تفسير سورة الشورى

تفسير ابن كثير ط العلمية
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير ط العلمية .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ

تَفْسِيرُ
سُورَةِ الشُّورَى
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عجيبا منكرا فقال أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: حم عسق قَالَ فَأَطْرَقَ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ كَرَّرَ مَقَالَتَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ وَكَرِهَ مَقَالَتَهُ، ثُمَّ كَرَّرَهَا الثَّالِثَةَ فَلَمْ يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله عنه: أَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا قَدْ عَرَفْتُ لِمَ كَرِهَهَا؟ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْإِلَهِ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ يَنْزِلُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْمَشْرِقِ تُبْنَى عَلَيْهِ مَدِينَتَانِ يَشُقُّ النَّهْرُ بَيْنَهُمَا شَقًّا فَإِذَا أَذِنَ الله تبارك وتعالى فِي زَوَالِ مُلْكِهِمْ وَانْقِطَاعِ دَوْلَتِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ بَعَثَ الله عز وجل عَلَى إِحْدَاهُمَا نَارًا لَيْلًا فَتُصْبِحُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً قد احْتَرَقَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكَانَهَا وَتُصْبِحُ صَاحِبَتُهَا مُتَعَجِّبَةً كَيْفَ أَفْلَتَتْ؟ فَمَا هُوَ إِلَّا بَيَاضُ يَوْمِهَا ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهَا وَبِهِمْ جميعا فذلك قوله تعالى:
حم عسق يَعْنِي عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وفتنة وقضاء حُمَّ عَيْنٌ يَعْنِي عَدْلًا مِنْهُ سِينٌ: يَعْنِي سيكون ق: يعني واقع بِهَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ.
وَأَغْرَبَ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مسند ابن عباس رضي الله عنه وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ جِدًّا وَمُنْقَطِعٌ فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الله الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أَبِي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الْمِنْبَرَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ سَمِعَ مِنْكُمْ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ حم عسق فوثب ابن عباس رضي الله عنه فَقَالَ أَنَا، قَالَ حم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ فَعَيْنٌ؟ قَالَ عَايَنَ الْمُوَلُّونَ عَذَابَ يَوْمِ بَدْرٍ، قَالَ فَسِينٌ؟ قَالَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، قَالَ فَقَافٌ؟ فَسَكَتَ فَقَامَ أَبُو ذَرٍّ فَفَسَّرَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ قَافٌ قارعة من السماء تغشى الناس. وقوله عز وجل:
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ كَمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هذا القرآن
173
كَذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَالصُّحُفَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ. وقوله تعالى: اللَّهُ الْعَزِيزُ أَيْ فِي انْتِقَامِهِ الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة رضي الله عنها قالت: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عني وقد وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» قَالَتْ عائشة رضي الله عنها فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جبينه ﷺ لِيَتَفَصَّدُ عَرَقًا «١».
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة رضي الله عنها عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَنْزِلُ عليك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «في مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ ما قاله- وقال- وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ- قَالَ- وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ فَيَتَمَثَّلُ لِي فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» «٢». وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْمَعُ صَلَاصِلَ ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تُقْبَضُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ إِتْيَانِ الْوَحْيِ إلى رسول الله ﷺ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة.
وقوله تبارك وتعالى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيِ الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرَّعْدِ: ٩] وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سَبَأٍ: ٢٣] والآيات في هذا كثيرة.
وقوله عز وجل: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ قال ابن عباس رضي الله عنهما وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ أَيْ فَرَقًا من العظيمة «٤» وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ كقوله جل وعلا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غَافِرٍ: ٧] وَقَوْلُهُ جل جلاله: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إِعْلَامٌ بذلك وتنويه به، وقوله
(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب ٢، والترمذي في المناقب باب ٧، والنسائي في الافتتاح باب ٣٧، ومالك في القرآن حديث ٧، وأحمد في المسند ٦/ ٢٥٧.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٦/ ١٥٨.
(٣) المسند ٢/ ٢٢٢.
(٤) انظر تفسير الطبري ١١/ ١٢٨.
174
سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أَيْ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ يُحْصِيهَا وَيَعُدُّهَا عَدًّا، وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكيل.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٧ الى ٨]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
يَقُولُ تَعَالَى وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا أَيْ وَاضِحًا جَلِيًّا بَيِّنًا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَهِيَ مَكَّةُ وَمَنْ حَوْلَها أَيْ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ لِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا، وَمِنْ أَوْجَزِ ذَلِكَ وَأَدَلِّهِ مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ «٢» فِي سُوقِ مَكَّةَ «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» «٣» وَهَكَذَا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ به وقال الترمذي حسن صحيح.
وقوله عز وجل: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ تعالى: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ لَا شَكَّ فِي وقوعه وأنه كائن لا محالة.
وقوله جل وعلا: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ كَقَوْلِهِ تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: ٩] أَيْ يَغْبِنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ، وكقوله عز وجل: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هُودٍ: ١٠٣- ١٠٥].
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ حَدَّثَنِي أَبُو قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيُّ عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟» قَالَ: قُلْنَا لَا إِلَّا أَنْ تخبرنا يا رسول الله. قال ﷺ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وقبائلهم- ثم
(١) المسند ٤/ ٣٠٥.
(٢) الحزورة: موضع بمكة.
(٣) أخرجه الترمذي في المناقب باب ٦٨، وابن ماجة في المناسك باب ١٠٣، والدرامي في السير باب ٦٦.
(٤) المسند ٢/ ١٦٧.
