي يميز من الكثير، فهلا قيل: (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
السؤال الثاني: نقول إن الآية على صحة أبي حنيفة في أن الأصل في النَّاس العدالة؛ لأن العميد قال في الصورة المفردة إذا أشكل علينا بتعينها لأحدى نوعين الجملة بالتعيين فإنا نحملها بأكثر النوعين، وفي مذهبنا أن الصفقة إذا احتملت الصحة والفساد فإنها تحمل على الصحة ما لم يكن الفساد في النَّاس أغلب، فإنها تحمل وقد ثبت بهذه الآية أن الطيب أكثر من الخبيث؛ لأن القليل هو الذي يميز من الكثير فينتج أن العدالة في النَّاس أكثر من الجرح، فمن شككنا فيه أضفناه إلى الأكثر وحكما الأصل في النَّاس العدالة كما قال أبو حنيفة.
والجواب عن الأول أن قوله تعالى: (وَلَوْ أَعجَبَكَ كَثرَةُ الْخَبِيثِ) في سياق الشرط، فيدل على فرض وقوعه وتقديره لَا على أصوله وثبوته وتحقق وجوده بالفعل يقول: لم يقم زيد، ويقول: لو قام زيد لأكرمته فلا يتنافيان فيكون الخبيث أكثر عن واقع بل مقدر للوقوع.
والجواب عن السؤال الثاني: أن قولهم: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) خطاب للصحابة وكلهم عدول، فالأصل أن ذاك في النَّاس العدالة.
ابن عرفة: ومن قرله (مِنَ الطَّيِّبِ) يتبين لَا لبيان الجنس مثل ما في الحديث: "لست من دد ولا دد مني". فإِن قلت: ما بعد الغاية مخالف لما قبلها فينتج الله ميز الخبيث من الطيب بترك المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط وهنا لا يصح.
ابن عرفة: ويجاب بأن الاختلاط أشكال معلقا بمعنى أنه لَا يعلم المؤمنين من المنافقين، واختلاط أشكال بوجه لَا كعما قد يجمعا مخلطا فيه الأبيض والأكحل والعفن والسالم تمييز الأبيض من الأسود، فإنه لَا يزال مسالمة مختلطا ببعضه فكذلك لا تميزهم خبيثهم من طيبهم بالمعرفة فيعلم الكافر من المؤمن ولا يزالون مختلطون بالمعاشرة والسكنى وغير ذلك.
قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) من للتبعيض، قال الله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ).
قوله تعالى: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
دليل على أن التقوى وصف زائد على الإيمان لقوله تعالى: (عَظِيمٌ).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... (١٨٠)﴾
ابن عرفة: إن قلت: لم قال: (وَلَا يَحْسَبَن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) فعبر عن كفرهم بلفظ الماضي ثم قال هنا: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) فعبر عن بخلهم بلفظ المستقبل مع أن الكلام فيهم بعد وقوع البخل منهم والكفر، فالجواب: إن الكفر متعلق بشيء وهو حجة الإله والرسول فإذا اعتقد هذا كان كافرا ودوامه عليه بقاء لا يجدد، والبخل له متعلقات متعددة؛ لأنه يبخل بكذا ويبخل بكذا، ولا يسمى بخيلا حتى تتعدد متعلقات بخله وتتكرر منه بخلاف الكفر؛ لأنه باعتقاده له أول مرة يسمى كافرا، فإذا دام عليه فهو بقاء لَا تجديد، قال ابن عطية: وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع من نار يلتطمه حتى يطوقه".
ابن عرفة: فحمله عندنا على من يجب عليه نفقته من الأقارب، أو حيث تجب المساواة وذلك عند الضرورة الملحقة، لكن يستوي في هذا القريب والبعيد إلا أن
القريب أرجح، ابن عطية: وقال ابن عباس نزلت الآية في بخل أهل الكتاب ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال ابن عرفة: الصادر من أهل الكتاب الجحد والإنكار للدلائل الواردة في كتابهم، وهو أشد من الكفر وإنَّمَا كانوا يوصفون بالبخل أن لو سكتوا على ذلك فقط بل تكلموا بنقيضه، قال: وهو على حذف مضاف أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون.
