ﰡ
مكية كلها، وقيل إلا آيتي ٩٤، ٩٥ فمدنيتان والصحيح الأول، وعدد آياتها ١٠٩ آية. وفيها مناقشة الكفار في العقائد الدينية وتوجيه النظر إلى آيات الله الكونية، وسرد بعض القصص للعظة والعبرة، وخاصة موسى مع فرعون، وما يتخلل ذلك من ذكر لطبيعة الإنسان، ووصف للدنيا، وانتقال إلى وصف مشاهد القيامة المؤثرة وما يتبع ذلك من إثبات للبعث، ووصف للقرآن وأثره في النفوس ومناقشة منكريه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)المفردات:
الر تقرأ هذه الحروف الثلاثة بأسمائها ساكنة غير معربة هكذا: ألف. لام.
را. ، وفيها الأقوال التي في أول سورة البقرة الْحَكِيمِ أى: المحكم أَوْحَيْنا الإيحاء إعلام من خفاء أَنْذِرِ الإنذار إعلام مع التخويف من العاقبة وَبَشِّرِ البشارة إعلام مع التبشير بالثواب قَدَمَ صِدْقٍ المراد سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة، سميت قدما لأن السعى إلى هذه الفضائل بالقدم كما سميت النعمة يدا، وإضافتها للصدق لتحققها، والصدق اسم جامع للفضائل.
المعنى:
هذه الآيات البعيدة الشأو العالية المنزلة التي يتألف منها القرآن الكريم والسورة التي
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ إن هذا لعجب وعجب!! لقد تعجب الكفار من أن يوحى إلى بشر بالرسالة، وأن يكون المرسل بشرا من عامتهم ليس عظيما من عظمائهم، وقد قالوا: العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب، وأن يأتى هذا الرسول فيذكر البعث وينذر به، ويبشرن المؤمنين بأن لهم الجنة، فهم جعلوا ذلك أعجوبة لهم، ونصبوه علما يوجهون إليه استهزاءهم.
والهمزة في قوله: أَكانَ.. الآية. لإنكار تعجبهم بل والتعجب من تعجبهم إذ الله لم يرسل رسولا قبل محمد إلا وكان بشرا وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام الآية ٩] وقال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «١» فإرسال محمد رسولا وهو بشر لا يدعو إلى العجب، ويتمه وفقره ليس يدعو إلى العجب إذ الله أعلم حيث يجعل رسالته، والغنى والتقدم في الدنيا وكثرة المال والولد ليس مبررا للرسالة وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «٢».
وأما البعث. والجزاء على الخير والشر فهو أمر طبيعي لازم فكيف يدعو إلى العجب؟! وإنما العجب العاجب هو تعجبكم أنتم من الأشياء التي تدعو العامة مع تخويفهم عاقبة الكفر والمعاصي، وأوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة، وبشر الذين آمنوا خاصة بأن لهم قدم صدق عند ربهم، يجزيهم بها في الآخرة أحسن الجزاء.
وماذا قال الكافرون وأجابوا به الرسول؟ قال الكافرون: لما رأوا القرآن وأثره في القلوب، وفعله في النفوس حتى فرق بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه، وزوجه وبنيه قالوا:
إن هذا إلا سحر يؤثر، وما صاحبه محمد إلا ساحر.
(٢) سورة سبأ آية: ٣٧.
المظاهر الكونية ودلالتها على أصول الإيمان [سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٦]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
للدين الإسلامى أصلان مهمان: أولهما: التوحيد الخالص لله في العبادة والدعاء، وثانيهما: إثبات البعث والجزاء.
وها هي الآية لإثبات الأصل الثاني بعد أن تكلم القرآن على الأول.
هذا بيان لبعض نواحي الإجمال في الآية الثالثة من هذه السورة: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ. لتوضيح الدلالة على كمال قدرته وأنه الواحد الأحد المعبود بحق..
المعنى:
إن ربكم هو الله لا إله غيره، الذي خلق العالم السماوي وما فيه، مما لا يعلمه إلا هو، وخلق العالم الأرضى، ولا يعلم ذراته إلا هو، خلق كل ذلك في ستة أيام لا يعلم تحديد زمنها إلا هو [اليوم يطلق في اللغة على جزء من الزمن].
ثم استوى على عرشه استواء يليق بعظمة هذا الملك وصاحبه، استواء لا يعلمه إلا هو وعرشه كرسيه أو مركز تدبيره، وفي الحقيقة لا يعلم كنهه إلا هو- سبحانه وتعالى ثم استوى على عرشه يدبر أمر ملكوته بما يتناسب مع جلاله، وكماله وعمله وحكمته، والتدبير والنظر في أدبار الأمور وعواقبها وما تنتهي إليه.
ووجه الرد بهذه الآية على منكري النبوة، أن الله- سبحانه- خالق الأكوان، وفاطر السموات والأرض على هذا النظام البديع المحكم، المستوي على عرشه المدبر لأمر ملكوته وحده دون سواه، لا يستبعد منه أن يفيض بما شاء من علمه على البشر من خلقه ليهدى الناس إلى سواء السبيل، ويرشد الضال إلى الصراط المستقيم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر قدرته وتدبيره وحكمته.
فيجب الإيمان بهذا الوحى وتصديق صاحبه، والإيمان بكل ما جاء به، ليس هناك شفيع يشفع يوم القيامة إلا من بعد إذنه، ولا يشفع إلا لمن ارتضى يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ
[طه: ١٠٩]، قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر: ٤٤] هذه حقائق ترد على المشركين اعتقادهم في الشفاعة لآلهتهم، وكيف يتكلمون في الشفاعة يوم القيامة، وهم لا يؤمنون به!! ذلكم الكبير المتعال، الخالق المدبر لهذه الأكوان الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه هو الله ربكم لا إله غيره ولا معبود سواه، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا معه إلها غيره، ولقد كان العرب يؤمنون بوحدة الربوبية:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الآية ٣٨ من سورة الزمر. ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، لذلك عالج القرآن هذا بقوله:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [سورة يونس الآية ٣].
أتجهلون هذا الحق الواضح؟ فالله هو الذي خلق السموات والأرض وحده واستوى على العرش يدبر الأمر يفصل الآيات، لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن صاحب هذا كله هو ربكم فاعبدوه وحده، أتجهلون ذلك أفلا تذكرون؟!! إلى الله وحده دون سواه مرجعكم جميعا بعد الموت، لا يتخلف منكم أحد أبدا، وعد الله هذا وعدا حقا.
إنه يبدأ الخلق كله، وينشئه عند تكوينه، ثم يعيده في النشأة الأخرى، فأما بدؤه فقد حصل بلا نزاع، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء والتكوين من غير مثال سابق قادر بلا شك على إعادة الحياة بعد الموت: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. [سورة الروم الآية ٢٧].
وإذا كانت الإعادة ليجزي الذين آمنوا بالله والنبي وما أنزل عليه، ليجزيهم بالقسط والعدل، فيعطى كل عامل حقه من الثواب، لا يظلمه شيئا: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء الآية ٤٧].
وهذا لا يمنع التفضل بمضاعفة أجر المحسنين: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [سورة يونس الآية ٢٦] فالحسنى جزاء والزيادة تفضل من الرحمن الرحيم.
وأما الذين كفروا بالله وأنكروا البعث وتعجبوا من إرسال بشر لهم ينذرهم ويبشرهم
هو الله- سبحانه- الذي جعل الشمس ضياء للكون، ومصدر للحياة، ومبعثا للحرارة والحركة للكائن الحي من حيوان ونبات، وجعل القمر نورا يستضيء به السارى في الليل، وقدر له منازل لتعلموا عدد السنين والحساب.
ولقد كان للعلماء أبحاث عن الضوء والنور، وآراء لسنا في حاجة إلى ذكرها بعد ما ثبت علميا أن الشمس مصدر النور، فالشعاع الواقع منها على الأرض مباشرة هو ضوؤها، والواصل إلينا بعد انعكاسه على القمر [وهو جسم مظلم] يسمى نورا فنور القمر من الشمس عن طريق الانعكاس كالمرآة.
والقرآن فرق بين الشمس والقمر في كثير: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «١». وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «٢» والسراج ما كان نوره من ذاته، وهذا يؤيد من يقول: إن الضوء ما كان بالذات كالشمس والنار، والنور ما كان بالعرض والاكتساب من النير كنور القمر، وعلى العموم فالواجب معرفته واعتقاده أن تعبير القرآن الكريم لأسرار إلهية قد تخفى علينا حينا من الدهر، ويكشف عنها العلم والبحث، وليس معنى هذا الجري وراء الاصطلاحات العلمية إذا تعارضت مع النص القرآنى، فالعلم نظرياته قد تسلم اليوم، وتنقض غدا.
قدر الله للقمر مقادير مخصوصة في الزمان والمكان والهيئة، لا يتعداها أبدا ومنازل القمر أماكن نزوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ «٣» أى:
قدره لسيرة في فلكه، في منازل ينزل كل ليلة منها لا يتخطاها أبدا [وهي معروفة في علم الفلك] هذا لتعلموا به عدد السنين والحساب للأشهر والفصول والأعوام، وذلك لضبط عبادتكم من صيام وحج ومعاملات، ولعل السر في اختيار القرآن السنة القمرية والحساب بها لأنه أسهل على البدوي والحضري وأما السنة الشمسية فحسابها يحتاج إلى علوم وقواعد، ولكل فائدة.
ما خلق الله ذلك إلا بالحق، نعم ما خلق هذا الكون، وجعل فيه الشمس ذات
(٢) سورة الفرقان آية ٦١.
(٣) سورة يس آية ٣٩.
