ﰡ
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وصدوا عن سبيل الله، قال بعضهم : هو من الصدود، لأن صد في الآية لازمة.
وقال بعضهم : هو من الصد لأن صد في الآية متعدية.
وعليه فالمفعول محذوف أي صدوا غيرهم عن سبيل الله، أي عن الدخول في الإسلام.
وهذا القول الأخير هو الصواب، لأنه على القول بأن صد لازمة، فإن ذلك يكون تكراراً مع قوله ﴿ كَفَرُواْ ﴾ لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود عن سبيل الله.
وأما على القول : بأن صد متعدية فلا تكرار لأن المعنى أنهم ضالون في أنفسهم، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله، وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن اللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي أبطل ثوابها، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا، كقري الضيف، وبر الوالدين، وحمي الجار، وصلة الرحم، والتنفيس عن المكروب، يبطل يوم القيامة، ويضمحل ويكون لا أثر له، كما قال تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، وهذا هو الصواب في معنى الآية.
وقيل : أضل أعمالهم أي أبطل كيدهم، الذي أرادوا أن يكيدوا به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة، في سورة الشعراء في الكلام على قوله :﴿ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ]، وفي آخر الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحياة الدُّنْيَا ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا مع بعض الأحاديث الصحيحة فيه، مع زيادة إيضاح مهمة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٩ ]. وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، وذكرنا طرفاً منه في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ [ الأحقاف : ٢٠ ] الآية.
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة، في سورة الشعراء في الكلام على قوله :﴿ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ]، وفي آخر الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحياة الدُّنْيَا ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ قد قدمنا إيضاحه في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ﴾ [ الكهف : ٢ ] الآية، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﴾.
قال فيه ابن كثير : هو عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. ا ه منه.
ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ هود : ١٧ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله، كما قال تعالى :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ [ الأنعام : ٦٦ ]، قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [ الحاقة : ٥٠ -٥١ ]. وقال تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يهتدي لِنَفْسِهِ ﴾ [ يونس : ١٠٨ ] وقال تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ [ النساء : ١٧٠ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
الكفار اتبعوا الباطل، ومن اتبع الباطل فعمله باطل.
والزائل المضمحل تسميه العرب باطلاً وضده الحق.
وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق، ومتبع الحق أعماله حق، فهي ثابتة باقية، لا زائلة مضمحلة.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن اختلاف الأعمال، يستلزم اختلاف الثواب، لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل، الذي يستوجب الإنكار عليه، جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى :﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [ القلم : ٣٥ -٣٦ ].
وقوله تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأرض أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ ص : ٢٨ ]. وقوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢١ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾.
قال فيه الزمخشري : فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟
قلت : في جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار.
واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين.
أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين. ا ه. منه.
وأصل ضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له.
قوله تعالى : فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله، وهو بمعنى فعل الأمر، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع :
وهي فعل الأمر كقوله تعالى :﴿ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] الآية.
واسم فعل الأمر كقوله تعالى :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] الآية.
والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾ [ الحج : ٢٩ ] الآية.
والمصدر النائب عن فعله كقوله تعالى :﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾، أي فاضربوا رقابهم، وقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ ﴾ أي أوجعتم فيهم قتلاً.
فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض.
وقوله : فشدوا الوثاق، أي فأسروهم، والوثاق بالفتح والكسر اسم لما يؤسر به الأسير من قد ونحوه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون، ثم بعد ذلك يأسرونهم جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لنبي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ] الآية، وقد أمر تعالى بقتلهم في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾. وقوله :﴿ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [ الأنفال : ١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] الآية. وقوله :﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٧ ] الآية، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً ﴾ أي فإما تمنون عليهم منا، أو تفادونهم فداء.
ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله، كما قال في الخلاصة :
وما لتفصيل كإما منا *** عامله يحذف حيث عنا
ومنه قول الشاعر :
لأجهدن فإما درء واقعة *** تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها وممن يروى عنه هذا القول، ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج.
وذكر ابن جرير عن أبي بكر رضي الله عنه ما يؤيده.
ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء، لأن الآية المنسوخة عنده بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق.
ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه.
وأكثر أهل العلم يقولون : إن الآية ليست منسوخة، وإن جميع الآيات المذكورة، محكمة، فالإمام مخير وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من منّ وفداء وقتل واسترقاق.
قالوا : قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى.
