ﰡ
هذا التعريف مأخوذ أساسا مما كتبه فضيلته بنفسه بناء على طلب أحد طلاب العلم من باكستان متقدما برسالة لنيل درجة الدكتوراه عن الإمام أبو زهرة.
ولد الإمام محمد أحمد مصطفى أبو زهرة في مارس سنة ١٨٩٨ م في مدينة المحلة الكبرى إحدى مدن محافظة الغربية.
حفظ القرآن الكريم في صدر حياته في الكُتَّاب، إذ هو من أسرة دينية تنتسب إلى ولي من أولياء الله هو الشيخ مصطفى أبو زهرة الشهير بالششتاوي الذي يزار ضريحه بمسجده ببلدة شيشتا في مدينة المحلة الكبرى ووالده هو الشيخ أحمد مصطفى أبو زهرة مشهور بالصلاح والالتزام بالدين الحنيف ومكارم الأخلاق ووالدته حافظة للقرآن الكريم وكانت تراجع معه ما حفظ قبل الذهاب إلى الشيخ في الكتاب، وتميز عن إخوته وأخواته بحفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز التاسعة من العمر، ولأنه كان ذا حافظة قوية، سريع البديهة فلم ينل من قسوة أستاذه بالكتاب إلا قليلا.
كانت الأسرة من متوسطي الحال يظنها الناس من الأثرياء اشتهرت بالعلم والذكاء، وقد نبغ منها شقيقه الأستاذ الدكتور مصطفى أحمد أبو زهرة منشئ ورئيس قسم هندسة الطيران بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) وأيضا الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة لندن بإنجلترا.
التحق في سنة ١٩١٣ م بالجامع الأحمدي بطنطا ومكث فيه ثلاث سنين، وفي هذه الفترة ابتدأ نبوغه وتفوقه يظهر حتى أن شيخ الجامع وهو الشيخ الأحمدي الظواهري الذي صار شيخا للأزهر، اقترح أن يمنح مكافآت خاصة لامتيازه، كما اقترح بألا يمكث في طلب العلم الأزهري خمسة عشر عاما، كما كانت المدة المقررة، بل إن مثله يصح أن يتجاوز سنين عدة في سنة واحدة، ولم يتم تنفيذ هذا القرار لصعوبته قانونيا، ولانتقاله إلى مدرسة القضاء الشرعي.
التحق في سنة ١٩١٦ بمدرسة القضاء الشرعي بعد امتحان مسابقة كان فيها من الأوائل. وتكوينه العلمي الحقيقي كان في هذه المدرسة التي أنشأها سعد باشا زغلول في وزارة المعارف على أن تكون عالميتها من درجة أستاذ وعهد بإدارتها إلى رجل عظيم هو عاطف باشا بركات. ومن وقت أن دخل المدرسة كان ينظر إليه ناظرها عاطف باشا بركات نظرة اهتمام وتشجيع، وقد مكث فيها تسع سنين، أربعة في القسم الثانوي وخمسة في القسم العالي، وفيها اتسعت آفاقه الفكرية ولما تخرج منها ونال شهادة العالمية من درجة أستاذ عام ١٩٢٥ كون لنفسه منهجا فكريا في فهم الشريعة وتفسيرها، وكلما تعمق فيها ازداد إيمانا بها.
في ذلك الحين كان قيام ثورة (١٩١٩ م)، فوقف على الكثير من دقائق أحداثها ووقائعها، وأحب سعد باشا زغلول وتعلق به وكان حريصا على حفظ خطبه وترديدها.
أخذ دبلوم دار العلوم من الخارج سنة ١٩٢٧ م وفي هذه السنة عين مدرسا للشريعة واللغة العربية بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي لمدة ثلاث
انتقل في أول يناير سنة ١٩٣٣ م إلى كلية أصول الدين مدرسا للجدل والخطابة فيها ثم تاريخ الديانات والملل والنحل، وفيها أخرج أول مؤلفاته كتاب " الخطابة " وكتاب " تاريخ الجدل " ثم كتاب " تاريخ الديانات القديمة " ثم كتاب " محاضرات في النصرانية " الذي ترجم إلى عدة لغات.
في ٢ نوفمبر ١٩٣٤ م نقل مدرسا للخطابة بكلية الحقوق جامعة القاهرة (فؤاد الأول) مع بقائه بالانتداب في كلية أصول الدين التي استمر بها إلى يونيو سنة ١٩٤٢ م وارتدى الزيَّ الأزهرى.
في سبتمبر سنة ١٩٣٥ م انتقل من تدريس اللغة العربية إلى تدريس الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة القاهرة (فؤاد الأول) متدرجا في مراتبها من مدرس إلى أستاذ مساعد إلى أستاذ كرسي إلى رئيس قسم الشريعة ووكيلا لكلية الحقوق جامعة القاهرة لمدة خمس سنوات انتهت ببلوغه سن التقاعد سنة ١٩٥٨ واستمر في التدريس بكلية الحقوق كأستاذ غير متفرغ وفي غيرها حتى توفاه الله عام ١٩٧٤ م.
وقد تولى التدريس في كلية المعاملات والإدارة بجامعة الأزهر سنة ١٩٦٣ م وكذلك معهد الخدمة الاجتماعية وغيره من المعاهد.
وقد اشترك في إنشاء وتولى التدريس ورئيسا لقسم الشريعة الإسلامية بمعهد الدراسات الإسلامية ومعهد الدراسات العربية العالي التابع لجامعة الدول العربية.
واشترك في إنشاء جمعية الدراسات الإسلامية.
كان أيضا عضوا بمجلس جامعة الأزهر، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومعهد البحوث الجنائية والاجتماعية، والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ومجلس محافظة القاهرة.
* * *
صفاته - سعة علمه ومبدؤه:
كان رحمه الله، أبيض اللون، جهير الصوت، شديد الذكاء، سريع البديهة، منظما وحر الفكر، راجح العقل، شديد الإيمان بما يقول، مستقل الرأي لَا يخشى في قول الحق لومة لائم، ويمزج في محاضراته العلم الجاد الوقور بالدعابة الحلوة الخفيفة.
كان رحمه الله عالما متبحرا في الفقه وأصوله وفي علوم القرآن وتفسيره، وخطيبا مفوها، وأصوليا متعمقا، ومجتهدا يقرع الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق لَا يشق له غبار يسعى دائما لتقديم الجديد والفريد للمكتبة العربية والإسلامية رافضا أن تكون كتاباته تردادا لأقوال الآخرين لما عرف عنه من اعتزازه بنفسه وبغضه لسيطرة الآخرين بغير حق.
كان رحمه الله يعيش للمبادئ ويكافح من أجلها، يناضل لعقيدة يحيا فيها ويعيش لها، يعلن رأيه ويجمع الناس عليه فقد كان فقيها في مقدمة الفقهاء ورائدا تقدم القافلة وقد تشابهت أمامها السبل المتباينة. وقد عرض عليه البقاء والعمل بالخارج فقال: " إن وجودي في مصر هنا يؤدي واجبا أرى أنه أصبح بالنسبة لي أشبه بفرض العين؛ فأنا على ثغر من ثغور الإسلام يتأثر بها أي بلد عربي وأي بلد إسلامي، فمصر هي العقل وهي القلب وهي الأزهر. فكان رحمه الله بحرا زاخرا، وفيضا فياضا، ورائدا عاش حياته حاملًا اللواء يمزج بين العلم والشجاعة، ومن هنا كثر رواده وعظم قصاده وقيمة العالم
* * *
المؤلفات والبحوث
بجانب أشهر المؤلفات والموسوعات الإسلامية التي تزيد عن الأربعين فقد كانت له الكثير من البحوث في العديد من المجلات العلمية والاجتماعية: مجلة القانون والاقتصاد، ومجلة المسلمون، ومجلة حضارة الإسلام، ومجلة القانون الدولي، وكتاب أسبوع الفقه الإسلامي، وكتاب أسبوع القانون والعلوم السياسية، ومجلة الأزهر، ومجلة العربي والعديد من المجلات بمختلف الدول العربية. وكذلك عدد لَا يحصى من الأحاديث الصحفية كان يرد بها على المهاجمين للإسلام وللدفاع عن قوانين الأحوال الشخصية.
