تفسير سورة المجادلة

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

خاتمة سورة الحديد
عليك ايها المحمدي المترقب للفضل الإلهي وسعة لطفه وجوده ان تلازم على أداء ما افترض عليك من الطاعات والعبادات وتداوم على الاتصاف بالآداب السنية والأخلاق المرضية المقتبسة من كتاب الله المنزل من عنده للإرشاد الى منهج الرشد والى نيل عموم السعادات وكذا من سنن سيد السادات وسند ارباب الولاية والكرامات وتقتقى بآثار السلف المجتازين في مضمار المعارف والمكاشفات والمشاهدات وإياك إياك الالتفات الى مزخرفات الدنيا الدنية وما فيها من اللذات والشهوات الوهمية العائقة عن التوجه الى المولى والوصول الى سدرة المنتهى وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
[سورة المجادلة]
فاتحة سورة المجادلة
لا يخفى على الموحدين المتحققين بمقام الرضاء والتسليم ان من توكل على الله وفوض الأمور كلها اليه ورجع في عموم الخطوب والملمات نحوه سبحانه متضرعا خاشعا خاضعا متذللا سائلا منه سبحانه مطلوبه داعيا اليه لأجله فان الله يجيب له ويصيبه الى مطلوبه ان كان سؤاله منبعثا عن صدق العزيمة وخلوص النية إذ السؤال والدعاء على هذا المنوال انما هو من امارات الاجابة والقبول وإنجاح المأمول إذ جريان الحوادث كلها انما هو بتوفيق الله وتيسيره وصدور المسئول عن كمال الحضور والخضوع وعن محض التبتل والتوكل انما هو من علامات القبول كما صدر مثل هذا عن المرأة المجادلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بثت وبسطت شكواها الى الله متضرعة نحوه راجية منه الإنجاح والقبول ومن كمال إخلاصها وخضوعها قد أجاب الله دعاءها حيث اوحى سبحانه الى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في شأنها ما اوحى بعد ما تيمن باسمه الأعلى فقال بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته على قلوب المخلصين الرَّحْمنِ عليهم يوفقهم على الإخلاص في مطلق العزائم المهمة لهم المتعلقة بدينهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى ما وفقهم عليه
[الآيات]
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ السميع المجيب لمناجات عباده العليم لحاجاتهم قَوْلَ الَّتِي اى دعاء الامرأة التي تُجادِلُكَ يا أكمل الرسل فِي حق زَوْجِها حين وقع بينهما ظهار. روى ان خولة بنت ثعلبة قد ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت وكان الظهار والإيلاء حينئذ من عداد الطلاق فاستفتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في جوابها قد حرمت عليه فقالت ما طلقني فقال صلّى الله عليه وسلّم قد حرمت عليه فكررها مرارا فأجاب صلّى الله عليه وسلّم كذلك وَبعد ما أيست أخذت تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ العليم الحليم متضرعة خاشعة فجيعة أذلها أولاد صغار ولا متعهد لهم سواها فقالت مناجية الى الله مشتكية اللهم انى اشكو إليك وأتضرع نحوك فانزل على نبيك ما يؤلف بيني وبين زوجي وترحم على أولادي المعصومين المرحومين فأوحى سبحانه الى رسوله صلّى الله عليه وسلّم قد سمع الله الآية وَبالجملة اللَّهُ المطلع على عموم ما جرى بينكما يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما وتراجعكما في الكلام وكيف لا إِنَّ اللَّهَ العليم بالسرائر والقضايا سَمِيعٌ لأقوال عباده بَصِيرٌ بأحوالهم ونياتهم فيها ثم بين سبحانه حكم الظهار فقال
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ والظهار في اصطلاح الفقهاء هو ان يقول الرجل لامرأته