ابن عرفة: أو بقدره في الثاني: أي (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) هو ذا خير لهم لكن يبعد هذا لأجل الفضل والإضراب بل إن كان متعن الحسبان فهو إضراب إبطال، وإن كان عن نفس الحسبان هو إضراب انتقال.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
عطف الأرض المستوية أي كما يعتقدون أن السماوات ليست ملكا لهم وإنما هي لله تعالى فكذلك الأرض، ومثله قوله تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) أي كما علمتم أنه يعلم جهركم، فلذلك علمه لسركم مساو علمه لجهركم، والمراد ميراث ما فيها؛ لأنه لم يدع أحد ملك ذواتها، والميراث يقتضي إما ملكا مسبوقا بعدم أو مخلوقا بعده، فالأول: ملك الوارث، والثاني: ملك الموروث عنه؛ لأنه مخلوق بعدم.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
وعد ووعيد.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ... (١٨١)﴾
قال ابن عرفة: الآية دالة على إثبات صفة السمع لله تعالى ومذهبنا أنهما مغايرة لصفة العلم، والمعتزلة يقولون: إنهما شيء واحد، قيل له: القرآن معجزة والمعجزة ينزل قول الملك صدق عبدي، وهذا مسموع فتجيء به إثبات السمع بالسمع، فقال: إنما المعجزة محصلة للعلم بمدلول صدق عبدي؛ لأنها بمنزلة سماع لفظ صدق عبدي.
قال الزمخشري فإن قلت: عبر عن السماع بالماضي، وعن الكتاب بالمستقبل ثم أجاب: بأن السامع إذا كان على وثوق من نفسه أنه لَا يتسنى ما سمع، فإنه يتراخى في كتبه ولا يكتبه إلا بعد مدة طويلة، وأجاب ابن عرفة: بأن المراد بالكتاب الجزاء أي سيجازيهم على قولهم ذلك، والجزاء مستقبل لَا ماض.
ابن عرفة: ومن حيلتهم ودهائهم بالكتاب تأكيدهم نسبة الفقر إلى الله تعالى وعدم تأكيدهم نسبة الغناء إلى أنفسهم كان ذلك عندهم أمر جعلي وحق بين لأمر به فيه.
قوله تعالى: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).
إما أنه على حذف مضاف أي وقتلهم آبائهم الأنبياء بغير واو إما أنه نسب إليهم فعل القتل مجازا لرضاهم بفعل آبائهم، فيتعارض فيه المجاز والإضمار، وفيه ثلاثة أقوال ثالثها أنهما سواء.
قوله تعالى: (بِغَيْرِ حَقٍّ).
أي بلا شبهة ولا دليل.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ... (١٨٢)﴾
مع أنهم تقدم منهم العصيان بالقول والفعل، ثم ذكر هنا أنهم عوقبوا بسبب الفعل فقط، فالجواب: إما بأن المراد بالأيدي الكسب أي مما كسبتم وافترقتم فيتناول القول والفعل، وإما بأن القول في الوجود أكثر من الفعل، فإذا عوقبوا بسبب الأخص للأقل دل على العقوبة على ما فرقه من باب أحرى قيل له: بل الفعل أشد من القول فقال: لا بل القول أشد بدليل الكفر فإنه قولي، أي ذلك بسبب حرمكم وعدل إليه.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ... (١٨٣)﴾
ابن عرفة: في الآية إشكال وهو أن اليهود ينكرون النسخ كذا نقل عنهم الأصوليون، وهذا القول إقرار منهم بالنسخ لاقتضائه أن شريعته تنسخ إذا أتاهم رسول بقربان تأكله النار، وقد أتاهم كثير من الأنبياء وقتلوهم، قيل لهم: هم أنبياء لَا رسل، أو هم رسل أتوا بشريعة موافقة لشريعتهم لَا مخالفة، فرده ابن عرفة: بأن هذه مقالة منهم مع محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أتاهم بشريعة ناسخة لشريعتهم، وكذلك عيسى عليه السلام من قبله.
قوله تعالى: (بِالْبَيِّنَاتِ).
أي بالمعجزات وبالذي قلتم هي الآية المقترحة التي إن خالفوا بعدها عجلوا بالعقوبة وليس المراد نفس أمر ما قيل لما قالوا، لأن الذي قالوا لم يقع.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ... (١٨٥)﴾
قال ابن عطية: نزلت تسلية له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ابن عرفة: بل وعيد لهم، وإنما التسلية بقوله تعالى: (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ثم عقبه ببيان أنهم يموتون ويصير كل فريق إلى قدر له من الثواب والعقاب.
ابن عرفة: والدليل على أن الآية إنذار ووعيد للجميع.
قوله تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ).