أما في مجلة لواء الإسلام الشهرية لصاحبها أحمد باشا حمزة فكانت للإمام أبو زهرة أربعة أبواب ثابتة هي: تفسير القرآن الكريم، ومقال اجتماعي، وندوة لواء الإسلام، وباب الفتاوى للرد على أسئلة القراء. هذا على مدى ما يقرب من الأربعين عاما فيما لَا يقل عن أربعة آلاف صحيفة.
كان لفضيلة الإمام نشاط واسع في محاضرات وندوات عامة في مختلف الجمعيات الاجتماعية والإسلامية العامة والخاصة داخل مصر وخارجها. لفضيلة الإمام العديد من الأبحاث ألقيت في المؤتمرات والندوات الدولية التي حضرها مثل: حلقة الدراسات الاجتماعية التي انعقدت في دمشق ١٩٥٢ م - مؤتمر الندوة الإسلامية الذي عقد في لاهور (باكستان) في الفترة من ٢٩/ ١٢/ ١٩٥٧ إلى ١٣/ ١ / ١٩٥٨ - مؤتمر الخبراء الاجتماعيين الذي انعقد عدة مرات بالقاهرة وانعقد بالكويت عام ١٩٥٨ - مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد بالجزائر عام ١٩٦٩ ثم بالمغرب عام ١٩٧١ ثم بالقاهرة عام ١٩٧٣.
قام العديد من الباحثين بعمل رسائل ماجستير ودكتوراه عن الإمام محمد أبو زهرة في باكستان والهند وسائر البلاد الإسلامية كما ترجمت له العديد من المؤلفات.
* * *
أشهر مؤلفاته وكتبه:
١ - الخطابة.
٢ - تاريخ الجدل.
٣ - تاريخ الديانات القديمة.
٤ - محاضرات في النصرانية.
٥ - محاضرات في الوقف.
٦ - محاضرات في عقد الزواج وآثاره، مقارنة بين المذاهب الفقهية والقوانين العربية.
٧ - أصول الفقه.
٨ - أحكام التركات والمواريث.
٩ - الجريمة في الفقه الإسلامي.
١٠ - العقوبة في الفقه الإسلامي.
١١ - الميراث عند الجعفرية.
١٢ - أصول الفقه الجعفرى.
١٣ - الأحوال الشخصية.
١٤ - الإمام الصادق: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
١٥ - الإمام أبو حنيفة: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
١٦ - الإمام مالك: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
١٧ - الإمام الشافعي: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
١٨ - الإمام أحمد بن حنبل: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
١٩ - الإمام ابن حزم الأندلسي حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
٢٠ - الإمام ابن تيمية: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
٢١ - تاريخ المذاهب الإسلامية جزءان في مجلد واحد.
٢٢ - المعجزة الكبرى (القرآن).
٢٣ - خاتم النبيين - ثلاثة أجزاء في ثلاثة مجلدات.
٢٤ - الملكية ونظرية العقد.
٢٥ - شرح قانون الوصية.
٢٦ - الدعوة للإسلام.
٢٧ - الولاية على النفس.
٢٨ - العقيدة الإسلامية.
٢٩ - المجتمع الإنساني في ظل الإسلام.
٣٠ - التكافل الاجتماعي في الإسلام.
٣٣ - تنظيم الإسلام للمجتمع.
٣٤ - تنظيم الأسرة وتنظيم النسل.
٣٥ - بحوث في الربا.
٣٦ - الوحدة الإسلامية.
٣٧ - نظرية الحرب في الإسلام.
٣٨ - مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني.
٣٩ - بحث في قانون الأسرة - نشر بكتاب عن الفقه الإسلامي بنشرة معهد واشنطن للقوانين الدولية.
٤٠ - بحث في السياسة الإسلامية - نشر في مجلة القانون الدولى المصرية.
٤١ - نظرات في العبادات الإسلامية.
٤٢ - تفسير القرآن الكريم (زهرة التفاسير) حتى الآية ٧٣ من سورة النمل.
* * *
وفاته:
عقد الإمام محمد أبو زهرة في أواخر عام ١٩٧٣ وأوائل عام ١٩٧٤ العديد من الندوات والاجتماعات بجامعة القاهرة والإسكندرية وفي جمعية الشبان المسلمين لمحاربة التعدي على الشريعة الإسلامية، وكانت له صولات وجولات في مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بخصوص تحديد النسل وتقييد تعدد الزوجات والطلاق في مشروع قانون الأحوال الشخصية لوزارة الشئون الاجتماعية، وقرر فضيلة الإمام رحمه الله إقامة مؤتمر شعبي لمناقشة هذا الأمر في سرادق كبير في شارع العزيز بالله أمام منزله بضاحية
رضي الله عن شيخ مشايخ عصره، الإمام محمد أبو زهرة وأرضاه، وأسكنه فسيح جناته وأجمل فراديسه، وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أسرة الإمام الجليل محمد أبو زهرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي بُعث رحمة للعالمين وسراجًا منيرًا، وعلى آله وأصحابه الذين قبسوا من نوره، وجمعوا القرآن وحفظوه ليكون حجة الله تعالى القائمة إلى يوم الدين؛ وتحقيقًا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩).أما بعد:
فمنذ كنت طالبًا أشدُو في طلب العلم، وأنهل من معارفه على قدر طاقتي، وأنا أتَشَوَّف لمعرفة القرآن الحكيم، وأتعرف أسرار بيانه ومعانيه، وأرى أن علمه هو الشريعة، وأنه ما ترك صغيرة ولا كبيرة منها إلا أحصاها، وأن محمدًا - ﷺ - علَّم الناس علمه، وبينه وأحكم بيانه، وحكم به بين الناس، وأظهر برهانه، فهو برهان الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكم برْهَانٌ مِن رَبِّكِمْ... ، وهو الحق الذي لَا ريب فيه، وهو حكم الله تعالى لَا يأتيه الباطلِ من بين يديه ولا من خلفه، فقد قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦)
ولقد كانت أمنيتي العلمية أن أكون قريبًا منه دائما، وكنت أراجع الكتب التي تصدت للتعريف بمعانيه؛ موجزها ووسيطها ومبسوطها، قديمها وجديدها، مؤمنا
ولما شرفنا الله تعالى بتدريس العلوم العربية والشرعية كان أول دروسنا في تعرف معاني القرآن، فكان ذلك يمنًا وبركة وإشعارًا بتوفيق الله تعالى لنا، في مستقبل أعمالنا.
ولكنا شُغِلْنَا عن تفسير القرآن بدروس إسلامية أخرى، وإن كنا لم ننقطع عن القرآن، وإن كان ذلك في أوقات قصيرة، فكلما دعينا لمحاضرة عامة، جعلنا القول في علم القرآن غايتنا، فكنا نعود إليه الفينة بعد الفينة، حتى دعتنا مجلة دينية كانت لها مكانتها، ولصاحبها مكانة من تقوى الله، لنكتب فيها تفسيرًا أتمم به ما بدأه طيب الذكر فضيلة الشيخ محمد الخضر التونسي رضي الله عنه، وكان قد وصل في تفسيره إلى قوله تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ....
وقمنا بما استطعنا، ووسعته طاقتنا حتى وصلنا إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَعِندَة مَفَاتِح الْغَيْبِ... ، ثم حيل بيننا وبين السير في محملنا، بمعوقات تتصل بوحدة النسق والكرامة.