175
أَجْمَلَ «١» عَلَى آخِرِهِمْ- لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا ينقص منهم أبدا- ثم قال ﷺ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ: هَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا» فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا الأمر قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الجنة يختم له بعمل أهل الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النار يختم له بعمل أهل النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ» ثُمَّ قَالَ «٢» ﷺ بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا ثُمَّ قَالَ «فَرَغَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعِبَادِ- ثُمَّ قَالَ بِالْيُمْنَى فَنَبَذَ بِهَا فَقَالَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ- وَنَبَذَ بِالْيُسْرَى وقال- فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» «٣» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَبَكْرِ بْنِ مُضَرَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قَبِيلٍ عن شفي بن مانع الْأَصْبَحِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَسَاقَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الزاهرية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ وَعِنْدَهُ زِيَادَاتٌ مِنْهَا- ثُمَّ قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ عَنْ شفي عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فَذَكَرَهُ.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَحَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ أَنَّ أَبَا فِرَاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يقول: إن الله تعالى يقول:
إن الله تعالى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ نَفَضَهُ نَفْضَ الْمِزْوَدِ «٥» وَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ ذُرِّيَّتِهِ فَخَرَجَ أَمْثَالَ النَّغَفِ «٦» فَقَبَضَهُمْ قَبْضَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ثُمَّ أَلْقَاهُمَا ثُمَّ قَبَضَهُمَا فَقَالَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ «٧» وَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٨» حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أبي نضرة قال: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ دخل عليه أصحابه يعني يزورونه
(١) أجمل على آخرهم: أي جمعوا وأحصوا فلا يزاد عليهم ولا ينقص.
(٢) قال بيده: أي أشار بيده.
(٣) أخرجه الترمذي في القدر باب ٨.
(٤) تفسير الطبري ١١/ ١٣٠. [.....]
(٥) المزود: وعاء للزاد.
(٦) النغف: هو دود يكون في أنوف الإبل والغنم.
(٧) انظر تفسير الطبري ١١/ ١٣٠.
(٨) المسند ٤/ ١٧٦، ٥/ ٦٨.
176
فوجدوه يَبْكِي، فَقَالُوا لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْ شَارِبِكَ ثُمَّ أَقِرَّهُ حَتَّى تَلْقَانِي، قَالَ بَلَى وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبَضَ بِيَمِينِهِ قَبْضَةً وَأُخْرَى بِالْيَدِ الْأُخْرَى قَالَ هَذِهِ لِهَذِهِ وَهَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِي» فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا وَأَحَادِيثُ الْقَدَرِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَجَمَاعَةٍ جَمَّةٍ رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله تبارك وتعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ إِمَّا عَلَى الْهِدَايَةِ أَوْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى فَاوَتَ بَيْنَهُمْ فَهَدَى مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ وَأَضَلَّ مَنْ يَشَاءُ عَنْهُ وَلَهُ الْحِكْمَةُ والحجة البالغة ولهذا قال عز وجل: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» حَدَّثَنِي يُونُسُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي سُوَيْدٍ أنه حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ موسى عليه الصلاة والسلام قَالَ: يَا رَبِّ خَلْقُكَ الَّذِينَ خَلَقْتَهُمْ جَعَلْتَ مِنْهُمْ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي النَّارِ لَوْ مَا أَدْخَلْتَهُمْ كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ فَقَالَ يَا مُوسَى ارْفَعْ ذَرْعَكَ فَرَفَعَ قَالَ قَدْ رَفَعْتُ قَالَ ارْفَعْ فَرَفَعَ فَلَمْ يُتْرَكْ شَيْئًا قَالَ يَا رَبِّ قَدْ رَفَعْتُ قَالَ ارْفَعْ قَالَ قَدْ رَفَعْتُ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ قَالَ كَذَلِكَ أُدْخِلُ خَلْقِي كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ إِلَّا ما لا خير فيه.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمُخْبِرًا أَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وحده فإنه هو الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ قَالَ عز وجل: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أَيْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نبيه ﷺ كقوله جل وعلا: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النِّسَاءِ: ٥٩] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أَيِ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في جميع الأمور.
وقوله جل جلاله: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ خَالِقُهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ وَشَكْلِكُمْ مِنَّةً عَلَيْكُمْ وَتَفَضُّلًا جَعَلَ مِنْ جِنْسِكُمْ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أَيْ وَخَلَقَ لَكُمْ من الأنعام ثمانية أزواج. وقوله تبارك وتعالى:
(١) تفسير الطبري ١١/ ١٣٠.
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أَيْ يَخْلُقُكُمْ فِيهِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَزَالُ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَنَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أَيْ فِي الرَّحِمِ وَقِيلَ فِي الْبَطْنِ وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ. قال مجاهد نسلا مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، وَقِيلَ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ يَذْرَؤُكُمْ بِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أَيْ لَيْسَ كَخَالِقِ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وقوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلَهُ الْحِكْمَةُ والعدل التام إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٣ الى ١٤]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
يَقُولُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ فَذَكَرَ أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام وآخرهم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتَظَمَتْ ذِكْرَ الْخَمْسَةِ كَمَا اشْتَمَلَتْ آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الْأَحْزَابِ: ٧] الآية وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قال عز وجل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥]. وَفِي الْحَدِيثِ «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» «١» أَيِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِنْ اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَةِ: ٤٨] وَلِهَذَا قال تعالى هَاهُنَا: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بِالِائْتِلَافِ وَالْجَمَاعَةِ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَقَوْلُهُ عز وجل: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَأَنْكَرُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أَيْ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ الْهِدَايَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَيَكْتُبُ الضَّلَالَةَ عَلَى مَنْ آثَرَهَا على طريق الرشد، ولهذا
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٤٨، ومسلم في الفضائل حديث ١٤٣، ١٤٤، وأبو داود في السنّة باب ١٣.
قال تبارك وتعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ إِنَّمَا كَانَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَمَا حَمَلَهُمْ على ذلك إلا البغي والعناد والمشقة ثم قال عز وجل: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ تعالى بِإِنْظَارِ الْعِبَادِ بِإِقَامَةِ حِسَابِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا. وقوله جلت عظمته: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَعْنِي الْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْمُكَذِّبِ لِلْحَقِّ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أَيْ لَيْسُوا عَلَى يقين من أمرهم وإيمانهم وَإِنَّمَا هُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وشك مريب وشقاق بعيد.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٥]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى عَشْرِ كَلِمَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ كل منها منفصلة عن التي قبلها حُكْمٌ بِرَأْسِهِ، قَالُوا: وَلَا نَظِيرَ لَهَا سِوَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهَا أَيْضًا عَشَرَةُ فُصُولٍ كَهَذِهِ. وقوله:
فَلِذلِكَ فَادْعُ أَيْ فَلِلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَصَّيْنَا بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ، أَصْحَابَ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ الْمُتَّبَعَةِ كَأُولِي الْعَزْمِ وَغَيْرِهِمْ فادع الناس إليه. وقوله عز وجل:
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أَيْ وَاسْتَقِمْ أَنْتَ وَمَنِ اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل، وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.