عند الخصومة أنت على كظهر أمي يعنى يشبهها بامه المحرمة عليه فكانت حينئذ محرمة عليه الحكم هكذا في عادة الجاهلية إذ الحرمة قد سرت إليها بمجرد التشبيه فصارت هي بمنزلة الام فرد الله سبحانه عليهم أمرهم هذا بقوله ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ بمجرد هذا القول الباطل إِنْ أُمَّهاتُهُمْ اى ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا يشبه بهن في الحرمة غيرهن الا ما ورد الشرع بتحريمهن مثل أمهات الرضاع وازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي هن أمهات المؤمنين حكما وَإِنَّهُمْ من شدة افراطهم وطغيانهم لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ مردودا في الشرع وَزُوراً باطلا منحرفا عن الحق في نفسه إذ لا تشبه الزوجة بالأم وَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده ونياتهم لَعَفُوٌّ لفرطات القائلين غَفُورٌ لذنوبهم ان تابوا واستغفروا
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ للتلافى والتدارك مناقضين لِما قالُوا نادمين عنه راجعين فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ اى لزمهم في الشرع تحرير رقبة في كل مرة ليكون زجرا وردعا لهم وكفارة لقولهم المنكر الباطل ذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا اى يستمتعا ويجتمعا اى المظاهر والمظاهر عنها ذلِكُمْ اى الزام الكفارة عليكم تُوعَظُونَ بِهِ وترتدعون عنه خوفا من الغرامة إذ ليس هو من شيم اهل الايمان بل ما هي إلا من ديدنة الجاهلية الاولى وَبالجملة اللَّهُ المراقب على عموم أحوالكم وأعمالكم بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بجميع أعمالكم ونياتكم فيها فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ولم يقدر على تحرير الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ اى كفارة ظهاره صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ متصلين متوالى الأيام فان فصل وأفطر يوما استأنف وانما اشترط التتابع والتوالي لتنزجر نفسه وترتدع عنه ولا يفعله قط ولا يتكلم به مرة اخرى ذلك ايضا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ويتجامعا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ولم يقدر للصوم لهرم او مرض او شبق مفرط فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً يعطى كل مسكين مدا من الطعام ذلِكَ اى لزوم الصوم والإطعام عند فقدن التحرير المذكور لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اى تؤمنوا بالله في عموم الاحكام الدينية وتصدقوا رسوله في جميع ما جاء به من عند ربه من الأوامر والنواهي الإلهية الجارية على لسانه وتتركوا عموم ما أنتم عليه من الرسوم والعادات الجارية بينكم في جاهليتكم الاولى وَبالجملة تِلْكَ الحدود المذكورة حُدُودُ اللَّهِ المصلحة لأحوالكم انما وضعناها بينكم لتصلحوا بها ما أفسدتم على انفسكم بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة وَاعلموا انه لِلْكافِرِينَ الجاحدين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والاحكام الشرعية عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة. ثم قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد
إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يُحَادُّونَ ويعادون اللَّهَ وَرَسُولَهُ حيث يصنعون حدودا مبتدعة مخالفة لحدود الله وحدود رسوله بل هم يبتدعونها من تلقاء أنفسهم مراء ومجادلة ومعاداة لرسوله كُبِتُوا اى قد أكب والم وأحاط عليهم العذاب النازل من الله فهلكوا بالمرة كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الماضية وَكيف لا نهلكهم ولا نستأصلهم قَدْ أَنْزَلْنا لإصلاح أحوالهم وأخلاقهم وعموم أطوارهم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات مشتملات على حكم ومصالح لا تحصى فأبوا عنها ولم يقبلوها بل كذبوها وأنكروا عليها وعلى من أنزلت اليه عتوا وعنادا وَبالجملة لِلْكافِرِينَ المستكبرين بما عندهم من الثروة والرياسة عَذابٌ مُهِينٌ حيث يبدل عزهم ذلا ونخوتهم وخيلاءهم لعنة وطردا اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