وكيف يتصور من خالق الأكوان، وواهب الوجود وخالق الشمس وضيائها والقمر ونوره، على هذا النظام البديع المحكم، أن يترك الإنسان الذي كمله بالعقل والبيان وكرمه على جميع خلقه أن يتركه بلا حساب ولا ثواب؟
تفصل الآيات الكونية الدالة على عظمتنا وقدرتنا، والآيات القرآنية، تفصل ذلك كله وتجليه، ولكن لا يهتدى به إلا القوم العالمون الذين يعلمون وجوه الدلالة ويميزون بين الحق والباطل.
إن في اختلاف الليل والنهار، وتعاقبهما طولا وقصرا، وحرارة وبرودة ونظامهما الدقيق وكون الليل لباسا والنهار معاشا، وإن في خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا يحيط بها إلا خالقها، إن في هذا وذاك لآيات واضحات على قدرة الله وحكمته وعظمته وكمال علمه، ولكن هذه الآيات لقوم يتقون الله ويؤمنون بالغيب، أما الماديون الطبيعيون فلا يعتبرون بذلك أبدا. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «١».
المؤمن والكافر وعاقبة كل [سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
لا يَرْجُونَ لا يتوقعون لقاءنا مَأْواهُمُ ملجأهم الذي يلجئون إليه، هذا توضيح لما سبق في آية ٤.
المعنى:
إن الذين لا يتوقعون لقاءنا في الآخرة للحساب لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، هؤلاء لا يخافون عذاب الله، ولا يرجون ثوابه، وقد رضوا بالحياة الدنيا ونعيمها بدل الآخرة وما فيها، واطمأنوا بها لسكون أنفسهم إلى شهواتها ولذاتها، والذين هم عن آياتنا القرآنية وآياتنا الكونية غافلون فلا يتدبرون، ولا يتعظون، أولئك- والإشارة للفريقين-، وما فيها من معنى البعد لبعد مكانتهم في الضلال، أولئك مأواهم النار، وملجأهم الذي يلجئون إليه، سبحانك يا رب!! النار يوم القيامة هي ملجأ الكافر والويل كل الويل لمن تكون النار مأواه وملجأه.
وذلك بما كانوا يكسبون من أعمال كلها تتنافى مع العقل والحكمة والدين.. هذا جزاء الفريق الكافر أما المؤمن فهذا جزاؤه.
إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله، وعملوا الصالحات الباقيات يهديهم ربهم إلى الخير والسداد، والهدى والرشاد، يهديهم ربهم إلى كل عمل يوصل إلى الجنة التي وصفها بقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهذا مثل للراحة والسعادة والهدوء في الجنة وقد تقدم كثيرا.
فدعاؤهم، وطلبهم من المولى، وثناؤهم عليه- سبحانه- يبدءونه بهذه الكلمة:
سبحانك اللهم على معنى تنزيها لك وتقديسا لجلالك يا الله.
وأما التحية فيها بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين الملائكة، وتحية الله لهم هي:
سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الصابرين.
وآخر دعواهم في كل حال لهم: أن الحمد لله رب العالمين..
من طبائع الإنسان وغرائزه [سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
المفردات:
يُعَجِّلُ تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب له، والاستعجال به طلب
المعنى:
العجلة من غرائز الإنسان وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «١» فهو دائما يتعجل الخير لأنه يحبه، ولا يتعجل الشر إلا في حال الغضب والحماقة والعناد والتعجيز، ظنا منه أن ما أقدم عليه خير مما هو فيه كالمنتحر.
ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه مخالفين طبعهم وغريزتهم، مدفوعين بدافع الجهالة والحماقة والتعجيز كاستعجال كفار مكة للعذاب وإلحاحهم في نزوله تعجيزا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتكذيبا له، وذلك حينما قص عليهم القرآن نبأ المكذبين من أقوام الرسل السابقين وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ «٢». وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٣».
ولو يعجل الله للناس إجابة الشر الذي يطلبونه كاستعجالهم بالخير الذي يرغبونه لذاته بدعاء الله- تعالى- أو بأخذهم بالأسباب، لقضى إليهم أجلهم، وانتهى أمرهم وهلكوا كما هلك الذين كذبوا الرسل، واستعجلوا العذاب من قبل. ولكن الله رحم العالم كله بالنبي صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، المرسل رحمة للعالمين إلى يوم القيامة، وقضى بأن يؤمن به العرب من قومه وغيرهم ومن يكفر يعاقبه الله بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة، وهذا معنى قوله: فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم وضلالهم يعمهون ويترددون، أما عذاب الخسف والاستئصال فمنعه عنا إكراما لنبينا صلّى الله عليه وسلم.
وهاك بيان لغريزة الإنسان العامة وشأنه فيما يمسه من الضر.
(٢) سورة الرعد آية ٦.
(٣) سورة الأنفال آية ٣٢.
مثل ذلك الذي عرفت من اتجاه إلى الله في الشدة وتركه في الرخاء زين للمسرفين ما كانوا يعلمونه.
وهكذا الإنسان يستعجل الشر، ولا يلجأ إلى الله إلا في الشدة والضر إن الإنسان كان ظلوما جهولا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر الآية ٣].
هكذا الإنسان وتلك سنة الله في الأمم، ولن تجد لسنته تبديلا فاعتبروا يا أولى الأبصار، وانظروا يا أهل مكة، ماذا أنتم فاعلون؟!! تالله لقد أهلكنا الأمم التي مضت من قبلكم يا كفار مكة، وكانوا أكثر منكم قوة لما ظلموا أنفسهم بالبغي والطغيان، وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات التي تكشف لهم عن حقيقة الدنيا، والتي تناديهم بوجوب اتباع الرسل الكرام، وما كانوا ليؤمنوا لأن نفوسهم مرنت على الظلم والكفر، واطمأنوا إلى الدنيا، ومالوا إليها فصارت أعمالهم كلها فسقا وظلما وجورا، ومن كان كذلك لا يتصور منه إيمان، مثل ذلك الجزاء على الظلم من الإهلاك وإنزال عذاب الاستئصال، أو ضياع الأمة بالضعف والانحلال نجزى القوم المجرمين، وهكذا سنة الله في الخلق فاعتبروا يا أهل مكة ثم جعلناكم يا أمة محمد- أمة الدعوة- خلفاء لمن تقدمكم، وأرسلنا لكم محمدا خاتم النبيين لننظر كيف تعملون؟ وسنجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر..
من أوهام المشركين والرد عليهم [سورة يونس (١٠) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
لون من ألوان خداعهم ومكرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو أن يطلبوا منه أن يأتى بقرآن غير هذا، أو يبدله، والذي دفعهم إلى هذا كفرهم وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، ولقد مكروا، ومكر الله، ولقنه الجواب وهو خير الماكرين.
أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس كافة، ودعا قومه العرب إلى دينه طالبا منهم التوحيد، ومنذرا لهم ومبشرا، وفي يمينه القرآن المعجزة الباقية، والحجة الدامغة وقد تحدى العرب به بأسلوب مثير لهم، تحداهم بعشر سور أو بسورة منه فعجزوا مجتمعين، وفيهم الفصحاء والشعراء والخطباء قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «١»، والقرآن لا
قالوا: يا محمد ائتنا بقرآن غير هذا ليس فيه ذمنا وذم آلهتنا، أو بدل هذا القرآن أى: وعده ووعيده وحلاله وحرامه، وذمه ومدحه. إن فعلت ذلك فنحن معك يقصدون إن فعل محمد ذلك فقد هدم أساس دعوته، وقوض صرح حجته إذ هو يدعى أنه من عند الله لا من عنده فإذا غير فيه وبدل ثبت أن القرآن من عنده وهو بشر مثلهم أعطى قوة خارقة للعادة كالسحرة والكهان، ولكن الله أمره أن يجيب بهذا الجواب المسكت.
قل لهم: ما يكون لي وما يصح منى أن أبدله أبدا من تلقاء نفسي!! إذ ما أنا إلا رسول، وما هو إلا وحى يوحى، ولا أتبع إلا ما يوحى إلى من عند ربي، على أنى أخاف إن عصيت ربي بالتبديل في كلامه عذاب يوم عظيم هوله شديد وقعه على.
وفي الإجابة على الإتيان بقرآن غير هذا أمره الله بما يأتى:
قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم أبدا، ولا أعلمكم به فالمسألة ترجع إلى مشيئة الله لا مشيئتى، وما شاء الله كان، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه ومالكم تذهبون بعيدا؟ فقد لبثت فيكم عمرا من قبل هذا القرآن [أربعين سنة] لم أجلس إلى معلم، ولم أقرأ كتابا، ولم أدرس في جامعة وأنا أمى في وسط أمى، لم أقل كلاما مثله في هذا الزمن الطويل (قبل النبوة) فهل يعقل أن يكون هذا كلامي. يا قومي أغفلتم عن هذا كله فلا تعقلون؟!! ولا أحد أظلم من رجلين: أحدهما: افترى على الله كذبا، والثاني: كذب بآياته البينة، ولا غرابة في هذا الحكم إنه لا يفلح الظالمون أبدا.
كانت العرب في جاهليتهم ذات أديان مختلفة، ومذاهب في العبادة متشعبة إلا أنها كلها تجتمع في الإشراك وعدم الوحدانية الخالصة لله- سبحانه- كان منهم من تهود
وكانوا يعبدون الأصنام بتعظيم هياكلها، والإهلال عند الذبح لها، وبدعائها والاستعانة بها قائلين: هؤلاء شفعاؤنا عند الله يقربوننا إليه زلفى، روى أن النضر بن الحارث قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى.
قل لهم: منكرا عليهم ذلك أتخبرون الله بما لا يعلم في السموات والأرض؟ ونفى العلم دليل على عدم وجود هؤلاء الشفعاء والشركاء لله- سبحانه وتعالى- عما يشركون!!
هكذا فطر الله الناس [سورة يونس (١٠) : آية ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
المعنى:
وما كان الناس في كل زمن إلا أمة واحدة تسير على هدى الفطرة وتأتيهم
(٢) سورة الزمر آية ٣.