وقوله جل وعلا: وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أَيْ صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أَيْ فِي الْحُكْمِ كما أمرني الله، وقوله جلت عظمته: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أَيْ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَنَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا وَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ اخْتِيَارًا فَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ في العالمين طوعا واختيارا. وقوله تبارك وتعالى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ، كما قال سبحانه وتعالى:
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: ٤١] وقوله تعالى: لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا خُصُومَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ:
وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا مُتَّجَهٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مكية، وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عز وجل: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ وقوله جل وعلا: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ يَوْمَ الْحِسَابِ.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٦ الى ١٨]

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ أَيْ يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ لِيَصُدُّوهُمْ عَمَّا سَلَكُوهُ مِنْ طَرِيقِ الْهُدَى حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ بَاطِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ أَيْ مِنْهُ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي يوم القيامة، قال ابن عباس رضي الله عنه وَمُجَاهِدٌ: جَادَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ لِيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى وَطَمِعُوا أَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالُوا لها: دِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ «١»، وَقَدْ كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَالْمِيزانَ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيدِ: ٢٥] وَقَوْلُهُ: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَنِ: ٧- ٩].
وقوله تبارك وتعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ فِيهِ تَرْغِيبٌ فِيهَا وَتَرْهِيبٌ مِنْهَا وَتَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ عز وجل: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها أَيْ: يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سَبَأٍ: ٢٩]، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا وَاسْتِبْعَادًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ وُقُوعِهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَيْ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهَا عَامِلُونَ مِنْ أَجْلِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ تَبْلُغُ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَنَادَاهُ فَقَالَ:
يَا محمد، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نحوا من صوته: «هاؤم»، فقال له: متى الساعة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ إِنَّهَا كَائِنَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» فَقَالَ: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم:
«أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» «٢»، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» «٣» هَذَا مُتَوَاتِرٌ لَا محالة،
(١) انظر تفسير الطبري ١١/ ١٣٩.
(٢) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ٦، والأدب باب ٩٥، ومسلم في البر حديث ١٦١، والدارمي في الرقاق باب ٧١.
(٣) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب ٩٦، ومسلم في البر حديث ١٦٥، والترمذي في الزهد باب ٥٠، والدعوات باب ٩٨، والدارمي في الرقاق باب ٧١، وأحمد في المسند ١/ ٣٩٢، ٣/ ١٠٤، ١١٠، ١٥٩، ١٦٥، ١٦٧، ١٦٨، ١٧٢، ١٧٨، ١٩٨، ٢٠٠، ٢٠٢، ٢٠٧، ٢٠٨، ٢١٣، ٢٢٢، ٢٢٦، ٢٢٨، ٢٥٥، ٢٦٨، ٢٧٦، ٢٨٣، ٢٨٨، ٣٣٦، ٣٩٤، ٤/ ١٠٧، ١٦٠، ٢٣٩، ٢٤١، ٣٩٢، ٣٩٥، ٣٩٨، ٤٠٥.
وَالْغَرَضُ أَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ بل أمره بالاستعداد لها.
وقوله تعالى: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أَيْ يجادلون فِي وُجُودِهَا وَيَدْفَعُونَ وُقُوعَهَا لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أَيْ فِي جَهْلٍ بَيِّنٍ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الأولى والأخرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: ٢٧].
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ لَا يَنْسَى أَحَدًا مِنْهُمْ، سواء في رزقه البر والفاجر، كقوله عز وجل: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هُودٍ: ٦] وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ جل وعلا:
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أَيْ لَا يُعْجِزُهُ شيء ثم قال عز وجل: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أَيْ عَمَلَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أَيْ نُقَوِّيهِ وَنُعِينُهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَنُكْثِرُ نَمَاءَهُ وَنَجْزِيهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أَيْ وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا سَعْيُهُ لِيَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ له إلى الآخرة هم أَلْبَتَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ حَرَمَهُ اللَّهُ الْآخِرَةَ وَالدُّنْيَا إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يحصل لَا هَذِهِ وَلَا هَذِهِ، وَفَازَ هَذَا السَّاعِي بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَاهُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُبْحَانَ وَهِيَ قَوْلُهُ تبارك وَتَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ١٨- ٢١].
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» «١» وقوله جل وعلا: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أَيْ هُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وتحليل أكل الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْقِمَارِ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْجَهَالَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي كَانُوا قَدِ اخْتَرَعُوهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ» «٢» لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَحَدَ مُلُوكِ خُزَاعَةَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ قُرَيْشًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْظَارِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ شَدِيدٌ مُوجِعٌ فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أَيْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أَيِ الَّذِي يَخَافُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ هَذَا حَالُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَهُمْ فِي هَذَا الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ أَيْنَ مَنْ هُوَ فِي الْعَرَصَاتِ فِي الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخَوْفِ الْمُحَقَّقِ عَلَيْهِ بِظُلْمِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ فِيمَا يَشَاءُ مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ وَمَنَاظِرَ وَمَنَاكِحَ وَمَلَاذَّ فِيمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حدثنا عمرو بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِي طَيْبَةَ قَالَ إِنَّ الشَّرْبَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَتُظِلُّهُمُ السَّحَابَةُ فَتَقُولُ مَا أُمْطِرُكُمْ؟ قَالَ فَمَا يَدْعُو دَاعٍ مِنَ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ حَتَّى إِنَّ الْقَائِلَ منهم ليقول أمطرينا كواعب أترابا. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أَيِ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالنِّعْمَةُ التَّامَّةُ السَّابِغَةُ الشاملة العامة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)
يَقُولُ تَعَالَى لَمَّا ذكر روضات الجنات، لِعِبَادِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ هَذَا حَاصِلٌ لَهُمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ ببشارة الله
(١) أخرجه أحمد في المسند ٥/ ١٣٤.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب باب ٩، ومسلم في الجنة حديث ٥٠.