من قبورهم جَمِيعاً بحيث لا يشذ منهم احد فَيُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم بِما عَمِلُوا اى بعموم أعمالهم وأفعالهم تفضيحا لهم وتشهيرا على رؤس الاشهاد بحيث قد أَحْصاهُ اللَّهُ المحصى العليم وفصله عليهم على وجه لا يغيب عن حيطة علمه وإحصائه شيء من عملهم وَهم قد نَسُوهُ لكثرة تهاونهم به وَكيف لا يحصى سبحانه عليهم أعمالهم إذ اللَّهُ بمقتضى ألوهيته وحيطة ذاته وأوصافه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهره شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه
أَتستبعد شهادته سبحانه وحضوره عند عموم مظاهره ومصنوعاته ولَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي ولم تعلم أَنَّ اللَّهَ المحيط بالكل بالالوهية والظهور يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي السَّماواتِ اى الكائنات العلوية وَما فِي الْأَرْضِ اى الكائنات السفلية كلياتهما وجزئياتهما محسوساتهما ومعقولاتهما بحيث ما يَكُونُ يوجد ويقع مِنْ نَجْوى وسر معهود بين ثَلاثَةٍ يسرون بها ويضمرونها في نفوسهم إِلَّا هُوَ سبحانه رابِعُهُمْ بل هو اعلم منهم بنجويهم واعرف بما في ضمائرهم منهم بل هو العالم حقيقة وَلا خَمْسَةٍ وكذا لا يقع نجوى بين خمسة مكنونة في ضمائرهم مصونة عن من سواهم إِلَّا هُوَ سبحانه سادِسُهُمْ بل علمه بها أتم وأكمل من علمهم وَبالجملة لا يقع أَدْنى مِنْ ذلِكَ الجمع المذكور وَلا أَكْثَرَ منه إِلَّا هُوَ سبحانه مَعَهُمْ بل هو العالم بذاته وبمقتضى وحدته الا انه قد ظهر في أشباحهم وهوياتهم لا على سبيل المقارنة الذاتية والزمانية ولا على سبيل الاتحاد والحلول بل بطريق معية الظل مع ذي الظل ومعية الأمواج مع الماء والصور مع ذي الصورة في المرايا ولا يقيد ايضا معيته بالمكان بل أَيْنَ ما كانُوا قد كان معهم لاستواء عموم الأمكنة والازمنة بلا تحيز وحلول وقيام ونزول وبالجملة يعلم سبحانه منهم جميع ما صدر عنهم لكن لم يطلعهم بعلمه إياهم لئلا يبطل حكمة التكاليف الواقعة منه سبحانه بالنسبة الى عموم عباده ثُمَّ بعد انقضاء أوان التكليف وانقراض نشأة الاختبار يُنَبِّئُهُمْ سبحانه بِما عَمِلُوا اى يخبرهم بعموم أعمالهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لتنقيد الأعمال وترتيب الجزاء الموعود عليها تفضيحا لهم وتقريرا لما يستحق ويليق بهم من العذاب والنكال لئلا يكون لهم على الله حجة ولا ينسبونه سبحانه الى الظلم حين الأخذ إذ الإنسان مجبول على الجدال والمراء بل هو اكثر شيء جدلا وبالجملة أَنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما كان ويكون غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا بِكُلِّ شَيْءٍ لمع عليه برق الوجود عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن حيطة علمه شيء. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمنافقين
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المنافقين الَّذِينَ نُهُوا ومنعوا عَنِ النَّجْوى والتغامز فيما بينهم بالعيون والحواجب حين جلسوا في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع المؤمنين فمنعهم صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ إصرارا ومكابرة وَهم يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ الموجب للحد الشرعي وَالْعُدْوانِ عن الأوضاع الشرعية الموضوعة على منهج العدالة وَمَعْصِيَةِ- الرَّسُولِ وتكذيبه والاعراض عنه وعن دينه مهما أمكن لهم وَبالجملة هم من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم وضغينتهم إِذا جاؤُكَ يا أكمل الرسل حَيَّوْكَ على وجه النفاق بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ فيقولون السام عليك او أنعم صباحا مع ان الله سبحانه يقول سلام على عباده الذين اصطفى وَبعد ما حيوك حسب اهوائهم الفاسدة وقصدوا مقتك في تحيتهم يَقُولُونَ حينئذ فِي أَنْفُسِهِمْ ونجواهم على سبيل التهكم والاستهزاء