ومنّ على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار :
والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم في مقام المنع، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة.
وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ ا ه. محل الغرض منه.
ومعلوم أن بني ناجية من العرب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له :
لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق.
ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد، والله تبارك وتعالى في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات، في توكيد ثبوت ملك الرقيق، وهي ملك اليمين لأن ما ملكته يمين الإنسان، فهو مملوك له تماماً، وتحت تصرفه تماماً، كقوله تعالى :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [ النساء : ٣ ] وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٥ -٦ ] في سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ ] و﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ ﴾ [ المعارج : ١ ] وقوله :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٤ ] الآية. وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ ﴾ [ النور : ٣٣ ]. وقوله :﴿ وَالْجَارِ ذي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [ النساء : ٣٦ ]. وقوله :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ [ الأحزاب : ٥٢ ] الآية. وقوله :﴿ يا أَيُّهَا النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] الآية. وقوله :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]. وقوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]. وقوله :﴿ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ [ النحل : ٧١ ]. وقوله ﴿ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ ﴾ [ الروم : ٢٨ ] الآية، فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها، وهي معلومة، فلا ينكر الرق في الإسلام، إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله، ولا بسنة رسوله.
وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
ومن المعلوم أن كثيراً من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين، أو أبناء أرقاء مملوكين.
فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبداً لأنس بن مالك.
وهذا مكحول كان عبداً لامرأة من هذيل فأعتقته.
ومثل هذا أكثر من أن يحصى كما هو معلوم.
واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين، لنفي الرق في الإسلام من أن آية القتال هذه دلت على نفي الرق من أصله، لأنها أوجبت واحداً من أمرين لا ثالث لهما، وهما المن والفداء فقط فهو استدلال ساقط من وجهين :
أحدهما أن فيه استدلالاً بالآية، على شيء لم يدخل فيها، ولم تتناوله أصلاً، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى، إلى من وفداء، لم تتناول قطعاً إلا الرجال المقاتلين من الكفار لأن قوله ﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾، وقوله :﴿ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ ﴾. صريح في ذلك كما ترى.
وعلى إثخان هؤلاء المقاتلين رتب بالفاء قوله :﴿ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ ﴾ الآية.
فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيراً ألبتة.
ويزيد ذلك إيضاحاً أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان.
ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا، في حال كونهم مقاتلين، ولو قصره على هؤلاء، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أصله كما ترى.
الوجه الثاني : هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ أي إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم ﴿ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ ﴾ قتلاً فأسروهم ﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ أي حتى تنتهي الحرب.
وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح، والعرب تسمي السلاح وزراً، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل، ومنه قول الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها *** رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
وفي معنى أوزار الحرب، أقوال أخر معروفة تركناها، لأن هذا أظهرها عندنا. والعلم عند الله تعالى.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن المؤمنين، إن نصروا ربهم، نصرهم على أعدائهم، وثبت أقدامهم، أي عصمهم من الفرار والهزيمة.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، وبين في بعضها صفات الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ الحج : ٤٠ ]، ثم بين صفات الموعودين بهذا النصر في قوله تعالى بعده ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ في الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور ﴾ [ الحج : ٤١ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ﴾ [ الروم : ٤٧ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ في الحياة الدُّنْيَا ﴾ [ غافر : ٥١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين َإِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٧١ -١٧٣ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في بيان صفات من وعدهم بالنصر في الآيات المذكورة :﴿ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ في الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [ الحج : ٤١ ] الآية. يدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ليس لهم وعد من الله بالنصر ألبتة.
فمثلهم كمثل الأجير الذي لم يعمل لمستأجره شيئاً ثم جاءه يطلب منه الأجرة.
فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ثم يقولون : إن الله سينصرنا مغررون لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بنصره كما لا يخفى.
ومعنى نصر المؤمنين لله، نصرهم لدينه ولكتابه، وسعيهم وجهادهم، في أن تكون كلمته هي العليا، وأن تقام حدوده في أرضه، وتتمثل أوامره وتجتنب نواهيه، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم.
قد قدمنا إيضاحه في سورة هود في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٣ ]، وأحلنا على الآيات الموضحة لذلك في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض ﴾ [ الروم : ٩ ] الآية. وأوضحناها في الزخرف في الكلام على قوله :﴿ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ﴾ [ الزخرف : ٨ ] الآية وفي الأحقاف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ﴾ [ الأحقاف : ٢٦ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.
