ﰡ
وهي ثلاث عشرة آية مدنية
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة العبسي ذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يجهز الجيش للخروج إلى فتح مكة، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى الغزو، ورى بغيره يعني: يظهر من نفسه أنه يريد الخروج إلى ناحية أخرى، وكان الناس لا يعلمون إلى أي ناحية يريد الخروج. فأمر الناس بأن يتجهزوا للخروج إلى الغزو، ولم يعلموا إلى أين يخرج، إلا الخواص من أصحابه. فبينما الناس يتجهزون، إذ قدمت امرأة من مكة، يقال لها سارة، مولاة بني عمر بن الصيف بن هشام بن عبد مناف، وكانت امرأة من مكة، يقال لها سارة، مولاة بني عمر بن الصيف بن هشام بن عبد مناف، وكانت امرأة مغنية، فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلم: لماذا جئت؟ فقالت: جئت لتعطيني شيئا.
فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلم: ما فعلت بحطباتك من شبان قريش؟ فقالت: منذ قتلهم ببدر، لم يصل إلي شيء إلا القليل. فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن تعطى شيئا لترجع. فلما أرادت الخروج، أتاها حاطب بن أبي بلتعة، فقال لها: إني معطيك عشرة دنانير وكساء، على أن تبلغي إلى أهل مكة كتابا.
فأجابته إلى ذلك، فخرجت إلى مكة، فنزل جبريل- عليه السلام- في أثرها بالخبر،
فأتوا به النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقرأ الكتاب. فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، وأخبرهم بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم يريد الخروج إليهم، وذكر: أن محمدا يقصدكم، فخذوا حذركم وإنه أراد بالكتاب إليهم مودتهم، فقام إليه عمر- رضي الله عنه- وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ فقال: لا تعجل علي يا رسول الله. إني كنت ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكل من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهاليهم، فأردت أن أتخذ فيهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت هذا كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام. وقد علمت أن الله تعالى منجز وعده ما وعد، إلا نصر نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم. قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «دعوه إنه شهد بدرا، وما يذريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم»، فنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فسماهم مؤمنين لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ يعني: في العون والنصرة.
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ يعني: تكتبون وتبعثون إليهم بالصحيفة والنصيحة ويقال: معناه تخبرونهم كما يخبر الرجل أهل مودته، حيث توجهون إليهم بالكتاب والمودة والنصيحة.
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني: من القرآن والرسول. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ يعني: أخرجوكم من مكة. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ يعني: لأجل الإيمان بربكم يعني:
بوحدانية رَبِّكُمْ. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ يعني: لا تلقون إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي وطلب رضاي. وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ يعني: ما أسررتم وما أظهرتم، يعني: أسررتم من المودة لأهل الكفر وأعلنتم الإقرار بالتوحيد. وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ يعني: من يفعل منكم بعد هذا، فقد أخطأ قصد الطريق.
ثم قال عز وجل: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ، وهذا إخبار من الله تعالى للمؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم، لكيلا يميلوا إليهم، فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يعني: أن يظهروا عليكم ويقال: إن يأخذوكم ويقال: إن يقهروكم ويغلبوكم. يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً يعني: يتبين لكم أنهم
يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يعني: يفرق بينكم وبينهم يوم القيامة. قرأ عاصم يَفْصِلُ بنصب الياء وكسر الصاد مع التخفيف يعني: يفصل الله بينكم يوم القيامة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بضم الياء ونصب الصاد مع التخفيف، على معنى فعل ما لم يسم فاعله والمعنى مثل الأول وقرأ حمزة والكسائي: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بضم الياء وكسر الصاد مع التشديد يعني: يفصل الله بينكم والتشديد للتكثير وقرأ ابن عامر: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بضم الياء ونصب الصاد مع التشديد، على معنى فعل ما لم يسم فاعله والتشديد للتكثير ويقال الفصل هو القضاء، يعني: يقضي بينكم على هذا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني: عالم بأعمالكم.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٦]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)
قوله عز وجل: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ يعني: هلا فعلتم كما فعل إبراهيم، تبرأ من أبيه لأجل كفره؟ ويقال: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يعني: قدوة حسنة وسنة صالحة في إبراهيم فاقتدوا به. وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني: من كان مع إبراهيم من المؤمنين.
إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ أي: لمن كفر من قومهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ يعني: من دينكم، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ يعني: برآء مما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الآلهة. كَفَرْنا بِكُمْ يعني: تبرأنا منكم. قرأ عاصم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بضم الألف، والباقون بالكسر، وهما لغتان إسوة وأُسوة وهما بمعنى الاقتداء.