182
تعالى لهم به. وقوله عز وجل: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ مَا لَا تُعْطُونِيهِ وَإِنَّمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تَكُفُّوا شَرَّكُمْ عَنِّي وَتَذَرُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّي إِنْ لَمْ تَنْصُرُونِي فَلَا تُؤْذُونِي بِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قال: سمعت طاوسا يحدث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ فَقَالَ إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ «١»، انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ، وَهَكَذَا رَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ وَغَيْرُ واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مِثْلَهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو مَالِكٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ.
وقاله الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ القاسم بْنُ يَزِيدَ الطَّبَرَانِيُّ وَجَعْفَرٌ الْقَلَانِسِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي نَفْسِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ وَتَحْفَظُوا الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا قَزَعَةُ يَعْنِي ابن سويد وبن أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَزَعَةَ بْنِ سُوَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلَّا أَنْ تُوَادُّوا اللَّهَ وَأَنْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ» وَهَكَذَا رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلَهُ وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِقَوْلٍ ثَانٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أَيْ إِلَّا أَنْ تَعْمَلُوا بِالطَّاعَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ رِوَايَةً عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي أَيْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَتَبَرُّوهُمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِعَلِيِّ بْنِ الحسين رضي الله عنه أَسِيرًا فَأُقِيمَ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَكُمْ وَاسْتَأْصَلَكُمْ وَقَطَعَ قَرْنَيِ الْفِتْنَةِ «٣» فَقَالَ لَهُ علي بن الحسين رضي الله عنه: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَقَرَأْتَ آلَ حم؟ قَالَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَلَمْ أَقْرَأْ آلَ حم، قال: ما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤٢ باب ١، وأحمد في المسند ١/ ٢٢٩، ٢٨٣.
(٢) المسند ١/ ٢٦٨.
(٣) أي استأصل الفتنة. [.....]
183
قال: وإنكم لأنتم هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فَقَالَ: قُرْبَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ «١».
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا وَكَأَنَّهُمْ فَخَرُوا، فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما- شَكَّ عَبْدُ السَّلَامِ- لَنَا الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟» قَالُوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَفَلَا تُجِيبُونِي؟» قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«أَلَا تَقُولُونَ أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فَآوَيْنَاكَ أَوَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ أَوَلَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْنَاكَ» قَالَ:
فَمَا زال ﷺ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالُوا: أَمْوَالُنَا فِي أَيْدِينَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذِكْرُ نُزُولِهَا فِي الْمَدِينَةِ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَيْسَ يَظْهَرُ بين هذه الآية وَبَيْنَ السِّيَاقِ مُنَاسَبَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا علي بن الحسين، حدثنا رَجُلٌ سَمَّاهُ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ عَنْ قَيْسٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرَ الله بمودتهم؟ قال: «فاطمة وولدها رضي الله عنهما» وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ فِيهِ مُبْهَمٌ لَا يُعْرَفُ عن شيخ شيعي مخترق وَهُوَ حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي هذا المحل، وذكر نزول الْآيَةِ فِي الْمَدِينَةِ بَعِيدٌ فَإِنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إِلَّا بَعْدَ بَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الهجرة والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كما رواه عنه البخاري وَلَا تُنْكَرُ الْوَصَاةُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةٍ طَاهِرَةٍ مِنْ أَشْرَفِ بَيْتٍ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَخْرًا وَحَسَبًا وَنَسَبًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا متبعين للسنة النبوية
(١) انظر تفسير الطبري ١١/ ١٤٤.
(٢) تفسير الطبري ١١/ ١٤٤.
184
الصَّحِيحَةِ الْوَاضِحَةِ الْجَلِيَّةِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ كَالْعَبَّاسِ وَبَنِيهِ وَعَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِغَدِيرِ خُمٍّ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي، وَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» «١» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قُرَيْشًا إِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَقُوهُمْ بِبِشْرٍ حَسَنٍ، وَإِذَا لَقُونَا لَقُونَا بِوُجُوهٍ لَا نَعْرِفُهَا، قَالَ: فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله».
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله ﷺ فَقَالَ: إِنَّا لَنَخْرُجُ فَنَرَى قُرَيْشًا تَحَدَّثُ، فَإِذَا رَأَوْنَا سَكَتُوا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودر عرق بين عينيه ثم قال صلى الله عليه وسلم:
«والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إِيمَانٌ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي»، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أبي يحدث عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ «٤». وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: وَاللَّهِ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي «٥»، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، لَأَنَّ إسلامك كان أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ. فَحَالُ الشَّيْخَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَا أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٦» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: انْطَلَقْتُ أنا وحصين بْنُ مَيْسَرَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ وَصَلَّيْتَ مَعَهُ، لَقَدْ رَأَيْتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زيد ما سمعت من
(١) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٣٦، ٣٧، والدارمي في فضائل القرآن باب ١.
(٢) المسند ١/ ٢٠٧.
(٣) المسند ١/ ٢٠٧، ٢٠٨.
(٤) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ١٢، ٢٢، ومسلم في الإيمان حديث ٢٠٥.
(٥) أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٨.
(٦) المسند ٤/ ٢٦٦، ٢٦٧.
185
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي والله لقد كبر سِنِّي وَقَدِمَ عَهْدِي وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَمَا لَا فَلَا تكلفونيه، ثم قال رضي الله عنه: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا فِينَا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وقال صلى الله عليه وسلم: «وأهل بيتي أذكركم فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟
قال: إن نساءه لسن من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟
قَالَ: هُمْ آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم، قال: أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة؟ قال: نعم «١»، وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَالْأَعْمَشُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبي ثابت، عن زيد بن أرقم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترة أهل بيتي ولن يفترقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فيهما» «٢» تفرد بروايته ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ «٣» أَيْضًا: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ جَعْفَرِ بن محمد بن الحسن عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رضي الله عنهم.
