تفسير سورة التوبة

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .
سورة التوبة
٩٤ - قال اِلة تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم وأحمد عن النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنتُ عند منبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رجل: ما أُبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أَسقي الحاج. وقال آخر: ما أُبالي أن لا أَعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل اللَّه أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يوم الجمعة. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.. ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وغيره معه عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي، وابن عاشور.
581
قال الطبري: (أجعلتم أيها القوم سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون هؤلاء وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما، لأن اللَّه تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملاً، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يوفق لصالح الأعمال من كان به كافراً ولتوحيده جاحداً. إلى أن قال: الذين آمنوا باللَّه: صدقوا بتوحيده من المشركين وهاجروا دور قومهم وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده، من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم باللَّه مشركون) اهـ.
وقال السعدي: الما اختلف بعض المسلمين، أو بعض المسلمين وبعض المشركين في تفضيل عمارة المسجد الحرام بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج على الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله أخبر الله تعالى بالتفاوت بينهما فذكر كلامًا إلى أن قال: فالجهاد والإيمان باللَّه، أفضل من سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال.
وأما الجهاد في سبيل اللَّه فهو ذروة سنام الدين، وبه يحفظ الدين الإسلامي ويتسع وينصر الحق ويخذل الباطل.
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فهي وإن كانت أعمالاً صالحةً فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد نلذلك قال: (لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) اهـ محل الشاهد.
وقال ابن عاشور: (وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري والواحدي عن النعمان بن بشير... ثم ساق الحديث الذي معنا) اهـ.
وقد قال القرطبي المحدث: (أما حديث النعمان هذا فمشكل على مساق الآية فإنه يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال، وحينئذٍ لا يصلح أن يكون قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ... ) إلى قوله: (لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) نزل جواباً لذلك، فإن أولئك المسلمين لم
582
يختلفوا في أن الإيمان مع الجهاد أفضل من مجرد السقاية والعمارة وإنما اختلفوا في أي الأعمال أفضل بعد الإسلام وقد نصّوا على ذلك في الحديث وأيضاً: فلا يليق أن يقال لهم في هذا الذي اختلفوا فيه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وأيضاً: فإن الآيات التي قبل هذه الآية من قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ.. ) تدل على أن الخطاب مع المشركين فتعين الإشكال، فلينظر في التخلص منه، ويمكن أن يتخلص منه بأن يقال: إن بعض الرواة تسامح في قوله: فأنزل اللَّه الآية وإِنَّمَا قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر الآية حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذٍ وإِنَّمَا استدل بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر فاستفتى لهم فتلا عليه ما كان قد أُنزل عليه في المشركين لا أنها نزلت في هؤلاء) اهـ.
وقد نقل القرطبي المفسر عنه الحجة الأولى وجوابه الذي ذكره، وقد سبقهما إلى هذا الطبري كما يفهم من كلامه، لكنه لم يذكر حجةً وسأتناول حجج القرطبي بالمناقشة:
أما حجته الأولى: فخلاصتها أن المسلمين اختلفوا في الأفضل بعد الإسلام، أما الآية فلا تتفق مع اختلافهم على حد قوله؛ لأنها جردت السقاية والعمارة من الإيمان وقرنت الجهاد بالإيمان، إذن فالإشكال والجواب مختلفان.
والجواب: أن الجهاد لا يُتصور بدون الإيمان، فكيف يجاهد من لم يؤمن، وأما العمارة والسقاية فتقعان بدون الإيمان والدليل وجودهما في الواقع على عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعدم ذكر الإيمان مع السقاية والعمارة في الآية ليس ذكرًا للعدم، وإِنَّمَا حكايةً للواقع والممكن.
أما حجته الثانية: فلأن الله ختم الآية بقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهذا لا يناسب المتحدثين.
فالجواب: وما يدريك فلعل الله اطلع على قلوب أولئك فعلم من بعضهم ميلاً إلى السقاية والعمارة مع الرغبة في الدعة والسلامة لا أنه كان يخفى عليهم
583
جميعاً شأن الجهاد وقد قال اللَّه تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤).
وهذه الآية لم يفصل بينها وبين الآيات التي معنا إلا آيةً واحدة ليست منها بل هي منفصلة.
أَوَليس بعض الصحابة قد هموا بالإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الجهاد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نُهوا أن يُلقوا بأيديهم إلى التهلكة؟
ثم أليس من الخطأ التسويةُ بين مجاهد يبذل نفسه ومهجته وماله لِلَّهِ لا يدري هل يرجع من ذلك بشيء، وبين مقيم بين أهله يعمر ويسقي لا يخاف شيئاً من ذلك؟
أما حجته الثالثة: فقال إن سياق الآيات في المشركين.