لَوْلا هلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ لو كان محمد نبيا فظهر من عدم تعذيب الله إيانا انه ليس بنبي قيل لهم حينئذ من قبل الحق حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم جهنم البعد والخذلان
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم إِذا تَناجَيْتُمْ فيما بينكم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ مثل مناجاة أولئك الأشقياء المردودين بل وَتَناجَوْا ان تتناجوا بِالْبِرِّ الموجب لانواع الخيرات الجالب لأصناف المثوبات وَالتَّقْوى من محارم الله ولا سيما عن عصيان الرسول المستلزم لانواع الخسران والحرمان وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في يوم النشور ونحوه تبعثون من الأجداث والقبور. ثم قال سبحانه
إِنَّمَا النَّجْوى والأسرار بالإثم والعدوان ومعصية الرسول انما تنشأ مِنَ الشَّيْطانِ المضل المغوى انما يحملهم عليها لِيَحْزُنَ عن نجويهم بهذه الأوزار والآثام الَّذِينَ آمَنُوا ويغتموا بها وَالحال انه لَيْسَ الشيطان وما يلقنهم من التناجي بالسوء بِضارِّهِمْ اى المؤمنين شَيْئاً من الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى مشيته وارادته وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المراقب الحافظ لعموم عباده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الرابطون قلوبهم بالله في عموم أحوالهم المفوضون أمورهم كلها اليه اصالة فانه سبحانه يكفى لهم مؤنة شرور أعدائهم ونجويهم إياهم بالسوء والعدوان
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى أخلاقكم الحسنة المورثة لكم عن ايمانكم وعرفانكم بالله إِذا قِيلَ لَكُمْ وقت التضيق والتجسس في المجالس تَفَسَّحُوا وتوسعوا فِي الْمَجالِسِ اى مطلق المجالس والمحافل المشتملة على الازدحام والغلبة فَافْسَحُوا ووسعوا مبادرين بلا مطل وتحرج وتضجر يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ويوسع عليكم في عموم ما تريدون الوسعة فيه بل وَإِذا قِيلَ لكم انْشُزُوا وانهضوا واخرجوا من المضائق والمجالس فَانْشُزُوا واخرجوا طائعين راغبين طالبين الثواب من الله بتوسيعكم على إخوانكم ولا تتوهموا الإذلال بالنشوز وانكسار الحرمة بل يَرْفَعِ اللَّهُ القادر المقتدر على وجوه الانعام الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ونشزوا عن المضائق لمصلحة إخوانهم طوعا درجات من القرب والمكانة مع ان المؤمن الموحد العارف المتمكن في مرتبة اليقين الحقي لا يتفاوت عنده المدح والذم والإعزاز والإذلال والمضرة والمسرة والمنح والمحن والفرح والترح مطلقا وَبالجملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي دَرَجاتٍ لا يكتنه وصفها ولا يمكن حصرها وَاللَّهُ المطلع بضمائركم وقلوبكم بِما تَعْمَلُونَ من الاستكبار والاستكراه وتوهم الإذلال والاستنكاف عن الامتثال خَبِيرٌ يجازيكم على مقتضى خبرته. ثم أشار سبحانه الى تعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتأديب من تبعه من المؤمنين المسترشدين منه صلّى الله عليه وسلّم فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم بالله وتصديقكم برسوله انكم إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ وأردتم المناجاة معه والاستفادة منه صلّى الله عليه وسلم فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ اى قدام مناجاتكم وعرض حاجاتكم اليه صلّى الله عليه وسلم صَدَقَةً تصدقا لفقراء الله وإنفاقا لعياله سبحانه ذلِكَ التصدق بمحبة رسول الله خَيْرٌ لَكُمْ في أولئكم وأخراكم وَأَطْهَرُ لنفوسكم من الميل الى زخارف الدنيا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما ينفقون فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على قصدكم ونياتكم غَفُورٌ رَحِيمٌ على من فقد وجه الصدقة. ثم قال سبحانه على سبيل الرخصة
أَأَشْفَقْتُمْ وخفتم الفقر والفاقة من أَنْ تُقَدِّمُوا وتصدقوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ اى