الزحزح يقتضي أن الأصل مماسة النار وملاصقتها للجميع قال تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، وقال بعض المتصوفة: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن سلم كيف سلم.
قال ابن عرفة: وهذا عام باق على عمومه، إن قلنا: إن ذات الله لَا مطلق عليها نفس وإن جوز ما إطلاق النفس عليها أخذا بظاهر قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، فيكون مخصوصا قيل له: الأرواح للنفس قال الفخر: ويتناول الجمادات فرده ابن عرفة: بقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ) وبأن الموت إنما مصدق على من يقتل الحياة، قال: إلا أن يريد بالنفس الذات ويجعله من قسم السلب مثل الحائط لَا يبصر إلا من قسم العدم، والملكة مثل: زيد لَا يبصر، قال: وذكر الأصوليون والمناطقة والنحويون الكل والكلي والكلية، فالكل: الحكم على المجموع من حيث هو مثل:... ، والكلي: هو ما لَا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الحركة فيه مثل: الإنسان حيوان، والكلية: هي الحكم على المجموع باعتبار تتبع الأفراد، مثل كل إنسان حيوان موجود في زمن، وهذه الآية من قسم الكلية بحسب التمثيل بها.
قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ... (١٨٦)﴾
قال ابن عطية: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولسائر أمته. ابن عرفة: لَا ينبغي إدخال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا [الخطاب*]؛ لأن هذا الخطاب تهيئة الصبر على المصائب، وتوطين النفس عليها ليكون المخاطب على هيئة خشية أن يلحقه خوف وهلع، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن لا يتأتى لمثل ذلك، وقد قال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
قال ابن عرفة: والعطف ترق لكن قصر الأصوليون في الكليات الخمس أن آكدها حفظ الأديان، ثم النفوس ثم العقول ثم الأنساب ثم الأموال، كذا رتبها الآمدي، وابن الحاجب، وقال ابن التلمساني: آكدها الدين وحفظ الأنساب وحفظ الأعراض وحفظ العقل وحفظ المال، وظاهر الآية مخالف لذلك سيما بين قوله تعالى: (أَنْفُسِكُمْ) مع قوله: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فيوهم أن حفظ الأعراض آكد من حفظ النفوس وأميز، كذلك؛ لأن الأعراض إنما فيها حد القذف، والنفوس فيها القصاص في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، حتى قال ابن عباس وغيره: إن قاتل النفس مخلد في النار ولا تنفعه توبة، لكن [يجاب*] بأن ضم حفظ الأعراض هنا إلى سبب نزول الآية يدل على أن [هذا*] راجع لحفظ الأديان، وهو آكد من حفظ النفوس، كما سبق فصح أنه ترق على بابه، قيل لابن عرفة: (وَلَتَسْمَعُنَّ) مستقبل وما ذكروه في سبب نزول الآية تقتضي أنه متقدم عليها، فقال: هو واقع فيها معنى، وتزايد في المستقبل.
قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا).
عبر بإن دون إذا مع أن الصبر مطلوب لواجبة مراد وقوعه فهو إشارة إلى المعتبر منه، المشكوك في وقوعه منهم فإذا أمر بالمعتبر منه أمر معزوما عليهم دل على الأمر بالمتيسر منه من باب أحرى، فإن قلت: لم قال (وَتَتَقُوا)، قلت: لأن الصبر على نوعين: تارة: يكون للتجلد، [والحمية*] في الباطل وإظهار القوة والرياء والسمعة، وتارة: يكون للتقوى ونصرة دين الله عز وجل [فأُمروا*] بأن يصبروا صبرا يبتغون به وجه الله وهو الذي يصحبه التقوى فقط.
قوله تعالى: (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).
فهو دليل على الجواب وعلة له، أي يجوزوا الفضيلة العظمى؛ لأنكم أسلمتم أمرا معزوما عليكم فيه والأمور، قال ابن عطية: فالمراد هنا الشان.
ابن عرفة: وهو عام لكن جمع لاختلاف أنواعه.
قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ... (١٨٧)﴾
ابن عرفة: إن قلت: المناسب في الترتيب باعتبار الفهم عكس هذا؛ لأن عدم كتمانه إنما يفيد لقاءه فقط هو الفاء مبين أو غير مبين، والأمر بتبيانه بعد الأمر بالغاية المفهوم، من قوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُونَهُ) وزيادة فلو عكس لكان الأمر تأسيسا وهو ملقى، أو لَا غير مبين ثم بين في تأتي حال، قال: والجواب أنه روعي فيه ما تقرر من
أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأخص يستلزم نفي الأعم؛ لأن هذا البيان عدم البيان، ويكون إما بكتم الكتاب عنهم من أصل، وإما بإلقائه لهم مبهما غير مبين فلما أمر بالبيان توهم أنهم ما بيتوا للأمة إلا ما سمعوه منهم، وأما ما يبلغ النَّاس فلا يلزمهم ببيانه، فقيل: فلا تكتموا عنهم ما بلغكم منه ولم يشعروهم به، قلت: لئلا يقال أنهم ما يجب عليهم أن تبلغوا النَّاس إلا آية التكليف وما يتعلق به حكم من وعد ووعيد ونحوه، فيبلغون ويعلموا بمقتضاه وما سوى ذلك هي القصص الخارجة عن أمور التكاليف العملية والعلمية فليس بواجب عليهم فأخبر عن ذلك بقوله تعالى: (وَلَا وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، وأجيب أيضا بأن المراد (لَتُبَيِّنُنَّهُ) لعوام النَّاس (وَلَا تَكْتُمُونَهُ) عن خواصهم أي القوه مبينا وغير مبين بحسب الحاضرين، قلت: وأمروا ببيان ما نزل فيه إذا كانوا يلقوه عليهم غير مبين، وأن لَا يكتم عنهم ما سينزل منه في المستقبل.
قوله تعالى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).
قال الفقيه أبو العباس أحمد بن غلبون يقول: الظهر هو الوجه، فهو من وجوه قدامهم، وأجيب: بأن المراد بالظهر مقابل الأمام فهم نبذوه ورائهم مبالغة في النبذ، وتقدم نظيره في البقرة.
قوله تعالى: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
جعل الثمن مشترى، وهم متمنون لكن كل واحد منهما مشتري يباع، وانظر ما سبق في البقرة في قوله تعالى: (ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا... (١٨٨)﴾
ابن عطية: قرأ حمزة (لَا تَحْسَبَنَّ) بالتاء وكسر السين فلا تحسبنهم بالتاء، وكسر السين وفتح الباء.
ابن عرفة: الذي ذكر في القراءة بفتح السين وتنكير مفازة للتقليل، أي لَا تحسبنهم بمفازة قليلة من العذاب، وإذا انتفى دل على نفي الكثير من باب أحرى.
قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ابن عرفة: وتقدم لنا أن هذه الواو عكس هذه الواو في قوله تعالى: (يَغْشَى طَائِفَة مِنْكُمْ وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُم) لأن تلك نص سيبويه على أنها واو الحال، وليست عاطفة والمانع لفظي حسبه المفهوم.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٨٩)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منها أن الحوز دليل الملك، وأن ملك الظرف يستلزم ملك المظروف؛ لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض بإجماع فجعل هنا ملكها مستلزما لملك ما فيها، واستغنى بذكره عنه، وذكره في كتاب الصلاة في باب الإمامة: إذا رجلين راكبين على بهيمة فادعياها معا أنها لمن ركب في مقدمتها، قيل: وإن كان المتأخر أعمى، قال: نعم، قاله ابن الهندي، وانظر آخر البقرة، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، حكى ابن عرفة عن ابن الباقلاني أنه عام مخصوص بالمستحيل.
ابن عرفة: فظاهر أن المستحيل يطلق عليه شيء وأكثر الأصوليين كالتلمساني، وغيره منعوا ذلك وبعضهم جوز الإطلاق، وحكى الآمدي مسألتين:
أحدهما: هل يطلق على المعدوم شيء أم لا، [ولا يبنى عليه*] كفر ولا إيمان؟
والثاني: هل المعدوم تقرر في الأزل أم لَا؟، فنحن ننفيه وهم يثبتونه، ويلزمهم قدم العالم.