وبعض العلماء يرى أن المعنى: وما كان الناس إلا أمة واحدة على الإسلام والدين الحنيف فطرة وتشريعا، وأن الشرك وفروعه «جهالة حادثة، وضلال مبتدع» والله أعلم.
ولولا كلمة سبقت من ربك، وقضاء محكم حكم به إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «٢» لولا هذا لقضى بينهم فيما فيه يختلفون، ولعجل لهم العذاب بما كانوا يعملون، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان لطبع الإنسان.
اقتراح المشركين آيات كونية [سورة يونس (١٠) : آية ٢٠]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
المعنى:
وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين وكفار مكة، فهم يعجبون من الوحى لبشر مثلهم. ويقولون ائتنا بقرآن غير هذا أو بدله، وهم يعبدون من دون الله شركاء، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
وبعد هذا كله يقولون: لولا أنزل الله عليه آية من ربه غير ما نزل عليه من الآيات الباقيات البينات وهي آيات القرآن الكريم.
حكى القرآن عنهم في أكثر من موضع هذا الطلب ورد عليهم تارة بالإجمال كما هنا وطورا بالتفصيل.
(٢) سورة يونس آية ٩٣. [.....]
هكذا طبع الإنسان وخلقه [سورة يونس (١٠) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
المفردات:
أَذَقْنَا الذوق إدراك الطعم بالفم، واستعمل مجازا في إدراك غيره ضَرَّاءَ
المعنى:
هذه الآيات الكريمة تكشف لنا عن غرائز الإنسان وطبائعه التي لا تتغير تبعا للزمان والمكان، وهي تشير إلى الرد على الكفار الذين يطلبون الآيات الكونية حيث إنهم لا يعتبرون ولا يتعظون.
وإذا أذقنا الناس رحمة وفضلا من عندنا من بعد ضراء، ألم بهم ألمها وبؤسها إذ الشعور بالنعمة عقب زوال البؤس والشدة أكمل وأتم.
ما كان منهم إلا أن أسرعوا بالمفاجأة بالمكر في مقام الحمد والشكر، وهكذا الإنسان، إذا أصابه المطر بعد الجدب والشدة قال: مطرنا لأنا في فصل الأمطار.
وإذا نجا من مكروه حاق به قال: نجوت بالمصادفة، ولقد فعل فرعون وقومه ذلك كما فعل مشركو مكة بعد قحط وجدب أصابهم ثم سألوا النبي الدعاء لإزالته فكشفه الله عنهم وما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا ومكرا وفسادا، كما ثبت ذلك في حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه الشيخان.
ألست معى في أن مكرهم في آيات الله بالطعن فيها، والاحتيال في دفعها وعدم الاعتداد بها، قل لهم يا محمد: الله أسرع مكرا، وأعجل عقوبة على مكركم، وعذابه أسرع وصولا إليكم مما تفعلونه لدفع الحق، وإطفاء نور الله، ولا غرابة في ذلك إن رسلنا والحفظة من الملائكة يكتبون ما تفعلونه مكرا وتدبيرا، وفي هذا إشارة إلى تمام الحفظ والعناية حتى لا يغادر الكتاب صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء المعاندين هو أبلغ أمثال القرآن.
حتى إذا كنتم في الفلك (السفينة) وجرت بكم في البحر بسبب ريح طيبة مواتية لهم في جهة السير وفرحوا بها جاءتها ريح شديدة قوية، ولاقتها ريح تعصف بالأشياء وتكسرها وجاءهم الموج من كل مكان، والمراد اضطراب البحر وأنه أرغى وأزبد، وظنوا أى: اعتقدوا أنهم مغرقون وهالكون بإحاطة الموج بهم كإحاطة العدو اللدود.
إذا كان هذا دعوا الله والتجئوا إليه مخلصين له في الدعاء والعبادة، ولم يتوجهوا إلى آلهتهم وأوثانهم التي يشركون بها، وذلك طبع الإنسان وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ الآية ١٢ من هذه السورة.
ماذا قالوا في دعائهم؟ قالوا: لئن أنجيتنا يا رب من هذه لنكونن من الشاكرين، ولا نكفر ولا نشرك بك شيئا لا ينفع ولا يضر، فلما نجاهم مما هم فيه أسرعوا بالمفاجأة يبغون في الأرض كلها بغير الحق، يظلمون ويعبثون في الأرض الفساد، وبغيهم بغير حق قطعا، ولعل السر في تقيده بهذا أنهم يفعلونه معتقدين أنه بغير حق.
يا أيها الناس: انتبهوا إنما بغيكم وجزاؤه على أنفسكم في الدنيا، وأنتم تتمتعون به متاعا زائلا لا أساس له إذ هو في الحياة الدنيا. وأما نتيجة البغي في الآخرة فالله يقول: إلينا مرجعكم يوم القيامة يوم الفصل والجزاء فيجازيكم عليه الجزاء الأوفى بسبب ما كنتم تعملون.
المثل البليغ للحياة الدنيا [سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
مَثَلُ المثل: الصفة العجيبة التي تشبه في غرابتها المثل زُخْرُفَها الزخرف: كمال حسن الشيء ومنه قيل للذهب زخرف لَمْ تَغْنَ يقال غنى بالمكان أقام به وعمره.
المعنى:
تقدم ذكر البغي وجزائه في الدنيا والآخرة، وكان من أسبابه حب الدنيا والاغترار بها، فناسب ذكر الدنيا وضرب الأمثال لها ليعتبر العاقل، ويتعظ المؤمن.
إنما مثل الحياة الدنيا في سرعة انقضائها، وزوال نعيمها، وأنها تعطى لتأخذ، وتحلى لتمر، وتمنح لتسلب، إنما مثلها وحالها كحال نبات الأرض الذي ينمو ويزدهر ويتشابك بعضه مع بعض بسبب ماء السماء الذي لا فضل لأحد فيه، هذا النبات المزدهر مما يأكل الناس من قمح وشعير وذرة وغيره، ومما يأكل الأنعام من كلأ وحشائش، وما زال النبات ينمو ويزدهر حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، واستوفت زينتها من سندس أخضر، وزهر أحمر وأصفر، وأغصان شامخة، وثمار يانعة، وما أروع التركيب حيث شبه الدنيا بعروس بالغت في تزينها بالثياب والزينة حتى كمل لها ما أرادت. وهكذا الدنيا قبيل قيام الساعة.
وظن أهلها أنهم قادرون عليها متمكنون منها، أغنياء بثمرها وغلتها حتى إذا حصل هذا كله أتاها أمرنا وقضاؤها ليلا أو نهارا. عشية أو ضحاها فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها، كأن لم تكن بالأمس، والمعنى: هلكت فجأة فلم يبق من زرعها شيء.
مثل هذا نفصل الآيات في حقائق التوحيد وإثبات الجزاء وإحقاق الحق ولكن لقوم يتفكرون ويستعملون عقولهم.
ترغيب في الجنة وتنفير من النار [سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
المفردات:
دارِ السَّلامِ هي الجنة وَلا يَرْهَقُ يلحق ومنه غلام مراهق، أى لحق بالرجال. وقيل يغشى قَتَرٌ أى: غبار ذِلَّةٌ ذل أُغْشِيَتْ ألبست.
هذا ترغيب في الجنة والحياة الأخروية بعد التنفير من الحياة العاجلة بضرب الأمثال لها، والذي يدعو إلى الدنيا وعرضها هو الشيطان، والذي يدعو إلى الجنة ونعيمها هو الرحمن.
والله يدعو إلى دار السلام، بطلبه من الناس جميعا الإيمان، والعمل الصالح الذي يوصل صاحبه إلى دار السلام وهي الجنة فأصحابها يسلمون من جميع الشوائب، والمتاعب والمخاوف، وتحيتهم فيها السلام، وهي دار السلام- جل شأنه-، ودعاؤه إلى دار السلام وأمره بالإيمان عام للكل، وأما الهداية فنوعان: هداية دلالة وإرشاد وهي للجميع «الدعوة للإسلام»، وهداية توفيق وهي خاصة، يهدى من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أى: يوفق من يشاء إليه.
وها هي ذي صفة من هداهم ربهم إلى صراط الإسلام فوصلوا إلى دار السلام.
للذين أحسنوا في العمل المثوبة الحسنى التي تزيد في الحسن على إحسانهم وتشمل المضاعفة للحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، وأما الزيادة فقيل: هي النظر إلى الوجه الكريم.
ورؤية المولى- جل شأنه- بهذا نطق الحديث الشريف، وقيل: المراد بالحسنى الجنة والزيادة المضاعفة ولا حرج على فضل الله.
ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، ولا يلحق وجوههم الكريمة دخان من سيّئ الأعمال ولا مذلة.
أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة الملازمون لها هم فيها خالدون.
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة مثلها، جزاء وفاقا لا يزيدون ولا ينقصون من العذاب شيئا، وتغشاهم ذلة الفضيحة، وخزي الظلم والفجور والعمل السيئ، مالهم عاصم يعصمهم من عذاب الله كالشركاء والشفعاء الذين اتخذوهم أولياء: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الانفطار آية ١٩].
كأنما ألبست وجوههم قطعا من سواد الليل البهيم حالة كونه مظلما فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.
أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون، وفي هذا
من مشاهد يوم القيامة [سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
المفردات:
فَزَيَّلْنا فرقنا وقطعنا ما بينهم من صلات تَبْلُوا تذوق وتختبر أَسْلَفَتْ قدمت.
المعنى:
يتكرر في القرآن الكريم التكلم على البعث والجزاء ومشاهد يوم القيامة بألوان مختلفة، وأساليب متعددة. وهذا مشهد من مشاهدها:
يوم نحشر هؤلاء وهؤلاء من المؤمنين والكافرين ليوم الحساب، ثم نقول للمشركين:
الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «١» فزيلنا بينهم، وفرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله وقطعنا ما بينهم من أسباب الصلة والمودة.