قدام مناجاتكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم صَدَقاتٍ اى لكل نجوى صدقة ولو كلمة طيبة منبئة عن كمال المحبة والوداد فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تصدقوا بسبب الإشفاق من الفقر وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اى قبل منكم توبتكم ان صدر عنكم على وجه الندم والإخلاص عن جريمة الإشفاق والتحسر على ما فوتم وبالجملة عفا الله عنكم وتجاوز عن جريمتكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الموقتة المكتوبة لكم وَآتُوا الزَّكاةَ المفروضة المقدرة من أموالكم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في عموم الأوامر والنواهي على وجه الإخلاص وَاللَّهُ المطلع بضمائركم ونياتكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالكم وإخلاصكم فيها. ثم أشار سبحانه الى تفضيح المنافقين وتوبيخهم فقال
أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المنافقين الَّذِينَ تَوَلَّوْا اى والوا وتحابوا قَوْماً قد غَضِبَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِمْ يعنى اليهود واختاروا موالاتهم وصاحبوا معهم في خلواتهم واشتغلوا بغيبة المؤمنين عندهم مع انهم ما هُمْ اى المنافقون مِنْكُمْ ايها المؤمنون حقيقة وان كانوا منكم ظاهرا وَلا مِنْهُمْ اى ولا من اليهود ظاهرا وان كانوا منهم حقيقة وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم يَحْلِفُونَ بالله عَلَى الْكَذِبِ صريحا وهو دعوى الإسلام والإخاء مع المؤمنين وَالحال انهم هُمْ يَعْلَمُونَ كذب أنفسهم ويزورون بحلفهم على المؤمنين تغريرا مع انه لا نفع لحلفهم عند الله ولا يدفع شيأ من عذابه وقت حلوله إليهم إذ
أَعَدَّ اللَّهُ المراقب على عموم أحوالهم لَهُمْ اى للمنافقين الحالفين على الكذب عَذاباً شَدِيداً أشد من عذاب اليهود والمجاهر بالكفر بلا زور وتزوير وبالجملة إِنَّهُمْ اى اهل النفاق من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من التمرن على النفاق والإصرار بمعاونة اهل الشرك والشقاق مع دعوى المواخاة والوفاق مع المؤمنين. قيل نزلت في عبد الله ابن نبتل المنافق إذ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا يوما في حجرة من حجراته فقال صلّى الله عليه وسلّم لجلاسه يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعين شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان ارزق فقال صلّى الله عليه وسلّم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا جميعا على الكذب وبالجملة
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة جُنَّةً وقاية لدمائهم وأموالهم فَصَدُّوا ومنعوا المؤمنين بسبب حلفهم الكاذب عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو غزوهم وقتالهم في النشأة الاولى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ في النشأة الاخرى لاستهانتهم بالله بالحلف الكاذب ولا يدفع عنهم الاهانة والعذاب يومئذ أصلا إذ
لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع يومئذ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً بل أُولئِكَ الأشقياء البعداء المنصرفون عن منهج الحق أَصْحابُ النَّارِ ملازموها وملاصقوها ابدا هُمْ فِيها خالِدُونَ مخلدون لا يرجى نجاتهم منها أصلا اذكر لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ القادر المقتدر على الأحياء والاماتة في الإبداء والإعادة جَمِيعاً مجتمعين فيعاتبهم بما صدر عنهم مثل ما عاتبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَيَحْلِفُونَ لَهُ سبحانه حينئذ على انهم مسلمون مؤمنون كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الأن ايها المؤمنون وَيَحْسَبُونَ حينئذ ايضا أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من جلب نفع ودفع ضر حاصل من حلفهم الكاذب فيتخيلون انهم يروجون بالحلف الكاذب ما يدعون من الكذب على الله كما يروجون عليكم اليوم ولم يعلموا ان الناقد يومئذ خبير بصير والترويج اليه صعب عسير أَلا اى تنبهوا ايها المؤمنون المخلصون أَنَّهُمْ اى المنافقين هُمُ
