ﰡ
مدنية، وتسمى سورة النبي ﷺ وهي ثنتا عشرة آية [نزلت بعد الحجرات] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)روى أن رسول الله ﷺ خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي علىّ، وقد حرمت مارية على نفسي «١»، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان
أى منعنا لا غير، وقد يكون مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف وحلال محض، ولو كان على المنع ترك المباح والامتناع منه غير مباح استحالت حقيقة الحال بلا إشكال، فإذا علمت بون ما بين القسمين، فعلى القسم الثاني تحمل الآية، والتفسير الصحيح يعضده، فان النبي ﷺ حلف بالله لا أقرب مارية، ولما نزلت الآية كفر عن يمينه، ويدل عليه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وقال مالك في المدونة: عن زيد بن أسلم إنما كفر النبي ﷺ في تحريمه أم ولده، لأنه حلف أن لا يقربها. ومثله عن الشعبي، وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قيل له: لم تحرم ما أحل الله لك، رفقا به وشفقة عليه، وتنويها لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم: أن يراعى مرضات أزواجه بما يشق عليه، جريا على ما ألف من لطف الله تعالى بنبيه ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه ومن أجله خلقوا، ليظهر الله كمال نبوته بظهور نقصانهم عنه، والزمخشري قطعا لم يحمل التحريم على هذا الوجه، لأنه جعله زلة، فيلزمه أن يحمله على المحمل الأول، ومعاذ الله وحاش لله وإن آحاد المؤمنين يحاشى عن أن يعتقد تحريم ما أحل الله له، فكيف لا يربأ بمنصب النبي عليه السلام عما يرتفع عنه منصب عامة الأمة، وما هذه من الزمخشري إلا جراءة على الله ورسوله، وإطلاق القول من غير تحرير، وإبراز الرأى الفاسد بلا تخمير، نعوذ بالله من ذلك، وهو المسئول أن يجعل وسيلتنا إليه تعظيما لنبينا صلوات الله عليه، وأن يجنبنا خطوات للشيطان، ويقبلنا من عثرات اللسان، آمين.
(٢). أخرجه ابن إسحاق ومن طريقه ابن أبى خيثمة قال: أخبرنى بعض آل عمر قال «أصاب النبي ﷺ جاريته القبطية أم ابراهيم في بيت حفصة وفي يومها. فعثرت حفصة على ذلك. فقالت: يا رسول الله، لقد جئت أمرا ما جئته إلى أحد من نسائك في بيتي وعلى فراشي، وفي دولتى؟ قال: أيرضيك أن أحرمها فلا أمسها أبدا؟ قالت: نعم. فحرمها على نفسه. وقال لا تذكريه لأحد من الناس، وكانت حفصة لا تكتم عائشة شيئا، فلما خرجت ذهبت إلى عائشة فأخبرتها. فأنزل الله تعالى «يا أيها النبي لم تحرم، فكفر عن يمينه، وقرب جاريته» وقوله «وطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعة وعشرين ليلة في بيت مارية» : لم أر هذا. [.....]
(٣). لم أره هكذا، وهو عند الحاكم وغيره بغير ذكر سببه، وقال ابن سعد: أخبرنا زيد» وقال الحرث أخبرنا عفان قال: عن حماد عن أبى عمران الجونى عن قيس بن زيد أن رسول الله ﷺ طلق حفصة، فقال:
إن جبريل أتانى فقال لي: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة» وروى الحاكم من طريق الحسن بن أبى جعفر عن ثابت عن أنس نحوه وزاد تطليقة، والحسن ضعيف. واختلف عليه فيه، ورواه الطبراني والبزار من رواية الحسن المذكور عن عاصم عن عمار رضى الله عنه.
(٤). متفق عليه من حديث عمر بدون قوله «يكره التفل» فعندهما «وكان يشتد عليه أن يوجد منه الريح».
قليلا كتحليل الألىّ «٣»
فإن قلت: ما حكم تحريم الحلال؟ قلت: قد اختلف فيه، فأبو حنيفة براه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرّمه، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن «وكذلك إن نوى ثنتين وإن نوى ثلاثا فكما نوى، وإن قال: نويت الكذب ديّن فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال علىّ حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يمينا. ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهنّ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده. وعن أبى بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضى الله عنهم: أنّ الحرام يمين «٤» وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعى. وعن على رضى الله عنه: ثلاث «٥». وعن زيد: واحدة بائنة. وعن عثمان: ظهار.
(٢). أخرجه مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن أبى هريرة رضى الله عنه.