ابن عرفة: في الثاني ليس المحال شيء باتفاق، وعلى الأول هو شيء، قال: [تاج الدين في الحاصل*] والسراج في اختصار المحصول: اتفق أهل السنة والمعتزلة على أن المعدوم المستحيل لَا يطلق عليه شيء، وإنما الخلاف في المعدوم الممكن، وحكى الشيرازي شارح ابن الحاجب الإجماع أنه لَا يستحيل شيء، وحكى الأصبهاني شارح ابن الحاجب أن المستحيل شيء نكرة في باب المستحيل للعام والخاص، لما ذكر ابن الحاجب التخصيص، وذكر هذه الآية تعقبها، قال الأصبهاني: إنها مخصوصة بواجب الوجود والمستحيل، فظاهر صحة إطلاق لفظ شيء يدل عليه، وقال الشيرازي: في حد القياس حمل معلوم إنما لم يقل: حمل شيء لدخل المعدوم، والممكن عندنا والمستحيل عندنا، وعند المعتزلة فظاهره الاتفاق على أنه ليس شيء، وكذا قال ابن التلمساني في شرح المعالم الدينية، وظاهر كلام ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في حد القياس المعدوم ليس بشيء، فإنه قال حمل معلوم على معلوم، ثم قال: وإنما لم يقل: حمل شيء ليدخل المعدوم، قيل لابن عرفة: وحاصل عند الأصوليين، فقال فإما بذاتها فليس بشيء، لأنها لَا موجودة ولا معدومة، وإما باعتبار من شيء تابعة له فهو شيء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٩٠)﴾
قال ابن عرفة: اختلفوا هل الخلق نفس المخلوق أو غيره؟ فحجة من قال: [إنه*] نفسه فإنه لو كان غيره للزم عليه إما قدم العالم إذا قلنا: إن ذلك الخلق لَا يفتقر إلى خلق آخر، وإما مع التسلسل إذا قلنا بالافتقار، وأجاب الآخرون بأنه لو كان نفسه للزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه في هذه الآية وأمثالها.
ابن عرفة: والتحقيق في الشرع يطلق ويراد نفس المخلوق، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) والآخر يطلق على الإنشاء والاختراع والتكوين كهذه الآية، والتأكيد من تنبيه على غفلة النَّاس كالتفكر في مخلوقات الله تعالى كقول الشاعر:
جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمْحَه... إِن بني عَمِّكَ فيهم رِمَاحُ
واكتفى هنا بذكر الليل والنهار عن ذكر لازمها، وهما الشمس والقمر وعكس في نوح، فقال: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦).
قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
أي في كل واحد منهن آية، ابن عطية: والمراد العقل التكليفي لَا أزيد من ذلك.
قوله تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا... (١٩١)﴾
جعل ابن عطية الواو بمعنى، أو فهو على تنويع النَّاس، الزمخشري: ابن عمر وعروة وجماعة، أنهم خرجوا يوم العيد فتلا بعضهم هذه الآية، فقاموا يذكرون الله على أقدامهم.
ابن عرفة: مذهبنا أن الذكر جالسا أفضل، ابن عطية: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لَا عبادة كالتفكر" ابن عرفة: لأنه إذا تفكر في مخلوقاته وقدرته يستزيد علما بمعبوده، ومجرد العبادة لَا تزيد علما فلذلك كان التفكير أفضل.
قوله تعالى: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا).
فسره الزمخشري على مذهبه، وهو ظاهر في مذهبهم، وكان بعضهم يستضعف فهم الآية على مذهب أهل السنة، وسألني عنها فقلت له: معناها ما خلقت هذا مخالفا لما أتتنا به الرسل عنه من الحصر والنشر والإعادة والثواب والعقاب بل هو موافق ذلك، ودليل عليه لَا لأجله وعلة فيه، ومثله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) وكون فعل الله تعالى إما واجب، وإما جائز، أو مستحيل فالمعتزلة يقولون: بالوجوب بقاعدة التحسين والتقبيح العقلي، ونحن نمنع
ذلك، ونقول: إنما هو ارتباط عادي يجوز بخلفه، وكان بعضهم لهيئة علة لَا عقلية، وبعضهم يتحاشا عن تسميته عله، بل ارتباط عادي شرعي، وأفعال الله غير معللة، ولابن سلامة هذا كلام ضعيف، وما قلناه أصوب.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ... (١٩٢)﴾
ابن عرفة: في هذا الدعاء تلطف من وجهين: من تكرار النداء خمس مرات، ويكونه بلفظ الرب المشعر بالحنان، والشفقة، فإن قلت: الملازمة بين الشرط وجوابه حجة واضحة فما فائدة تأكيده بإن، فأجاب بعض الطلبة: باحتمال كونها تعليلا، لقوله تعالى: (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) واستبعده ابن عرفة للفصل، وذكر أبو حيان في إعرابها ثلاثة أوجه: زاد ابن عرفة رابعها: وهو أنه مبتدأ وتدخل وحدها خبرها على الوجه الضعيف للذي ذكروه في قوله:
قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنعِ
بالرفع في قوله:..... ، واحتج الزمخشري بالآية على نفي الشفاعة؛ لأن الخزي يقتضي عدم خروجهم منها.