الْكاذِبُونَ
المقصورون على الكذب والزور والتلبيس والغرور إذ
اسْتَحْوَذَ اى قد غلب واستولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ المنقذ عن الضلال الى الهداية وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون حِزْبُ الشَّيْطانِ اى جنوده واتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران المؤبد والحرمان المخلد عن ربح المعرفة واليقين. أعاذنا الله وعموم عباده عن متابعة الشيطان المضل المغوى. ثم قال سبحانه
إِنَّ المفسدين المسرفين الَّذِينَ يُحَادُّونَ ويعادون اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويتجاوزون عن الحدود الموضوعة في الشرع بالوضع الإلهي المنزل على رسوله بالوحي والإلهام أُولئِكَ البعداء المتجاوزون المعادون معدودون فِي زمرة الْأَذَلِّينَ اى من جملة من أذل الله وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة ولهم عذاب اليم وكيف لا يعد المتجاوزون عن الحدود الإلهية من الأذلين إذ قد
كَتَبَ اللَّهُ العليم الحكيم واثبت لهم في لوح قضائه بقوله لَأَغْلِبَنَّ البتة أَنَا وَعموم رُسُلِي المرسلين من عندي بالحجج القاطعة ولا يظهر ولا يغلب الا رسله عليهم إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء قَوِيٌّ في ذاته لا حول ولا قوة في الوجود الا منه وبه عَزِيزٌ مقتدر غالب لا يغلب مطلقا في عموم مراداته ومقدوراته. ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير لعموم المؤمنين الموحدين
لا تَجِدُ قَوْماً صفتهم انهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للحساب والجزاء يُوادُّونَ اى لا تجد ان يتحابوا مَنْ حَادَّ اللَّهَ وعاداه وَرَسُولَهُ ايضا وَلَوْ كانُوا اى العادون المعاندون آباءَهُمْ اى آباء المؤمنين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وأقرباءهم وذوى أرحامهم أُولئِكَ السعداء المقبولون الممتنعون عن ودادة اعداء الله واعداء رسول الله طلبا لمرضاة الله ومرضاة رسوله قد كَتَبَ اى اثبت ومكن سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وقد جعله راسخا فيها وَمع ذلك قد أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ فائض مِنْهُ سبحانه محى لهم ابد الآباد بالحياة الابدية والبقاء السرمدي إذ من حي بحياة الايمان والعرفان دامت له الحياة سرمدا ولم يمت ابدا وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترسحة من بحر الحياة الأزلي الأبدي الذي هو الوجود المطلق الإلهي خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون عنها أصلا إذ قد رَضِيَ اللَّهُ المتجلى عليهم بالرضاء عَنْهُمْ وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه بالتسليم والتفويض اليه وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله حِزْبُ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وحوامل آثار أوصافه وأسمائه الذاتية وقوابل عموم تجلياته حسب شئونه وتطوراته أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال المستظلون بظل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من عنده بالفوز العظيم والفضل الجسيم والكرم العميم
خاتمة سورة المجادلة
عليك ايها الطالب للفلاح والمترقب على الفوز والنجاح ان تتمكن في مقام التسليم والرضاء بعموم ما جرى عليك من مقتضيات القضاء وتلازم على آداب الخدمة بين يدي الله في عموم أوقاتك وحالاتك فارغا همك وسرك عن مطلق الوساوس والاشتغال العائق عن التوجه نحو المولى وتواظب على الطاعات والعبادات سيما في خلال الخلوات لتكون مصونة عن السمعة والرياء والميل الى العجب
Icon