والآن قد ابتدأنا الكتابة في معاني القرآن الكريم من أوله إلى ما وصل إليه الشيخ الإمام الخضر، رحمه الله تعالى.
حتى إذا وصلنا إلى ذلك نشرنا ما كنا قد كتبناه في المجلة، ثم نستأنف بعد ذلك القول في معاني القرآن من قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.... وقد كان مقررًا أن نكتب مقدمة للتفسير نبين فيها نزول القرآن منجما، وجمعه في عهد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وجمعه في عهد ذي النورين، وبيان إعجازه ووجوه ذلك الإعجاز، وعن قصصه، وعلومه، وجدله بالتي هي أحسن، وعن مناهج تفسيره وترجمته، (والغَناء به) (١).
________
(١) الغَناء - بالفتح - في كلام العرب: النفع والكفاية.
ولكن وقد اتجهنا إلى ذلك اتسع البحث علينا، ووجدنا أن ذلك قد يكون في ذاته غرضًا مقصودًا يقصد بالذات لَا بالتبع؛ ولذلك أخرجناه كتابًا قائمًا بذاته سميناه " المعجزة الكبرى ".
فهذا الكتاب وإن كان مقصودا بالجوهر والذات، هو أيضا مقدمة للتفسير، ويغني عن كتابة مقدمة جديدة، وإنا بعون الله تعالى نتجه إلى الله تعالى ضارعين إليه أن يمدنا بعونه وتوفيقه في القيام بحق كتابه الكريم علينا، وإننا بكرمه وفضله دائبون على كتابة ما قصدنا، حتى يوافينا الأجل المحتوم ونحن في جوار كتابه العزيز، عاملين لَا نبتعد عن عَرفه (١) ولا تتجافى مقاعدنا عنه.
اللهم أيدنا بالقوة والإخلاص، وأن يجعله نورًا لنا، وأن يحفظ كتابه من الأهواء التي تبغي تأويله بغير هدى نبيه، وتحويل معانيه عن غاياتها، وأن يقيه من الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ولا يسلكون الجَدَد (٢)، اللهم وفقنا لما تحب وترضي.
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨).
الإمام محمد أبو زهرة
________
(١) العَرف، هكذا بالفتح: الرائحة مطلقا، وأكثر ما يسعمل في الطيبة منها.
(٢) يملكون الجَدَد: يجتهدون. والجدد: الأرض المستوية.
الحمد لله رب العالمين الذي أرسل بالحق محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار.
أما بعد، فقد كانت معجزة هذا الرسول الأمين، خاتم النبيين تتناسب مع امتداد زمانها إلى يوم الدين، كانت خالدة باقية بخلودها، فكانت كلامًا معجزًا يتحدى الأجيال كلها، إنسها وجنها أن يأتوا بمثلها: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
وفيه علاج النفس، وطبها ودواؤها، وغذاؤها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ من رَّبِّكُمْ وشفَاءٌ لمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ)، وهو برهان رسالة محمدٍ - ﷺ - ونورها المبين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ من رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا).
وإن الرسل السابقين كانت لهم معجزات تقرع الحس، ولكنها انقضت بانقضاء زمانها، ولولا أن القرآن الكريم سجلها ما علمها أحد، أما القرآن فباقٍ إلى يوم
وإنا والحمد لله قد شغفنا حبا بالقرآن وتعرف أسراره ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وما وسعه وقتنا، وكنا ونحن نتلوه، ونتعرف ما يمكن أن نسمو إلى معرفته من معانيه نجد أمرين:
أولهما: أن كتب التفسير المطولة تبعثر المعاني السامية منه - وكل معانيه سامية - وسط مضطرب من الأقوال في علم الكلام ومذاهبه، وآراء الفقهاء واستدلال كل صاحب مذهب على مذهبه، فوجدنا بعض التفسيرات يتجه إلى الإعراب، ومذاهب النحويين، والمعاني الروحية السامية للقرآن تتمزق بأوجه الإعراب، والقرآن المعجز وراء ذلك مستور بغشاء من الجدل والاختلاف وتوجيه الأقوال. والموجزات من التفسير يتجلى فيها القرآن مشرقا نيِّرا كما هو في ذاته، ولكن لَا تخلو من توجيه النص القرآني بالمذهب الأشعري أو المعتزلي وإن كانت لَا تثير جدلا حول المعاني القرآنية إلا قليلا.
ثانيهما: أننا وجدنا تطابق أقوال المفسرين في فهم آيات لَا نرى أنها متفقة مع المبادئ المقررة في القرآن كأقوال المفسرين في قوله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)، وتفسيرها على أنها تبين رفعة الأغنياء على الفقراء، وما ذلك بصحيح في المبادئ الإسلامية، ولا المقررات الدينية. وكذلك قول المفسرين إلى عهد الحافظ ابن كثير في تفسير الآيات (وَمَا كَانَ لمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمن يَعْصِ الَلَّهَ وَرسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا)، وقد أجمع الأكثرون قبل الحافظ على أنها في عشق النبي - ﷺ - لزينب بنت جحش، وما كان لنا إلا أن نصحح المعاني ونقول الحق الذي يناسب علو القرآن وكمال الرسالة مخالفين هؤلاء، فكتاب الله أعلى من أقوالهم، ومقام الرسول الأمثل أعلى من أقوالهم، ولو
من أجل هذا تسامينا بما فوق طاقتنا، واستخرنا الله تعالى، وكتبنا معاني الذكر الحكيم، كما أدركت عقولنا، (لا يُكَلِّفُ اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
، ولا يكلف إنسان فوق طاقته، وإننا نقارب ونسدد.
وإنه يجب أن ننبه إلى أمور ثلاثة:
أولها: أننا لَا نتجه إلى الأغاريب إلا إذا اضطررنا لتوجيه المعاني وتقريب الناس من إدراكها، وإن ذلك نادر، وليس بالكثير.
ثانيها: أننا لَا نذكر من القراءات المختلفة إلا إذا ترتب على اختلافها اختلاف في المعاني، فنذكرها كلها، على أنها كلها قرآن، وأن هذه المعاني كلها مقصود في القرآن السامي، ودليل على إعجازه.
ثالثها: أننا في بعض المواضع نأتى بالكلام مطنبا، وذلك لنقرب الناس من معاني القرآن التي تكون موجزة في ألفاظها ثرية في معانيها، فنحاول أن نقرب الناس من هذه المعاني؛ لأنه ليس عندنا طاقة هذا الإيجاز البليغ الذي هو من دلائل الإعجاز.
هذا وإنا لَا نحاول فيما يتعلق بالكون أن نحمل الألفاظ السامية فوق ما تحتمل أو غير ما تحتمل.
اللهم نسألك التوفيق، فلولا توفيقك ما اهتدينا، ولا وصلنا إلى غاية. إنك أنت السميع البصير، ولا نستمد العون إلا منك، وإنك نعم المعين.
* * *
كان أحب إليَّ منذ كنت طالبًا علم القرآن، ودراسة هذا الكتاب العظيم في بيانه المعجز الذي تحدى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، وتحدى الخليقة إلى اليوم فلن يستطيعوا أن يأتوا بمثله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
وهو يتحدى الفكر الإنساني ببلاغته، ومعانيه، وقصصه، وشريعته، وتوجيهه الأنظار إلى الكون بما فيه من ذكر السماوات والأرض، وخلق الإنسان، واختلاف ألوانه وألسنته، والنفس الإنسانية في خواطرها، وما يعليها، وما يُدسِّيها، وسيطرة الخالق على ما خلق، له الملك في السماوات الأرض وهو على كل شيء قدير.