التي توضح معنى هذه الآية، هي المشار إليها في نفس الآية، التي ذكرنا قبلها.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من إخراج كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم منها بينه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ] الآية، وقوله تعالى ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ].
وقد أخرجوه فعلاً بمكرهم المذكور، وبين جل وعلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم لا ذنب لهم يستوجبون به الإخراج إلا الإيمان بالله، كما قال تعالى ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقال تعالى ﴿ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ] أي يخرجون الرسول وإياكم لأجل إيمانكم بربكم.
وقال تعالى في إخراجهم له ﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾ [ التوبة : ١٣ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء مشددة مكسورة ونون ساكنة.
وقرأه ابن كثير وكآئن، بألف بعد الكاف، وهمزة مكسورة.
وكلهم عند الوقف يقفون على النون الساكنة، كحال الصلة، إلا أبا عمرو فإنه يقف على الياء.
وقد قدمنا أوجه القراءة في كأين ومعناها، وما فيها من اللغات، مع بعض الشواهد العربية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ﴾ [ الحج : ٤٥ ] الآية.
وقد قدمنا معنى هذه الآيات بإيضاح في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصاب وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] الآية. وقوله تعالى في الآية الكريمة ﴿ غَيْرِ ءَاسِنٍ ﴾ أي غير متغير اللون ولا الطعم. والآسن والآجن معناهما واحد، ومنه قول ذي الرمة :
ومنهل آجن قفر محاضره *** تذروا الرياح على جماته البعرا
وقول الراجز :
ومنهل فيه الغراب ميت *** كأنه من الأجون زيت
* سقيت منها القوم واستقيت *
وبما ذكرنا تعلم أن قوله : غير آسن كقوله : من لبن لم يتغير طعمه.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾.
قد بين تعالى في سورة البقرة أن الثمار التي يرزقها أهل الجنة يشبه بعضها بعضاً في الجودة والحسن والكمال، ليس فيها شيء رديء، وذلك في قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ [ البقرة : ٥٢ ].
قوله تعالى :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج، في الكلام على قوله تعالى ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ ﴾ [ الحج : ١٩ -٢٠ ] الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الزخرف، في الكلام على قوله تعالى ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٦٦ ].
قوله تعالى :﴿ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾.
التحقيق إن شاء الله تعالى، في معنى هذه الآية الكريمة، أن الكفار يوم القيامة، إذا جاءتهم الساعة، يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله، وأن الإيمان في ذلك الوقت لا ينفعهم لفوات وقته فقوله ﴿ ذِكْرَاهُمْ ﴾ مبتدأ خبره ﴿ فَأَنَّى لَهُمْ ﴾ أي كيف تنفعهم ذكراهم وإيمانهم بالله، وقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان.
والضمير المرفوع في ﴿ جَآءَتْهُمْ ﴾ عائد إلى الساعة التي هي القيامة.
وهذا المعنى، الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون، ولا ينفعهم إيمانهم جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ وَقَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾ [ سبأ : ٥٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وجيء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ [ الفجر : ٢٣ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ إلى قوله ﴿ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ].
فظهر أن قوله ﴿ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾ على حذف مضاف، أي أني لهم نفع ذكراهم.
والذكرى اسم مصدر بمعنى الاتعاظ الحامل على الإيمان.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه إذا أنزل سورة محكمة، أي متقنة الألفاظ والمعاني، واضحة الدلالة، لا نسخ فيها وذكر فيها وجوب قتال الكفار، تسبب عن ذلك، كون الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق، ينظرون كنظر الإنسان الذي يغشى عليه لأنه في سياق الموت، لأن نظر من كان كذلك تدور فيه عينه ويزيغ بصره.
وهذا إنما وقع لهم من شدة الخوف من بأس الكفار المأمور بقتالهم.
وقد صرح جل وعلا بأن ذلك من الخوف المذكور في قوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ [ الأحزاب : ١٩ ].
وقد بين تعالى، أن الأغنياء من هؤلاء المنافقين، إذا أنزل الله سورة، فيها الأمر بالجهاد، استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجهاد، وذمهم الله على ذلك، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [ التوبة : ٨٦ -٨٧ ].