ورده ابن عرفة: لصحة صدق الخزي على كل من دخلها ولا تعكر علينا: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لاحتمال الوقف عند قوله (النَّبِيَّ).
قال ابن عرفة: فالجواب بأن المراد بالظالمين الكفار، وإمَّا بأنا نقول ما لهم أنصار ابتداء قبل دخولهم النار، وبعد ذلك تقع الشفاعة هو، قلت: أو يقال: إنما لهم ناصر واحد، وهو النبي وحده لَا أنصار، أو ليس لهم أنصار مشغولون بالنصرة، بل إنما لهم شفعاء لله عز وجل ينقلون شفاعتهم إلى القبول.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ... (١٩٣)﴾
الزمخشري إن قلت: ما أفاد قوله (يُنَادِي)، ثم أجاب بثلاثة أوجه:
الأول: أنه تأكيد.
الثاني: أن مناديا عام يتناول ابتداء للإيمان، أو للحرب، ولإغاثة المكروب، ولكفاية بعض النوازل فكرره ليفيد التفسير بعد الإبهام، لتذهب النفس أولا به كل مذهب فكرر الفعل تعظيما للمنادى، قلت: أو لأنه جواب لمن سأل، فقال: لماذا ينادي، فقال:
الوجه الثالث أن قولك: سمعت المنادي يحتمل، إما سماعك نداءه، أو سماعك منه قولا آخر غير النداء، فلما قال: ينادي للإيمان فهم أن المراد سماع ما نودي به.
قوله تعالى: (فَآمَنَّا).
فيه حجة لما اختار عياض، وهو القول الثالث في مسألة القائل: أنا مؤمن فلابد من زيادة إن شاء الله تعالى أولا، فقال عياض: إن أراد في المستقبل في التقبل وما يقع به فلا بد من زيادتها وإن أراد صحة معتقده في الوقت الحالي فيجب حذفها، فهذا حجة لعياض نقلها في المدارك لما عرف بمحمد بن سحنون فإن لَا يستثنى، وابن عبدوس يستثنى وانظر ما سبق في البقرة في قوله تعالى: (قُولُوا آمَنا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا).
قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا).
الزمخشري: الذنوب الكبائر، والسيئات الصغائر.
ابن عرفة: الصواب العكس لَا حل الترتيب لئلا يكون تكرارا لغير فائدة؛ لأن مغفرة الكبائر يستلزم مغفرة الصغائر من باب أحرى ألا ترى أن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، ولا يرد هذا بعد قوله هذا: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فالمراد بالسيئات الكبائر والمغفرة الستر، فلا يلزم منها للتخوف بذلك، قال تعالى: (وَكَفر عَنا سَيئَاتِنَا) ليفيد محو الذنب من أصل، وكذلك هو في الدنيا والآخرة، فقال: هذا إن [أُفرد الدعاء بها، وأمَّا إن أقرناها*] بالتكفير، فهو دليل على إرادة ما قلناه أن الستر في الدنيا، والمحق في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ... (١٩٤)﴾
قيل: أي على تصديق رسلك، وقيل: على ألسنة رسلك، والعطف في الآية ترقٍ؛ لأن الأول جلب ملائم، (وَلَا تُخْزِنَا) دفع مؤلم وهو آكد من دفع الملائم.
قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
ابن عرفة: الصواب أن يراد إنك لَا تخلف ما وعدتنا به، وليس المراد لَا تخلف الميعاد بالإطلاق عليه سؤال، الزمخشري: في طلب الوفاء بالعهد مع أنه حق لَا حلف فيه.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ... (١٩٥)﴾
قال ابن عطية: ليس هو لطلب الفعل بل بمعنى أجاب، كـ:
وداعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجيبُ إِلَى النَّدَى... فلَمْ يستَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجِيبُ
457
فقلتُ ادعُ أخَرى وارفعِ الصوتَ دعوةً لعلَّ أبا المغوارِ منكَ قريبُ
قلت: أو بمعنى الطلب مجازا على معنى التشريف لهم، والاعتبار بقضاء حاجتهم في الفور من حيث نزل نفسه منزلة من سأل حاجة غير متيسرة له في الحال فجعل يطلبها ويحث عليها وجدها، فبادر بإعطائها لمن سأله إياها؛ لأن الاعتناء بدء بهذا السائل أشد ممن سأل حاجته وأصغرها أو قال: إشارة إلى سرعة الإجابة.