كنت طالبًا بالأزهر ثم بمدرسة القضاء الشرعي، وكنت أميل إلى علم تفسير القرآن؛ يصغي قلبي إليه، ويصبو فكري نحوه، وذلك من بين علوم الإسلام وعلوم الحياة المختلفة التي كانت تدرس، فكان لكل علم ناحية في نفسي، أما علم القرآن فكان قلبي كله له.
ولما تخرجت فى هذه المدرسة كان حب القرآن وعلوم القرآن مختلطا بنفسي، ومن حسن المصادفات الموفقة أن يكون أول درس ألقيه، بعد أن شددت في العلم، هو القرآن.
لقد علمت أني عينت مدرسا بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي في يوم ْالعاشر من أكتوبر سنة ١٩٢٧، فلما ذهبت لأتسلم العمل في ذلك اليوم، سلمني شيخنا العارف بالله المرحوم الأستاذ حسن منصور الذي كان وكيلًا لمدرسة القضاء الشرعي، وأستاذ التفسير بها - سلمني الجدول، وكله في مادة التفسير، في السنة
ولما تكشَّفت الغمة، وزال الحكم الطاغوتي، وزالت آثاره التي بقيت بعده شهورا، وحملت القلم لأعود إلى أداء الواجب، تعذر على أن أقوم بواجبي مع الكرامة، وكان لي ما كان للمرحوم الخضر رضي الله عنه، وقد ألحَّ عليَّ الكثيرون من أهل العلم وطلابه أن أتمم ما بدأت في " لواء الإسلام "، وتكرر الطلب، فوجدت أن من الواجب عليَّ أن أقوم بكتابة التفسير مستعينًا الله، متوكلًا عليه، ضارعًا إليه أن يمن بتوفيقه، فلولا توفيقه ما اهتدينا إلى عمل، وما أتممنا عملا بدأناه.
فابتدأت بكتابة الجزء الذي كتبه الإمام الخضر، ليكون التفسير كله نسقا واحدا، وعلى منهاج واحد، وها نحن أُولاء نسير في الطريق ضارعين إليه سبحانه وتعالى أن نصل إلى الحق فيما نكتب.
نحن ممن يتبعون إلى حدِّ ما؛ ما كان يقوله الأستاذ العظيم العبقري عاطف بركات في أن القرآن كتاب مبين لَا يحتاج إلى تفسير، فإنه لَا إبهام فيه يحتاج إلى توضيح، وكل من يحاول توضيحه لَا يصل إليه، فمن ذا الذي يصل إلى آفاقه، وممن كتب في تفسيره من الماضين من حجب معانيه بكثرة الأقوال المتعارضة والآراء المتباينة، حتى أثار غبارا حجب عن الباحث نوره.
ولكن القرآن الكريم فيه فقه هذا الدين، وفيه خبر من مضى، وعلم الآخرين، وفيه علم الكون والوجود الإنساني، وفيه توجيه إلى مناحي الحياة، وفيه القصص الحكيم، وفيه أسماء الأماكن وإشارات إلى وقائع، وفي الجملة فيه الكون والإنسان، وهو فوق ذلك حمَّال للمعاني السليمة، وفيه علوم الدولة والآحاد، فلابد من أن يتصدى لذلك أهل الخبرة في العلوم، والفقه، واللغة والبيان، وإن كانوا لَا يبلغون الغاية، ولاينالون مما يبغون الكفاية.
فلابد أن يكون للقرآن تفسير تتولاه جماعة علمية، من أولى العَصَبة من العلماء، ولكن لَا نجد التعاون العلمي الجماعي، في الحاضر، وقد حاولناه مع غيرنا، ولم نجد ذلك التعاون في الماضي، وإن وجدنا مخلصين لله وكتابه، مستبحرين في علوم الآثار واللغة، ويا حبذا لو أن هؤلاء اجتمعت آراؤهم، وأضيف إليها ما يراه علماء الكون في آيات الله الكونية، على ألا نطوع القرآن لنظرية مفروضة، ولا أن نرهق ألفاظه لتحتمل نظرية لم يتحقق صدقها، ولكن ليستعان به لتأييدها، لَا كأولئك الذين يرون صحة الفروض التي تقول بالنشوء والارتقاء ويريدون أن يؤيدوها من القرآن، أو يحملوا ألفاظ القرآن لها ليروجوها! اتجهنا إلى كتابة معاني القرآن، كما ظهرت لنا، وكما أدركت عقولنا، وكما بلغته طاقتنا، غير محمِّلين وضعًا ما لَا يحتمل، أو نطوعه لتفكير سيق إلينا، ولسنا منكرين لما بذله العلماء الذين خصوا معاني القرآن بأكبر عناية، بل إننا نجد فيما كتبوا أو نقل عنهم ذخيرتنا التي ندَّرع بها غير مفتاتين عليهم في قول، ولا متهجمين
ولا نتهجم بذلك على حديث لرسول الله - ﷺ -، فهو الحكمة كلها كما قال ذلك الإمام الشافعي، فقد فسر الحكمة في قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...)، بأن الحكمة هي سنة رسول الله - ﷺ -، فإذا رددنا منها ما يخالف القرآن فنحن نرد ما يجعلها فوق القرآن، وبالأحرى يكون ذلك تمحيصًا للسنة، وتبيينًا لصحيحها من سقيمها، إن عبارات القرآن التي هي نص في دلالتها، ومعانيها، فيها تنزيه لرسالة محمد - ﷺ -، وتنزيه للبعث المحمدي، فإنما ندفع الريب عن الرسول - ﷺ -، ولا نتهجم عليه ولا على حكمته، كتلك الآثار التي توهم أن النبي - ﷺ - سُحِرَ، وكتلك الأخبار الكاذبة التي تقول إن محمدًا - ﷺ - قال عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. إنا نرد هذا وأشباهه تنزيها للرسالة المحمدية الإلهية، مهما يكن راويها من الثقة، ونعدها عليه، وليس بمنزه عن الخطأ والنسيان، ودخول الغلط عليه، وأخشى أن أقول إن من يعتقد ذلك يكون كأهل الجاهلية الذين قالوا: (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا)، فليبحثوا عن موقفهم كمسلمين مؤمنين، وذلك لأنهم آثروا راويا على القرآن وعلى الرسالة المحمدية كلها، إذ جعلوا الشك يَرِد على بيانها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا كنا قد رددنا بعض ما ينسب للرسول - ﷺ - فنحن نعد المفسر الأول للقرآن هو الرسول - ﷺ -، فهو المفسر لأحكامه المبين لحقائقه، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)، ولا نتصور أن نجد بيانًا يفوق بيان النبي - ﷺ -؛ لأنه يفصل مجمله، ويبين ما يعلو على مدارك الناس، وإن كان في ذاته مبيَّنًا، ولا يصح أن نفتات على الإسلام فنرد قولا صح عن رسول
ويلى ذلك تفسير الصحابة الذي صحت نسبته إليهم، وخصوصا علماءهم، والسابقين الأولين الذين قال تعالى عنهم في بيعة الرضوان: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨).
ونأخذ بأقوال هؤلاء على أساس ألا تخالف نصا قرآنيا، أو تناهضه، أو تحمله ما لَا يحتمل، وعلمُهم بالقرآن أعظم من علمنا به، إذ كانوا كما أشرنا من قبل أهل بيعة الرضوان، لَا الذين جاءوا بعد الحديبية، وكان بعض أولئك من الذين لهم جهاد مذكور مشهور، لَا يغض من مقامهم، ولكن ليسوا حجة في فهم القرآن إلا من ناحية اللغة والبيان، فإن ذوقهم العربي ربما يجعل لقولهم مكانًا، ولم يعن أحد من هؤلاء بالتفسير رواية أو دراية، لأنهم شغلوا بغيره، إلا ما كان من ابن عباس، وأشباهه من شباب الصحابة الذين وَعَوا أفاويقه في آخر حياة الرسول، ومنهم بعض من التزموا الرسول - ﷺ -.