الهمزة في قوله : أفلا يتدبرون للإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة، على أصح القولين، والتقدير أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن كما أشار له في الخلاصة بقوله :
* وحذف متبوع بدا هنا استبح *
وقوله تعالى :﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ﴾ فيه منقطعة بمعنى بل، فقد أنكر تعالى عليهم إعراضهم عن تدبر القرآن، بأداة الإنكار التي هي الهمزة، وبين أن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير، ولا لفهم قرآن.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله، جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]، وقوله تعالى ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الأولين ﴾ [ المؤمنون : ٦٨ ]، وقوله تعالى ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب ﴾ [ ص : ٢٩ ].
وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ [ الكهف : ٥٧ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ ﴾ [ السجدة : ٢٢ ].
ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها، وإدراك معانيها والعمل بها، فإنه معرض عنها، غير متدبر لها، فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهماً يقدر به على التدبر، وقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قومي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٣٠ ].
وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به، أمر لا بد منه للمسلمين.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المشتغلين بذلك هم خير الناس. كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال «خيركم من تعلم القرآن وعلمه » وقال تعالى :﴿ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [ آل عمران : ٧٩ ].
فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له ؛ من أعظم المناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى.
ولا يخفى على عاقل أن القول بمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اكتفاء عنهما بالمذاهب المدونة. وانتفاء الحاجة إلى تعلمهما، لوجود ما يكفي عنهما من مذاهب الأئمة من أعظم الباطل.
وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة ومخالف لأقوال الأئمة الأربعة.
فمرتكبه مخالف لله ولرسوله ولأصحاب رسوله جميعاً وللأئمة رحمهم الله، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى :
اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين : إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به. لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة، وأن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي، ولا أثر عن الصحابة، قول لا مستند له من دليل شرعي أصلاً.
بل الحق الذي لا شك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما.
أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعاً.
وأما ما علمه منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلم صحيح. فله أن يعمل به. ولو آية واحدة أو حديثاً واحداً.
ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس.
ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مستكملاً لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلاً. فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين، كما ترى.
ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، وإذاً فدخول الكفار والمنافقين، في الآيات المذكورة قطعي، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله، وعدم عملهم به. وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعاً، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد، بل ليس فيها إلا الاتباع، وبذلك تعلم أنما ذكره صاحب مراقي السعود تبعاً للقرافي من قوله :
من لم يكن مجتهداً فالعمل | منه بمعنى النص مما يحظل |
ومن المعلوم، أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ومن المعلوم أيضاً، أن عمومات الآيات والأحاديث، الدالة على حث جميع الناس، على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، أكثر من أن تحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم :«تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي » وقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي » الحديث. ونحو ذلك مما لا يحصى.
فتخصيص جميع تلك النصوص، بخصوص المجتهدين وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم، تحريماً باتاً يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين.
ومعلوم أن المقلد الصرف، لا يجوز عده من العلماء ولا من ورثة الأنبياء، كما سترى إيضاحه إن شاء الله. وقال صاحب مراقي السعود، في نشر البنود، في شرحه لبيته المذكور آنفاً ما نصه : يعني أن غير المجتهد، يحظل له. أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة وإن صح سندها لاحتمال عوارضه، من نسخ وتقييد، وتخصيص وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد، فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد. قاله القرافي. ا ه. محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أنه لا مستند له، ولا للقرافي الذي تبعه، في منع جميع المسلمين، غير المجتهدين من العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، إلا مطلق احتمال العوارض، التي تعرض لنصوص الكتاب والسنة، من نسخ أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك، وهو مردود من وجهين :
الأول : أن الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص، والمطلق ظاهر في الإطلاق، حتى يثبت ورود المقيد والنص يجب العمل به، حتى يثبت النسخ بدليل شرعي، والظاهر يجب العمل به عموماً كان أو إطلاقاً أو غيرهما، حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح. كما هو معروف في محله.
وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام، حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ونحو ذلك، أبو العباس بن سريج وتبعه جماعات من المتأخرين، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها.
وقد أوضح ابن القاسم العبادي، في الآيات البينات غلطهم في ذلك، في كلامه على شرح المحل لقول ابن السبكي في جمع الجوامع، ويتمسك بالعام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قبل البحث عن المخصص، وكذا بعد الوفاة، خلافاً لابن سريج ا ه.
وعلى كل حال فظواهر النصوص، من عموم وإطلاق، ونحو ذلك، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، من مخصص أو مقيد، لا لمجرد مطلق الاحتمال، كما هو معلوم في محله.