هنالك يوم القيامة تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة، وظالمة ومظلومة في ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل، وهكذا كل نفس تذوق عاقبة أعمالها إن خيرا وإن شرا.
وردوا إلى الله مولاهم الحق لا إلى غيره، وضل عنهم ما كانوا يفترون ويختلفون من الشركاء والأوثان، إذ الأمر يومئذ لله- سبحانه وتعالى-.
نقاش مع المشركين لإثبات التوحيد وبطلان الشرك [سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٣٦]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تصرفون عن الإيمان إلى غيره، حَقَّتْ ثبتت تُؤْفَكُونَ تصرفون عن الحق إلى الباطل لا يَهِدِّي أي: لا يهتدى وهذا احتجاج أخر على المشركين بأسلوب آخر، وهو يقتضى إثبات التوحيد والبعث، وذم الظن الذي لا يغنى بدل الحق شيئا.
المعنى:
قل يا أيها الرسول: لهؤلاء المشركين مع الله غيره: من يرزقكم من السماء والأرض؟! من ينزل من السماء المطر؟ ومن يحيى الأرض بالنبات الذي تأكلون منه أنتم وأنعامكم؟
أم من يملك السمع والأبصار؟ أم بمعنى بل- للإضراب الانتقالى من سؤال إلى آخر- والمعنى بل قل لهم: من يملك السمع والأبصار؟! من يملك خلقهما على هذا النمط البديع والتركيب الغريب؟ ومن يملك حفظهما من الآفات؟ ولقد خص السمع والبصر لأنهما طريق العلم والإدراك؟ وفي جهاز السمع والبصر الأعاجيب.
ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي؟ ولقد كان القدامى يفهمون الآية فهما بسيطا. فالله يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة، ويخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر، وكانوا يفهمون أن النطفة والبيضة ميتة لا حياة فيها، وهذا الفهم صحيح إذا اعتبرنا أن البيضة وإن تكن فيها حياة فهي حياة خاصة ليس فيها حركة ولا نمو.
والعلماء المحدثون يقولون: إن في البيضة والنطفة حياة بل في البذور حياة، والمثل الصحيح أن الغذاء بعد دخوله النار ميت بلا شك، وهو يكون الدم ومنه المنى فهذا
وفي التفسير المأثور أراد الحياة والموت المعنويين ومثلهما أخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
ومن يدبر الأمر، ويصرف الكون؟ ومن صاحب هذا النظام المحكم في كل شيء؟
وفي كل شيء له آية... تدلّ على أنه الواحد
فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمسة: أن الفاعل لذلك كله هو الله رب كل شيء، لا جواب غيره، ولا مجال للمكابرة في ذلك.
فقيل لهم: أتعلمون هذا فلا تتقون أنفسكم عذابه، ولا تتقون عقابه لكم عن شرككم وعبادتكم لغيره مما لا يملك نفعا ولا ضرا!! فذلكم الذي يفعل ما ذكر هو الله ربكم خالقكم ومدبر أمركم، هو الحق الثابت بذاته الحي القيوم، لا إله غيره ولا معبود سواه.
وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة دون سواه فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!! فالقول بألوهية غيره باطل، وعبادة غيره ضلال.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف تصرفون، وتتحولون عن الحق إلى الباطل؟ وعن الهدى إلى الضلال؟!! كذلك حقت كلمة ربك أى: مثل ذلك حقت به كلمة ربك أيها الرسول، وثبتت في وحدة الربوبية والألوهية، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال. حقت كلمته على الذين فسقوا وخرجوا من نور الفطرة، وحظيرة الهدى والحق، أنهم لا يؤمنون بما ينزله الله على ألسنة الرسل، وليس المعنى أنه يمنعهم- سبحانه- بل المراد أنهم يظلون على العناد والاستكبار وعدم الإيمان فهم لا يؤمنون.
قل لهم أيها الرسول: هل من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله، أو اتخذتموهم شفعاء عنده يقدر على بدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو بشرا من الرسل أو غيرهم.
ويسلمون بمبدأ البعث والجزاء يوم القيامة! فأنى تؤفكون؟ فكيف تصرفون عن ذلك الحق وهو من دواعي الفطرة والطبيعة والنظر السليم؟ إلى الباطل والجهل بالمصير.
قل لهم: هل من شركائكم من يهدى إلى الحق والخير؟ هداية بالطبيعة والفطرة أو بالتشريع والتقنين، أو بالتوفيق ومنع الصوارف، هذه الهداية بأنواعها من تتمة الخلق والتكوين رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «١» وهم بأى شيء يجيبون عن هذا؟!! والشواهد كثيرة تدل على الجواب المتعين الذي لقنه الله إلى رسوله:
قل لهم: الله يهدى للحق، ويهدى إلى صراط مستقيم، وهو يمن عليكم أن هداكم للإيمان.
أفمن يهدى إلى الحق والهدى، والخير والفلاح، أحق أن يتبع فيما يشرعه؟
أم من لا يهتدى إلى الخير أبدا في حال من الأحوال إلا أن يهدى؟ أى يهديه الله وذلك كالأصنام لا تهتدى أبدا إلى الخير ولا تهدى إلى الخير، وأما عزير والمسيح والملائكة فتهدى إلى الخير ولكن بهداية الله- سبحانه وتعالى- وهذا معنى قوله:
إِلَّا أَنْ يُهْدى.
فما لكم؟ استفهام تعجب وتقريع عن حالهم على معنى أى شيء أصابكم؟ وماذا دهاكم؟ حتى تتخذوا أصناما وآلهة بهذا الوصف!! كيف تحكمون؟ وعلى أى حال ووضع تحكمون بجواز عبادتهم أو وساطتهم وشفاعتهم عنده؟ نعم إن هذا لشيء عجيب!! والحق الذي لا مرية فيه أنه ما يتبع أكثرهم في هذا إلا الظن لا اليقين وما يتبعون في شركهم وإنكارهم البعث، وتكذيبهم الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلا ضربا
واستبعادهم نزول الوحى على بشر منهم لم يكن عظيما في نظرهم.
فإن قيل: وما حكم هذا الظن؟ أجيب أن الظن لا يغنى بدل الحق شيئا، فالحق هو الثابت عن دليل لا يقبل الشك، والظن مبنيّ على الشك والوهم، فهو عرضة للزوال والتغيير.
إن الله عليم بما يفعلون وسيجازون على ذلك كله، خاصة بعد توضيح الأمور وسياق الأدلة وضرب الأمثال.
القرآن كلام الله ومعجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم وموقفهم منه [سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٤٤]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
المعنى:
وما كان هذا القرآن العظيم الشأن في أسلوبه ونظمه، وبلاغته وحجته، وتشريعه وعلمه، وحكمته وأدبه، وسياسته الإلهية، والاجتماعية، والعمرانية، والاقتصادية وقصصه وأخباره عن الغائب في ضمير الزمن والمستقبل في كنه الكون، نعم ما كان وما صح ولا يستقيم أبدا في نظر العقل أن يفترى هذا القرآن أحد من الناس مهما كان!! يفتريه من دون الله وينسبه إليه إذ لا يقدر عليه إلا الله- سبحانه وتعالى- فليس القرآن من كلام محمد وإنما هو وحى من عند الله. ثم ذكر ما يؤكد هذا بقوله:
وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.. أى: ولكن كان هذا القرآن تصديقا لما بين يديه من الكتب السابقة المشتملة على الوحى لرسل الله بالإجمال: كإبراهيم وموسى وعيسى. ولما فيه من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد الخالص. وإثبات البعث والجزاء فهو على نسق ما قبله، ومحمد ليس بدعا من الرسل، وكان تفصيل جنس الكتاب المنزل فيه الشرائع والحكم والمواعظ والقصص، وأصول الاجتماع والشرائع فكيف يكون من عند البشر؟! ولا ريب فيه أبدا لأنه الحق والهدى، وهو من عند رب العالمين لا يقدر عليه غيره
ترى أنه وصف القرآن الكريم بصفات:
١- لا يصح أن يفترى هذا القرآن، وينسب إلى الله!! ٢- وهو مصدق لما قبله ومهيمن عليه.
٣- مفصل الكتاب الإلهى والحكم الرباني.
٤- ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
٥- هو من عند الله إذ قد تحدى العرب فعجزوا. فهل بعد هذا حجة لمدع أن القرآن ليس من عند الله؟
ثم انتقل القرآن الكريم لبيان عقيدتهم في القرآن، ناعيا عليهم سوء فهمهم بعد ما بين أنه أجل وأعلى من أن يفترى ويختلق.
بل يقولون افتراه محمد من عنده؟!! قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك فأتوا بسورة مثله قوة وإحكاما وبلاغة ودقة، وادعوا من استطعتم دعاءه من دون الله، ليعينكم على عملكم، فإن الخلق مجتمعين عاجزون عن الإتيان بمثله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء ٨٨] إن كنتم صادقين في دعواكم فإن لم تفعلوا هذه ولن تفعلوا أبدا فاسمعوا، وارجعوا إلى الحق وآمنوا بالله، ورسوله، وهذا تحد سافر لقوم أولى بلاغة وقوة، قوم أنفقوا النفس والنفيس للقضاء على دعوة الإسلام، وحاربوا النبي بكل الأسلحة ليطفئوا نور الله فلم يفلحوا. ألست معى في أن هذا إعجاز صارخ، وحجة باقية خالدة على أن القرآن من عند الله، وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله مع تحديهم، فكيف يكون من عند محمد؟!! بل كذبوا بالقرآن وأنه من عند الله، ولسوء حظهم كذبوا بالذي لم يحيطوا علما به، فهم لفساد طبعهم ورداءة نفسهم كذبوا به قبل بحثه والنظر فيه والإحاطة بجزئياته، وهذا شأن المعاند المعتدى.