والجواب: أن سياق الآيات كلها في المؤمنين باستثناء قوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ)، فكيف يقال إن السياق في المشركين.
ثم إن سورة التوبة من آخر القرآن نزولاً في المدينة فكيف اختلفوا مع المسلمين؟ وأين كان هذا؟
وأيضاً فإن الله قال: (أَجَعَلْتُمْ) فهل يعهد في القرآن أن يخاطب اللَّه المشركين على هذا النحو لأن الأمر حسبما ذكره المفسرون أن المشركين هم الذين افتخروا بالسقاية والعمارة، والمؤمنين بالإيمان والجهاد، فمقتضى هذا أن يتوجه الخطاب للمشركين.
ثم هل للمشركين قدر أو قيمة يستحقون بها العناية الإلهية ببيان الفاضل من المفضول لهم؟
وأيضاً قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)، ألا يدل أفعل التفضيل على وجود مفضل ومفضل عليه، فالمفضل المؤمن المجاهد، والمفضل عليه المؤمن الذي يعمر ويسقي، ولو كان المفضل عليه مشركاً لم يكن فيه أدنى فضل.
584
وليس إشكالنا مع القرطبي أن بعض الرواة قد وهم فبدلاً من أن يقول: فقرأ قال: فأنزل، فهذا أمر ممكن وقد سلكتُ هذا المسلك في البحث أحياناً لكن عند وجود القرائن والدلائل عليه.
ثم هنا لنا أن نسأل ونقول أين إسنادكم على ما ذكرتم، وإن كان فهل ينهض ويقارب إسناد مسلم أو يماثله؟
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة الحديث الذي رواه النعمان بن بشير لصحة إسناده وتصريحه بالنزول، واتفاقه مع لفظ الآية وسياق القرآن، والنظر الصحيح واللَّه أعلم.
* * * * *
585
٩٥ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذَة، فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قال: معاوية نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت، فكنت قريبًا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشياً لسمعت وأطعت.
586
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في تفسير هذه الآية الكريمة ولم أرَ من العلماء من صرّح بأن للآية قصةَ نزلت بسببها، لكن أورد المفسرون هذا الحديث عند تفسيرهم للآية الكريمة منهم الطبري وابن العربي، وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور) اهـ.
أما شأن الصواب بين أبي ذر ومعاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم أرَ أحداً قصر الآية على أهل الكتاب كما فعل معاوية، وأكثر العلماء على عمومها في أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين.
قال ابن العربي: (المدرك الثاني - أن الآية عامة في أهل الكتاب وغيرهم) اهـ.
وقال القرطبي: (وقال أبو ذر وغيره المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين، وهو الصحيح لِأنه لو أراد أهل الكتاب خاصةَ لقال: ويكنزون، بغير والذين. فلما قال (الَّذِينَ) فقد استأنف معنَى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة) اهـ.
وقال السعدي: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أي يمسكونها ولا ينفقونها في سبيل اللَّه، أي: طرق الخير الموصلة إلى اللَّه، وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة كأن يمنع منها الزكاة، أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل اللَّه إذا وجبت) اهـ.
وقال الشنقيطي: (وقال بعض العلماء هي في خصوص أهل الكتاب بدليل اقترانها مع قوله: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ).
فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة، وأنها في من لا يؤدي الزكاة، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة) اهـ.
587
وذهب ابن عاشور إلى أن الآية عنت جيش العسرة في غزوة تبوك حتى قال: (وقد ورد في السيرة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل اللَّه، وقد أنفق عثمان بن عفان ألف دينار ذهباً على جيش غزوة تبوك، وحمل كثيرٌ من أهل الغنى، فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية ب (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ولا شك أنهم من المنافقين) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية لعدم وجود ما يدل على ذلك من نصه أو من سياق الآيات، فقوله: نزلت فينا وفيهم، مراده أن الآية بسياقها تناولت هؤلاء وهؤلاء، لا أنها نزلت بسبب حدث من أحد الفريقين. والله أعلم.
* * * * *
588
٩٦ - قال الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والنَّسَائِي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم، جاء عبد اللَّه بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول اللَّه، فقال: (ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل) قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه قال: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِئة، ينظر في قُذَذِهِ فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَصْلِهِ فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رِصَافِهِ فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نَضِيّهِ فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم، آيَتُهم رجل إحدى يديه، أو قال: ثدييه،
589
مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة تدَرْدَرُ، يخرجون على حين فرقة من الناس).
قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فنزلت فيه: وَمِنهُم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال البغوي: (نزلت في ذي الخويصرة التميمي واسمه حرقوص بن زهير، أصل الخوارج) اهـ.
* فائدة:
سبب قول الرجل ما قال أنه لم يُعط من تلك القسمة فغضب من ذلك قال السعدي: (ومن هؤلاء المنافقين من يعيبك في قسمة الصدقات، وينتقد عليك فيها وليس انتقادهم فيها وعيبهم، لقصد صحيح، ولا لرأي رجيح، وإنما مقصودهم أن يعطوا منها: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) اهـ.
590
وقال ابن عاشور: (عرف المنافقون بالشح، ومن شحهم أنهم يودون أن الصدقات توزع عليهم، فإذا رأوها توزع على غيرهم، طعنوا في إعطائها بمطاعن يلقونها في أحاديثهم ويظهرون أنهم يغارون على مستحقيها، ويشمئزون من صرفها في غير أهلها، وإنما يرومون بذلك أن تقصر عليهم). اهـ بتصرف يسير.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة إسناده، وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
591
٩٧ - قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن أبي مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما أُمرنا بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن اللَّه لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاءً فنزلت: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ.. ) الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد الحديث الطبري والقرطبي وابن كثير في سبب نزولها وذكروا معه غيره.
وساق البغوي وابن عطية وابن عاشور أحاديث مشابهة. قال الطبري: (يقول اللَّه تعالى ذكره: الذين يلمزون المطوعين في الصدقة
592
على أهل المسكنة والحاجة، بما لم يوجبه اللَّه عليهم في أموالهم، ويطعنون فيها عليهم بقولهم: إنما تصدقوا به رياءً وسمعة، ولم يريدوا وجه اللَّه، ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا جهدهم وذلك طاقتهم، فينتقصونهم ويقولون: لقد كان اللَّه عن صدقة هؤلاء غنيًا، سخرية منهم بهم... إلى أن قال: وذكر أن المعنيّ بقوله: (الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي الأنصاري، وأن المعني بقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف) اهـ.
قال ابن كثير: (وهذا أيضاً من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا هذا مراءٍ، وإن جاء بشيء يسير قالوا إن اللَّه لغني عن صدقة هذا كما روى البخاري... ثم ساق الحديث) اهـ.
وقال البغوي: (قال أهل التفسير: حث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: يا رسول اللَّه مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل اللَّه، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بارك اللَّه لك فيما أعطيتَ وفيما أمسكتَ) فبارك اللَّه في ماله حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم، وتصدق يومئذٍ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحبحاب بصاعٍ من تمر، وقال: يا رسول اللَّه بتُّ ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلتُ صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينثره في الصدقة، فلمزهم المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياءً، وإن كان الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكنه أراد أن يذكر فيمن أعطى الصدقة فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) اهـ.
قال ابن عطية: (وأما المتصدق بكثير الذي كان سببًا للآية فأكثر الروايات أنه عبد الرحمن بن عوف ثم ساق الحديث إلى أن قال: وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي فذكر الحديث إلى آخره) اهـ.
وقال ابن عاشور: (نزلت بسبب حادث حدث في مدة نزول السورة:
593
ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف... فذكره) اهـ.
وقال السعدي: (وهذا أيضاً من مخازي المنافقين فكانوا - قبحهم الله - لا يدعون شيئاً من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالاً، إلا قالوا وطعنوا بغياً وعدواناً، فلما حث الله ورسوله على الصدقة، بادر المسلمون إلى ذلك، وبذلوا من أموالهم، كلٌّ على حسب حاله، منهم المكثر ومنهم المقل، فيلمزون المكثر منهم، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة وقالوا للمقل الفقير: إن الله غني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) اهـ.
وهذه الأقوال المتقدمة للعلماء لا اختلاف بينها ولا تباين فمن ساق حديث أبي مسعود فقد أغفل ذكر الأسماء، ومن ساق حديث عبد الرحمن بن عوف فقد زاد على حديث أبي مسعود تفصيلاً وذكراً للأسماء وإلا فالحديثان يصبان في نهر واحد، ولعل البسط في حديث عبد الرحمن هو الذي حدا بعض العلماء إلى ذكره والنص عليه.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما جاء في قصة أبي عقيل ومن معه حين تصدقوا فعابهم المنافقون على صدقاتهم وذلك لصحة سنده، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به وتصريحه بالنزول والله أعلم.
* * * * *
594
٩٨ - قال الله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لما مات عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، دعي له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليُصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثبتُ إليه، فقلت: يا رسول اللَّه، أَتصلي على ابن أُبي، وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ أُعَدِّدُ عليه قولَه، فتبسم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: (أَخِّرْ عني يا عمر). فلما أكثرتُ عليه، قال: (إني خُيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها)، قال: فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) إلى قوله: (وَهُمْ فَاسِقُونَ). قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذٍ، واللَّه ورسوله أعلم.