ثم قال الترمذي «٤» أيضا: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس رضي الله عنهم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أحبوا الله تعالى لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي» ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا أَحَادِيثَ أُخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
(١) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٣٧.
(٢) أخرجه الترمذي في المناقب باب ٣١.
(٣) كتاب المناقب باب ٣١.
(٤) كتاب المناقب باب ٣١.
186
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: ٣٣] بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهَا هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَنَشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أبا ذر رضي الله عنه وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ الْبَابِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا مَثَلُ أَهْلِ بيتي فيكم كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام مَنْ دَخَلَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ» هذا بهذا الإسناد ضعيف.
وقوله عز وجل: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أَيْ وَمَنْ يَعْمَلُ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي أجرا وثوابا، كقوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاءِ: ٤٠]، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَمِنْ جَزَاءِ السيئة السيئة بعدها. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَيْ يَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَيُكَثِّرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَيَسْتُرُ ويغفر ويضاعف فيشكر، وقوله جل وعلا:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ أَيْ لَوِ افْتَرَيْتَ عَلَيْهِ كَذِبًا كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ أي يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله جل جلاله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الْحَاقَّةِ: ٤٠- ٤٧] أَيْ لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَ الناس أن يحجز عنه.
وقوله جلت عظمته: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ يَخْتِمْ فَيَكُونَ مَجْزُومًا بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: وَحُذِفَتْ مِنْ كتابته الواو في رسم مصحف الْإِمَامِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] وقوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الْإِسْرَاءِ: ١١]. وَقَوْلُهُ عز وجل وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ أَيْ يُحَقِّقُهُ وَيُثْبِتُهُ وَيُبَيِّنُهُ وَيُوَضِّحُهُ بِكَلِمَاتِهِ، أَيْ بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ بِمَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ وَتَنْطَوِي عليه السرائر.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ إِلَيْهِ إِذَا تَابُوا وَرَجَعُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وَحِلْمِهِ أن يعفو ويصفح ويستر ويغفر، وكقوله عز وجل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النِّسَاءِ: ١١٠] وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه، حيث قال:
187
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قالا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مالك، وهو عمه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لله تعالى أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ من أحدكم كانت رَاحِلَتُهُ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ- أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» «١». وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ في المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش» وَقَالَ هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الرَّجُلِ يَفْجُرُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَرَأَ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الْآيَةَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ شريح الْقَاضِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعي، عن همام فذكره، وقوله عز وجل: وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ أَيْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ فِي الْمَاضِي وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فَعَلْتُمْ وَصَنَعْتُمْ وَقُلْتُمْ وَمَعَ هَذَا يَتُوبُ عَلَى مَنْ تاب إليه.
وقوله تَعَالَى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي يَسْتَجِيبُ لَهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جرير «٣» : معناه يستجيب الدعاء لهم وَلِأَصْحَابِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَأَنَّهُ جعلها كقوله عز وجل: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٥] ثُمَّ رَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سبرة قال: خطبنا معاذ رضي الله عنه بِالشَّامِ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، والله إني لأرجو أن يدخل الله تعالى مَنْ تَسْبُونَ مِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ الْجَنَّةَ وَذَلِكَ بِأَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا عَمِلَ لَهُ- يَعْنِي أَحَدَهُمْ عَمَلًا قَالَ: أَحْسَنْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ، أَحْسَنْتَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ ثُمَّ قَرَأَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلِهِ: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ [الزُّمَرِ: ١٨] أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِلْحَقِّ وَيَتَّبِعُونَهُ كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: ٣٦] وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ
(١) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٧.
(٢) تفسير الطبري ١١/ ١٤٧. [.....]
(٣) تفسير الطبري ١١/ ١٤٧، ١٤٨.
188
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ «الشَّفَاعَةُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمْ مَعْرُوفًا فِي الدُّنْيَا» وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ اللَّخْمِيِّ في قوله عز وجل:
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: يُشَفَّعُونَ في إخوان إخوانهم. وقوله عز وجل وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَحِسَابِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أَيْ لَوْ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ حَاجَتِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ لَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَشَرًا وَبَطَرًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ خَيْرُ الْعَيْشِ مَا لَا يُلْهِيكَ وَلَا يُطْغِيكَ، وَذَكَرَ قَتَادَةُ حَدِيثَ «إِنَّمَا أَخَافُ عليكم ما يخرج الله تعالى مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» وَسُؤَالَ السَّائِلِ: أَيَأْتِي الخير بالشر؟
الحديث. وقوله عز وجل: وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أَيْ وَلَكِنْ يَرْزُقُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ مَا يَخْتَارُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُغْنِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى وَيُفْقِرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عليه دينه وإن مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عليه دينه».
وقوله تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا أَيْ مِنْ بَعْدِ إِيَاسِ النَّاسِ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ وفقرهم إليه كقوله عز وجل: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الروم: ٤٩] وقوله جل جلاله: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أَيْ يَعُمُّ بِهَا الْوُجُودَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْقُطْرِ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الخطاب رضي الله عنه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قُحِطَ الْمَطَرُ وَقَنَطَ النَّاسُ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُطِرْتُمْ ثُمَّ قَرَأَ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ لِخَلْقِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَهُوَ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ فِي جَمِيعِ ما يقدره ويفعله.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَسُلْطَانِهِ الْقَاهِرِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما أَيْ ذَرَأَ فِيهِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَهَذَا يَشْمَلُ الملائكة والإنس والجن وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وطباعهم
189
وَأَجْنَاسِهِمْ وَأَنْوَاعِهِمْ وَقَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَرْجَاءِ أَقْطَارِ السموات والأرض وَهُوَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الحق.