ولما يأتهم تأويله، ونتيجة ما فيه من الوعد والوعيد على تكذيب الرسل، وقد كان هذا متوقعا وآتيا لا شك فيه، وقد كذبوا كما كذب الذين من قبلهم.
فانظر كيف كان عاقبة المكذبين من جميع الأمم، وكيف كان نظام الله معهم وسنته
هؤلاء المشركون منهم من يؤمن بالقرآن باطنا، وإنما يكذبه في الظاهر، بل من زعمائهم من كان يقول فيه: إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر.
فهؤلاء عرفوا الحقيقة ولكنهم كذبوا عنادا واستكبارا، ومنهم من لا يؤمن به جهلا وتقليدا من غير نظر ولا معرفة، وربك أعلم بالمفسدين في الأرض بالشرك والظلم والعصيان والبغي فسيعذبهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويؤكدها قوله تعالى: وإن كذبوك، وأصروا على ذلك، فقل لهم: لي عملي وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير وسيجازينى عليه ربي، ولكم عملكم، الذي تعملونه وسيجازيكم عليه ربكم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ «١»، أنتم بريئون مما أعمل، وأنا برىء مما تعملون، ولن يؤاخذ الله أحدا بذنب غيره، وصدق الله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [سورة هود آية ٣٥].
وأما أنت يا محمد فلا تعجب من حال هؤلاء، ولا تحزن إن عليك إلا البلاغ وأنت تقوم بعملك خير قيام، ولكن منهم من يستمعون إليك بأسماعهم دون تدبر ولا فهم إذ قلوبهم في أكنة مما تدعو إليه. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ «٢» والسماع النافع للمستمع هو ما عقل بما يسمعه، وعمل بمقتضاه وإلا كان كالأصم الذي لا يسمع، وأنت أيها الرسول لم تؤت القدرة على إسماع الصم حقيقة أو مجازا وهم الذين لا يعقلون.
ومنهم من ينظر إليك بوجهه، ويوجه بصره إليك عند قراءتك القرآن، ولكنه لا يبصر نور القرآن وهدى الدين، وعمى البصيرة (والعياذ بالله) أشد وأنكى من عمى البصر: أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ. والمعنى: أنك لا تقدر على هداية هؤلاء، فمن فقد حاسة السمع لا يسمع ومن فقد حاسة البصر لا ينظر، كذلك من فقد الاستعداد للفهم والهداية لا يمكن أن يهتدى ولا يهديه غيره ولو كان نبيا مرسلا.
(٢) سورة الأنبياء الآيتان ٢ و ٣.
هكذا الدنيا وهذه نهايتها [سورة يونس (١٠) : آية ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)
المعنى:
ويوم يحشر ربك الظالمين يوم القيامة، ويجمعهم بعد خروجهم من المقابر ويسوقهم إلى موقف الحساب والجزاء، كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة هي ساعة من النهار يتعارفون بينهم.
يا ويل هؤلاء الذين يضيعون الدنيا في اللهو والعبث والفساد ولا ينظرون إلى ما ينفعهم في الآخرة والحياة الباقية حتى إذا رأوا ما يوعدون يوم القيامة تذكروا الدنيا فإذا هي مرت كلمح البصر، وكأنهم لم يمكثوا فيها إلا ساعة من النهار أى: وقتا قليلا مقدار تعارف الزوار والأقارب.
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، ولم يعلموا من الصالحات ما ينفعهم ليوم الحساب وما كانوا مهتدين في الدنيا، ولا موفقين في العمل، وفقنا الله جميعا إلى ما فيه الخير وأرشدنا إلى الصواب.
القول الفصل في الرد على المشركين وعلى استعجالهم العذاب [سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٦ الى ٥٦]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥)
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
أَجَلٌ وقت معين من الزمن أَرَأَيْتُمْ أى: أخبرونى وَيَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك أى: يطلبون منك الخبر إِي حرف جواب أى: نعم.
كان المشركون يكذبون النبي صلّى الله عليه وسلّم في توعده لهم إذا أصروا على الشرك، وكانوا يستعجلونه استهزاء به وتكذيبا، ويتمنون موته ظنا منه أنه إذا مات ماتت دعوته.
فيرد الله عليهم بما يكبتهم، ويشد من عزيمة الرسول صلّى الله عليه وسلم. وإما نرينك أيها الرسول بعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل أن ترى ما يحل بهم، فإلينا المرجع والمآب، وقد رأى رسول الله بعض الذي وعدهم الله ببدر وحنين، وغيرهما، والمراد تأكيد الموعود به من العقاب في الدنيا والآخرة، فإلينا مرجعهم، ثم الله شهيد على ما يفعلونه مطلقا وسيجازيهم به على علم وشهادة حق.
ولستم أنتم يا أمة محمد بدعا بين الأمم، بل هناك قانون عام يشمل الجميع هو:
ولكل أمة من الأمم رسول يهديهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد، فإذا جاء رسولهم وكذبوه وكفروا به، وقامت الحجة عليهم قضى بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون إذ العدل يقتضى إثابة الطائع والعاصي كل بما يستحق.
ويقولون متى هذا الوعد؟ ومتى يكون؟!! إن كنتم أيها المؤمنون صادقين وهنا يلقن الله رسوله الجواب قل لهم: إننى بشر مثلكم، ورسول من رب العالمين، لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا، فكيف أملك لغيري؟ وليس لي علم بشيء، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ «١»، لكن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والله- سبحانه- جعل لكل أمة أجلا لبقائها وهلاكها لا يعلمه إلا هو فإذا جاء الأجل المضروب والوقت المحدود لنفاذ أمره، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون لحظة، ولا يملك رسولهم أن يؤخر أو يقدم شيئا، وهذا هو النظام العام.
ومن هنا نعلم أن المؤمن يجب أن يعتقد أنه ليس هناك بشر في الوجود حيا أو ميتا رسولا أو وليا له دخل في شيء فهذا إمام الأنبياء وخاتم المرسلين يسجل الله عليه في القرآن قوله: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا. وقد قرر ذلك في القرآن بأساليب متعددة. وهاكم رد آخر على استعجالهم:
أيستعجل بالعذاب المجرمون منكم، ثم إذا وقع آمنتم به يوم لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل، إذ فرق بين الإيمان والتصديق الخالص لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وبين الإيمان للضرورة ولرؤية الخطر الداهم.
ويقال لكم حينئذ: توبيخا وتأنيبا الآن آمنتم به اضطرارا؟ وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا واستنكارا وتعجيزا، ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ذوقوا عذاب الخلد، والعذاب الدائم المستمر المعد لكم ولأمثالكم، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون؟!! ويستنبئونك أيها الرسول، ويطلبون منك الخبر الصحيح أحق هذا الذي تقوله وتعد به الكفار؟ أحق هو؟ كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا قل لهم أيها الرسول: نعم إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ وما أنتم بمعجزين، ولا أنتم بهاربين وكيف تعجزون خالق السماء والأرض، وكيف تهربون؟ ولأيّ جهة تتجهون؟!! هذا العذاب الذي تستعجلونه في الدنيا، والذي أعد لكم في الآخرة، عذاب الله أعلم به وقد وصفه الله فقال: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالاعتداء على نفسها أو على غيرها، ولو أن لها كل ما فِي الْأَرْضِ ثم رأت العذاب المعد لها لَافْتَدَتْ بِهِ نفسها، ولكن أنى لها ذلك؟
وهم حين يرون العذاب يسرون الندامة لاعتقادهم أنه لا فائدة في إظهار الندم والحسرة على ما فرط، وتارة يجهرون ويقولون: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وقضى بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون.
والله- سبحانه- قادر على ذلك، ووعد به، ووعده الحق وكلامه الصدق، وهو القادر على كل شيء، وإليه المرجع والمآب ولذا اختم الآية بقوله: ما معناه أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ملكا وخلقا وتصرفا، أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ومن أصدق من الله حديثا.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وهُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وهو على كل شيء قدير، وإليه مرجعكم جميعا.
القرآن الكريم وأغراضه الشريفة [سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
المفردات:
مَوْعِظَةٌ الموعظة والوعظ الوصية بعمل الخير، واجتناب الشر بأسلوب الترغيب والترهيب الذي يرقق القلب ويلهب العاطفة. ويبعث على الإحسان في العمل وَرَحْمَةٌ رقة في القلب تقتضي الإحسان والبر والتعاطف والرحمة بالغير فَلْيَفْرَحُوا الفرح والسرور انفعال نفسي بنعمة حسية أو معنوية يلذ له القلب وينشرح به الصدر.
هكذا القرآن يعاود الكلام على نفسه بأسلوب آخر مبينا هنا مقاصده وأغراضه الشريفة ليتجدد دائما عند القارئ الإدراك الصحيح والفهم السليم له، ولا تنس أن إثبات التوحيد، والبعث، والرسالة، وأن القرآن من عند الله، كل هذا من مقاصد الدين الحنيف.
المعنى:
يا أيها الناس ما بالكم تكذبون بالقرآن؟ ولما يأتكم تأويله، ولم تحيطوا به علما،
وها هو ذا القرآن الكريم وما فيه من تشريعات، وتوجيهات، ووصايا، وحكم، وقصص، وآداب، واجتماع يهدف إلى أربعة أغراض:
١- موعظة حسنة من الذي رباكم وتعهدكم بفضله ورحمته وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران آية ١٣٨] إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [سورة النساء آية ٥٨].
٢- وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ من أمراض الشك والنفاق، والشرك ومخالفة الوجدان والحقد والحسد، والبغي والعدوان، وحب الظلم وكراهية العدل وغير ذلك من الأمراض التي يضيق بها الصدر ويموت بها الضمير الحي.
٣- والقرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فهو الذي يبين الحق من الضلال، ويهدى إلى الخير والرشاد، ويحذر من البغي والفساد.