وأخرجه البخاري، وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
595
وأخرج ابن ماجه من حديث جابر - رضي الله عنه- نحوه.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول جل ثناؤه لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تصل يا محمد على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبداً ولا تتول دفنه وتقبره إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله، وماتوا وهم خارجون من الإسلام، مفارقون أمر الله ونهيه وقد ذكر أن هذه الآية نزلت حين صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عبد الله بن أبي) اهـ بتصرف يسير.
وقال ابن العربي: (المسألة الأولى في سبب نزولها:
ثبت في الصحاح والمصنفات حديث عبد الله بن عبَّاسٍ وغيره قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفي عبد اللَّه بن أبي دعي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة عليه. فذكر الحديث) اهـ.
وقال ابن عطية: (هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول وصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر كلامًا إلى أن قال: وتظاهرت الروايات أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك). اهـ.
وقال القرطبي: (روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبد اللَّه بن أبي ابن
596
سلول، وصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه. ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، وتظاهرت الروايات بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك) اهـ.
وقال ابن كثير: (أمر اللَّه تعالى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا باللَّه ورسوله وماتوا عليه، وهذا حكم عام في كل من عرف مقامَه وإن كان سبب نزول الآية في عبد اللَّه بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري ثم ساق الحديث) اهـ.
وبناءً على ما تقدم فإنه لا خلاف بين المفسرين أن قصة عبد اللَّه بن أبي ابن سلول وصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه هي سبب نزول الآيات الكريمة.
* تنبيه:
جاء في بعض ألفاظ الحديث من طريق ابن عمر قول عمر: أليس اللَّه قد نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فكيف قال عمر ذلك له مع أن قوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) كان بعد الصلاة عليه؟.
أجاب الحافظ ابن حجر: (محصل الجواب أن عمر فهم من قوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، منع الصلاة عليهم، فأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا منع، وأن الرجاء لم ينقطع بعد) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآيات الكريمة صلاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رأس المنافقين وذلك لصحة سنده، وموافقته للفظ الآية، وتعويل المفسرين عليه وتصريحه بالنزول واللَّه أعلم.
* * * * *
597
٩٩ - قال الله تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم: أنه لم يتخلف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة غزاها قط غير غزوتين: غزوة العسرة، وغزوة بدر، قال: فأجمعت صدق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى، وكان قلما يقدم من سفر سافره إلا ضحى، وكان يبدأ بالمسجد، فيركع ركعتين، ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا، فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر، وما من شيء أهم إليَّ من أن أموت فلا يصلي عليَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يموت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكونَ من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليَّ، فأنزل اللَّه توبتنا على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني، معنيةً في أمري، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا أم سلمة، تيب على كعب). قالت: أفلا أُرسل إليه فأُبشرَه، قال: (إذاً يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة). حتى إذا صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر
598
آذن بتوبة اللَّه علينا، وكان إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر، وكنا أيها الثلاثة الذين خُلِّفوا عن الأمر الذي قُبل من هؤلاء الذين اعتذروا، حين أنزل الله لنا التوبة، فلما ذكر الذين كذبوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المتخلفين واعتذروا بالباطل، ذُكروا بشرّ ما ذكر به أحد، قال الله سبحانه: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة ولم أجد حديث كعب الذي معنا إلا عند الطبري، أما سائر المفسرين فحديثهم عن سبب نزول الآية ليس جليًا.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: يعتذر إليكم أيها المؤمنون باللَّه هؤلاء المتخلفون خلاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التاركين جهاد المشركين معكم من المنافقين بالأباطيل والكذب إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم.
ثم ذكر عند قوله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ): يقول تعالى ذكره: سيحلف أيها المؤمنون باللَّه لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللَّه إذا انصرفتم إليهم من غزوكم فدعوا تأنيبهم وخلوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق) اهـ بتصرف يسير.
وقال البغوي: (يُروى أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعةً وثمانين نفرًا فلما رجع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاؤوا يعتذرون بالباطل قال اللَّه: (قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ).
599
وقال في قوله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) إذا انصرفتم إليهم من غزوكم) اهـ.
وقال ابن عطية: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) هذه المخاطبة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشُرك معه المسلمون في بعض لأن المنافقين كانوا يعتذرون أيضاً إلى المؤمنين، ولأن أنباء اللَّه أيضاً تحصل للمؤمنين.