فقد كان ابن عباس ترجمان القرآن كما عبر بعض علماء الصحابة، وقد أخذ من علم كثير من الصحابة، وخصوصا ابن عمه عليًّا، الذي قال فيه ابن عباس: ما انتفعت بكلام بعد كلام محمد - ﷺ - كما انتفعت بكلام عليٍّ كرَّم الله وجهه. فقد كان عليٌّ أستاذه بعد المرشد الأكبر محمد - ﷺ -.
وإن الصحابة علموا التابعين مما تعلموا من فهم القرآن وأولئك هم التابعون، فما صح عن التابعين أهل الثقة الذين لازموا الصحابة واختزنوا علمهم، وهو علم بنوه ونقلوه نقلا صحيحا أخذنا به. بيد أنه يجب الاحتراس عند الأخذ من الأقوال
أولهما - دخول كلام من بني إسرائيل إلى العلم الإسلامي ونسبوه إلى التابعين على أنه من أقوالهم، وقد روى أن بعض من ينسبون إلى صحبة النبي - ﷺ - استهواه ما عند اليهود، فنقله، حتى إنه ليُروى أن عبد الله بن عمرو بن العاص، نقل في غزوة اليرموك حمل راحلتين مما عند اليهود، وتسرب إلى العقل الإسلامي ونسب إلى بعض التابعين، بل إلى بعض الذين لهم صحبة بالرسول - ﷺ -، وإن لم يكونوا من الرعيل الأول الذي حمل علم الرسول - ﷺ -، وما زال العلماء في هذا يعانون الكثير، مما اختلط بالتفسير من الإسرائيليات، ومحاولة رحض (١) التفسير منها، كما يرحض الثوب الأبيض الناصع من الأقذار التي علقت به.
وإذا كان اليهود عجزوا عجزا مطلقا عن أن يعبثوا بالقرآن كما عبثوا بغيره، فإنهم أتوه من ناحية تفسيره، ولكن ذلك لَا يَمَسُه، بل يَمَسُّ العقول التي لَا تمحِّص ولا تدرك، ولا تحكم بقرآن، ومقاييس العقل؛ ولذلك بقي النبع الإلهي الصافي يدركه من يتأمل ما أحيط به فينبذ الزيف، ويدرك الجوهر الصافي.
ثانيهما - أنه في عهد الأمويين، وهو عهد التابعين، وجد من النصارى الذين كانوا في حاشية الأُمويين من يعملون على بث الروايات الكاذبة حول القرآن، وينسبونها للتابعين، كما نرى في القصة المكذوبة على رسول الله - ﷺ - في زواجه بالسيدة أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنه -، فقد ادعى النصارى أن النبي - ﷺ - رأى زينب في حال أثارت عشقه، فأمر زيدًا أن يطلقها، وأن يتزوجها، وبث هذا الادعاء فيهم يوحنا الدمشقي الذي كان في خدمة الأمويين وراجت هذه الأكذوبة التي لَا أصل لها إلا إفك هذا الأفَّاك، ونقلت عن بعض التابعين، وفسر بها قوله تعالى: (وَمَا
________
(١) رَحَضَ - من باب منع - الثوب رَحْضا، ورُحوضا: غسله فهو راحض، والمفعول مرحوض ورحيض [الوسيط]. والمقصود: تنقية كتب التفسير مما علق بها من الأقوال غير الصحيحة، والوجوه غير المحتملة.
راجت هذه الأكذوبة بين المفسرين الذين يتلقون الأخبار من غير تمحيص لذاتها، ولا تعرُّف دقيق لمصادرها. ووقع فيها شيخ المؤرخين والمفسرين محمد بن جرير الطبري، وتكلف وخرَّج عليها تفسير هذه الآيات الكريمة، وتبعه في ذلك المفسرون، حتى الذين من شأنهم أن يمحصوا الحقائق كالزمخشري والرازي وغيرهما، وتلقاها الذين لَا يرجون للقرآن ولا لمحمد - ﷺ - وقارا في عصرنا، فكتب كاتب في كتاب له " محمد العاشق " وتبعه غيره من تلاميذه أو أشباهه الذين لا يمحصون الحقائق وليس للحقائق الإسلامية في قلوبهم روعة تدفعهم إلى التمحيص، وخاض كل المفسرين الذين كانوا قبل الحافظ ابن كثير، الذي ردَّها ومحصها ونقد ابن جرير الذي خاض فيها، وأثبت أنه لَا توجد رواية عن الصحابة في هذا صحيحة أو غير صحيحة.
وظواهر النص القرآني، ومعانيه تنافيها جميعا، وصريح القرآن يردها، فالله تعالى يحكي أن زواجها كان بأمر من الله تعالى، ويخبر أن طلاقها كان بأمر من الله، فالله يصرح بأن الأمر كان الحرج من المسلمين في تزوج زوجة المتبنَّى، فيقول:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
، وسنبين ذلك أفضل بيان عندما نتكلم في معاني هذه الآيات إن شاء الله تعالى.
* * *
(تفسير القرآن بالرواية)
إنه لَا شك أن تفسير القرآن بالرواية عن النبي - ﷺ - أمر مقرر ثابت؛ لأن القرآن الكريم بيانه أولا للنبي - ﷺ -، ويجب تحري السنة الصحيحة، ولا يتبع إلا الصحيح، بيد أنه في بعض المروي عن النبي - ﷺ - ما يخالف ما نحسه ونعاينه، كقول بعض المفسرين معتمدين على بعض الروايات بأن بعض الأنهار تنبع من الجنة وأنها تفيض منها، مع أنه ثبت بالمعاينة أنها تفيض من سيول في جبال، أو تنبع من منابع وبحيرات يراها الناس. ومن المقرر أنه إذا كان حديث آحاد بما يثبت العقل أو الرؤيا نقيضه، يُرَدُّ حديث الآحاد، ويثبت بطلان نسبته إلى النبي - ﷺ -، وكذلك ما يُثبِت علم علماء الكون خلافه ثبوتا قطعيا بالبرهان القاطع الذي لَا يتطرق إليه ريب، فقد ذكر الغزالي أنه إذا كان خبر الآحاد يناقض ما أثبته العلم ثبوتا قطعيا، ترد نسبته إلى النبي - ﷺ - أو يؤوَّل، وإن النص المناقض قطعيا يؤؤَل بما لَا يكون بينه وبين العلم القطعي خلاف.
وقد أكدنا في عباراتنا أن العلم الذي يؤوِّل النص القطعي، أو نرد به الخبر عن النبي - ﷺ - يجب أن يكون علمًا قطعيًّا، لكيلا نغير في النصوص بفروض ونظريات لم تثبت بدليل قطعي، ولا يلتفت إليها إزاء النصوص، ولو كانت خبر آحاد ثبتت صحته؛ لأنها فروض لم تؤكد بدليل قطعي كنظرية النشوء والارتقاء،
* * *
(هل النبي - ﷺ - فسر القرآن كله؟)
إن ابن تيمية العالم الفقيه يقول (١): إن النبي - ﷺ -، بين القرآن كله، ولم يترك فيه جزءا يحتاج إلى بيان ولم يبينه، ولا جزءا يحتاج إلى تفصيل ولم يفصله، ولا مطلقا يحتاج إلى تقييد ولم يقيده، ويحسب أن ذلك جزء يجب الإيمان به لقوله تعالى: (... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...).
وقد تلقى الصحابة تفسير النبي - ﷺ -، وقد قال عبد الرحمن السلمي: " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - ﷺ - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل ". وإن الصحابة كانوا لايستحفظون القرآن فقط، بل كانوا يتعلمونه ويتعلمون معانيه، ويقول في ذلك رضي الله عنه - أي ابن تيمية -: " من المعلوم أن كل المقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالعادة تقرّ ألا يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحوه، فكيف بالكلام الذي هو عصمتهم ونجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النزاع في تفسير القرآن قليلا جدًّا.