ثم قال: وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ يعني: حتى تصدقوا بالله وحده، فأعلم الله تعالى أن أصحاب إبراهيم تبرؤوا من قومهم، وعادوهم، لأجل
وقال بعضهم: هذا كله حكاية عن قول إبراهيم أنه دعا ربه بذلك، ويقال: هذا تعليم لحاطب بن أبي بلتعة هلاّ دعوت بهذا الدعاء، حتى ينجو أهلك، ولا يسلط عليهم عدوك. قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يعني: في إبراهيم وقومه في الاقتداء. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ يعني: لمن يخاف الله ويخاف البعث ويقال: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
ثواب الله وثواب يوم القيامة. وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني: يعرض عن الحق ويقال: يأبى عن أمر الله تعالى. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يعني: الغني عن عباده الحميد في فعاله.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠)
ثم قال عز وجل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ يعني: لعل الله أن يجعل بينكم وَبَيْنَ
، كفار مكة. مِنْهُمْ مَوَدَّةً وذلك أنه لما أخبرهم عن إبراهيم بعداوته مع أبيه، فأظهر المسلمون العداوة مع أرحامهم، فشق ذلك على بعضهم، فنزل عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يعني: صلة. قال مقاتل: فلما أسلم أهل مكة، خالطوهم وناكحوهم، فتزوج النبيّ صلّى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأسلمت وأسلم أبوها.
ويقال: يسلم منهم فيقع بينكم وبينهم مودة بالإسلام وهذا القول أصح، لأنه كان قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك. وَاللَّهُ قَدِيرٌ على المودة ويقال: قَدِيرٌ بقضائه وهو ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلم على أهل مكة. وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب منهم، رَحِيمٌ بهم بعد التوبة.
ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم، وهم خزاعة وبنو مدلج، فقال عز وجل: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ يعني: عن صلة الذين لم يقاتلوكم فى الدين، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ يعني: أن تصلوهم، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ يعني: تعدلوا معهم بوفاء عهدهم. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يعني: العادلين بوفاء العهد، يقال: أقسط الرجل، فهو مقسط إذا عدل. وقسط يسقط، فهو قاسط إذا جار.
ثم قال عز وجل: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ يعني: عن صلة الذين يقاتلوكم في الدين، وهم أهل مكة، ومن كان في مثل حالهم من أهل الحرب. وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ يعني: عاونوا على إخراجكم من دياركم. أَنْ تَوَلَّوْهُمْ يعني: أن تناصحوهم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ يعني: يناصحهم ويحبهم منكم، فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني: الكافرون الظالمون لأنفسهم.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية، وكتب بينه وبينهم كتاباً: «إِنَّ مَنْ لَحِقَ مِنَ المُسْلِمِينَ بِأَهْلِ مَكَّةَ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَحِقَ منهم بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم رَدَّهُ عَلَيْهِمْ». فجاءت امرأة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، اسمها سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فجاء زوجها في طلبها، فقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: ارْدُدْهَا فَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ شرطا. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنَّمَا كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ وَلَمْ يَكُنْ فِي النَّسَاءِ». فأنزل الله تعالى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ نصب على الحال فَامْتَحِنُوهُنَّ يعني: اختبروهن، ما أخرجكن من بيوتكن؟ فَامْتَحِنُوهُنَّ يعني: اسألوهن، ويقال: استخلفوهن ما خرجنا إلا حرصاً على الإسلام، ولم تكن لكراهية الزوج، ولا لغير ذلك اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ يعني:
أعلم بسرائرهن.
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ يعني: إذا ظهر عندكم إنها خرجت لأجل الإسلام، ولم يكن خروجها لعداوة وقعت بينها وبين زوجها، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ يعني: لا تردوهن إلى أزواجهن. لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ يعني: لا تحل مؤمنة لكافر، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ يعني: ولا نكاح كافر لمسلمة.
مهورهن، فرد المهر على الزوج الكافر منسوخ. وفي الآية دليل أن المرأة إذا خرجت من دار الحرب، بانت من زوجها. وفي الآية تأييد لقول أبي حنيفة: أنَّهُ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا. وفي أقوال أبي يوسف ومحمد: عليها العدة.
