تفسير سورة البقرة

فتح البيان
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة البقرة
قال القرطبي مدنية نزلت في مدد شتى، وقيل أول سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ فإنها آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في يوم حجة الوداع بمنى، قال ابن عباس، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن ؛ وقد ورد في فضلها أحاديث وآثار كثيرة في الصحاح والسنن وغيرها ؛ ومن فضائلها ما هو خاص بآية الكرسي وما هو خاص بخواتيم هذه السور : وما هو في فضلها وفضل آل عمران : وما هو في فضل السبع الطوال، وليطلب ذلك من مواطنه.
وهي مائتان وست وقيل وسبع وثمانون آية. قال ابن العربي فيها ألف أمر. وألف نهي ؛ وألف حكم، وألف خبر، أخذها بركة ؛ وتركها حسرة لا تستطيعها البطلة، وهم السحرة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
(الم) قال القرطبي اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور؛ فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين هي سر الله في القرآن؛ ولله في كل كتاب من كتبه سر؛ فهي من التشابه الذي انفرد الله بعلمه؛ ولا نحب أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونمرها كما جاءت، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب؛ قال وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر؛ وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها ولا يلزم البحث عنها فهي مما استأثر الله بعلمه.
وقال أبو حاتم لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل؛ وقال جمع من العلماء كثير: بل نحب أن نتكلم فيها؛ ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضاً أن الحروف المقطعة من القرآن اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، وقال قطرب والمبرد والفراء وغيرهم واختاره جمع عظيم من المحققين هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من الحروف التي بني كلامهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم، إذ لم يخرج عن كلامهم، قال قطرب كانوا ينفرون عند استماع القرآن فلما نزل (ألم، المص) استنكروا هذا اللفظ فلما أنصتوا له - ﷺ - أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في
65
أسماعهم وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم (١).
وقال جماعة هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بعينها كقول ابن عباس وغيره الألف من الله واللام من جبريل، والميم من محمد، وذهب إلى هذا الزجاج فقال اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بحروف مقطعة كقوله " فقلت لها قفي فقالت قاف " أي وقفت وفي الحديث " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " قال شقيق هو أن يقول في أقتل أق. كما قال النبي في كفى بالسيف شا أي شافياً (٢).
وقال بعضهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، والمعنى أن الله الواحد أنزل ثلاثين جزأ من القرآن على محمد - ﷺ - بعدما بلغ أربعين سنة التي بعثه عندها إلى الخلق، وقال زيد بن أسلم هي أسماء للسور، وقال الكلبي هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه، وقيل إن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب مستوية فيها بخلاف النطق باساميها وهو خاص بمن خط وقرأ والنبي - ﷺ - أمي فأتى بها كذلك زيادة في الإعجاز، وقيل غير ذلك مما لا يأتي عليه الحصر، وقد ذكر شطراً منها الرازي في تفسيره.
ومن أدق ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف حيث قال إنك إذا تأملت ما أورده الله سلطانه في الفواتح من هذه الاسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء، وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٤١٧٩
(٢) ضعيف الجامع الصغير ٥٤٥٤.
66
المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء.
ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دق في كل شيء حكمته، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم.
ومما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر، انتهى وتبعه في ذلك جماعة من أهل التفسير منهم الخازن والنسفي والبيضاوي والخطيب وأبو السعود وغيرهم.
(أقول) هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتد بها، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة والتبكيت كما قال فهذا متيسر بأن يقال لهم هذا القرآن هو من الحروف التي يتكلمون بها ليس من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتاً وإلزاماً يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح هو أيضاً مما لا يفهمه أحد من السامعين
67
ولا يتعقل شيئاً منه فضلاً أن يكون تبكيتاً له وإلزاماً للحجة إياه فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه، ولم يفهم السامع هذا، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلاً عن كله.
ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتملاً على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا تتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي، ولا مقر، ولا منكر، ولا مسلم ولا معارض، ولا يصلح أن يكون مقصداً من مقاصد الرب سبحانه الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به.
وهب أن هذه صناعة عجيبة، ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة حتى يكون مفيداً أنه كلام بليغ أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى تتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم، ولا مدخل فيما ذكر.
وأيضاً لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر، بل من عكسهما وضد رسمهما.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعاً إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدوداً عنده من الرطانة، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على حرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم
68
يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدمه ما يدل عليه ويفيد معناه بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدم ذكره، ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا.
وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين (الأول) التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصد عنه والتنكب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به ويضعون حماقات أنظارهم، وخزعبلات أفكارهم عليه (الثاني) التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح والسبيل القويم بل الجادة التي ما سواها مردوم، والطريقة العامرة التي ما عداها مهدوم، فمن وجد شيئاً من هذا فغير ملوم أن يقول بملء فيه ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه، مع كونه ألفاظاً عربية، وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده، فإنه ينبغي أن يقال فيه أنه متشابه المتشابه، على فرض أن للفهم إليه سبيلاً، ولكلام العرب فيه مدخلاً، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير.
وانظر كيف فهم اليهود عند سماع (الم) فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها كما أخرج ابن اسحق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله - ﷺ - وهو يتلو فاتحة سورة البقرة
69
(الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه (الم ذلك الكتاب) فقال أنت سمعته فقال نعم، فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله - ﷺ - فقالوا يا محمد ألم
69
يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك (آلم ذلك الكتاب) قال بلى قالوا أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال نعم، قالوا لقد بعث الله من قبلك الأنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك، فقال حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله - ﷺ - فقال يا محمد هل مع هذا غيره قال نعم قال وما ذاك قال (المصَ) قال هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره، قال نعم وما ذاك قال (الر) قال هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان، فهل مع هذا غيره قال نعم (آلمر) قال فهذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان، ثم قال لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً. ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (١).
فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله - ﷺ - من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه
_________
(١) لم أجده في صحاح الكتب بين يدي.
70
عند سماع (الم ذلك الكتاب) من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم لدفع رسول الله - ﷺ - ما ظنوه بادىء بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاؤوا به من التشكيك على من معهم.
فإن قلت هل ثبت عن رسول الله - ﷺ - في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به.
قلت لا أعلم أن رسول الله - ﷺ - تكلم في شيء من معانيها بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ - (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " (١) وله طرق عن ابن مسعود.
وأخرج ابن أبي شيبة والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي ونحوه مرفوعاً.
فإن قلت هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعلي.
قلت قد روي عن ابن مسعود أنه قال (الم) حرف اشتقت من حروف اسم الله وعنه قال هي اسم الله الأعظم، وعن ابن عباس في قوله (الم وحمَ ونّ) قال اسم مقطع وعنه في فواتح السور قال هو قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله.
وعن الربيع بن أنس قال " ألف " مفتاح اسمه الله " ولام " مفتاح اسمه لطيف " وميم " مفتاح اسمه مجيد وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من
_________
(١) الدارمي ٢/ ٤٢٩ - الترمذي ٤/ ٥٣ - مشكاة المصابيح/٢١٣٧ وفي رواية للديلمي ١/ ١٣
والخطيب في التاريخ ١/ ٢٨٥ برواية: اقرؤا القرآن فإنكم تؤجرون إليه أما أني لا أقول الم....
71
التابعين، فيهم عكرمة والشعبي والسدي وقتادة ومجاهد والحسن.
فإن قلت هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه.
قلت لا لما قدمنا إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول - ﷺ -.
فإن قلت هذا مما لا مجال للاجتهاد فيها ولا مدخل للغة العرب فلم لا يكون له حكم الرفع.
قلت تنزيل هذا منزلة المرفوع وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم فليس مما تنشرح له صدور المنصفين، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام، وهو التفسير لكلام الله سبحانه، فإنه دخول من أعظم الخطر مما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم أنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال للاجتهاد فيه، وليس مجرد الاستبعاد مسوغاً للوقوع في خطر الوعيد الشديد.
على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده كثيراً في تفاسيرهم المنقولة عنهم، وتجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه.
ثم ههنا مانع آخر؛ وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض، ولا يجوز، ثم ههنا مانع غير هذا المانع وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي - ﷺ - لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذاً عن النبي - ﷺ -، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي - ﷺ - في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها.
ولا يقال قد اختلفوا في غيره من الأحكام فيلزم عدا الأخذ به، لأنا نقول اختلافهم في ذلك من قبيل الأخذ بالأخص أو الأعم أو التقدم أو
72
المتأخر، وفي كثير مما اختلفوا فيه إن علموا بالنص تركوا ذلك بخلاف ما هنا، والله أعلم.
والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأئمة أن لا يتكلم بشيء من ذلك، مع الإعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا، ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوز، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى: (منه آيات محكمات هنَّ أم الكتاب
وأخر متشابهات) كلام طويل الذيول وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول.
(ذلك الكتاب) أي القرآن، وقيل فيه اضمار أي هذا الكتاب الذي وعدتك به أو وعدت به على لسان موسى وعيسى أن أنزله عليك، قال ابن عباس في الآية يعني هذا الكتاب، وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة، والإشارة إلى الكتاب المذكور بعده، والعرب قد تستعمل الإشارة إلا البعيد الغائب، مكان الإشارة إلى القريب الحاضر، ومنه قوله تعالى (ذلك عالم الغيب والشهادة) وقوله (تلك حجتنا آتيناها إبراهيم) وقوله (تلك آيات الكتاب) وقوله (ذلكم حكم الله) قال أبو السعود وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه، وكونه في الغاية القاصية من الفضل والشرف، انتهى.
وقيل إن الإشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق، وقيل الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي (١) " وفي رواية " سبقت " وقيل الإشارة إلى ما قد
_________
(١) مسلم/٢٧٥١ وفي رواية لما خلق الله الخلق... البخاري/١٥٠٩.
73
نزل بمكة، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل، وقيل إلى قوله قبله (الم) ورجحه الزمخشري.
وقد وقع الإختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدرناه، والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصله الضم والجمع، ومنه يقال للجند كتيبة لاجتماعها، والكتاب يجمع الحروف بعضها إلى بعض، وهو اسم من أسماء القرآن.
(لا ريب فيه) أي لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق والصدق، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه والريب والشك مع التهمة مصدر، وهو قلق النفس واضطرابها، ومنه قوله - ﷺ - " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " (١) فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه، وقيل الريب هو الشك مطلقاً، وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذا خلافاً، وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة، حكى ذلك القرطبي، ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الإرتياب فيه بوجه من الوجوه.
(هدى) أي رشاد وبيان، وأنه يذكر وهو الكثير وبعضهم يؤنث أي هو هدى أو هذه هدى أو هو هاد لهم إلى الحق، والهدى مصدر، وهذا وزن نادر في المصادر لم يرد منه فيما قيل إلا الهدى والتقى والسرى والبكا بالقصر في لغة، وزاد الشاطبي: لغى بالضم في لغة أيضاً قال الزمخشري: وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته، انتهى.
قال القرطبي: الهدى هديان، هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل واتباعهم، قال الله تعالى (ولكل قوم هاد) وقال (وإنك لتهدي إلى صراط
_________
(١) النسائي ٢/ ٣٣٤ - الترمذي ٢/ ٨٤ - الدارمي ٢/ ٢٥٤ - الحاكم ٢/ ١٣ - مسند أحمد ١/ ٢٠٠ -
ابو نعيم ٦/ ٣٥٢.
74
مستقيم) فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق فقال لنبيه - ﷺ - (إنك لا تهدي من أحببت) فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى (أولئك على هدى من ربهم) وقوله (ولكن الله يهدي من يشاء).
(للمتقين) أي من ثبتت لهم التقوى، وتخصيص الهدى بالمتقين لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره وإن كانت بهدايته شاملة لكل ناظر من مؤمن وكافر، ولذا أطلقت في قوله (هدى للناس) قاله أبو السعود قال ابن فارس وأصلها في اللغة قلة الكلام، وقال في الكشاف المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية الصيانة، وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى قال ابن مسعود وهم المؤمنون.
وعن معاذ بن جبل أنه قيل له من المتقون فقال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة، وعن أبي هريرة أن رجلاً قال له ما التقوى؟ قال هل وجدت طريقاً ذا شوك، قال نعم، قال فكيف صنعت قال إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال ذلك التقوى، وعن أبي الدرداء قال تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خيفة أن يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبين الله وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال: قال رسول الله - ﷺ - " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس " فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب، ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخص من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي.
75
وقد أطال القوم في ذكر تعاريف التقوى ورسوم المتقي لا حاجة لنا إلى التطويل بذكر تلك الأقوال، فالمرفوع يغني عن المرقوع، والصباح يغني عن المصباح.
76
(الذين يؤمنون بالغيب) هو وصف للمتقين كاشف، وأصل الإيمان في اللغة التصديق، قال تعالى (وما أنت بمؤمن لنا) أي بمصدق وتعديته بالباء لتضمنه معنى الإعتراف، وقد يطلق بمعنى الوثوق وكلا الوجهين حسن هنا، والغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك. قال القرطبي واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا فقالت فرقة الغيب هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي، وقال آخرون القضاء والقدر. وقال آخرون القرآن وما فيه من الغيوب وقيل القلب أي يصدقون بقلوبهم، وقيل الغيب الخفاء، وقال آخرون الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار.
قال ابن عطية وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها. قال وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبرائيل حين قال للنبي - ﷺ - " فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ونؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت " انتهى، وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ " والقدر خيره وشره " (١).
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن نزيلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله - ﷺ - قد استقبل البيت فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ رسول الله - ﷺ -
_________
(١) جزء من الحديث الطويل عن عمر بن الخطاب انظر تمامة مسلم/٨.
76
فقال " أولئك قوم آمنوا بالغيب " وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كنت جالساً مع النبي - ﷺ - قال: " أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً " فقالوا يا رسول الله الملائكة قال هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا يا رسول الله " الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته ونبوته " قال هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء. قال هم كذلك وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة.
قالوا فمن يا رسول الله؟ قال " أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بى ولم يروني ويصدقوني ولم يروني يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً " (١) وفي إسناده محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف.
وأخرج حسن بن عرفة في جزئه المشهور والبيهقي في الدلائل عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - ﷺ -، فذكر نحو الحديث الأول وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري وهو منكر الحديث وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً والبزار عن أنس مرفوعاً.
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ - " يا ليتني قد لقيت إخواني " قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك، قال " بلى ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني " (٢) وعن أبي جمعة الأنصاري قال:
_________
(١) الدارمي رقاق ٣١، أحمد بن حنبل ٤/ ١٠٦. المستدرك ٤/ ٨٥.
(٢) أحمد بن حنبل ٣/ ٧١ - ٥/ ٢٤٨ - ٢٥٧ - ٢٦٤.
77
قلت يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً: آمنا بك واتبعناك قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم، يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً (١) " أخرجه أحمد والدارمي والبارودي وابن قانع معاً في معجم الصحابة، والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - ﷺ - " طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات " أخرجه الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم.
وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد أن رجلاً قال يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك. قال: " طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني " وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه، وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث أنس نحو حديث الباهلي المتقدم.
وعن ابن مسعود أنه قال والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ (آلم) الآية، وللتابعين أقوال، والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا.
وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح كلاماً مفيداً في حديث عمر بن الخطاب المتقدم باعتبار ما ورد في الصحابة، وحاصله أن فضيلة الصحابة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله - ﷺ -، ومجرد زيادة الأجر لا يستلزم أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن الأجر إنما يقع مفاضلة بالنسبة إلى ما يماثله من العمل، ومشاهدة النبي - ﷺ - لا يعدلها عمل، هذا حاصل ما أشار إليه وهو محتاج إليه لأنه كثيراً ما يستشكل الجمع بين الأحاديث والله أعلم.
قال ابن جرير في هذه الاَية: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان
_________
(١) أحمد بن حنبل ٣/ ٧١ - ٥/ ٢٤٨ - ٢٥٧ - ٢٦٤.
78
بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل، وقال ابن كثير إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقد ورد فيه آثار كثيرة انتهى.
وقد أنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه، وقال أهل السنة إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها، وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر النصوص من الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه، وبين أصله من اللغة.
والدليل على أن الأعمال من الإيمان قوله - ﷺ - " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان (١) " أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
ولشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام كلام في معنى الغيب وعالمه في كتاب العقل والنقل حاصله أن من زعم أن عالم الغيب الذي أخبر به الله والرسل هو العالم العقلي الذي يثبته هؤلاء الفلاسفة فهو من أضل الناس، فإن ابن سينا ومن سلك سبيله في هذا كالشهرستاني والرازي وغيرهما يقولون إن الإلهيين يثبتون العالم العقلي ويردون على الطبيعيين منهم الذين لا يثبتون إلا العالم الحسي ويدعون أن العالم العقلي الذي يثبتونه هو ما أخبرت به الرسل من الغيب الذي أمروا بالإيمان به مثل وجود الرب والملائكة والجنة، وليس الأمر كذلك، فإن ما يثبتونه من العقليات إذا حقق الأمر لم يكن لها وجود إلا في العقل، وسميت مجردات ومفارقات لأن العقل يجرد الأمور الكلية
_________
(١) مسلم/٣٥ - البخاري/٩.
79
عن المغيبات، وأما تسميتها مفارقات فكان أصله أن النفس الناطقة تفارق البدن وتصير حينئذ عقلاً وكانوا يسمون ما جامع المادة بالتدبير لها كالنفس قبل الموت نفساً وما فارقها بالكلية فلم يتعلق بها لا تعلق تدبير ولا غيره عقلاً، ولا ريب أن النفس الناطقة قائمة بنفسها باقية بعد الموت منعمة أو معذبة كما دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم تعاد إلى الأبدان.
والمقصود هنا أن ما يثبتونه من العقليات إذا حققت لم يكن إلا ما ثبت في عقل الإنسان، ولهذا كان منتهى تحقيقهم الوجود المطلق، وهو الوجود المترك بين الموجودات. وهذا إنما يكون مطلقاً في الأذهان لا في الأعيان، والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهي، وأما الوجود الواجب فتارة يقولون هو الوجود المقيد بالقيود السلبية كما يقوله ابن سينا، وتارة يجعلونه المجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي كما يقوله بعض الملاحدة من باطنية الرافضة والإتحادية، وتارة يجعلونه نفس وجود الموجودات فلا يجعلون للممكنات وجوداً غير الوجود الواجب، وغايتهم أنهم يجعلون في أنفسهم شيئاً ويظنون أن ذلك موجود في الخارج، ولهذا يمدهم الشياطين، فإن الشياطين تتصرف في الخيال وتلقي في خيالات الناس أموراً لا حقيقة لها، ومحققو هؤلاء يقولون أرض الحقيقة هي أرض الخيال.
وأما ما أخبرت به الرسل موجودة من الغيب، فهو أمور ثابتة أكمل وأعظم مما نشاهده نحن في هذه الدار وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس، ولكن بعد الموت وفي الدار الآخرة، ويمكن أن يشاهدها في هذه الدار من يختصه الله بذلك ليست عقلية قائمة بالعقل، ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات التي نشاهدها أن تلك غيب وهذه شهادة قال تعالى (الذين يؤمنون بالغيب) وكون الشيء غائباً وشاهداً أمر إضافي بالنسبة إلينا، فإذا غاب عنا كان غيباً، وإذا شاهدناه كان شهادة، ليس هو فرقاً يعود إلى أن ذاته تعقل ولا
80
تشاهد ولا تحس، بل كل ما يعقل ولا يمكن أن يشاهد بحال فإنما يكون في الذهن، والملائكة يمكن أن يشاهدوا ويروا الرب تعالى، وممكن رؤيته بالأبصار والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت النصوص في ذلك عن النبي - ﷺ -، واتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وإمكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة، لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من أهل الكلام كأبي الحسن وأمثاله حيث ادعوا أن كل موجود يمكن رؤيته، بل قالوا وممكن أن يتعلق به الحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فإن هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العلماء، وهذا من أغاليط بعض المتكلمين، هذا. قوله (ويقيمون الصلاة) أي يداومون عليها، والإقامة في الأصل الدوام والثبات، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك قام الحق أي ظهر وثبت، وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيآتها في أوقاتها وحفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها وحدودها وزيغ في أفعالها وإتمام أركانها، والصلاة أصلها في اللغة الدعاء من صلى يصلي إذا دعا، ذكر هذا الجوهري وغيره، وقال قوم هي مأخوذة من الصلا، وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب، ذكر هذا القرطبي، وهذا هو المعنى اللغوي.
وأما المعنى الشرعي فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار، قال ابن عباس المراد به الصلوات الخمس وقال قتادة إن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
(ومما رزقناهم ينفقون) أي يخرجون ويتصدقون في طاعة الله وفي سبيله والرزق عند الجمهور ما صلح للإنتفاع به حلالاً كان أو حراماً خلافاً للمعتزلة فقالوا إن الحرام ليس برزق، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا، والإنفاق إخراج المال من اليد وأنفق الشيء وأنفده أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالاً على معنى الذهاب والخروج.
وفي المجيء بمن التبعيضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك
81
الإسراف والتبذير، وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآي، قال أبو بكر الباقلاني: ذهب الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن، وذهب كثير ممن خالفهم إلى إثباته انتهى، قال البقاعي الثاني فاسد، وأطال في بيان ذلك بلا طائل، والحق أنه في القرآن من غير التزام له في الأكثر، وكأن من نفاه نفى التزامه أو أكثريته، ومن أثبته أراد وروده فيه في الجملة، فاحفظه ولا تلتفت لما سواه، والذي عليه العلماء أنه تطلق الفواصل عليه دون السجع قاله الخفاجي.
قال: ابن عباس يعني زكاة أموالهم، وعن قتادة يعني الإنفاق في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله كالزكاة والنذر وفي الجهاد وعلى النفس وقال ابن مسعود هي نفقة الرجل على أهله، واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل، وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتم إشعار بالتعميم (١).
_________
(١) وقد ذكر ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير في علم التفسير لهذه الآية أراء عدة منها: " أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته، ويفرق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت.
واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإيمان بالغيب وهو عقد القلب وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال، إنه ليس في التكليف قسم رابع، إذا ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما كالحج والصوم ونحوهما إ - هـ. (زاد المسير ١/ ٢٦).
82
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
83
(والذين يؤمنون) أي يصدقون (بما أنزل اليك) المراد به ما أنزل على محمد ﷺ وهو القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، والتعبير بالماضي مع كون بعضه مترقباً لتغليب المحقق على المقدر أو لتنزيل ما في شرف الوقوع منزلة الواقع، قال القاضي الانزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل، وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها، قال الإمام المراد من إنزال القرآن أن جبريل عليه السلام في السماء سمع كلام الله فنزل به على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما يقال نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل ولكن كان المستمع في علو فنزل وأدى في سفل، وقول الأمير لا يفارق ذاته اهـ.
قال الخفاجي وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه أي يجزم بالنزول من غير معرفة بكيفيته وهو الحق إذ مثل هذا من التدقيقات الفلسفية لا ينبغي ذكره في التفسير اهـ حاصله.
قلت ويرد على مذهب بعض السلف ما ورد في الأحاديث الصحيحة من بيان كيفيهّ الوحي وبدئه وبه ترجم البخاري، وهو أول باب عنون به كتابه الصحيح. وقد نطق به القرآن، ولا شك أن كلامه سبحانه المنزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مسموع بالآذان مقروء بالألسنة محفوظ في الصدور، مكتوب في المصاحف، له حرف وصوت كما دلت عليه السنة المطهرة في غير موضع من دواوين الاسلام وزبر الإيمان، وليس هذا موضع بسطه، وسيأتي الكلام عليه تحت تفسير قوله تعالى (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير).
83
(وما أنزل من قبلك) وهو الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء من قبل كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها، والإيمان بالكل جملة فرض عين، وبالقرآن تفصيلاً فرض كفاية، قيل هو مؤمنو أهل الكتاب، وفيهم نزلت، وقد رجح هذا ابن جرير، ونقله السدي عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واستشهد له ابن جرير بقوله تعالى (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل اليكم وما أنزل اليهم) وبقوله تعالى (والذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب، وقيل إن الآيتين جميعاً في المؤمنين على العموم، وعلى هذا فالجملة عطف على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة أو مرفوعة على الاستئناف، أو عطف على المتقين، والتقدير هدى لهم وللذين يؤمنون، الحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي - ﷺ - وما أنزل إلى من قبله بمقتضى لجعل ذلك وصفاً لمؤمني أهل الكتاب، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا، ولا في نظم القرآن ما يقتضي ذلك، وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية فمن ذلك قوله (يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) وقوله تعالى (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل اليكم) وقوله تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) وقال (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم).
(وبالآخرة) أي بالدار الآخرة، تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول كما أن الدنيا تأنيث الأدنى غلبتا على الدارين فجرتا مجرى الاسماء وهي صفة الدار بدليل قوله تعالى (تلك الدار الآخرة) وسميت آخرة لتأخرها عن الدنيا وكونها بعدها (وهم يوقنون) الإيقان إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه، قال في الكشاف فالمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك، وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير إشعار بالحصر، وأن ما
84
عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل عندهم للإيقان به والقطع بوقوعه، وفيه تعريض ممن عداهم من أهل الكتاب، فإن اعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين.
85
(أولئك) أي الذين هذه صفتهم وما فيه من البعد للإشعار بعلو درجتهم ورفعة مرتبتهم في الفضل وهو مبتدأ وخبره (على هدى من ربهم) أي على رشاد ونور، وقيل على استقامة منحوها من عنده وأوتوها من قبله، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي إلى الأفضل فالأفضل والإبهام المفهوم من التنكير في (هدى) لكمال تفخيمه أي على هدى أي هدى، لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره، وهذا كلام مستأنف بياني، ويمكن أن يكون خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب فيكون متصلاً بما قبله.
قال في الكشاف: قوله (وعلى هدى) مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه، ونحوه هو على الحق وعلى الباطل، وقد صرحوا بذلك في قوله جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل، واقتعد غارب الهوى اهـ.
وقال أبو السعود وإيراد كلمة الاستعلاء على استعارتها لتمسكهم بالهدى ْاستعارة تبعية متفرعة على تشبيهه باعتلاء الراكب واستوائه على مركوبه أو على جعلها قرينة للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوب للإيذان بقوة تمكنهم منه، وكمال رسوخهم فيه انتهى.
وقال الخفاجي الاستعارة في الحرف تبعية متعلقة وهو المعنى الكلي الشامل له كما حققوه والتمثيل ضرب المثل والإتيان بمثال ومطلق التشبيه والمركب منه، وهذا ظاهر لا نزاع فيه، وإنما النزاع في الاستعارة التبعية هل تكون تمثيلية أم لا، فذهب الفاضل المحقق إلى جوازه متمسكاً بما صرح
85
العلامة في مواضع من كشافه كما صرح به هنا وقد سبقه إليه الطيبي، وقال إنه مسلك الشيخين الزمخشري والسكاكي ولم يرتضه المدقق في الكشف، فأول ما في عباراتهم وتبعه فيه السيد وشنع على الفاضل حتى كأنه أبو عذرته وهي المعركة العظمى التي عقدت لها المجالس، وصنفت فيها الرسائل ما هو أشهر من " قفا نبك ".
والحاصل أن استعارة " على " استعارة تبعية تستلزم كون الاستعلاء مشبهاً به وتركب الطرفين يستلزم أن لا يكون مشبهاً به فلا يجتمعان. ومن الفضلاء من رده، وانتصر للسعد سعد جده فقال هو ممنوع.
والحاصل أنه يجري في الحرف التمثيل بمعنى انتزاع الحالة من الأمور المتعددة ولا يجري فيه التشبيه في المفصل المركب قصداً.
والذي يخطر بالبال، بعد طي شقة القيل والقال، أن الخلاف بينهم في حرف واحد إذ لا خلاف في أن التمثيل التفصيلي المعروف يستدعي تركب الطرفين حقيقة، وأن التمثيل الآخر الذي هو محل النزاع هل يشترط فيه التركيب بعد الاتفاق على أنه لا يلزم التصريح بأجزائه لفظاً ولا تقديراً فذهب الشريف إلى أنه يشترط فيه أن تكون أجزاؤه مرادة منوية فلا يكون ما اقتصر عليه من الحرف ونحوه مما هو عمدة المعنى المجازي مستعملاً في معنى مجازي، بل حقيقة وإلا كان مجازاً مفرداً لا تمثيلاً، أو لا يشترط فيه ذلك بك يكفي تركب المأخذ المنتزع منه ذلك، ويكون الحرف المذكور مع ما يدل عليه بالالتزام من طرفي التشبيه وما يتممه متجوزاً فيه وإلا لم يصح دخول (على) على الهدى كما مشى عليه السعد، ومن مشى على جادته. فالنزاع كاللفظي انتهى حاصله.
قلت: وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام، واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين، وقد جمع العلامة الشوكاني في ذلك رسالة مستقلة سماها الطود المنيف، في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف، فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام، ويجمع بين أطراف
86
الكلام على التمام، وحاصلها أن الحق في جانب السعد وأن الصواب بيده، وقد تقدمه إلى مثل هذا العلوي في حاشيته على الكشاف، وليس للسعد فيه زيادة على ما يفيده كلام الزمخشري إلا مجرد الإيضاح، ولم يأت بشيء من طرفه يستحق المؤاخذة عليه انتهى.
أقول فالحق اجتماع الاستعارة التبعية والتمثيلية، وذلك هو محل النزاع وقد اعترف الشريف بأن المقام صالح لهما لكن ادعى امتناع اجتماعهما، ويدلك على أن الاستعارة التبعية تمثيلية الاستقراء، وبه يشعر قول إمام الفن السكاكي صاحب المفتاح، وهذا صريح فيما صرح به السعد والله أعلم.
(وأولئك) في تكرير إسم الإشارة دلالة على أن كُلاَّ من الهداية الماضية والفلاح الآتي بحيث لو انفرد أحدهما لكفى مميزاً على حياله.
(هم المفلحون) أي المنجحون الناجون الفائزون نجوا من النار، وفازوا بالجنة، والفلح الظافر بالمطلوب، والفلاح أصله في اللغة الشق والقطع قاله أبو عبيد، قال القرطبي: وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة فمعناه الفائزون بالجنة، والباقون فيها، وقال في الكشاف: المفلح الفائز بالبغية كأنه الذي أنفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه، انتهى.
وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث الذي رواه أبو داود " حتى كاد يفوتنا الفلاح قلت ما الفلاح؟ قال السحور: وكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً، وضمير الفصل ويسمى عماداً له فوائد ذكرها الخفاجي منها الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره، وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث.
ثم ذكر سبحانه فريق الشر بعد الفراغ من ذكر فريق الخير قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأول معنوناً له بما يفيدان شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم، وأنه لا يترتب عليه ما هو المطلوب منهم من الإيمان وأن وجود ذلك كعدمه فقال:
87
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩)
88
(إن الذين) التعريف للعهد أو للجنس، والثاني أولى (كفروا) أي جحدوا وأنكروا، وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية ومنه سمي الكافر كافراً لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان (سواء عليهم) أي متساو لديهم، وسواء اسم مصدر بمعنى الاستواء وارتفاعه على أنه خبر لأن (أأنذرتهم) أي خوفتهم وحذرتهم، والإنذار الإبلاغ والإعلام مع التخويف فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذراً، قرئ بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفاً، قال البيضاوي وهذا الإبدال لحن، ورد عليه على القارى بأن ما قاله تقليداً للكشاف خطأ لأن القراءة به متواترة عن النبي - ﷺ - فإنكارها كفر، وتمام هذا البحث في الجمل (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) أي لا يصدقون.
قال القرطبي واختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقيل هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب وسبق في علم الله أنه يموت على كفره أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً، وقال ابن عباس والكلبي نزلت في رؤساء اليهود حيي بن أخطب وكعب ابن الأشرف ونظرائهما وقال الربيع بن أنس نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح فإن من عين أحداً فإنما مثل عن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى.
(ختم الله على قلوبهم) أي طبع الله عليها واستوثق فلا تعي خيراً ولا
88
تفهمه والختم والكتم أخوان، وأصل الختم مصدر معناه التغطية على الشيء، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ولا يخرج منه ما حصل فيه، ومنه ختم الكتاب والباب، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره، فشبه هذا المعنى بضرب الخاتم على الشيء تشبيه معقول بمحسوس، والجامع انتفاء القبول لمانع منع منه، وكذا يقال في الختم على الإسماع، وإسناد الختم إلى الله قد احتج به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف والكلام على مثل هذا متقرر في مواطنه.
(وعلى سمعهم) أي مواضعه، وإنما وحد السمع مع جمع القلوب كما تقدم والابصار كما سيأتي لإنه مصدر يقع على القليل والكثير، أو لوحدة المسموع وهو الصوت، وإنما خص هذه الأعضاء بالذكر لأنها طرق العلم، فالقلب محله وطريقه إما السماع وإما الرؤية (وعلى أبصارهم غشاوة) الغشاوة الغطاء وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة، ومنه غاشية السرج وهي غطاء التعامي عن آيات الله ودلائل توحيده قيل المراد بالختم والغشاوة ههنا هما المعنويان لا الحسيان، ويكون الطبع والختم على القلوب والاسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة قال تعالى (فان يشأ الله يختم على قلبك) وقال (ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) (ولهم عذاب عظيم) يعني في الآخرة وقيل الأسر والقتل في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى والعذاب هو كل ما يؤلم الانسان هو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة أعذبه عن كذا حبسه ومنعه ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت، وقيل هو الايجاع الشديد، والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكان العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والاحداث جميعاً.
89
(ومن الناس) جمع إنسان أو اسم جمع لإنسان قاله سيبويه والجمهور، وأصله الناس وذهب الكسائي إلى أنه اسم تام، وقال سلمة كل من ناس
89
وأناس مادة مستقلة، والفرق بين الجمع واسم الجمع أن اسم الجمع ما دل على ما فوق الاثنين ولم يكن على أوزان الجموع سواء كان له مفرد أو لا ويشترط فيه أيضاً أن لا يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة ولا بالياء كزنج وزنجي، فإنه اسم جنس جمعي، ويعرف باطراد تصغيره من غير رد إلى المفرد، وقد يراد باسم الجمع الجمع الوارد على خلاف القياس، وهذا في عرف النحاة، وأما أهل اللغة فاسم الجمع عندهم يسمى جمعاً حقيقة ذكره الخفاجي سمي به لأنه عهد إليه فنسي أو لأنه يستأنس بمثله، ولام التعريف فيه للجنس أو للعهد.
(من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين في الآيات الثلاث عشرة وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى، وفي الباطن الطائفة الثانية، ولذا نزل فيهم (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) قيل نزلت في عبد الله بن أبيّ ومعتب بن قشير وجد بن قيس وأصحابهم، والمراد باليوم الآخر، الوقت الذي لا ينقطع بل هو دائم أبداً وهو يوم القيامة (وما هم بمؤمنين) نفى عنهم الإيمان بالكلية في جميع الأزمنة كما تفيده الجملة الاسمية ففيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره.
90
(يخادعون الله) أي يخالفونه، (والذين آمنوا) والخداع في أصل اللغة الفساد حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي وقيل أصله الإخفاء حكاه ابن فارس وغيره والمراد أنهم صنعوا صنع الخادعين وإن كان العالم الذي لا يحفى عليه شيء لا يخدع، وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل والمراد بالمخادعة من الله أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه، والمراد بمخادعة المؤمنين لهم هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله
90
به من أحكام الإسلام ظاهراً، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر، وقد يكون الخداع حسناً إذا كان الغرض منه استدراج الغير من الضلال إلى الرشد ومن ذلك استدراجات التنزيل على لسان الرسل في دعوة الأمم، قاله الطيبي، والآية من قبيل الإستعارة التمثيلية حيث شبه حالهم في معاملتهم لله بحال المخادع مع صاحبه من حيث القبح أو من باب المجاز العقلي في النسبة الإيقاعية، وأصل التركيب يخادعون رسول الله أو من باب التورية حيث ذكر معاملتهم لله بلفظ الخداع.
والمراد بقوله (وما يخدعون إلا أنفسهم) الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع، فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، والمراد أنهم يمنونها الأماني الباطلة، وهي كذلك تمنيهم، والنفس ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للقلب والروح والدم والماء نفس، والمراد بالأنفس هنا ذواتهم أو قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم (وما يشعرون) أي لا يعلمون أن وبال خداعهم راجع عليهم.
قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فظنت، قال في الكشاف الشعور علم الشيء علم حس من الشعار ومشاعر الإنسان حواسه، وقيل الشعور إدراك الشيء من وجه يدق ويخفى من الشعر لدقته، والأول أولى، قال ابن عباس إنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، عن ابن سيرين قال لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية.
91
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
92
(في قلوبهم مرض) المرض كل ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس وقيل هو الألم فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً (فزادهم الله مرضاً) أي كفراً ونفاقاً، والمراد بزيادة المرض الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله - ﷺ - من النعم، ويتكرر له من منن الله الدنيوية والدينية، ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق، وفسر ابن عباس المرض بالشك والنفاق، وقال ابن زيد: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجسام، وقال عكرمة وطاوس المرض الرياء، والقراء مجمعون على فتح الراء من مرض إلا أبا عمرو فإنه قرأ بالسكون (ولهم عذاب) أي نكال.
(أليم) أي مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم، قال ابن عباس كل شيء في القرآن أليم فهو الموجع انتهى، ووصف به العذاب للمبالغة (بما كانوا يكذبون) أي يبدلون ويحرفون، قاله ابن مسعود، وقيل المعنى بتكذيبهم الله ورسوله في السر، وقيل بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين، والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب.
92
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢)
93
(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) يعني المنافقين والقائل لهم هو الله أو الرسول أو المؤمنون، والعنى لا تفسدوا بالنفاق وموالاة الكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد- ﷺ - وبالقرآن: فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار، وبطلان الذرائع وخراب العالم كما هو مشاهد عند ثوران الفتن وهيج الحروب والتنازع، والفساد خروج الشيء عن الحالة اللائقة به والاعتدال، والصلاح ضده، وكلاهما يعمان كل ضار ونافع.
(قالوا إنما نحن مصلحون) يعني يقولونه كذباً " وإنما " من أدوات القصر كما هو مبين في علم المعاني، والصلاح ضد الفساد، وهذا الجواب منهم رد للناصح على أبلغ وجه لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض.
(ألا إنهم هم المفسدون) في الأرض بالكفر وهو أشد الفساد، رد لما أدعوه أبلغ رد للاستئناف به وتصديره بحرفي التأكيد، و (ألا) حرف تنبيه ينبه بها المخاطب وهي النبهة على تحقيق ما بعدها. قال ابن مسعود الفساد هنا الكفر والعمل بالمعصية (ولكن لا يشعرون) وذلك لأنهم يظنون أن ما هم عليه من النفاق وإبطان الكفر صلاح وهو عين الفساد، وقيل لا يشعرون ما أعد الله لهم من العذاب، والأول أولى.
93
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤)
94
(وإذا قيل لهم) أي للمنافقين.. نصحوهم من وجهين (أحدهما) النهي عن الفساد وهو عبارة عن التخلي عن الرذائل (وثانيهما) الأمر بالإيمان وهو عبارة عن التحلي بالفضائل، فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين (كما آمن الناس) يعني أصحاب محمد - ﷺ - من المهاجرين والأنصار، وقيل الناس عبد الله بن سلام وأصحابه و " ما " مصدرية أو كافة واللام للعهد أو للجنس، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان (قالوا) أي أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحق والصواب (أنؤمن كما آمن السفهاء)، أي الجهال، الهمزة للإنكار واللام مشار بها إلى الناس أو للجنس بأسره وهم مندرجون فيه، نسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاء واستخفافاً فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول وحصر كما قال تعالى:
(ألا إنهم هم السفهاء) أي الجهال، وأصل السفه والسفاهة رقة الحلوم وفساد البصائر وسخافة العقول، وخفة النهي، وإنما سمى الله المنافقين سفهاء لأنهم كانوا عند أنفسهم عقلاء فقلب ذلك عليهم وسماهم سفهاء، ورد أبلغ رد في تجهيلهم.
(ولكن لا يعلمون) أنهم كذلك إما حقيقة أو مجازاً تنزيلاً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم، وإنما ذكر العلم هنا، والشعور فيما قبل، لأنه أكثر طباقاً بذكر السفه، والتمييز بين الحق والباطل يفتقر إلى نظرة وفكرة، والنفاق يدرك بأدنى تفطن وتأمل من قولهم وفعلهم.
عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي المهاجرين والأنصار، ومعنى لقيته ولاقيته استقبلته قريباً.
(قالوا آمنا) كإيمانكم.
(وإذا خلوا إلى شياطينهم) أي رجعوا إليهم قيل هو من الخلوة وقيل (إلى) بمعنى الباء وقيل بمعنى مع وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، أو من خلاك ذم أي مضى عنك، ومنه القرون الخالية أو من خلوت به إذا سخرت منه، وعدي بإلى لتضمين معنى الإنهاء.
والمراد بالشياطين رؤساؤهم وكهنتهم، وقيل المراد بالشياطين المماثلون منهم للشياطين في التمرد والعناد، المظهرون لكفرهم أو كبار المنافقين، والقائلون صغارهم.
(قالوا إنا معكم) في الدين والاعتقاد أي إنا مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه.
(إنما نحن مستهزؤن) أي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بما نظهر لهم من الإسلام لنأمن من شرهم ونقف على سرهم، ونأخذ من غنائمهم، تأكيد لما قبله أو بدل منه أو استئناف.
قال ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، والهزء السخرية واللعب والاستخفاف يقال هزأت واستهزأت بمعنى، وأصله الخفة وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات فجأة وتهزأ به ناقته أي تسرع به وتخف، والمراد درؤهم للإسلام ودفعهم للحق.
95
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)
96
(الله يستهزىء بهم) أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخف بهم انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وجزاء لاستهزائهم بهم، فسمى الجزاء باسمه، لأنه في مقابلته، وورد ذلك في القرآن كثيراً ومنه (جزاء سيئة سيئة مثلها، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق، ومنه (ومكروا ومكر الله) (إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً) (وتعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) وهو في السنة كثير كقوله - ﷺ - " إن الله لا يمل حتى تملوا "، وإنما قال (الله يستهزىء بهم) لأنه يفيد التجدد وقتاً بعد وقت وهو أشد عليهم وأنكى لقلوبهم، وأوجع لهم من الإستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الاسمية لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه، قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم وردوا إلى النار.
(ويمدهم) أي يتركهم ويمهلهم ويطيل لهم المدة كما قال (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) والمد الزيادة قال يونس بن حبيب يقال أمد في الشر وأمد في الخير، ومنه (وأمددناهم بأموال وبنين، وأمددناهم بفاكهة) وقال الأخفش مددت له إذا تركته وأمددته إذا أعطيته (في طغيانهم) أي في ضلالهم وأصل الطغيان مجاوزة الحد ومنه (إنا لما طغى الماء) والغلو في الكفر (يعمهون) أي يترددون في الضلالة متحيرين، والعمه والعامه الحائر المتردد، والعمه في القلب كالعمى في العين، قال في الكشاف: العمه مثل العمى إلا أن العمى في البصر
96
والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى، فبينهما عموم وخصوص مطلقاً.
97
(أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) يعني المنافقين استبدلوا الكفر بالإيمان، وإنما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسعاً على سبييل الاستعارة، فالشراء ههنا مستعار للاستبدال كقوله تعالى (فاستحبوا العمى على الهدى) فأما أن يكون معنى الشراء المعاوضة كما هو أصله حقيقة فلا لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين وما كانوا على الهدى فيبيعوا إيمانهم؛ والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئاً بشيء، وأصل الضلالة الحيرة والجور عن القصد وفقد الإهتداء، ويطلق على النسيان ومنه قوله تعالى (فعلتها إذاً وأنا من الضالين) وعلى الهلاك كقوله تعالى (إذا ضللنا في الأرض) والهدى التوجه إلى القصد، وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين، والثاني للإستقامة عليه، قال ابن عباس في الآية اشتروا الكفر بالإيمان وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا؛ وقال قتادة قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
(فما ربحت تجارتهم) أي ما ربحوا في تجارتهم، وأصل الربح الفضل عن رأس المال والتجارة صناعة التاجر، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك وخسرت صفقتك، وهو من الإسناد المجازي وهو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل كما هو مقرر في علم المعاني، والمراد ربحوا وخسروا (وما كانوا مهتدين) أي مصيبين في تجارتهم لأن رأس المال هو الإيمان، فلما أضاعوه واعتقدوا الضلالة فقد ضلوا عن الهدى، وقيل في شرائعهم الضلالة وقيل في سابق علم الله.
(مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) المثل قول يشبه قولاً آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، ولهذا ضرب الله الأمثال في كتابه. وهو أحد أقسام القرآن السبعة، ولما ذكر حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في
97
نفسه، ولأن المثل تشبيه الشيء الخفي بالجلي فيتأكد الوقوف على ماهيته: وذلك هو النهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه واستوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والياء زائدتان، ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها.
(فلما أضاءت ما حوله) يعني النار، والإضاءة فرضاً الإنارة وفعلها يكون لازماً ومتعدياً (ذهب الله بنورهم) الذهاب زوال الشيء (وتركهم) أي أبقاهم، وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى (في ظلمات) جمع ظلمة والظلمة عدم النور (لا يبصرون) هذا المثل للمنافقين لبيان ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده.