ويتعين علينا إذن أن نقول إن تفسير الصحابة عن رسول الله - ﷺ -، هو تفسير الرسول - ﷺ - إلا ما ثبت عن الرسول - ﷺ - من قول يخالفه.
وإن الصحابة علَّموا تلاميذهم من التابعين ما تلقوا عن رسول الله - ﷺ -، وهم أهل صدق، فابن عباس كان له تلاميذ تلقوا عنه كمجاهد، وعكرمة، ونافع وغيرهم ممن تلقوا عن ابن عباس، ولكن ما ينسب إلى التابعين يجب تمحيصه، فقد نفذت
________
(١) راجع هذا المبحث في مقدمة أصول التفسير لابن تيمية.
فأعلى المراتب تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن كتاب متكامل، ما يجمله في موضع يفسره في آخر، وهكذا. وتلي هذه المرتبة تفسير النبي - ﷺ -، وقد بينا ذلك بما يناسب المقام.
والمرتبة الثالثة تفسير القرآن بأقوال الصحابة، وهم الذين تلقوا تفسيرهم عن النبي - ﷺ -، ولقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: والله الذي لَا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناولته المطايا إلا أتيته.
المرتبة الرابعة مرتبة التابعين الذين تلقوا علم الصحابة كمجاهد وقتادة، وقد يختلفون، فيرى ابن تيمية أنه إذا اختلف التابعون اختار من أقوالهم، ولا يخرج عنها. فإن التابعين قد دخلت في عهدهم الإسرائيليات، ومعابث النصارى، فيجب الأخذ عنهم باحتراس ويقظة، وإذا اختلفوا نأخذ من أقوالهم ما ليس فيه دَسٌّ على الإسلام لنصون كتاب الله تعالى عن تطاول المفسدين، كما ذكرنا في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنه - المدسوسة على المفسرين.
وإنه يجب التنبيه إلى أن الواجب العلمي إبعاد الإسرائيليات عن تفسير القرآن، وتنقية كتبط التفسير منها، وإذا قيل إن منها ما يوافق النصوص القرآنية، ولا يخالفها، نقول إن في القرآن غنى عنها، والأكثر فيه تهويش على معاني القرآن، وإثارة للأوهام الكاذبة.
* * *
(تفسير القرآن بالرأي)
ابن تيمية وبعض علماء السلف يقصرون التفسير على ما يكون بالرواية عن النبي - ﷺ - ويمنعون التفسير بالرأي، ويستدلون على ذلك بما يأتي:
ثانيًا: شدد أصحاب الرسول - ﷺ - في منع الأخذ بالرأي في معاني القرآن، ويروون في ذلك عن أبي بكر أنه قال: (أي أرض تُقِلُّنِي، وأي سماء تُظِلُّنِي إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم).
ثالثًا: وكان التابعون يتحرجون في القول في التفسير إلا أن تكون الرواية عن النبي - ﷺ - أو الصحابة، ولقد قال مسروق: " اتقوا التفسير فإنه الرواية عن الله " (٣). وهكذا نرى طائفة من علماء السلف يمنعون التفسير بالرأي المجرد، وابن تيمية يوضح آراءهم ويؤيدها مشددًا فيها، ونحسب أن المبرر الذي جعل ابن تيمية يتشدد في ذلك هو سد الذريعة لمنع الأوهام التي وجدت بتفسير بعض الإمامية، والإسماعيلية، والباطنية، فقد رويت تفسيرات سموها باطن القرآن وجعلوا للباطن باطنا، حتى وصلوا إلى سبعة بواطن، فكان منع التفسير بالرأي دفعًا لهذه الأوهام الباطنية التي أفسدت المعاني القرآنية بتأويلات لَا برهان عليها.
فإذا كان الإسرائيليون قد أدخلوا على التفسير ما ليس بمعقول ولا مقبول، فالباطنيون قد أدخلوا بتأويلاتهم وبواطنهم ما ليس من التفسير في شيء، والله حافظ كتابه من الفريقين، وهو بنوره الساطع يلفظ الخبث كما يلفظ الفلز في كير النار
خبثه.
________
(١) أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن - باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن بغير علم، وأحمد: كتاب مسند بني هاشم - باب: بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(٢) رواه الترمذي. الموضع السابق (٢٩٥٢)، وأبو داود في كتاب العلم (٣٦٥٢) بلفظ: " كتاب الله " كلاهما عن جندب بن عبد الله.
(٣) قال أبو عبيد: عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله. [مؤلفات ابن تيمية (أصول التفسير) ج ١٣ ص ٥٢١].
أولا: لَا يهمل السنة ولا آثار الصحابة وأقوالهم، ويقرر أن ما أثر عن النبي - ﷺ - والصحابة بسند صحيح لَا تصح مخالفته، ويجب الأخذ به.
ثانيا: لَا يفتح الباب على مصراعيه لكل من يرى رأيا فيفسر القرآن برأيه، بل يجب أن يكون عنده علم اللغة، وعلم القرآن، وعلم السنة، لكيلا يقول على الله تعالى بغير علم.
وإن الفهم في كتاب الله تعالى باب متسع لكل من عنده أداة الفهم لعلم القرآن، ويستدل على ذلك بنصوص من القرآن والسنة وأقوال الصحابة:
(أ) إن القرآن الكريم فيه كل علوم الدين بعضها بطريق العبارة، وبعضها بطريق الإشارة، وبعضها بالإجمال، وبعضها بالتفصيل، وإن ذلك يحتاج إلى التعمق في الفهم، والاستبصار في حقائقه. وذلك لَا يكفي فيه الوقوف عند ظواهر التفسير التي تجيء على ألسنة بعض السلف، بل لابد من التعمق، واستخراج المعاني ما دامت لَا تخالف صريح المأثور، ولكنها أمور تسير وراءه، وعلى ضوئه وعلى مقتضى هديه؛ ولذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن " وإن ذلك لَا يكون بغير التعمق في الفهم والتعرف بالإشارة للمَرائي البعيدة والقريبة من غير اقتصار على ظاهر النصوص.
(ب) إن في القرآن بيان صفات الله سبحانه وتعالى، وذكر ذاته القدسية وأسمائه الحسنى، وإن معرفة ذلك مع التنزيه وعدم المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبر وبيان ليعرف القارئ لكتاب الله تعالى أنه سبحانه وتعالى منزه نزاهة مطلقة عن المشابهة للحوادث.
(جـ) إنه قد وردت آثار كثيرة تدعو إلى الفهم والتدبر، فقد قال علي - كرم الله وجهه -: " من فهم القرآن فسَّر به جمل العلم "، وقال رضي الله عنه: " ما
(د) إن عبارات القرآن تدعو إلى فهمه فقال تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا...)، فقد قال فقهاء السلف إن الحكمةَ هي فهم القرآن، وإذا كان فهم القرآن خيرا كثيرا، فإنه سبحانه يدعو القادرين على الفهم للبحث والتأمل والنظر في الآيات وفهمها.
ولقد قال تعالى: (... وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ...)، وفي هذا دعوة إلى الاستنباط، واستخراج المعاني العميقة، كما يستنبط الماء من الآبار، وفيه إشارة إلى وجوب تعرف معاني القرآن بالفهم بصحيح كما يتعرفونها بالآثار الصحيحة، فهما طريقان مستقيمان، فمن منع أحدهما فقد خالف العقل والنقل.
(هـ) إن النبي - ﷺ - دعا لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالفهم في القرآن فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " (٢) وليس التأويل إلا فهم مرامي العبارات والمآل والمكان للمعاني التي تشتمل عليها ألألفاظ وجمل القول. ولو كان التفسير مقصورا على ما ورد من أقوال النبي لقال عليه الصلاة والسلام: " حَفِّظْهُ ".