٤- وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وهي صفة قلبية نتيجة لما مضى من الوعظ والشفاء والهدى فالوعظ تعليم ينشأ عنه الشفاء من الأمراض وإزالة الأوساخ، ويترتب عليهما الهداية والتوفيق إلى الخير، وينشأ عن الثلاثة الرحمة وهي الرقة في القلب، وهي بكمال صفتها لا تكون إلا في المؤمنين الكاملين.
وفي السنة المطهرة الكثير من الأحاديث التي تحث على الرحمة بالخلق جميعا، ويكفيها شرفا أنها صفة المؤمنين وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [سورة البلد آية ١٧] أليس الرحمة من صفات النبي صلّى الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
قل. لهم: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أصل العبارة في التركيب العادي ليفرحوا بفضل الله وبرحمته، ولكنها بالأسلوب القرآنى آية في البلاغة يعجز القلم عن بيان نواحيها وأحسن وصف لها أنها آية من كلام الله وكفى!! ولكن لا مانع من بيان بعض النواحي. فلقد قدم بفضل الله وبرحمته ليفيد الاختصاص أى: ليكن الفرح والسرور بفضل الله وبرحمته فقط، وكانت الفاء في
إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته، وكان قوله:
فَبِذلِكَ للتأكيد والتقرير، وإعادة الباء بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ للإشارة إلى أن كلا منهما يصلح سببا في الفرح، إن الفرح بفضله ورحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية لأنه هو الذي يجمع سعادة الدارين، ويدعو إلى الخيرين وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [سورة القصص آية ٧٧].
لون آخر في إثبات الوحى والنبوة [سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
المفردات:
تَفْتَرُونَ تختلقون وتكذبون أصل الفري قطع الجلد لمصلحة، والافتراء تكلف القطع، وشاع في تعمد الكذب.
وهذه حجة أخرى على منكري الوحى، ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكون القرآن من عند الله.
المعنى:
قل لهم أيها الرسول: أخبرونى، هذا الذي أفاضه عليكم ربكم من السماء والأرض، وأنزله عليكم من رزق تعيشون به فترتب على ذلك أن جعلتم بعضه حراما،
وما ظن الذين يفترون الكذب يوم القيامة؟!! أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على الجريمة؟ أم لهم شركاء شرعوا لهم ما لم يأذن به الله؟ وسيشفعون لهم يوم القيامة:
لا هذا ولا ذاك، والويل لهم ثم الويل لهم!! إن الله لذو فضل على الناس عظيم لا ينكره إلا مكابر ومعاند فهو الرزاق ذو القوة المتين. وهو الرحمن الرحيم، وهو صاحب الفضل في أن جعل الشرع له وحده ولم يجعل حق التحليل والتحريم لغيره لئلا يتحكم في الخلق مخلوق، وهو صاحب النعم التي لا تعد ولا تحصى ولكن أكثر الناس لا يعرفون هذا ولا يشكرون فضل الله عليهم وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣].
مراقبته تعالى لعباده، وإحاطته بكل شيء علما [سورة يونس (١٠) : آية ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
المفردات:
شَأْنٍ أى: أمر مهم تُفِيضُونَ أفاض في الشيء أو أفاض من المكان اندفع فيه بسرعة ما يَعْزُبُ أى: يبعد يقال عزب الرجل بإبله يعزب أى: يبعد... بعد
المعنى:
وما تكون أيها الرسول في شأن من شئونك الخاصة بك أو العامة التي تدعو فيها إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك.
وانظر إلى التعبير عن العمل بالشأن حين خطابه صلّى الله عليه وسلّم فإن في ذلك إشارة إلى أن أعماله كلها عظيمة وخطيرة حتى العادي منها إذ هو قدوة حسنة لغيره، ولقد خاطب الأمة بعد خطاب النبي وهو سيدها في أخص شئونه وأعلاها فقال: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ صغير أو كبير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً فيه ومطلعين وسنجازيكم عليه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «١» إذ تفيضون فيه، وتندفعون بسرعة وخفة، وما يعزب عن ربك- جل شأنه- ولا يبعد عن علمه أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة «الذرة كالغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس من النافذة» في الأرض، ولا في السماء، ولا شيء أصغر من الذرة ولا شيء أكبر منها إلا وهو معلوم ومحصى في كتاب مرقوم عظيم الشأن تام البيان.
وهل هناك ما هو أصغر من الذرات؟ نعم أثبت العلم الحديث مبدأ تحطيم الذرة وتقسيمها إلى ذرات ولقد صدق الله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ «٢» نعم. ولقد أرتنا آلات الكشف الحديثة «كالمكرسكوب» دقائق في الكون ما كنا نعرفها قبل ذلك، فسبحان الذي يعلم ما في البر والبحر وما في الأرض والسماء!!
من هم أولياء الله [سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
(٢) سورة الحاقة الآيتان ٣٨ و ٣٩.
أولياء الله هم أحبابه وأصفياؤه، والخلص من عباده، المخلصون في عبادتهم وتوكلهم، وحبهم، هم الذين آمنوا وكانوا يتقون- أولياء جمع ولى- وهذه الكلمة تتكون من واو ولام وياء. وهذه الأحرف مجتمعة تدل على القرب، والقرب منه- تعالى- في المكان والجهة محال، إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معارفه، غارقا في بحر إدراكه، وسبحات وجهه، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع سمع آيات الله، وإن نطق نطق بالثناء على الله، وإن تحرك ففي خدمة دين الله، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله، وحينئذ يكون وليا من أولياء الله وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره، ومعينه ومتولى أمره، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. قال العلامة البيضاوي: أولياء الله الذين يتولونه باطاعة ويتولاهم بالكرامة ومحبة العبد لله تكون بطاعته ومحبة الله للعبد الكامل بحسن مثوبته، أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهذا الجزاء ثابت لجميع المؤمنين الصالحين المتقربين إلى الله في آيات كثيرة سبقت وستأتى.
الذين آمنوا إيمانا كاملا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وكانوا يتقون الله في ما يعملون ويذرون، فهم يتقون غضبه وعقابه بترك ما يغضبه، هؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر فيها ما داموا ينصرون الله ورسوله ويقيمون شريعته وأحكام قرآنه، ولهم البشرى بحسن العاقبة، وباستخلافهم في الأرض إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وأما البشرى في الآخرة فالنعيم والجنة العالية ذات القطوف الدانية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت الآيات ٣٠- ٣٢].
وهنا لبعض الناس كلام في الأولياء لست أراه.. نسأله التوفيق والهداية والله أعلم بكتابه..
العزة لله [سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)
المفردات:
الْعِزَّةَ الغلبة والقوة والمنعة يَخْرُصُونَ الخرص: الحزر والتخمين. لقد وعد الله أولياءه بالبشرى في الدنيا والآخرة، وأنهم لا يحزنون ولا يخافون وإذا كان لهم ذلك فما بالك بإمامهم وقائدهم الرسول الأعظم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم؟!!
المعنى:
ولا يحزنك يا محمد قولهم أبدا، الذي سجل عليهم في هذه السورة وغيرها من تكذيب وكفر وتعجب من الوحى إلخ. ما مضى، ولا تحزن فالله قد كتب وقدر
ألا إن لله كل من في السموات، وكل من في الأرض، وخص العقلاء بالذكر لكون غيرهم من باب أولى في العبودية والملكية، فالأصنام والأوثان التي لا تعقل أولى وأحق ألا تتخذ لله شريكا ولا ندا، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء في الربوبية؟ إن يتبعون إلا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا، وإن هم إلا يخرصون ويكذبون، فإن من يحكم حكما على غير أساس يكون كاذبا فيه ومدعيا غير الواقع وكيف يسوون الله الذي له كل من في السماء والأرض بهذه الأصنام؟ وهو الذي جعل لكم الليل ظلاما لتسكنوا فيه وتهدءوا من عناء العمل ولتجددوا نشاطكم حتى إذا أقبل النهار قمتم فيه للعمل والكدح في الدنيا والعبادة والتقرب إلى الله، فهو الذي جعل الليل للنوم والنهار مبصرا للمعاش والعبادة إن في ذلك لآيات واضحات لقوم يسمعون.
كيف يكون لله ولد [سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
سُلْطانٍ المراد حجة قوية تتسلط على العقول.
هذا لون آخر من شركهم، وادعاء باطل هو اتخاذ الله ولدا وقد شاركهم في ذلك بعض أهل الكتاب، ولذلك مكان آخر.
المعنى:
زعم بعض المشركين أن الملائكة بنات الله كما زعم بعض النصارى أن المسيح ابن الله وبعض اليهود أن عزير ابن الله، كبرت كلمة تخرج من أفواههم جميعا إن يقولون إلا كذبا وبهتانا، كيف يتخذ الله ولدا؟ وهو الخالق للسموات والأرضين وكل ما فيهما، لا يشبهه أحد من خلقه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه بل الكل محتاج إليه، وهو الغنى بذاته عن كل شيء- سبحانه وتعالى- له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا لا يشاركه في ذلك أحد.
والولد يحتاج إليه أبوه لإبقاء ذكره، وهو قوته وعصبته وأهله وعشيرته، ومتاعه وزينته، عليه يعتمد، وبه يفاخر، وقد يحتاج إليه في كبره وضعفه وهل يحتاج الله إلى شيء من ذلك كله؟! وهو الغنى- سبحانه وتعالى- عما يصفون!! ما عندكم من سلطان وحجة على قولكم الإفك!! أتقولون على الله ما لا تعلمون!! وهذا استفهام تبكيت وتوبيخ.
قل لهم: إن الذين يفترون على الله الكذب الصريح باتخاذهم الشركاء، وزعمهم أن له ولدا لا يفلحون أبدا، ولا ينجون من عذاب الله.
وهل يمتعون في الدنيا أم لا؟ فأجيب أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ومتاعها قليل لا قيمة له.