فادعاء كثير من المتأخرين، أنه يجب ترك العمل به، حتى يبحث عن المخصص، والمقيد مثلاً خلاف التحقيق.
الوجه الثاني : أن غير المجتهد إذا تعلم آيات القرآن، أو بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها، تعلم ذلك النص العام، أو المطلق، وتعلم معه، مخصصه ومقيده إن كان مخصصاً أو مقيداً، وتعلم ناسخه إن كان منسوخاً وتعلم ذلك سهل جداً، بسؤال العلماء العارفين به، ومراجعة كتب التفسير والحديث المعتد بها في ذلك، والصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها، وحديثاً فيعمل به، ولا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق، وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم، كما يشير له قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] وقوله تعالى :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [ الأنفال : ٢٩ ] على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل.
وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ [ الحديد : ٢٨ ] الآية.
وهذه التقوى، التي دلت الآيات، على أن الله يعلم صاحبها، بسببها ما لم يكن يعلم، لا تزيد على عمله بما علم، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم.
فالقول بمنع العمل بما علم من الكتاب والسنة، حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق، هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين، من الانتفاع بنور القرآن، حتى يحصلوا شرطاً مفقوداً، في اعتقاد القائلين بذلك، وادعاء مثل هذا على الله وعلى كتابه وعلى سنة رسوله هو كما ترى.
تنبيه مهم
يجب على كل مسلم، يخاف العرض على ربه، يوم القيامة، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى، والطاعة الكبرى، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة.
وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله، استغناء تاماً، في جميع الأحكام من عبادات ومعاملات، وحدود وغير ذلك، بالمذاهب المدونة.
وبناء هذا على مقدمتين :
إحداهما : أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين.
والثانية : أن المجتهدين معدومون عدماً كلياً، لا وجود لأحد منهم، في الدنيا، وأنه بناء على هاتين المقدمتين، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعاً باتاً على جميع أهل الأرض، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة.
وزاد كثير منهم على هذا منع تقليد غير المذاهب الأربعة، وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان.
فتأمل يا أخي رحمك الله : كيف يسوغ لمسلم، أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما، استغناء عنهما بكلام رجال، غير معصومين ولا خلاف في أنهم يخطئون.
فإن كان قصدهم أن الكتاب
الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، قوم كفروا بعد إيمانهم.
وقال بعض العلماء : هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به.
وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه، وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم.
وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ] لأن قوله :
﴿ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ ﴾ مبين معنى قوله :﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ﴾، وقوله ﴿ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ مبين معنى قوله :﴿ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ ﴾.
وقال بعض العلماء : نزلت الآية المذكورة في المنافقين.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى، هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيراً إلى علة ذلك ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ﴾ أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين، وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر.
قال الزمخشري : سول سهل لهم ركوب العظائم من السول، وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً.
وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني. انتهى.
وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم فصول الأعمار.
لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي.
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان : قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو، وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل، وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان.
وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل، ومنه قوله تعالى :﴿ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾[ الأعراف : ١٨٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ] الآية.
ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار، كما قال تعالى :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ].
وقال تعالى :﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾ إلى قولك ﴿ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ﴾ [ الإسراء : ٦٤ ].
وقال بعض العلماء : ضمير الفاعل في قوله ﴿ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى.
والمعنى : الشيطان ﴿ سَوَّلَ لَهُمْ ﴾ أي سهل لهم الكفر والمعاصي، وزين ذلك وحسنه لهم، والله جل وعلا أملى لهم : أي أمهلهم إمهال استدراج.
وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله، قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] الآية. وقوله تعالى، ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ النحل : ٦٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمر إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجاً :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كيدي مَتِينٌ ﴾ [ الأعراف : ١٨٢ -١٨٣ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ في الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٥ ] وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾ [ الأنعام : ٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٥ ]. وقوله تعالى ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥ -٥٦ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وجده من السبعة وأملي لهم بضم الهمزة وكسر اللام بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف فيه الوجهان المذكوران آنفاً في فاعل، وأملي لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل.
وقد ذكرنا قريباً ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ] وقوله في إملاء الله لهم :﴿ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كيدي مَتِينٌ ﴾ [ الأعراف : ١٨٣ ] كما تقدم قريباً، والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمر ﴾ راجعة إلى قوله تعالى، ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾.
أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم ﴿ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمر ﴾.
وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون.
والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل، أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك ﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم ْذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾.
وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [ الشورى : ١٠ ] وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك.
وبينا في سورة الشورى أيضاً شدة كراهة الكفار لما نزل الله، وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى ﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ [ الشورى : ١٣ ].
وقد قدمنا مراراً أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إسرارهم بكسر الهمزة مصدر أسر كقوله :﴿ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ﴾ [ نوح : ٩ ]. وقد قالوا لهم ذلك سراً فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون.
أي قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الملائكة، يتوفون الكفار وهم يضربون وجوههم وأدبارهم جاء موضحاً في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنفال :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٠ ] وقوله في الأنعام :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ] الآية.
فقوله :﴿ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي بالضرب المذكور.
راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي أعني قوله ﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ﴾.
أي ذلك بضرب وقت الموت واقع بسبب ﴿ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ ﴾ أي أغضبه من الكفر به، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله.
والإسخاط استجلاب السخط، وهو الغضب هنا.
وقوله : وكرهوا رضوانه لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله.
لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزل، فاستلزمت كراهة ما نزل، كراهة رضوانه لأن رضوانه فيما نزل، ومن أطاع كارهه، فهو ككارهه.
وقوله : فأحبط أعمالهم أي أبطلها، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة. وقد أوضحنا المقام في ذلك إيضاحاً تاماً في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٩ ].
وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية.
واعلم أن هذه الآية الكريمة، قد قال بعض العلماء : إنها نزلت في المنافقين.
وقال بعضهم : إنها نزلت في اليهود، وأن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، وهو عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والتعويق عن الجهاد ونحو ذلك.
وبعضهم يقول : إن الذين اتبعوا ما أسخط الله، هم اليهود حين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما عرفوه وكرهوا رضوانه، وهو الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله.
مسألة
اعلم أن كل مسلم، يجب عليه في هذا الزمان، تأمل هذه الآيات، من سورة محمد وتدبرها، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد.
لأن كثيراً ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد.
لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من السنن.
فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله : سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في وعيد الآية.
وأحرى من ذلك من يقول لهم : سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم.
وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، وأنه محبط أعمالهم.
فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا : سنطيعكم في بعض الأمر.
اللام في قوله : لنبلونكم موطئة لقسم محذوف.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير شعبة عن عاصم بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة أعني لنبلونكم، ونعلم، ونبلو.
وقرأه شعبة عن عاصم بالمثناة التحتية.
وضمير الفاعل يعود إلى الله وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله جل وعلا يبلو الناس أي يختبرهم بالتكاليف، كبذل الأنفس والأموال في الجهاد ليتميز بذلك صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من كافرهم. جاء موضحاً في آيات أخر.
كقوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ] الآية.
وقوله تعالى ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٢ ].
وقوله تعالى ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ التوبة : ١٦ ].
وقوله تعالى ﴿ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [ العنكبوت : ١ -٣ ].
وقوله تعالى ﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ﴾ الآية.
وقد قدمنا إزالة الإشكال في نحوه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] الآية.
فقلنا في ذلك ما نصه :
ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى، عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون.
وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا :﴿ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا في صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [ البقرة : ١٥٤ ] الآية.
فقوله : والله عليم بذات الصدور بعد قوله : ليبتلي، دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار.
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه.
ومعنى إلا لنعلم أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما عالم السر والنجوى، فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى. ا ه.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه :[ وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم، فتأويله حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة، ونبلو أخباركم نختبرها ونظهرها ] انتهى محل الغرض منه.
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه :[ ولنبونكم أيها المؤمنين بالقتل وجهاد أعداء الله حتى نعلم المجاهدين منكم يقول : حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد. في الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه فيظهر ذلك لهم ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة فيه وأهل الإيمان من أهل النفاق ونبلو أخياركم فنعرف الصادق منكم من الكاذب ]. انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وما ذكره من أن المراد بقوله : حتى نعلم المجاهدين الآية، حتى يعلم حزبنا.
وأولياؤنا المجاهدين منكم والصابرين له وجه، وقد يرشد له قوله تعالى :﴿ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ أي نظهرها ونبرزها للناس.
وقوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ] لأن المراد يميز الخبيث من الطيب ظهور ذلك الناس.
ولذا قال ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ] فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب، ولكن الله عرفكم بذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خبث وطيب.
والقول الأول وجيه أيضاً، والعلم عند الله تعالى.