قال ابن عباس في الآية نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقى في ظلمة حائراً متخوفاً، فكذلك حال المنافقين، أظهروا كلمة الإيمان وأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، وقيل ذهاب نورهم ظهور عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل في القبر أو على الصراط، والأول أولى.
وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك يسطع لهب ناره لحظة ثم تخفت ومنه قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل.
وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق، ولهذا استكثر الله تعالى ذلك في كتابه
98
العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه.
قال ابن جرير: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال (رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) وقال تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً).
99
(صم): أي عن استماع الحق لأنهم لا يقبلونه، وإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه والصمم الانسداد (بكم) أي خرس عن النطق بالخير فهم لا يقولونه، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد (عمي) أي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل، ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له فهو أعمى، والعمى ذهاب البصر، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن سماع الحق آذانهم وأبوا أن تنطق به ألسنتهم، وأن ينظروا إليه بعيونهم، جعلوا كمن تعطلت حواسه، وذهب إدراكه كما قال الشاعر: (١)
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به... وإن ذكرت بسوء كلهم أذن
(فهم لا يرجعون) أي عن ضلالتهم ونفاقهم.
_________
(١) ومن ذلك قوله مسكين الداري
ما ضرَّ جاراً لي أجاوره... ألا يكون لبابه ستر
أعمى إِذا ما جارتي خرجت... حتى يواري جارتي الخدر
وتصمُّ عما بينهم أذني... حتى يكون كأنه وقر
99
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
100
(أو كصيب من السماء) أو: حرف الشك لقصد التخيير بين المثلين أي مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شك، وقال الفراء وغيره أنها بمعنى الواو، والصيب المطر واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل، وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب، والسماء في الأصل كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت سماء، والسماء أيضاً المطر سمي بها لنزوله منها، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب، وقيل من السماء بعينها، وإنما ذكر الله تعالى من السماء وإن كان المطر لا ينزل إلا منها ليرد على زعم أن المطر ينعقد من أبخرة الأرض فأبطل مذهب الحكماء بقوله (من السماء) ليعلم أن المطر منها لا كما هو زعمهم الباطل.
(فيه ظلمات) أي في الصيب، وبه قال جمهور المفسرين، وقال السيوطي في السحاب وهو خلاف ظاهر نظم الآية، وقيل (في) بمعنى مع، وإنما جمع الظلمات إشارة إلى أنه انضم إلى ظلمة الليل، ظلمة الغيم والمطر (ورعد) اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب، وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: سألت اليهود النبي - ﷺ - عن الرعد ما هو؟، قال " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث يشاء الله " قالوا فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر،
100
قالت صدقت، الحديث بطوله وفي إسناده مقال، وعلى هذا التفسير أكثر العلماء، وقيل هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة وجهلة المتكلمين، وقيل غير ذلك، قال ابن عباس: الرعد اسم ملك يسوق السحاب، والبرق لمعان سوطه من نور يزجر به السحاب، وقيل الرعد اسم ملك يزجر السحاب (١) إذا تبددت جمعها وضمها فإذا اشتد غضبه يخرج من فيه النار فهي البرق (وبرق) النار التي تخرج منه، أي مخراق بيد الملك الذي يسوق السحاب، وإليه ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق، وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة أن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يلهب عند الاصطكاك.
(يجعلون) أي أصحاب الصيب (أصابعهم في آذانهم من الصواعق) إطلاق الأصابع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الاصبع لا كلها، والصواعق، ويقال الصواعق هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزمجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها، ويدل على ذلك حديث ابن عباس المذكور قريباً، وبه قال كثير من علماء الشريعة، ومنهم من قال أنها نار تخرج من فم الملك، وقال الخليل هي الوقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه، وقال أبو زيد الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد، وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها، وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله تعالى في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح، وعن ابن عمر أن رسول الله - ﷺ - كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: " اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك "، أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (حذر الموت)
_________
(١) فقد روى أحمد في مسنده (٢٤٨٣) والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح غريب وفي حديث طويل أجابه به - ﷺ - اليهود.
101
أي مخافة الهلاك، والموت ضد الحياة (والله محيط بالكافرين) أي عالم بحالهم وقيل يجمعهم ويعذبهم والإحاطة الأخذ من جميع الجهات حتى لا يفوت المحاط به بوجه من الوجوه.
102
(يكاد البرق) أي يقرب يقال كاد يفعل ولم يفعل (يخطف أبصارهم) أي يختلسها والخطف استلاب الشيء والأخذ بسرعة (كلما أضاء لهم) يعني البرق (مشوا فيه) أي في إضاءته ونوره (وإذا أظلم عليهم قاموا) أي وقفوا متحيرين (ولو شاء الله لذهب بسمعهم) أي بصوت الرعد (وأبصارهم) بوميض البرق (إن الله على كل شيء قدير) أي هو الفاعل لما يشاء لا منازع له فيه، والآية على عمومها بلا استثناء، وفيه دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران لا كما زعم المعتزلة من أن الاستطاعة قبل الفعل.
وهذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين، والمنافقون أصناف منهم من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ومنهم من قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وورد بلفظ أربع وزاد وإذا خاصم فجر، وورد بلفظ إذا عاهد غدر، وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين.
(يا أيها الناس) لم يقع النداء في القرآن بغير " يا " من الأدوات والنداء في الأصل طلب الإقبال والمراد به هنا التنبيه وأي مبني على الضم في محل نصب والناس نعت لأي على اللفظ وحركته إعرابية وحركة أي بنائية، واستشكل رفع التابع مع عدم عامل الرفع، والنداء على سبع مراتب: نداء مدح كقوله: (يا أيها النبي) و (يا أيها الرسول)، ونداء ذم كقوله: (يا أيها الذين هادوا) (يا أيها الذين كفروا) ونداء تنبيه كقوله: (يا أيها الإنسان) (يا أيها الناس) ونداء إضافة كقوله: (يا عبادي) ونداء نسبة كقوله: (يا بني آدم) (يا بني إسرائيل)، ونداء تسمية كقوله: (يا داود) (يا إبراهيم)، ونداء تضيف كقوله:
102
(يا أهل الكتاب)، قاله الكرخى.
قال ابن عباس (يا أيها الناس) خطاب لأهل مكة ويا أيها الذين آمنوا خطاب لأهل المدينة وهو هنا خطاب عام لسائر المكلفين، والحق أن ما قاله ابن عباس أكثري لا كُلّي، فإن البقرة والنساء والحجرات مدنيات وفاقاً، وقد قال في كل منها يا أيها الناس (١).
(أعبدوا ربكم الذي خلقكم) قال ابن عباس وحدوا، وكل ما ورد في القرآن من العبادة قيل معناه التوحيد. وأصل العبادة غاية التذلل، وقد تقدم تفسيرها والمعنى ابتدع خلقكم من غير مثال سبق، وإنما خص نعمة الخلق وامتن بها عليهم لأن جميع النعم مترتبة عليها وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً فالكفار يقرون بأن الله هو الخالق (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) فامتن عليهم بما يعترفون به فلا ينكرونه، وفي أصل معنى الخلق وجهان أحدهما التقدير يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع (الثاني) الإنشاء والاختراع والإبداع.
(والذين من قبلكم) بالذات أو الزمان أي وخلقهم (لعلكم تتقون) ولعل أصلها الترجي والطمع والتوقع والإشفاق، وذلك مستحيل على الله تعالى ولكنه لما كان في المخاطبة منه للبشر كان بمنزلة قوله لهم افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع، وبهذا قال جماعة من أهل العربية منهم سيبويه، وقيل بمعنى لام كي أي لتتقوا وبهذا قال جماعة منهم قطرب والطبري، وقيل إنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قال متعرضين للتقوى وإليه مال أبو البقاء وغيره.
_________
(١) وقد اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب وعلى أربعة أقوال.
أنه عام لجميع الناس وهو قول ابن عباس.
أنه خطاب لليهود دون غيرهم قاله الحسن ومجاهد.
أنه خطاب للكفار من مشرعي العرب وغيرهم قاله السدي.
أنه خطاب للمنافقين واليهود قاله مقاتل انظر (زاد المسير ١/ ٤٧).
103
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣)
104
(الذي جعل لكم الأرض فراشاً) أي خلق لكم الأرض بساطاً ووطاء مذللة ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها، والحزن ما غلظ من الأرض، " وجعل " هنا بمعنى صير وجاء بمعنى صار وطفق وأوجد، والتصيير يكون بالفعل تارة وبالقول والعقد أخرى، والفراش وطاء يستقرون عليها، واستدل به أكثر المفسرين على أن شكل الأرض بسيط ليس بكروي.
(والسماء بناء) أي سقفاً مرفوعاً قيل إذا تأمل المتفكر في العالم وجده كالبيت المعمور فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض مفروشة كالبساط والنجوم كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت، وفيه ضروب النبات المهيأة لمنافعه، وأصناف الحيوان مصروفة في مصالحه، فيجب على الإنسان المسخر له هذه الأشياء شكر الله تعالى عليها، والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد، وقيل جمع سماة، والبناء مصدر سمى به المبنى بيتاً كان أو قبة أو خباء، وأصل البناء وضع لبنة على أخرى فجعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً).
(وأنزل من السماء) يعني السحاب (ماء) يعني المطر (فأخرج به) أي بذلك الماء (من الثمرات) جمع ثمرة (رزقاً لكم) والمعنى أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات وأنواعاً من النبات، ليكون ذلك متاعاً لكم وعلفاً لدوابكم إلى حين، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس
104
الأسباب والمواد، ولكن له في الإنشاء مدرجاً من حال إلى حال صنائع وحكماً يجدد فيها لأولي الأبصار عبراً وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة (فلا تجعلوا لله أنداداً) جمع ند وهو المثل والنظير، وفي جعله جمع نديد نظر (وأنتم تعلمون) بعقولكم أن هذه الأشياء والأمثال لا يصح جعلها أنداداً لله وأنه واحد خالق لجميع الأشياء وإنه لا مثل له ولا ند ولا ضد، وفي الآية دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجة وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي - ﷺ - ما شاء الله وشئت قال " جعلتني لله نداً (١). ما شاء الله وحده " وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن حذيفة قال: قال رسول الله - ﷺ - لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان " وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال " أن تجعل لله نداً وهو خلقك ".
_________
(١) وقد روى مسلم عن عبد الله قال: سألت رسول الله ﷺ أي الذنب أعظم عند الله؛ قال: " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " قال قلت له: إن ذلك لعظيم، قال قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك (أي يأكل) قال قلت: ثم أي قال ثم أن تزاني حليلة جارك.
وفي رواية: قال: أن تدعو لله نداً وقد خلقك.
قال ابن حجر في الفتح:... ولا ينسب شيء في الخلق لغير الله تعالى فيكون شريكاً ونداً ومساوياً له في نسبه الفعل اليه، وقد نبه الله تعالى عباده على ذلك بالآيات المذكورة وغيرها المصرحة بنفي الانداد والآلهة المدعوة معه، فتضمنت الرد على ما يزعم أنه يخلق أفعاله، ومنها ما حذر به المؤمنين أو أثنى عليهم، ومنها ما وبخ به الكافرين وحديث الباب (المذكور) ظاهر في ذلك.
105
(وإن كنتم في ريب) أي شك لأن الله عليم بأنهم شاكون (مما نزلنا على عبدنا) أن القرآن أنزله على محمد- ﷺ - وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم
105
للتفخيم، لأن قبله اعبدوا ربكم فكان حق المقام أن يقول مما نزل على عبده والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل، وعبدنا إضافة تشريف لمحمد - ﷺ -، والتنزيل التدريج والتنجيم (فأتوا بسورة) أي من سورة، والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص سميت بذلك لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلدة عليها، وأقل ما تتألف منه السورة ثلاث آيات استدل به من قال أنه يتعلق الإعجاز بأقل من سورة ورد به على من قال من المعتزلة بأنه يتعلق بجميع القرآن (من مثله) الضمير عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم، وقيل على التوراة والإنجيل لأن المعنى إنها تصدق ما فيه، وقيل يعود على النبي - ﷺ -، والمعنى من بشر مثل محمد- ﷺ - أمي لا يكتب ولا يقرأ، والأول أوجه وأولى، ويدل عليه أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في التحدي، وإنما وقع الكلام في المنزل لا في المنزل عليه (وادعوا شهداءكم) جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون، والمراد هنا الآلهة أي استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها (من دون الله) وقيل المعنى وادعوا ناساً يشهدون لكم، ومعنى ْدون: أدنى مكان من الشيء واتسع فيه حتى استعمل في تخطي شيء إلى شيء آخر ومنه ما في هذه الآية، وله معان أخر منها التقصير عن الغاية والحقارة، والعرب تقول هذا دون ذلك أي أقرب منه (إن كنتم صادقين) فيما قلتم إنكم تقدرون على المعارضة. وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم، أو أن محمداً - ﷺ - يقوله من تلقاء نفسه، والأول أولى، والصدق خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع أو الإعتقاد أو لهما على الخلاف المعروف في علم المعاني.
106
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥)
107
(فإن لم تفعلوا) فيما مضى (ولن تفعلوا) ذلك فيما يأتي وتبين لكم عجزكم عن المعارضة وذلك أن النفوس الأبيَّة إذا قرعت بمثل هذا التقريع استفرغت الوسع في الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه ولو قدروا على ذلك لأتوا به، فحيث لم يأتوا بشيء ظهرت المعجزة للنبي - ﷺ - وبان عجزهم، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، والقرآن من جنس كلامهم وكانوا حراصاً على إطفاء نوره وإبطال أمره، ثم مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة من أحدهم ورضوا بسبي الذراري وأخذ الأموال والقتل، وإذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح صدق رسول الله - ﷺ -، وإذا كان الأمر كذلك وجب ترك العناد.
وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها لأنها لم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوة وفيما بعدها وإلى الأن، وقد كرر الله سبحانه تحدي الكفار لهذا في مواضع من القرآن منها هذا، ومنها قوله تعالى في سورة القصص (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين) وقال في سورة سبحان (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) وقال في سورة هود (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) وقال في سورة يونس (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين).
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه
107
في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر أو كان العجز عن المعارضة الصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه، والحق الأول فإن القرآن يأتي تارة بالقصة باللفظ الطويل، ثم يعيدها باللفظ الوجيز ولا يخل بالمقصود، وأنه فارقت أساليبه أساليب الكلام وأوزانه أوزان الأشعار والخطب والرسائل ولهذا تحدت العرب به فعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله، وهم معدن البلاغة وفرسان الفصاحة حتى قال الوليد بن المغيرة في وصف القرآن: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه.
(فاتقوا النار) بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه وقيل المعنى فاحترزوا من إنكار كونه منزلاً من عند الله فإنه مستوجب للعقاب بالنار (التي وقودها الناس والحجارة) أي حطبها والوقود بالفتح الحطب وبالضم التوقد، وقيل كل من الفتح والضم يجري في الآلة والمصدر والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقوداً للنار معهم، ويدل على هذا قوله تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) وقيل المراد بها حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً قاله ابن عباس، وقيل جميع الحجارة، وفيه دليل على عظم تلك النار وقوتها وفي هذا من التهويل ما لا يقادر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها.
(أعدت للكافرين) أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر، قاله ابن عباس والمعنى جعلت عدة لعذابهم وهيئت لذلك، واخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية وقودها الناس والحجارة قال أوقد عليها ألف عام حتى احمرت وألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها، وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً مثله،
108
وأخرج أحمد ومالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم قالوا يا رسول الله إن كانت لكافية قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها.
وعن أبي هريرة قال أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون، إنها لأشد سواداً من القار، والآية دلت على أنها مخلوقة الآن إذ الإخبار عن إعدادها بلفظ الماضي دليل على وجودها وإلا لزم الكذب في خبر الله تعالى، فما زعمته المعتزلة من أنها تخلق يوم الجزاء مردود، وتأويلهم بأنه يعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق الوقوع ومثله كثير في القرآن مدفوع بأنه خلاف الظاهر، ولا يصار إليه إلا بقرينة، والأحاديث الصحيحة المتقدمة تدفعه.
109
(وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد كما هي عادته سبحانه وتعالى في كتابه العزيز لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه، والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة وهي الجلدة الظاهرة من البشر والسرور، والمأمور بالتبشير قيل هو النبي - ﷺ - وقيل هو كل أحد كما في قوله - ﷺ - " بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة " والصالحات الأعمال المستقيمة، والمراد هنا الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم، وفيه رد على من يقول أن الإيمان بمجرده يكفي، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح قيل هو ما كان فيه أربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص، يعني عن الرياء قاله عثمان.
(أن لهم جنات) جمع جنة وهي البساتين وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها أو تسترها بالأشجار والأوراق، وقيل الجنة ما فيه نخل والفردوس ما فيه كرم وهي اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة (تجري) أي على ظهر الأرض من غير حفيرة بل هي متماسكة
109
بقدرة الله (من تحتها) أي تحت الجنات لاشتمالها على الأشجار أي من تحت أشجارها، قال مسروق إنها تجري من غير أخدود (الأنهار) جمع نهر وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات، والمراد الماء الذي يجري فيها لأن الأنهار لا تجري، واسند الجري إليها مجازاً فالجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالى (واسأل القرية التي كنا فيها) أي أهلها، والنهر يجوز فيه فتح الهاء وسكونها وكذا كل ما عينه حرف حلقي، وجمع الأول أنهر، وجمع الآخر أنهار، وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " أنهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك ".
(كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً) أي أطعموا من الجنة طعاماً والمراد بثمرة النوع لا الفرد قاله سعد التفتازاني، وأطال الكلام فيه (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) في الدنيا (وأتوا به متشابها) وصف آخر للجنات أو جملة مستأنفة والمراد أنه شبيهه ونظيره لا أنه هو، لأن ذات الحاضر لا يكون عين ذات الغائب لاختلافهما، وذلك أن اللون يشبه اللون وإن كان الحجم والطعم والرائحة والمأدبة متخالفة والضمير في " به " عائد إلى الرزق وقيل المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابهاً فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، فإذا أكلوا وجدوا له طعماً غير طعم الأول، عن ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء، وعن الحسن في قوله (متشابهاً) قال خيار كله يشبه بعضه بعضاً لا رذال فيه ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - ﷺ -: " أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس، طعامهم جشاء، ورشحهم كرشح المسك، وفي لفظ ورشحهم المسك " أخرجه مسلم، والمعنى أن فضول طعامهم يخرج في الجشاء وهو تنفس المعدة، والرشح العرق.
110
(ولهم فيها أزواج مطهرة) أي في الجنات من الحور العين المطهرة من البول والغائط والحيض والولد وسائر الأقذار، وقيل هي عجائز الدنيا الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا وقيل طهرن من مساوي الأخلاق والمعنى أنه لا يصيبهن ما يصيب النساء من قذر الحيض والنفاس والغائط والبزاق والنخامة، وسائر الأدناس التي لا يمتنع تعلقها بنساء الدنيا، والأزواج جمع زوج وهو ما يكون معه آخر فيقال زوج للرجل والمرأة، وزوجة بالتاء قليل وأنها لغة تميم قاله الفراء، والزوج أيضاً الصنف والتثنية زوجان، والطهارة النظافة (وهم فيها خالدون) أي ماكثون أبداً، والخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وقد يستعمل مجازاً فيما يطول دام أم لم يدم، والمراد هنا الأول لما يشهد له الآيات والأحاديث، والمعنى لا يخرجون منها ولا يموتون.
وعن ابن عباس في قوله (وهم فيها خالدون) قال يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له، وعن سعيد بن جبير خالدون يعني لا يموتون، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر عن النبي - ﷺ - قال " يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت، يا أهل الجنة لا موت، كل خالد فيما هو فيه (١) " وأخرج الطبراني وابن
_________
(١) وقد وردت الأحاديث الكثيرة في صفة أهل الجنة نقتطف منها من صحيح مسلم الأحاديث المتالية: - عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال: قال الله عز وجل: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ".
- عن أبي هريرة عن رسول الله - ﷺ -: أنه قال: " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ".
- عن أبي هريرة: أن النبي - ﷺ - قال: " إن الله يقول لأهل الجنة؛ يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا! وسعديك. والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ".
- عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - ﷺ -: " أول زمرة تدخل الجنة من أمتي، على صورة القمر ليلة البدر. ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة. ثم هم بعد ذلك منازل لا يتغوطون -[١١٢]- ولا يبولون ولا يمتخطون ولا يبزقون أمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك أخلاقهم على خلق رجل واحد على طول أبيهم آدم ستون ذراعاً ". انظر صحيح مسلم/١٨٢٢ وما بعده.
111
مردويه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ - " لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الأبد. وقد أخرج ابن ماجة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي وابن مردويه عن أسامة بن زيد قال رسول الله - ﷺ - " ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سليمة وفاكهة خضراء " الحديث.
والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وكذلك في صفات نساء أهل الجنة ما لا يتسع المقام لبسطه، فلينظر في دواوين الإسلام، وقد ألف الحافظ محمد بن أبي بكر القيم الجوزي كتاباً في أحوال الجنة سماه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) لم يؤلف في الإسلام قبله مثله، وهو أجمع ما جمع في هذا الباب، وقد لخصته بحذف الزوائد والأسانيد وسميته (مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام) فليرجع إليه، وقد ثبت عن النبي - ﷺ - في صفات أهل الجنة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون.
112
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦)
113
(إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة) أنزل الله هذه الآية رداً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) قوله (أو كصيب من السماء) فقالوا إن الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، وقد قال الرازي أن الله تعالى لما بين الدليل كون القرآن معجزاً أورد ههنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك؛ وأجاب عنها، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء؛ فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً؛ وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة انتهى.
ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا دليل عليه؛ وقد تقدمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف؛ والظاهر ما ذكرناه أولاً لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها؛ ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحاً في الفصاحة والإعجاز، والحياة تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، كذا في الكشاف وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب، وقال القرطبي الاستحياء الانقباض عن الشيء والإمتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله انتهى.
وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياة فقيل ساغ ذلك لكونه واقعاً في الكلام المحكى عن الكفار، وقيل هو من باب المشاكلة كما
113
تقدم، وقيل هو جار على سبيل التمثيل، وضرب المثل اعتماده وصنعه، والبعوض صغار البق، الواحدة بعوضة سميت بذلك لصغرها، قاله الجوهري وغيره، وهو من عجيب خلق الله في غاية الصغر شديد اللسع وله ستة أرجل وأربعة أجنحة وله ذنب وخرطوم مجوف، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس والجمل فيبلغ منه الغاية.
(فما فوقها) يعني الذباب والعنكبوت وما هو أعظم منهما في الجثة، قال الكسائي والفراء، الفاء هنا بمعنى إلى، وقيل معناه فما دونها وأصغر منها، وهذا القول أشبه بالآية لأن الغرض بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الصغير الحقير، وقد ضرب النبي - ﷺ - مثلاً للدنيا بجناح البعوضة وهو أصغر منها، وقد ضربت العرب المثل بالمحقرات فقيل هو أحقر من ذرة، وأجمع من نملة، وأطيش من فراشة، وألح من ذبابة.
(فأما الذين آمنوا) بمحمد- ﷺ - والقرآن (فيعلمون أنه) يعني ضرب المثل (الحق) أي الثابت الواقع موقعه، وهو المقابل للباطل، والحق واحد الحقوق، والمراد هنا الأول، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه (من ربهم) لا يجوز إنكاره لأن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقل وعند العرب (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً) أي بهذا المثل، والإرادة نقيض الكراهة، وقيل هي نزوع أي اشتياق النفس وميلها إلى فعل بحيث يحملها عليه، أو هي قوة هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وإرادته سبحانه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بالإيقاع أو معنى يوجب هذا الترجيح، والإرادة صفة له ذاتية قديمة زائدة على العلم.
(يضل به كثيراً) أي من الكفار، وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون به ضلالاً (ويهدي به كثيراً) يعني المؤمنين يصدقونه ويعلمون أنه حق، وهو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما فهو خبر من الله سبحانه، وقيل هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى، وليس هذا بصحيح، فإن الكافرين لا يقرون بأن في
114
القرآن شيئاً من الهداية، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة.
وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا وفي نسبته إلى الله سبحانه وقد نقح الرازي في تفسيره في هذا الموضع تنقيحاً نفيساً، وجوده وطوله وأوضح فروعه وأصوله فليرجع إليه فإنه مفيد جداً، وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه لكونه سبباً فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي، وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله يضل يخذل.
(وما يضل به إلا الفاسقين) يعني الكافرين وقيل المنافقين وقيل اليهود، ولا خلاف في أن هذا من كلام الله سبحانه، قال القرطبي، فيه دلالة لمذهب أهل السنة أن الهدى والضلال من الله، والفسق الخروج عن الشيء، ذكر معنى هذا الفراء، وقد زعم ابن الإعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم " فاسق " وهذا مردود عليه فقد حكى ذلك عن العرب وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس والجوهري وابن الأنباري وغيرهم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - ﷺ - أنه قال " خمس فواسق " الحديث، وقال في الكشاف الفسق الخروج عن القصد، ثم قال والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ١هـ. وقال القرطبي الفسق في عرف الإستعمال الشرعي الخروج عن طاعة الله عز وجل فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان ١هـ. وهذا هو أنسب للمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض.
قال الرازي في تفسيره واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر، فعند أصحابنا هو مؤمن، وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة أنه لا مؤمن ولا كافر، واحتج المخالف بقوله (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) قوله (إن المنافقين هم الفاسقون) وقوله (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام إهـ.
115
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
116
(الذين ينقضون عهد الله) النقض إفساد ما أبرم من بناء أو حبل أو عهد، والنقاضة ما نقض من حبل الشعر، وقيل أصل النقض الفسخ وفك المركب، والمعنى متقارب، والمعنى يتركون ويخالفون، وأصل العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال والعهد قيل هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره وهو قوله (ألست بربكم قالوا بلى) وقيل هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به، وقيل بل هو نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات والأرض وسائر مخلوقاته، ونقضه ترك النظر فيه، وقيل هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس.
(من بعد ميثاقه) الضمير للعهد أو لله تعالى، قاله السمين، وعلى الأول مصدر مضاف إلى المفعول، وعلى الثاني مضاف للفاعل، " ومن " لابتداء الغاية فإن ابتداء النقض بعد الميثاق، والميثاق العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدة في العقد والربط جميعاً، والجمع المواثيق والمياثيق، واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الإستعارة.
(ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) القطع معروف والمصدر في الرحم القطيعة، واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله فقيل الأرحام وموالاة
116
المؤمنين، وقيل وصل القول بالعمل لزوم الجماعات المفروضة، وقيل أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب البعض الآخر، وقيل المراد به حفظ شرائعه وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة على ألسن رسله بالمحافظة عليها، وقيل سائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر، فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين عبده فهي عامة، وبه قال الجمهور وهو الحق، والأمر هو القول الطالب للفعل، وقيل مع العلو، وقيل مع الاستعلاء، وبه الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر فإنه مما يؤمر به.
(ويفسدون في الأرض) يعني بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه، فالمراد بالفساد في الأرض الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به كعبادة غيره، والإضرار بعباده، وتغيير ما أمر بحفظه، وبالجملة فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً فهو فساد، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل كان عملهم فساداً لما نقضوا أنفسهم من الفلاح والربح، وعن قتادة قال ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليوف به الله، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد والوعيد الشديد عليه.
(أولئك هم الخاسرون) أي المغبونون بإهمال العقل عن النظر، واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية، وأصل الخسار والخسران النقصان، والخاسر هو الذي نقص نفسه من الفلاح والفوز، قال مقاتل: الخاسرون هم أهل النار، وقال ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ومسرف وظالم ومجرم وفاسق فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذم.
117
(كيف) هو للسؤال عن الأحوال، والمراد هنا الأحوال التي يقع عليها
117
الكفر على الطريق البرهاني من العسر واليسر والسفر والإقامة والكبر والصغر والعز والذل وغير ذلك، وهذا الاستفهام هو للإنكار عليهم والتعجيب من حالهم، وفيه تبكيت وتعنيف لهم (تكفرون بالله) بعد نصب الدلائل ووضع البراهين الدالة على وحدانيته، والخطاب على طريقة الإلتفات ثم ذكر الدلائل فقال (وكنتم أمواتاً) يعني نطفاً في أصلاب آبائكم وعلقاً ومضغاً (فأحياكم) يعني في الأرحام بنفخ الروح وفي الدنيا (ثم يميتكم) أي عند انقضاء آجالكم (ثم يحييكم) بالنشور يوم نفخ الصور، واختلف المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، والحاصل أن المراد بالموت الأول العدم السابق، وبالحياة الأولى الخلق، وبالموت الثاني الموت المعهود، وبالحياة الثانية الحياة للبعث، فجاءت الفاء وثم على بابيهما من التعقيب والتراخي على هذا التفسير، وهو أحسن الأقوال، وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة فمن بعدهم.
قال ابن عطية وهذا القول هو المراد بالآية وهو الذي لا محيد للكفار عنه، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين ثم أحياء في الدنيا ثم أمواتاً فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى، قال غيره والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا، وقيل أن المراد كنتم أمواتاً في ظهر آدم عليه السلام ثم أخرجكم من ظهره كالذر ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم، وقيل كنتم أمواتاً أي نطفاً في أصلاب الرجال ثم يحييكم حياة الدنيا، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ثم يحييكم في القبور ثم يميتكم فيها ثم يحمييكم الحياة التي ليس بعدها موت، قال القرطبي فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات وثلاث، إحياءات، وكونهم موتى في ظهر آدم وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال، فعلى هذا يجيء أربع موتات وأربع إحياءات، وقد قيل إن الله أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم وأماتهم فيكون على هذا خمس موتات وخمس إحياءات، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في الحديث " ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم إلى أن قال:
118
فينبتون نبات الحبة في حميل السيل " وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد.
(ثم إليه ترجعون) أي تردون في الآخرة إلى الله سبحانه فيجازيكم بأعمالكم، قال في الكشاف عطف الأول بالفاء وما بعده بثم، لأن الاحياء الأول قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً، وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور، انتهى.
ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله إن الإحياء الأول قد تعقب الموت أنه وقع على ما هو متصف بالموت فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة وإن أراد أنه وقع الإحياء الأول عند أول اتصافه بالموت بخلاف الثاني فغير مسلم فإنه وقع عند آخر أوقات موته كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته، فتأمل هذا، وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال لم تكونوا شيئاً فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة.
119
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض) قال ابن كيسان أي خلق من أجلكم ما فيها من المعادن والنبات والحيوان والجبال والبحار لتنتفعوا به في مصالح الدين والدنيا، أما الدين فهو الاعتبار والتفكر في عجائب مخلوقات الله الدالة على وحدانيته، وأما الدنيا فهو الانتفاع بما خلق فيها، وقيل اللام للاختصاص، وقيل للملك والإباحة، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله (جميعاً) أقوى دلالة على هذا.
وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض، دون نفس الارض، وقال الرازي في تفسيره إن لقائل أن يقول أن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الارض فيكون جامعاً للوصفين، ولا شك
119
أن المعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها، ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إهـ.
وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال: فإن قلت هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة. قلت إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية جاز ذلك فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية أهـ. وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه وهو أيضاً ضار ليس مما ينتفع به أكلاً، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى، وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه، وأما السم القاتل ففيه نفع لأجل دفع الحيوانات المؤذية وقتلها فلا يراد أنه لا نفع فيه.
(ثم استوى إلى السماء) أي قصد وأقبل على خلقها. وقيل عمد، وقال ابن عباس ارتفع وقال الأزهري صعد أمره، وكذا ذكره صاحب المحكم، وذلك أن الله خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء، وأصل " ثم " يقتضي تراخياً زمانياً ولا زمان هنا فقيل هي إشارة إلى التراخي بين رتبتي خلق الأرض والسماء. قاله القرطبي، والاستواء في اللغة الاعتدال والانتصاب والاستقامة، وضده الاعوجاج قاله في الكشاف والرازي، ويطلق على الإرتفاع والعلو على الشيء، قال تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) وقال (لتستووا على ظهوره) وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية.
وقد قيل إن هذه الآية من المشكلات، وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها، وخالفهم آخرون، وقد استدل بقوله (ثم استوى) على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء، وكذلك الآية التي في (حم) السجدة وقال تعالى في النازعات (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها) فوصف خلقها ثم قال (والأرض بعد ذلك دحاها) فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى (والحمد لله الذي خلق السموات
120
والأرض) وقد قيل أن خلق جرم الأرض متقدم على السماء، ودحوها متأخر وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بد من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بماء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع، قاله الشوكاني.
قلت: ذكر رحمه الله في السورتين المذكورتين أن " ثم " للتراخي الرتبي لا للتراخي الزماني، أو أن " بعد " بمعنى مع كما في قوله (عتل بعد ذلك زنيم) أو أنها بمعنى قبل كقوله (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) أي من قبل الذكر فيزول ما ذكره رحمه الله تعالى من بقاء الإشكال.
وقال الفراء الإستواء في كلام العرب على وجهين (أحدهما) أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته أو يستوي من اعوجاج، وقال البيهقي الاستواء بمعنى الإقبال صحيح لأن الإقبال هو القصد، والقصد هو الإرادة وذلك جائز في صفات الله، وقال سفيان بن عيينة أي قصد إليها وقيل علا دون تكييف ولا تحديد واختاره الطبري، وقال أبو العالية استوى ارتفع وقال قتادة إن السماء خلقت أولاً، حكاه عنه الطبري، والبحث في ذلك يطول، وقد استوفاه الرازي في تفسيره، وأجاب عنه بوجوه ثم قال: الجواب الصحيح أن قوله " ثم " ليس للترتيب ههنا، وإنما هو على جهة تعديد النعم والله أعلم.
(فسواهن) أي عدل خلقهن فلا اعوجاج فيه ولا فطور، وقيل معناه سوى سطوحهن بالإملاس وقيل جعلهن سواء (سبع سموات) مستويات لا صدع فيها ولا فطور، وفي هذا التصريح بأن السموات سبع، وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى (ومن الأرض مثلهن) فقيل في العدد وقيل في غلظهن وما بينهن. وقال الماوردي أن الأرض سبع، ولكن لم يفتق بعضها من بعض، والصحيح أنها سبع كالسموات: وعلى أنها سبع أرضين متفاصلة
121
بعضها فوق بعض تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز، وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم للضوء منها قولان (أحدهما) أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة (والثاني) أنهم لا يشاهدون السماء فإن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدون منه، وهذا قول من جعل الأرض كروية، وفي الآية قول ثالث حكاه الطيبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار وتظل جميعها السماء انتهى، وسيأتي تحقيق ما هو الحق في آخر سورة الطلاق إن شاء الله تعالى.
وقد ثبت في الصحيح قوله - ﷺ - " من أخذ من الأرض شبراً ظلماً طوقه الله من سبع أرضين "، وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد.
وقد أطنب الرازي في تفسيره في بيان السموات هل هي سبع أو ثمان، وذكر مذاهب الحكماء في ذلك وأجابهم بوجوه ثم قال: أعلم أن هذا الخبط مما ينبهك على أنه لا سبيل للعقول البشرية إلى إدراك هذه الأشياء، وأنه لا يحيط بها إلا علم فاطرها وخالقها فوجب الإقتصار فيه على الدلائل السمعية.
فإن قال قائل: فهل يدل التنصيص على سبع سموات على نفي العدد الزائد؟ قلنا الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد انتهى، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع.
ونحن نقول أنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله إلا السبع فنقتصر على ذلك ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع، ولم يأت شيء من ذلك، عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في هذه الآية قالوا إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء
122
فجعله أرضاً واحدة ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد والإثنين، فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله (ن والقلم) والحوت قائم على ظهر صفاة والصفاة ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فذلك قوله تعالى (وجعل لها رواسي أن تميد بكم) وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وسخرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء، وذلك قوله (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض) إلى قوله (وبارك فيها) يقول أنبت شجرها فيها (وقدر فيها أقواتها) يقول أقوات أهلها في أربعة أيام سواء للسائلين يقول من سأل، فهكذا الأمر (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض (وأوحى في كل سماء أمرها) قال خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظاً من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش أخرجه البيهقي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير.
وقد ثبت عن النبي - ﷺ - من حديث أبي هريرة في الصحيح قال أخذ النبي ﷺ بيدي فقال " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيه الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر (١) ".
_________
(١) هناك رجال مغرمون بالتجديد، فلم يجدوا غير حديث الرسول - ﷺ - يتخذونه مطية لهم: يردونه تارة، ويؤولونه تارة، فلما رأوا في هذا الحديث أن الخلق بدأ يوم السبت وانتهى يوم الجمعة، فتصير سبعة أيام، وقد روي في الصحيح، طاروا فرحاً، وقالوا كيف يصح وهو معارض بالآيات القائلة أن الخلق في ستة -[١٢٤]- أيام، وعموا عن نص الآيات والحديث، فالآيات تنص على أن خلق السموات والأرض في ستة أيام وأما الحديث فيتفق معها تماماً، لأنه يقول إن الذي خلق في السابع إنما هو آدم وآدم غير السموات والأرض، وإنما هو أصل النوع الذي يعمر الأرض، وتسخر له السموات وما فيها.
123
وقد ثبت عن النبي - ﷺ - من طرق عند أهل السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السموات وإن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وأنها سبع سموات، وأن الأرض سبع أرضين، ولم يأت في التنزيل ولا في السنة المطهرة تصريح بأن فيهن من يعقل من العوالم والاوادم وأنبيائهم، والآثار من الصحابة ومن بعدهم إن جاءت بسند صحيح لا تصلح للاحتجاج على ذلك، فكيف بما لم يصح سنده أو صح ولكن لم يتابع عليه أو توبع عليه ولكن لم يساعده نص من الله ورسوله، وكذلك ثبت في وصف السماء آثار من جماعة من الصحابة وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية، وإنما تركنا ذكره هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص بل هو متعلق بما هو أعم منها (١).
(وهو بكل شيء عليم) أي يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات وأنما أثبت سبحانه لنفسه العلم بكل شيء لأنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما ثبت أنه خالقه.
_________
(١) جاء في فتح الباري ٦/ ٢٩٣.
روى أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " أن بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وأن سمك كل سماء كذلك وأن بين كل أرض وأرض خمسمائة عام " وأخرجه اسحق بن راهويه والبزار من حديث أبي ذر نحوه ولأبي داود والترمذي من حديث العباس بن عبد المطلب مرفوعاً " بين كل سماء وسماء إحدى أو اثنتان وسبعون سنة " وجمع بين الحديثين بأن اختلاف المسافة بينهما باعتبار بطء السير وسرعته.
وروى ابن جرير من طريق شعبة عن عمر بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في هذه الآية (ومن الأرض مثلهن) قال: " في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض من الخلق، هكذا أخرجه مختصراً وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم والبيهقي من طريق عطاء بن السائب عن أبي الضحى مطولاً، وأوله أي سبع أرضين، في كل أرض آدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسى. ونبي كنبيكم " قال البيهقي إسناده صحيح، إلا أنه شاذ بمرة، وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: لو حدثتكم بتفسير هذه الآية لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
124
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١)
125
(وإذ قال ربك) أي واذكر يا محمد إذ قال، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله، وقيل إذ زائدة والأول أوجه (للملائكة) جمع ملك بوزن فعل قاله ابن كيسان، وقيل جمع ملاك بوزن مفعل، قاله أبو عبيده، وأراد بالملائكة الذين كانوا في الأرض، وذلك أن الله تعالى خلق الأرض وأسكن فيها الجن واسكن في السماء الملائكة، فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال، وأقاموا مكانهم (١)، وقيل: القول لمطلق الملائكة وكان ذلك تعليماً للمشاورة وتعظيماً لآدم، وبياناً لكون الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره على شره، واللام في للملائكة للتبليغ وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام.
(إني جاعل في الأرض خليفة) أي خالق بدلاً منكم ورافعكم إلي، وجاعل هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين، وذكر المطرزي أنه بمعنى الخالق، وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد، وصيغة اسم الفاعل بمعنى المستقبل، والأرض هنا هي هذه الغبراء، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان، وقيل إنها مكة كما ورد في مرسل ضعيف، وقال ابن كثير أنه مدرج، والخليفة هنا معناه الخالف لمن كان قبله من الملائكة، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف أي يخلفه غيره، قيل هو آدم كما دل عليه السياق، وقيل كل من له خلافة في الارض، ويقوي الأول قوله (خليفة) دون الخلائف واستغنى بذكر آدم عن ذكر من
_________
(١) لم نعثر على دليل على هذا القول.
125
بعده، والصحيح أنه إنما سمي خليفة لأنه خليفة الله في أرضه لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه، قيل خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ولكن لاستخراج ما عندهم، قيل وفيه إرشاد عباده إلى المشاورة وأن الحكمة تقتضي اتخاذ ما يغلب خيره وإن كان فيه نوع شر، وأنه لا رأي مع وجود النص، وهو أصل في المسائل التعبدية.
قال بعض المفسرين أن في الكلام حذفاً والتقدير إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا فكرهوا ذلك و (قالوا) أي أستكشافاً عما خفي عليهم من الحكمة الباهرة، وليس باعتراض على الله ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله (بل عباد مكرمون) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله أو تلق من اللوح المحفوظ أو مقياس لأحد الثقلين على الآخر (أتجعل فيها من يفسد فيها) بالمعاصي بمقتضى القوة الشهوانية، والفساد ضد الصلاح (ويسفك الدماء) بغير حق بمقتضى القوة الغضبية كما فعل الجن، وسفك الدم صبه، قاله ابن فارس والجوهري والمهدوي ولا يستعمل السفك إلا في الدم.
(ونحن نسبح) أي نقول سبحان الله وبحمده وهي صلاة الخلق وعليها يرزقون، عن أبي ذر أن رسول الله - ﷺ - سئل أي الكلام أفضل قال " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده (١) أخرجه مسلم، وقال ابن عباس كل ما جاء في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة فيكون المعنى ونحن نصلي لك، وأصل التسبيح في كلام العرب التنزيه والتبعيد من السوء على وجه التعظيم، فيكون المعنى ونحن ننزهك عن كل سوء ونقيصة (بحمدك) أي حامدين لك أو متلبسين بحمدك فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك (ونقدس لك) وأصل التقديس التطهير أي ونطهرك عن النقائص وعن كل ما لا يليق بك من سوء ومما نسبه إليك الملحدون، وافتراه الجاحدون،
_________
(١) مسلم/٢٧٣١.
126
وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تبعيد الله من السوء، وفي القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه، والتأسيس خير من التأكيد خصوصاً في كلام الله سبحانه، وقيل معناه نطهر أنفسنا لطاعتك وعبادتك والأول أولى.
وعن ابن مسعود وناس من الصحابة نقدس لك أي نصلي لك، وقال مجاهد نعظمك ونكبرك واللام زائدة، والجملة حال أي فنحن أحق بالاستخلاف.
ولما كان سؤالهم واقعاً على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم أجاب الله سبحانه عليهم فقال (إني أعلم ما لا تعلمون) وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، لأن من علم ما لا يعلم الخاطب له كان حقيقاً بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعرف أن يعترف لمن يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة، ولم يذكر متعلق قوله (تعلمون) ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور.
عن ابن عباس قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه قال وقد كان فيها أي في الأرض قبل أن يخلق بألفي عام: الجن بنو الجان فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) كما فعل أولئك الجان فقال (إني أعلم ما لا تعلمون) أخرجه الحاكم وصححه عنه.
وفي الباب آثار من الصحابة كثيرة، وعن قتادة كان في علم الله أنه سيكون من الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وقيل أعلم أنهم
127
يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم، وقيل أعلم من وجود المصلحة والحكمة ما لا تعلمون أنتم.
وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة، في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطول بذكرها، قيل خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب، وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم، وظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم مظنة للإفساد في الأرض، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن تتقدم لهم معرفة ببني آدم بل قبل وجود آدم، فضلاً عن ذريته لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه، لأنهم لا يعلمون الغيب، قال بهذا جماعة من المفسرين.
128
(وعلم آدم الأسماء كلها) سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض وهو وجهها وقيل لأنه كان آدم اللون، والأدمة هي السمرة، ولما خلق الله آدم وتم خلقه علمه أسماء الأشياء كلها قال في الكشاف وما آدم إلا اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر وعازر وعابر وشالخ وفالع وأشباه ذلك اهـ واشتقاقه من الأدمة وغيرها تعسف قاله البيضاوي، وقال السمين بعد كلام طويل أن ادعاء الاشتقاق فيه بعيد لأن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ولا تصريف اهـ.