(٣). قوله «كتحليل الألى» في الصحاح «الالية» : اليمين على فعلية، وكذلك الألوة والألوة، فأما الألوة بالتشديد:
فهو العود الذي يتبخر به اه، فالألى في كلام ذى الرمة جمع الألوة بالتخفيف «كالمدية والمدى، والخطوة والخطى. (ع)
(٤). حديث أبى بكر رضى الله عنه أخرجه ابن أبى شيبة من رواية جويبر عن الضحاك: أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا: من قال لامرأته: هي على حرام، فليست بحرام وعليه كفارة يمين. وإسناده ضعيف ومنقطع. وحديث عمر رضى الله عنه مثله، وله طريق أخرى أخرجها ابن أبى شيبة أيضا من رواية خالد الحذاء عن عكرمة عنه قال «الحرام يمين» وهذا منقطع وحديث ابن عباس رضى الله عنهما مثله متفق عليه من رواية ابن جبير عنه قال: الحرام يمين يكفرها.
وفي رواية لمسلم «إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها». وحديث ابن مسعود مثله، وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق من طريق الطبراني عن ابن عقبة عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عنه، قال: في الحرام يمين يكفرها. ورجاله ثقات مع انقطاعه. وحديث زيد بن ثابت رضى الله عنه مثله.
(٥). أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن على في قول الرجل لامرأته:
أنت على حرام، هي ثلاث. وهذا منقطع أيضا.
والله لا أقربها بعد اليوم، فقيل له: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أى لم تمتنع منه بسبب اليمين، يعنى: أقدم على ما حلفت عليه، وكفر عن يمينك. ونحوه قوله تعالى وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أى، منعناه منها. وظاهر قوله تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أنه كانت منه يمين.
فإن قلت: هل كفر رسول الله ﷺ لذلك؟ قلت: عن الحسن: أنه لم يكفر، لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر «١»، وإنما هو تعليم للمؤمنين. وعن مقاتل: أنّ رسول الله ﷺ أعتق رقبة في تحريم مارية وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ سيدكم ومتولى أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم فيشرعه لكم الْحَكِيمُ فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة. وقيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم.
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٣]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣)
بَعْضِ أَزْواجِهِ حفصة. والحديث الذي أسر إليها: حديث مارية وإمامة الشيخين نبأت به أفشته إلى عائشة. وقرئ: أنبأت به وَأَظْهَرَهُ وأطلع النبي عليه السلام عَلَيْهِ على الحديث، أى: على إفشائه على لسان جبريل. وقيل: أظهر الله الحديث على النبي ﷺ من الظهور عَرَّفَ بَعْضَهُ أعلم ببعض الحديث تكرما. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام. وقرئ: عرف بعضه، أى: جاز عليه، من قولك للمسىء: لأعرفن لك ذلك، وقد عرفت ما صنعت. ومنه: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم، وهو كثير في القرآن، وكان جزاؤه تطليقه إياها. وقيل: المعرف: حديث الإمامة، والمعرض عنه: حديث مارية: وروى
قال: فأمر أن يكفر عن يمينه، وكذا ذكره ابن اسحق كما تقدم أنه كفر عن يمينه.
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٤]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
إِنْ تَتُوبا خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات، ليكون أبلغ في معاتبتهما.
وعن ابن عباس: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عنهما حتى حج وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة، فسكبت الماء على يده فتوضأ، فقلت: من هما؟ فقال:
عجبا يا ابن عباس- كأنه كره ما سألته عنه- ثم قال: هما حفصة وعائشة «١» فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله ﷺ من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه. وقرأ ابن مسعود: فقد زاغت وَإِنْ تَظاهَرا وإن تعاونا عَلَيْهِ بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره، فلن يعدم هو من يظاهره، وكيف يعلم المظاهر من الله مولاه أى وليه وناصره، وزيادة هُوَ إيذان بأن نصرته عزيمة من عزائمه، وأنه يتولى ذلك بذاته وَجِبْرِيلُ رأس الكروبيين، وقرن ذكره بذكره مفردا له من بين الملائكة تعظيما له وإظهارا لمكانته عنده وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ومن صلح من المؤمنين، يعنى: كل من آمن وعمل صالحا. وعن سعيد بن جبير: من بريء منهم من النفاق. وقيل: الأنبياء وقيل: الصحابة. وقيل: الخلفاء منهم. فإن قلت: صالح المؤمنين واحد أم جمع؟ قلت: هو واحد أريد به الجمع، كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس، تريد الجنس، كقولك: لا يفعله من صلح منهم. ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر. ويجوز أن يكون أصله: صالحوا المؤمنين بالواو، فكتب بغير واو على اللفظ، لأنّ لفظ الواحد والجمع واحد فيه، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط وَالْمَلائِكَةُ على تكاثر عددهم، وامتلاء السماوات من جموعهم بَعْدَ ذلِكَ بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين ظَهِيرٌ فوج مظاهر له، كأنهم يد واحدة على من يعاديه، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٥]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)
قرئ: يبدله، بالتخفيف والتشديد للكثرة مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ مقرّات مخلصات سائِحاتٍ صائمات. وقرئ: سيحات، وهي أبلغ. وقيل للصائم: سائح، لأنّ السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره. وقيل:
سائحات مهاجرات، وعن زيد بن أسلم: لم تكن في هذه الأمّة سياحة إلا الهجرة. فإن قلت:
كيف تكون المبدلات خيرا منهن، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمّهات المؤمنين؟ «٢» قلت: إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه، لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله ﷺ والنزول على هواه ورضاه خيرا منهن، وقد عرض بذلك في قوله قانِتاتٍ لأنّ القنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله. فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف «٣» ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن «٤» في سائر الصفات،
(٢). قوله «نساء خير من أمهات المؤمنين» لعله خيرا. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت لم أخليت هذه الصفات من العاطف... الخ» قال أحمد: وقد ذكر لي الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله: أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب رحمه الله كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية، لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة، فكان الفاضل يتبجج باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة صلة، أحدها التي في الصفة الثامنة من قوله التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ عند قوله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ والثانية في قوله وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ والثالثة في قوله وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب: ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكره يوما بحضرة أبى الجود النحوي المقري فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل، وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بها هاهنا، لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد، وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا للاشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة، فأنصفه الفاضل رحمه الله، واستحسن ذلك منه وقال: أرشدنا يا أبا الجود.
(٤). قوله «لا يجتمعن فيهما اجتماعهن» لعل فيه قلبا، والأصل: لا يجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات فيهن. (ع)
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٦ الى ٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)
قُوا أَنْفُسَكُمْ بترك المعاصي وفعل الطاعات وَأَهْلِيكُمْ بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم. وفي الحديث «رحم الله رجلا قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة» «١» وقيل: إنّ أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله. وقرئ: وأهلوكم «٢»، عطفا على واو قُوا وحسن العطف للفاصل. فإن قلت: أليس التقدير: قوا أنفسكم، وليق أهلوكم أنفسهم؟ قلت: لا، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، وأنفسكم واقع بعده، فكأنه قيل: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه، فجعلت ضميرهما معا على لفظ المخاطب ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ نوعا من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة، كما يتقد غيرها من النيران بالحطب. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي حجارة الكبريت، وهي أشدّ الأشياء حرا إذا أو قد عليها. وقرئ: وقودها بالضم، أى ذو وقودها عَلَيْها يلي أمرها وتعذيب أهلها مَلائِكَةٌ يعنى الزبانية التسعة عشر وأعوانهم غِلاظٌ شِدادٌ في أجرامهم غلظة وشدّة، أى: جفاء وقوّة. أو في أفعالهم جفاء وخشونة، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه ما أَمَرَهُمْ في محل النصب على البدل، أى: لا يعصون ما أمر الله. أى: أمره، كقوله تعالى أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي أو لا يعصونه فيما أمرهم. فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا، فإنّ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها. ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون
(٢). قال محمود في قوله تعالى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً: قرئ وأهلوكم. قال أحمد: ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، وأنفسكم واقع بعده، كأنه قال: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم، ولكن لما اجتمع ضمير المخاطب والغائبين: غلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة. ثم قال: فان قلت قوله لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أليس الجملتان في معنى واحد؟ وأجاب بأن معنى الأولى أنهم يلتزمون الأوامر ولا يأتونها... الخ» قال أحمد:
جوابه الأول مفرع على قاعدته الفاسدة في اعتقاد خلود الفساق في جهنم، ولعله إنما أورد السؤال ليتكلف عنه بجواب ينفس عما في نفسه مما لا يطيق كتمانه من هذا الباطل نعوذ بالله منه، وإلا فالسؤال غير وارد، فانه لا يمتنع أن المؤمن يحذر من عذاب الكافر أن يناله على الإيمان، كقوله في آل عمران خطابا للمؤمنين وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة. ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد، والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطابا للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، ويعضد ذلك قوله تعالى على أثره يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى: يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا، لأنه لا عذر لكم. أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار.
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
تَوْبَةً نَصُوحاً وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازى، والنصح: صفة التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ماحية للسيئات، وذلك: أن يتوبوا عن القبائح لقبحها، نادمين عليها، مغتمين أشدّ الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع، موطنين أنفسهم على ذلك.