والغزالي لَا يقف في استدلاله عند تأثير التفسير بالرأي، بل ينقد أدلة الوقافين الذين يقفون عند المأثور عن النبي - ﷺ - والصحابة والتابعين لَا يعدونهم - وينقدهم من وجوه:
أولها: أنه لكي يصح الوقوف على تفسير رسول الله - ﷺ - يجب أن يكون كل ما نأخذ به من تفسير مسندًا إلى رسول الله - ﷺ -، أو ثابتا بالضرورة عن النبي - ﷺ -
________
(١) أخرجه البخاري - كتاب العاقلة - باب: الديات (٠٣ ٦٩). وبنحوه عند مسلم - كتاب العتق (١٣٧٠) وكذا رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وأحمد.
(٢) أخرجه أحمد: كتاب: مسند بني هاشم - باب: بداية مسند عبد الله بن عباس (٢٨٧٤ - ٣٩٣٢) وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
ثانيها: أن الراجح أن تفسير الصحابة الذين قالوه لم ينسبوه إلى النبي - ﷺ -، فكان من المحتمل أن يكون بآرائهم، وإن كان لها فضل الاقتباس من هدى النبي - ﷺ -، وإن واجب الاقتداء بهم أن نفسر بالرأي مثلهم مسترشدين بأقوالهم في فهم الآيات كما نسترشد بآرائهم في الفقه، وفي معاني الألفاظ العربية.
ثالثها: أن الصحابة اختلفوا، وكذلك التابعون، وسماع كل هذه الأقوال محال، فلا بد أن يكون بعضها صحيحا وبعضها غير صحيح. ولو كان بعضها مسموعا لوجب رد الباقي، ولا يمكن معرفة ما يرد وما يبقى؛ لأن المسموع منها غير متميز ولا معين، ويؤدي هذا إلى أن بعض هذه الاقوال كان بالرأي، وأن المتبع للآثار ولا يعدوها لَا يكون له مناص من أن يختار من هذه الأقوال المختلفة، وأن ذلك سيحمله على أن يعمل الرأي في تخير ما يختار، ويكون المتبع قد فر من الرأي ابتداء ثم وقع فيه انتهاء.
ويبين الغزالي موضع النهي عن الرأي في فهم القرآن فيرى أنه في موضعين: أولهما: أن يكون له رأي في موضوع الآية، ويميل إليه بطبعه وهواه، فيتأوَّل الآية من القرآن لتكون على وفق رأيه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى ما كان ليلوح إليه ذلك المعنى. وهذا تارة يكون مع العلم بأنه ينزل القرآن على فكره وهواه كبعض المبتدعة الذين يجادلون في آيات الله ويلحفون في الجدل للغلب، وهم يدركون أن القرآن لَا يؤيد رأيهم ولكن يتغالبون به.
وقد يكون غير قاصد الغلب، بأن تكون الآية تحتمل معنيين أو تبدو له كذلك، فيختار منهما ما يكون أوفق مع فكره، ولولا فكره السابق ما اختار ذلك المعنى.
ثانيهما: المسارعة إلى تفسير القرآن بظواهر الألفاظ من غير معرفة المنقول في موضوعها، ومن غير مقابلة الآيات بعضها ببعض، ومن غير معرفة العرف الإسلامي الذي خصص كبعض الألفاظ العربية، ومن غير علم دقيق بأساليب الاستنباط من حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وإدراك مواضع الإضمار والحذف، وغير ذلك من الأساليب القرآنية المعجزة، فإن ذلك يكون تفسيرا بالرأي من غير أهله، واجتهادًا في الفهم بغير أدواته، وليس ذلك من التفسير بالرأي، إنما ذلك من التهجم على ما لَا يحسن والعمل فيما لَا يتقن، وذلك قبيح في كل شيء (١).
* * *
(الطريقة المثلى)
وإن الطريقة المثلى التي توصل إلى الغاية في فهم القرآن، وتعرف معانيه، وإدراك دلائل إعجازه هي الاعتماد على النقل والعقل، فلا يصح الاقتصار على النقل وحده، ولا على العقل وحده، وإنما النظر الأمثل هو أن يعتمد على العقل والرأي وعلى السماع من أقوال رسول الله - ﷺ - في فهم القرآن، فظواهر القرآن من الألفاظ، والآثار التي تعاضد الظاهر، لَا تكفي وحدها بل تساعد العقل، وتفتح له السبل لاستخراج معاني القرآن المتسعة الأفق البعيدة المدى التي توجه الفكر إلى أعمق الحقائق العلمية والكونية والنفسية، وكلما تفتح العقل في ظل إدراك الألفاظ وظواهر اللغة أدرك إدراكا صحيحا ما تشير إليه الحقائق الكونية، وما يشير إليه القرآن.
________
(١) قال المصنف - رحمه الله - في الهامش: راجعنا هذا البحث على الإحياء مع بيان النتائج من مقدماتها.
وروي عن ابن مسعود أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن للقرآن ظاهرا وباطناً (١) وليس هو الباطن الذي يقوله الباطنية، إنما الباطن الذي أشار إليه النبي - ﷺ - هو الباطن الذي تدل عليه إشارات العبارات القرآنية، من أسرار الإعجاز البياني، وإلى ما تشير إليه من حقائق كونية ونفسية وخلقية وأحكام عملية، وغير ذلك من المعاني التي يدركها العالم المتعمق ذو البصيرة النيرة الذي آتاه الله تعالى نفاذ بصيرة، واستقامة فكر، كالذي يدركه علماء الأكوان في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)، فالمعنى الظاهر لكل مُلمٍّ باللغة العربية هو أن السماوات والأرض كانتا متصلتين، وهذا معنى سليم هو الظاهر، والعالم المدرك للأكوان الباحث فيها يعرف كيف كانت السماء والأرض كتلة واحدة، وكيف انفصلت الأرض وتكونت عليها القشرة الأرضية، وكيف كان الماء العذب، والملح الأجاج.
وهكذا نجد أن كل تالي للقرآن يدرك من معانيه بمقدار إدراكه وعلمه.
والغزالي يقرر أن المعاني اللغوية، وما يشير إليه النقل والسماع هو المفتاح والطريق للمعنى العميق الذي يدركه الناس كلما تفتقت العقول واتسعت المدارك واطلعت على حقائق الكون، وأدركت معاني الآيات الطالبة للنظر في الكون، فهو اللوح الذي كتبت فيه حقائق هذا الوجود، وفيه الدلالة على وجود الله تعالى، وإبداعه. ويقول الغزالي في ذلك: " العقل والسماع لابد منهما في ظاهر التفسير أولا؛ ليتقى به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط واستخراج الغرائب التي لَا تفهم إلا بالسماع، ولا مطمع في الدخول إلى الباطن قبل إحكام
________
(١) أخرجه ابن حبان في صحيحه وذكره العراقي في تخريج أحاديث الإحياء جـ ١ - ص ٩٩.
والمعنى الباطن الذي جاء على حكم الغزالي ليس هو ما عند الباطنية كما ذكرنا، إنما هو تحري الدقائق التي تكون في مطويِّ ألفاظ القرآن، والأسرار التي لا يدركها إلا العلماء المتخصصون في العلوم المختلفة كل بمقدار طاقته في علمه بعد فهم ظاهر اللفظ وما فيه من مجاز وحذف وإضمار، وعموم وخصوص، وإطلاق وتقييد.
ويقول حجة الإسلام عمّا فيه من أسرار ما نصه: " وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسرار بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم، وتوفر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب، ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه، أما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلامًا، فأسرار كلمات الله تعالى لَا نهاية لها، فمن هذا الوجه يتفاوت الخلق في الفهم بعد معرفة ظاهر التفسير، وظاهر التفسير لَا يغني عنه ".