وقوله عز وجل: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ مَهْمَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الْمَصَائِبِ فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أَيْ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَلَا يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا بَلْ يَعْفُو عَنْهَا وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: ٤٥] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» «١». وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ نَزَلَتْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧- ٨] وأبو بكر رضي الله عنه يَأْكُلُ فَأَمْسَكَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أرى مَا عَمِلْتُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ وَتُدَّخَرُ مَثَاقِيلُ الْخَيْرِ حَتَّى تُعْطَاهُ يوم القيامة» وقال: قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: فَإِنِّي أَرَى مِصْدَاقَهَا فِي كتاب الله تَعَالَى:
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي قلابة عن أنس رضي الله عنه قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا محمد بن عيسى بن الطَّبَّاعِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَزْهَرُ بْنُ رَاشِدٍ الْكَاهِلِيُّ عَنِ الْخَضْرِ بْنِ الْقَوَّاسِ الْبَجْلِيِّ عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ» وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدَةَ عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ قَالَ: قال علي رضي الله عنه فَذَكَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ أَبِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعِيَهُ؟ قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال ما عاقب الله تعالى بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يثني عليه بالعقوبة يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدنيا فالله أكرم
(١) أخرجه البخاري في المرضى باب ١، ومسلم في البر حديث ٥٢.
(٢) تفسير الطبري ١١/ ١٥٠.
(٣) المسند ١/ ٨٥.
190
من أن يعود عَفْوِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته» وقال الإمام أَحْمَدُ «٢» أَيْضًا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مجاهد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يكفرها ابتلاه الله تعالى بِالْحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ هو البصري قال في قوله تبارك وتعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ وَلَا اخْتِلَاجِ «٣» عِرْقٍ وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ». وَقَالَ أَيْضًا:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَدْ كَانَ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ إِنَّا لَنَبْتَئِسُ لَكَ لِمَا نَرَى فِيكَ، قَالَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا تَرَى فَإِنَّ مَا تَرَى بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَبِي الْبِلَادِ قَالَ: قُلْتُ لِلْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرِي وَأَنَا غُلَامٌ؟ قَالَ فَبِذُنُوبِ وَالِدَيْكَ. وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ الضَّحَّاكِ قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ ثُمَّ قَرَأَ الضَّحَّاكُ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ثُمَّ يَقُولُ الضَّحَّاكُ:
وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أعظم من نسيان القرآن.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
يَقُولُ تعالى ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وَسُلْطَانِهِ تَسْخِيرُهُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَهِيَ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ أَيْ كَالْجِبَالِ، قاله مجاهد والحسن والسدي والضحاك: أي هذه فِي الْبَحْرِ كَالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ أي التي تسير في البحر
(١) المسند ٤/ ٩٨.
(٢) المسند ٦/ ١٥٧.
(٣) اختلاج عرق: أي اضطراب عرق.
بِالسُّفُنِ لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَهَا حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ السفن بل تبقى رَاكِدَةً لَا تَجِيءُ وَلَا تَذْهَبُ بَلْ وَاقِفَةً عَلَى ظَهْرِهِ أَيْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ أَيْ فِي الشَّدَائِدِ شَكُورٍ أَيْ إِنَّ فِي تَسْخِيرِهِ الْبَحْرَ وَإِجْرَائِهِ الْهَوَى بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِسَيْرِهِمْ لَدَلَالَاتٍ عَلَى نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ لِكُلِّ صَبَّارٍ أَيْ فِي الشَّدَائِدِ شَكُورٍ فِي الرَّخَاءِ. وقوله عز وجل أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا أَيْ وَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَ السُّفُنَ وَغَرَّقَهَا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ رَاكِبُونَ عَلَيْهَا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أَيْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ لِأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ معنى قوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَرْسَلَ الرِّيحَ قَوِيَّةً عَاتِيَةً فَأَخَذَتِ السُّفُنَ وَأَحَالَتْهَا عَنْ سَيْرِهَا الْمُسْتَقِيمِ فَصَرَفَتْهَا ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَالِ آبِقَةً لَا تَسِيرُ عَلَى طَرِيقٍ ولا إلى جهة مقصد، وهذا القول يَتَضَمَّنُ هَلَاكَهَا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَ الرِّيحَ فَوَقَفَتْ أَوْ لَقَوَّاهُ فَشَرَدَتْ وَأَبْقَتْ وَهَلَكَتْ، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ كَمَا يُرْسِلُ الْمَطَرَ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَلَوْ أَنْزَلَهُ كَثِيرًا جِدًّا لَهَدَمَ الْبُنْيَانَ أَوْ قَلِيلًا لَمَا أَنْبَتَ الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ حَتَّى إِنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى مِثْلِ بِلَادِ مِصْرَ سَيْحًا مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى غَيْرِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مَطَرٍ وَلَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم، وقوله تعالى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)
يقول تعالى محقرا لشأن الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ والنعيم الفاني بقوله تعالى: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ مَهْمَا حَصَلْتُمْ وَجَمَعْتُمْ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهِيَ دَارٌ دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ لَا مَحَالَةَ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أي وثواب الله تعالى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ فَلَا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى: لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيْ لِلَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الْمَلَاذِّ فِي الدُّنْيَا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ لِيُعِينَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ المحرمات.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أَيْ سَجِيَّتُهُمْ تَقْتَضِي الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ لَيْسَ سَجِيَّتُهُمُ الِانْتِقَامَ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ «١» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ كَانَ يَقُولُ لأحدنا عند المعتبة: «ما له
(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٨٠، ومسلم في الفضائل حديث ٧٧، ٧٩.
192
تَرِبَتْ جَبِينُهُ» «١» وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا وَكَانُوا إِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.
وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أَيِ اتَّبَعُوا رُسُلَهُ وَأَطَاعُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنَبُوا زَجْرَهُ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَهِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أَيْ لَا يُبْرِمُونَ أَمْرًا حَتَّى يَتَشَاوَرُوا فِيهِ لِيَتَسَاعَدُوا بِآرَائِهِمْ فِي مِثْلِ الْحُرُوبِ وَمَا جَرَى مجراها كما قال تبارك وتعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: ١٥٩] الآية ولهذا كان عليه السلام يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا لِيُطَيِّبَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ وَهَكَذَا لَمَّا حَضَرَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْوَفَاةُ حِينَ طُعِنَ جَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ شُورَى فِي سِتَّةِ نَفَرٍ وَهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصحابة كلهم رضي الله عنهم عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِ الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب.
وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أَيْ فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مَعَ هَذَا إِذَا قَدَرُوا عَفَوْا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لِإِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يُوسُفَ: ٩٢] مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ إِلَيْهِ وَكَمَا عَفَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ الثَّمَانِينَ الَّذِينَ قَصَدُوهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَنَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ مَعَ قدرته على الانتقام وكذلك عفوه ﷺ عَنْ غَوْرَثِ بْنِ الْحَارِثِ الَّذِي أَرَادَ الْفَتْكَ به حِينَ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظَ عَلَيْهِ السلام وهو في يده مصلتا فَانْتَهَرَهُ فَوَضَعَهُ مِنْ يَدِهِ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ وَدَعَا أَصْحَابَهُ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَعَفَا عَنْهُ «٢».
وَكَذَلِكَ عفا ﷺ عَنْ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الَّذِي سَحَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَا عاتبه مع قدرته عليه وكذلك عفوه ﷺ عَنِ الْمَرْأَةِ الْيَهُودِيَّةِ- وَهِيَ زَيْنَبُ أُخْتُ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ الْخَيْبَرِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ- الَّتِي سَمَّتِ الذِّرَاعَ يَوْمَ خَيْبَرَ- فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم: «مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟» قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْكَ «٣» فَأَطْلَقَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَكِنْ لَمَّا مَاتَ مِنْهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ
(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٣٨، وأحمد في المسند ٣/ ١٢٦، ١٤٤، ١٥٨.
(٢) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة ذات الرقاع.
(٣) أخرجه أبو داود في الديات باب ٦.
193
رضي الله عنه قَتَلَهَا بِهِ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جدا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
قوله تبارك وتعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] وَكَقَوْلِهِ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: ١٢٦] الآية، فَشَرَعَ الْعَدْلَ وَهُوَ الْقَصَاصُ وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ وهو العفو كقوله جل وعلا: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [الْمَائِدَةِ: ٤٥] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا يَضِيعُ ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث «وما زاد الله تعالى عبدا بعفو إلا عزا» «١» وقوله تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أَيِ الْمُعْتَدِينَ وَهُوَ المبتدئ بالسيئة.
ثم قال جل وعلا: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ فِي الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: كنت أسأل عن الانتصار في قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ امْرَأَةِ أَبِيهِ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها، فجعل النبي ﷺ يَصْنَعُ بِيَدِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا، فَقُلْتُ بِيَدِهِ حَتَّى فَطَّنْتُهُ لَهَا فَأَمْسَكَ، وَأَقْبَلَتْ زَيْنَبُ رضي الله عنها تقحم «٣» لعائشة رضي الله عنها فنهاها، فأبت أن تنتهي، فقال لعائشة رضي الله عنها «سبيها» فسبتها فغلبتها، وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت عليا رضي الله عنه فَقَالَتْ إِنَّ عَائِشَةَ تَقَعُ بِكُمْ وَتَفْعَلُ بِكُمْ فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال ﷺ لَهَا «إِنَّهَا حِبَّةُ أَبِيكِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» فَانْصَرَفَتْ، وقالت لعلي رضي الله عنه: إني قلت له ﷺ كذا وكذا، فقال لي كذاو كذا، فَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، قَالَ: وَجَاءَ عَلِيٌّ إلى النبي ﷺ وكلمه في ذلك، هكذا أورد هَذَا السِّيَاقُ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، يَأْتِي فِي رِوَايَاتِهِ بِالْمُنْكَرَاتِ غَالِبًا، وَهَذَا فِيهِ نكارة.
والصحيح خِلَافُ هَذَا السِّيَاقِ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ خالد بن سلمة
(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٦٩، والترمذي في البر باب ٨٢، والدارمي في الزكاة باب ٣٥، ومالك في الصدقة حديث ١٢، وأحمد في المسند ٢/ ٣٨٦.
(٢) تفسير الطبري ١١/ ١٥٦.
(٣) أي تشتمها من غير روية ولا تثبت. [.....]
194
الْفَأْفَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيِّعَتَيْهَا «١»، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دُونَكِ فَانْتَصِرِي» فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا وَقَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ «٢»، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «٣» مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ وَاسْمُهُ مَيْمُونٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وقوله عز وجل: إِنَّمَا السَّبِيلُ أَيْ إِنَّمَا الْحَرَجُ وَالْعَنَتُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ يَبْدَؤُونَ النَّاسَ بِالظُّلْمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الْمُسْتَبَّانُ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» «٤» أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ شَدِيدٌ مُوجِعٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَإِذَا عَلَى الخندق منظرة «٥»، فأخذت حاجتي فَانْطُلِقَ بِي إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَهُوَ أمير على البصرة فقال مَا حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: حَاجَتِي إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ، قَالَ:
وَمَنْ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: اسْتَعْمَلَ صَدِيقًا لَهُ مَرَّةً عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بعد، فإن استطعت أن لا تَبِيتَ إِلَّا وَظَهْرُكَ خَفِيفٌ، وَبَطْنُكَ خَمِيصٌ، وَكَفُّكَ نَقِيَّةٌ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ سَبِيلٌ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فقال مروان: صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَتُكَ يا أبا عبد الله، قلت: حاجتي إن تُلْحِقَنِي بِأَهْلِي، قَالَ: نَعَمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم، ثم إن الله تَعَالَى، لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وَأَهْلَهُ وَشَرَّعَ الْقَصَاصَ، قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، أَيْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى، وَسَتَرَ السَّيِّئَةَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي لَمِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أمر الله بها، أي لمن الأمور
(١) الذّريعة: تصغير ذراع.
(٢) أخرجه ابن ماجة في النكاح باب ٥٠، وأحمد في المسند ٦/ ٩٣.
(٣) كتاب الدعوات باب ١٠٢.
(٤) أخرجه مسلم في البر حديث ٦٩، وأبو داود في الأدب باب ٣٩، والترمذي في البر باب ٥١، وأحمد في المسند ٢/ ٢٣٥، ٤٨٨، ٥١٧، ٤/ ١٦٢، ٢٦٦، ٦/ ٢٦٦.