وعن على رضى الله تعالى عنه: أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، فقال: يا هذا، إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين. قال: وما التوبة؟ قال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب: الندامة، وللفرائض: الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله، كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي. وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه. وعن شهر بن حوشب: أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار. وعن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك. وقيل: توبة لا يتاب منها. وعن السدى: لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقيل: نصوحا من نصاحة الثوب، أى: توبة ترفو
نصوحا بالضم، وهو مصدر نصح. والنصح والنصوح، كالشكر والشكور، والكفر والكفور أى: ذات نصوح. أو تنصح نصوحا. أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له عَسى رَبُّكُمْ
إطماع من الله لعباده، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل. ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. والثاني: أن يجيء به تعليما العباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء، والذي يدل على المعنى الأول وأنه في معنى البت:
قراءة ابن أبى عبلة: ويدخلكم بالجزم، عطفا على محل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ كأنه قيل: توبوا يوجب لكم تكفير سيئاتكم ويدخلكم يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ نصب بيدخلكم، ولا يخزى:
تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق، واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم يَسْعى نُورُهُمْ على الصراط أَتْمِمْ لَنا نُورَنا قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقا. وعن الحسن: الله متممه لهم ولكنهم يدعون تقربا إلى الله، كقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو مغفور له. وقيل: يقوله أدناهم منزلة، لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون به مواطئ أقدامهم، لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلا.
وقيل: السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم حبوا وزحفا، فأولئك الذين يقولون رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا فإن قلت: كيف يشفقون والمؤمنون آمنون، أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أو كيف «٢» يتقربون وليست الدار دار تقرّب؟ قلت: أما الإشفاق فيجوز أن يكون على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن. وأما التقرّب فلما كانت حالهم كحال المتقربين حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة: سماه تقرّبا.
[سورة التحريم (٦٦) : آية ٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالاحتجاج، واستعمل الغلظة والخشونة على
(٢). قوله «أو كيف» لعله: وكيف. (ع)
[سورة التحريم (٦٦) : آية ١٠]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)
مثل الله عز وجل حال الكفار- في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم «١» من غير إبقاء ولا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر، لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا من أنبياء الله- بحال امرأة نوح وامرأة لوط: لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء مّا من عذاب الله وَقِيلَ لهما عند موتهما أو يوم القيامة:
ادْخُلَا النَّارَ مَعَ سائر الدَّاخِلِينَ الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء. أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط. ومثل حال المؤمنين- في أنّ وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله- بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أنّ قومها كانوا كفارا. وفي طىّ هذين التمثيلين تعريض بأمّى المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله ﷺ «٢» بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما في التمثيل من ذكر الكفر. ونحوه في التغليظ قوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بحفصة أرجح، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله، وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن نبصره.
(٢). قوله «على التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم» لعله من التظاهر، كعبارة النسفي. (ع)
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
وامرأة فرعون:: آسية بنت مزاحم. وقيل: هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى الإفك، فعذبها فرعون. عن أبى هريرة: أن فرعون وتد امرأته بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وأضجعها على ظهرها، ووضع رحى على صدرها. وقيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله فرقى بروحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه.
وعن الحسن: فنجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها. وقيل:
لما قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة: أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل: إنه من درة.
وقيل: كانت تعذب في الشمس فتظلها الملائكة. فإن قلت: ما معنى الجمع بين عندك وفي الجنة؟ قلت طلبت القرب من رحمة الله والبعد من عذاب أعدائه، ثم بينت مكان القرب بقولها فِي الْجَنَّةِ أو أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب إلى العرش وهي جنات المأوى، فعبرت عن القرب إلى العرش بقولها عِنْدَكَ.
مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ من عمل فرعون. أو من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم، وخصوصا
فما كلمات الله وكتبه؟ قلت: يجوز أن يراد بكلماته: صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، سماها كلمات لقصرها «١»، وبكتبه: الكتب الأربعة «٢»، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم، وجميع ما كتبه في اللوح وغيره. وقرئ: بكلمة الله وكتابه. أى: بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل. فإن قلت: لم قيل مِنَ الْقانِتِينَ على التذكير؟ قلت: لأنّ القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين، فغلب ذكوره على إناثه. ومِنْ للتبعيض. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين، لأنها من أعقاب هرون أخى موسى صلوات الله عليهما.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد.
وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» «٣» وأما ما روى أنّ عائشة سألت
(٢). قوله «وبكتبه الكتب الأربعة» لعلها علمت بالإنجيل والقرآن نزولهما. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن عمرو بن مرة سمع مرة عن أبى موسى بهذا.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن مرة من هذا الوجه. قال: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا يوسف القاضي حدثنا عمرو بن مرزوق بهذا. وهو في البخاري من رواية مرة عن أبى موسى دون ذكر خديجة وفاطمة رضى الله عنهما. وفي ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس رضى الله عنهما رفعه «أفضل نساء العالمين أربع... فذكره».