والأسماء هي العبارات والمراد أسماء المسميات قال بذلك أكثر العلماء، وهو المعنى الحقيقي للاسم والتأكيد بقوله (كلها) يفيد أنه علمه جميع الأسماء ولم يخرج، عن هذا شيء منها كائناً ما كان، وقال ابن جرير إنها أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم، ثم رجح هذا وهو غير راجح، وقيل صنعة كل شيء قال ابن عباس علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، وقيل خلق الله كل شيء من الحيوان والجماد وغير ذلك وعلم آدم الأسماء كلها فقال يا آدم هذا بعير، وهذا فرس، وهذه شاة حتى أتى على آخرها، وقيل علمه اللغات كلها أي جميع اللغات لكن بنوه تفرقوا في اللغات فحفظ بعضهم العربية ونسي
128
غيرها، والمراد علم الأسماء لفظاً ومعنى، مفرداً ومركباً، حقيقة ومجازاً، والمراد بالإسم ما يدل على معنى ذاتاً كان أو عرضاً، فهو أعم من الاسم والفعل والحرف، وقال في المظهري وعندي أن الله علم آدم الأسماء الإلهية كلها ثم رجح هذا بكلام طويل وهو غير راجح مع ما فيه من البعد والتكلف، ولم يقل به أحد من المفسرين، ويأباه ظاهر النظم وسياقه، واستدل بالآية من قال إن اللغات توقيفية وضعها الله وعلمها بالوحي.
(ثم عرضهم على الملائكة) يعني تلك الأشخاص، وإنما قال عرضهم ولم يقل عرضها لتغليب العقلاء عليهم، واختلف أهل العلم هل عرض على الملائكة المسميات أو الأسماء، والظاهر الأول لأن عرض نفس الأسماء غير واضح، وعرض الشيء إظهاره، قال ابن عطية والذي يظهر أن الله علم آدم الأسماء وعرض عليه مع ذلك الأجناس أشخاصاً ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن أسماء مسمياتها التي قد تعلمها آدم فقال لهم آدم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، قال الماوردي فكان الأصح توجه العرض إلى المسمى، ثم في زمن عرضهم قولان (أحدهما) أنه عرضهم بعد أن خلقهم (الثاني) أنه صورهم بقلوب الملائكة ثم عرضهم.
(فقال أنبؤني) أي أخبروني أمر تعجيز، والنبأ خبر ذو فائدة عظيمة وإيثاره على الإخبار للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها (بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) أني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منهم وأعلم، أمره
سبحانه للملائكة بهذا لقصد التبكيت لهم مع علمه بأنهم يعجزون عن ذلك
129
(قالوا) يعني الملائكة (سبحانك) تنزيهاً لك وذلك لما ظهر عجزهم، وفيه إشعار بأن سؤالهم كان استفساراً، ولم يكن اعتراضاً (وسبحان) مصدر لا يكاد يستعمل إلا مضافاً منصوباً بإضمار فعله كمعاذ الله (لا علم لنا إلا ما علمتنا) أي إنك أجل من أن نحيط بشيء من علمك إلا ما علمتنا (إنك أنت العليم) أي بخلقك، وهو من أسماء الصفات التامة وهو المحيط بكل المعلومات (والحكيم) أي في أمرك. وله معنيان (أحدهما) أنه القاضي العدل (الثاني) المحكم للأمر كي لا يتطرق إليه الفساد.
129
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
130
(قال) يعني الله تعالى (يا آدم) استدل به على أن آدم نبي متكلم (أنبئهم بأسمائهم) وذلك لما ظهر عجز الملائكة فسمى كل شيء باسمه وذكر وجه الحكمة التي خلق لأجلها بأن قال لهم هذا الجرم يسمى القصعة وحكمته وضع الطعام فيه وهكذا (فلما أنبأهم بأسمائهم) فيه دليل على مزية العلم، وأنه شرط في الخلافة وفضل آدم على الملائكة، قال الإمام لما أراد الله إظهار فضل آدم على الملائكة لم يظهره إلا بالعلم فلو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم كان إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم، ولذلك أمر الله تعالى الملائكة بالسجود له لأجل فضيلة العلم.
قلت ويؤخذ من هذا استحباب القيام للعالم، وقال الطيبي أفادت هذه الآية علم اللغة فوق التخلي بالعبادة فكيف علم الشريعة.
(قال) يعني الله تعالى (ألم أقل لكم) يا ملائكتي (أني أعلم غيب السموات والأرض) يعني ما كان وما سيكون، وذلك أنه سبحانه علم أحوال آدم قبل أن يخلقه، وفي اختصاصه بعلم غيب السموات والأرض رد لما يتكلفه كثير من العباد من الاطلاع على شيء من علم الغيب كالمنجمين والكهان، وأهل الرمل والسحر والشعوذة (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) أي ما تظهرون وما تسرون كما يفيده معنى ذلك عند العرب، ومن فسره بشيء خاص فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل.
130
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤)
131
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قيل هذا خطاب مع ملائكة الأرض والأصح أنه خطاب مع جميع الملائكة وهو الظاهر من قوله (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) والسجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، وغايته وضع الوجه على الأرض، والإسجاد إدامة النظر، وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته وقيل أن السجود كان لله ولم يكن لآدم، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود، ولا ملجأ لهذا فإن السجود للبشر قد يكون جائزاً في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح، وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم وكذلك الآية الاخرى أعني قوله (فإذا سويته ونفخت فيه من روحيِ فقعوا له ساجدين) وقال تعالى (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً) فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد - ﷺ - أن يكون كذلك في سائر الشرائع.
ومعنى السجود هنا وضع الجبهة على الأرض وإليه ذهب الجمهور، قال قوم هو مجرد التذلل والانقياد والاول أولى، وقد وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الاسماء أم بعده؟ وقد أطال البحث في ذلك البقاعي في تفسيره، وظاهر السياق أنه وقع التعليم وتعقبه الأمر بالسجود وتعقبه إسكانه الجنة ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض.
وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة في تفضيل الأنبياء على الملائكة، وهذه القصة ذكرت في القرآن في سبع سور، في هذه السورة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وص، ولعل السر في تكريرها تسلية رسول الله - ﷺ - فإنه كان في محنة عظيمة في قومه وأهل زمانه، فكأنه قال أو لا ترى أن أول الأنبياء وهو آدم كان في محنة عظيمة للخلق، ذكره الخطيب والظاهر أنه لإظهار شرف آدم وفضله على سائر الخلق حتى الملائكة، وليس في هذه القصة ما يدل على
131
محنة آدم.
(فسجدوا) وكان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر، قيل أول من سجد لآدم جبرائيل ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون، والله أعلم (إلا ابليس) استثناء متصل، لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور، قال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين كان من الجن الذين كانوا في الأرض فيكون الاستثناء على هذا منقطعاً، واستدلوا على هذا بقوله تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) وبقوله تعالى (إلا إبليس كان من الجن) والجن غير الملائكة (١) وأجاب الأولون بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة لما سبق في علم الله من شقائه عدلاً منه (لا يسئل عما يفعل) وليس في خلقه من نار ولا تركب الشهوة فيه حين غضب الله عليه ما يدفع أنه من الملائكة، وأيضاً على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلاً تغليباً للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم، وسمي به لأنه أبلس من رحمة الله أي يئس وكان اسمه عزازيل بالسريانية، وبالعربية الحرث، فلما عصى غير اسمه فسمي ابليس وغيرت صورته.
قال ابن عباس كان إبليس من الملائكة بدليل أنه استثناه منهم، وقيل أنه من الجن وأنه أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، والأول أصح لأن الخطاب كان مع الملائكة فهو داخل فيهم ثم استثناه منهم وعليه أكثر المفسرين كالبغوي والواحدي والقاضي، وقالوا المعنى كان من الجن فعلاً ومن الملائكة نوعاً أو لأن الملائكة قد يسمون جناً لاختفائهم.
(أبى) امتنع من فعل ما أمر به من السجود فلم يسجد، فيه رد على
_________
(١) إبليس كان من الجن، ولم يكن من الملائكة ولا طاوس الملائكة كما يزعمون، والأمر بالسجود كان موجهاً إلى الملائكة والجن، وإنما جاء القرآن بذكر الملائكة فقط اكتفاء بذكر الأشرف، وذلك كما تقول: سار خلف نعش الزعيم: الوزراء والأمراء والكبراء، مع أن هذا لا ينفي أنه سار خلفه طبقات العمال والفلاحين والتلاميذ.
132
الجبرية إذ لا يوصف بالإباء إلا من هو قادر على المطلوب (واستكبر) أي تعظم عن السجود لآدم والاستكبار والاستعظام للنفس، وقد ثبت في الصحيح عنه - ﷺ - " أن الكبر بطر الحق وغمط الناس " وفي رواية غمص الناس، وإنما قدم الإباء عليه وإن كان متأخراً عنه في الترتيب لأنه من الأفعال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه من أفعال القلوب، واقتصر في سورة ص على ذكر الاستكبار، وفي سورة الحجر على ذكر الإباء (وكان من الكافرين) أي من جنسهم في علم الله تعالى، وإنما وجبت له النار لسابق علم الله تعالى بشقاوته، وقيل إن (كان) هنا بمعنى صار قال ابن فورك أنه خطأ ترده الأصول.
وأفادت الآية استقباح التكبر والخوض في سر الله تعالى، وإن الأمر للوجوب، وإن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الحال مؤمناً، وهذه مسئلة الموافاة المنسوبة إلى أبي الحسن الأشعري ومعناها أن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه أي يأتي متصفاً به في آخر حياته وأول منازل آخرته، وحيث أطلقت مسئلة الموافاة فالمراد بها ذلك، وهي مما اختلف فيها الشافعية والحنفية والماتريدية، وللسبكي فيها تأليف مستقل، ومن فروعها أنه يصح أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، ويبتنى عليها مسئلة الإحباط في الأعمال بالردة.
قال الخفاجي مسئلة الموافاة من أمهات المسائل وفصلها النسفي في شرح التمهيد فقال ما حاصله أن الشافعي يقول إن الشقي شقي في بطن أمه وكذا السعيد فلا تبديل في ذلك ويظهر ذلك عند الموت ولقاء الله وهو معنى الموافاة والماتريدية يقولون يمحو الله ما يشاء ويثبت فيصير السعيد شقياً والشقي سعيداً إلا أنهم يقولون من مات مسلماً مخلد في الجنة ومن مات كافراً مخلد في العذاب باتفاق الفريقين فلا ثمرة للخلاف أصلاً، إلا أن يقال إن من كان مسلماً وورث أباه السلم إذا مات كافراً يرد ما أخذه إلى بقية الورثة المسلمين، وكذا الكافر وتبطل جميع أعماله، والمنقول في المذهب خلافه فحينئذ لا ثمرة له إلا أنه يصلح منه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله بقصد التعليق في المستقبل حتى
133
وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
لا يكون شكا في الإيمان حالاً، ولا حاجة لتأويله، والماتريدية يمنعون ذلك مطلقاً انتهى.
134
(وقلنا) هو من خطاب الأكابر والعظماء أخبر سبحانه عن نفسه بصيغة الجمع لأنه ملك الملوك (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) أي اتخذ الجنة مأوى ومنزلاً ومسكناً وهو محل السكون، وأما ما قاله بعض المفسرين أن قوله (أسكن) تنبيه على الخروج لأن السكنى لا يكون ملكاً، وأخذ ذلك من قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلاً منزلاً له فإنه لا يملكه بذلك وإن له أن يخرجه منه، فهو معنى عرفي، والواجب الأخذ بالمعنى العربي إذا لم يثبت في اللفظ حقيقة شرعية.
والزوج هي حواء بالمد وهي في اللغة الفصيحة بغير هاء وقد جاء بها قليلاً كما في صحيح مسلم قال يا فلان " هذه زوجتي فلانة " الحديث، وكان خلق حواء من ضلعه الأيسر فلذا كان كل إنسان ناقصاً ضلعاً من الجانب الأيسر، فجهة اليمين أضلاعها ثمانية عشر، وجهة اليسار أضلاعها سبعة عشر، وقصة خلقها مبسوطة في كتب السنة لا نطول بذكرها هنا فيه دلالة عن أن الجنة مخلوقة الآن.
واختلفوا في الجنة التي أمر آدم بسكناها فقيل إنها جنة كانت في الأرض، وقيل هي دار الجزاء والثواب، لأنها المعهودة، وقيل هي جنة بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان، خلقها الله امتحاناً لآدم، وحمل الإهباط على النقل منها إلى أرض الهند كما في قوله تعالى (اهبطوا مصراً) لما أن خلق آدم كان في الأرض بلا خلاف، ولم يذكر في هذه القصة رفعه إلا السماء ولو وقع ذلك لكان أولى
134
بالذكر والتذكير، لما أنه من أعظم النعم، ولأنها لو كانت دار الخلد لما دخلها إبليس وقيل أنها كانت في السماء السابعة بدليل (اهبطوا) ثم أن الأهباط الأول كان منها إلى السماء الدنيا، والثاني منها إلى الأرض، وقيل الكل ممكن والأدلة النقلية متعارضة فوجب التوقف وترك القطع، قاله أبو السعود.
قلت وقد استوعب الحافظ ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأقراح دلائل الفريقين من غير تصريح برجحان أحد القولين والله تعالى أعلم.
(وكلا منها) أي اجمعا بين الإستقرار والأكل من رزق الجنة (رغداً) رغد العيش اتسع ولأن أي رزقاً واسعاً ليناً، وأرغد القوم أخصبوا الرغيدة الزبد (حيث شئتما) أي في أي مكان من الجنة شئتما، وسع الأمر عليهما إزاحة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهى عنها من بين أشجارها التي لا تنحصر (ولا تقربا هذه الشجرة) يعني للأكل، والقرب الدنو.
قال الأصمعي: والنهي عن القرب فيه سد للذريعة وقطع للوسيلة ولهذا جاء به عوضاً عن الأكل، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل لأنه قد يأكل من ثمرة الشجرة من هو بعيد عنها إذا حمل إليه، فالأولى أن يقال المنع من الأكل مستفاد من القام، والشجر ما كان له ساق من نبات الأرض وواحده شجرة.
واختلف أهل العلم في تعيين هذه الشجرة فقيل هي الكرم وقيل هي السنبلة قاله ابن عباس، وله عنه طريق صحيحة، وقيل التين، وقيل الحنطة، وقيل اللوز، وقيل النخلة، وقيل هي شجرة القلم، وقيل الكافور، وقيل الأترج، وقيل هي شبه البر وتسمى الدعة، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، وقيل عن جنس من الشجرة، وقيل ليس في ظاهر الكلام ما يدل على التبيين إذ لا حاجة إليه لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصوداً لا يجب بيانه.
135
(فتكونا من الظالمين) يعني إن أكلتما من هذه الشجرة ظلمتما أنفسكما فمن جوز ارتكاب الذنوب على الأنبياء قال ظلم نفسه بالمعصية، والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه، ومن لم يجوز ذلك على الأنبياء حمل الظلم على أنه فعل ما كان الأولى أن لا يفعله، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدون في مواطنه، وقد أطال البحث في ذلك الرازى في تفسيره في هذا الوضع فليرجع إليه فإنه مفيد.
136
(فأزلهما الشيطان) أي استزل آدم وحواء (عنها) أي الجنة ودعاهما إلى الزلة وهي الخطيئة أي إستزلهما وأوقعهما فيها، وقيل من الإزالة وهي التنحية أي نحاهما وقيل من الزوال.
وقد اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما فقيل أنه كان ذلك بمشافهة منه لهما وإليه ذهب الجمهور، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) والمقاسمة ظاهرها المشافهة، وقيل لم يصدر منه إلا مجرد الوسوسة، والمفاعلة ليست على بابها بل للمبالغة وقيل غير ذلك.
(فأخرجهما مما كانا فيه) أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية، وقيل الضمير للجنة، وعلى هذا فالفعل مضمن معنى أبعدهما، وإنما نسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو الذي تولى اغواء آدم حتى أكل من الشجرة (وقلنا اهبطوا) أي انزلوا إلى الأرض، خطاب لآدم وحواء وخوطبا بما يخاطب به الجمع لأن الاثنين أقل الجمع عند البعض من أئمة العربية، وقيل أنه خطاب لهما ولإبليس وللحية.
فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود، وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالايلة من أعمال البصرة والحية بأصبهان، وقيل خطاب
136
لهما ولذريتهما لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الإنساني جعلا بمنزلته، ويدل على ذلك قوله (بعضكم لبعض عدو) فإن هذه الجملة الواقعة حالاً مبيناً للهيئة الثابتة للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك يعني العداوة التي بين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس.
وإليه الإشارة بقوله تعالى (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) والعدو خلاف الصديق وهو من عدا إذا ظلم، والعدوان الظلم الصراح وقيل إنه مأخوذ من المجاوزة يقال عداه إذا جاوزه، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز.
قال ابن فارس العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة، والعداوة التي بين ذرية آدم والحية هي ما روى عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - " من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمناهن منذ حاربناهن " أخرجه أبو داود، وله عن ابن مسعود أن رسول الله - ﷺ - قال " اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف من ثارهن فليمس مني " وفي رواية إلا الجان الأبيض " الذي كأنه قضيب فضة " وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان " وفي رواية " أن بهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئاً فحرجوا عليه ثلاثاً فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ".
(ولكم في الأرض مستقر) المراد بالمستقر موضع الإستقرار، ومنه (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً) وقد يكون بمعنى الاستقرار، ومنه (إلى ربك يومئذ المستقر) فالآية محتملة للمعنيين ومثلها قوله (وجعل لكم الأرض قراراً) (ومتاع) المتاع ما يستمتع به من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها أي بلغة ومستمتع (إلى حين) أي إلى وقت انقضاء آجالكم.
واختلف المفسرون في قوله (حين) فقيل إلى الموت وقيل إلى قيام الساعة، وأصل معنى الحين في اللغة الوقت البعيد، ومنه (هل أتى على
137
الإنسان حين من الدهر) والحين الساعة ومنه (أو تقول حين ترى العذاب) والحين القطعة من الدهر ومنه (فذرهم في غمرتهم حتى حين) أي حتى تفنى آجالهم ويطلق على السنة وقيل على ستة أشهر، ومنه (تؤتى أكلها كل حين) ويطلق على المساء والصباح ومنه (حين تمسون وحين تصبحون) قال ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم سنة.
138
(فتلقى آدم من ربه كلمات) ومعنى التلقي أخذه لها وقبوله لا فيها وعلمه بها وقيل فهمه لها وفطانته لما تضمنته (١)، وأصل معنى التلقي الاستقبال أي أستقبل الكلمات الموحاة إليه، وقيل إن معنى تلقي تلقن، ولا وجه له في العربية، واختلف السلف في تعيين هذه الكلمات فعن ابن عباس قال هي قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وعنه قال علم شأن الحج وهي الكلمات، وعن عبد الله بن زيد قال لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً، وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، وروي نحوه عن أنس وسعيد بن جبير (فتاب عليه) أي فتجاوز عنه وغفر له، وأصل التوبة من تاب يتوب إذا رجع (إنه هو التواب) أي الرجاع على عبادة بقبول التوبة (الرحيم) بخلقه.
_________
(١) ألم تخلقني بيدك؛ قال: بلى: قال: ألم تنفخ فيّ من روحك قال: بلى قال: ألم تسبق رحمتك إليّ قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: ألم تسجد لي ملائكتك وتسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب [أرأيت] إن تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم.
وفي رواية أنه قال: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، فأنت خير الراحمين [اللهم] لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي. إنك أنت التواب الرحيم.. رواه ابن أبي نجيع عن مجاهد.
138
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)
139
(قلنا اهبطوا منها جميعاً) إما في زمان واحد أو في أزمنة متفرقة، لأن المراد الاشتراك في أصل الفعل، وهذا هو الفرق بين جاءوا جميعاً، وجاءوا معاً يعني هؤلاء الأربعة أو آدم وحواء وذريتهما، وكرر قوله اهبطوا للتوكيد والتغليظ، وقيل إنه لما تعلق به حكم غير الحكم الأول كرره، ولا تزاحم بين المقتضيات، فقد يكون التكرير للأمرين معاً أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال ما سكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وعنه ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة، وعن الحسن قال لبث آدم في الجنة ساعة من نهار. تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا.
وأخرج البخاري والحاكم عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال " لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم (١)، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها "، وقد ثبت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما في محاجة آدم وموسى عليهما السلام، وحج موسى بقوله أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أول ما أهبط الله آدم إلى أرض الهند وعنه إلى أرض بين مكة والطائف، وعن علي أطيب ريح الأرض الهند
_________
(١) المستدرك ٤/ ١٧٥.
139
هبط بها آدم فعلق شجرها من ريح الجنة، وقد روي عن جماعة من الصحابة أن آدم أهبط إلا أرض الهند، منهم جابر وابن عمر وعلي، وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم حكايات في صفة هبوط آدم من الجنة وما أهبط معه وما صنع عند وصوله إلى الأرض، ولا حاجة لنا ببسط جميع ذلك، وقد ذكر طرفاً منها الحافظ ابن القيم في الحادي.
(فإما يأتينكم مني هدى) أي رشد وبيان وشريعة، وقيل كتاب ورسول، وقيل التوفيق للهداية (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم) فيما يستقبلهم، وقيل عند الفزع الأكبر (ولا هم يحزنون) أي على ما خلفوا وفاتهم من الدنيا، وقال ابن جبير لا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون للموت، والخوف هو الذعر، ولا يكون إلا في المستقبل، والحزن ضد السرور، قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم.
140
(والذين كفروا) أي جحدوا عطف على (فمن تبع) قسيم له (وكذبوا بآياتنا) أي بالقرآن (أولئك أصحاب النار) أي يوم القيامة وصحبة أهل النار لها بمعنى الاقتران والملازمة (هم فيها خالدون) أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وبقي قسم ثالث وهو من آمن ولم يعمل الطاعات فليس داخلاً في الآيتين، وقد تقدم تفسير الخلود.
(يا بني اسرائيل) اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحق ابن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه عبد الله، لأن إسر في لغتهم هو العبد، وإيل هو الله، وكذلك جبريل هو عبد الله وميكائيل عبد الله، قال القفال إن إسر بالعبرانية في معنى إنسان فكأنه قيل رجل الله، وقيل معناه صفوة الله، والأول أولى، والمعنى يا أولاد يعقوب.
والخطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد- ﷺ -، قيل أن له اسمين. وقيل أن اسرائيل لقب له وهو اسم أعجمي غير منصرف، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن وهي
140
قراءة الجمهور، استدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد.
(اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) أي اشكروا، وإنما عبر عنه بالذكر لأن من ذكر النعمة فقد شكرها، ومن جحدها فقد كفرها: والذكر بالكسر هو ضد الإنصات، وبالضم ضد النسيان، وجعله بعض أهل العلم مشتركاً بين ذكر القلب واللسان، وقال الكسائي ما كان بالقلب فهو مضموم الذال، وما كان باللسان فهو مكسور الذال.
قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية اذكر واشكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة وهي اسم جنس، وحدها أنها المنفعة الفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، وقيل المنفعة الحسنة والأول أولى، والكلام على قيود هذا الحد وضروب النعمة مستوفى في تفسير الرازي فليراجعه.
والنعم المخصوصة ببني إسرائيل كثيرة من جملتها أنه جعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتاب والمن والسلوى، وأخرج لهم الماء من الحجر ونجاهم من آل فرعون وفلق لهم البحر وأغرق فرعون وظللهم بالغمام وغير ذلك من نعم كثيرة، وقيل إن هذه النعمة هي إدراك المخاطبين بها زمن محمد ﷺ والأول أولى قال ابن الفارس فيه دليل على أن لله على الكفار نعمة خلافاً لمن قال لا نعمة لله عليهم، وإنما النعمة للمؤمنين.
(وأوفوا بعهدي) أي امتثلوا أمري، يقال أوفى ووفى مشدداً، ووفى مخففاً ثلاث لغات بمعنى واحد وقيل يقال وفيت ووفيت بالعهد وأوفيت بالكيل لا غير، واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو فقيل هو المذكور في قوله تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوة) وقيل هو ما في قوله (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً) وقيل هو قوله (ولقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس) وقيل أن المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد - ﷺ - وإنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل) إلى قوله (لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) وقال في سورة الأعراف
141
(ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل).
وأما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والاغلال التي كانت في أعناقهم، وقال (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق) الآية وقال (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وقال ابن عباس إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة إني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة، وجعلت له أجرين، أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني اسرائيل، وأجراً باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل، وتصديق هذا في القرآن في قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) إلى قوله (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا).
وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) وتصديقه أيضاً فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي - ﷺ - أنه قال (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد - ﷺ - فله أجران، ورجل أدب أَمَتَهُ فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران ".
ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب الأنبياء المتقدمين من البشارة بمقدم محمد - ﷺ -.
فالأول: جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة إن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك الله فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن أين أقبلت، قالت أهرب من سيدتي سارة فقال لها ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن
142
الله سيكثر زرعك وذريتك وستحبلين وتلدين ابناً وتسميه إسماعيل من أجل أن الله سمع تبتلك وخشوعك، وهو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهو يشكر على رغم جميع إخوته.
واعلم أن الاستدلال بهذا الكلام أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة وليس يجوز أن يبشر الملك من قبل الله بالظلم والجور، وبأمر لا يتم إلا بالكذب على الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وولده لم يكونوا متصرفين في الكل أعني في معظم الدنيا ومعظم الأمم، ولا كانوا مخالطين للكل على سبيل الإستيلاء إلا بالإسلام لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف، فلما جاء الإسلام استولوا على الشرق والغرب بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة.
فلو لم يكن النبي - ﷺ - صادقاً لكانت هذه المخالطة منهم للأمم ومن الأمم هم معصية لله تعالى وخروجاً عن طاعته إلى طاعة الشيطان، والله يتعالى عن أن يبشر بما هذا سبيله.
والثاني: جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: أن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً مثلي من بينكم ومن إخوانكم، وفي هذا الفصل أن الرب تعالى قال لموسى إني مقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوانهم وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه.
وهذا الكلام يدل على أن النبي الذي يقيمه الله تعالى ليس من بني إسرائيل كما أن من قال لبني هاشم أنه سيكون من إخوانكم إمام، عقل منه أنه لا يكون من بني هاشم، ثم أن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ولم يكن له أخ إلا العيص، ولم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى أيوب، وأنه كان قبل موسى عليه السلام فلا يجوز أن يكون موسى عليه السلام مبشراً به، وأما إسماعيل فإنه كان أخاً لإسحاق والد يعقوب، ثم أن كل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل، فالنبي عليه السلام ما كان منهم، لكنه كان من
143
إخوانهم لأنه من ولد إسماعيل الذي هو أخو إسحاق عليهم السلام.
فإن قيل قوله " من بينكم " يمنع من أن يكون المراد محمداً - ﷺ -، لأنه لم يقم من بين بني إسرائيل.
قلنا بل قد قام من بينهم لأنه عليه السلام ظهر بالحجاز فبعث بمكة وهاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كانوا كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، وأيضاً فإن الحجاز يقارب الشام وجمهور اليهود كانوا إذ ذاك بالشام، فإذا قام محمد - ﷺ - بالحجاز فقد قام من بينهم وأيضاً فإنه إذا كان من اخوانهم فقد قام من بينهم فإنه ليس ببعيد منهم.
والثالث: قال في الفصل العشرين من هذا السفر: أن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوات القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة.
وجه الاستدلال أن جبل فاران وهو بالحجاز لأن في التوراة أن إسماعيل تعلم الرمي في برية فاران ومعلوم أنه إنما سكن بمكة.
إذا ثبت هذا فنقول إن قوله " فمنحهم العز " لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين، فوجب حمله على محمد - ﷺ -، قالت اليهود المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضاً ومن جبل فاران أيضاً فانتشرت في هذه المواضع.
قلنا هذا لا يصح لأن الله تعالى لو خلق ناراً في موضع فإنه لا يقال جاء الله في ذلك الموضع إلا إذا تبع تلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك، وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء، فما كان ينبغي إلا أن يقال جاء الله من طور سيناء، فأما أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء الله من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع.
144
وأيضاً ففي كتاب حبقوق بيان ما قلنا وهو جاء الله من طور سيناء والقدس من جبل فاران لو انكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه، ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي الدهروية وتزعزعت ستور أهل مدين، ركبت الخيول وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك اغراقاً ونزعاً وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار، ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل، ونفرت المهاري نفيراً ورعباً ورفعت أيديها وجلاً وفرقاً وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما، وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضباً، وتدوس الأمم زجراً لأنك ظهرت بخلاص أمتك، وانقاذ تراب ابائك، هكذا نقل عن ابن رزين الطبري.
أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم " وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد الحمود وترتوي السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وانقاذ مسيحك ".
فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة ظهر الرب من جبال فاران، ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات، وما ذاك إلا رسولنا محمد - ﷺ -.
فإن قالوا المراد مجيء الله تعالى، ولهذا قال في آخر الكلام: وانقاذ مسيحك.
قلنا لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور، وبأنه جاز المشاعر القديمة، وأما قوله: وانقاذ مسيحك فإن محمداً عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى.
والرابع: ما جاء في كتاب شعيا في الفصل الثاني والعشرين منه " قومي
145
فازهري مصباحك، يريد مكة فقد دنا وقتك وكرامة الله تعالى طالعة عليك، فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الامم الضباب، والرب يشرق عليك إشراقاً، ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك، وارفعي بصرك إلى ما حولك، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بعيد لأنك أم القرى، فأولاد سائر البلاد كأنهم أولاد مكة وتتزين ثيابك على الارائك والسرر. حين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر، ويحج إليك عساكر الأمم، ويساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام فاران، ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمداً ".
فوجه الاستدلال أن هذه الصفات كلها موجودة لمكة فإنه قد حج إليها عساكر الأمم ومال إليها ذخائر البحر، وقوله أحدث لبيت محمدتي حمداً، معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، ثم صار في الإسلام: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، فهذا هو الحمد الذي جدده الله لبيت محمدته.
فإن قيل المراد بذلك بيت المقدس وسيكون ذلك فيما بعد.
قلنا لا يجوز أن يقول الحكيم قد دنا وقتك مع أنه ما دنا بل الذي دنا أمر لا يوافق رضاه ومع ذلك لا يحذر منه.
وأيضاً فإن كتاب شعيا مملوء من ذكر البادية وصفتها وذلك يبطل قولهم.
الخامس: روى السمان في تفسيره في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام قال قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه فكبرته وعظمته جداً جداً، وسيلد اثني عشر عظيماً وأجعله لأمة عظيمة.
والاستدلال به أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لأمة عظيمة غير نبينا محمد - ﷺ - فأما دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل فكان لرسولنا عليه الصلاة والسلام لما فرغا من بناء الكعبة وهو قوله (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو
146
عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى " وهو قوله (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)، فإنه مشتق من الحمد، والاسم المشتق من الحمد ليس إلا لنبينا، فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود، وقيل أن صفته في التوراة أن مولده بمكة ومسكنه بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون (١).
والسادس: قال المسيح للحواريين أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له، وتصديق ذلك (إن أتبع إلا ما يوحى الي) وقوله (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) أما الفارقليط ففي تفسيره وجهان (أحدهما) أنه الشافع المشفع، وهذا أيضاً صفته عليه الصلاة والسلام (الثاني) قال بعض النصارى الفارقليط هو الذي يفرق بين الحق والباطل، وكان في الأصل فاروق، كما يقال راووق للذي يروق به، وأما ليط فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب، وهذا أيضاً صفة شرعنا لأنه هو الذي يفرق بين الحق والباطل.
والسابع: قال دانيال لبخت نصر حين سأله عن الرؤيا التي كان رآها من غير أن قصها عليه رأيت أيها الملك منظراً هائلاً رأسه من الذهب الإبريز وساعده من الفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعض رجليه من حديد وبعضها من خزف، ورأيت حجراً يقطع من غير قاطع، وصك
_________
(١) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: عرض علي الأنبياء، فإذا موسى عليه السلام ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة (قبيلة من اليمن)، ورأيت عيسى ابن مريم عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم (يعني نفسه) ورأيت جبريل عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبهاً- دحية.
147
رجل ذلك الصنم ودقها دقاً شديداً فتفتت الصنم كله حديده ونحاسه وفضته وذهبه وصارت رفاتاً، وعصفت بها الرياح فلم يوجد لها أثر، وصار ذلك الحجر الذي صك ذلك الرجل من ذلك الصنم جبلاً عالياً امتلأت به الأرض، فهذا رؤياك أيها الملك.
وأما تفسيرها فأنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك مملكة أخرى دونك والمملكة الثالثة التي تشبه النحاس تنبسط على الأرض كلها، والمملكة الرابعة تكون قوتها مثل الحديد، وأما الرجل التي كان بعضها من حديد وبعضها من خزف، فإن بعض المملكة يكون عزيزاً وبعضها يكون ذليلاً، وتكون كلمة الملك متفرقة ويقيم إله السماء في تلك الأيام مملكة أبدية لا تتغير ولا تزول. وأنها تزيل جميع الممالك، وسلطانها يبطل جميع السلاطين، وتقوم هي إلى الدهر، فهذا تفسير الحجر الذي رأيت أنه يقطع من جبل بلا قاطع حتى دق الحديد والنحاس والخزف، والله أعلم بما يكون في آخر الزمان.
فهذه هي البشارات الواردة في الكتب المتقدمة بمبعث رسولنا محمد - ﷺ - ذكره الرازي، وقال الزجاج المراد بالعهد ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد - ﷺ -، وقيل هو أداء الفرائض، وقيل أراد جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكليف دون بعض، ولا مانع من حمله على جميع ذلك.
(أوف بعهدكم) أي بما ضمنت لكم من الجزاء، وقيل بالقبول والثواب عليه بدخول الجنة (وإياي فارهبون)، أي فخافون في نقضكم العهد، والرهب والرهبة الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص، قال صاحب الكشاف وهو آكد في إفادة التخصيص من (إياك نعبد) والفاء جواب أمر مقدر أي تنبهوا فارهبون، أو زائدة وسقطت الياء من قوله فارهبون لأنه رأس آية.
148
وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
149
(وآمنوا بما أنزلت) يعني القرآن (مصدقاً لما معكم) أي لما في التوراة من التوحيد والنبوة والأخبار ونعت النبي - ﷺ - (ولا تكونوا أول كافر به) المراد أهل الكتاب لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء وما يلزم من التصديق، أي لا تكونوا يا معشر اليهود أول كافر بهذا النبي - ﷺ - مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، مبشراً به في الكتب المنزلة عليكم.
وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الوضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله - ﷺ - في الكتب السابقة، وقيل الضمير في " به " عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله " بما أنزلت " وقيل عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله لما معكم، والخطاب لجماعة، والكافر لفظه واحد وهو في معنى الجمع أي أول الكفار أو أول فريق كافر، ومفهوم الصفة غير مراد هنا فلا يرد أن المعنى بل آخر كافر، وإنما ذكرت الأولية لأنها أفحش لما فيها من الابتداء بالكفر، بل يجب أن تكونوا أول فريق مؤمن به لأنكم أهل نظر في معجزاته والعلم بشأنه وصفاته.
(ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) أي لا تستبدلوا ببيان صفة محمد - ﷺ - التي في التوراة عوضاً يسيراً من الدنيا لأن الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالشيء اليسير الحقير الذي لا قيمة له والذي كانوا يأخذونه من الدنيا كالشيء اليسير بالنسبة إلى جميعها فهو قليل القليل، وهذه الآية وإن كانت خطاباً لبني اسرائيل ونهياً لهم، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به أو إثبات باطل نهى الله عنه، أو
149
امتنع من تعليم ما علمه الله وكتم البيان الذي أخذ الله عليه ميثاقه به فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً (وإياي فاتقون) بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن حطام الدنيا.
ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادىء لما في الآية الثانية فصلت بالرهبة التي هي من مقدمات التقوى، أو لأن الخطاب بها لما عم العالم والمقلد أمر فيها بالرهبة المتناولة للفريقين، وأما الخطاب بالثانية فحيث خص بالعلماء أمر فيها بالتقوى الذي هو المنتهى وباقي الكلام فيه كالكلام في قوله (وإياي فارهبون) وقد تقدم قريباً.
150
(ولا تلبسوا الحق بالباطل) أي ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، وقيل لا تخلطوا الحق من صفة محمد - ﷺ - بالباطل من تغيير صفته، واللبس الخلط، وقيل هو مأخوذ من التغطية أي لا تغطوا الحق بالباطل، والأول أولى، والباء للإلصاق على الأول وقيل للاستعانة واستبعده أبو حيان، وقال فيه صرف عن الظاهر من غير ضرورة، قال السمين ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحسن، والباطل في كلام العرب الزائل، والباطل الشيطان والمراد به هنا خلاف الحق والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها وأخذ عليهم بيانها، ومن فسر اللبس أو الكتمان بشيء معين ومعنى خاص كما تقدم فلم يصب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره لا إن أراد أنه مما يصدق عليه.
(وتكتموا الحق) لما فيه من الضرر والفساد، وفيه أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه، وفيه تنبه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار هذا الخطاب وإن كان خاصاً في الصورة عاماً في المعنى، فعلى كل أحد أن لا يلبس الحق بالباطل ولا يكتم الحق (وأنتم تعلمون) فيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس والكتمان مع الجهل لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء
150
حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصديق للإصدار والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم، وما للجهال والدخول فيما ليس من شأنهم، والقعود في غير مقاعدهم.
وأعلم أن كثيراً من المفسرين جاؤوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهى عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف. فجاؤا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الأنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه ومن تأخره.
وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزل الوحي على رسول الله - ﷺ - إلى أن قبضه الله عز وجل إليه، وكل عاقل فضلاً عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة، وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب، ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا، وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية.
وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الإختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الإئتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتبار نفسه مختلف كاختلافها فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون، والماء والنار،
151
والملاح والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا أمر لابد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة؛ وتبين الأمر الموجب للإرتباط؛ فإن وجد الإختلاف بين الآيات رجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفاً محضاً وتعسفاً بيناً، انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة.
هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدق علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته، يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المطلعين على حوادث النبوة فإنه يثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلاً عن المطولة فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة، لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وبعده (يا أيها المدثر، يا أيها المزمل) وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف.
وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة. وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وانفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس.
وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله
152
رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاآته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء وحيناً تشبيباً وحيناً رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد والخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح، ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله، متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله.
وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان، وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى فيه مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون مختلفة وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين فضلاً عن المقامات، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً، وكذلك شاعرهم.
ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي يعثر في ساحاتها كثير من المحققين، وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر ادم عليه السلام، فإذا قال متكلف كيف ناسب هذا ما قبله قلنا لا كيف:
153
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٤٤)
154
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) المراد هنا الصلاة المعهودة وهي صلاة المسلمين، يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها وجميع أركانها، على أن التعريف للعهد، ويجوز أن يكون للجنس ومثلها الزكاة، والإيتاء الإعطاء، والزكاة مأخوذة من الزكاء وهو النماء، وسمي إخراج جزء من المال زكاة أي زيادة مع أنه نقص منه لأنها تكثر بركته أو يكثر أجر صاحبه، وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال زكى فلان أي طهر.
والظاهر أن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية، هي المرادة بما هو مذكوره في الكتاب والسنة منها، وقد تكلم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا فقيل المفروضة لاقترانها بالصلاة، وقيل صدقة الفطر، والظاهر أن المراد ما هو أعم من ذلك.
(واركعوا مع الراكعين) أي صلوا مع المصلين يعني محمداً - ﷺ -، والركوع في اللغة الانحناء وكل منحن راكع، ويستعار الركوع أيضاً للانحطاط في المنزلة، وإنما خص الركوع بالذكر هنا لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم، وقيل لكونه كان ثقيلاً على أهل الجاهلية، وقيل أنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة، والركوع الشرعي هو أن ينحني الرجل ويمد ظهره وعنقه، ويفتح أصابع يديه ويقبض بها على ركبتيه ثم يطمئن راكعاً ذاكراً بالذكر المشروع.
وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف.
154
وفي الآية حث على إقامة الصلاة في الجماعة وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم على خلاف بينهم في كون ذلك عيناً أو كفاية، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها وليس بواجب وهو الحق للأحاديث الصحيحة الثابتة عن جماعة من الصحابة من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة، وثبت في الصحيح عنه - ﷺ - الذي يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام، والبحث طويل الذيول كثير النقول، استوفاه الشوكاني رحمه الله تعالى في شرحه للمنتقى.
155
(اتأمرون الناس بالبر) الهمزة للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر فإنه فعل حسن مندوب إليه، بل سبب ترك فعل البر المستفاد من قوله (وتنسون أنفسكم) تتركونها فلا تأمرونها به مع تزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس وتلبيساً عليهم، نزلت في علماء اليهود، والبر: الطاعة والعمل الصالح وسعة الخير والمعروف والصدق.
فالبر: اسم جامع لجميع أعمال الخير والطاعات، والنسيان هو هنا بمعنى الترك، وفي الأصل خلاف الذكر والحفظ أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة، وإنما عبر عن الترك بالنسيان لأن نسيان الشيء يلزمه تركه فهو من استعمال الملزوم في اللازم أو السبب في المسبب، وسر هذا التجوز الإشارة إلى أن ترك ما ذكر لا ينبغي أن يصدر عن العاقل إلا نسياناً، والنفس: الروح، ومنه قوله تعالى (الله يتوفى الأنفس حين موتها) يريد الأرواح والنفس الجسد، والمعنى وتعدلون عما لها فيه نفع.
(وأنتم تتلون الكتاب) جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت، أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل، وشدة الوعيد عليه كما ترونه في الكتاب
155
الذي تتلونه وتدرسونه، والآيات التي تقرؤنها من التوراة، والتلاوة: القراءة وهي المراد هنا وأصلها الاتباع.
(أفلا تعقلون) استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم، وهو أشد من الأول وأشد، ولشد ما قرع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أولاً أمرهم للناس بالبر مع نسيان أنفسهم من ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع، ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وأئتمنهم عليه، وهم اترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه.
ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبينة لحالهم وكاشفة لعوارهم وهاتكة لأستارهم، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة، والخصلة الفظيعة، على علم منهم ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عاجهم وملازمة لتلاوته وهم في ذلك كما قال المعري:
فدع عنك نهباً صيح في حجراته وهات حديثاً ما حديث الرواحل
وإنما حمل التوراة قارئها كسب الفوائد لا حب التلاوات
ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع، ومن توبيخ إلى توبيخ، فقال أنكم لو لم تكونوا من أهل العلم وحملة الحجة وأهل الدّراسة لكتب الله لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه، زاجراً لكم منه، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم؟ والعقل في أصل اللغة المنع ومنع عقال البعير لأنه يمنعه عن الحركة ومنه العقل في الدية لأنه يمنع الولي عن قتل الجاني، والعقل نقيض الجهل.
ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية، ويصح أن يكون معنى الآية أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من
156
العلم، والعقل قوة تهيء قبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة العقل.
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ - رأيت ليلة أسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت فقلت لجبريل من هؤلاء قال هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.
وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
وفي الباب أحاديث معناها أن يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم بم دخلتم النار، وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم، قالوا إنا كنا نأمركم ولا نفعل، وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله: - ﷺ - " مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (١) ".
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٥٧٠٧ برواية " وينسى نفسه ".
157
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
158
(واستعينوا بالصبر والصلاة) قيل إن المخاطبين بهذا هم المؤمنون وقيل اليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة فأمروا بالصبر، وهو الصوم لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر، وأفرد الصلاة بالذى تعظيماً لشأنها، والمعنى استعينوا على حوائجكم إلى الله وقيل على ما يشغلكم من أنواع البلايا، وقيل على طلب الآخرة بالصبر.
والصبر في اللغة الحبس والمراد هنا استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات، على دفع ما يرد عليكم من المكروهات، وقيل الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة وأداء الفرائض، واستدل هذا القائل بقوله تعالى (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) وليس في هذا الصبر الخاص بهذه الآية ما ينفي ما يفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول، كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما يصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ونافلة، وكان رسول الله - ﷺ - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وعن ابن عباس أنه نعى له أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما السجود ثم قام إلى راحلته وهو يقول (واستعينوا بالصبر والصلاة) وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه والجزاء للصابرين، ولم نذكرها ههنا لأنها ليست بخاصة بهذه الآية، بل هي واردة في مطلق الصبر، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ههنا
158
منها شطراً صالحاً، وفي الكتاب العزيز من الثناء على ذلك والترغيب فيه الكثير الطيب.
وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير عن حذيفة قال: كان رسول الله - ﷺ - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن صهيب عن النبي - ﷺ - قال كانوا يعني الأنبياء يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة، وعن ابن عباس أنه كان في مسير له فنعى إليه ابن له فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع فقال فعلنا كما أمرنا الله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين.
واختلف المفسرون في مرجع للضمير في قوله (وإنها لكبيرة) فقيل إنه راجع إلى الصلاة وإن كان التقدم هو الصبر والصلاة فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما، كما قال تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) إذا كان أحدهما داخلاً تحت الآخر بوجه من الوجوه، وقيل إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها لأن الصبر هو عليها كما قيل سابقاً، وقيل أن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مراداً منها لكن لما كانت آكد وأعم تكليفاً وأكثر ثواباً كانت الكناية بالضمير عنها، ومنه قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) كذا قيل، وقيل إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة ومثل ذلك قوله (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) رجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت أعم نفعاً وأكثر وجوداً والتجارة هي الحاملة على الإنفضاض.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول الصبر هناك جعل داخلاً تحت الصلاة وهنا لم يكن داخلاً وإن كان مراداً، وقيل إن الراد الصبر والصلاة ولكن ارجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر، ومنه قوله تعالى (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) أي ابن مريم آية وأمه آية، وقيل رجع الضمير
159
إليهما بعد تأويلهما بالعبادة، وقيل رجع إلى المصدر المفهوم من قوله (واستعينوا) وهو الاستعانة وقيل رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل، والأول هو الظاهر الجاري على قاعدة كون الضمير للأقرب، والكبيرة التي يكبر أمرها ويتعاظم شأنها على حاملها لما يجده عند تحملها والقيام بها من المشقة ومنه (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه).