وقوله: (رَجَعْتُم) يريد من غزوة تبوك.
وقال في قوله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ): قيل إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك) اهـ.
وقال القرطبي: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي من تبوك) اهـ.
وقال السعدي: (لما ذكر تخلف المنافقين الأغنياء، وأنهم لا عذر لهم أخبر أنهم سوف يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم من غزاتكم، قل لهم لا تعتذروا لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب، قد نبأنا اللَّه من أخباركم وهو الصادق في قيله، فلم يبق للاعتذار فائدة لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر اللَّه عنهم. ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللَّه الذي هو أعلى مراتب الصدق) اهـ.
وقال ابن عاشور: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) عائد إلى أقرب معاد وهو قوله: (وَقَعَدَ الَّذِينَ كذَبوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فإنهم فريق من المنافقين، فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك.
وقال في قوله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) هذا إخبار بما سيلاقي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو) اهـ.
فأقوال المفسرين المتقدمة قد نصت بوضوح على أن اعتذارهم كان بعد رجوع المسلمين إليهم من غزوة تبوك.
وزاد ابن عاشور على ذلك أن حدد زمن النزول بأنه قبل الحلف وبعد رجوع المسلمين من الغزو.
لأنه قال: قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو.
600
فقوله: بعد رجوع المسلمين من الغزو هذا يوافق اختيار المفسرين وما ذهبوا إليه لقوله تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ).
وقوله: قبل وقوعه يؤيده سياق الآيات فإن الآيات تتحدث عن المستقبل (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. ) وقوله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ).
فإن قيل: ألا يعكّر على هذا ما روى الشيخان عن كعب بن مالك قال: وأصبح رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللَّه.
وجه ذلك: أن اللَّه أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعراض عنهم ونهاه عن تصديقهم وإذا كان الأمر كذلك فكيف قبل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى اللَّه.
والجواب: أن هذا لا يعكّر لأن قبول علانيتهم، وترك سرائرهم إلى اللَّه لا يعني عدم الإعراض بل هو من الإعراض، ولهذا لما كلمه كعب في شأن خلفه قال: (أما هذا فقد صدق) وهذا يدل على عدم تصديقه للمنافقين. ومما يؤكد هذا اختلاف معاملته للفريقين.
وأيضاً: كيف كان النزول قبل الاعتذار والحلف، وبعد الرجوع من الغزو؟ فإن حديث كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نص في أنه قدم من السفر فبدأ بالمسجد فلما جلس للناس جاءه المخلفون. فالزمن بين الرجوع والجلوس للناس قصير حسبما يدل عليه السياق، ولهذا لم يُشر أحد فيما أعلم إلى هذا النزول في ذلك الوقت إلا ابن عاشور.
601
وربما يكون مراده بقوله: (بعد رجوع المسلمين من الغزو) أي عندما شرعوا في ابتداء الرجوع أو عندما اقتربوا من المدينة، وعلى هذا ففي الزمن متسع، وحينئذٍ ينتفي الإشكال.
وبناءً على ما قاله ابن عاشور وهو أن نزول الآيات سبق حدوث السبب، وهو الاعتذار والحلف، فإنه لا يقال حينئذٍ إن اعتذارهم سبب لنزول الآية الكريمة كما هو معلوم.
وعندي أن القسمة في تلك المسألة لا تخرج عن واحد من ثلاثة:
الأول: أن الآيات نزلت قبل اعتذارهم.
الثاني: أن الآيات نزلت بعد اعتذارهم مباشرة.
الثالث: أن الآيات نزلت بعد اعتذارهم بمدة.
فأما الأول: فيترتب عليه انتفاء القول بالسببية لأن الآية إذا سبقت الحدث فإنه لا يكون سبباً لها.
وأما الثاني: فيعكر عليه سياق الآيات وحديثها عن المستقبل، والسين الداخلة على يحلفون فإنها للتنفيس والمهلة.
ويؤيد هذا أن الحديث خلا من ذكر النزول بعد اعتذارهم مباشرة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحدث كهذا حري بالحفظ والضبط لو كان قد وقع.
وأما الثالث: فيرد عليه ما يرد على الثاني من الحديث عن الاستقبال، ولولا سين التنفيس لأمكن الخلاص من الاستقبال هنا بمثل قوله تعالى: (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)، أي فريقاً قتلتم، وفريقاً أسرتم، فعبر عن فعل مضى بفعل الاستقبال.
ولعل مما يؤيد الثالث وينهض به سياق حديث كعب حيث قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلفوا عن الأمر الذي قُبل من هؤلاء الذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التوبة، فلما ذكر الذين كذبوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المتخلفين، واعتذروا بالباطل ذُكِرُوا بشرِّ ما ذكر به أحد قال الله سبحانه: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ).