الظاهر أن صدوا في هذه الآية متعدية، والمفعول محذوف، أي كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فهم ضالون مضلون.
وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية. أن التأسيس مقدم على التوكيد كما هو مقرر في الأصول.
وصدوا هنا، إن قدرت لازمة فمعنى الصدود الكفر، فتكون كالتوكيد لقوله كفروا.
وإن قدرت متعدية كان ذلك تأسيساً.
لأن قوله : كفروا يدل على كفرهم في أنفسهم.
وقوله : وصدوا على أنه متعد يدل على أنهم حملوا غيرهم على الكفر وصدوه عن الحق، وهذا أرجح مما قبله.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ ﴾ أي خالفوا محمداً صلى الله عليه وسلم مخالفة شديدة.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين أحدهما أن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن الحق وخالفوه صلى الله عليه وسلم لن يضروا الله بكفرهم شيئاً، لأنه غني لذاته الغنى المطلق.
والثاني أنهم إنما يضرون بذلك أنفسهم، لأن ذلك الكفر سبب لإحباط أعمالهم، كما قال تعالى :﴿ وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴾.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله.
فمن الآيات الدالة على الأول الذي هو غنى الله عن خلقه، وعدم تضرره بمعصيتهم، قوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ].
وقوله تعالى :﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ﴾ [ الزمر : ٧ ].
وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ إبراهيم : ٨ ].
وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الأرض ﴾ [ يونس : ٦٨ ].
وقوله تعالى :﴿ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ التغابن : ٦ ].
وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ﴾ [ فاطر : ١٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على الثاني وهو إحباط أعمالهم بالكفر أي إبطالها به قوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ].
وقوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ [ النور : ٣٩ ].
وقوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : ١٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قد قدمنا كثيراً جداً من الآيات المماثلة له قريباً في جملة كلامنا الطويل على قوله تعالى ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ ﴾ [ النساء : ٨٢ ] الآية.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من مات على الكفر لن يغفر الله له، لأن النار وجبت له بموته على الكفر، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله.
كقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ آل عمران : ٩١ ].
وقوله تعالى ﴿ إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦١ -١٦٢ ].
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [ النساء : ١٨ ].
وقوله تعالى ﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة وأولئك أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ].
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم إلى السلم بفتح السين.
وقرأ حمزة وشعبة إلى السلم بكسر السين.
وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَهِنُواْ ﴾ أي لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى :﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ].
وقوله تعالى :﴿ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ الأنفال : ١٨ ] أي مضعف كيدهم، وقول زهير بن أبي سلمى :
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت | فأصبح الحبل منها واهناً خلقا |
وهذا التفسير في قوله ﴿ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ ﴾ هو الصواب.
وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده ﴿ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ﴾ لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب.
فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة.
وكقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٧٣ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ في الحياة الدُّنْيَا ﴾ [ غافر : ٥١ ] الآية، وقوله ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ﴾ [ الروم : ٤٧ ] وقوله تعالى ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٤ ] الآية.
ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَهِنُواْ في ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ [ النساء : ١٠٤ ] الآية، لأن قوله تعالى ﴿ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب.
وذلك كقوله هنا ﴿ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ ﴾ وقوله :﴿ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ﴾ أي بالنصر والإعانة والثواب.
واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى.
فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ﴾ إنما هو عن الابتداء بطلب السلم.
والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها، كما هو صريح قوله تعالى :﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ﴾ قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [ النحل : ١٢٨ ] وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله.
وهو أن المعنى : لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد.
أي، وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي :
السلم تأخذ منها ما رضيت به | والحرب تكفيك من أنفاسها جرع |
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئاً من ثواب الأعمال جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى ﴿ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً ﴾ [ الحجرات : ١٤ ] أي لا ينقصكم من ثوابها شيئاً.
وقوله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ].
والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة، وقد قدمناها مراراً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَلَن يَتِرَكُمْ ﴾ أصله من الوتر، وهو الفرد.
فأصل قوله : لن يتركم لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها.
هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الحديد : ٢٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَسْألْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴾.
في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها أن المعنى : ولا يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أموالكم أجراً على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة.
وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ سبأ : ٤٧ ].
وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ ص : ٨٦ ].
وقوله تعالى :﴿ أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ [ الطور : ٤٠ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ هود : ٢٩ ] وذكرنا بعض ذلك في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى ﴿ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له قريباً في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ٣٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ ﴾.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بآخرين وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٣ ].