(إلا) استثناء مفرغ وشرطه أن يسبق بنفي فيؤول الكلام هنا بالنفي أي أنها لا تخف ولا تسهل إلا.
(على الخاشعين) يعني المؤمنين، وقيل الخائقين، وقيل المطيعين المتواضعين لله، والخاشع هو المتواضع، قال في الكشاف الخشوع هو الإخبات والتطامن، فاللين والإنقياد انتهى.
وقال الزجاج الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه، وخشعت الأصوات أي سكنت، وخشع ببصره إذا غضه، وقال سفيان الثوري سألت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع، ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطىء الرأس لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في. وأما الخضوع كل فرض افترض عليك انتهى.
وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته أنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع، واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة وأتعابهم لأنفسهم اتعاباً عظيماً في الأسباب الموجبة للحضور والخضوع لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر وتوفر الجزاء والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يركبونه من
160
المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة وراحة عندهم محضة.
161
(الذين يظنون) أي يستيقنون وقيل يعلمون، والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى (إني ظننت أني ملاق حسابيهْ) وقوله (وظنوا أنهم مواقعوها) وقيل أن الظن في الآية على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين، ذكره الماوردي والأول أولى، وأصل الظن الشك مع الميل إلى أحد الطرفين، وقد يقع موقع اليقين في مواضع منها هذه الآية.
ومعنى (أنهم ملاقوا ربهم) ملاقوا جزاءه، والمفاعلة هنا ليست على بابها، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأساً أي يوقنون أنهم يرونه، وفي هذا مع ما بعده من قوله (وأنهم إليه راجعون). إقرار بالبعث وما وعد الله به في اليوم الآخر، وفيه دليل على ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة.
(يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) إنما كرر ذلك سبحانه توكيداً للحجة عليهم وتحذيراً لهم من ترك اتباع محمد - ﷺ -، ثم قرنه بالوعيد وهو قوله
(واتقوا يوماً) قيل المراد بالنعمة أيادي الله عندهم وأيامه، قاله سفيان بن عيينة، وعن مجاهد التي أنعم بها على بني إسرائيل فيما سمى وفيما سوى ذلك، فجّر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى وأنجاهم من عبودية آل فرعون، وكان عمر بن الخطاب إذا تلا هذه الآية قال مضى القوم وإنما يعني أنتم.
(وأني فضلتكم على العالمين) يعني على عالمي زمانكم، فلا يتناول من مضى ولا من يوجد بعدهم، وهذا التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف للأبناء، قيل فيه ورود العام المراد به الخصوص، لأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم، وقيل على جميع العالمين بما جعل فيهم الأنبياء، وقال في
161
الكشاف على الجم الغفير من الناس كقوله (باركنا فيها للعالمين) يقال رأيت عالماً من الناس يراد الكثرة انتهى، قال الرازي في تفسيره وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل، وكلما كان دليلاً على الله كان علماً وكان من العالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين: العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات، انتهى.
أقول هذا الاعتراض ساقط أما أولاً فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان عليه، وأما ثانياً فلو سلمنا صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجوداً بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العلم عليه، وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق، وغايته أن جمع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات، وأما إنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان، فليس في اللفظ ما يفيد هذا ولا في اشتقاقه ما يدل عليه، وأما من جعل العالم أهل العصر فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور، لا على أهل كل عصر، فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين فيهم نبينا - ﷺ - ولا على ما بعده من العصور.
ومثل هذا الكلام ينبغي استحضاره عند تفسير قوله تعالى (وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) وعند قوله تعالى (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) وعند قوله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين).
فإن قيل أن التعريف في العالمين يدل على شموله لكل عالم.
قلت لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزماً لكونهم أفضل من أمة محمد - ﷺ - لقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات.
162
(واتقوا يوماً) أي واخشوا عذاب يوم، أمر معناه الوعيد والمراد باليوم يوم القيامة أي عذابه.
(لا تجزي) لا تكفي ولا تقضي.
(نفس عن نفس شيئاً) يعني حقاً لزمها، وقيل معناه لا تنوب نفس عن نفس يوم القيامة ولا ترد عنها شيئاً مما أصابها، بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وقيل أن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجباً عليه، والنفس الأولى هي المؤمنة والثانية هي الكافرة ومعنى التنكير التحقير أي شيئاً يسيراً حقيراً (ولا يقبل منها شفاعة) أي في ذلك اليوم، وذلك أن اليهود قالوا يشفع لنا آباؤنا فرد الله عليهم ذلك، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهو الإثنان تقول استشفعته أي سألته أن يشفع لي أي يضم جاهه إلا جاهك عند المشفوع إليه ليصل النفع إلى الشفوع له، وضمير (منها) يرجع إلى النفس المذكورة ثانياً أي إن جاءت بشفاعة شفيع، ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أولاً أي إذا شفعت لم يقبل منها.
ْ (ولا يؤخذ منها عدل) أي فدية وهو مماثلة الشيء بالشيء، والعدل بفتح العين الفداء وبكسرها المثل، وقيل بالفتح المساوي للشيء قيمة وقدراً وبالكسر المساوي له في جنسه وجرمه، وأما العدل واحد الأعدال فهو بالكسر لا غير قاله السمين، والضمير يرجع إلى النفوس المدلول عليها بالنكرة في سياق النفي، والنفس تذكر وتؤنث والمعنى كما قال السدي لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئاً.
(ولا هم ينصرون) أي لا يمنعون من العذاب، والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه (من أنصاري إلى الله) والنصر أيضاً الانتقام يقال انتصر زيد لنفسه من خصمه أي انتقم منه لها والنصر أيضاً الإتيان يقال نصرت أرض بني فلان أي أتيتها.
163
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١)
164
(وإذ نجيناكم من آل فرعون) أي واذكروا إذ خلصنا أسلافكم وأجدادكم، فاعتده نعمة ومنة عليهم، لأنهم نجوا بنجاة أسلافهم، وهذا شروع في تفصيل نعم الله عليهم، وفصلت بعشرة أمور تنتهي بقوله: (وإذ استسقى موسى) والنجاة النجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ثم سمى كل فائز وخارج من ضيق إلى سعة ناجياً وإن لم يلق على نجوة " وآل فرعون " قومه والآل يضاف إلى ذوي الخطر ولا يضاف إلى البلدان فلا يقال من آل المدينة، وجوزه الأخفش، واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا فمنعه قوم وسوغه آخرون وهو الحق.
وفرعون قيل هو اسم ذلك الملك بعينه، وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة أولاد عمليق بن لاوز بن أرم بن سام بن نوح كما يسمى من ملك الفرس كسرى، ومن ملك الروم قيصر، ومن ملك الحبشة النجاشي، وقيل فرعون اسم علم لمن كان يملك مصر من القبط والعماليق، واسم فرعون موسى المذكور هنا قابوس في قول أهل الكتاب، وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وعَمّر أكثر من أربعمائة سنة، وعاش موسى مائة وعشرين سنة، قال السعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية، وقال الجوهري إن كل عات يقال له فرعون، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة أي دهاء ومكر، وقال في الكشاف تفرعن فلان إذا عتى وتجبر.
(يسومونكم) أي يكلفونكم ويولونكم قاله أبو عبيدة، وقيل يذوقونكم ويلزمونكم إياه، وأصل السوم الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي، وفي
164
الكشاف أصله في سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبيعونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه، انتهى.
(سوء العذاب) أي أشده وأسوأه وأفظعه، وإن كان كله سيئاً، والسوء كل ما يغم الإنسان من أمر دنيوي أو أخروي.
(يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) الذبح في الأصل الشق وهو فري أوداج المذبوح، قيل ذبحوا منهم أثني عشر ألفا، وقيل سبعين ألفا، وهل نساء جمع نسوة أو جمع امرأة من حيث المعنى قولان، والمراد يتركون نساءكم أحياء ليستخدموهن ويمتهنوهن، وأنما أمر بذبح الأبناء واستحياء النساء لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده، وعبر عن البنات باسم النساء لأنه جنس يصدق عليهن، وقالت طائفة أنه أمر بذبح الرجال واستدلوا بقوله نساءكم والأول أصح بشهادة السبب، ولا يخفى ما في قتل الأبناء واستحياء البنات للخدمة ونحوها من انزال الذل بهم وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار.
والإشارة بقوله (وفي ذلكم) إلى جملة الأمر من الإنجاء والذبح، قاله ابن عطية.
(بلاء من ربكم عظيم) أي اختيار وامتحان، والبلاء يطلق تارة على الخير وتارة على الشر، فإن أريد به هنا الشر، كانت الإشارة إلى ما حل بهم من النقمة بالذبح ونحوه، وإن أريد به الخير كانت الإشارة إلى النعمة التي أنعم الله عليهم بالإنجاء وما هو مذكور قبله من تفضيلهم على العالمين، وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة فرجح الجمهور الأول ورجح الآخرون الآخر، قال ابن كيسان أبلاه وبلاه في الخير والشر، وقيل الأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته، وفي الاختبار ابتليته وبلوته قاله النحاس، استدل به بعض من يقول بالتناسخ وقال إن القوم كانوا هم بأعيانهم، فلما تطاولت عليهم مدة التلاشي والبلى نسوا فذكروا، قال الكرماني وهذا محال وجهل بكلام
165
العرب، فإن العرب تخاطب بمثل هذا وتعني الجد الأعلى والأب الأبعد.
166
(وإذ فرقنا بكم البحر) أي فلقنا، وأصل الفلق الفرق والفصل، ومنه فرق الشعر، ومنه (وقرآنا فرقناه) أي فصلناه، والباء في (بكم) بمعنى اللام أو السببية والمراد أن فرق البحر كان بسبب دخولهم فيه لما صاروا بين المائين صار الفرق بهم، وأصل البحر في اللغة الإتساع أطلق على البحر الذي هو مقابل البر لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر والخليج ويطلق على الماء المالح، وقال السيوطي في مفحمات الأقران البحر هو القلزم وكنيته أبو خالد كما روي عن قيس بن عباد، قال ابن عساكر كأنه كني بذلك لطول بقائه، وروى أبو يعلى بسند ضعيف عن النبي - ﷺ - قال: " فلق البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " انتهى.
(فأنجيناكم) أي أخرجناكم منه.
(وأغرقنا آل فرعون) فيه، ووافق ذلك يوم عاشوراء فصام موسى ذلك اليوم شكراً لله عز وجل، والمراد بآل فرعون هنا هو وقومه وأتباعه، والغرق الرسوب في الماء وتجوز به عن المداخلة في الشيء، تقول غرق فلان في اللهو فهو غرق، قاله السمين.
(وأنتم تنظرون) يعني إلى إهلاكهم، وقيل إلى مصارعهم أي حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم أو المعنى ينظر بعضكم إلى بعض آخر من السالكين في البحر، وقيل نظروا إلى أنفسهم ينجون وإلى آل فرعون يغرقون، قيل أن البحر قذفهم حتى نظروا إليهم.
وهذه الواقعة كما أنها لموسى معجزة عظيمة تخر لها أطم الجبال، ونعمة عظيمة لأوائل بني إسرائيل موجبة عليهم شكرها باللسان والبال، كذلك اقتصاصها على ما هي عليه من رسول الله - ﷺ - معجزة جليلة تطمئن بها القلوب
166
الأبية، وتنقاد لها النفوس الغبية، موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالاذعان ويقبلوها بصميم الجنان، فلا تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها، ولا تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروايتها، فيالها من عصابة ما أعصاها، وطائفة ما أطغاها وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس. قال: " قدم رسول الله - ﷺ - المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال ما هذا اليوم؟ قالوا هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال رسول الله - ﷺ - " نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصومه (١) ".
_________
(١) صحيح مسلم/١١٣٠؛ -[١٦٨]- وفي يوم عاشوراء أحاديث كثيرة نورد منها:
عن حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان، خطيباً بالمدينة خطبهم يوم عاشوراء فقال أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله ﷺ يقول: هذا يوم عاشوراء. ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم فمن أحب منكم أن يصوم فليصم ومن أحب أن يُفطر فليفطر.
167
(وإذ واعدنا) قراءة الجمهور واعدنا قال النحاس وهي اجود وأحسن وليس هو من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من باب الموافاة يعني من المواعدة وهو من الله الأمر، ومن موسى القبول، وذلك أن الله وعده بمجيء الميقات.
و (موسى) اسم أعجمي عبري معرب غير منصرف، فموشى بالعبرية الماء والشجر، سمي موسى لأنه أخذ من بين الماء والشجر ثم قلبت الشين سيناً فسمي موسى.
(أربعين ليلة) قال الزجاج تمام أربعين ليلة وهي عند أكثر المفسرين ثلاثون من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة وبه قال أبو العالية، وإنما خص الليالي بالذكر دون الأيام لأنها غرر الشهور، ولأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة وقيل لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر وقيل لأن الظلمة أقدم من الضوء والمعاني متقاربة.
(ثم اتخذتم العجل) أي جعلتم العجل إلهاً، قال الحسن البصري كان اسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه " بهموت " وقيل بهبوت (من بعده) أي
167
بعد مضي موسى إلى الطور، وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة وقالوا قد اختلف موعده فاتخذوا العجل وهذا غير بعيد منهم فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة عن قوانين العقل مخالفة لما يخاطبون به بل ويشاهدونه بأبصارهم، فلا يقال كيف يعدون الأيام والليالي على تلك الصفة، وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة والمعنى من بعد عبادتكم العجل، وسمى العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته، كذا قيل وليس بشيء لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر، وقد كان جعله لهم السامري على صورة العجل.
(وأنتم ظالمون) أي وأنتم ضارون لأنفسكم بالمعصية حيث وضعتم العبادة في غير موضعها وقيل إنما سماهم ظالمين لأنهم أشركوا بالله وخالفوا موعد نبيهم قيل والذين عبدوه منهم ثمانية آلاف وقيل كلهم إلا هارون مع اثني عشر ألفاً وهذا أولى.
168
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
169
(ثم عفونا عنكم) أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم، والعفو يجوز أن يكون بعد العقوبة والغفران لا يكون معها، وهذا هو الفرق بينهما وهو من الاضداد يقال عفت الريح الأثر أي أذهبه وعفا الشيء أي كثر، ومنه (حتى عفوا) وقال أبو السعود العفو محو الجريمة من عفاه درسه وقد يجيء لازماً قال:
عرفت المنزل الخالي... عفاه بعد أحوال
عفاه كل هتان... كثير الوبل هطال
(من بعد ذلك) أي من بعد عبادتكم العجل.
(لعلكم تشكرون) ما أنعم الله به عليكم من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه وتستمرون بعد ذلك على الطاعة، وأصل الشكر في اللغة الظهور، قال الجوهري الشكر الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران.
(وإذْ آتينا موسى الكتاب والفرقان) الكتاب التوراة بالإجماع من المفسرين واختلفوا في الفرقان فقالت الفراء وقطرب المعنى آتينا موسى التوراة ومحمد الفرقان، وقد قيل أن هذا غلط أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن وليس كذلك فقد قال تعالى (ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان) قال الزجاج أن الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره تأكيداً وقيل أن الواو صلة وهي قد تزاد في
169
النعوت، وقيل أن المعنى ذلك المنزل جامع بين كونه كتاباً وفارقاً بين الحق والباطل وهو كقوله (آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء) وقيل الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى الله هؤلاء وأغرق هؤلاء، وقال ابن زيد الفرقان الفراق البحر والشرع الفارق بين الحلال والحرام، وقيل الفرقان الفرج من الكرب أو النصر وقيل أنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاه الله من العصا واليد وغيرهما وهذا أولى وأرجح، ويكون العطف على بابه كأنه قال آتينا موسى التوراة والآيات التي أرسلناه بها معجزة له (لعلكم تهتدون) يعني بالتوراة أي لكي تهتدوا للتدبر والتفكر فيه والعمل والاعتقاد بما يحويه.
170
(وإذ قال موسى لقومه) يعني الذين عبدوا العجل، والقوم يطلق تارة على الرجال دون النساء، ومنه قوله تعالى (لا يسخر قوم من قوم) ثم قال (ولا نساء من نساء) ومنه (ولوطاً إذ قال لقومه) أراد الرجال وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه) والمراد هنا بالقوم عبدة العجل، وهذا شروع في بيان كيفية العفو، والقوم ليس له واحد من لفظه ومفرده رجل (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) يعني إلهاً تعبدونه فكأنهم قالوا ما نصنع فقال (فتوبوا إلى بارئكم) أي ارجعوا إلى خالقكم واعزموا وصمموا بالتوبة.
والبارىء الخالق وقيل البارىء هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال، وفي ذكر البارىء هنا إشارة إلى عظيم جرمهم أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره إما على سبيل التفصي كبرءِ المريض من مرضه، والمديون من دينه، أو الإنشاء كبرأ الله آدم من الطين.
(فاقتلوا أنفسكم) أي اجعلوا القتل متعقباً للتوبة تماماً لها، قال القرطبي وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده
170
قيل قاموا صفين وقتل بعضهم بعضاً وقيل وقف الذين عبدوا العجل ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلام فقتلوهم فتاب الله على الباقين منهم، عن ابن عباس قال أمر موسى قومه عن أمر من ربه أن يقتلوا أنفسهم، واحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة جعل يقتل بعضهما بعضاً فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقى كانت له توبة، وعن علي قال قالوا لموسى ما توبتنا قال يقتل بعضكم بعضاً فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله تعالى إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي (١).
(ذلكم) يعني هذا القتل وتحمل هذه الشدة.
(خير لكم) لأن الموت لابد منه (عند بارئكم) من حيث أنه طهرة من الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية.
(فتاب عليكم) أي فعلتم ما أمرتم به فتجاوز عنكم، وهذه الفاء فاء التفسير وفاء التفصيل، وهذا من كلام الله تعالى خاطبهم به على طريق الإلتفات من التكلم الذي يقتضيه السياق إلى الغيبة وقيل أنه من جملة كلام موسى لقومه، والأول أولى (إنه هو التواب) أي الرجاع بالمغفرة القابل للتوبة البالغ في قبولها منهم (الرحيم) بخلقه.
_________
(١) قال ابن الجوزي في زاد السير ١/ ٨٢: واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب للكل، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد، قاله مقاتل. والثالث: أنه خطاب للعابدين فحسب، أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الإشارة بقوله: " ذا " في: " ذلكم " قولان. أحدهما: أنه يعود إلى القتل. والثاني: أنه يعود إلى التوبة.
171
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
172
(وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك) أي لا نصدقك. بأن ما نسمعه كلام الله (حتى نرى الله جهرة) أي عياناً، ظاهر السياق أن القائلين بهذه المقالة هم قوم موسى، قيل هم السبعون الذين اختارهم ممن لم يعبدوا العجل وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله، قالوا له بعد ذلك هذه المقالة معتذرين عن عبادة أصحابهم العجل، فخرج بهم موسى، وقيل عشرة آلاف من قومه والمؤمن به، والجهرة استعيرت للمعاينة وأصلها الظهور (فأخذتكم الصاعقة) لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل، قيل هي الموت وفيه ضعف، وقيل سبب الموت، واختلفوا في ذلك السبب فقيل أن ناراً نزلت من السماء فأحرقتهم وقيل جاءت صيحة من السماء وقيل أرسل جموعاً من الملائكة فسمعوا بحسهم فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة، والأول أولى، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم وسيأتي في الأعراف أنهم ماتوا بالرجفة أي الزلزلة، وممكن الجمع بأنه حصل لهم الجميع، وقيل المراد بالصاعقة الموت، واستدل عليه بقوله الآتي
(ثم بعثناكم من بعد موتكم) ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية وقد يغشى عليه ثم يفيق كما في قوله تعالى (وخر موسى صعقاً فلما أفاق) ومما يوجب بعد ذلك قوله.
(وأنتم تنظرون) فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كثير معنى، بل قد يقال أنه لا يصح أن ينظروا الموت النازل بهم إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت، قيل أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم لا آخرها الذي ماتوا عنده، والمعنى ينظر بعضكم إلى بعض كيف يأخذه الموت وكيف يحيا، وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن به الله من رؤيته في الدنيا.
172
(ثم بعثناكم من بعد موتكم) المراد بذلك الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت فبعثوا بعد الموت ليستوفوا آجالهم، قاله أنس، ولو أنهم قد ماتوا لانقضاء آجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة، وأصل البعث الإثارة للشيء من محله وقد تكون عن إغماء ونوم، ولهذا قيد البعث بالموت.
وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة، وذهب من عداهم إلى جوازها في الدنيا والآخرة، ووقوعها في الآخرة، وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربهم في الآخرة وهي قطعيَّة الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة، وزعموا أن العقل قد حكم بها دعوى مبنية على شفا جرف هار، وقواعد لا يغتر بها إلا من لم يحظ من العلم النافع بنصيب، وسيأتيك بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية، وكلها خارج عن محل النزاع، بعيد من موضع الحجة، وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة، وقد استوعب الحافظ ابن القيم الكلام عليها في كتابه حادي الأرواح بما يشفي العليل ويروي الغليل فليرجع إليه (لعلكم تشكرون) إنعامنا ذلك أي بالبعث بعد الموت، قاله أبو السعود أو ما كفرتموه قاله البيضاوي (١).
_________
(١) ورد في صحيح مسلم إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى.
- (١/ ١٨١) عن صهيب عن النبي ﷺ قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل ". وفي رواية " ثم تلا هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " يونس/٢٦.
- وعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي ﷺ قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن (مسلم/١٨٠).
173
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
174
(وظللنا عليكم الغمام) أي جعلناه كالظلة، والغمام جمع غمامة قاله الأخفش، قال الفراء ويجوز غمائم قال ابن عباس غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، وكان معهم في التيه، وقال قتادة كان هذا الغمام في البرية ظلل عليهم من الشمس وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن قمر، والتيه واد بين الشام ومصر وقدره تسعة فراسخ مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين لا يهتدون إلى الخروج.
(وأنزلنا عليكم المن والسلوى) يعني في التيه، قال قتادة أطعمهم ذلك حين برزوا إلى البرية، فكان المن يسقط عليهم في محلتهم طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك فإن تعدى ذلك فسد ما يبقى عنده، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعة أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه فبقي عنده لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة، ولا لطلبة شيء، وهذا كله في البرية.
وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقالوا لموسى (اذهب أنت وربك فقاتلا) وسيأتي بسطه في سورة المائدة، وكان عدد الذين تاهوا ستمائة ألف وماتوا كلهم في التيه إلا من لم يبلغ العشرين، ومات فيه موسى وهارون، وكان موت موسى بعد هارون
174
بسنة، والمن قيل هو الترنجبين وعلى هذا أكثر المفسرين وهو طل ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلاً ويجف جفاف الصمغ، ذكر معناه في القاموس، وقيل المن العسل وقيل شراب حلو، وقيل خبز الرقاق، قاله وهب، وقيل هو مصدر يعم جميع ما مَنَّ الله به على عباده من غير تعب ولا زرع، ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث سعيد بن زيد عن النبي - ﷺ - إن الكمأة من المن الذي أنزل على موسى، وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي.
ومن حديث جابر وأبى سعيد وابن عباس عند النسائي، وقد قالوا يا موسى قد قتلنا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم، فأرسل الله عليهم السلوى، قيل هو السماني كحباري طائر يذبحونه فيأكلونه يبعثهما عليهم الجنوب، قال ابن عطية السلوى طائر بإجماع المفسرين، قال القرطبي ما ادعاه من الإجماع لا يصح، وقد قال المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير أنه العسل، وبه قال الجوهري: وقال ابن يحيى السلوى طائر يشبه السماني وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية يموت إذا سمع صوت الرعد كما أن الخطاف يقتله البرد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض، قال الأخفش السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته، وقال الخليل واحده سلواة، وقال الكسائي السلوى واحدة وجمعه سلاوى، وقيل هو السماني بعينه فكان الرجل يأخذ ما يكفيه يوماً وليلة فإذا كان يوم الجمعة يأخذ ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت شيء.
(كلوا) أي وقلنا لهم كلوا (من طيبات) أي حلالات أو مستلذات (ما رزقناكم) ولا تدخروا لغد، استدل به على أن الضيف لا يملك ما قدم له وأنه لا يتصرف إلا بإذن (وما ظلمونا) أي وما بخسوا حقنا (ولكن كانوا
175
أنفسهم يظلمون) بأخذهم أكثر مما حد لهم فاستحقوا بذلك عذابي، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة ولا تعب في الدنيا، ولا حساب في العقبى، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، وتقديم الأنفس يفيد الاختصاص، وفيه ضرب تهكم بهم، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم على الكفر.
176
(وإذْ قلنا ادخلوا هذه القرية) سميت قرية لاجتماع الناس فيها وقد يطلق عليهم مجازاً وقوله تعالى (واسأل القرية) يحتمل الوجهين مشتقة من قريت أي جمعت لجمعها لأهلها تقول قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى بكسر القاف، قال جمهور المفسرين القرية هي بيت المقدس وبه قال مجاهد، وقال ابن عباس هي أريحاء قرية الجبارين، قال ابن الأثير قرية بالغور قريبة من بيت المقدس، وجزم القاضي وغيره بالأول، وقيل كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة، فعلى هذا يكون القائل يوشع بن نون لأنه هو الذي فتح اريحاء بعد موسى، لأن موسى مات في التيه، وعلى الأول القائل موسى عليه السلام، وقيل قرية من قرى الشام.
(فكلوا منها حيث شئتم رغداً) أمر إباحة، ورغداً كثيراً واسعاً أي أكلاً رغداً (وادخلوا الباب) الذي أمرتم بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة، وقيل هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو اسرائيل، ومن قال أن القرية اريحاء قال ادخلوا من أي باب كان من أبوابها وكان لها سبعة أبواب.
(سجداً) أي منحنين كالراكعين أو خضعاً متواضعين، والسجود قيل هو هنا الانحناء وقيل التواضع والخضوع، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به لأنه لا يمكن الدخول حال السجود.
176
قال في الكشاف: إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً واعترضه أبو حيان في النهر الماد فقال لم يؤمروا بالسجود بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية والأوامر نسب اسنادية انتهى، ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد، فمن قال أخرج مسرعاً فهو أمر بالخروج على هذه الهيئة، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفاً للأمر، ولا ينافي هذا كون الأحوال نسباً تقييدية فإن اتصافها بكونها قيوداً مأموراً بها هو شيء زائد على مجرد التقييد.
(وقولوا حطة) قيل الحطة في الاصل اسم للهيئة من الحط كالجلسة والقعدة وقيل هي التوبة معناه الاستغفار، وقال ابن فارس في المجمل: حطة كلمة أمروا بها لو قالوها لحطت أوزارهم أي لا يدري معناها، قال الرازي في تفسيره أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة، وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها.
وإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب، لأن التوبة لا تتم إلا به انتهى، وكون التوبة لا تتم إلا بذلك، لا دليل عليه بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا، وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عز وجل أحب إلى الله وأقرب إلى مغفرته وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر.
(نغفر لكم خطاياكم) أي نسترها عليكم من الغفر وهو الستر، لأن المغفرة تستر الذنوب، وخطايا جمع خطية (وسنزيد المحسنين) أي نزيدهم ثواباً أو إحساناً إلى إحسانهم المتقدم وهو اسم فاعل من أحسن.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله - ﷺ - سئل عن الإحسان فقال: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
177
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
178
(فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم) قيل أنهم قالوا حنطة وقيل قالوا بلسانهم حنطاً سمقاثاً أي حنطة حمراء، استخفافاً منهم بأمر الله وقيل غير ذلك، والصواب أنهم قالوا حبة في شعيرة قالوا ذلك استهزاء أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي - ﷺ -، وفي رواية عن ابن عباس عن ابن جرير وابن المنذر: حنطة في شعيرة، والأول أرجح لكونه في الصحيحين، وبدلوا الفعل أيضاً حيث دخلوا يزحفون على أستاههم، قال الكيا الهراسي: فيه دليل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها وأنه يتعين اتباعها.
وقال الرازي يحتج به فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال وأنه غير جائز تغييرها، وربما احتج به علينا المخالف في تجويز تحريمة الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح وفي تجويز القراءة بالفارسية وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة وما جرى مجرى ذلك.
(فأنزلنا على الذين ظلموا) هو من وضع الظاهر موضع المضمر لنكتة تقدر في كل محل بما يناسبه تعظيماً كقوله (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله) وتحقيراً كقوله (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان) أو إزالة لبس أو غير ذلك وهي مبسوطة في الإتقان للجلال السيوطي، وكما تقرر في علم البيان وهي هنا تعظيم الأمر عليهم ومبالغة في تقبيح فعلهم وشأنهم (رجزاً من
178
السماء) يعني عذاباً، والرجز العذاب، قيل أرسل الله عليهم طاعوناً فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً.
وأخرج مسلم غيره من حديث أسامة بن زيد وسعد بن مالك وخزيمة ابن ثابت قالوا: قال رسول الله - ﷺ - إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به أناس من قبلكم، فإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا بلغكم أنه بأرض فلا تدخلوها، ومن المعلوم أن الطاعون ضرب الجن للإنس فهو أرضي لا سماوي وإنما قيل فيه من السماء لأن القضاء به يقع فيها، قال الجلال السيوطي فهلك منهم في ساعة سبعون ألفاً أو أقل انتهى، وهذا الوباء غير الذي حل بهم في التيه.
(بما كانوا يفسقون) أي يعصون ويخرجون عن أمر الله تعالى، وفي الأعراف (يظلمون) تنبيهاً على أنهم جامعون بين هذين الوصفين.
179
(وإذ استسقى موسى لقومه) أي طلب السقيا لقومه، وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل، والاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر ومعناه في اللغة طلب السقيا، وفي الشرع ما ثبت عن النبي - ﷺ - في صفته من الصلاة والدعاء، وهذا تذكير لنعمة أخرى كفروها (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) وكانت العصا من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً واسمها عليق وقيل نبغة حملها آدم معه من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى، كذا قيل والله أعلم، والحجر يحتمل أن يكون معيناً فيكون اللام للعهد وهو الذي فر بثوبه فلما سألوه السقيا ضربه، ويحتمل أن لا يكون معيناً فتكون للجنس وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة.
(فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً) يعني على عدد أسباط بني إسرائيل والمعنى فضربه فانفجرت والإنفجار الإنشقاق وانفجر الماء انفتح، قال المفسرون
179
انفجرت وانبجست بمعنى واحد وقيل انبجست عرقت، وانفجرت سالت، قال ابن عطية ولا خلاف أنه كان حجراً مربعاً يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضرب موسى سالت العيون، وإذا استغنوا عن الماء جفت.
(قد علم كل أناس مشربهم) المشرب موضع الشرب وقيل هو المشروب نفسه، وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم، قيل كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها، والأسباط ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب وكل عين تسيل في قناة إلى سبط، وكانوا ستمائة ألف، وسعة العسكر اثنا عشر ميلا.
(كلوا) أي قلنا لهم كلوا المن والسلوى (واشربوا) أي الماء المتفجر من الحجر (من رزق الله) فهذا كله من رزقه كان يأتيهم بلا مشقة ولا كلفة ولا تعثوا في الأرض مفسدين عثى يعثي عثياً وعثا يعثو عثواً وعاث يعيث عيثاً لغات بمعنى أفسد، قال في الكشاف العثى أشد الفساد فقيل لهم لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه انتهى، وفي هذه الآية معجزة عظيمة لموسى عليه السلام حيث انفجر من الحجر الصغير ما روى منه الجمع والكثير، ومعجزة نبينا- ﷺ - أعظم منه لأنه انفجر الماء من بين أصبعيه فروى منه الجم الغفير لأن انفجار الماء من بين الدم واللحم أعظم من انفجاره من الحجر (١).
_________
(١) ويؤيد هذا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه/٤٢٧٩.
عن أنس بن مالك أنه قال: رأيت رسول الله ﷺ وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتى رسول الله ﷺ بوضوء فوضع رسول الله ﷺ في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضئوا منه قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه. فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم.
وفي رواية: أن النبي ﷺ كان بالزوراء (والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد فيما ثَمَّهْ) دعا بقدح فيه ماء فوضع كفه فيه فجعل ينبع من بين أصابعه فتوضأ جميع أصحابه قال قلت: كم كانوا يا أبا حمزة قال: قالوا زهاء الثلاثماية.
180
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
181
(وإذ قلتم) أي اذكروا يا بني إسرائيل إذ قال أسلافكم، وهذا تذكير لجناية أخرى صدرت منهم وإسناد الفعل إلى فروعهم وتوجيه التوبيخ إليهم لما بينهم وبين أصولهم من الأتحاد.
(يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) هذا تضجر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب، والعيش المستلذ، ونزوع ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش، ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقاً إلى ما كانوا فيه وبطراً لما صاروا إليه من المعيشة الرافهة بل هو باب من تعنتهم وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم وهجيرهم في غالب ما قص علينا من أخبارهم.
وقال الحسن البصري أنهم كانوا أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى مكرهم مكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا لن نصبر على طعام واحد أي نوع منه والمراد بالطعام الواحد هو المن والسلوى، وهما وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاماً واحداً وقيل لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما، والبقل كل نبات ليس له ساق والشجر ماله ساق.
وقال في الكشاف البقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطائب
181
البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها انتهى وجمعه بقول، والقثاء معروف الواحد قثاءة وفيها لغتان كسر القاف وضمها والمشهور الكسر والفوم قيل هو الثوم وقد قرأه ابن مسعود بالثاء وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وقيل الفوم الحنطة، وإليه ذهب أكثر المفسرين كما قال القرطبي، وقد رجح هذا ابن النحاس، قال الجوهري: وممن قال بهذا الزجاج والأخفش وقال بالأول الكسائي والنضر بن شميل، وقيل الفوم السنبلة وقيل الحمص وقيل الفوم كان حباً يخبز، والعدس والبصل معروفان، قيل إنما طلبوا هذه الأنواع لأنها تعين على تقوية الشهوة أو لأنهم ملوا من البقاء في التيه، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد، وكان غرضهم الوصول إلى البلاد لا تلك الأطعمة والأول أولى.
(قال) يعني موسى عليه السلام لهم وقيل القائل هو الله والأول أولى (أتستبدلون الذي هو أدنى) أي أخس وأردأ، وهو الذي طلبوه والاستبدال وضع الشيء موضع الآخر، قال الزجاج أدق مأخوذ من الدنو أي القرب وقيل من الدناءة وقيل أصله أدون من الدون أي الرديء، والهمزة للإنكار مع التوبيخ، والمراد أتضعون هذه الاشياء التي هي دون موضع المن والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه، والحل الذي لا تطرقه الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله (بالذي هو خير) أي أشرف وأفضل وهو ما هم فيه.
(اهبطوا مصراً) أي انزلوا مصراً وانتقلوا من هذا المكان إلى مكان آخر، فالهبوط لا يختص بالنزول من المكان العالي إلى الأسفل بل قد يستعمل في الخروج من أرض إلى أرض مطلقاً قاله الشهاب، وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر، وقيل أن الأمر للتعجيز والإهانة لأنهم كانوا في التيه لا يمكنهم هبوط مصر لانسداد الطرق عليهم إذ لو عرفوا طريق مصر لما أقاموا أربعين سنة متحيرين لا يهتدون إلى طريق من الطرق، فهو مثل قوله تعالى (كونوا
182
حجارة أو حديداً) قال الخليل وسيبويه أراد مصراً من الأمصار ولم يرد المدينة المعروفة وهو خلاف الظاهر، بل يجوز صرفه مع حصول العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن الأوسط وبه قال الأخفش والكسائي، والمصر في الأصل الحد الفاصل بين الشيئين وقيل المصر البلدة العظيمة.
(فإن لكم ما سألتم) يعني من نبات الأرض (وضربت عليهم) أي على فروعهم وأخلافهم (الذلة) أي الهوان وقيل الجزية وزي اليهودية وفيه بعد والأول أولى والمعنى جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم وألزموا الذل والهوان بسبب قتلهم عيسى في زعمهم، والذلة بالكسر الصغار والحقارة والذلة بالضم ضد العجز.
(والمسكنة) أي الفقر والفاقة وسمى الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، ومعنى ضرب الذلة والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاء مستمراً لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها، أو لازم لهم لزوم الدرهم المضرب لسكته.
وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به وهو معلوم في جميع الأزمنة فإن اليهود أقمأهم الله أذل الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رؤسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ فهو متظاهر بالفقر مرتد بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجارىء على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه، فلا ترى أحداً من أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود كأنهم فقراء وإن كانوا أغنياء مياسير.
183
(وباءوا) رجعوا يقال باء بكذا أي رجع والمراد أنهم رجعوا (بغضب من الله) أو صاروا أحقاء بغضبه، وقال أبو عبيدة والزجاج احتملوه وقيل أقروا به وقيل استحقوه وقيل لازموه، وهو الأوجه يقال بوأته منزلاً فتبوأ أي ألزمته فلزمه (ذلك) أي ما تقدم من ضرب الذلة وما بعده.
(بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) أي بسبب كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال أنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة، بل المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه وأنه ظلم بحت في نفس الأمر، وممكن أن يقال أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل لأن الأنبياء لم يعارضوهم في مال ولا جاه بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا كما كان من شعيا وزكريا ويحيى فإنهم قتلوهم وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى، عن ابن مسعود قال كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.
(ذلك) تكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده، وقيل يجوز أن يكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل فيكون ما بعدها سبباً للسبب قاله الزمخشري وهو بعيد جداً (بما عصوا) أمري (وكانوا يعتدون) الاعتداء تجاوز الحد في كل شيء أي يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.
184
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
185
(إن الذين آمنوا) قيل أن المراد بهم المنافقون بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى والصابئين أي آمنوا في الظاهر، والأولى أن يقال أن المراد الذين صدقوا النبي - ﷺ - وصاروا من جملة أتباعه، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر، ومن فاته ذلك فاته الخير كله، والأجر دقه وجله.
بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله - ﷺ - من قوله لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان فقال " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره " ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية، فمن لم يؤمن بمحمد - ﷺ - ولا بالقرآن فليس بمؤمن، ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً.
(والذين هادوا) معناه صاروا يهوداً قيل هو نسبة لهم إلى يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة فقلبتها العرب دالا مهملة، وقيل معنى هادوا تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل، ومنه قوله تعالى (إنا هدنا إليك) أي تبنا، وقيل أن معناه السكون والموادعة وقال في الكشاف معناه دخل في اليهودية.
(والنصارى) قال سيبويه مفرده نصران ونصرانة كندمان وندمانة، ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب، فيقال رجل نصراني وامرأة نصرانية، وقال الخليل واحد النصارى نصري، وقال الجوهري ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى، ويقال ناصرة فعلى هذا فالياء للنسب، وقال في الكشاف أن الياء للمبالغة كالتي في أحمري سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح.
185
(والصابئين) جمع صابيء وقيل صاب، والصابيء في اللغة من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ، سموا هذه الفرقة صابئة لأنها خرجت من دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقيل عبدوا الكواكب، وقال البيضاوي إنهم قوم بين اليهود والمجوس انتهى، ثم جعل هذا اللقب علماً لطائفة من الكفار، وقيل هم يدعون أنهم على دين صابيء بن شيث بن آدم والأول أولى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه في الرد على المنطقيين إن حران كانت دار هؤلاء الصابئة وفيها ولد إبراهيم عليه السلام أو انتقل إليها من العراق على اختلاف القولين، وكان بها هيكل العلة هيكل العقل الأول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس، وكذلك الزهرة وعطارد والقمر، وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم، ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الإسلام ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت، ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها أطباء وكتاباً وبعضهم لم يسلم.
ولما قدم الفارابي حران في أثناء المائة الرابعة دخل عليهم وتعلم منهم وأخذ عنهم ما أخذ من المتفلسفة، وكان ثابت بن قرة الحراني صاحب الزيج قد شرح كلام أرسطو في الإلهيات، وقد رأيته وبينت بعض ما فيه من الفساد، فإن فيه ضلالاً كثيراً، وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور دين النصرانية وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي، ولهذا يوجد في دمشق مساجد قديمة فيها قبلة إلى القطب الشمالي، وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء، فإن الصابئة نوعان صابئة حنفاء موحدون، وصابئة مشركون، فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من هذه الملل الأربع: المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل، والصابئون الذين كانوا قبل
186
هؤلاء كالمتبعين لملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل، وهذا بخلاف المجوس والمشركين فإنه ليس فيهم مؤمن، فلهذا قال تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شي شهيد) فذكر الملل الست هؤلاء، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة لم يذكر في الست من كان مؤمناً، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط، ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين.
وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ويقرون بمعاد الأبدان، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم، ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه، وكذلك المشركون من الهند، وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين هو أرسطو، انتهى المقصود منه.
(من آمن بالله واليوم الآخر) في زمن نبينا (وعمل صالحاً) بشريعته (فلهم أجرهم) أي ثواب أعمالهم، والأجر في الاصل مصدر يقال أجره الله يأجره أجراً، وقد يعبر به عن نفس الشيء المجازى به، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.
(عند ربهم) " عند " ظرف مكان لازم للإضافة لفظاً ومعنى أي لهم أجرهم ثابتاً عند ربهم.
وقد تقدم تفسير قوله تعالى: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي في الآخرة حين يخاف الكفار من العذاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر، وتفويت الثواب.
187
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣)
(وإذ أخذنا ميثاقكم) أي عهدكم يا معشر اليهود والمراد أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق أن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة أو بما هو أعم من ذلك أو أخص (ورفعنا فوقكم الطور) يعني الجبل العظيم، والطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه التوراة فيه، قال ابن عباس وكان بنو إسرائيل أسفل منه، وقيل هو اسم لكل جبل بالسريانية، وفي القاموس يطلق على أي جبل كان وصرح به السمين ويطلق أيضاً على جبال مخصوصة بأعيانها، وهذا الجبل رفع فوقهم كان من جبال فلسطين، وعن ابن عباس الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم خذوها والتزموها فقالوا لا إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك فصعقوا ثم أحيوا، فقال لهم خذوها والتزموها فقالوا لا فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم فجعل عليهم مثل الظلمة وأوتوا ببحر من خلفهم ونار من قبل وجوههم وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها وإلا سقط عليكم الجبل فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، قيل وسجدوا على أنصاف وجوههم اليسرى وجعلوا يلاحظون الجبل بأعينهم اليمنى وهم سجود، فصار ذلك سنة في سجود اليهود، قيل فكأنه حصل لهم بعد هذا القسر والإلجاء قبول وإذعان اختياري، وكان يكفي في الأمم السابقة مثل هذا الإيمان.
قال ابن جرير عن بعض العلماء لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق، قال ابن عطية والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت
188
سجودهم الإيمان لأنهم آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة انتهى، وهذا تكلف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قد ارتسم من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه، ونحن نقول أكرههم الله على الإيمان فآمنوا مكروهين ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عمن تكلم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزه حامله على رأسه.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي - ﷺ - قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً عن قتله بأنه قالها تقية ولم يكن عن قصد صحيح " أأنت فتشت عن قلبه (١) " وقال " لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس " قال القفال إنه ليس إجباراً على الإسلام لأن الجبر ما سلب الاختيار بل كان إكراهاً وهو جائز ولا يسلب الاختيار كالمحاربة مع الكفار؛ فأما قوله (لا إكراه في الدين) وقوله (أفأنت تكره الناس) فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ؛ ذكره الشهاب.
(خذوا ما آتيناكم) أي قلنا لهم خذوا ما أعطيناكم (بقوة) القوة الجد والاجتهاد (واذكروا ما فيه) أي ادرسوا ولا تنسوه؛ والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظاً عندهم ليعملوا به (لعلكم تتقون) أي لكي تنجو من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى أو رجاء منكم أن تكونوا متقين.
_________
(١) فقد روى مسلم في صحيحه/٩٦ عن أسامة بن زيد بن حارثة يحدث قال بعثنا رسول الله ﷺ إلى الحرقة من جهينة، فَصَبَّحْنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته.
قال: فلما قدمنا بلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لي: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله قال؛ قلت: يا رسول الله أنه كان متعوذاً (أي معتصماً) قال: فقتلته بعدما قال لا إله إلا الله. فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
189
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
190
(ثم توليتم) أصل التولي الإدبار عن الشيء والإعراض بالجسم ثم استعمل في الأعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً (من بعد ذلك) أي الميثاق أو رفع الطور أو إيتاء التوراة؛ والمراد هنا إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم من بعد البرهان لهم والترهيب بأشد ما يكون وأعظم ما تجوزه العقول. وتقدره الأفهام، وهو رفع الجبل فوق رؤوسهم كأنه ظلة عليهم.
(فلولا) حرف امتناع لوجود تختص بالجمل الإسمية (فضل الله عليكم) بأن تدارككم بلطفه؛ والفضل الزيادة والخير والأفضال والإحسان قاله ابن فارس في المجمل (ورحمته) حتى أظهروا التوبة (لكنتم من الخاسرين) أي المغبونين بذهاب الدنيا والهالكين بالعذاب في العقبى: والخسران النقصان.