602
فقوله: حين أنزل اللَّه لنا التوبة... إلى أن قال: ذُكروا بشرِّ ما ذكر به أحد، يشير إلى أن التوبة على المؤمنين اقترنت بذم المنافقين.
وأيضاً فقوله في السياق الطويل: فواللَّه ما أنعم اللَّه عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن اللَّه قال للذين كذبوا - حين أنزل الوحي - شرَّ ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ) إلى قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
فقوله: (حين أنزل الوحي) يفسره قوله: (حين أنزل اللَّه لنا التوبة) فقد اجتمع الثناء والقدح لأهل الكذب والمدح في سياق طويل للفريقين أجمع.
فإن قال قائل: فما هو الصواب في المسألة؟
فالجواب: أن الحق فيها عندي لم يتحصحص، وأن الخيط الأبيض فيها من الخيط الأسود لم يتبين وحسبي فيها الاقتداء بابن القيم حين قال في غيرها:
هذا وما نضجتْ لديَّ وعلمُها الموكولُ بعدُ لمنزلِ القرآنِ
وأعوذ بالرحمن من جزم بلا علم وهذا غاية الإمكان
واللَّه أعلم بالمراد بقوله ورسوله المبعوث بالفرقان
لكني أجد نفسي تميل إلى أنها نزلت مع توبة اللَّه على المؤمنين، وأن اعتذارهم سبب نزولها، ولعل مما يؤيد ذلك ما ذكره ابن عطية في قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) من أن الآية نزلت بعد قولهم. لكن اللَّه جعل المستقبل موضع الماضي للدلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، مع الإقرار بقبول ما اخترت للاعتراض واللَّه الموفق للصواب.
* النتيجة:
أن الآية تحتمل السببية وغيرها، وذلك لتعارض قرائن الترجيح في نفسي كيف لا وسين التنفيس تلاحقني، واللَّه خير مسؤول أن يفتح على القلب بالصواب واللَّه أعلم.
603
١٠٠ - قال الله تعالى: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية.
604
وأخرجه ابن ماجه من حديث أبط أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن هذه الآية نزلت: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر الأنصار إن اللَّه قد أثنى عليكم في الطهور. فما طهوركم؟
قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء. قال: (فهو ذاك فعليكموه).
605
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذين الحديثين عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره في حاضري المسجد الذي أُسس على التقوى من أول يوم رجال يحبون أن ينظفوا مقاعدهم بالماء إذا أتوا الغائط، واللَّه يحب المتطهرين بالماء) اهـ.
وقال ابن العربي: (فقوله: (فِيهِ فِيهِ) ضميران يرجعان إلى مضمر واحد بغير نزاع، وضمير الظرف الذي يقتضي الرجال المتطهرين هو مسجد قباء فذلك الذي أسس على التقوى وهو مسجد قباء والدليل على أن ضمير الرجال المتطهرين هو ضمير مسجد قباء حديث أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم) اهـ ووصف الحديث بأنه صحيح.
قال السعدي: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الذنوب، ويتطهروا من الأوساخ والنجاسات والأحداث ومن المعلوم أن من أحب شيئاً لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ والأحداث، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه. وكانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإقامة شرائع الدين وممن كانوا يتحرزون من مخالفة الله ورسوله.
وسألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء فحمدهم على صنيعهم) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين
606
الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دلّ عليه حديث رواه الدارقطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد اللَّه وأنس بن مالك ثم ساق الحديث الذي معنا، وقال: فهذا يعم الأنصار كلهم ولا يعارضه سؤال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضاً من الأنصار فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار). اهـ.
فهذه أقوال المفسرين وقد سبقهم إلى هذا جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يعكر صفو هذا الإجماع إلا ضعف أسانيد هذا الحديث بعدما تبين من دراستها ولعل مما يجبر ضعفها أمران:
الأول: موافقة الحديث لسياق القرآن وهو تطابق تام.
الحاني: إجماع المفسرين على القول به ولعل هذا الإجماع يجبر ضعف الإسناد.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية - والله أعلم إعناية أهل قباء بالطهارة بالماء وعدم اقتصارهم على الاستجمار بالحجارة، ذلك لموافقته لسياق القرآن، وإجماع المفسرين عليه واللَّه أعلم.
* * * * *
607
١٠١ - قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده أبا جهل ابن هشام، وعبد اللَّه بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طالب: (يا عَمِّ قل لا إله إلا اللَّه، كلمة أشهد لك بها عند اللَّه). فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا اللَّه. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما واللَّه لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل اللَّه فيه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ.. ).