ابن عرفة: والصواب أن أجاب عام في الإجابة بالموافق والمخالف، ولذلك خصصه بقوله تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ)، كما يقول: هذا الحيوان زيد فخصصه والآية حجة لأهل السنة القائلين: بالكسب، ويؤخذ منها أن الإيمان عمل، قيل له: قد قالوا: إن الإيمان لَا يوزن نص عليه أبو طالب، وصاحب سورة الأعمال وغيره قالوا: أنه لو وزن الإيمان لرجح بجميع السيئات، وذكروا في ذلك حديثا فرده ابن عرفة: بأن الإيمان يوزن ولا يرجح بالسيئات والمسألة علمية، فلا يحتج فيها كما قال المازري في حديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] " مع أنه حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم، فكيف بحديث لم يخرجه واحد منهما ولا صححه أحد.
قوله تعالى: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
[هذا احتراس*]؛ لئلا يوهم أن الإناث أفضل من الذكور]، أو العكس.
قوله تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا).
إما عام تحته أنواع، أي الذين هاجروا بعضهم باختيارهم كعمر وعثمان، وغيرهما من رؤساء قريش، وأخرج بعضهم من مكة جبرا كبلال وعمار وسلمان الفارسي وغيرهم من ضعفاء المسلمين، وأوذي بعضهم، وإما على تقرير حذف الموصول أي فالذين هاجروا والذين أخرجوا، فيكون من عطف الموصوفات، وإما أنه من عطف الصفات.
قوله تعالى: (لأُكَفرَنَّ عَنْهُمْ سَيئَاتِهِمْ).
ابن عرفة: هذه تدل على أن المراد بالسيئات الكبائر كما قلناه فيما سبق لا الصغائر، كما قال الزمخشري: لأن الصغائر مقصورة باجتناب الكبائر، قال وغفران الكبائر إما بالتوبة أو الهداية مع هذه الأفعال فترجمها، وقال الأصوليون في الكليات الخمس: إن أكدها حافظ الأديان فما بعده، قالوا: وفائدة هذا الترتيب إذا ظهر هذا
458
الفسق من الخلفاء، وتعدى الحدود فإن الإنسان يهاجر من البلد التي فسقهم فيها بأشدها إلى التي فسقهم فيها بأحقها والعطف فيما بين الأول والثاني تدلي، وفيما بعده ترقٍ.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
على أنه الله تعالى وعدهم أكثر من ذلك فلا تعلم نفس ما أخفي لهم، فليس لهم عند الله ذلك الثواب فقط، بل ثواب جزيل أعظم منه.
قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)﴾ مَتَاعٌ قَلِيلٌ).
نقل ابن عرفة كلام الزمخشري، ثم قال: حاصله أن الأمر الملائم إذا اعتبر من حيث ذاته مع قطع النظر عن عاقبته ومآله غرور، وإن روعي مآله فليس بغرور، وهو معنى قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا).
قال الزمخشري: وهو من إقامة السبب مقام المسبب، والمعنى لَا يغير بتقلبهم فيعزل نقلهم مثل لَا أرينك هاهنا، أي: لَا تكن هنا فأراك، الزمخشري: وروي أن [أناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون: إن أعداء اللَّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد*] (١) فنزلت.
ابن عرفة: فالخطاب على هذا للمؤمنين لَا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ).
حذف [المبتدأ] (٢) هنا لكون الخبر لَا يصح إلا له، أي ذاك متاع أو هو متاع، الزمخشري: وقلته إما بالنسبة إلى ثواب الأبرار.
ابن عرفة: هو بالنسبة إليه عدم فتكون كقول سيبويه قل رجل يفعل كذا، وأنشد:
مررت بأرض قل ما ينبت البقل
قوله تعالى: ﴿اتَّقَوْا رَبَّهُمْ... (١٩٨)﴾
أسند التقوى إليه معبرا عنه بلفظ الرب دون لفظ الإله؛ لأنهم إذا اتقوه مع استشعار الحنان والشفقة، فأحرى أن يتقوه مع استحقار العقاب ويجري أعربه مكي حالا من الضمير الفاعل، فلهم بناء على أنه خبر وجنات مبتدأ.
قوله تعالى: (نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
(١) سقط تم جبره من الكشاف. اهـ.
(٢) سقط تم جبره من الكشاف. اهـ.