(ولقد علمتم) أي عرفتم فيتعدى لواحد فقط والفرق بينهما أن العلم يستدعي معرفة الذات وما هي عليه من الاحوال، والمعرفة تستدعي معرفة الذات أو الفرق أن المعرفة يسبقها جهل بخلاف العلم ولذلك لا يجوز إطلاقها عليه سبحانه.
(الذين اعتدوا منكم) أي جاوزوا الحد (في السبت) يقال سبت اليهود لأنهم يعظمونه ويقطعون فيه أعمالهم، وأصل السبت في اللغة القطع لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل، وقيل هو مأخوذ من السبوت وهو الراحة والدعة، وقال في الكشاف السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت انتهى، وفيه نظر، فإن هذا اللفظ موجود واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل
190
فعل اليهود ذلك.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين، ففرقة اعتدت في السبت أي جاوزت ما أمر الله به من العمل فيه فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين: ففرقة جاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة لم توافق المعتدين ولا صادوا معهم لكنهم جالسوهم ولم يجاهروهم بالنهي، ولا اعتزلوا عنهم، فمسخهم الله جميعاً ولم ينج إلا الفرقة الأولى فقط.
وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة وعاندوا أنبياءهم وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم وسخف عقولهم وتعنتهم نوعاً من أنواع التعسف، وشعبة من شعب التكلف، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله: (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم) فاحتالوا لصيدها وحفروا الحفائر وشقوا الجداول، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصيدونها يوم الأحد، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة وكانت هذه القصة في زمن داود بأرض أيلة.
(فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) أمر تحويل وتسخير وتكوين وهو عبارة عن تعلق القدرة بنقلهم عن الحقيقة البشرية إلى حقيقة القردة أي كونوا مبعدين عن الرحمة مطرودين عن الشرف، وقيل فيه تقديم وتأخير معناه كونوا خاسئين قردة ولهذا لم يقل خاسئات، والخاسيء المبعد، ومنه قوله تعالى (ينقلب إليك البصر خاسئاً) أي مبعداً وقوله (اخسئوا فيها) أي تباعدوا تباعد سخط ويكون الخاسيء بمعنى الصاغر، والمراد هنا كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين، فقردة خبر الكون، وخاسئين خبر آخر، وقيل أنه صفة لقردة، والاول أظهر.
191
وعن ابن عباس قال مسخهم الله قردة بمعصيتهم ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل، قال الحسن انقطع ذلك النسل، وقال مجاهد مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، إنما هو مثل ضربه الله لهم كقوله (مثل الحمار يحمل أسفاراً) وقال ابن عباس صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير (١).
واختلف في مرجع الضمير في قوله
_________
(١) روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال: نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات. نودوا: يا أهل القرية، فانتبهت طائفة أكثر من الأولى، ثم نودوا: يا أهل القرية، فانتبه الرجال والنساء والصبيان، فقال الله لهم: (كونوا قردة خاسئين) فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم: بلى. قال قتادة: فصار القوم قردة تعاوي، لها أذناب بعدما كانوا رجالاً ونساء.
وفي رواية عن قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. وقال غيره: كانوا نحواً من سبعين ألفاً وعلى هذا القول العلماء، غير ما روي عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم، وهو قول بعيد، قال ابن عباس: لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيام، ولم يحيا مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن، وهذا كان في زمان داود عليه السلام.
192
(فجعلناها) فقيل المسخة والعقوبة وقيل الأمة، وقيل القرية، وقيل القردة، وقيل الحيتان، والأول أظهر (نكالا) أي عقوبة وعبرة، والنكال الزجر والعقاب، والنكل القيد لأنه يمنع صاحبه (لما بين يديها وما خلفها) أي عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة، وقيل من الذنوب التي عملوا قبل وبعد، قاله ابن عباس (وموعظة للمتقين) من قومهم أو لكل متق سمعها. الموعظة مأخوذ من الاتعاظ والإزجار والوعظ التخويف، وقال الخليل الوعظ التذكير بالخير.
192
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨)
193
(وإذ قال موسى لقومه) توبيخ آخر لأخلاف بني إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت من أسلافهم، أي اذكروا وقت قول موسى لأصولكم وقد قتل لهم قتيل لا يدرى قاتله، وسألوه أن يدعو الله أن يبينه لهم فدعاه، والقتيل اسمه عاميل.
(إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) قيل إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدم في التلاوة ومؤخر في المعنى على قوله تعالى (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها) ويجوز أن يكون قوله (إذ قتلتم) مقدماً في النزول ويكون الأمر بالذبح مؤخراً، قال الكرخي وإنما أخر أول القصة تقديماً لذكر مساويهم وتعديداً لها ليكون أبلغ في توبيخهم على القتل، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوا ببعضها، هذا على فرض أن الواو تقتضي الترتيب، وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون ترتيب ولا معية.
والبقرة اسم للأنثى ويقال للذكر ثور، وقيل إنها تطلق عليهما وأصله من البقر وهو الشق لأنها تشق الأرض بالحرث، قال الأزهري البقر اسم جنس وجمعه باقر (قالوا اتتخذنا هزواً) أي نحن نسألك أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح بقرة، وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر ولم يعلموا ما وجه الحكمة فيه، والهزو هنا اللعب والسخرية، وإنما يفعل ذلك أهل الجهل لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله
193
سبحانه من الجهل.
(قال) يعني موسى (أعوذ بالله) أي أمتنع به (أن أكون من الجاهلين) أي بالجواب لا على وفق السؤال أو من المستهزئين بالمؤمنين، وهذا أبلغ من قولك أن أكون جاهلاً.
194
(قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) أي ما سنها، وهذا السؤال عن صفة البقرة لا عن حقيقتها فإنها معروفة، وهذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة، فقد كانوا يسلكون هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به، ولو تركوا التعنت والأسئلة المتكلفة لأجزاهم ذبح بقرة من عرض البقر، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
(قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) أي لا هي كبيرة ولا صغيرة، والفارض المسنة التي لم تلد ومعناه في اللغة الواسع، قال في الكشاف وكأنها سميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها انتهى، ويقال للشيء القديم فارض، والبكر الصغيرة الفتية التي لم تحمل ولم تلد، ويطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل، ويطلق أيضاً على الأول من الأولاد.
(عوان بين ذلك) أي نصف بين سنين، والعوان المتوسطة بين سني الفارض والبكر وهي التي قد ولدت بطناً أو بطنين، ويقال هي التي ولدت مرة بعد مرة والجمع عون بالضم، والإشارة إلى الفارض والبكر وهما وإن كانتا مؤنثتين فقد أشير إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور كأنه قال ذلك المذكور، وجاز دخول " بين " المقتضية لشيئين لأن المذكور متعدد.
(فافعلوا ما تؤمرون) به أي من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال وهذا تجديد للأمر وتأكيد له وزجر لهم عن التعنت فلم ينفعهم ذلك ولا نجع فيهم، بل رجعوا إلى طينتهم، وعادوا إلى عكرهم واستمروا على عادتهم المألوفة.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩)
و (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول أنها بقرة صفراء فاقع لونها) اللون واحد الألوان، وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء، قال بعضهم حتى قرنها وظلفها، وقال الحسن وسعيد بن جبير أنها كانت صفراء القرن والظلف فقط وهو خلاف الظاهر، والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة، وروي عن الحسن أن صفراء معناه سوداء، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها، وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو أقبح الألوان أنه يسر الناظرين، وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعرف كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجري على الأسود بوجه من الوجوه، فإنهم يقولون في وصف الأسود حالك وحلكوك ودجوجي وغربيب، قال الكسائي يقال فقع لونها إذا خلصت صفرته، وقال في الكشاف الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ومعنى (تسر الناظرين) تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجاباً بها واستحساناً للونها، قال وهب كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها يعجبهم حسنها وصفاء لونها (١).
_________
(١) وروى السدي عن أشياخه أن رجلاً من بني إسرائيل كانت له بنت وابن أخ فقير، فخطب إليه ابنته، فأبى، فغضب وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله ولأنكحن ابنته، ولأكُلَنَّ ديته، فأتاه فقال: قد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلي أصيب فيها ربحاً، فخرج معه، فلما بلغا ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع، فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه لا يدري أين هو، فإذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه، فأمسكهم وقال: قتلتم عمي وجعل يبكي وينادي: واعماه. قال أبو العالية: والذي سأل موسى أن يسأل الله البيان: القاتل. وقال غيره: بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى، فلما أمرهم بذبح بقرة، قالوا: أتتخذنا هزواً.
195
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
196
(قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) أي سائمة أو عاملة وعلى هذا فليس هذا السؤال تكريراً للسؤال الأول كما ادعاه بعضهم، قاله الخطيب (إن البقر تشابه علينا) أي التبس واشتبه أمرها علينا أي أن جنس البقر متشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة (وإنا إن شاء الله لمهتدون) وعدوا من أنفسهم بالإهتداء إلى ما دلهم عليه والامتثال لما أمروا به، قيل لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الدهر.
(قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) أي ليست مذللة والذلول التي يذللها العمل (تثير الأرض) أي تقلبها للزراعة (ولا تسقي الحرث) أي ليست بسانية يعني من النواضح التي يسنى عليها ويسقى الزرع، وحرف النفي الآخر توكيد للأول أي هذه بقرة غير مذللة بالحرث ولا بالنضح، ولهذا قال الحسن كانت البقرة وحشية، وقال قوم إن قوله تثير فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها والنضح بها والأول أرجح لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة وقد نفى الله ذلك عنها.
(مُسلَّمة) أي بريئة من العيوب، والمسلمة هي التي لا عيب فيها وقيل مسلمة من العمل وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها، والتأسيس خير من التأكيد، والإفادة أولى من الإعادة (لاشية فيها) أي لا لون فيها غير لونها، والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين، وثور موشى: في وجهه وقوائمه سواد ويقال ثور أشيه وفرس أبلق وكبش أخرج
196
وتيس أبرق وغراب أبقع، كل ذلك بمعنى أبلق والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر، فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه أقصروا من غوايتهم وانتبهوا من رقدتهم، وغرقوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم.
(قالوا الآن جئت بالحق) أي أوضحت لنا الوصف وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات، قيل " أل " في الآن للتعريف الحضوري وقيل زائدة لازمة (فذبحوها) وامتثلوا الأمر الذي كان يسيراً فعسروه وكان واسعاً فضيقوه.
(وما كادوا يفعلون) ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة فكان ذلك مظنة للاستبعاد محلاً للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط والتعنت الكائن منهم، وقيل أنهم كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف، وقيل لارتفاع ثمنها، وقيل لخوف انكشاف أمر المقتول والأول أرجح.
وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل، وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين:
(الأول) أن هذه الأوصاف، المزيدة بسبب تكرار السؤال هي من باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ، وبين البابين بون يعيد كما هو مقرر في علم الأصول.
(الثاني) أما لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأول أن يعمدوا إلا بقرة من عرض البقر فيذبحوها ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفرة، ولا دليل يدل على أن هذه المحاوره بينهم وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها ويديرون
197
الرأي بينهم في أمرها ثم يوردونها، وأقل الاحوال الاحتمال القادح في الاستدلال.
وعن عبيدة السلماني قال كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن اخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذو الرأي منهم علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم، فأتوا موسى فذكروا ذلك له فقال (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) الآية قال فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا من قتلك، فقال هذا لإبن أخيه، ثم مال ميتاً فلم يعط من ماله شيئاً ولم يورث قاتل بعده.
وعن ابن عباس أن القتيل وجد بين قريتين وأن البقرة كانت لرجل كان يبر أباه فاشتروها بوزنها ذهباً، وقد روي في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة.
وفي القصة أحكام منها الاستدلال بقوله (إن الله يأمركم) على أن الآمر لا يدخل في عموم الأمر فإن موسى لم يدخل في الأمر بدليل قوله (فذبحوها) ومنها الاستدلال على أن السنة في البقرة الذبح، ومنها الاستدلال على جواز ورود الأمر مجملاً وتأخير بيانه، ومنها دلالة قوله لا فارض ولا بكر وقوله مسلمة على جواز الأجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام لأن ذلك لا يعلم إلا بالإجتهاد، ومنها أن المستهزيء يستحق سمة الجهل، ومنها دلالة قوله (إن شاء الله) على الاستثناء في الأمور، ومنها دليل أهل السنة في أن الأمر لا يستلزم المشيئة، ومنها الدلالة على حصر الحيوان بالوصف وجواز السلم فيه، ومنها دلالة قوله (فافعلوا ما تؤمرون) على أن الأمر على الفور ويدل على ذلك أنه استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمرهم به وقال فذبحوها وما كادوا يفعلون.
198
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
199
(وإذ قتلتم نفساً) أي واذكروا يا بني إسرائيل وقت قتل هذه النفس وما وقع فيه من القصة والخطاب لليهود المعاصرين للنبي - ﷺ -، وإسناد القتل والتدارىء إليهم، لأن ما يصدر عن الأسلاف ينسب للأخلاف توبيخاً وتقريعاً.
قال الرازي في تفسيره اعلم أن وقوع القتل لابد أن يكون متقدماً لأمره تعالى بالذبح، فأما الإخبار عن وقوع القتل وعن أنه لابد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدماً على الإخبار عن قصة البقرة، فقول من يقول هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود، فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يقدم ذكر السبب على الحكم، وأخرى على العكس من ذلك، فكأنهم لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة فلما ذبحوها قال (وإذ قتلتم نفساً) من قبل، ونسب القتل إليهم لكون القاتل منهم انتهى، والقتيل اسمه عاميل ذكره الكرماني وقيل نكار حكاه الماوردي وقاتله ابن أخيه وقيل أخوه.
(فادارأتم فيها) اختلفتم وتنازعتم لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفعه (والله مخرج ما كنتم تكتمون) أي ما كتمتم بينكم من أمر القتل فالله مظهره لعباده ومبينه لهم، وعن المسيب بن رافع قال ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كتاب الله.
(والله مخرج ما كنتم تكتمون) وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة صماء لا
199

باب لها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائناً ما كان.


وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال: قال رسول الله - ﷺ - من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر الله عليه منها رداء يعرف به، والموقوف أصح، ولجماعة من الصحابة والتابعين كلمات تفيد هذا المعنى.
200
(فقلنا اضربوه ببعضها) يعني القتيل، واختلف في تعيين البعض الذي أمروا بأن يضربوا به القتيل فقيل بلسانها وقيل بعجب الذنب وقيل بفخذها اليمين، وقال ابن عباس بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الاذن، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم، ويكفينا أن نقول أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها فأي بعض ضربوا به فقد فعلوا ما أمروا به، وما زاد على هذا فهو من فضول العلم إذا لم يرد به برهان، وليس في الكتاب العزيز والسنة المطهرة ما يدل على ذلك البعض ما هو، وذلك يقتضي التخيير.
(كذلك يحيى الله الموتى) أي كمثل هذا الإحياء يوم القيامة، فلا فرق بينهما في الجواز والإمكان، والغرض من هذا الرد عليهم في إنكار البعث، وهذا يقتضي أن يكون الخطاب مع العرب لا مع اليهود لأنهم يقرون بالبعث والجزاء، وعلى هذا الجملة اعتراض في خلال الكلام المسوق في شأن اليهود (ويريكم آياته) أي علاماته ودلائله الدالة على كمال قدرته، وهذا يحتمل أن يكون خطاباً لمن حضر القصة ويحتمل أن يكون خطاباً للموجودين عند نزول القرآن، والرؤية هنا بصرية (لعلكم تعقلون) أي تمنعون أنفسكم من المعاصي.
وقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قصة طويلة في ذكر البقرة وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها وقد استوفاها السيوطي في الدر المنثور.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
(ثم) موضوعة للتراخي في الزمان ولا تراخي هنا فهي محمولة على الإستبعاد مجازاً (قست قلوبكم) أي يبست وجفت وقيل غلظت واسودت وصلبت، وقساوة القلب انتزاع الرحمة منه والقسوة الصلابة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل وتكلمه وتعيينه لقاتله، وفيه استعارة تبعية تمثيلية تشبيهاً لحال القلوب في عدم الاعتبار والإتعاظ بالقسوة.
والإشارة بقوله (من بعد ذلك) إلى ما تقدم من الأيات الموجبة للين القلب ورقته التي جاء بها موسى أو إحياء القتيل بعد ضربه ببعض البقرة، وهذا مؤكد للاستبعاد المذكور أشد تأكيد (فهي) أي القلوب في الغلظة والشدة (كالحجارة) أي كالشيء الصلب الذي لا تخلخل فيه.
قيل (أو) في قوله (أو أشد قسوة) بمعنى الواو كما في قوله تعالى (آثماً أو كفوراً) وقيل هي بمعنى بل واختاره أبو حيان، وعلى أن " أو " على أصلها أو بمعنى الواو فالعطف على قوله كالحجارة أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشد قسوة منها فشبهوها بأي الأمرين شئتم فإنكم مصيبون في هذا التشبيه، وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع أو ههنا مع كونها للترديد الذي لا يليق بعلام الغيوب بثمانية أوجه.
(وإن من الحجارة) قال في الكشاف إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة وتقرير لقوله أو أشد قسوة انتهى، وفيه أن مجيء البيان بالواو غير معروف ولا مألوف والأولى جعل ما بعد الواو تذييلاً أو حالاً (لما
201
يتفجر منه الأنهار) قيل أراد به جميع الحجارة وقيل أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى ليسقي الأسباط، والتفجر التفتح بالسعة والكثرة (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) يعني العيون الصغار التي هي دون الأنهار، التفجر التفتح والشق واحد الشقوق وهو يكون بالطول أو بالعرض بخلاف الانفجار فهو الإنفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق، والمراد أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار والانشقاق. (١)
(وإن منها لما يهبط من خشية الله) أي أن من الحجارة لما ينحط من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية التي تداخله وتحل به، وقيل أن الهبوط مجاز عن الخشوع منها والتواضع الكائن فيها انقياداً لله عز وجل، فهو مثل قوله تعالى (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) واختاره ابن عطية، وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار، وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله (وإن منها) راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة وهو فاسد فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لا تبلغ إليه الحجارة التي هي أشد الأجسام صلابة وأعظمها صلادة، فإنها ترجع إلى نوع من اللين وهو تفجرها بالماء وتشققها عنه، وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك القلوب.
وفي قوله (وما الله بغافل عما تعملون) من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى، فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه مطلعاً عليه، غير غافل عنه، كان لمجازاتهم بالمرصاد.
_________
(١) قال مجاهد: كل حجر ينفجر منه الماء، ينشق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل فهو من خشية الله. زاد السير ١/ ١١٢.
202
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
(أفتطمعون) الهمزة للاستفهام وتدخل على ثلاثة من حروف العطف الفاء كما هنا والواو كقوله الآتي (أو لا يعلمون) وثم كقوله (أثم إذا ما وقع) واختلف في مثل هذه التراكيب فذهب الجمهور إلى أن الهمزة مقدمة من تأخير لأن لها الصدر، والتقدير فأتطمعون وألا يعلمون وثم أإذا. وذهب الزمخشري إلى أنها داخلة على محذوف دل عليه سياق الكلام والتقدير هنا أتسمعون إخبارهم وتعلمون أحوالهم فتطمعون (أن يؤمنوا لكم) مع أنهم لم يؤمنوا بموسى، هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار كأنه أيسها من إيمان هذه الفرقة من اليهود، والخطاب لأصحاب النبي - ﷺ -، أوله - ﷺ - والجمع للتعظيم (وقد كان فريق منهم) قيل المراد بالفريق هم الذين كانوا مع موسى عليه السلام يوم الميقات والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه.
(يسمعون كلام الله) أي التوراة وقيل إنهم سمعوا خطاب الله لموسى عليه السلام حين كلمه، وعلى هذا فيكون الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى (ثم يحرفونه) أي يغيرونه ويبدلونه والتحريف الإمالة والتحويل، وثم للتراخي إما في الزمان أو في الرتبة، والمراد من التحريف أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة فجعلوا حلاله حراماً أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم كتحريفهم صفة رسول الله - ﷺ -، وإسقاط الحدود عن أشرافهم، أو سمعوا كلام الله لموسى عليه السلام فزادوا فيه ونقصوا، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر وإنكار على من طمع في إيمانهم وحالهم هذه الحال، أي ولهم سلف حرفوا كلام الله وغيروا شرائعه وهم مقتدون بهم متبعون سبيلهم (من بعدما عقلوه) أي علموا صحة كلام الله ومراده فيه (وهم يعلمون) أي ذلك الذي فعلوه هو تحريف مخالف لما أمرهم الله به من تبليغ شرائعه كما هي، فهم وقعوا
203
في المعصية عالمين بها وذلك أشد لعقوبتهم وأبين لضلالتهم.
واعلم أن التوراة والإنجيل اللذين عند اليهود والنصارى الآن اختلف فيهما هل هما مبدلان ومحرفان لفظاً أو تأويلاً، فأما التوراة فأفرط فيها قوم وقالوا كلها أو جلها مبدل، وذهبت طائفة من الفقهاء والمحدثين إلى أن ذلك إنما وقع في التأويل فقط كما صرح به البخاري، واختاره الفخر الرازي وغيره لقوله تعالى (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) وهو أمر للنبي - ﷺ - بالاحتجاج بها، والمبدل لا يحتج به ولما اختلفوا في الرجم لم يمكنهم تغيير آيته منها، وتوسطت طائفة وهو الحق فقالوا بدل بعض منهما وحرف لفظه، وأول بعض منهما بغير المراد منه، وأنه لم يعط منها موسى لبني اسرائيل غير سورة واحدة وجعل ما عداها عند أولاد هارون، فلم تزل عندهم حتى قتلوا عن آخرهم في وقعة بختنصر، وبعد ذلك جمع عزير بعضاً منها ممن حفظها فهو الذي عندهم اليوم، وليس أصلها، وفيه زيادة ونقص وخلاف وترجمة وتأويل. (١)
وأما الإنجيل ففيه تبديل وتحريف في بعض ألفاظه ومعانيه وهو مختلف النسخ، والأناجيل أربعة كما فصله بعضهم في كتاب عقده لذلك سماه المفيد في التوحيد.
_________
(١) وقد ذكر ابن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية:
وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال:
أنه النبي ﷺ خاصة قاله ابن عباس ومقاتل.
أَنهم المؤمنون تقديره أفتطمعون أن تصدقوا نبيكم.
إنهم الإنسان. فإنهم لما أسلموا أحبوا إسلام اليهود للرضاعة التي كانت بينهم.
204
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨)
205
(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) نزلت في اليهود، قال ابن عباس أن منافقي اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب رسول الله - ﷺ - قالوا لهم آمنا بالذي آمنتم به وأن صاحبكم صادق وقوله حق، وأنا نجد نعته وصفته في كتابنا (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) يعني كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب ابن يهودا رؤساء اليهود لاموا منافقي اليهود على ذلك، وعن عكرمة أنها نزلت في ابن صوريا.
(قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) وذلك أن ناساً من اليهود أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، وقيل أن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة في صفة محمد- ﷺ -، والفتح عند العرب القضاء والحكم والفتاح القاضي بلغة اليمن، والفتح النصر، ومن ذلك قوله تعالى (يستفتحون على الذين كفروا) وقوله (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ومن الأول (ثم يفتح بيننا بالحق وهو خير الفاتحين) أي الحاكمين ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين وقيل معناه الإنزال، وقيل الإعلام أو التبيين أو المنّ أي ما منّ به عليكم من نصركم على عدوكم.
(ليحاجوكم به) أي ليخاصمكم أصحاب محمد- ﷺ - ويحتجوا عليكم بقولكم فيقولون لكم قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ألا تتبعونه (عند ربكم) في الدنيا والآخرة وقيل عند بمعنى في، وقيل عند ذكر ربكم والأول أولى، والمحاجة إبراز الحجة أي لا تخبروهم بما حكم عليكم الله به من العذاب
205
فيكون ذلك حجة لهم عليكم فيقولون نحن أكرم على الله منكم وأحق بالخير منه، والحجة الكلام المستقيم، وحاججت فلاناً فحججته أي غلبته بالحجة (أفلا تعقلون) ما فيه الضرر عليكم من هذا التحديث الواقع منكم لهم، وهذا من تمام مقولهم.
ثم وبخهم الله سبحانه فقال
206
(أو لا يعلمون) أي اليهود (أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) ما يخفون وما يبدون ويظهرون من جميع أنواع الأسرار، وأنواع الإعلان، ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وتحريف الكلم عن مواضعه، قال ابن عباس هذه الآيات في المنافقين من اليهود، وقال أبو العالية ما يسرون من كفرهم بمحمد - ﷺ - وتكذيبهم، وما يعلنون حين قالوا للمؤمنين آمنا، وقد قال بمثل هذا جماعة من السلف.
(ومنهم أميون) أي ومن اليهود، والأمي منسوب إلى الأمة الأميّة التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن القراءة للمكتوب، ومنه حديث إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، وقال أبو عبيدة إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب فكأنه قال ومنهم أهل كتاب، وقيل هم نصارى العرب وقيل هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، وقيل هم المجوس حكاه المهدوي وقيل غير ذلك والراجح الأول، وقيل أميون أي عوام ومن هذا شأنه لا يطمع في إيمانه.
(لا يعلمون الكتاب إلا أماني) أي أنهم لا علم لهم به إلا ما هم عليه من الأماني التي يتمنونها ويعللون بها أنفسهم، والأماني جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم لا يكتبون ولا يقرؤون المكتوب، والاستثناء منقطع أي لكن الأماني ثابتة لهم من كونهم مغفوراً لهم بما يدعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم، وقيل الأماني الأكاذيب المختلفة، قاله ابن عباس أي ولكن يعتقدون أكاذيب اخذوها تقليداً من المحرفين أو مواعيد فارغة
206
سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً، وقيل الأماني التلاوة، ومنه قوله تعالى (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) أي إذا تلى ألقى الشيطان في تلاوته أي لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر، وقراءة عارية عن معرفة المعنى، وقيل الأماني التقدير، قال الجوهري يقال مني له أي قدر، قال في الكشاف والاشتقاق من منى إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويحرز ما يتمناه، وكذلك المختلق والقاريء يقدران كلمة كذا بعد كذا انتهى، وقيل هو من التمني وهو قولهم (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) وغير ذلك مما تمنوه، والمعنى لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم (١).
(وإن هم إلا يظنون) أي ليسوا على يقين، والظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم كذا في القاموس، أي ما هم إلا يترددون بغير جزم ولا يقين: وقيل الظن هنا بمعنى الكذب وقيل هو مجرد الحدس.
لما ذكر الله سبحانه أهل العلم بأنهم غير عاملين بل يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلون على الأماني ويعتمدون على الظن الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره ولا يظفرون بسواه.
_________
(١) ويؤيد هذا ما رواه مقاتل:
كان المسلم يلقى حليفه أو أخاه من الرضاعة من اليهود.
فيسأله: أتجدون محمداً في كتابكم.
فيقولون: نعم إنه لح.
فسمع كعب بن الأشرف وغيره. فقال لليهود في السر:
أتحدثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم من أمر محمد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبي، أفلا تعقلون أنه حجة عليكم.
207
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠)
208
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) الويل الهلاك قال الفراء الأصل في الويل وي أي حزن كما تقول وي لفلان أي حزن له فوصلته العرب باللام، وقال الخليل ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويب، وكله متقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم وهي مصادر لم تنطق العرب بأفعالها وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء، وقال ابن عباس الويل شدة العذاب، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ - الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب، والخريف السنة، والكتابة معروفة والمعنى أنهم يكتبون الكتاب المحرف ولا يبينون ولا ينكرونه على فاعله أو ما يكتبونه من التأويلات الزائفة، وقوله (بأيديهم) تأكيد لأن الكتابة لا تكون إلا باليد، فهو مثل قوله (ولا طائر يطير بجناحيه) وقوله (يقولون بأفواههم) قال ابن السراج هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وفيه أنه قد دل على أنه من تلقائهم قوله (ويكتبون الكتاب) فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك.
(ثم يقولون هذا) أي جميعاً على الأول وبخصوصه على الثاني وثم للتراخي الرتبي فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحاً أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل (من عند الله ليشتروا به) أي بما كتبوا (ثمناً قليلاً) أي المآكل والرشاء، والاشتراء الاستبدال ووصفه بالقلة لكونه فانياً لا ثواب فيه أو لكونه حراماً لا تحل به البركة فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا
208
بالتحريف، ولا بالكتابة لذلك المحرف حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله لينالوا بهذه المعاصي المتكررة هذا العرض المزر، والعوض الحقير، واستدل به النخعي على كراهة كتابة المصحف بالأجرة.
(فويل لهم مما كتبت أيديهم) تأكيد لقوله (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) ومع ذلك فيه نوع مغايرة لأن هذا وقع تعليلاً فهو مقصود وذلك وقع صلة فهو غير مقصود، والكلام في هذا كالذي فيما قبله من جهة أن التكرير للتأكيد (وويل لهم مما يكسبون) قيل من الرشاء ونحوها وقيل من المعاصي، وكرر الويل تغليظاً عليهم وتعظيماً لفعلهم وهتكاً لأستارهم. وقال السعد التفتازاني إنما كرر ليفيد أن الهلاك مرتب على كل واحد من الفعلين على حدة لا على مجموع الأمرين، والكسب مسبب فجاء النظم على هذا الترتيب.
وقد ذكر صاحب الدر المنثور آثاراً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية، ولا دلالة فيها على ذلك، ثم ذكر آثاراً عن جماعة منهم أنهم جوزوا ذلك ولم يكرهوه.
209
(وقالوا) أي اليهود (لن تمسنا) أي تصيبنا (النار إلا أياماً معدودة) استثناء مفرغ أي قدراً مقدراً يحصرها العد، ويلزمها في العادة القلة ثم يرفع عنا العذاب، وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية، قال ابن عباس إن اليهود كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.
وعن عكرمة قال اجتمعت يهود يوماً فخاصموا النبي - ﷺ - فقالوا لن تمسنا النار إلا أربعين يوماً ثم يخلفنا فيها ناس، وأشاروا إلى النبي - ﷺ - وأصحابه، فقال رسول الله - ﷺ - ورد يديه على رأسه كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم
209
فيها إن شاء الله أبداً ففيهم نزلت هذه الآية، وأخرج أحمد والبخاري والدارمي والنسائي من حديث أبي هريرة أن النبي - ﷺ - سأل اليهود في خيبر من أهل النار؟ قالوا نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها فقال لهم رسول الله - ﷺ - " اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا " (١).
والمراد بقوله (قل أتخذتم عند الله عهداً) الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة أي لم يتقدم لكم مع الله عهد بهذا ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك وعدم إخلاف العهد أي إن اتخذتم عهداً (فلن يخلف الله عهده) هذا جواب الاستفهام المتقدم في قوله (أتخذتم) وقال ابن عطية هذا اعتراض بين أثناء الكلام قال الرازي العهد في هذا الوضع يجري مجرى الوعد، وإنما سمى خبره سبحانه عهداً لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة (أم تقولون) أم متصلة وحينئذ الاستفهام للتقرير المؤدي إلى التبكيت أو منقطعة والاستفهام لإنكار الاتخاذ ونفيه (على الله ما لا تعلمون).
_________
(١) يقول ابن الجوزي لماذا قدروها بأربعين فيه ثلاثة أقوال:
أنهم قالوا بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم ثم ينقضي العذاب وتهلك النار.. قاله ابن عباس.
أنهم قالوا: عتب علينا ربنا في أمر فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة ثم يدخلنا الجنة، فلن تمسنا النار إلا أربعين يوماً تحلة القسم وهذا قول الحسن وأبي العالية.
أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل قاله مقاتل.
210
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١)
(بلى) إثبات لما بعد حرف النفي مختص به خبراً واستفهاماً أي بك تمسكم النار أبداً لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياماً معدودة (من كسب سيئة) المراد بها الجنس هنا ومثله قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها ومن يعمل سوءاً يجز به) ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار بل لا بد أن يكون سببه محيطاً به فقال (وأحاطت به خطيئته) أي أحدقت به من جميع جوانبه فلا تبقى له حسنة وسدت عليه مسالك النجاة، قيل هي الشرك قاله ابن عباس ومجاهد، وقيل هي الكبيرة، وتفسيرها بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عُصاة الموحدين من النار، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود، وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعليه إجماع المفسرين، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج، قال الحسن كل ما وعد الله عليه النار فهو الخطيئة استدل به على أن المعلق على شرطين لا ينجز بأحدهما (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) والخلود في النار هو للكفار والمشركين فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك. (١)
_________
(١) روى مسلم في صحيحه/١٩٣.
عن أنس بن مالك: أن النبي ﷺ قال: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة.
ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة.
وفي رواية:
إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار رجل يخرج منها زحفاً فيقال له انطلق فادخل الجنة قال فيذهب فيدخل الجنة...
211
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
212
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، فإن قلت لو دل الإيمان على العمل لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكراراً، قلت آمنوا يفيد الماضي وعملوا يفيد المستقبل، فكأنه قال آمنوا ثم داموا عليه آخراً، ويدخل فيه جميع الأعمال الصالحة (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) لا يخرجون منها ولا يموتون، وأتى بالفاء في الشق الأول دون الثاني إيذاناً بتسبب الخلود في النار على الشرك وعدم تسبب الخلود في الجنة عن الإيمان، بل هو بمحض فضل الله تعالى.
(وإذْ أخذنا) الخطاب مع بني إسرائيل وهم اليهود المعاصرون للنبي - ﷺ - بما وقع من أسلافهم توبيخاً لهم بسوء صنيع أسلافهم أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم، وقيل الخطاب للنبي - ﷺ - والمؤمنين، والأول أولى لأن المقام مقام تذكيرهم، وهذا شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود بما ينادي بعدم إيمان أخلافهم ليؤديهم التأمل في أحوالهم إلى قطع الطمع في إيمانهم (ميثاق بني إسرائيل) الذين كانوا في زمن موسى، وقد تقدم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل، وقال مكي إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو ما أخذه عليهم في حياتهم على ألسن أنبيائهم وهو قوله (لا تعبدون إلا الله) خبر بمعنى النهي وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من الاعتناء بشأن المنهى عنه، وتأكد طلب امتثاله حتى كأنه امتثل وأخبر عنه، وعبادة الله إثبات توحيده
212
وتصديق رسله، والعمل بما أنزل الله في كتبه.
(وبالوالدين إحساناً) أي معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال أمرهما وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق، ومنه البر بهما والرحمة لهما والنزول عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه، ولا يؤذيهما وإن كانا كافرين، وأن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين، وكذا إن كانا فاسقين يأمرهما بالمعروف من غير عنف، ولا يقول لهما أف.
(وذي القربى) أي القرابة عطف على الوالدين لأن حقها تابع لحقهما، والإحسان إليهم إنما هو بواسطة الوالدين، والقربى مصدر كالرجعى والعقبى وهم القرابة، والإحسان بهم صلتهم والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة وبقدر ما تبلغ إليه القدرة.
(واليتامى) جمع يتيم، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه، وفي سائر الحيوانات من فقدت أمه وأصله الانفراد يقال صبي يتيم أي منفرد من أبيه فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم، وتجب رعاية حقوق اليتيم لثلاثة أمور لصغره ويتمه ولخلوه عمن يقوم بمصلحته إذ لا يقدر هو أن ينتفع بنفسه ولا يقوم بحوائجه.
(والمساكين) جمع مسكين وهو من أسكنته الحاجة وذللته وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وكثير من أهل الفقه، وروي عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها.
(وقولوا للناس حسناً) أي قولاً حسناً سماه حسناً مبالغة، وقريء حسناً بضمتين وهي لغة أهل الحجاز، وحسنى بغير تنوين على أنه مصدر كبشرى، والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد، حكاه الأخفش، قال النحاس وهذا لا يجوز في العربية لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام نحو الفضلى والكبرى والحسنى، وهذا قول سيبويه، وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود حسناً قال
213
الأخفش هما بمعنى واحد مثل البخل والبخل، والرشد والرشد، فهو صفة مشبهة لا مصدر، كما فهم من عبارة القاموس فسقط ما للكرخي هنا، والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين بل كل ما صدق عليه إنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر، وقد قيل إن ذلك هو كلمة التوحيد، وقيل الصدق، وقيل الأمر بالمعروف، وقيل هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق والنهي عن المنكر وقيل غير ذلك، قيل إن الخطاب للحاضرين من اليهود في زمن النبي - ﷺ - فلهذا عدل عن الغيبة إلى الخطاب قاله ابن عباس، وقيل إن المخاطبين به هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، وإنما عدل من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات.
وتقدم تفسير قوله (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وهو خطاب لبني إسرائيل فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها والزكاة التي كانوا يخرجونها قال ابن عطية وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يقبل ولا تنزل على ما لا يقبل.
والخطاب في قوله (وثم توليتم) قيل للحاضرين منهم في عصر النبي - ﷺ - لأنهم مثل سلفهم في ذلك، وفيها التفات من الغيبة إلى الخطاب أي أعرضتم عن العهد، ومن فوائد الالتفات تطرية الكلام وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات والسآمة من الاستمرار على منوال واحد كما هو مقرر في محله، والإعراض والتولي بمعنى واحد وقيل التولي بالجسم والإعراض بالقلب (إلا قليلاً منكم) منصوب على الإستثناء وهو من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن أسلم منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه (وأنتم معرضون) كإعراض آبائكم، أمرهم الله تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لها المنزلة عنده بما التزموا به ثم أخبر عنهم أنهم ما وفوا بذلك.
214
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)
(وإذْ أخذنا ميثاقكم) قيل هو خطاب لمن كان في زمن النبي - ﷺ - من اليهود، والمراد أسلافهم المعاصرون لموسى على سنن التذكيرات السابقة، وهذا شروع في بيان ما فعلوه بالعهد المتعلق بحقوق العباد بعد بيان ما فعلوا بالعهد التعلق بحقوق الله وما يجري مجراها، وقيل لآبائهم وفيه تقريع لهم وتوبيخ (لا تسفكون) أي لا تريقون والسفك الصب وقد تقدم (دماءكم) أي لا يفعل ذلك بعضكم ببعض أو لا تسفكوا دماء غيركم فيسفك دماءكم فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم فهو من باب المجاز بأدق ملابسة، أو لأنه يوجبه قصاصاً فهو من باب إطلاق المسبب على السبب (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره، وقيل لا تفعلوا شيئاً فتخرجوا بسببه من دياركم، والدار المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال، وقال الخليل كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم يكن فيه أبنية، وقيل سميت دار لدورها على سكانها كما يسمى الحائط حائطاً لأحاطته على ما يحويه (ثم أقررتم) من الإقرار أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم أنه حق (وأنتم تشهدون) يا معشر اليهود، الشهادة هنا بالقلوب، وقيل هي بمعنى الحضور أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك، وعلى هذا إسناداً لإقرار إليهم مجاز وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه. (١)
_________
(١) روى السدي عن أشياخه مختصراً....
كانت قريظة يقاتلون في حرب سمير. وإذا أسر الرجل جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك كيف تقاتلون وتفدون فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتلهم. فيقولون لهم: فلم تقاتلونهم فيقولون: نستحي أن يستذل حلفاؤنا، فعيرهم الله بالآية التالية.
215
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
216
(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) أي أنتم هؤلاء الحاضرون المشاهدون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة، وأصل المظاهرة المعاونة مشتقة من الظهر، لأن بعضهم يقوي بعضاً فيكون له كالظهر، ومنه قوله تعالى (وكان الكافر على ربه ظهيراً) وقوله (والملائكة بعد ذلك ظهير) والمعنى تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم، والإثم في الأصل الذنب وجمعه آثام ويطلق على الفعل الذي يستحق به صاحبه الذم واللوم، وقيل هو ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب، والآية تحتمل ما ذكرنا وتحتمل أن يتجوز به عما يوجب الإثم إقامة للسبب مقام المسبب، والعدوان التجاوز في الظلم وهو مصدر كالكفران والغفران، والمشهور ضم فائه وفيه لغة بالكسر.
(وإن يأتوكم) أي الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه (أسارى) جميع أسير وهو من يؤخذ قهراً، فعيل بمعنى مفعول، أو جمع أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح، وبه قرأ حمزة، قال أبو حاتم ولا يجوز أسارى، وقال الزجاج يقال أسارى كما يقال سكارى، قال ابن فارس يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى، فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل وقرأ به الجمهور، والأسير مشتق من السير وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيراً، لأنه يشد وثاقه ثم سمى كل أخيذ أسيراً وإن لم يشد
216
(تفادوهم) أي بالمال وهو استنقاذهم بالشراء وقيل تبادلوهم وهو مفاداة الأسير، والفداء هو ما يؤخذ من الأسير ليفك به أسره، يقال فداه وفاداه أعطى فداءه وأنقذه (وهو) ضمير الشأن ويسمى ضمير القصة ولا يرجع إلا على ما بعده وفائدته الدلالة على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه (محرم عليكم إخراجهم) قال المفسرون كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة أربعة عهود: ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة وفداء أسراهم فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء فوبخهم الله على ذلك بقوله:
(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) أي إن وجدتموهم في يد غيركم فديتموهم وأنتم تقتلونهم بأيديكم فكان إيمانهم الفداء وكفرهم قتل بعضهم بعضاً فذمهم على مناقضة أفعالهم لأنهم أتوا ببعض ما يوجب عليهم وتركوا البعض، وهذا هو مناط التوبيخ حسبما ما يفيده ترتيب النظم الكريم لأن من قضية الإيمان ببعضه الإيمان بالباقي لكون الكل من عند الله داخلاً في الميثاق (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) يا معشر اليهود (إلا خزى في الحياة الدنيا).
الخزي الهوان والعذاب، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً فصاروا في خزي عظيم بما ألصق بهم من الذل والمهانة بالأسر والقتل وضرب الجزية والجلاء، فكان خزي بني قريظة القتل والسبي، وخزي بني النضير الإجلاء والنفي من منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام.
(ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) يعني النار لأنهم جاؤا بذنب شديد ومعصية فظيعة، وهذا إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية والصغار والذلة والمهانة (وما الله بغافل عما تعملون) فيه وعيد وتهديد عظيم.
217
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧)
218
(أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) بأن آثروها عليها لأن الجمع بين لذات الدنيا والآخرة غير ممكن، فمن اشتغل بتحصيل لذات الدنيا فاتته لذات الآخرة، قال قتادة استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة (فلا يخفف عنهم العذاب) أبداً ما داموا (ولا هم ينصرون) أي لا يمنعون من عذاب الله، لا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوهم.
(ولقد آتينا موسى الكتاب) أي أعطيناه التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة، شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديره بالجملة القسمية، لإظهار كمال الاعتناء به (وقفينا من بعده بالرسل) أي أتبعنا، والتقفية الاتباع والإرداف وهو أن يقفو إثره الآخر مأخوذ من القفا وهو مؤخر العتق، والمراد أن الله سبحانه أرسل على إثره رسلاً جعلهم تابعين له وكانت الرسل من بعد موسى إلى زمن عيسى متواترة يظهر بعضهم في إثر بعض والشريعة واحدة، وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده كالشموئيل بن بابل والياس ومنشائل واليسع ويونس وزكريا ويحيي وشعياء وحزقيل وداود وسليمان وأرمياء وهو الخضر وعيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل بعثهم الله وانتخبهم من أمة موسى وأخذ عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد ﷺ وصفة أمته، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث الله عيسى، فجاءهم بشريعة جديدة وغير بعض أحكام التوراة فذلك قوله:
(وآتينا عيسى بن مريم البينات) أي الدلالات الواضحات، وهي الأدلة
218
التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة، وهي الآيات التي وضع على يديه من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام والإخبار بكثير من الغيوب، وما ورد عليه من التوراة والإنجيل الذي أحدث الله إليه، وقيل هي الإنجيل، واسم عيسى بالسريانية أيشوع، ومريم بالسريانية بمعنى الخادم ثم سمي به فلذلك لم ينصرف، وفي لسان العرب هي المرأة التي تكره مخالطة الرجال، قال أبو السعود وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال، ووزنه مفعل إذا لم يثبت فعيل، ذكر السيوطي في التحبير أن مدة ما بين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون سنة.
(وأيدناه بروح القدس) التأييد التقوية، وروح القدس من إضافة الصفة إلى الوصوف أي الروح المقدسة والقدس الطهارة والمقدس المطهر قيل هو جبريل، قاله ابن مسعود أيد الله به عيسى، وسمي جبريل روحاً وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة، وقيل القدس هو الله عز وجل وروحه جبريل وقيل المراد بروح القدس الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى واسم الله الأعظم، وقيل المراد به الإنجيل، وقيل المراد به الروح المنفوخ فيه أيده الله به لا فيه من القوة وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " اللهم أيد حسان بروح القدس " وكان جبريل يسير مع عيسى حيث سافر فلم يفارقه حتى صعد به إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
(أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم) أي بما لا يوافقها ويلائمها، وأصل الهوى الميل إلى الشيء، قال الجوهري وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ (استكبرتم) عن إجابته احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، والسين زيادة للمبالغة (ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) الفاء للتفصيل ومن الفرق المكذبين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ومن الفرق المقتولين يحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام وسائر من قتلوه.