٢ - وأخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت
608
رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان. فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) إلى قوله: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) قال: (لما مات).
609
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين وقد أورد جمهور المفسرين هذين الحديثين وغيرهما في سبب النزول منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
أما حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد تبين من دراسة إسناده أنه حديث ضعيف لا ينهض للاحتجاج به. ولهذا قال ابن العربي بعد روايته: (وهذه أضعف الروايات) اهـ.
وأما حديث المسيّب في قصة أبي طالب فقال عنه ابن العربي بعد سياقه لعدد من الروايات: (وإما أن تكون الرواية الأولى هي الصحيحة ويخبر به عما فعل النبي، وينهى المؤمنين أن يفعلوا مثله تأكيداً للخبر، وسائر الروايات محتملات) اهـ.
وقد نبه ابن عطية على أن حديث أبي طالب هو سبب النزول عند جمهور العلماء فقال: (واختلف المفسرون في سبب هذه الآية. فقال الجمهور ومداره على ابن المسيب وعمرو بن دينار، نزلت في شأن أبي طالب. ثم ساق الحديث) اهـ.
لكن أبى بعض أهل العلم أن يكون سبب نزولها قصة أبي طالب. فقد نقل القرطبي: عن الحسين بن الفضل أنه قال: (وهذا بعيد؛ لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة) اهـ.
610
وقال ابن عاشور: (وأما ما روي في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في استغفار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طالب أو أنها نزلت في سؤاله ربه أن يستغفر لأمه آمنة حين زار قبرها بالأبواء فهما خبران واهيان لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل) اهـ.
ولم يكتف بتوهية الحديث الثابت في الصحيحين بل زاد على ذلك قولاً لم يدل عليه دليل صحيح فقال: (ولعل المسلمين لما سمعوا تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستغفار للمشركين ذهبوا يستغفرون لأهليهم وأصحابهم من المشركين طمعاً في إيصال النفع إليهم في الآخرة فأصبح ذلك ذريعةً إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة فينتفي التفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان فنهى الله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين معاً عن الاستغفار للمشركين بعد أن رخصه للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة في قوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) اهـ.
وتبعهم على ذلك الحافظ ابن حجر فقد ذكر عدداً من التعليلات أسوقها باختصار:
١ - (قال ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، ويوضح ذلك ما سيأتي في التفسير بلفظ (فأنزل اللَّه بعد ذلك) (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا).
٢ - أن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقًا. يعني والآية مدنية.
٣ - ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية. والأصل عدم تكرر النزول. اهـ.
هذا خلاصة ما احتج به على ذلك، وقوله هذا يتضمن قول الحسين بن الفضل وابن عاشور وحينئذٍ سيكون البحث فيما ذكر جواباً للجميع.
أما قوله: (سيأتي في التفسير بلفظ (فأنزل اللَّه بعد ذلك) فلم أجد هذا في التفسير لا في سورة براءة ولا في سورة القصص.
611
ولو فرضنا جدلاً أنه قد وُجِد فلا يصح الاستدلال بهذا اللفظ على تأخر النزول لأن النزول لن يكون إلا بعد الحدث فالبعدية لا بد منها، لكن هل هي بعدية قريبة أو بعيدة؟ هذا أمر لا يمكن العلم به من هذا اللفظ، وإذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال.
ثم الحافظ - رحمه الله - ناقض نفسه لأن معنى قوله: (فأنزل اللَّه بعد ذلك) أنه يرى أن القصة سبب لنزول الآية، لكن النزول تأخر، فكيف يتفق هذا مع قوله: إن الآية نزلت في استغفار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمه، والأصل عدم تكرر النزول.
وأما قوله: (إن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقاً) وقول ابن عاشور: لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل.
فيقال: لا ريب أن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقًا، لكن هل يملك أحدٌ الاتفاق على أن هاتين الآيتين قد نزلتا بالمدينة ولم تنزلا في مكة؟
الجواب: قطعاً لا، فقد ذكر السيوطي في الإتقان: (أن بعضهم استثنى هاتين الآيتين من النزول بالمدينة لما ورد أنها نزلت في قوله - عليه الصلاة والسلام - لأبي طالب (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) اهـ.
ثم إذا كان الأمر محتملاً لنزول هاتين الآيتين في مكة بعد القصة مباشرة، وقال بهذا بعض أهل العلم، والقرائن التي ترجحه عديدة، أفيسوغ بعد هذا أن يحكم على هذا الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما بأنه خبر واهٍ كما قاله ابن عاشور؟
أو يسوغ أن تلغى دلالة الحدث على السببية ويحتج بغيره كما فعله ابن حجر؟
أما قوله: إنه ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استأذن ربه أن يستغفر لأمه فنزلت الآية.