سماها نزلا مع أن النزل هو ما يقدم للضيف ساعة نزوله، وهو أدنى مما تقدم له إذا مات، فإن هذا فعل من أجله فيختبر فيه أحسن المطالب ويبلغ فيه المجهود بخلاف الأول إشارة إلى سعة رحمة الله تعالى فجعل الجنة نزلا فقط عما وراءها من الإحسان والخير أكثر من ذلك، قال الفخر: واحتج بها أهل السنة على إثبات الرؤية ليس ثم ما هو خير من الجنة إلا النظر إلى وجه الله عز وجل.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ... (١٩٩)﴾
قال الزمخشري: نزلت في أصحاب النجاشي، وقيل: في عبد الله بن سلام ونظائره. ابن عرفة: عبر عنهم بالمضارع مع أنهم كانوا آمنوا، فهو على التصوير على أنه النجاشي وللتجدد على أنه المراد غيره؛ لأن النجاشي قد مات فإن قلت: المنزلة إليهم متقدمة في النزول على المنزل إلينا فهلا قدم في اللفظ؟ فالجواب: أنه قدم ما هو بالوقوع؛ لأن إيمانهم بكتابنا مستبعد الوقوع، فكان تصديق الأخبار بإيمانهم به أهم وهذا كما قالوا: في قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)، فقدم الأمر بتحرير الرقبة وقدم الدية لكون المقتول كافرا فهي مستبعدة الوقوع خشية أن يترك.
قوله تعالى: (لَا يَشتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
قال ابن عرفة: الآية تعريض بأخبار اليهود فإنهم كانوا يقبلون الرشا ويأخذونها على تحريف آيات الله عز وجل، فإن قلت لم قيل: (ثَمَنًا قَلِيلًا) فمفهومه أنهم يشترون بآيات الله ثمنا كثيرا، قلنا: إن وقع فما يقع إلا قليلا أبدا، ولو كان مثل أحد ذهبا.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
المراد سرعة وقته أي قربه، وقيل: سرعة مدته وقصرها، وإذا كان المخلوق، قال: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، ثم وفي بذلك وقدر عليه فما بالك بالخالق.
قوله تعالى: ﴿اصْبِرُوا... (٢٠٠)﴾
الزمخشري: أي صابروا أعداء الله في الجهاد، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ولا تكونوا أقل منهم صبرا، زاد ابن عطية: (وَصَابِرُوا) أنفسكم أي عاندوها وأكرهوها على الصبر على الجهاد.
460
ابن عرفة: من عنده معنى ثالثا، قال: صابروا بعضكم بعضا، أي ليقصد كل واحد منكم أن يكون أصبر من صاحبه على الحروب والجهاد، وأصبر من أشجع أصحابه وأمنع، أي: ليخرجنكم كل واحد على أن يكون صبره على الجهاد أشد من صبر أصحابه المسلمين عليه.
قوله تعالى: (وَرَابِطُوا).
قال ابن عطية عن ابن المواز: المرابط هو الذي يشخص لثغر من الثغور ليرتبط فائدة بإسكان الثغور دائما بأهليهم، فليسوا بمرابطين، ولما نقله الباجي في أواخر كتاب الجهاد قال: الظاهر أنه مرابط، وإن أقام بأهله.
ابن عرفة: وهو الصحيح ألا ترى أن مالكا قال في المدونة: [ولا بأس أن يخرج الرجل بأهله إلى مثل السواحل، ولا يذهب بهم إلى دار الحرب في الغزو، إلا أن يكون في عسكر عظيم لَا يخاف عليهم لِقِلَّتِهِمْ*].
ابن عرفة: كان الأمير أبو الحسن المديني إذا خرج للجهاد يجب على من عنده زوجة حرة وجارية فيضطره إلى خروج الحرة معه، وإذا كان الإنسان يؤجر على اللقمة فيجعلها في فم امرأته كما في الحديث الصحيح، فأحرى أن يؤجر على مجاهدته على امرأته، وكذلك في الرباط فإنه يكون حرص الأنساب حينئذ على السلامة أشد؛ لأنه يقاتل عن نفسه رعن حريمه وعن المسلمين.
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
حجة للمتأخرين في أن المتقي أخص من المؤمن؛ لأن ما في المقصود أخص وصف التقوى والترجي بفعل صروف للمخاطب ونبه المفسرون في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، ثم قال: (لَعَلُّكُمْ تَتَّقُونَ).
انتهى المجلد الأول ويليه المجلد الثاني
وأوله
سُورَةُ النِّسَاءِ
ولله الحمد والمنة
* * *
461
Icon