219
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩)
220
(وقالوا قلوبنا غلف) جمع أغلف المراد به هنا الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه فلا يعي ولا يفقه، قال في الكشاف هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) وقيل إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علماً كثيراً فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، فرد الله عليهم ما قالوه فقال (بل لعنهم الله بكفرهم) أي طردهم وأبعده من كل خير، وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد (فقليلاً ما يؤمنون) وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قص الله علينا من عنادهم وعجرفتهم وشدة لجاجهم وبعدهم من إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، قال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، قال الكسائي تقول العرب مررنا بأرض قلما تنبت الكراث والبصل أي لا تنبت شيئاً، وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه " وقال قتادة لا يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين كان
220
أكثر منهم، وقيل فزماناً قليلاً يؤمنون فهو على حد قوله (آمنوا وجه النهار واكفروا آخره).
221
(ولما جاءهم) أي اليهود (كتاب من عند الله) هو القرآن (مصدق لما معهم) من التوراة والإنجيل أنه يخبرهم بما فيهما ويصدقه ولا يخالفه (وكانوا من قبل) مبعث النبي ﷺ (يستفتحون) أي يستنصرون به، والاستفتاح الاستنصار أي كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة، وقيل الاستفتاح هنا بمعنى الفتح أي يخبرونهم بأنه سيبعث ويعرفونهم بذلك (على الذين كفروا) يعني مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا إذا أحزنهم أمر ودهمهم عدو يقولون اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة فكانوا ينصرون وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم مع قتل عاد وإرم (١).
(فلما جاءهم ما عرفوا) يعني محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعرفوا أنه نبي من غير بني إسرائيل (كفروا به) أي جحدوه وأنكروه بغياً وحسداً (فلعنة الله على الكافرين) أي عليهم وضعاً للظاهر موضع المضمر للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم واستعلت عليهم وشملتهم، واللام للعهد أو للجنس ودخلوا فيه دخولاً أولياً.
_________
(١) أورد القرطبي في تفسيره:
قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود.
فعادت يهود بهذه الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم.
قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان فلما بعث النبي ﷺ كفروا فأنزل الله هذه الآيات.
221
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
222
(بئسما اشتروا به أنفسهم) أي بئس الشيء وقال الفراء بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا بئسما باعوا به حظ أنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق (أن يكفروا بما أنزل الله) يعني القرآن (بغياً) أي حسداً، قال الأصمعي البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح إذا فسد، وقيل أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغياً وهو علة لقوله يكفروا قالة القاضي، وقال الزمخشري هو علة لقوله اشتروا وقوله الآتي أن ينزل علة لقوله بغياً أي لأن ينزل، والمعنى أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسداً ومنافسة (أن ينزل الله من فضله) وليس بواجب عليه (على من يشاء من عباده فباؤا) أي فرجعوا وصاروا أحقاء (بغضب على غضب) قيل الغضب الأول لعبادتهم العجل والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل ثم لكفرهم بمحمد ﷺ والقرآن، وقيل لكفرهم بمحمد ﷺ ثم البغي عليه، وقال ابن عباس الأول بتضييعهم التوراة وتبديلها والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك، والتنكير للتعظيم (وللكافرين عذاب مهين) ذو إهانة مأخوذ من الهوان، وقيل وهو ما اقتضى الخلود في النار.
(وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) وهو القرآن وقيل كل كتاب أي صدقوا بالقرآن أو صدقوا بما أنزل الله من الكتب (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) أي
222
التوراة (ويكفرون) الواو للحال (بما وراءه) أي بما سواه من الكتب، قاله الفراء وبما بعده يعني الإنجيل والقرآن قاله أبو عبيده، قال الجوهري وراء بمعنى خلف وقد يكون بمعنى قدام وأمام فهي من الاضداد ومنه قوله تعالى (وكان وراءهم ملك) أي قدامهم، وفي الموازنة للآمدي وراء ليست من الأضداد إنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء، خلفاً كان أو قداماً إذا لم تره ولم تشاهده، فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك ومنه قوله تعالى (وكان وراءهم ملك) أي أنه كان أمامهم وصح ذلك لأنهم لم يعاينوه ولم يشاهدوه انتهى.
قال الخفاجي وهذا لا ينافي قوله البيضاوي ولذلك عد من الأضداد لأن معناه أنه لما أطلق على خلف وقدام وهما ضدان عد ضداً تسمحاً على عادة أهل اللغة، وإن كان موضوعاً لمعنى شامل لهما لأنه مصدر بمعنى الستر فيهما لكنه قد يستعمل بمعنى الساتر وقد يستعمل بمعنى المستور، ولذا قال في القاموس هو من الأضداد أولاً، وقيل أنه مضاف إلى الفاعل مطلقاً لأن الرجل يواري ما خلفه على من هو قدامه وما قدامه على من هو خلفه انتهى.
(وهو الحق) يعني القرآن (مصدقاً لما معهم) يعني التوراة (قل) يا محمد (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء، وهذا تكذيب لهم لأن الإيمان بالتوراة مناف لقتل أشرف خلقه، وهذا الخطاب وإن كان مع الحاضرين من اليهود فالمراد به أسلافهم، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم، وفي الآية دليل على أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها (١).
_________
(١) وتقتلون هنا بمعنى قتلتم، فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره وأنشدوا في ذلك:
223
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
224
(ولقد جاءكم موسى) هذا داخل تحت الأمر السابق أي وقل لهم لقد جاءكم موسى والغرض منه بيان كذبهم، هكذا أفاده البيضاوي وكثير من المفسرين وفيه نظر أشار له أبو السعود (بالبينات) أي بالدلالات الواضحة والمعجزات الظاهرة، والبينات يجوز أن يراد بها التوراة أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) ويجوز أن يراد بها الجميع (ثم اتخذتم العجل من بعده) أي من بعد النظر في تلك البينات أو من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات ليأتي بالتوراة (وأنتم ظالمون) أي حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم عناداً بعد قيام الحجة عليكم، وإنما كرره تبكيتاً لهم وتأكيداً للحجة عليهم.
(وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا) قد تقدم تفسير أخذ الميثاق ورفع الطور، والأمر بالسماع معناه الطاعة والقبول وليس المراد مجرد الأدراك بحاسة السمع ومنه قولهم " سمع الله لمن حمده " أي قبل وأجاب (قالوا سمعنا) أي سمعنا قولك بحاسة السمع (وعصينا) يعني أمرك بقلوبنا أي لا نقبل ما تأمرنا به، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم سمعنا ما هو معهود من تلاعبهم واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى (اسمعوا) على معناه الحقيقي أي السماع بالحاسة ثم أجابوا بقولهم سمعنا أي أدركنا ذلك بأسماعنا عملاً بموجب ما تأمرنا به، ولكنهم لما
224
كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عز وجل بل مراده بالأمر بالسماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا وعصينا.
(وأشربوا في قلوبهم العجل) أي تداخل حبه في قلوبهم ورسخ فيها صورته لفرط شغفهم به وحرصهم على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، والشراب أعماق البدن، وفيه تشبيه بليغ أي جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه، وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يتجاوزها ولا يتغلغل فيها، قال أبو السعود (في قلوبهم) بيان لمكان الإشراب كما في قوله تعالى (إنما يأكلون في بطونهم ناراً) والجملة حال من ضمير قالوا بتقدير " قد " انتهى.
قيل أن موسى أمر أن يبرد العجل ويذرى في النهر وأمرهم أن يشربوا منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهر سحالة الذهب على شاربه وما أبعده، والإشراب مخالطة المائع للجامد ثم اتسع فيه حتى قيل في الألوان نحو اشرب بياضه حمرة.
(بكفرهم) الباء للسببية أي بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك، قيل كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم وتكفرون بما وراءه، فإن هذا الصنع وهو في قولكم سمعنا وعصينا في جواب ما أمرتم به في كتابكم وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاف ما زعمتم، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم نؤمن بما أنزل علينا لا صادقون، فإن زعمتم إن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا فبئس ما يأمركم به إيمانكم بكتابكم، وفي هذا من التهكم ما لا يخفى (إن كنتم مؤمنين) بزعمكم، والمعنى لستم بمؤمنين لأن الإيمان لا يأمر بعبادة العجل والمراد آباؤهم أي فكذلك لستم بمؤمنين بالتوراة وقد كذبتم محمداً والإيمان بها لا يأمر بتكذيبه.
225
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤)
(قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله) أي نعيمها لأن الدار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدنيا وهي للفريقين، وهذا رد عليهم لما ادعوا أنهم يدخلون الجنة ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما تبين به أنهم كاذبون تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان (خالصة) مصدر كالعافية والعاقبة وهو بمعنى الخلوص، والمراد أنه لا يشاركهم فيها غيرهم إذا كانت اللام في قوله (من دون الناس) للجنس أو لا يشاركهم فيها المسلمون إن كانت اللام للعهد، وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) وهو مؤكد له لأن " دون " تستعمل للاختصاص يقال هذا لي دونك أو من دونك أي لا حق لك فيه، وقد تأتي في غير هذا للانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار (فتمنوا الموت) أي فاطلبوه واسألوه، وإنما أمرهم بتمني الموت لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة إذ لا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا (إن كنتم صادقين) في قولكم ودعواكم ولهذا قال سبحانه. (١)
_________
(١) وقد روي عن رسول الله ﷺ قوله:
لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم [مقامهم] في النار وقيل أيضاً:
أن الله صرفهم عن إظهار التمني، وقصرهم عن الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
226
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)
227
(ولن يتمنوه أبداً) هو ظرف زمان يصدق بالماضي والمستقبل تقول ما فعلت أبداً ذكره السمين، وقال هنا " لن " وفي الجمعة " لا " لأن لن أبلغ في النفي من لا ودعواهم هنا بالغة قاطعة فناسب ذكر لن فيها، ودعواهم في الجمعة قاصرة مردودة وهي زعمهم أنهم أولياء الله فناسب ذكر " لا " فيها (بما قدمت أيديهم) أي بما قدمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب بل غير طامع في دخول الجنة فضلاً عن كونها خالصة له مختصة به، وإنما أضاف العمل إلى اليد لأن أكثر جنايات الإنسان تكون خالصة له مختصة به، وإنما أضاف العمل إلى اليد لأن أكثر جنايات الإنسان تكون من يده.
وقيل أن الله سبحانه صرفهم عن التمني ليجعل ذلك آية لنبيه، والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه لا مجرد خطوة بالقلب وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي، وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف والتجري على الله وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت إما لأمر قد علموه أو للصرفة من الله عز وجل، وقد يقال قد ثبت النهي عن النبي في شريعته، ويجاب بأن المراد هنا إلزامهم الحجة وإقامة البرهان على بطلان دعواهم.
عن ابن عباس قال: قال لهم رسول الله إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه
227
فمات مكانه، وعنه لو أن اليهود تمنوا لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار (والله عليم بالظالمين) فيه تخويف وتهديد لهم، وإنما خصهم بالظلم لأنه أعم من الفكر لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافراً فلهذا كان أعم وكانوا أولى به.
228
(ولتجدنهم) اللام للقسم والنون للتأكيد أي والله لتجدنهم يا محمد، وهذا أبلغ من قوله (ولن يتمنوه أبداً) (أحرص الناس على حياة) زيادة على عدم تمني الموت، والحرص أشد الطلب، وتنكير " حياة " للتحقير أي أنهم أحرص الناس على حقير حياة وأقل لبث في الدنيا فكيف بحياة كثيرة ولبث متطاول، وقال في الكشاف أنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، وتبعه في ذلك الرازي والخازن في تفسيريهما (ومن الذين أشركوا)، ووجه ذكرهم بعد ذكر الناس مع كونهم داخلين فيهم للدلالة مزيد حرص المشركين من العرب ومن شابههم من غيرهم، فمن كان أحرص منهم وهم اليهود كان بالغاً في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها.
وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحد الفاضل على حرص المشركين لأنهم يعلمون بما يحل بهم من العذاب في الآخرة بخلاف المشركين من العرب ونحوهم فإنهم لا يقرون بذلك، فكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود، والأول وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه أرجح لعدم استلزامه للتكلف ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود، وقال الرازي إن الثاني أرجح ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم أن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا انتهى، ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحاً قد أفاده قوله تعالى (ولتجدنهم أحرص الناس) ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين أن لا يكونوا من جملة الناس.
(يود أحدهم) بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف وهم المجوس أي يتمنى أحدهم (لو يعمر ألف سنة) أي تعمير ألف سنة، وإنما خص الألف
228
بالذكر لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة، ولأنها نهاية العقود ولأنها تحية المجوس فيما بينهم يقولون " زي هزارسال " أي عش ألف سنة أو ألف نيروز أو ألف مهرجان، فهذه تحيتهم، وهذا كناية عن الكثرة فليس المراد خصوص هذا العدد، والمعنى أن اليهود أحرص من المجوس الذين يقولون ذلك.
(وما هو بمزحزحه) أي بمباعده قيل هو راجع إلى أحدهم كما جرى عليه الجلال، وعلى هذا يكون قوله (أن يعمر) فاعلاً لمزحزحه وقيل هو لما دل عليه يعمر من مصدره أي وما التعمير بمزحزحه ويكون قوله (أن يعمر) بدلاً منه، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد، وقيل هو ضمير الشأن وإليه نحا الفارسي تبعاً للكوفيين، وقيل " ما " تميمة وهو مبتدأ خبره بمزحزحه على زيادة الباء وقيل ما هي الحجازية والضمير اسمها وما بعده خبرها والأول أرجح، وكذلك الثاني والثالث ضعيف جداً لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين، ولهذا يسمونه ضمير الفصل والرابع فيه أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جر كما حكاه ابن عطية عن النحاة، والزحزحة التنحية يقال زحزحته فتزحزح أي نحيته فتنحى وتباعد (من العذاب) " من " بمعنى عن أي النار (أن يعمر) أي لو عمر طول عمره لا ينقذه من العذاب (والله بصير بما تعملون) لا يخفى عليه خافية من أحوالهم.
229
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨)
230
(قل من كان عدواً لجبريل) أي بسبب نزوله بالقرآن المشتمل على سبهم وتكذيبهم، هذه الآية قد أجمع المفسرون على أنها نزلت في اليهود، قال ابن جرير الطبري وأجمع أهل التأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً على اليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا ما كان سبب قولهم ذلك فقال بعضهم إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله ﷺ من أمر نبوته، ثم ذكر روايات في ذلك، وجبريل اسم ملك وهو أعجمي فلذلك لم ينصرف والقول باشتقاقه من جبروت الله بعيد، لأن الاشتقاق لا يكون في الأسماء الأعجمية، وكذا قول من قال أنه مركب تركيب الإضافة أو تركيب مزج نحو حضر موت، وفيه ثلاث عشرة لغة أفصحها وأشهرها بزنة قنديل.
والضمير في قوله (فإنه) يحتمل وجهين الأول أن يكون لله ويكون الضمير في قوله (نَزَّلَهُ) لجبريل أي فإن الله سبحانه نزل جبريل (على قلبك) وفيه ضعف كما أي يفيده قوله (مصدقاً لما بين يديه) الثاني أنه لجبريل والضمير في قوله (نَزَّلَهُ) للقرآن فإن جبريل نزل القرآن على قلبك وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وخزانة الحفظ وبيت الرب، وقد قيل أنه في الدماغ (بإذن الله) أي بعلمه وإرادته وتيسيره وتسهيله. وقال ابن الخطيب تفسير الإذن هنا بالأمر أي بأمر الله أولى من تفسيره بالعلم لأنه حقيقة في الأمر، مجاز في العلم، ويجب الحمل على الحقيقة ما أمكن وإذا كان نزوله بإذن الله فلا وجه للعداوة، وإنما يكون لها وجه لو كان النزول برأيه.
(مصدقاً لما بين يديه) هو التوراة كما سلف أو جميع الكتب المنزلة، وفي
230
هذا دليل على شرف جبريل وارتفاع منزلته وأنه لا وجه لمعاداة اليهود له حيث كان منه ما ذكر من تنزيل الكتاب على قلبك أو تنزيل الله له على قلبك، وهذا وجه الربط بين الشرط والجواب، أي من كان معادياً لجبريل منهم فلا وجه لمعاداته له فإنه لم يصدر منه إلا ما يوجب المحبة دون العداوة، أو من كان معادياً له فإن سبب معاداته أنه وقع منه ما يكرهونه من التنزيل، وليس ذلك بذنب له وإن كرهوه فإن هذه الكراهة منهم له بهذا السبب ظلم وعدوان، لأن هذا الكتاب الذي نزل به هو مصدق لكتابهم وموافق له (وهدى وبشرى للمؤمنين) أي في القرآن هداية للمؤمنين إلى الأعمال الصالحة التي يترتب عليها الثواب وبشرى لهم بثوابها إذا أتوا بها، وعذاب وشدة على الكافرين.
ثم انه اتبع سبحانه هذا الكلام بجملة مشتملة على شرط وجزاء تتضمن الذم لمن عادى جبريل بذلك السبب والوعيد الشديد له فقال
231
(من كان عدو الله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل) العداوة من العبد هي صدور المعاصي منه لله تعالى والبغض لأوليائه، والعداوة من الله للعبد هي تعذيبه بذنبه وعدم التجاوز عنه والمغفرة له، قال الكرماني قدم الملائكة على الرسل كما قدم الله على الجميع لأن عداوة الرسل بسبب نزول الكتب، ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله، فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما والدلالة على فضلهما، وأنهما وإن كانا من الملائكة فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما ذكره صاحب الكشاف، وقرره علماء البيان.
وفي جبريل ثلاث عشرة لغة ذكرها ابن جرير الطبري وغيره، وفي ميكائيل ست لغات، وهما اسمان أعجميان قيل معناهما عبد الله لأن جبروميك بالسريانية هو العبد، والإيل هو الله، والعرب إذا نطقت بالعجمى تساهلت فيه، وقال ابن جني خلطت فيه، والأولى ما ذكرناه (فإن الله عدو للكافرين) فأما عداوتهم لله فإنها لا تضره ولا تؤثر، وعداوته لهم تؤديهم إلى العذاب الأليم الدائم الذي لا ضرر أعظم منه.
231
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)
232
(ولقد أنزلنا إليك) يا محمد (آيات بينات) أي واضحات دالة على معانيها وعلى كونها من عند الله مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام، أو علامات دالة على نبوتك (وما يكفر بها) أي ما يجحد بهذه الآيات إلا الفاسقون - أي الخارجون عن طاعتنا وما أمروا به، والظاهر أن المراد جنس الفاسقين ويحتمل أن يراد اليهود لأن الكلام معهم، والأول أولى لأنهم داخلون فيه دخولاً أولوياً.
(أو كلما عاهدوا عهداً) استفهام إنكار (نبذه فريق) أصل النبذ الطرح والإلقاء ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء، وهو حقيقة في الإجرام، وإسناده إلى العهد مجاز (منهم) يعني اليهود (بل أكثرهم لا يؤمنون) يعني كفر فريق منهم بنقض العهد وفريق منهم بالجحد للحق، والمعنى على إنكار اللياقة والمناسبة أي لا ينبغي منهم نبذ العهد كلما عقدوه.
(ولما جاءهم رسول من عند الله) يعني محمداً - ﷺ -، هذا أشنع عليهم مما قبله (مصدق لما معهم) أي بصحة التوراة وأن التوراة بشرت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان مجرد مبعثه مصدقاً للتوراة فاتفقت التوراة والقرآن (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) أي اليهود (كتاب الله) أي التوراة قال السدي لما جاءهم صلى الله عليه وآله وسلم
232
عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، أو لأنهم لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة الإيمان به وتصديقه واتباعه، وبين لهم صفته، كان ذلك منهم نبذاً للتوراة ونقضاً لها ورفضاً لما فيها، ويجوز أن يراد بالكتاب هنا القرآن أي لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول، والأول أولى، لأن النبذ لا يكون إلا بعد التمسك والقبول، ولم يتمسكوا بالقرآن (١).
(وراء ظهورهم) هذا مثل يضرب لمن يستخف بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب اجعل هذا خلف ظهرك ودبر أذنك وتحت قدمك أي اتركه وأعرض عنه.
(كأنهم لا يعلمون) تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئاً مع كونهم يعلمون علماً يقيناً من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبي، ولكنهم لما لم يعلموا بالعلم بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم كانوا بمنزلة من لا يعلم، وهم علماء اليهود تجاهلوا، وحملهم على ذلك عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا قليلاً.
_________
(١) قال ابن عباس: رضي الله عنه:
هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء تعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها فأنزل الله هذه الآية ولقد أنزلنا إليك....
233
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
(واتبعوا) عطف على نبذ (ما تتلو الشياطين على ملك سليمان) يعني اليهود والتلاوة القراءة، قال الزجاج على عهد سليمان، وقيل المعنى في زمن ملكه وقيل في قصصه وصفاته وأخباره، قال الفراء تصلح " على وفى " في هذا الموضع والأول أظهر وقيل يضمن تتلو معنى تتقول أي تتقول على ملك سليمان وهذا أولى، فإن التجوز في الأفعال أولى من التجوز في الحروف، وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان وأنه يستجيزه ويقول به فرد الله ذلك عليهم وقال (وما كفر سليمان) يعني بالسحر ولم يعمل به، وسليمان علم أعجمي فلذلك لم ينصرف، وقال أبو البقاء فيه العجمة والتعريف والألف والنون وهذا إنما يثبت إذا دخله الاشتقاق والتصريف، وقد تقدم أنهما لا يدخلان في الأسماء الأعجمية، وفيه تنزيه سليمان عن السحر، ولم يتقدم أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر، لأن السحر يوجب ذلك وقالوا إن سليمان ملك الناس بالسحر، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال (ولكن الشياطين كفروا) أي بتعليمهم قرأ ابن عامر والكوفيون سوى عاصم ولكن بالتخفيف ورفع الشياطين والباقون بالتشديد والنصب.
عن ابن عباس قال إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب معها ألف كذبة فأشربتها قلوب الناس واتخذوها
234
دواوين فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود فأخذها فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع، قالوا نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر، فقال (واتبعوا) الآية، أخرجه الحاكم وصححه.
وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل به، فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبون حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم (واتبعوا) الآية.
(يعلمون الناس السحر) وهو ما يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي يحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير، وهو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وقيل أصعله الخفاء فإن الساحر يفعله خفية، وقيل أصله الصرف لأن السحر مصروف عن جهته، وقيل أصله الاستمالة لأن من سحرك استمالك، وقال الجوهري السحر الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، والساحر العالم.
وقال الغزالي السحر نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الخواص هيكل على صورة الشخص المسحور، ويترصد له وقت مخصوص من المطالع وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الإستغاثة بالشياطين، ، وتحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور انتهى، وقد ذكر أبو السعود أنواعاً من السحر فليرجع إليه.
وقد اختلف هل له حقيقة أم لا فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا
235
أصل له ولا حقيقة، وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحر، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ثم شفاه الله سبحانه، والكلام في ذلك يطول، وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السحر من الكبائر وثناه بالشرك كما في الصحيحين.
(و) أي ويعلمون الناس (ما أنزل على الملكين) فهو معطوف على السحر، والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو هو نوع أقوى منه، أو على ما تتلو وما بينهما اعتراض أي (واتبعوا ما أنزل) الخ قال السدي هذا سحر آخر خاصموه به فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الأنس فصنع وعمل به كان سحراً (ببابل) أي في بابل وهو اسم أرض أو بلد في سواد العراق أو أرض الكوفة، قاله ابن مسعود وقيل جبل دماويد، وقيل نهاوند، وقيل نصيبين، وقيل المغرب ومنع الصرف للعجمة والعلمية أو للتأنيث والعلمية، سميت بذلك لتبلبل ألسنة الخلائق بها، والبلبلة التفرقة، وقيل أن " ما " في قوله (وما أنزل على الملكين) نافية، والواو عاطفة على قوله (وما كفر سليمان) وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل.
(هاروت وماروت) فهاروت وماروت بدل من الشياطين على قراءة التشديد والنصب في قوله (ولكن الشياطين كفروا) ذكر ابن جرير، وأما على قراءة التخفيف والرفع فهو منصوب على الذم وهو بدل بعض، ومن فسرهما بقبيلتين من الجن يكون عنده بدل كل.
وقال ابن جرير فإن قال لنا القائل وكيف وجه تقديم ذلك، قيل تقديمه أن يقال واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن
236
داود، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه ﷺ أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وإن الذي يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم انتهى، يعني أنه بدل من الناس أي يعلمان الناس خصوصاً هاروت وماروت.
وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى معنى هذا الكلام ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ما لفظه: هذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم وأكثر ما يتعاطاه من الأنس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله (ومن شر النفاثات في العقد).
ثم قال: إن قيل كيف يكون اثنان بدلاً من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه! ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع أو أنهما خصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن " الملكين " بكسر اللام، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفه تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنة لعباده على ألسن ملائكته، وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان (إنما نحن فتنة) ويؤيده ما قال أبو السعود أن مقام وصف الشياطين بالكفر وإضلال الناس مما لا يلائمه وصف رؤسائهم بما ذكر من النهي عن الكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلام، فإن الابدال في حكم تنحية المبدل منه. وقال هاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما، وقرىء بالرفع على هما هاروت وماروت انتهى المراد منه.
قال ابن جرير: وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان، وكان عبد الرحمن بن أبزي
237
يقرؤها (وما أنزل على الملكين داود وسليمان) وقال الضحاك هما علجان من أهل بابل، وهاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان وهما سريانيان، ويجمعان على هواريت ومواريت وهوارية وموارية، وليس من زعم اشتقاقهما من الهرت والمرت وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما، ولو كانا مشتقين كما ذكر لانصرفا.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشرفت الملائكة على الدنيا فرأت بني آدام يعصون فقالت يارب ما أجهل هؤلاء وما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك فقال الله لو كنتم في مسلاخهم لعصيتموني، قالوا كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال اختاروا منكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت، ثم أهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات بني آدم، ومثلت لهما امرأة فما عصما حتى واقعها المعصية، فقال الله اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فنظر أحدهما لصاحبه قال ما تقول، قال أقول إن عذاب الدنيا منقطع، وإن عذاب الآخرة لا ينقطع، فاختار عذاب الدنيا فهما اللذان ذكر الله في كتابه (وما أنزل على الملكين) الآية، وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ وفي بعضها أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار كما أخرجه جماعة من أهل الأثر.
وأخرج الحاكم (١) وصححه عن علي بن أبي طالب أن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة والعجم " أناهيد " قال ابن كثير وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جداً. وعن ابن عباس الزهرة امرأة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهذه هي الكوكبة الحمراء يعني الزهرة، وقيل وكانت من لخم أو من أهل فارس ملكة في بلدها، وكانت من أجمل النساء فمسخها الله كوكبا، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه، فذكر قصة طويلة وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر وزنيا
_________
(١) المستدرك ٢/ ٢٦٥.
238
بالمرأة وقتلاها، وعن ابن مسعود قال أنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة وأنهما وقعا في الخطيئة.
وقد روي في هذا الباب قصص طويلة، وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدر المنثور، وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها ثم قال وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني اسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن على ما أراده الله تعالى، والله تعالى أعلم انتهى.
وقال أبو السعود هما معذبان ببابل قيل معلقان بشعورهما، وقيل منكوسان يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة، وهذا مما لا تعويل عليه، لما أن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل انتهى، ومثله في الخازن ونحوه في المظهري.
وهذا القول يقتضي أن هذه القصة غير صحيحة وأنها لم تثبت بنقل معتبر، وتبع أبو السعود في ذلك البيضاوي التابع في ذلك للفخر الرازي والسعد التفتازاني وغيرهما ممن أطال في ردها. لكن قال الشيخ زكريا الأنصاري: الحق ما أفاده شيخنا حافظ عصره الشهاب ابن حجر أن لها طرقاً تفيد العلم بصحتها فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم، وموقوفة على علي وابن مسعود وابن عباس، وغيرهم بأسانيد صحيحة، قال الخفاجي قال المحدثون وجميع رجاله غير موثوق بهم، لكن قال خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر أن له طرقاً كثيرة جمعتها في جزء مفرد يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخارجها. وقال بعضهم بلغت طرقه نيفاً وعشرين انتهى.
(قلت والبيضاوي لما استبعد هذا المنقول ولم يطلع عليه قال إنه محكي عن اليهود، ولعله من رموز الأولين، ذكره الخطيب.)
239
وكذا أهل الكلام طعنوا في هذه القصة وعدوها من المحالات لمسخ الإنسان كوكباً كما بينوه في كتبهم. وحاول البيضاوي التوفيق بأنها تمثيلات كقصة ابسال وسلامان وحرير مقطان وغير ذلك مما وضعه المتقدمون والمتأخرون إشارة إلى أن القوى لو ركبت في تلك لعصت. وأسماء الله ومناجاته تلحق السفلى بالعلوى ونحوه.
هذا؛ وقد أطنب الشيخ ابن حجر المكي في جواب الرازي واستبعاده لهذه القصة في كتابه الزواجر بما لا مزيد عليه.
وقال القرطبي بعد سياق بعض تلك، قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء؛ فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه؛ وسفراؤه إلى رسله (ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) ثم ذكر ما معناه أن العقل يجوز وقوع ذلك منهم لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح انتهى.
وأقول هذا مجرد استبعاد وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع تراه ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات؛ وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك؛ فعلى فرض وجود هذه الأصول فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة، ولا وجه لمنع التخصيص، وقد كان إبليس بتلك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين (١)
(وما يعلمان من أحد) أي هاروت وماروت أو الرجلان والأول أولى؛ قال الزجاج تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه؛ قال وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر؛ ومعناه أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم لا تفعلوا كذا، وقد قيل أن قوله (ويعلمان) من الإعلام لا من التعليم وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي وهو كثير في أشعارهم (حتى يقولا) أي إلا أن ينصحاه أولا أو أن يقولا.
_________
(١) قوله: كان إبليس بتلك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين دعوى لا دليل عليها.
240
(إنما نحن فتنة) هو على ظاهره أي ابتلاء واختبار من الله لعباده ومحنة، وقيل إنه استهزاء منهما لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحقق ضلاله والأول أولى، والمعنى إنما نحن ابتلاء فمن عمل بما تعلم منا واعتقد حقيته كفر، ومن توقى عن العمل به واتخذه ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله بقي على الإيمان، فلا تكفر باعتقاد حقيته وجواز العمل به قاله أبو السعود.
قال الخفاجي وفيه إشارة إلى أن الاجتناب واجب احتياطاً وكما لا يحرم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبهة وإن كان أغلب أحواله التحريم، كذلك تعلم السحر إن فرض فشوه في صقع وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق، وهو لا ينافي إطلاق القول بالتحريم فاعرفه، انتهى.
قلت أخرج البزار (بإسناد صحيح والحاكم وصححه عن ابن مسعود " من أتى كاهناً أو ساحراً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له، ومن عقد عقدة ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من تعلم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً كان آخر عهده من الله ".
وفي قولهما (فلا تكفر) أبلغ إنذار وأعظم تحذير أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافراً فلا تكفر، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد، وبين من تعلمه ليكون ساحراً، ومن تعلمه ليقدر على دفعه، وبه قال أحمد.
(فيتعلمون منهما) يعني من الملكين (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) أي سحراً سبباً في التفريق بينهما كالتمويه والتخييل والنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده البغضاء والنشوز والخلاف بين الزوجين ابتلاء من الله تعالى، وفي إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سبباً لذلك دليل على أن للسحر تأثيراً في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد، وقد ذهب
241
طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر وبين ما هو الغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره، وقالت طائفة أخرى أن ذلك خرج مخرج الأغلب وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه، وقيل ليس للسحر تأثيراً في نفسه أصلاً لقوله تعالى.
(وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) والحق أنه لا تنافي بين القولين المذكورين، فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثير في نفسه وحقيقة ثابتة، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال.
(ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) يعني السحر لأنهم يقصدون به العمل أو لأن العلم يجر إلى العمل غالباً، وفيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض، وخسران صرف، وشر بحت، قال أبو السعود فيه أن الاجتناب عما لا تؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية، وإن قال من قال:
عرفت الشر لا للشر... ولكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر... من الناس يقع فيه
(ولقد علموا) يعني اليهود (لمن اشتراه) أي اختار السحر، والمراد بالشراء هنا الاستبدال أي من استبدل ما يتلو الشياطين (ما له في الآخرة من خلاق) أي من نصيب كما عند أهل اللغة، كذا قال الزجاج (ولبئس ما شروا به أنفسهم) أي باعوها وقد أثبت لهم العلم في قوله ولقد علموا، ونفاه عنهم في قوله (لو كانوا يعلمون) واختلفوا في توجيه ذلك فقال قطرب والأخفش أن المراد بقوله (ولقد علموا) الشياطين والمراد بقوله (لو كانوا يعلمون) الأنس وقال الزجاج أن الأول للملكين وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم الزيدان قاموا، والثاني المراد به علماء اليهود، وإنما قال لو كانوا يعلمون لأنهم تركوا العمل بعلمهم.
242
وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
243
(ولو أنهم آمنوا) أي اليهود بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من القرآن (واتقوا) ما وقعوا فيه من السحر والكفر (لمثوبة من عند الله) أي لكان ثواب الله إياهم (خير) لهم يعني هذا الثواب، والمثوبة وزنها مفعولة قاله الواحدي أو مفعلة كمشورة ومتربة وكان من حقها الإعلال فيقال مثابة كمقالة إلا أنهم صححوها، قاله السمين (لو كانوا يعلمون) ذلك هو إما للدلالة على أنه لا علم لهم أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم.
(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) أي راقبنا واحفظنا ويجوز أن يكون من أعرنا سمعك أي فرغه لكلامنا، ووجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سبا قيل إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت، وقيل غير ذلك فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم راعنا طلبا منه أن يراعيهم من المراعاة اغتنموا الفرصة وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي، مبطنين أنهم يقصدون السب الذي هو معنى هذا اللفظ في لغتهم، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها هذا المعنى المفيد للشتم سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة، وقطعاً لمادة المفسدة والتطرق إليه.
ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبي ﷺ بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض فقال (وقولوا انظرنا) أي أقبل علينا وانظر إلينا وهو من
243
باب الحذف والإيصال، وقيل معناه انتظرنا وتأن بنا، وقرأ الأعمش أنظرنا بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك، وأمرهم بعد هذا النهي والأمر بأمر آخر وهو قوله.
(واسمعوا) أي اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه، معناه أطيعوا الله في ترك خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك اللفظ وخاطبوه بما أمرتم به، ولا تخاطبوه بما يسر اليهود، بل تخيروا لخطابه صلى الله عليه وآله وسلم من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أدقها، ويحتمل أن يكون معناه اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة.
قال ابن جرير والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه ﷺ راعنا لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه ﷺ نظير الذي ذكر عن النبي ﷺ أنه قال " لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي " وما أشبه ذلك، ثم توعد اليهود بقوله (وللكافرين عذاب أليم) ويحتمل أن يكون وعيداً شاملاً لجنس الكفرة.
244
(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين حيث لا يودون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه، وقد قيل بأن الخير الوحي وقيل غير ذلك والظاهر أنهم لا يودون أن ينزل على المسلمين أي خير كان فهو لا يختص بنوع معين كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي، وتأكيد العموم بدخول " من " المزيدة عليها وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص.
(والله يختص برحمته) أي يميز (من يشاء) تمييزه والرحمة قيل هي القرآن والإسلام، وقيل النبوة وقيل جنس الرحمة من غير تعيين كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى (والله ذو الفضل العظيم) فكيف لا يودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده وكل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه منه ابتداء وتفضلاً عليهم من غير استحقاق أحد منهم لذلك، بل له الفضل والمنة على خلقه.
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
(ما ننسخ من آية) كلام مستأنف قاله أبو السعود، وقال البهنسي لم يعطف لشدة ارتباطه بما قبله، والنسخ في كلام العرب على وجهين.
أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً أعني من اللوح المحفوظ، ولا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ومنه إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي نأمر بنسخه.
الثاني الإبطال والإزالة وهو المقصود هنا، وهذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة أحدهما إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله (ما ننسخ من آية) وفي صحيح مسلم " لم تكن نبوة قط إلا تناسخت " أي تحولت من حال إلى حال (والثاني) إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيله، وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله ﷺ فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب ومنه ما روي عن أبي وعائشة أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول.
قال ابن فارس النسخ الكتاب والنسخ أن يزيل أمراً أكان من قبل يعمل به ثم ينسخه بحادث غيره كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى وكل شيء خلف شيئاً فقد انتسخه، يقال نسخ الشيب الشباب، وتناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم وكذا تناسخ الأزمنة والقرون.
وقال ابن جرير معنى ما ننسخ ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراماً والحرام حلالاً والمباح محظوراً والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأما الإخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب
245
وهو نقله من نسخة إلى أخرى فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره، وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة انتهى.
وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن فلا نطول بذكره بل نحيل من أراد الاستيفاء عليه على كتابنا [حصول المأمول من علم الأصول] فليرجع إليه، وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً وخلفاً (١) وهو جائز عقلاً وواقع سمعاً، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتد بخلافه ولا بؤبه بقوله، وقد اشتهر عن اليهود أقمأهم الله إنكاره وهم محجوجون بما في التوراة فإن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلعت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه، ثم قد حرم على موسى وعلى بني اسرائيل كثيراً من الحيوان.
وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج الأخ من الأخت وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه ثم قال الله له لا تذبحه وأن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وحرم عليهم العمل يوم السبت ولم يحرمه على من كان قبلهم ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم، والقرآن الكريم نسخ جميع الشرائع والكتب القديمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما جميعاً، وإنساؤها إذهابها من القلوب.
(أو ننسأها) بفتح النون والسين والهمز ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ من قولهم نسأت هذا الأمر إذا أخرته، قال ابن فارس ويقولون نسأ الله في أجلك وأنسأ الله أجلك، وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا ونسأتهم أنا أي أخرتهم، وقيل معناه نؤخر نسخ لفظها أي نتركه في أم الكتاب فلا يكون، وقيل
_________
(١) وللشيخ زكريا علي يوسف كتاب سماه (الإيمان وآثاره) ذكر فيه فصلاً طويلاً رد فيه على المجددين الذين أنكروا النسخ في القرآن بغير دليل أو برهان.
246
نذهبها عنكم لا تقرأ ولا تذكر، وقرىء ننسها بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها.
ومنه قوله تعالى (نسوا الله فنسيهم) أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها يقال أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته، وقال الزجاج أن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك لا يقال أنسى بمعنى ترك، قال وما روي عن ابن عباس أو ننسها أي نتركها لا نبدلها فلا يصح.
والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أو ننسها نبح لكم تركها من نسى إذا ترك ثم تعديه، وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس " أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى قال " كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة براءة فانسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلا التراب " وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها سبح لله ما في السموات فأنسيناها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلوا عنها يوم القيامة، وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر.
(نأت بخير منها أو مثلها) أي نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع في الآجل، وقد يستويان فتحصل المماثلة، وقال الشافعي الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة وتابعه على ذلك طائفة، واستدل بهذه الآية وليس بصحيح، والحق جواز نسخ الكتاب بالسنة، والكلام في هذا معروف في أصول الفقه.
247
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧)
(ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) هذه الآية تفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد هو وأمته وفيه دليل على جواز النسخ والاستفهام للتقرير وهكذا قوله (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) أي له التصرف فيهما بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها، وشرعها لهم، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص، وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه فيه تكذيب لليهود المنكرين للنسخ.
(وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) بينهما عموم وخصوص من وجه فإن الولي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور، وفيه إشارة إلى تعلق الخطابين السابقين بالأمة أيضاً، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال.
وقد ذهب جمهور أهل الأصول إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وخالف في ذلك الشافعي وتابعه على ذلك طائفة، واختلف المانعون فمنهم من منعه عقلاً كالحرث المحاسبي وعبد الله بن سعيد القلانسي، وهو رواية عن أحمد ابن حنبل، ومنهم من منعه سمعاً كالشيخ أبي حامد الإسفرايني، احتج الجمهور بأن التكليف بمتواتر السنة كالتكليف بالآية القرآنية وبأن ذلك قد وقع في هذه الشريعة المطهرة، واحتج الآخرون بقوله تعالى (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وتقرير الدلالة من وجهين.
248
إحدهما أن ما ينسخ به القرآن يجب أن يكون خيراً أو مثلاً، والسنة ليست كذلك.
ثانيهما أنه قال (نأت) والضمير لله سبحانه، فيجب أن لا ينسخ إلا بما يأتي به الله وهو القرآن.
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد بقوله نأت بخير منها أو مثلها أي بحكم خير منها أو مثلها في حق المكلف باعتبار الثواب وهذا صحيح، ولا يخالفه الضمير في قوله (نأت) فإن القرآن والسنة جميعاً من عند الله سبحانه، ْقال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) والكلام في المسألة طويل وهو مدون في الأصول بما لا يتسع المقام لبسطه، فالحق الجواز.
وأما نسخ الكتاب بما صح من آحاد السنة فقد منعه الجمهور لأن الآحاد لا تفيد القطع والكتاب مقطوع به، وذهب جماعة من متأخري الحنفية إلى جواز نسخ القرآن بالخبر المشهور، وقال في جمع الجوامع أن نسخ القرآن بالآحاد جائز غير واقع، وقال أبو بكر الباقلاني والغزالي وأبو عبد الله البصري أنه جائز في عصره صلى الله عليه وآله وسلم لا بعده، وذهب جمع من الظاهرية إلى جوازه ووقوعه.
وأقول أن النزاع إن كان في قطعية المتن فلا شك أن القرآن كذلك وما صح من آحاد السنة ليس بقطع، وإن النزاع في الدلالة فإن كان القرآن المنسوخ عموماً أو محتملاً فدلالته ظنية كدلالة ما صح من الآحاد، والذي يصلح أن يكون محلاً للنزاع هنا هو الثاني لا الأول، على أنه قد وقع نسخ القطعي بالظني فإن استقبال بيت المقدس ثبت ثبوتاً قطيعاً متواتراً، ثم أن أهل قباء استداروا إلى الكعبة وهم في الصلاة بخبر واحد، ولم ينكر عليهم ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك ثبت نسخ الوصية للوالدين والأقربين
249
بقوله صلى الله عليه وآله وسلم " لا وصية لوارث " وكذلك نسخ قوله تعالى (لا يحل لك النساء من بعد) بقول عائشة رضي الله تعالى عنها ما توفي رسول الله - ﷺ - حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما يشاء، ونسخ قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرماً) الآية بنهيه - ﷺ - عن أكل كل ذي ناب، والكلام في هذا يطول ومحله مطولات كتب الأصول، فإن استيفاء الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى رسالة مستقلة والله أعلم.
وعدة الآيات المنسوخات قد بلغها بعضهم إلى خمسمائة آية لكن قال الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي وعلى ما حررنا لا يتعين النسخ إلا في خمس آيات انتهى، وعندي أن في هذه الخمس نظراً أيضاً كما بينته في دليل الطالب.
وأما الأحاديث المنسوخة فعدتها عند ابن الجوزي أحد وعشرون حديثاً، وعند الحافظ ابن القيم أقل من عشرة أحاديث كما أفاد في أعلام الموقعين، وقال النسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة ولا شطرها انتهى (١).
وقال الزرقاني في شرح الموطأ: مذهب المحدثين والأصوليين والفقهاء أنه متى أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع انتهى، وفي الدراسات لمحمد معين: قد تكلمت على بطلان النسخ الاجتهادي في أجزاء مفردة سميتها غاية الفسخ لمسئلة النسخ، وهو الأكثر في دعاوى المتأخرين لا سيما الفقهاء الحنفيين، والنسخ المعول عليه عند المتقدمين هو المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما غيره فتعدية وتجاوز من التعبد إلى التشريع انتهى وتفصيل ذلك ذكرناه في إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ.
_________
(١) وقد كثرت المصنفات حول الناسخ والمنسوخ منها.
- فيضة البيان في ناسخ ومنسوخ القرآن.
- أخبار أهل الرسوخ لابن الجوزي.
- الناسخ والمنسوخ من كتاب الله وغيرها فليرجع إليها،
250
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
(أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) أم بمعنى بل وفي هذا توبيخ وتقريع أي سؤالاً مثل ما سئل موسى حيث سألوه أن يريهم الله جهرة إلى غير ذلك، وسألوا محمداً - ﷺ - أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، ورُويت في سبب نزول هذه الآية روايات لا نطول بذكرها (١).
(ومن يتبدل الكفر بالإيمان) أي يستبدل ويأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها والباء للعوض كما استظهره السفاقسي لا للسبب، كما قال به أبو البقاء، قيل خطاب للمؤمنين أعلمهم أن اليهود أهل غش وحسد.
(فقد ضل سواء السبيل) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الطريق المستوي أي المعتدل أي الحق، ومعنى ضل أخطأ، وسواء هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة ومنه قوله تعالى:
(وفي سواء الجحيم) وقال الفراء: السواء القصد أي ذهب عن قصد الطريق وسمته أي طريق طاعة الله.
_________
(١) أن رجلاً قال: يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال النبي، - ﷺ -: " اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله، خير مما أعطى بني اسرائيل، كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة؛ وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فقد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني اسرائيل. فقال: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه [ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً]) النساء: ١١٠. وقال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن " فنزلت هذه الآية. قاله أبو العالية.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
(ود كثير من أهل الكتاب) أي تمنى كثير من اليهود، فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم وردهم عن الإسلام والتشكيك عليهم في دينهم (لو) مصدرية.
(لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) يحتمل أن يتعلق بقوله ود أي ودوا ذلك من عند أنفسهم ويحتمل أن يتعلق بقوله حسداً أي حسداً ناشئاً من عند أنفسهم وهو علة لقوله ود، والحسد تمني زوال نعمة الإنسان.
(من بعد ما تبين لهم الحق) يعني في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودينه حق لا يشكون فيه فكفروا به بغياً وحسداً.
(فاعفوا واصفحوا) والعفو ترك المؤاخذة بالذنب والصفح إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه وقد ضربت عنه صفحاً إذا أعرضت عنه، وقيل هما متقاربان، والعطف على هذا للتأكيد وحسنه تغاير اللفظين، وفيه الترغيب في ذلك والإرشاد إليه، وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال قاله أبو عبيدة (حتى يأتي الله بأمره) أي افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاؤه وما قد قضى به في سابق علمه وهو قتل من قتل منهم وإجلاء من أجلى وضرب الجزية على من ضربت عليه، والسلام على من أسلم (إن الله على كل شيء قدير) فيه وعيد وتهديد لهم عظيم.
252
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١)
253
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير) حث من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم وينصرهم على المخالفين لهم (تجدوه عند الله) يعني ثوابه وأجره حتى التمرة واللقمة مثل أحد (إن الله بما تعملون بصير) لا يخفى عليه شيء من قليل الأعمال وكثيرها وفيه ترغيب في الطاعات وأعمال البر، وزجر عن المعاصي.
(وقالوا) أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) قال الفراء: يجوز أن يكون هوداً بمعنى يهودياً وأن يكون جمع هائد، والنصارى جمع نصران أو نصرى والمراد يهود المدينة ونصارى نجران وقدمت اليهود على النصارى لفظاً لتقدمهم زماناً، قيل في هذا الكلام حذف وأصله وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً هكذا قال كثير من المفسرين وسبقهم إلى ذلك بعض السلف، وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود والنصارى وقع منهم هذا القول وأنهم يختصون بذلك دون غيرهم، ووجه القول بأن في الكلام حذفاً ما هو معلوم من أن كل طائفة من هاتين الطائفتين تضلل الأخرى، وتنفي عنها أنها على شيء من الدين فضلاً عن دخول الجنة كما في هذا الموضع فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت (ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء).
(تلك أمانيهم) أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله بغير حق،
253
والأماني جمع أمنية قد تقدم تفسيرها، والإشارة بقوله تلك إلى ما تقدم لهم من الأماني التي آخرها أنه لا يدخل الجنة غيرهم وقيل أن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة، والتقدير مثال تلك الأمنية أمانيهم على حذف المضاف ليطابق أمانيهم (١).
(قل هاتوا) يقال للمفرد المذكر هات وللمؤنث هاتي، وهو اسم فعل بمعنى احضر، وقيل اسم صوت بمعنى ها التي بمعنى احضر وقيل فعل أمر، وهذا هو الصحيح (برهانكم) أي حجتكم على دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً أو نصرانياً دون غيرهم، والبرهان الدليل الذي يحصل عنده اليقين، قال ابن جرير: طلب الدليل هنا يقتضي إثبات النظر، ويرد على من ينفيه، والبرهان مشتق من البره وهو القطع ومنه برهة من الزمان أي القطعة منه، وقيل نونه أصلية لثبوتها في برهن يبرهن برهنة، والبرهنة البيان ووزنه فعلل لا فعلن (إن كنتم صادقين) أي في تلك الأماني المجردة والدعاوى الباطلة، قال الرازي دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفياً وإثباتاً فلابد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد، انتهى.
_________
(١) قال ابن عباس: اختصم يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي - ﷺ -، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى؛ فقال الله تعالى. (تلك أمانيهم).
254
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
ثم رد عليهم فقال (بلى) وهو إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة أي ليس كما تقولون بل يدخلها (من أسلم وجهه لله) أي استسلم، وقيل أخلص وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع السجود، ومجمع الحواس والمشاعر الظاهرة وفيه يظهر العز والذل، وقيل أن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء وإن المعنى هنا الوجه وغيره، وقيل المراد بالوجه هنا المقصد أي من أخلص مقصده، ومجموع الشرط والجزاء رد على أهل الكتاب وإبطال لتلك الدعوى (وهو محسن) موحد أي متبع في عمله لله (فله أجره عند ربه) أي ثواب عمله وهو الجنة (ولا خوف عليهم) أي في الآخرة وأما في الدنيا فالمؤمنون أشد خوفاً وحزناً من غيرهم لأجل خوفهم من العاقبة (ولا هم يحزنون) على ما فاتهم من الدنيا أو للموت.
(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) قاله رافع بن حرملة (وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه أثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم، قيل نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران تناظروا عند النبي - ﷺ - وارتفعت أصواتهم وقالوا هذا القول وفيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى، ويتضمن ذلك إثباته لنفسها تحجراً لرحمة الله سبحانه، قال في الكشاف: أن الشيء هو الذي يصح ويعتد به قال: وهذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء وإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ في ترك الإعتداد به إلى ما ليس بعده،
255
وهكذا قولهم أقل من لا شيء.
(وهم يتلون الكتاب) أي التوراة والإنجيل، وليس فيهما هذا الاختلاف فكان حق كل منهم أن يعترف بحقية دين صاحبه حسبما ينطق به كتابه، فإن كتب الله تعالى متصادقة وقيل المراد جنس الكتاب وفي هذا أعظم توبيخ وأشد تقريع لأن الوقوع في الدعاوى الباطلة والتكلم بما ليس عليه برهان، هو وإن كان قبيحاً على الإطلاق لكنه من أهل العلم والدراسة لكتب الله أشد قبحاً وأفظع جرماً وأعظم ذنباً.
(كذلك) أي مثل ذلك الذي سمعت به بعينه لا قولاً مغايراً له.
(قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) المراد بهم كفار العرب الذين لا كتاب لهم قالوا مثل مقالة اليهود اقتداء بهم لأنهم جهلة لا يقدرون على غير التقليد لمن يعتقدون أنه من أهل العلم، وقيل المراد بهم طائفة من اليهود والنصارى وهم الذين لا علم عندهم، وقال عطاء هم أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قالوا في أنبيائهم أنهم ليسوا على شيء.
(فالله يحكم بينهم يوم القيامة) أي بين المحق والمبطل.
(فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين، أخبر سبحانه بأن هو المتولي لفصل هذه الخصومة التي وقع فيها الخلاف عند الرجوع إليه فيعذب من يستحق التعذيب وينجي من يستحق النجاة.
256
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
قال الرازي: واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد - ﷺ - فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن انتهى.
(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم غير متناه وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم أي لا أحد أظلم ممن يمنع مساجد الله أي من يأتي إليها للصلاة والتلاوة والذكر وتعليمه (وسعى في خرابها) قال أبو البقاء: الخراب اسم مصدر بمعنى التخريب، وقال غيره: هو مصدر خرب المكان يخرب خراباً وهو هنا السعي في هدمها ورفع بنيانها، ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها فيكون أعم من قوله (أن يذكر فيها اسمه) فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد لتعلم العلم وتعليمه والقعود للاعتكاف وانتظار الصلاة، ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين من باب عموم المجاز كما في قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله).
(أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) هذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان ينبغي للمانعين دخولها في جميع الأحوال إلا حال خوفهم وخشوعهم، وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى وزيارتهم، قال ابن عباس: لم يدخلها بعد عمارتها رومي أو نصراني إلا خائفاً إن علم به قتل، وقيل أخيفوا بالجزية والقتل، فالجزية على الذمي، والقتل على الحربي، وقيل خوفهم هو فتح مدائنهم الثلاث قسطنطينية ورومية وعمورية والأول أولى.
وفيه إرشاد للعباد من الله عز وجل أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله
257
من أهل الكفر من غير فرق بين مسجد ومسجد، وبين كافر وكافر كما يفيده عموم اللفظ، ولا ينافيه حصول السبب الخاص وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف من أن يفطن لهم أحد من المسلمين فينزلون بهم ما يوجب الإهانة والإذلال، وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم، بل هو كناية عن المنع لهم منا من دخول مساجدنا، وقيل معناه ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلاً أن يمنعوهم منها، أو ما كان لهم في علم الله وقضائه، فيكون وعداً للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم وقد أنجز وعده.
(لهم في الدنيا خزي) يعني الصغار والذل والقتل والسبي وقيل هو ضرب الجزية عليهم وإذلالهم وقيل غير ذلك وقد تقدم تفسيره (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) يعني النار.
قال ابن عباس: أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام يعني في ابتداء الإسلام فأنزل الله (ومن أظلم) الآية نزلت في خراب بيت المقدس على يد فلطيوس الرومي ولم يزل خراباً حتى بناه المسلمون في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، وقال السدي: هم الروم كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس، وليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، وقد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها، وأما بخزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي، وعن قتادة أنهم الروم، وعن كعب أنهم النصارى لما ظهروا على بيت المقدس حرقوه، وفيه أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح بدهر طويل، والنصارى كانوا بعد المسيح فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: هم المشركون حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البيت يوم الحديبية، قال أبو صالح:
258
ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين، عن قتادة قال: يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وقال (مساجد الله) وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم عام، وإن كان السبب خاصاً.
ورجح الطبري القول الأول، وقال: إن النصارى هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس بدليل أن مشركي العرب لم يسعوا في خراب المسجد الحرام وإن كانوا قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأوقات من الصلاة فيه.
وأيضاً الآية التي قبل هذه والتي بعدها في ذم أهل الكتاب، ولم يجر لمشركي مكة ذكر، ولا للمسجد الحرام، فتعين أن يكون المراد بهذه بيت المقدس، ورجح غيره القول الثاني بدليل أن النصارى يعظمون بيت المقدس أكثر من اليهود، فكيف يسعون في خرابه وهو موضع حجهم.
وقال الرازي: وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم وهو أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة إلى الكعبة، ولعلهم سعوا أيضاً في تخريب الكعبة وفي تخريب مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا التأويل أولى مما قبله انتهى، وفي أحكام القرآن أنه كل مسجد، قال: وهو الصحيح لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو ببعض الأزمنة محال.
قلت وهذا هو الصواب فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويدخل فيه السبب الخاص دخولاً أولياً.
259
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦)
260
(ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) المشرق موضع الشروق والمغرب موضع الغروب، وهما اسما مكان وقيل إسما مصدر أي الإشراق والإغراب، أي هما ملك لله وما بينهما من الجهات والمخلوقات فيشمل الأرض كلها أي جهة تستقبلونها فهناك وجه الله أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله، وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) قال في الكشاف: والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص أماكنها في مسجد دون مسجد، ولا في مكان دون مكان، انتهى.
وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع منه وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس " وأين " هنا اسم شرط وهي ظرف مكان وتكون اسم استفهام أيضاً فهي مشترك بينهما و " ثم " اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل هنا، وقال أبو البقاء: نائب عن هناك، وليس بشيء (إن الله واسع عليم) فيه إرشاد إلى سعة رحمته وأنه يوسع على عباده في دينهم ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم، وقيل واسع بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال وسع كل شيء علماً، وقال الفراء: الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء.
عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة قال الله تعالى (ولله المشرق والمغرب) الآية فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم
260
صرفه الله إلا البيت العتيق ونسخها فقال (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: كان النبي - ﷺ - يصلّي على راحلته تطوعاً أينما توجهت به ثم قرأ ابن عمر هذه الآية (أينما تولوا فثم وجه الله) وقال في هذا أنزلت هذه الآية (١)، وأخرج نحوه عنه ابن جرير والدارقطني والحاكم وصححه.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر وغيره عن رسول الله - ﷺ - أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى (١)، وأخرج عبد بن حميد والترمذي وضعفه وابن ماجة وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة سوداء (٢) مظلمة فنزلنا منزلاً فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً فيصلي فيه فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله (ولله المشرق والمغرب) الآية فقال " مضت صلاتكم (٣) " عن ابن عباس قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب (٤) قبلة أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن ماجة.
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير سورة ٢ باب ٤.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٤٨٤١.
(٣) ابن كتير ١/ ١٥٨.
(٤) صحيح الجامع الصغير ٥٤٦٠.
261
(وقالوا اتخذ الله ولداً) القائل هم اليهود والنصارى، فاليهود قالوا عزير ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقيل هم كفار العرب قالوا الملائكة بنات الله أخرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
261
قال: " قال الله تعالى كذبني ابن آدم وشتمني، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً (١) " وأخرج نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث.
والمراد بقوله (سبحانه) تنزيه الله تعالى عما نسبوا إليه من اتخاذ الولد، وفيه رد على القائلين بأنه اتخذ ولداً لأن اتخاذ الولد لبقاء النوع، والله منزه عن الفناء والزوال (بل له ما في السموات والأرض) أي بل هو مالك لما فيهما فكيف ينسب إليه الولد، وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه والولد من جنسهم لا من جنسه، ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد (كل له قانتون) أي مطيعون ومقرون له بالعبودية، والقانت المطيع الخاضع أي كل من في السموات والأرض كائناً ما كان من أولي العلم وغيرهم مطيعون له خاضعون لعظمته، خاشعون لجلاله، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، والقنوت في أصل اللغة القيام، قال الزجاج: فالخلق قانتون أي قائمون بالعبودية إما إقراراً وإما أن يكونوا على خلاف ذلك فأثر الصنعة بين عليهم، وقيل أصله الطاعة ومنه (والقانتين والقانتات) وقيل السكوت ومنه (قوموا لله قانتين) ولهذا قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (وقوموا لله) الآية فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقيل القنوت الصلاة والأولى أن القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة قيل هي ثلاثة عشر معنى وهي مبينة وقد نظمها بعض أهل العلم، واختلف في حكم الآية فقيل هو خاص وقيل عام لأن لفظة كل تقتضي الشمول والإحاطة. (٢)
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٢٠٣.
(٢) وقد ورد الحديث: " أفضل الصلاة طول القنوت ".
262
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
(بديع السموات والأرض) أبدع الشيء أنشأه لا عن مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، والأصل بديع سمواته أي بدعت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب (وإذا قضى أمراً) أي أحكمه وأتقنه، قال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قيل هو مشترك بين معان يقال قضى بمعنى خلق ومنه (فقضاهن سبع سموات) وبمعنى أعلم، ومنه (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) وبمعنى أمر ومنه (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) وبمعنى ألزم منه (قضى عليه القاضي) وبمعنى أوفاه ومنه (فلما قضى موسى الأجل) وبمعنى أراد ومنه (فإذا قضى أمراً) والتقدير إذا قضى أمراً يكون ويحصل، فلفظ يكون المقدر هو العامل في " إذا ".
والأمر واحد الأمور، وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى.
(الأول): الدين، ومنه (حتى جاء الحق وظهر أمر الله).
(الثاني): بمعنى القول ومنه (فإذا جاء أمرنا).
(الثالث): العذاب ومنه (لما قضى الأمر).
(الرابع): عيسى ومنه (فإذا قضى أمراً) أي أوجد عيسى عليه السلام.
(الخامس): القتل ومنه (فإذا جاء أمر الله).
(السادس): فتح مكة (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
(السابع): قتل بني قريظة وجلاء النضير ومنه (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره).
(الثامن): القيامة ومنه (أتى أمر الله).
(التاسع): القضاء ومنه (يدبر الأمر).
263
(العاشر): الوحي ومنه (يتنزل الأمر بينهن).
(والحادي عشر): أمر الخلائق ومنه (ألا إلى الله تصير الأمور).
(والثاني عشر): النصر ومنه (هل لنا من الأمر من شيء).
(والثالث عشر): الذنب ومنه (فذاقت وبال أمرها).
(والرابع عشر): الشأن ومنه (وما أمر فرعون برشيد) هكذا أورد هذه المعاني بأطول من هذا بعض المفسرين، وليس تحت ذلك كثير فائدة، فإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها.
(فإنما يقول له كن فيكون) الظاهر في هذا المعنى الحقيقي، وأنه يقول سبحانه هذا اللفظ وليس في ذلك مانع ولا جاء ما يوجب تأويله، ومنه قوله تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) وقال تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) وقال (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وقد قيل أن ذلك مجاز وأنه لا قول، وإنما هو قضاء يقضيه فعبر عنه بالقول، وقال البيضاوي ليس المراد حقيقة أمر وامتثال، بل تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف انتهى، وهذا من أنفاسه الفلسفية وكم له من أشباه ذلك وأمثاله. (١)
_________
(١) وقد استدل العلماء على قدم القرآن بقوله (كن).
فقالوا: لو كانت (كن) مخلوقة لافتقرت إلى ايجادها بمثلها وتسلل ذلك. والمتسلسل محال... فإن قيل: هذا خطاب لمعدوم فالجواب: إنه خطاب تكوين يظهر أثر القدرة ويستحيل أن يكون المخاطب موجوداً - زاد المسير ١/ ١٣٧، ١٣٨.
264
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
(وقال الذين لا يعلمون) قيل هم اليهود وقيل النصارى، ورجحه ابن جرير لأنهم المذكورون في الآية، وقيل مشركو العرب وعليه أكثر المفسرين (لولا) حرف تحضيض أي هلا.
(يكلمنا الله) مشافهة من غير واسطة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فنعلم أنه نبي أو بواسطة الوحي إلينا لا إليك، وهذا منهم استكبار وتعنت (أو تأتينا) لذلك (آية) أي علامة على نبوته، وهذا منهم جحود (كذلك) أي مثل ذلك القول الشنيع الصادر عن العناد والفساد.
(قال الذين من قبلهم) قيل هم اليهود والنصارى في قول من جعل الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة في قول من جعل الذين لا يعلمون اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل الذين لا يعلمون النصارى (مثل قولهم) وذلك أن اليهود سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، وأن يسمعهم كلام الله وسألوه من الآيات ما ليس لهم مسئلته (تشابهت قلوبهم) أي في التعنت والعمى والعناد والاقتراح، وقال الفراء: في اتفاقهم على الكفر، وإلا لا تشابهت أقاويلهم الباطلة (قد بينا الآيات) أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل، لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينة (لقوم يوقنون) أي يعترفون بالحق وينصفون في القول، ويذعنون لأوامر الله سبحانه لكونهم مصدقين له سبحانه مؤمنين بآياته متبعين لما شرعه لهم.
265
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠)
266
(إنا أرسلناك بالحق) أي بالصدق وقال ابن عباس: بالقرآن وقيل بالإسلام وقيل معناه لم نرسلك عبثاً بل أرسلناك بالحق (بشيراً) أي مبشراً لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب العظيم (ونذيراً) أي منذراً ومخوفاً لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) قرأ الجمهور بالرفع مبنياً للمجهول أي حال كونك غير مسئول، وقريء بالرفع مبنياً للمعلوم، قال الأخفش: ويكون في موضع الحال عطفاً على بشيراً ونذيراً أي حال كونك غير سائل عنهم لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم، وقرأ نافع ولا تسأل بالجزم، والمعنى ولا يصدر منك السؤال عن هؤلاء وعمن مات منهم على كفره ومعصيته تعظيماً لحاله وتغليظاً لشأنه، أي إن هذا أمر فظيع وخطب شنيع، يتعاظم المتكلم أن يجري على لسانه، ويتعاظم السمع أن يسمعه وفي القاموس الجحيم النار الشديدة التأجج وكل نار بعضها فوق بعض، والجحيم ما عظم من النار، قاله أبو مالك، والمعنى لا تسأل عن حالهم التي تكون لهم في القيامة فإنها شنيعة ولا يمكنك في هذه الدار الإطلاع عليها وهذا فيه تخويف لهم وتسلية له صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد ابن كعب القرظي قال: قال رسول الله - ﷺ - " ليت شعري ما فعل أبواي " فنزلت هذه الآية فما ذكرهما حتى توفاه الله، قال السيوطي هذا مرسل ضعيف الإسناد ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعاً وقال هو معضل الإسناد لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة.
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) أي ليس
266
غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات، ويوردونه من التعنتات، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون وأجبتهم عن كل تعنت لم يرضوا عنك حتى تدخل في دينهم وتتبع ملتهم، والملة اسم لا شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه وهكذا الشريعة، وقال ابن عباس: هذا في أمر القبلة أيسوا منه أن يوافقهم عليها، والرضا ضد الغضب وهو من ذوات الواو لقولهم الراضون (قل إن هدى الله) أي الإسلام (هو الهدى) الحقيقي لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة.
ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله - ﷺ - فقال (ولئن) هذه تسمى اللام الموطئة للقسم وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط، وأكثر مجيئها مع إن، وقد تأتي مع غيرها نحو (لما آتيتكم من كتاب، لمن تبعك منهم) (اتبعت أهواءهم) أي أهواء اليهود والنصارى (بعد الذي جاءك من العلم) أي البيان بأن دين الله هو الإسلام، وأن القبلة هي قبلة إبراهيم وهي الكعبة، ويحتمل أن يكون تعريضاً لأمته وتحذيراً لهم أن يواقعوا شيئاً من ذلك، أو يدخلوا في أهواء أهل الملل ويطلبوا رضا أهل البدع، أخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم، فأنزل الله هذه الآية.
وجواب القسم قوله (مالك من الله من ولي) يلي أمرك ويقوم بك (ولا نصير) ينصرك ويمنعك من عقابه، وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتنصدع منه الأفئدة ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه، ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء التاركين للعمل بالكتاب والسنة، المؤثرين لمحض الرأي عليهما فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولاً وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته والدخول في مداخله، والوقوع في حبائله، فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة
267
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
رسوله، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة وجهالة بينة، ورأي منهار، وتقليد على شفا جرف هار، فهو إذ ذاك ماله من الله من ولي ولا نصير، ومن كان كذلك فهو لا محالة مخذول وهالك بلا شك وشبهة.
268
(الذين آتيناهم الكتاب) هم اليهود والنصارى قاله قتادة وقيل هم المسلمون، والكتاب هو القرآن وقيل من أسلم من أهل الكتاب، وقال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب، وكانوا أربعين رجلاً ثمانية من رهبان الشام منهم بحيرى الراهب والباقي من الحبشة وقيل هم المؤمنون عامة (يتلونه حق تلاوته) أي يقرؤونه كما أنزل لا يغيرونه ولا يحرفونه ولا يبدلون ما فيه من نعت رسول الله - ﷺ -، وقيل المراد بالتلاوة أنهم يعملون بما فيه فيحللون حلاله ويحرمون حرامه، فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه أي يتبعونه حق اتباعه، ومنه قوله تعالى (والقمر إذا تلاها) أي اتبعها قاله ابن عباس، وقال عمر بن الخطاب: يعني إذ مر بذكر الجنة يسأل الجنة وإذا مر بذكر النار تعوذ من النار، وقال زيد بن أسلم: يتكلمون به كما أنزل ولا يكتمونه، عن قتادة قال: هم أصحاب محمد - ﷺ -، وعن الحسن قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه، وقيل يتدبرونه حق تدبره ويتفكرون في معانيه وحقائقه وأسراره.
(أولئك يؤمنون به) أي يصدقون به، فإن كانت الآية في أهل الكتاب فالمعنى أن المؤمن بالتوراة الذي يتلوها حق تلاوتها هو المؤمن بمحمد - ﷺ - لأن في
268
التوراة نعته وصفته، وإن كانت في المؤمنين عامة فالعنى ظاهر (ومن يكفر به) أي يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فأولئك هم الخاسرون) أي خسروا أنفسهم حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.
269
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) قد مر مثل هذا في صدر السورة وقد تقدم تفسيره وهذا من العام الذي يراد به الخاص كقوله تعالى (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) ومعنى الآية ولا تنفعها شفاعة إذا وجب عليها العذاب ولم تستحق سواه، وقيل: أنه رد على اليهود في قولهم أن آباءنا يشفعون لنا، ووجه التكرار الحث على اتباع الرسول النبي الأمي، ذكر معناه ابن كثير في تفسيره وقيل للتوكيد وتذكير النعم، وفيه عظة لليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البقاعي في تفسيره: أنه لما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ثم في بيان عوارهم وهتك أستارهم، وختم ذلك بالترهيب لتضييع أديانهم بأعمالهم وأحوالهم وأقوالهم، أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم والتحذير من حلول النقم، يوم يجمع الأمم، ويدوم فيه الندم، لمن زلت به القدم، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة والقصود بالذات الحث على انتهاز الفرصة انتهى.
وأقول: ليس هذا بشيء، فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى، وأنه أعاد ما صدر به قصتهم لذلك لكان الأولى بالتكرار، والأحق بإعادة الذكر هو قوله سبحانه (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدكم أوف بعدهكم وإياي فارهبون) فإن هذه الآية مع كونها أول الكلام معهم والخطاب لهم في هذه السورة، هي أيضاً أولى بأن تعاد وتكرر لما فيها من الأمر بذكر النعم والوفاء بالعهد، والرهبة لله سبحانه، وبهذا
269
تعرف صحة ما قدمناه لك عند أن شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه.
ثم حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحراني أنه قال: كرره تعالى إظهاراً لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله ليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلاً لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن، حتى كان الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمة يجب أن يلحظ القلب بداية تلك الغاية فيتلوها ليكون في تلاوته جامعاً لطرفي الثناء، وفي تفهمه جامعاً لمعاني طرفي المعنى انتهى.
وأقول لو كان هذا سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك، وأما قوله وليتخذ ذلك أصلاً لما يرد من التكرار في سائر القرآن، فمعلوم أن حصول هذا الأمر في الأذهان وتقرره في الأفهام لا يختص بتكرار آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما، ولله الحكمة البالغة التي لا تبلغها الأفهام ولا تدركها العقول، فليس في تكلف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر.
270
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لبني إسرائيل والابتلاء الاختبار والامتحان أي ابتلاه بما أمره به وهو استعارة تبعية واقعة على طريق التمثيل، أي فعل معه فعلاً مثل فعل المختبر، والغرض من هذا التذكير توبيخ أهل الملل المخالفين، وذلك لأن إبراهيم يعترف بفضله جميع الطوائف قديماً وحديثاً، فحكى الله عن إبراهيم أموراً توجب على المشركين واليهود والنصارى قبول قول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن ما أوجبه الله على إبراهيم جاء به محمد، وفي ذلك حجة عليهم.
وإبراهيم اسم أعجمي معناه في السريانية أب رحيم كذا قال الماوردي، قال ابن عطية: ومعناه في العربية ذلك، قال السهيلي: وكثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، وفيه لغات، وكان مولد إبراهيم بالسوس من أرض الأهواز، وقيل ببابل، وقيل بكوثي، وهي قرية من سواد الكوفة، وقيل بحران ولكن أباه نقله إلى أرض بابل وهي أرض نمروذ الجبار.
وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالاً في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير، وأجاب عنه بأنه قد تقدم لفظاً فرجع إليه، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره أو ترد في مثله الأسئلة أو يسود وجه القرطاس بإيضاحه.
وقد اختلف العلماء في تعيين الكلمات فقيل هي شرئع الإسلام وقيل ذبح ابنه وقيل أداء الرسالة وقيل هي خصال الفطرة، وقيل قوله (إني جاعلك للناس إماماً) وقيل الطهارة، قال الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن
271
هذا كله مما ابتلي به إبراهيم انتهى، وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله (إني جاعلك) وما بعده ويكون ذلك بياناً للكلمات، وجاء عن بعض السلف ما يوافق ذلك وعن آخرين ما يخالفه، والحق أنه إذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة في تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول أنها ما ذكره الله سبحانه في كتابه قال (إني جاعلك للناس إماماً) ويكون ذلك بياناً للكلمات، أو السكوت وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه.
وأما ما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة ومن بعدهم في تعيينها فهو أولاً أقوال الصحابة ولا تقوم بها الحجة فضلاً عن أقوال من بعدهم، وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك وإن له حكم الرفع فقد اختلفوا في التعيين اختلافاً يمنع معه العمل ببعض ما روي عنهم دون البعض الآخر، بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما روي عن ابن عباس فكيف يجوز العمل بذلك، وبهذا تعرف ضعف قول من قال: أنه يصار إلى العموم، ويقال تلك الكلمات هي جميع ما ذكر ههنا، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف والمتناقض وما لا تقوم به الحجة، وعلى هذا فيكون قوله (إني جاعلك) مستأنفاً كأنه قيل ماذا قال له.
وقال ابن جرير: ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له، ثم قال: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب، يعني أن الكلمات هي قوله (إني جاعلك للناس إماماً) وقوله (وعهدنا إلى إبراهيم) وما بعده، ورجح ابن كثير (١) أنها تشمل جميع ما ذكر وفيه بعد.
_________
(١) ابن كثير ١/ ١٦٦.
272
(فأتمهن) أي قام بهن أتم قيام، وامتثل أكمل امتثال، واختلف هل كان هذا الابتلاء قبل النبوة أو بعدها فقيل بالأول بدليل السياق فإنه يدل على أن قيامه عليه السلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماماً، والسبب يتقدم على المسبب، وقيل بالثاني لأن التكليف لا يعلم إلا من جهة الوحي الإلهي، وذلك بعد النبوة، وقيل إن فسر الابتلاء بالكوكب والقمر والشمس كان ذلك قبل النبوة، وإن فسر بما وجب عليه من شرائع الدين كان ذلك بعد النبوة.
(قال إني جاعلك للناس) أي لأجلهم (إماماً) يقتدي بدينك وهديك وسنتك، والإمام هو الذي يؤتم به، ومنه قيل للطريق إمام وللبناء إمام لأنه يؤتم بذلك أي يهتدي به السالك، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباعه في الجملة، وإبراهيم يعترف بفضله جميع الطوائف قديماً وحديثاً، فأما اليهود والنصارى فإنهم مقرون بفضله ويتشرفون بالنسبة إليه، وأنهم من أولاده، وأما العرب في الجاهلية فإنهم أيضاً يعترفون بفضله ويتشرفون على غيرهم به لأنهم من أولاده، ومن ساكني حرمه، وخدام بيته، ولما جاء الإسلام زاده الله شرفاً وفضلاً، فحكى الله عن إبراهيم أموراً توجب على المشركين والنصارى واليهود قبول قول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه، لأن ما أوجبه الله على إبراهيم هو من خصائص دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك حجة على اليهود والنصارى ومشركي العرب في وجوب الانقياد لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان به وتصديقه.
(قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم أي واجعل من بعض ذريتي أئمة، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم لقصد الإستفهام وإن لم يكن بصيغته أي ومن ذريتي ماذا يكون يا رب، فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا يقومون به، ولا ينالهم عهد الله سبحانه، وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحاله
273
إمامة الكل، وإن كانوا على الحق، عن قتادة قال هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالماً، فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغادوهم وناكحوهم، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه، وعن مجاهد قال لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به، وعن ابن عباس قال يخبره أنه إن كان في ذريته ظالماً لا ينال عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئاً من أمره، والنيل الإدراك وهو العطاء، والذرية مأخوذة من الذر، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم عليه السلام حين أشهدهم على أنفسهم كالذر، وقيل مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم إذا خلقهم، وفي الكتاب العزيز (فأصبح هشيماً تذروه الرياح) وقال الخليل: إنما سموا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزراع البذر، قال ابن عباس: يؤخذ من هذا إباحة السعي في منافع الذرية والقرابة وسؤال من بيده ذلك.
واختلف في المراد بالعهد فقيل الإمامة وقيل النبوة وقيل عهد الله أمره وقيل الأمان من عذاب الآخرة ورجحه الزجاج، والأول أظهر كما يفيده السياق.
وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً وممكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما يفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتباراً بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية.
وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه، انتهى، ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا فالأولى أن يقال أن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالماً، وإنما قلنا أنه في معنى الأمر لأن إخباره تعالى لا يجوز أن يتخلف، وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثير من الظالمين.
274
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
(وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) أي لأجلهم أو لأجل مناسكهم، والبيت هو الكعبة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا، ويدخل فيه جميع الحرم لوصفه بكونه آمناً كما سيأتي، ومثابة مصدر من ثاب يثوب مثاباً ومثابة أي مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه، وقيل المثابة من الثواب أي يثابون هنالك قال مجاهد الراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم، قال الأخفش ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه كعلامة ونسابة، وقال غيره هي للتأنيث وليست للمبالغة وهو مصدر أو اسم مكان، قولان.
(وأمناً) هو اسم مكان أي موضع أمن وهو أظهر من جعله اسم الفاعل على سبيل المجاز كقوله (حرماً آمنا) فإن الآمن هو الساكن والملتجىء والأول لا مجاز فيه، وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحد على من لجأ إليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى (ومن دخله كان آمناً) وقيل إن ذلك منسوخ، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه فقال العباس: يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: إلا الأذخر " أخرجه البخاري ومسلم (١) وكان الناس يأمنون فيه من أذى المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة ويقولون هم أهل الله، وقال ابن عباس في الآية معاذاً وملجأً.
_________
(١) رواه مسلم/١٣٥٣ وقد ورد في فضائل مكة أحاديث كثيرة صحيحة.
275
(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قرىء على أنه فعل ماض أي واتخذوه مصلى، وقرىء على صيغة الأمر، ويجوز أن يكون تقديره وقلنا اتخذوا والمقام في اللغة موضع القيام قال النحاس هو من قام يقوم يكون مصدراً واسماً للموضع، ومقام من أقام، ومن للتبعيض وهذا هو الظاهر، وقيل بمعنى في وقيل زائدة على قول الأخفش وليسا بشيء، اختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف، وقيل المقام الحرم كله روي ذلك عن عطاء ومجاهد وقيل عرفة والمزدلفة، وقال الشعبي: الحرم كله مقام، والمعنى اتخذوا مصلى كائناً عند مقام إبراهيم، والعندية تصدق بجهاته الأربع والتخصيص يكون المصلى خلفه إنما استفيد من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والصحابة بعده.
أخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن عمر بن الخطاب قال: " وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت هذه الآية وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله - ﷺ - وآله وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك " وأخرجه مسلم وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه (١).
وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع
_________
(١) وانظر الحديث بطوله في صحيح مسلم/١٤٧٩.
276
الجدار أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه كما في البخاري من حديث ابن عباس، وهو الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة وأول من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بإسناد صحيح، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة.
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبي - ﷺ - قال لما طاف النبي - ﷺ - قال له عمر هذا مقام إبراهيم، قال نعم، وأخرج نحوه ابن مردويه قيل: كان أثر أصابع رجلي إبراهيم فيه فاندرست بكثرة المسح بالأيدي، وإنما أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله.
وقد روى البخاري في بدء قصة المقام أثراً طويلاً عن ابن عباس وقد ورد في حديث الترمذي أن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما (١).
واختلفوا في قوله (مصلى) فمن فسر المقام بمشاهد الحج ومشاعره قال مصلى مدعى من الصلاة التي هي الدعاء، ومن فسر المقام بالحجر قال معناه واتخذوا من مقامه قبلة أمروا بالصلاة عنده، وهذا هو الصحيح لأن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يعقل منه إلا الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود ولأن مصلى الرجل هو الوضع الذي يصلي فيه.
(وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) معنى عهدنا هنا أمرنا أو أوحينا، وقيل ألزمنا وأوجبنا، ومن أغرب ما نقل في تسمية إسماعيل أن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول في دعائه اسمع يا إيل، وإيل بلسان السريانية هو الله، فلما رزق الولد سماه به وقيل هو اسم أعجمي، وفيه لغتان اللام والنون ويجمع على سماعله وسماعيل وأساميع، والمراد بالتطهير قيل من الأوثان قاله ابن عباس، وقيل من الآفات
_________
(١) الترمذي كتاب الحج الباب ٤٩ - أحمد بن حنبل ٢/ ٢١٢، ٢١٤.
277
والريب وقول الزور والرجس، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة، وقيل من الكفار، وقيل من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث، والظاهر أنه لا يختض بنوع من هذه الأنواع وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله إما تناولاً شمولياً أو بدلياً.
والإضافة في قوله " بيتي " للتشريف والتكريم، والمراد بالبيت الكعبة، والطائف الذي يطوف به أي الدائر حوله، وقيل الغريب الطاريء على مكة والعاكف المقيم، وأصل العكوف في اللغة اللزوم واللبث والإقبال على الشيء، وقيل هو المجاور دون المقيم من أهلها، والمراد بقوله (الركع السجود) المصلون، وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة، عن ابن عباس قال: إذا كان قائماً فهو من الطائفين، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود، وعن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال: هم العاكفون.
وفي الآية مشروعية طهارة المكان للطواف والصلاة، قال الرازي والكيا الهراسي وفيها دلالة على أن الطواف للغرباء أفضل، والصلاة للمقيم أمثل (قلت): ولم يظهر لي وجه ذلك، قالا وفيها دلالة على جواز الصلاة في نفس الكعبة حيث قال (بيتي) خلافاً لمالك (قلت): وفيه أن الطواف لا يكون في نفس الكعبة، قال الرازي: وفيها دلالة على أن الطواف قبل الصلاة (قلت) وقد سبقه بذلك ابن عباس، وفيها دلالة على جواز المجاورة بمكة لأن قوله (والعاكفين) يحتمله، والسجود جمع ساجد نحو قاعد وقعود، وهو مناسب لما قبله، وقيل أنه مصدر نحو الدخول والقعود، والمعنى ذوي السجود، ذكره أبو البقاء والأول أولى، ولتقارب الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بينهما وجمع صفتين جمع سلامة وأخريين جمع تكسير لأجل المقابلة وهو نوع من الفصاحة.
278
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)
279
(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) أي مكة وقيل الحرم (بلداً آمنا) والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله عيشة راضية أي راض صاحبها أو الإسناد إلى المكان مجاز كما في ليل نائم أي نائم فيه، قاله السعد التفتازاني، وعلى هذا المراد أمن الملتجىء إليه فأسند إليه مبالغة، وقد ثبت عن النبي - ﷺ - أنه قال: " إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها (١) " كما أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث جابر وقد روي هذا المعنى عن النبي - ﷺ - من طريق جماعة من الصحابة، وثبت عن النبي - ﷺ - أنه قال: " إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة (٢) " أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث أبي هريرة تعليقاً، وابن ماجة من حديث صفية بنت شيبة، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا.
ولا تعارض بين هذه الأحاديث فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرماً آمناً نسب إليه أنه حرمها أي أظهر للناس حكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية وابن كثير، وقال ابن جرير: أنها كانت حراماً ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها وتعبدهم بذلك انتهى وكلا الجمعين حسن.
_________
(١) مسلم ١٣٦٢.
(٢) صحيح الجامع الصغير ١٧٤٧.
279
(وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) إنما سأل إبراهيم ذلك لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمرة فاستجاب الله له وجعل مكة حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء، عن محمد بن مسلم الطائفي قال: بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم نقل الله الطائف من فلسطين (ومن) للتبعيض أي بعض الثمرات، ولم يقل من الحبوب لما في تحصيله من الذل الحاصل بالحرث وغيره، فاقتصاره على الثمرات لتشريفهم، وقيل " من " للبيان وليس بشيء إذ لم يتقدم مبهم يبين بها، والمراد بالأمن المذكور في قوله (مثابة للناس وآمنا) هو الأمن من الأعداء والخسف والمسخ والمراد هنا من الأمن هو الأمن من القحط، ولهذا قال (وارزق أهله من الثمرات) ذكره الكرخي.
والمعنى وارزق من آمن من أهله دون من كفر، وسبب هذا التخصيص أن إبراهيم لما سأل ربه أن يجعل النبوة والإمامة في ذريته: فأجابه الله بقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) وصار ذلك تأديباً له في المسئلة فلا جرم خص هنا بدعائه المؤمنين دون الكافرين، ثم أعلمه أن الرزق في الدنيا يستوي فيه المؤمن والكافر بقوله:
(قال ومن كفر فأمتعه) أي سأرزق الكافر أيضاً (قليلاً) أي في الدنيا مدة حياته، وعن محمد بن كعب القرظي قال: دعا إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار، ولم يدع لهم بشيء فقال تعالى (ومن كفر فأمتعه) الآية. وعن ابن عباس قال: كان إبراهيم احتجزها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر فأنا أرزقهم أيضاً كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقاً لا أرزقهم، ثم قرأ ابن عباس (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء) الآية، فالظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه رداً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية، أي من كفر فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق إلى منتهى أجله وذلك قليل لأنه ينقطع.
280
(ثم أضطره) أي ألزه لز المضطر لكفره بعد هذا التمتع (إلى عذاب النار)، أخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتعهم في هذه الدنيا، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شر محض، وأما على قراءة من قرأ فأمتعه وأضطره بصيغة الأمر فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم الله إلى عذاب النار، وحاصل معنى أضطره ألزمه حتى أصيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً ولا منه متحولاً (وبئس المصير) أي المرجع هي، والواو فيه ليست للعطف والإلزم عطف الإنشاء على الإخبار بل للإستئناف كما قال في المغنى في قوله (واتقوا الله ويعلمكم الله).
281
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) حكاية حال ماضية استحضاراً لصورته العجيبة، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس، قاله أبو عبيدة والفراء وهي صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل للقيام ومنه قعدك الله، وقال الكسائي: هي الجدر والمراد برفعها رفع ما هو مبنى فوقها لا رفعها في نفسها فإنها لم ترفع، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه أو المراد بها سافات البناء، فإن كل ساف قاعدة لما يبنى عليه وبرفعها بناؤها أو المراد رفع مكانته ودعاء الناس إلى حجه، وفي إبهام القواعد وتبيينها ثانياً بقوله من البيت تفخيم لشأنها.
(ربنا) أي قائلين ربنا، وقرأ أبيّ وابن مسعود يقولان ربنا (تقبل منا) أي طاعتنا إياك وعبادتنا لك (إنك أنت السميع) لدعائنا (العليم) بنياتنا.
وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت، ومن أي أحجار الأرض بني، وفي أي زمان عرف، ومن حجه، وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله أو فضل بعضه كالحجر الأسود، وفي الدر المنثور من ذلك ما لم يكن في غيره فليرجع إليه، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك.
281
ولما لم يكن ما ذكروه متعلقاً بالتفسير لم نذكره
وفي القسطلاني على البخاري بنيت الكعبة عشر مرات:
الأول: بناء الملائكة.
الثاني: بناء آدم.
الثالث: بناء ابنه شيث بالطين والحجارة وغرق بالطوفان.
الرابع: بناء إبراهيم (١)
الخامس: بناء العمالقة.
السادس: بناء جرهم والذي بناه منهم هو الحرث بن مضاض الأصغر.
السابع: بناء قصي خامس جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن: بناء قريش.
التاسع: بناء عبد الله بن الزبير في أوائل سنة أربع وستين.
العاشر: بناء الحجاج انتهى حاصله، قال سليمان الجمل وهذا بحسب ما اطلع عليه وإلا فقد بناه بعد ذلك بعض الملوك سنة ألف وتسع وثلاثين كما نقله بعض المؤرخين، قال الرازي فيه: أن بناء المسجد قربة وفيه استحباب الدعاء بقبول الأعمال.
_________
(١) روى أنس عن النبي - ﷺ -، قال: كانت الملائكة تحج إلى البيت قبل آدم. وقال ابن عباس: لما أهبط آدم؛ قال الله تعالى: يا آدم! اذهب فابن لي بيتاً فطف به، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي. فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام، وبناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وحراء، فكان آدم أول من أسس البيت، وطاف به، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان، فدرس موضع البيت، فبعث الله إبراهيم وإسماعيل. وقال علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه: لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت؛ ضاق به ذرعاً، ولم يدر كيف يصنع، فأنزل الله عليه كهيئة السحابة، فيها رأس يتكمل، فقال: يا إبراهيم! علّم على ظلي، فلما علّم ارتفعت. وفي رواية أنه كان يبني عليها كل يوم صقال: وحفر إبراهيم من تحت السكينة، فأبدى عن قواعد، ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلاً. فلما بلغ موضع الحجر، قال لإسماعيل: التمس لي حجراً، فذهب يطلب حجراً، فجاء جبريل بالحجر الأسود، فوضعه، فلما جاء إسماعيل، قال: من جاءك بهذا الحجر؟ قال: جاء به من يتكل على بنائي وبنائك.
282
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)
(ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي ثابتين عليه أو زدنا منه، قيل المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان والأعمال (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) من للتبعيض أو للتبيين، قال ابن جرير: إنه أراد بالذرية العرب خاصة، وكذا قال السهيلي، قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به، والأمة الجماعة في هذا الموضع وقد تطلق على الواحد ومنه قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) وتطلق على الدين ومنه (إنا وجدنا آباءنا على أمة) وتطلق على الزمان ومنه (وادَّكر بعد أمةٍ) قيل أراد بالأمة أمة محمد - ﷺ - بدليل قوله (وابعث فيهم رسولاً منهم).
(وأرنا مناسكنا) هي من الرؤية البصرية، والمناسك جمع نسك وأصله في اللغة الغسل يقال نسك ثوبه إذا غسله، وهو في الشرع اسم للعبادة، وقيل واحدها منسك والمراد هنا مناسك الحج، وقيل مواضع الذبح، وقيل جمع التعبدات، قال علي: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت أي رب فأرنا مناسكنا أبرزها لنا وعلمناها، فبعث الله جبريل فحج به (١)، وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ومن بعدهم يتضمن أن جبريل أرى إبراهيم الناسك، وفي أكثرها أن الشيطان تعرض له.
_________
(١) وقال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعاً، وقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به جمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات. فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى به منى، فقال: ها هنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعاً، فقال: ها هنا يجمع الناس، ثم أتى به عرفة، فقال: أعرفت؟ قال: نعم. قال: فمن ثم سميت عرفات.