فقد ذكر أدلة لذلك ثم قال: (فهذه طرق يعضد بعضها بعضاً).
فمنها حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا إلى المقابر... فذكره.
612
قال الذهبي عنه: (هذا من غرائب الحديث).
وقال ابن كثير: (غريب).
ومنها حديث بريدة: قال كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ وقف على عسفان فنظر يميناً وشمالاً فأبصر قبر أمه آمنة فذكر الحديث.
ومنها حديث ابن عبَّاسٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أقبل من غزوة تبوك اعتمر فذكر الحديث.
قال ابن كثير: (وهذا حديث غريب وسياق عجيب).
وهذه الأحاديث الثلاثة قد أوردها السيوطي في الدر المنثور.
ومع هذه الغرابة التي ذكرها العلماء في هذه الأحاديث. فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي).
وفي لفظ آخر: قال: زار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: (استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأُذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).
فهذا حديث زيارته واستئذانه في الاستغفار وليس فيه ذكر لنزول الآية، فكيف يقال ثبت من أحاديث تقدم حالها، ويترك هذا الحديث، وحديث المسيب في قصة مرض أبي طالب؟
وإذا ثبت هذا فاعلم أن قصة ألى طالب في مرضه ووفاته وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) هي سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين.
والذي حمل النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا علمه - عليه الصلاة والسلام - بقول إبراهيم لأبيه: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) فظن
613
- عليه الصلاة والسلام - أن هذا يسوغ له مع عمه فبين الله له عذر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -.
ومما يدل على أن القصة سبب النزول قوله: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخشى النهي ويتوقعه، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتأخر النزول هذا الزمن الطويل؛ لأن براءة من آخر القرآن نزولاً، أو يتأخر النهي حتى يزور قبر أمه، هذا بعيد.
ثم أيضاً مما يدل على أن زيارته لقبر أمه لا صلة لها بالموضوع، أن استغفاره لعمه كان اتباعاً لإبراهيم - عليه السلام - في استغفاره لأبيه، وهذا الاتباع في تلك الخصلة قد انقطع بنزول آية الممتحنة: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) والآية مدنية، وزيارة قبر أمه كان بعد الهجرة بل بعد إسلام أبي هريرة لأنه راوي الحديث، والله ينهى عن اتباع إبراهيم في تلك الخصلة، ويبين أنه ليس أُسوة فيها، فكيف يستغفر وبين يديه ما ترى؟
فإن قال قائل: ما تقول في استئذانه ربه أن يستغفر لأمه، وأنت تقول إن الآية نزلت في أبي طالب في مكة فكيف طلب الإذن؟
فالجواب: أن طلب الإذن لا يكون إلا من ممنوع، ولهذا قبل أن ينزل المنع قال: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.
ثم إن طلب الإذن في استغفاره لأمه بعد نزول الآية في أبي طالب ليس فيه إشكال لأن أبا طالب أدرك الدعوة والرسالة فلم يؤمن بخلاف أمه التي ماتت وله ست سنين فظن - عليه الصلاة والسلام - أن هذا الفرق مؤثر فاستأذن ربه في الاستغفار لها، فنهاه الله عن ذلك بدون قرآن.
* النتيجة:
أن استغفار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمه أبي طالب هو سبب نزول الآيتين الكريمتين، لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، وميل جمهور العلماء إليه وتصريحه بالنزول واللَّه أعلم.
614
١٠٢ - قال الله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحدث حين تخلف عن قصة تبوك فواللَّه ما أعلم أحدًا أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومي هذا كذبًا، وأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) - إلى قوله - (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث في سبب نزول الآيات فمنهم من ساق الحديث بطوله، ومنهم من أشار إليه إشارة، ولم يسقه بتمامه، ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن
615
العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال القرطبي: (وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن) اهـ.
وقال ابن عاشور: (والتعريف في (الثلاثة) تعريف العهد، فإنهم كانوا معروفين بين الناس وهم كعب بن مالك من بني سَلِمة، ومرارة بن الربيع العمري من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أُمية الواقفي من بني واقف، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر، ولما رجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعترفوا بذنبهم وحزنوا. ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس عن كلامهم، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم ثم عفا عنهم بعد خمسين ليلة، وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في صحيح البخاري مسلم طويل أغر) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآيات الكريمة ما جاء في قصة كعب بن مالك وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لصحة السند، وموافقة السياق القرآني، وإجماع المفسرين عليه والله أعلم.
* * * * *
616
الجزء الثاني
617
سورة هود
618
Icon