ثم قال: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. قرأ أبو عمرو وَلا تُمْسِكُوا بالتشديد، والباقون بالتخفيف. فمن قرأ بالتخفيف، فهو من أمسك يمسك، ومن قرأ بالتشديد فهو من مسك بالشيء يمسكه تمسيكاً، ومعناهما واحد، وهو أن المرأة إذا كفرت، ولحقت بدار الحرب، فقد زالت العصمة بينهما. فنهى أن يقبضها من بعد انقطاعها، وجاز له أن يتزوج أختها أو أربعاً سواها. وأصل العصمة الحبل، ومن أمسك بالشيء فقد عصمه. وقال: معناه لا ترغبوا فيهن ولا تعتدوا فيهن ويقال: لا تعتد بامرأتك الكافرة، فإنها ليست لك بامرأة. وكان للمسلمين نساء في دار الحرب، فتزوجن هناك. ثم قال: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ يعني: اسألوا من أزواجهن ما أنفقتم عليهن من المهر. وَلْيَسْئَلُوا منكم مَّا أَنْفَقُوا يعني: ما أعطوا من مهر المرأة التي أسلمت. وهذه الآية نسخت، إلا قوله: لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ثم قال: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعني: أمره ونهيه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يعني: يقضي بينكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
قوله عز وجل: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ يعني: إذا ارتدت امرأة
فَعاقَبْتُمْ وقراءة العامة فَعاقَبْتُمْ فذلك كله يرجع إلى معنى واحد يعني: إذا غلبتم العبد واعتصمتم، واصبتموهم في القتال. وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني: اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم.
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ يعني: مصدقين. ثم قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ يعني: النساء إذا أسلمن، فبايعهن عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، يعني: لا يعبدن غير الله.
وَلا يَسْرِقْنَ، يعني: لا يأخذن مال أحد بغير حق. وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ يعني:
ولا يقتلن بناتهن، كما قتلن في الجاهلية ويقال: لا يشربن دواءً، فيسقطن حملهن.
ثم اختلفوا في مبايعة النساء، وقال بعضهم: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثوباً وأخذ في الثوب، وقال بعضهم: كان يشيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويصافحهن عمر، وذكر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وفرغ من مبايعة الرجال، وهو على الصفا، وعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أسفل منه، فبايع النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن. فقالت هند، امرأة أبي سفيان: إنِّي قَدْ أصَبْتُ مِنْ مَالِ أبِي سُفْيَان، فَلاَ أدْرِي أَحَلاَلٌ أمْ لا؟ فقال أبو سفيان: نَعَمْ مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: عَفَا الله عَمَّا سَلَف.
وفي خبر آخر، أنها قالت: أرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يُعْطِنِي مَا يَكْفِينِي وَلِوَلَدي، هَلْ يَحِلُّ لِي أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَلِوَلَدِكِ بِالمَعْرُوفِ». ثم قال: وَلا يَزْنِينَ فلما قال ذلك، قالت هند: أَوَتَزْنِي الحُرَّةُ؟ فضحك عمر عند ذلك، ثم قال: تَعَالَيْ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ يعني: لا يقتلن بناتهن الصغار، فقالت هند: ربيناهم صغاراً أفنقتلهم كباراً؟ فتبسم النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يعني: لا تجيء بصبي من غير زوجها، فتقول للزوج: هو منك. فقالت هند: إنَّ البُهْتَانَ أَفْحَشُ وَمَا تَأْمُرْنَا إلاَّ بالرّشد.
ثم قال عز وجل: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: في طاعة مما أمر الله تعالى، ويقال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: فيما نهيتهن عن النوح وتمزيق الثياب، أو تخلو مع الأجنبي، أو نحو ذلك، فقالت هند: ما جَلَسْنَا هَذَا المَجْلِسِ وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيكَ فِي شَيْءٍ ثم قال فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ يعني: إذا بايعن على ذلك، فاسأل الله لهن المغفرة لما كان في الشرك. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لهن ما كان في الشرك رحيم فيما بقي.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأمر المسلمين، يتواصلون إليهم بذلك، فيصيبون من
ثم قال عز وجل: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال مقاتل: وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره، أتاه ملك شديد الانتهار، فيجلسه، ثم يسأله: من ربك، وما دينك، ومن رسولك؟ فيقول: لا أدري. فيقول الملك: أبعدك الله، انظر يا عدو الله إلى منزلك. فينظر إليه من النار، فيدعو بالويل والثبور، فيقول: هذا لك يا عدو الله. فيفتح له باب إلى الجنة، فيقول: هذا لمن آمن بالله تعالى، فلو كنت آمنت بربك نزلت الجنة. فيكون حسرة عليه، وينقطع رجاؤه منها. وعلم أنه أبعد له فيها، ويئس من خير الجنة، فذلك قوله تعالى: للكفار أهل الدنيا الأحياء منهم قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني: من خير الآخرة، لأنهم كذبوا بالثواب والعقاب، وهم آيسون من الجنة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، إذا عرف منازله ويقال: إن الكفار إذا مات منهم أحد، يئسوا من رجوعه، فيقال: قد يئس هؤلاء من الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور من رجوعهم ويقال: يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني:
هؤلاء الكفار كما يئس الكفار الذين كانوا قبلهم من الآخرة وهو اليوم من أصحاب القبور والله أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.