هذا ما نقلناه عن الغزالي وذلك ما قاله ابن تيمية، ونحن بلا ريب نأخذ برأي الغزالي وعليه سار المفسرون، حتى مُفسرو الروية، فإنهم لَا يردونه، حتى شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري، فاختياره من أقوال التابعين فيه عمق، واتجاه إلى تعرف الأسرار في الألفاظ القرآنية، والعبارات، واستقصاء المعاني. وقد يقول قائل: إن الغزالي يشجع تفسير القرآن بالعلوم الكونية، فهل نشجعه كما شجع؟ للإجابة على هذا السؤال نقول: إن ما يكون من آيات القرآن دالا على حقيقة علمية كما تلونا في قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)، فإنه بلا ريب أن بيان الحقيقة العلمية يكون من بيان القرآن، ويعتمد فيه على كلام أهل الخبرة، وذلك كقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا
فهذه الآيات وأمثالها كثير، ولابد فيها من الاستعانة بأهل الخبرة، ويقررون في ظلها الحقائق العلمية، ويجب أن يلاحَظَ أمران:
أولهما: ألا تفسَّر الآيات الكريمات بنظريات وفروض لم يقم الدليل القاطع عليها، وقد تتغير العلوم الكونية بتغير النظريات حولها وقتا بعد آخر، ولا يصح أن يفسر القرآن بنظريات قابلة للنقض والتغير. إنه كتاب الله تعالى لَا تبديل لكلماته، وهو العزيز الحكيم، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثانيهما: ألا يكون الاتجاه إلى تحميل الألفاظ فوق ما تحتمل، فلا تجهد الآيات إجهادا ليطبقوها على الحقائق أو ليطبقوا الحقائق عليها، بل لَا يفكر أهل الخبرة في أسرار الآيات إلا ما يكون ظاهرا واضحا كما رأينا في الآيات التي تُلِيَتْ، ويكون عمل الخبير العلمي تصويرها من غير إجهاد لألفاظها، أو تحميلها ما لَا تحتمل، وإن الأخذ بهذا المنهاج السليم فيه بيان للقرآن الكريم، وصيانة له، وبعد به عن مواطن الشبهات.
* * *
(علم الكلام وآراء الفقهاء)
كثر القول في تفسير القرآن الكريم في الكتب التي تصدت للتفسير كتفسير الزمخشري، وفخر الدين الرازي وغيرهما من أمهات كتب التفسير في أمور هي من علم الكلام؛ كتعلق إرادة الله تعالى بأفعال العباد، وكذلك الآيات القرآنية التي تتعرض للمشيئة والإرادة، وهداية العبد وضلاله، وللصفات أهي غير الذات، أم هي والذات شيء واحد، وغير ذلك من مسائل علم الكلام. والزمخشري مع مقامه في البيان، وإثباته إعجاز القرآن من تفسير القرآن، يذكر مذهبه الاعتزالي ويخرج تفسيره على هذا المذهب، وتعقبه من جاء بعده في إثبات صحة مذهب
فليست معاني القرآن أشعرية ولا ماتريدية، ولا اعتزالية، وإن تخريج الآراء على مقتضى مذهب من المذاهب يجعل القرآن مفرقا، ويجعله عضين (٢)، وذلك حرام؛ لذلك لَا نفتح - بعون الله تعالى وتوفيقه - مجالا لهذه المجادلة في ذكر معاني القرآن، بل نتجه - إن شاء الله تعالى - إلى المعاني الواضحة البينة، من غير أن ننزلها من مقامها السامي إلى مضطرب المذاهب والآراء.
* * *
(وبالنسبة للآراء الفقهية نلاحظ أمرين)
أولهما: أن اختلاف الآراء الفقهية حول ما ثبت من الأحكام بالنصوص القرآنية قليل، فلا اختلاف لأنظار الفقهاء في آيات الأحكام بالنسبة للزواج وشروطه، والمحرمات، وغيرها، والاختلاف أساسه اختلاف الروايات، وهو في الأحكام الفقهية نادر، ولا يعلو إلى درجة الاختلاف الذي يورث عداوة، أو يوجد تراميا بالكفر والخروج عن الربقة عند العلماء رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ثانيهما: وليس ثمة خلاف جوهري في أمر يتعلق بالأحكام الثابتة بالقرآن إلا الاختلاف بين جماهير المسلمين وطائفة الإمامية في الميراث، وهذا الاختلاف لا يخرج عن دائرة الثابت بالقرآن، وهو في تقديم بعض الورثة على بعض، فليس ثمة
________
(١) الأشاعرة: أو الأشعرية نسبة إلى أبي الحسن إسماعيل بن إسحاق. ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري.
ولد بالبصرة ٢٦٠ هـ، والماتريدية نسبة إلى أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي المتوفى سنة ٣٣٢ هـ.
(٢) عِضُون: جمع عِضة وهي القطعة الوجيز (عضي).
ومسلكنا في آيات الأحكام أن نذكر الأحكام الثابتة بالقرآن بإجمال مستعينين بالسنة القولية والعملية في العبادات، وفي الأنكحة، وغيرها.
نذكر الأحكام بإجمال تفسير الآيات القرآنية مبينين ما يحتاج إلى بيان بالسنة النبوية، مرجحين ما يتفق مع السنة، أو ما نراه أقرب إلى النص، كمعنى قوله تعالى:
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ | )، فإنا في هذه نأخذ بما يُفهم من السنة. |
* * *
(النسخ في القرآن الكريم)
لابد قبل أن نبدي رأينا في النسخ في القرآن الكريم أن نقرر حقائق ثلاثا لابد من بيانها أو الإشارة إليها، نكتفي هنا بالإشارة إليها:
الحقيقة الأولى: أن القرآن الكريم نسخ من الشرائع السابقة التي أتى بها الوحي وهي الشرائع السماوية، فما بقي منها أبقاه القرآن الكريم، ونص على بقائها كبعض أحكام القصاص، وكتحريم الربا، وكتحريم المحرمات وغير ذلك، وكان النص عليه في القرآن الكريم دليلًا على بقائه من غير نسخ.
الحقيقة الثانية أن النسخ جرى في السنة، ذلك أن السنة كما تتولى بيان الأحكام تتولى علاج المسائل الوقتية، ويختلف الحكم الوقتي في بعض الأوقات عنه في بعضها؛ ولذا جرى النسخ في السنة.
ولذا نحن نرى ما رآه من قبل أبو مسلم الأصفهاني، وهو أنه لَا نسخ في القرآن قط؛ لأنه شريعة الله تعالى الباقية إلى يوم القيامة، ولأن النسخ لم يثبت بنص عن النبي - ﷺ -، وأنه لم يصرح النبي - ﷺ - بنسخ آية من القرآن، وما جاء من عبارات النسخ في القرآن إنما في نسخ المعجزات الحسية بالقرآن الكريم، وقد بينا ذلك في موضعه من معاني الذكر الحكيم.
ولأن النسخ يقتضي أن تكون آيتان في القرآن موضعهما واحد، وإحداهما مُثْبِتَة والأخرى نافية، ولا يمكن الجمع بين النفي والإثبات، وما ادُّعِيَ النسخ فيه التوفيق بينهما سهل ممكن، وما أمكن التوفيق فلا نسخ، وقد اشتركنا في كتابة التفسير مع بعض العلماء ولم نجد آيتين متعارضتين لم يمكن التوفيق بينهما، وقد طبع ذلك التفسير وسمي بـ " المنتخب " طبعته إحدى الجامعات الإسلامية، والله الهادي إلى سواء السبيل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)
* * *
ابتدأ كلام الله تعالى بـ