ثم إلى الله مرجعهم فسيحاسبهم حسابا عسيرا ثم يذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بالله ووصفه بما لا يليق قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [سورة الإخلاص].
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
المفردات:
كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم وشق عليكم مَقامِي أى: قيامي فيكم تَذْكِيرِي أى: إعلامى بآيات الله ووعظي ونصحى غُمَّةً أي: خفيا فيه شيء من الحيرة واللبس اقْضُوا أدوا إلى خَلائِفَ جمع خليفة والمراد: يخلفون غيرهم في عمارة الأرض وسكناها.
هذه السورة في خطاب المشركين والاحتجاج عليهم وإثبات الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة، وتذكيرهم بمن سبقهم وكيف كانت عاقبة المكذبين للرسل وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا.
المعنى:
واتل يا أيها الرسول على قومك المكذبين المغرورين قصة نوح وخبره المهم إذ قال لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي فيكم- فقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما- وشق عليكم ما أدعوكم إليه من عبادة ربكم وعدم الإشراك به شيئا، وكبر عليكم تذكيري بآيات الله ووعظي ونصحى لكم وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ [سورة هود آية ٣٤] إن كان هذا كله حصل فعلى الله وحده توكلت، وعليه اعتمدت لا على غيره.
فأجمعوا أمركم واتفقوا على ما تريدون مع شركائكم وآلهتكم التي تعبدونها من دون الله، ثم لا يكن أمركم بعد هذا خفيا عليكم بل كونوا على بصيرة منه، ثم اقضوا إلىّ بعد العزم الثابت والفحص التام الذي يجلى الأمر بحيث لا يكون فيه خفاء بما ترون، ونفذوا ما عزمتم عليه، ولا تنظرون، وهكذا الموقف! وهكذا الوثوق بالله، ولا غرابة في ذلك فهو نوح الأب الثاني للبشر، توكل على الله، ووثوق بنصره، وتحد سافر للمشركين ولشركائهم، فإن توليتم وأعرضتم عن دعوتي وتذكيري فما سألتكم على ذلك أجرا ولا مالا إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، يا قومنا إن أجرى وجزائي عند الله وحده، وقد أمرت أن أكون من المسلمين إليه المنقادين لحكمه. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه.
أما هم فكذبوه وعصوه، ولم يستمعوا لأمره ونهيه فكان من أمرنا وسنتنا التي لا تتخلف، أن نجيناه والذين معه في السفينة التي صنعها بأمرنا ووحينا، وجعلنا المؤمنين معه خلفاء في الأرض يخلفون أولئك المكذبين وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا بعد أن أنذرناهم ووعظناهم فانظر يا من يتأتى منه النظر. كيف كان عاقبة المنذرين الذين يكذبون الرسل خاصة أنت يا محمد انظر كيف كان حالهم وكذلك تكون عاقبة المؤمنين، وعاقبة المكذبين.
وهكذا، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت في الأمم السابقة نطبع على قلوب المعتدين إذا كانوا مثلهم، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا والمراد بالطبع عدم قبولها شيئا من نور الهداية والمعرفة لأنهم اعتدوا كل حد وتجاوزوا كل وضع سليم.
قصة موسى مع فرعون [سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
لِتَلْفِتَنا لتصرفنا عنه الْكِبْرِياءُ الرياسة الدينية والملك الدنيوي هذه هي قصة موسى وهارون مع فرعون وأشراف قومه، وهذه الآيات الأربع في تكذيب فرعون وملئه لموسى ووصف آياتهم بالسحر وبيان السبب في التكذيب.
المعنى:
ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين أرسلت إلى أقوامهم وكان منهم ما كان، بعثنا موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه، أما العامة فتابعون لهم في الإيمان والكفر ولذا لم يذكروا، بعثناهما مؤيدين بالآيات التسع التي ذكرت في سورة الأعراف وغيرها.
فاستكبروا، وأعرضوا عن الإيمان بموسى وهارون كبرا وعلوا في الأرض وفسادا وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الأنعام آية ١٢٣] وكان فرعون وملؤه قوما مجرمين، تلك خلاصة مجملة لقصتهم، وأما التفصيل.
فلما جاءهم الحق، وهو الآيات الدالة على الألوهية، وصدق رسله جاءتهم من عندنا على لسان موسى وهارون وعلى يديهما. قالوا: إن هذا لسحر مبين ظاهر، قالوا مقسمين على قولهم مؤكدين له بأن، واسم الإشارة، واللام، واسمية الجملة.
فماذا قال لهم موسى؟ قال: أتقولون هذا؟!! للحق الظاهر والآيات البعيدة عن السحر وكيده عجبا لكم أتقولون: أسحر هذا؟! أى: هذا الذي ترونه من آيات الله البيّنات لا يمكن أن يكون سحرا، وكيف يكون ذلك؟ والحال المعروف أنه لا يفلح الساحر في الأمور الجدية المهمة وإنما السحر خيال ووهم في الأمور الشكلية البحتة فكيف بعظائم الأمور من دين أو قانون.
قالوا: أجئتنا يا موسى لتصرفنا عن دين ورثناه عن قومنا، ووجدنا عليه آباءنا ولتكون لكما الرياسة الدينية، وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية، وما نحن لك
فلما جاءهم السحرة وجمعوهم من كل حدب وصوب قال لهم موسى بعد أن خيروه بين أن يلقى ما عنده أولا أو يلقوا هم ما عندهم كما هو في سورة الشعراء: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [الآية ٤٣] من فنون السحر وأفاعيله.
فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصى قال موسى: ما جئتم به هو السحر بعينه لا ما جئت به من الآيات التي سماها فرعون وملؤه سحرا، إن الله سيبطله قطعا أمام الناس ولا غرابة أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن الله يحق الحق بكلماته التكوينية والتشريعية ولو كره المجرمون، اقرأ يا أخى تتمة هذه القصة في سورة الأعراف وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ... [١١٧ وما بعدها]
الذين آمنوا بموسى [سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
ذُرِّيَّةٌ الصغار من قومه أَنْ يَفْتِنَهُمْ الفتنة الاختبار والابتلاء بالشدائد لَعالٍ قوى شديد البطش والفتك.
المعنى:
ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون، وألقى السحرة ساجدين، وقال فرعون: آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين إزاء هذا العمل الفاجر، والقوة الغاشمة: وبسبب هذا كله ما آمن لموسى وما استسلم له إلا ذرية من قومه بنى إسرائيل، آمنوا على خوف من فرعون وأعوانه، أن يبتلوهم بالشدائد، وأن يفتنوهم عن الإيمان، والحال أن فرعون لقوى البطش شديد الفتك قال: سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون. وإن فرعون لمن المسرفين المتجاوزين حدود العقل والإنسانية، وهكذا كل جبار عتيد.
وإذا كان لم يؤمن لموسى إلا الشبان المراهقون من قومه وجماعة من قوم فرعون يكتمون إيمانهم خوفا من بطش فرعون بعد ظهور هذه الآيات الكونية الظاهرة التي لا تدع شكا لناظر، فأنت يا محمد لا تحزن ولا تغتم بسبب إعراض قومك عن الإيمان بك، ولك في الأنبياء قبلك الأسوة الحسنة.
وقال موسى: يا قوم إن كنتم آمنتم، فاصبروا، وكونوا مؤمنين حقّا بالله، وعليه وحده توكلوا، وإليه وحده الجأوا إن كنتم مسلمين..
فقالوا: على الله وحده توكلنا، وبه وحده استعنا على أعدائنا وأعداء ديننا، ودعوا الله قائلين: ربنا لا تجعلنا فتنة بأن تنصرهم علينا فيفتتن الناس ويقولون: لو كان هؤلاء
[الروم ٤٧].
وأوحينا لموسى وأخيه، أن اتخذوا لقومكما بمصر بيوتا تسكنون فيها، واجعلا بيوتكم متقابلين في جهة واحدة، وقيل المعنى: واجعلوا بيوتكم قبلة للصلاة تصلون فيها خوفا من فرعون وملئه بدليل قوله وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين بحفظ الله ورعايته، ونصره لهم في كل زمان وحين.
من مواقف موسى مع فرعون [سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٨ الى ٩٣]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
زِينَةً ما يتمتع به من الحلل والحلي والرياش والأثاث واللباس اطْمِسْ طمس الأثر إذا أزاله حتى لا يعرف وَجاوَزْنا جاز المكان وتجاوزه، وجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم نُنَجِّيكَ نجعلك على نجوة من الأرض والنجوة المكان المرتفع الذي ينجى صاحبه من السيل.
وذكر سبب كفرهم وعنادهم، وهو حب الدنيا ومتاعها الفاني، وقال موسى:
ربنا إنك أعطيت فرعون وأعوانه وجنده زينة من الحلي والحلل، والفراش والأثاث، وأعطيتهم المال والجاه حتى بنوا القصور ورفعوا القبور، وأنفقوا في حظوظ الدنيا ومتاعها الشيء الكثير.
ربنا أعطيتهم هذا العطاء فكان عاقبة أمرهم خسرا، وكانت نتيجة هذه النعم أنهم ضلوا عن سبيلك، وأضلوا غيرهم.