(٥) المنظرة: موضع الحرس، وتكون في رأس الجبل.
195
الْمَشْكُورَةِ، وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابٌ جَزِيلٌ، وَثَنَاءٌ جَمِيلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الطَّرْسُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ خَادِمُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا، فَقُلْ: يَا أَخِي اعْفُ عَنْهُ فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ، وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْتُ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النبي وقام، فلحقه أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ- ثُمَّ قَالَ- يَا أَبَا بَكْرٍ: ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عنها الله، إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إلا زاده الله عز وجل بِهَا قِلَّةً» وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: وَرَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُحَرِّرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ مناسب للصديق رضي الله عنه.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ما يشاء كَانَ وَلَا رَادَّ لَهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَلَا مُوجِدَ لَهُ، وَأَنَّهُ مَنْ هداه فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هادي له، كما قال عز وجل: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: ١٧] ثم قال عز وجل مُخْبِرًا عَنِ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي يوم القيامة تمنوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ
(١) المسند ٢/ ٤٣٦.
كما قال جل وعلا: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الْأَنْعَامِ: ٢٧- ٢٨]. وَقَوْلُهُ عز وجل: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أَيْ عَلَى النَّارِ خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أَيِ الَّذِي قَدِ اعْتَرَاهُمْ بِمَا أسلفوا من عصيان الله تعالى يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي ذليل أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسَارِقَةً خَوْفًا مِنْهَا وَالَّذِي يَحْذَرُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي نُفُوسِهِمْ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْخاسِرِينَ أَيِ الْخَسَارُ الْأَكْبَرُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَعُدِمُوا لَذَّتَهُمْ فِي دَارِ الْأَبَدِ وَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أحبابهم وأصحابهم وَأَهَالِيهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ فَخَسِرُوهُمْ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ أَيْ دَائِمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا.
وقوله تعالى: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الْهَائِلَةِ، حَذَّرَ مِنْهُ وَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَقَالَ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَيْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ فَإِنَّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يَكُونُ، وَلَيْسَ لَهُ دَافِعٌ وَلَا مانع. وقوله عز وجل: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ حِصْنٌ تَتَحَصَّنُونَ فِيهِ وَلَا مَكَانٌ يَسْتُرُكُمْ وَتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ فَتَغِيبُونَ عَنْ بَصَرِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ بِعِلْمِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [الْقِيَامَةِ: ١٠- ١٢] وَقَوْلُهُ تعالى:
فَإِنْ أَعْرَضُوا يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي لست عليهم بمسيطر، وقال عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢] وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: ٤٠] وَقَالَ جل وعلا هَاهُنَا: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أَيْ إِنَّمَا كَلَّفْنَاكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ قال تبارك وتعالى: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها أَيْ إِذَا أَصَابَهُ رَخَاءٌ وَنِعْمَةٌ فَرِحَ بِذَلِكَ وَإِنْ تُصِبْهُمْ يَعْنِي النَّاسَ سَيِّئَةٌ أَيْ جدب وَبَلَاءٌ وَشِدَّةٌ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أَيْ يَجْحَدُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ وَلَا يَعْرِفُ إِلَّا السَّاعَةَ الرَّاهِنَةَ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ أَشِرَ وَبَطِرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ يَئِسَ وَقَنِطَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ
أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشِّكَايَةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ تَرَكْتَ يَوْمًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» «١» وَهَذَا حَالُ أكثر الناس، إلا من هداه الله تعالى وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات، فالمؤمن كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا للمؤمن» «٢».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ يعطي من يشأ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يشاء يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً أَيْ يَرْزُقُهُ الْبَنَاتِ فقط. قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام. وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَيْ يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فقط، قال البغوي:
كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي ويعطي لمن يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَيْ مِنْ هَذَا وَهَذَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أَيْ لَا يُولَدُ لَهُ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا يُولَدُ لَهُ. إِنَّهُ عَلِيمٌ أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَدِيرٌ أَيْ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَقَامُ شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مَرْيَمَ: ٢١] أَيْ دَلَالَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ على أربعة أقسام، فآدم عليه الصلاة والسلام مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَحَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَسَائِرُ الْخَلْقِ سِوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ الدَّلَالَةُ بخلق عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. ولهذا قال تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ فَهَذَا الْمَقَامُ فِي الْآبَاءِ وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي الْأَبْنَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ أقسام، فسبحان العليم القدير.
(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢١، والكسوف باب ٩، ومسلم في الكسوف حديث ١٧، والنسائي في الكسوف باب ١٧، ومالك في الكسوف حديث ٢، وأحمد في المسند ١/ ٢٩٨، ٣٥٩.
(٢) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤، وأحمد في المسند ٤/ ٣٣٢، ٣٣٣، ٦/ ١٥.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]

وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جنات الله عز وجل، وهو أنه تبارك وتعالى تَارَةً يَقْذِفُ فِي رَوْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا يَتَمَارَى فِيهِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطلب». وقوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ التَّكْلِيمِ فَحُجِبَ عَنْهَا.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كفاحا» «١» كذا جاء في الحديث، وكان قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدَّارِ الدنيا. وقوله عز وجل: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ فَهُوَ عَلِيٌّ عَلِيمٌ خَبِيرٌ حكيم. وقوله عز وجل:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يَعْنِي الْقُرْآنَ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أَيْ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شُرِعَ لَكَ فِي الْقُرْآنِ وَلكِنْ جَعَلْناهُ أَيِ الْقُرْآنَ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: ٤٤] الآية.
وقوله تعالى: وَإِنَّكَ أَيْ يَا مُحَمَّدُ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الْخُلُقُ الْقَوِيمُ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: صِراطِ اللَّهِ أي وشرعه الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ رَبُّهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فيهما والحاكم الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أَيْ تَرْجِعُ الْأُمُورُ فَيَفْصِلُهَا وَيَحْكُمُ فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣ باب ١٨، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣، والجهاد باب ١٦، والكفاح: المواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول.
Icon