ربنا اطمس على أموالهم، وأزل آثارها، وامحها بما تنزله من الآفات والكوارث، واشدد على قلوبهم، واربط عليها برباط قوى حتى لا ينفذ إليها نور الهدى والإيمان فيزدادوا قسوة وظلما، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
روى أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن، واستجاب الله دعاءهما، وأمرهما أن يظلا على استقامتهما ودعوتهما فرعون وقومه إلى الحق والعدل وألا يتبعا سبيل الذين لا يعلمون
كان لا بد للمتعب أن يستريح، وللمضطهد أن يتنفس الصعداء، ويخرج من السجن، نعم أراد الله لبنى إسرائيل أن يكشف عنهم ظلم فرعون، وأن يخرجوا من مصر إلى أرض الميعاد، وقد خرج بهم موسى وأخوه على حين غفلة من فرعون وعيونه فلما وصل خبرهم إليه، جمع جموعه وأدركهم على شاطئ البحر (بحر السويس) فقالوا: يا موسى هذا فرعون وراءنا والبحر أمامنا وماذا نفعل؟ فأوصى الله إلى موسى:
أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالجبل وسط البحر فساروا عليه وجاوزوا البحر بعناية الله ورعايته حتى كأنه معهم، أما فرعون فلحقهم هو وجنوده حالة كونهم باغين معتدين. وخاضوا البحر كما خاض بنو إسرائيل، ولكن اليم قد ابتلعهم إذ لم يركبوا سفن النجاة فلما أدركهم الغرق، وأيقنوا أنهم المغرقون لا محالة قال فرعون في تلك الحال التي يؤمن فيها البر والفاجر، والكافر والعاصي، تلك الساعة التي لا تنفع فيه توبة، ولا إيمان، قال: آمنت بالله، أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين المنقادين. تراه وقد جمع الإيمان والإسلام، وكرر المعنى الواحد ثلاث مرات ولكن هو كما قال الشاعر:
أتت وحياض الموت بيني وبينها | وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل |
فها هم بنو إسرائيل الضعفاء المستضعفون الذين طالما أذاقهم فرعون سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين!! الله نجاهم ونصرهم على من؟ على فرعون صاحب الجند والطول، والحول والقوة، فرعون الذي يقول: أنا ربكم الأعلى!! أليس لي ملك مصر؟ وهذه الأنهار تجرى من تحتي.
وها أنتم أولاء يا معشر قريش لستم أشد قوة ولا أكثر جندا، ولا أكثر مالا وعددا من فرعون. فاعتبروا يا أولى الأبصار: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ.
وإذا كان كذلك فما اختلفوا حتى جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل بعثة النبي (محمد) مقرين به، مجمعين عليه، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ولما بعث اختلفوا فيه فآمن بعضهم وكفر البعض الآخر حسدا وحبا للرياسة ولجمع المال، وإن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا يختلفون، وسيجازيهم على ذلك فلا يهمنك أمرهم في شيء.
تقرير صدق القرآن [سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
المفردات:
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أى: ثبت عليهم قضاؤه وحكمه.
المعنى:
أن الله- عز وجل- قدم ذكر بنى إسرائيل فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ
لا والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم، وقيل: خوطب رسول الله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والمراد أمته أو من يقع في شك فعليه بالرجوع إلى مصادر العلم من الكتب الإلهية، ومناقشة أهل العلم ورجاله.
تالله لقد جاءك الحق الثابت من ربك الذي لا شك فيه أبدا ولا ريب، فلا تكونن من الممترين الشاكين. والمراد دم على ما أنت عليه. ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة، وفي هذا تعريض بالكفار المكذبين الخاسرين الضالين.
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك وثبت فيهم حكمه وقضاؤه لا يؤمنون أبدا، وليس المعنى أن الله يمنعهم من الإيمان، بل هم الذين يختارونه ويكسبونه، والمراد أن من علم الله فيهم خيرا أو شرا لا بد من حصوله لأن علم الله لا يتخلف.
إن هؤلاء الذين علم الله أنهم لا يؤمنون. هم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية كونية أو علمية أو قرآنية، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وحينئذ لا ينفعهم إيمان ولا توبة.
إيمان قوم يونس [سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
الرِّجْسَ القذارة، وأقبح الخبث المعنوي.
المعنى:
الإيمان الذي ينفع صاحبه هو الإيمان وقت التكاليف، أما إذا حصل في وقت تسقط فيه التكاليف. وذلك عند حشرجه الموت، أو عند الغرق، كما حصل لفرعون، أو عند نزول العذاب، فلا ينفع نفسا- والحالة هذه- إيمانها.
فهلا كانت قرية من القرى التي أرسل فيها الأنبياء السابقون آمنت في وقت ينفعها الإيمان أى: وقت العمل لا وقت نزول العذاب واستحالة العمل والمعنى: ما كانت قرية آمنت إلا قوم يونس آمنوا لما ذهب مغاضبا، وحذرهم العذاب الشديد، ورأوا تباشيره، فلما آمنوا كشفنا عنهم العذاب، ومنعنا عنهم الخزي والهلاك في الدنيا، ومتعناهم لما آمنوا إلى انقضاء آجالهم المقدرة لهم.
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. بأن يخلقهم وفيهم الاستعداد للإيمان فقط كالملائكة، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن شاءت مشيئته العالية لحكم هو يعلمها أن يخلق الإنسان وفيه استعداد للخير والشر، وللإيمان وللكفر وتركه بلا إلجاء وقسر بل جعل له الحرية الكاملة لاختيار إحدى الطريقتين بعد أن هداه النجدين وأبان له الأمرين.
أفأنت تكره الناس على الإيمان؟!! لا، لا إكراه في الدين لمخلوق أبدا وإنما الذي يقدر على الإكراه هو الله- سبحانه وتعالى- القادر على كل شيء.
إنذار وبشارة، وحث على العلم [سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
المفردات:
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا المراد: وقائع الذين مضوا وحوادثهم.
المعنى:
يأمرنا الله- سبحانه وتعالى- بالنظر والتفكير بعين البصيرة والاعتبار انظروا ماذا في السموات والأرض من آيات الله البينات؟ انظروا ما فيها من نظام رتيب، وترتيب عجيب وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «١» انظروا إليها بعين البصر والبصيرة، تجد خالق هذا الكون على هذا النظام لا يمكن أن يتركه هملا، ولم يخلقه عبثا، وهذا يدعو إلى التصديق بالرسل والإيمان بالوحي والقرآن.
وفي هذه الآية إشارة إلى وجوب النظر في الكون، والبحث عما فيه للاعتبار، وتربية الخشية من الله والإيمان به، وحث على العلم والبحث في الكون ولا غرابة فأنت إذا قلت أن أول ما نزل على نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «٣» أدركت أن الإسلام دين علم وعمل، وأن نبيك الأمى هو المعلم الأول.
المبادئ العامة للدعوة الإسلامية [سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
(٢) سورة التوبة آية ١١١.
(٣) سورة العلق آية ١.
يَتَوَفَّاكُمْ يقبض أرواحكم حَنِيفاً مائلا عن الشرك وما يتبعه بِضُرٍّ من مرض أو ألم.
المعنى:
قل يا محمد للناس جميعا قولا مجملا مختصرا تبين فيه الخطوط الرئيسية لرسالتك العامة الشاملة، إن كنتم في شك قليل من ديني ورسالتي فاعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدونهم من دون الله أبدا، كالأحجار، والأصنام، والأوثان، والبشر هؤلاء جميعا لا ينفعون ولا يضرون أنفسهم فكيف يتصور منهم نفع أو ضر لغيرهم؟ ولكني أعبد الله وحده لا أشرك به شيئا- سبحانه وتعالى- الذي يتوفاكم إليه، وإليه مرجعكم وجزاؤكم، وعنده حسابكم الدقيق الذي أحصى كل شيء عددا، وأمرت أن أكون من المؤمنين الناجين من عذاب يوم القيامة، وهذا الوصف بالإيمان يجمع جميع شعبه ونواحيه، وأمرت بأن أقيم وجهى خالصا لله ولدينه مائلا عن الشرك بكل صوره وأشكاله البسيطة والكبيرة، ونهيت عن أن أكون من المشركين، ولا تدع يا محمد متجاوزا الله- سبحانه- ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين لنفسك.
واعلم أن الله- سبحانه وتعالى- إن يمسسك في جسمك أو في مالك بأى شكل كان فلا كاشف لهذا الألم والضر إلا هو..
وإن يرد بك خيرا في دينك أو دنياك فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مانع لفضله- سبحانه وتعالى- عما يصفون.
بل فضله يصيب به من يشاء من خلقه حسب حكمته وعلمه وهو الحكيم في أمره العليم بخلقه وهو الغفور الرحيم.
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
هذه خاتمة المطاف في تلك السورة العظيمة التي شرحت الأسس العامة للذين، وبينت عقائد الإسلام التي ينكرها مشركوا العرب من توحيد الله. والوحى والرسالة والبعث والجزاء، وما ينكرونه من صفات الله- سبحانه وتعالى- وتكلمت على القرآن الكريم وهدايته وما فيه من خير للبشرية جميعا، وكيف كانت الأمم السابقة وما حصل لها، نتيجة كفر من كفر وإيمان من آمن.
هذا النداء المأمور به الرسول الأعظم هو للناس جميعا على اختلاف أشكالهم وألوانهم من سمع منهم بالقرآن ومن سيسمع في المستقبل وهو إجمال عام لما في السورة.
قل يا أيها الرسول للناس جميعا قد جاءكم الحق من ربكم على لسان رجل منكم أوحى إليه، هذا الحق الثابت الذي لا شك فيه كتاب أحكمت آياته، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فمن اهتدى به فإنما يهتدى لنفسه ومن كفر فإنما يضل على نفسه، وما أنا عليكم بوكيل، إن أنا إلا نذير وبشير.
واتبع يا محمد ما يوحى إليك من ربك في القرآن علما وعملا وتعليما وحكما وهداية وإرشادا، واصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين.
يا أيها الناس....
إن الله الذي وضع نظاما دقيقا محكما لهذا الكون وما فيه، لم يختل ولن يختل لا
والله قد أنزل القرآن وفيه حكم الله وآياته وقوانينه الصالحة النافعة، قوانين إلهية ودساتير ربانية صنعها صانع السماء والأرض، وأوجدها موجد هذا الكون. أفبعد هذا تتركونها إلى غيرها أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. [سورة المائدة آية ٥٠].
أسأل الكريم في ختام هذا الجزء أن يوفق قادة الأمة وحكامها إلى الخير والسداد في اختيار دستور البلاد وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة آية ٤٩].