283
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)
(وتب علينا) أي تجاوز عنا والمراد بالتوبة التثبيت، لأنهما معصومان لا ذنب لهما وقيل المراد وتب على الظلمة منا (إنك أنت التواب) أي المتجاوز عن عباده (الرحيم) بهم.
284
(ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) ضمير فيهم راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً وقرأ أبىّ في آخرهم، ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذرية وهم العرب من ولد إسماعيل، وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة فبعث في ذريته رسولاً منهم وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخبر عن نفسه أنه دعوة إبراهيم كما أخرجه أحمد من حديث العرباض بن سارية (١) وغيره (٢) ومراده هذه الدعوة، وقد أجمع على ذلك المفسرون، لأن إبراهيم إنما دعا لذريته وهو بمكة ولم يبعث من ذريته بمكة غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فدل على أن المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والرسول هو المرسل، قال ابن الإنباري: يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال ومرسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق، ويقال جاء القوم أرسالاً أي بعضهم في إثر بعض.
(يتلو عليهم آياتك) وهو القرآن (ويعلمهم الكتاب) أي معاني
_________
(١) أحمد بن حنبل ٤/ ١٢٧ - ١٢٨ ٥/ ٢٦٢.
(٢) قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) في الهاء والميم من (فيهم) قولان. أحدهما: أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل والفراء: على أهل مكة في قوله: (وارزق أهله) والمراد بالرسول: محمد - ﷺ -. وقد روى أبو أمامة عن النبي - ﷺ -، أنه قيل: يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " رواه أبو داود الطيالي وأحمد في " المسند " عن أبي أمامة، وفي مسنده الفرج بن فضالة، وهو ضعيف، وجاء الحديث بمعناه في " مسند أحمد " عن العرباض بن سارية، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر.
284
الكتاب من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية، والكتاب هو القرآن (والحكمه) أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل، ووضع كل شيء موضعه، والمراد بالحكمة هنا المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم للشريعه، وقال قتادة: هي السنة وقيل هي الفصل بين الحق والباطل، وقال ابن قتيبه: هي العلم والعمل، ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما، وقال ابن دريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمه، وقيل أن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ، والكتاب معانيها، والحكمة الحكم وهو مراد الله بالخطاب وقيل غير ذلك (ويزكيهم) التزكية التطهير من الشرك وسائر المعاصى (إنك أنت العزيز الحكيم) أي الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان، وقال الكسائي: العزيز الغالب والحكيم العالم.
285
(ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) الاستفهام للإنكار، قال الزجاج وابن جني: سفه بمعنى جهل أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها ْأنها مخلوقه لله فيجب عليه عبادته، وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه، وقال الأخفش: أي فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، وقال الزمخشري: امتهنها واستخف بها، عن أبي العالية قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملته واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم الإسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمداً الرسول الذي هو دعوة إبراهيم فقد رغب عن ملة إبراهيم، فيه إشارة إلى لزوم اتباع ملته فيما لم يثبت نسخه.
(ولقد اصطفيناه في الدنيا) تعليل للحصر قبله، واللام جواب قسم محذوف، والغرض منه الحجة والبيان لقوله (ومن يرغب) والاصطفاء الاختيار أي اخترناه في الدنيا بالرسالة والخلة كما شاهدوه ونقله جيل بعد جيل (وأنه في الآخرة لمن الصالحين) أمر مغيب فاحتاج الإخبار به إلى فضل تأكيد قيل مع الأنبياء في الجنة أو الذين لهم الدرجات العلى، فكيف يرغب عن ملته راغب.
285
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
286
(إذ قال له ربه أسلم) يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله (اصطفيناه) أي اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو اذكر، قال في الكشاف كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، وزاد أبو السعود وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة للإذعان والإنقياد لما أمره به وإخلاص سره، قالى ابن عباس: قال الله له ذلك حين خرج من السرب، وذلك عند استدلاله بالكوكب واطلاعه على أمارات الحدوث فيها وافتقارها إلى محدث مدبر، ومعنى (أسلم) انقد لله وأخلص دينك وعبادتك له أو استقم أو فوض أمورك إلى الله أو اذعن واطلع أو اثبت على ما أنت عليه من الإسلام (قال أسلمت لرب العالمين) أي فوضت أمري إليه، قال ابن عباس: وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.
(ووصى بها إبراهيم بنيه) الضمير في " بها " راجع إلى الملة الحنيفية أو إلى الكلمة أي أسلمت لرب العالمين، قال القرطبي: وهو أصوب لأنه أقرب مذكور أي قولوا أسلمنا انتهى، والأول أرجح لأن المطلوب ممن بعده هو اتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم وأولى بهم، قيل كانوا ثمانية منهم إسمعيل وهو أول أولاده وقيل أربعة عشر (ويعقوب) معطوف على إبراهيم أي وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه، وكانوا اثني عشر، وقرىء بنصب يعقوب فيكون داخلاً فيما أوصاه إبراهيم، قال القشيري: وهو بعيد، لأن يعقوب لم يدرك جده إبراهيم وإنما ولد بعد موته.
(يا بني) قيل أنه من مقول إبراهيم وقيل من مقول يعقوب
286
(إن الله اصطفى لكم الدين) المراد بالدين ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه وهي الملة التي جاء بها محمد - ﷺ -، وفي قوله:
(فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) إيجاز بليغ، والمراد إلزموا الإسلام ولا تفارقوه حتى تموتوا، وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تموتوا على حالة غير حالة الإسلام، وليس فيه نهي عن الموت الذي هو قهري، ولهذا قال السيوطي نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادفة الموت، انتهى، والمعني أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وإن حق هذا الموت أن لا يحصل فيهم، عن فضيل بن عياض قال:
(مسلمون) أي محسنون بربكم الظن، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: " لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بربه " أخرجاه في الصحيحين (١).
_________
(١) قال البغوي: في تفسيره -١٨٨: والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت، وإنما نُهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام معناه: داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا وأنتم مسلمون، وعن الفضيل بن عياض رحمه الله: أنه قال: إلا وأنتم مسلمون، أي: محسنون بربكم الظن، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - ﷺ قبل موته بثلاثة أيام، يقول: " لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله عز وجلّ ".
287
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) أي ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب وقرب من الموت، (وأم) هذه قيل هي المنقطعة وقيل هي المتصلة وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ، والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم وإلى بنيه أنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله ذلك عليهم وقال لهم: أشهدتم يعقوب وعلمتم ما أوصى به بنيه فتدعون ذلك عن علم أم لم تشهدوا بل أنتم مفترون، والشهداء جمع شاهد ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث الجماعة، والمراد بحضور الموت حضور مقدماته، وسمى يعقوب لأنه هو وأخوه العيص كانا توأمين في بطن واحد فتقدم العيص وقت الولادة في الخروج مسابقة ليعقوب، فتأخر يعقوب عنه ونزل على إثره وعقبه في الخروج.
(إذ قال لبنيه) يعني لأولاده الإثني عشر (ما تعبدون) أي أيُّ شيء تعبدون، وإنما جاء بما دون من لأن المعبودات من دون الله غالبها جمادات كالأوثان والنار والشمس والكواكب (من بعدي) أي من بعد موتي (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق) وإسمعيل وان كان عماً ليعقوب فإن العرب تسمي العم أباً والخالة أماً، وعم الرجل صنو أبيه، وقرىء أبيك فقيل أراد إبراهيم وحده ويكون إسمعيل وإسحق عطفاً على أبيك وإن كان هو أباه حقيقة وإبراهيم جده، ولكن لإبراهيم مزيد خصوصية، وقيل أبيك جمع كما روي عن سيبويه أن أبين جمع سلامة ومثله أبون، وقدم إسمعيل على إسحق لأنه أسبق منه في الولادة بأربع عشرة سنة وأنه جد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم (إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) أي مخلصون التوحيد والعبودية.
288
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
289
(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) تلك إشارة إلى إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه، وما بعده بيان لحال تلك الأمة وحال المخاطبين بأن لكل من الفريقين كسبه لا ينفعه كسب غيره ولا يناله منه بشيء، ولا يضره ذنب غيره، وفيه الرد على من يتكل على عمل سلفه ويروح نفسه بالأماني الباطلة، ومنه ما ورد في الحديث [من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبة (١)] والمراد أنكم لا تنتفعون بحسناتهم ولا تؤاخذون بسيئآتهم، وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين تبعاً لآبائهم، قال ابن فارس: وفيه إثبات الكسب للعبد (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) أي عن أعمالهم كما لا يسئلون عن أعمالكم، ومثله (ولا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).
_________
(١) أبو داود كتاب العلم الباب ١ - أحمد بن حنبل ٢/ ٢٥٢ - ٤٠٧.
(وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا) وهذا فن آخر من فنون كفرهم وإضلالهم لغيرهم إثر بيان ضلالتهم في نفسهم، قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا، وفي نصارى نجران السيد والعاقب وأصحابهما خاصموا المؤمنين في الدين فكل فريق منهم يزعم أنه أحق بدين الله (قل بل ملة إبراهيم حنيفاً) أي قل يا محمد في الرد عليهم هذه المقالة بل الهدى ملة إبراهيم، والحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو في أصل اللغة الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها أي تتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً، وقال قوم: الحنف الإستقامة
289
فسمي دين إبراهيم حنيفاً لإستقامته، ويسمى معوج الرجلين أحنف تفاؤلاً بالإستقامة كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، وقال مجاهد: حنيفاً متبعاً، وقال ابن عباس: حاجاً، وعن خصيف قال: الحنيف المخلص، وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
وأخرج أحمد (١) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، " بعثت بالحنيفية السمحة " وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله قال " الحنيفية السمحة " ونصب ملة على الإغراء، قاله أبو عبيدة أي ألزموها (وما كان) أي إبراهيم (من المشركين) وفي نفي كونه من المشركين تعريض باليهود لقولهم عزير ابن الله وبالنصارى لقولهم المسيح ابن الله أي أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي أنتم عليها من الشرك بالله، فكيف تدعون عليه إنه كان على اليهودية أو النصرانية وتدعون أنكم على ملته.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٥/ ٢٦٦ ٦/ ١١٦، ، ٢٢٢.
البخاري كتاب الإيمان الباب ٢٩ - أحمد بن حنبل ١/ ٢٢٦.
عن أبي أمامة قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في سرية من سراياه قال فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى من الدنيا ثم قال لو أني أتيت نبي الله ﷺ فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل فأتاه فقال يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا قال فقال النبي ﷺ إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة.
290
قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)
(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) أي القرآن (وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط) أي الصحف، وهذا خطاب للمسلمين وأمر لهم بأن يقولوا لهم هذه المقالة وقيل إنه خطاب للكفار بأن يقولوا ذلك حتى يكونوا على الحق، والأول أولى، وأعاد الموصول لئلا يتوهم من إسقاطه اتحاد المنزل مع أنه ليس كذلك، وذكر إسمعيل وما بعده لكونهم مزوجين لها متعبدين بتفاصيلها، داخلين تحت أحكامها، ومقررين لما أنزل على إبراهيم فكأنه منزل عليهم أيضاً وإلا فليسوا منزلاً عليهم في الحقيقة. والأسباط أولاد يعقوب وهم اثنا عشر ولداً ولكل واحد من الأولاد جماعة، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة متتابعون، وقيل أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، وقيل الأسباط حفدة يعقوب أي أولاد أولاده لا أولاده لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه فهم أفراد لا أسباط.
(وما أوتي موسى) من التوراة، وعبر بالإيتاء دون الإنزال فراراً من التكرار الصوري الموجب للثقل في العبارة (وعيسى) من الإنجيل، ولم يقل وما أوتي عيسى إشارة إلى اتحاد المنزل عليه مع المنزل على موسى، فإن الإنجيل مقرر للتوراة ولم يخالفها إلا في قدر يسير فيه تسهيل كما قال: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) (وما أوتي النبيون) المذكورون وغيرهم (من ربهم) يعني والكتب التي أوتي جميع الأنبياء، وذلك كله حق وهدى ونور، وإن الجميع من عند الله، وإن جميع ما ذكر الله من أنبيائه كانوا على هدى وحق (لا نفرق) في الإيمان (بين أحد منهم) بل نؤمن بكل الأنبياء قال الفراء
291
معناه لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
قال في الكشاف (أحد) في معنى الجماعة ولذلك صح دخول (بين) عليه، وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي كما سبق إلى كثير من الأذهان، وقال القرافي: إن " أحداً " الذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة، وأحداً الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد إذا كان مسمى أحد اللفظين غير مسمى الآخر في اللغة، وضابط الاشتقاق أن تجد بين اللفظين مناسبة في اللفظ والمعنى، ولا يكفي أحدهما تغايراً في الاشتقاق، فإن وجدت المقصود به إنسان فألفه ليست منقلبة عن واو، وإن وجدت المقصود به نصف الاثنين من العدد فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو، انتهى، وقد حقق المقام الخفاجي في العناية فليرجع إليه.
(ونحن له مسلمون) أي ونحن لله تعالى خاضعون بالطاعة مذعنون له بالعبودية، وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة (قولوا آمنا بالله) كلها وفي الأخرة (آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة " كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله " الآية (١).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٧٢٢٣.
292
فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) هذا خطاب للمسلمين أيضاً أي فان آمن أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد اهتدوا، وعلى هذا فمثل زائدة كقوله (ليس كمثله شيء) وقيل أن المماثلة وقعت بين الإيمانين أي فإن آمنوا بمثل إيمانكم، وقال في الكشاف إنه من باب التبكيت لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا، وقيل إن الباء زائدة مؤكدة وقيل إنها للإستعانة.
(وإن تولوا فإنما هم في شقاق) أصله من الشق وهو الجانب، كأن كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر، وقيل إنه مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه، ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين، قال أبو العالية: في شقاق أي فراق، وقيل في خلاف ومنازعة، وقيل في عداوة ومحاربة، وقيل في ضلال.
(فسيكفيكهم الله) أي من شر اليهود والنصارى، والكفاية وعد وضمان من الله لنبيه - ﷺ - أنه سيكفيه من عانده وخالفه من المتولين، وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة والنضير وبني قينقاع (١)، وفيه معجزة للنبي - ﷺ - وهو إخبار بغيب (وهو السميع) لأقوالهم (العليم) بأحوالهم يسمع جميع ما ينطقون به ويعلم جميع ما يضمرون من الحسد والغل، وهو مجازيهم ومعاقبهم.
_________
(١) وقد وردت قصص يهود قريظة والنضير وبني قينقاع في كتب السيرة مطولاً انظر مثلاً سيرة ابن هشام ٤/ ٢٣٩ و ٤/ ١٩٢ و ٤/ ٤٨.
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨)
(صبغة الله) الخطاب للمسلمين أي قولوا للنصارى المقالة، والمعنى صبغنا الله بالإيمان، قال الأخفش وغيره: أي دين الله وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى تطهير الله، لأن الإيمان يطهر النفوس، انتهى وقال ابن عباس: دين الله، وقال مجاهد: فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي - ﷺ - قال " إن بني إسرائيل قالوا يا موسى هل يصبغ ربك فقال اتقوا الله فناداه ربه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل نعم أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها في صبغتي " وأنزل الله على نبيه (صبغة الله) الآية، وعنه صبغة الله البياض.
وقد ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويجعلون ذلك تطهيراً لهم، فإذا فعلوا ذلك قالوا الآن صار نصرانياً، حقاً، فرد الله عليهم بقوله (صبغة الله) أي الإسلام ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ولا أطهر وهو دين الله الذي بعث به نوحاً ومن كان بعده من الأنبياء، وسماه صبغة استعارة، قال البغوي: إطلاق مادة لفظ الصبغ على التطهير مجاز تشبيهي، وتقرير المشاكلة هنا مبسوط في التلخيص وشرحه للسعد، وقيل الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلاً من معمودية النصارى (١)، ذكره الماوردي، وقيل الصبغة الختان لأنه يصبغ المختتن بالدم، وقيل الصبغة سنة الله.
(ومن أحسن من الله صبغة) أي ديناً وقيل تطهيراً لأنه يطهر من أوساخ الكفر (ونحن له عابدون) أي مطيعون.
_________
(١) روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي أسر فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسن إسلام صاحبكم.
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
(قل أتحاجوننا في الله) أي قل يا محمد لليهود والنصارى الذين قالوا إن دينهم خير من دينكم: أتجادلوننا وتخاصموننا في دين الله الذي أمرنا أن نتدين به والقرب منه والحظوة عنده، وذلك كقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، والمحاجة المجادلة لإظهار الحجة (وهو ربنا وربكم) أي نشرك نحن وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له فكيف تدعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك، وله أن يصطفي من عباده من يشاء (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) فلستم بأولى بالله منا وهو مثل قوله تعالى (فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) (ونحن له مخلصون) أي نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم، وهو المعيار الذي يكون به التفاضل، والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله من غيره، فكيف تدعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم وأحق، والجمل الثلاث أحوال، وفي الآية توبيخ لهم وقطع لما جاؤا به من المجادلة والمناظرة، قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)
(أم تقولون) أم هنا معادلة للهمزة في قوله (أتحاجوننا) أي أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم، وعلى قراءة يقولون بالياء تكون أم منقطعة أي بل يقولون وفيه تقريع وتوبيخ (إن إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى) يعني أتزعمون أن إبراهيم وبنيه كانوا على دينكم وملتكم، وإنما حدثت اليهودية والنصرانية بعدهم فثبت كذبكم عليهم (قل أأنتم أعلم أم الله) أي الله أعلم بذلك، وقد أخبرنا بأنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، وأنتم تدعون أنهم كانوا كذلك فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه، والتفضيل على سبيل الإستهزاء أو على تقدير أن يظن بهم علم في الجملة وإلا فلا مشاركة.
(ومن أظلم ممن كتم) أي أخفى (شهادة عنده من الله) استفهام إنكار أي لا أحد أظلم يحتمل أن يراد بذلك الذم لأهل الكتاب بأنهم يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هوداً ولا نصارى، بل كانوا على الملة الإسلامية فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة، بل بادعائهم لما هو مخالف لها وهو أشد في الذنب ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه، ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منهم، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب، وقيل المراد هنا ما كتموه من صفة محمد - ﷺ -.
(وما الله بغافل عما تعملون) فيه وعيد شديد وتهديد ليس عليه مزيد، وإعلام بأن الله سبحانه لا يترك أمرهم سدى ولا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح والذنب الفظيع، والغافل الذي لا يفطن للأمور إهمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة، وقال الكسائي أرض غفل لم تمطر.
296
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
وكرر قوله سبحانه
297
(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) لتضمنها معنى التهديد والتخويف الذي هو المقصود في هذا القام، وتلك إشارة إلى إبراهيم وإسماعيل ويعقوب والأسباط، وقيل لأنه إذا اختلف مواطن الحجاج والمجادلة حسن تكريره للتذكير به وتأكيده، وقيل إنما كرره تنبيهاً لليهود ولن يتكل على فضل الآباء وشرفهم أي لا تتكلوا على فضل الآباء فكل يؤخذ بعمله، وكل إنسان يسئل يوم القيامة عن كسبه لا عن كسب غيره، وفيه وعظ وزجر وهذا كالأول.
(سيقول السفهاء من الناس) هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه - ﷺ - وللمؤمنين بأن السفهاء من اليهود والمشركين والمنافقين سيقولون هذه المقالة قيل إن سيقول بمعنى قال وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته والاستمرار عليه، وقيل إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وإن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهويناً لصدمته وتخفيفاً لروعته، وكسراً لسورته، والسفهاء جمع سفيه وهو الكذاب البهات المتعمد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة، وقال في الكشاف هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس، وقد تقدم في تفسير قوله (إلا من سفه نفسه) ما ينبغي الرجوع إليه.
قيل نزلت هذه الآية في اليهود وذلك أنهم طعنوا في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لأنهم لا يرون النسخ، وقيل نزلت في مشركي مكة وذلك أنهم قالوا قد تردد على محمد - ﷺ - أمره واشتاق مولده، وقد توجه نحو
297
بلدكم، فلعله يرجع إلى دينكم، وقيل نزلت في المنافقين وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام، وقيل يحتمل أن لفظ السفهاء للعموم فيدخل فيه جميع الكفار والمنافقين واليهود، ويحتمل وقوع هذا الكلام من كلهم إذ لا فائدة في التخصيص، ولأن الأعداء يبالغون في الطعن والقدح فإذا وجدوا مقالاً قالوا، ومجالاً جالوا، والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب وعليه أكثر المفسرين وحكمته أنهم كما قالوا ذلك في الماضي منهم أيضاً من يقوله في المستقبل كما قال البيضاوي تبعاً للكشاف.
(ما ولاّهم) أي ما صرفهم (عن قبلتهم) وهي بيت المقدس (التي كانوا عليها) أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيتها، والقبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وإنما سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله، ولما قال السفهاء ذلك رد الله عليهم بقوله (قل لله المشرق والمغرب) فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء لا يختص به مكان دون مكان لخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، وإنما العبرة بارتسام أمره أي امتثاله لا بخصوص المكان، وتخصيص هاتين الجهتين بالذكر لمزيد ظهورهما حيث كان أحدهما مطالع الأنوار والإصباح، والآخر مغربها، ولكثرة توجه الناس إليهما لتحقيق الأوقات لتحصيل المقاصد والمهمات ذكره الكرخي (يهدي من يشاء) من عباده إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي - ﷺ - ولأهل مِلَّتِهِ (إلى صراط مستقيم) يعني إلى جهة الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام.
وقد أخرج البخاري ومسلم (١) وغيرهما عن البراء أن النبي - ﷺ - " كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأن أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على
_________
(١) أحمد بن حنبل ٤/ ٢٨٢ - البخاري كتاب الإيمان الباب ٢٠.
298
أهل المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي - ﷺ - قبل الكعبة فداروا قبل البيت كما هم، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصّلي قِبَلَ بيت القدس وأهل الكتاب فلما ولّى وجهه قِبَلَ البيت أنكروا ذلك وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) الآية " وله طرق أخر وألفاظ متقاربة.
وعن ابن عباس قال أن أول ما نسخ في القرآن القبلة وعنه أن النبي - ﷺ - كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعدما تحول إلى المدينة ستة عشر شهراً ثم صرفه الله إلى الكعبة (١)، وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدم، وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك، وقد كانوا في الصلاة فلا نطول بذكرها، فيه الرد على من أنكر النسخ ودلالة على جواز نسخ السنة بالقرآن لأن استقبال بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة الفعلية لا بالقرآن.
_________
(١) وروي أن أوّل من صلّى إلى الكعبة حين صُرفت القِبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المُعَلَّى؛ وذلك أنه كان مجتازاً على المسجد فسمع رسول الله صلى اللُه عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية: " قَدْ نَرَى تَقَلُبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ " حتى فرغ من الآية؛ فقلت لصاحبي: تعالَ نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله ﷺ فنكون أوّلَ مَن صلى فتوارَيْنَا نَعَماً فصلّيناهما؛ ثم نزل رسول الله ﷺ فصلّى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لأبي سعيد بن المُعَلَّى غير هذا الحديث، وحديث: " كنت أصلّي " في فضل الفاتحة؛ خرّجه البخاري.
299
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
300
(وكذلك) أي كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك (جعلناكم أمة وسطاً) أي عدولاً خياراً، والوسط الخيار والعدل، والآية محتملة للأمرين، وقد ثبت عن النبي - ﷺ - تفسير الوسط هنا بالعدل، رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد مرفوعاً فوجب الرجوع إلى ذلك، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في عيسى، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، ويقال فلان أوسط قومه وواسطتهم ووسطهم أي خيارهم، والآية دلت على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم أي اختلت قاله الكرخي، وفيه دلالة على تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم.
(لتكونوا) اللام لام كي فتفيد العلية أو هي لام الصيرورة (شهداء على الناس) يعني يوم القيامة أي تشهدون للأنبياء على أممهم أنهم قد بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم، وقالت طائفة معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، وقيل المراد لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول (ويكون الرسول عليكم شهيداً) أى على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم، ومثله قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) وقيل عليكم بمعنى لكم أي يشهد لكم بالإيمان، وقيل معناه يشهد عليكم بالتبلغ لكم، قال في الكشاف: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى (والله على كل
300
شيء شهيد) (وكنت أنت الرقيب عليهم) (وأنت على كل شيء شهيد)، انتهى.
وإنما أخر لفظ (على) في شهادة الأمم على الناس وقدمها في شهادة الرسول عليهم لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم، وقيل أن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من عليكم فكان قوله (شهيداً) تمام الجملة ومقطعها دون عليكم، وهذا الوجه يرد على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المفعول يشعر بالاختصاص.
وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم (١) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ - " يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته، فذلك قوله يعني هذه الآية فتشهدون له بالبلاغ وأشهد عليكم " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر عن النبي - ﷺ - قال " أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه " وأخرج البخاري ومسلم (٢) وغيرهما عن أنس قال مروا بجنازة فأثنى عليها خيراً فقال النبي - ﷺ - " وجبت " ثلاثاً، ومروا
بجنازة فأثنى عليها شراً فقال النبي - ﷺ - " وجبت " ثلاثاً فسأله عمر فقال من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض " ثلاثاً. زاد الحكيم الترمذي ثم تلا رسول الله - ﷺ - هذه الآية. وفي الباب أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة عند أهل الصحاح
_________
(١) أحمد ٣/ ٣٢.
(٢) مسلم/٩٤٩. البخاري/٧٢٣.
301
والسنن وغيرهم.
(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس، ويؤيد هذا قوله (كنت عليها) إذ كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة، وقيل المراد الكعبة أي القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس ويكون كنت بمعنى الحال، وقيل المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تالفاً لليهود ثم صرف إلى الكعبة، وفيه أعاريب خمسة أحسنها ما ذكرناه.
(إلا لنعلم) استثناء مفرغ من أعم العلل (من يتبع الرسول) في التوجه إلى ما أمر به من القبلة أو الدين، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباع (ممن ينقلب على عقبيه) أي يرجع إلى الكفر، وقد ارتد لذلك جماعة، والمعنى ما جعلناها إلا لنبتليهم يعني من يسلم لأمره ممن يرجع إلى ما كان عليه من الكفر فيرتد، قال ابن عباس: لنميز أهل اليقين من أهل الشك قيل المراد العلم هنا الرؤية، وقيل ليعلم النبي وقيل المراد لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً، وهكذا ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه لا بد أن يؤول بمثل هذا كقوله (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء).
(وإن كانت لكبيرة) أي ما كانت إلا كبيرة كما قاله الفراء، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) من التحويلة والتولية أو الجعلة أو الردة ذكر معنى ذلك الأخفش، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة أي وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة أي تحويلها على أهل الشرك والريب، قاله ابن عباس.
302
(إلا على الذين هدى الله) أي هداهم للإيمان فانشرحت صدورهم لتصديقك وقبلت ما جئت به عقولهم، وهذا الاستثناء مفرغ لأن ما قبله في قوة النفي أي أنها لا تخف ولا تسهل إلا على أهل الهدى، وقيل استثناء من مستثنى منه محذوف أي وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين، وقيل يحتمل كلا الوجهين والأول أولى، وعن ابن جريج قال: بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا فقالوا مرة ههنا ومرة ههنا.
(وما كان الله ليضيع إيمانكم) وهذه اللام تسمى لام الجحود عند البصريين وخبر كان محذوف أي ما كان الله مريداً لإضاعة إيمانكم، والكوفيون لا يقدرون شيئاً وأن اللام عندهم للتأكيد وهكذا القول فيما أشبه هذا التركيب مما ورد في القرآن وغيره نحو (وما كان الله ليطلعكم، وما كان الله ليذر) قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس ثم قال: فسمى الصلاة إيماناً لاجتماعها على نية وقول وعمل، وقيل المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم، والأول يتعين القول به والمصير إليه لما أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحكم وصححه ابن عباس قال: لما وجه رسول الله - ﷺ - إلى القبلة قالوا يا رسول الله فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل. (وما كان الله) الآية وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار عن السلف.
(إن الله بالناس) تعليل لما قبله (لرؤوف رحيم) الرؤوف كثير الرأفة وهي أشد من الرحمة وأكثر منها والمعنى متقارب وقدم الأبلغ للفاصلة.
303
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
(قد نرى تقلب وجهك) تصرفه (في) جهة (السماء) قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء هذه الآية متقدمة في النزول على قوله: (سيقول السفهاء) ومعنى (قد) تكثير الرؤية كما قاله صاحب الكشاف، وقيل للتحقيق، والمعنى تحول وجهك إلى السماء قاله قطرب، وقال الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء والمعنى متقارب، والمعنى مطلعاً إلى الوحي ومتشوقاً للأمر باستقبال الكعبة، وكان يود ذلك لأنها قبلة إبراهيم، ولأنها أدعى إلى إسلام العرب.
(فلنولينك) هو إما من الولاية أي فلنعطينك ذلك أو من التولي أي فلنجعلنك متولياً إلى جهتها، وهذه بشارة من الله له صلى الله عليه وآله وسلم بما يحب، والفاء هنا للتسبب وقيل المعنى نحولنك (قبلة ترضاها) قاله ابن عمر: أي قبلة إبراهيم نحو الميزاب، وهذا أولى لقوله (فول وجهك شطر المسجد الحرام) المراد بالشطر هنا الناحية والجهة ويرد بمعنى البعض مطلقاً، ويكون بمعنى النصف في الشيء، وبمعنى الجهة والنحو، ويقال شطر أي بعد ومنه الشطر وهو الشاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله والشطير البعيد، ومنه منزل شطير وشطر إليه أي أقبل، قال الراغب: والشاطر أيضاً من يتباعد من الحق.
ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا الكعبة، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به، وعن البراء شطر المسجد قبله، وعن ابن عباس قال: نحوه وقال أبو العالية: تلقاءه، وقال ابن عباس: البيت كله قبلة وقبلة البيت الباب، وأخرج البيهقي عنه مرفوعاً قال:
304
البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض مشارقها ومغاربها من أمتي.
وقد أخرج ابن ماجة عن البراء قال صلينا مع رسول الله صلى عليه وآله وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين وكان رسول الله - ﷺ - إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة فصعد جبريل فجعل رسول الله - ﷺ - يتبعه بصره وهو يصعد بين السماء والأرض ينظر ما يأتيه به، فأنزل الله هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا جبريل كيف حالنا في صلاتنا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله يعني الآية التي قبل هذه.
واختلف في وقت تحويل القبلة فقيل كان في يوم الاثنين بعد الزوال للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله - ﷺ - المدينة، وعليه الأكثر وقيل كان يوم الثلاثاء لثمانية عشر شهراً وقيل كان لستة عشر شهراً وقيل لثلاثة عشر شهراً، وقيل في جمادى، وقيل في نصف شعبان، وقيل نزلت ورسول الله - ﷺ - في مسجد بني سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين، ووصل الخبر إلى أهل قباء في صلاة الصبح.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي عمر (١) قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، وظاهر حديث البراء في البخاري أنها كانت صلاة العصر، ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر.
_________
(١) البخاري/باب القبلة- ١٠.
305
(وحيث ما كنتم) أي من بر، أو بحر، مشرق أو مغرب وهذا خطاب للأمة (فولوا وجوهكم شطره) أي نحو البيت وتلقاءه، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة، (١) أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح قيل أراد بالمشرق مشرق الشتاء في أقصر يوم من السنة وبالمغرب مغرب الصيف في أطول يوم من السنة، فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت عن يمينه ومشرق الشتاء عن يساره كان مستقبلاً للقبلة، وهذا في حق أهل المشرق لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء، والذي بينهما فقوسها مكة، والفرض لمن بمكة في القبلة إصابة عين الكعبة، ولمن بعد من مكة إصابة الجهة ويعرف ذلك بدلائل القبلة، وليس هذا موضع ذكرها، وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد، وفيه إيجاب استقبال الكعبة في كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً في كل مكان حضراً أو سفراً، وهو مخصوص بالآية التقدمة في نافلة السفر على الراحلة وبالآية الآتية في حال المسايفة.
(وإن الذين أوتوا الكتاب) قال السدي: هم اليهود خاصة والكتاب التوراة وقال غيره: أحبار اليهود وعلماء النصارى لعموم اللفظ، والكتاب التوراة والإنجيل (ليعلمون أنه الحق من ربهم) الضمير في (أنه) راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحول إلى جهة الكعبة، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم، أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبي مستقبل الكعبة أو لأنهم قد علموا من كتبهم أو أنبيائهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة، فيكون ذلك موجباً عليهم الدخول في الإسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل راجع إلى الشطر، وقيل إلى النبي - ﷺ - ويكون على هذا إلتفاتاً من خطابه بقوله (فلنولينك) إلى الغيبة، والأول أولى (وما الله بغافل عما يعملون) قال السدي: أنزل ذلك في اليهود والمعنى ما أنا بساه عما يفعل هؤلاء اليهود فأنا أجازيهم عليه في الدنيا والآخرة.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٥٤٦٠.
306
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
(ولئن) لام قسم وإن شرطية (أتيت الذين أوتوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى (بكل آية) أي بكل معجزة وبكل حجة وبرهان (ما تبعوا قبلتك) أي الكعبة عناداً، وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترويح خاطره بأن هؤلاء لا يؤثر فيهم كل آية ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد، وذلك لأنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمرداً وعناداً مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً.
والإخبار في قوله (وما أنت بتابع) يمكن أن يكون بمعنى النهي من الله لسبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أي لا تتبع يا محمد (قبلتهم) ويمكن أن يكون على ظاهره دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة التي كان عليها، وهذه الجملة أبلغ من النفي من قوله (وما تبعوا قبلتك) من وجوه منها كونها اسمية تكرر فيها الاسم مؤكداً نفيها بالباء (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على متابعة الرسول - ﷺ - لما عندهم، هم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته، قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس، انتهى.
307
قال الشهاب: إن كون قبلة النصارى مطلع الشمس صرحوا به لكن وقع في بعض كتب القصص أن قبلة عيسى كانت بيت المقدس.
وقال الحافظ ابن القيم في بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق، وهم يقرون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبداً، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر، وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا عليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.
(ولئن اتبعت أهواءهم) يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم (من بعد ما جاءك من العلم) في أمر القبلة أو بأنهم مقيمون على باطل وعناد (إنك إذاً لمن الظالمين) فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود، وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من أمر رسول الله - ﷺ - الذي هو سيد ولد آدم (١) يوجب
_________
(١) ذكر مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع مسلم/٢٢٧٨.
كذلك يؤيده حديث الشفاعة الذي رواه مسلم/١٩٤ والبخاري/١٥٧٩: وملخصه أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك يجمع الله يوم القيامة الأولين والأخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم... فياتون آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويأتون عمداً ويسألونه الشفاعة فيجاب يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الناس. انظر بتنصل لحديث مسلم/٢٢٧٨.
308
الظلم عليه وحاشاه أن يكون من الظالمين. فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم، إن كان لهم في الناس دولة أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل بل اتباع أهوية المبتدعة يشبه اتباع أهوية أهل الكتاب كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة.
وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، لأن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك، والضد لما هنالك، ولا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه، وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم.
هذا إن كان في عداد المقصرين ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل، كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم، وختم على قلبه وصار نقمة على عباده ومصيبة صبها الله على المقصرين لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة نسأل الله اللطف والسلامة والهداية والكرامة.
309
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
310
(الذين آتيناهم الكتاب) يعني علماء اليهود والنصارى، وقيل أراد به مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (يعرفونه) الضمير لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يسبق له ذكر لدلالة الكلام عليه وعدم اللبس، ذكره القاضي ويقال عليه بل سبق ذكره بلفظ الرسول مرتين أي يعرفون نبوته، روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم، وقيل يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأول، وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآية.
(كما يعرفون أبناءهم) أنهم منهم لا يشكون فيه، ولا يشتبه عليهم كما لا تشتبه عليهم أبناؤهم من أبناء غيرهم، يعني يعرفون أن القبلة التي صرفتك إليها هي قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك، كما يعرفون أولادهم، قال ابن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد أشد، وخص الأبناء دون البنات أو الأولاد لأن الذكور أعرف وأشهر، وهم لصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق، والالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له صلى الله عليه وآله وسلم من حيث ذاته ونسبه بل من حيث كونه مسطوراً في الكتاب منعوتاً بالنعوت التي من جملتها أنه صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إلى القبلتين كأنه قيل: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وبهذا تظهر جزالة النظم الكريم ذكره الكرخي.
310
(وإن فريقاً منهم) أي من علماء أهل الكتاب (ليكتمون الحق) يعني أمر القبلة أو صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكتم الحق هو عند أهل القول الأول نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وعند أهل القول الثاني استقبال الكعبة (وهم يعلمون) أن كتمان الحق معصية.
311
(الحق) يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله (من ربك) أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره (فلا تكونن من الممترين) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والامتراء الشك، نهاه الله سبحانه عن الشك في كون الحق من ربه أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو تعريض للأمة أي لا يكن أحد من أمته من الممترين لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه وفيه كناية وهي أبلغ من التصريح.
(ولكل وجهة) أي لكل دين وجهة ولكل أهل ملة قبلة، والوجهة، فعلة من المواجهة وفي معناها الجهة والوجه وهي اسم للمكان المتوجه إليه كالكعبة أو مصدر، والمراد القبلة أي أنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم ولكل وجهة إما بحق وإما بباطل.
والضمير في (هو موليها) راجع إلى لفظ (كل) والهاء هي المفعول الأول والثاني محذوف أي موليها وجهه في صلاته، والمعنى أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه، فقبلة المسلمين الكعبة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس، أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق أو غرب أو جنوب أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين، ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه وإن لم يجر له ذكر إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك، والمعنى أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه، وقيل لكل واحد من الناس قبلة وقرىء مولاها، والضمير لواحد، والمعنى الواحد مولاها أي
311
محول ومصروف إليها.
(فاستبقوا الخيرات) أي فبادروا إلى ما أمركم الله به من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق وإن كان ظاهر الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خيره كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات، قال ابن زيد: يعني الأعمال الصالحة والمراد من الاستباق إلى الاستقبال الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها فإن الصلاة فيه أفضل، لأن ظاهر الأمر للوجوب، فإذا لم يتحقق الوجوب فلا أقل من الندب، والآية دليل لمذهب الشافعي في أفضلية الصلاة في أول الوقت، والسبق الوصول إلى الشيء أولاً، وأصله التقدم في السير ثم تجوز به في كل ما تقدم، والخيرات واحدها خيرة بوزن فيعلة أو زنة فعلة كجفنة، وعلى كلا التقديرين فليستا للتفضيل.
(أينما تكونوا) أي في أي جهة من الجهات المختلفة تكونوا (يأت بكم الله) للجزاء يوم القيامة فهو وعد لأهل الطاعة بالثواب ووعيد لأهل المعصية بالعقاب ويجمعكم (جميعاً) ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة (إن الله على كل شيء قدير) ومنه الإعادة بعد الموت والإثابة لأهل الطاعة والعقاب لمستحق العقوبة (١).
_________
(١) روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: " إنما مَثَلُ المُهجِّر إلى الصلاة كَمَثَل الذي يُهدِي البَدَنَة ثم الذي على أثَره كالذي يُهْدِي البقرة ثم الذي على أثره كالذي يُهدِي الكبش ثم الذي على أثره كالذي يُهْدِي الدّجاجة ثم الذي على أثره كالذي يُهدِي البيضة ". وروى الدارقُطْني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ أحدكم ليصلي الصَلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأوّل ما هو خير له من أهله وماله ". وأخرجه مالك.
312
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
313
(ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) الظاهر أن " من " هنا ابتدائية، والأقرب أن تكون بمعنى " في " أي مكان سافرت (وأنه) أي التولي (للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) بالياء والتاء وتقدم مثله.
(ومن حيث خرجت) أي من أي مكان خرجت للسفر (فول وجهك شطر السجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) كرر سبحانه هذا تأكيداً لأمر استقبال الكعبة وللاهتمام به لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم، وقيل وجه التكرير أن النسخ من مظان الفتنة ومواطن الشبهة، فإذا سمعوه مرة بعد أخرى ثبتوا واندفع ما يختلج في صدورهم، وقيل أنه كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل: الأولى ابتغاء مرضاته، والثانية يجري العادة الإلهية أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة جهة يستقبل بها، والثالثة دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها، وقيل أراد بالأول ول وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها، ثم قال: وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها فولوا وجوهكم شطره، ثم قال (ومن حيث خرجت) يعني وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمراً بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض.
(لئلا) اللام لام كي وإن هي المصدرية ولا نافية (يكون للناس عليكم حجة) قيل أراد بالناس أهل الكتاب، وقيل هو على العموم، وقيل هم
313
قريش واليهود. والمعنى لا حجة لأحد عليكم في التولي إلى غيره أي لتنتفي مجادلتهم لكم من قول اليهود يجحد ديننا ويتبع قبلتنا. وقول المشركين يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إلا الذين ظلموا منهم) يعني المعاندين من أهل الكتاب القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه، وقيل: هم مشركو العرب وحجتهم قولهم راجعت قبلتنا؛ وقيل: معناه لئلا يقولوا لكم قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، وقال أبو عبيدة: إلا ههنا بمعنى الواو، وأبطل الزجاج هذا القول وقال إنه استثناء منقطع أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون ومعناه إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كأن تقول ما لك عليّ حجة إلا أن تظلمني أي مالك علي حجة ولكنك تظلمني، وسمى ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة وإن كانت داحضة.
ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل وقال: نفى الله أن تكون لأحد حجة على النبي - ﷺ - وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم، وقالوا إن محمداً تحير في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أنّا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق، قال: والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم، ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجاج، قال القرطبي: وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد - ﷺ - إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله.
(فلا تخشوهم) أي لا تخافوا جدالهم في التولي إليها ومطاعنهم فإنها داحضة باطلة لا تضركم (واخشوني) أي احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم به وفرضته عليكم (ولأتم نعمتي عليكم) أي بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم لتتم لكم الملة الحنيفية، وقيل تمام النعمة الموت على الإسلام ثم دخول الجنة ثم رؤية الله تعالى (ولعلكم تهتدون) أي لكي تهتدوا من الضلالة، ولعل وعسى من الله واجب.
314
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
315
(كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) التشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير أي فاذكروني كما أرسلنا، قاله الزجاج وقيل غير ذلك، والتعبير بصيغة التكلم الدالة على العظمة بعد التعبير بالصيغة التي لا دلالة لها عليها من قبيل التفنن وجرياً على سنن الكبراء، وفيكم خطاب لأهل مكة والعرب وكذا قوله منكم، وفي إرساله رسولاً منهم نعمة عظيمة عليهم لما فيه من الشرف لهم، ولأن المعروف من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير، فكان بعثة الرسول منهم وفيهم أقرب إلى قبول قوله والانقياد له، والرسول هو محمد- ﷺ -، والآيات القرآن وذلك من أعظم النعم لأنه معجزة باقية على الدهر، والتزكية التطهير من دنس الشرك والذنوب، وقيل محاسن الأعمال ومكارم الأفعال، والحكمة هي السنة المطهرة والفقه في الدين.
(ويعلمكم) من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية وقصص الأنبياء والخبر عن الحوادث المستقبلة (ما لم تكونوا تعلمون) ذلك قبل بعثة رسول الله - ﷺ - وتستقلون بعلمه بعقولكم.
(فاذكروني أذكركم) أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة قاله سعيد بن جبير، والمعنى اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة حكاه عنه القرطبي، وروى نحوه مرفوعاً، وقيل الذكر يكون باللسان وهو التسبيح والتحميد ونحو ذلك من الأذكار المأثورة، ويكون بالقلب، وهو التفكر في الدلائل الدالة على وحدانيته وبدائع خلقه ويكون بالجوارح وهو الاستغراق في الأعمال التي أمروا
315
بها مثل الصلاة وسائر الطاعات التي للجوارح فيها فعل، وقيل غير ذلك.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " أخرجه البخاري ومسلم (١).
وأخرجا عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - يقول الله عز وجل " أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه " (٢) وأخرجا عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - ﷺ - " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر كمثل الحي والميت " (٣) وفي الباب أحاديث كثيرة.
(واشكروا لي) يعني بالطاعة ما أنعمت به عليكم، قال الفراء: شكرتك وشكرت لك واحد، قال ابن عطية: ولي أفصح وأشهر مع الشكر، والشكر معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور وقد تقدم الكلام فيه، وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق وفضل الشكر أحاديث كثيرة كما أشرنا اليه. (ولا تكفرون) أي بجحد النعم وعصيان الأمر، والكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب، فمن أطاع الله فقد شكره ومن عصاه فقد كفر، وقد تقدم الكلام فيه.
_________
(١) مسلم/٢٦٧٥.
(٢) ومثل ذلك ما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن بسر أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فانبثني منها بشيء أتشبث به قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل.
(٣) ومنه حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيروا هذا جمدان (جبل في طريق مكة) سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات مسلم/٢٦٧٦.
316
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
317
(يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) لما فرغ سبحانه من إرشاد عباده إلى ذكره وشكره عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر عن المعاصي وحظوظ النفس، وبالصلاة التي هي عماد الدين ومعراج المؤمنين، فإن من جمع بين ذكر الله وشكره واستعان بالصبر والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن فقد هدي إلى الصواب، ووفق للخير، ومن الناس من حمل الصبر على الصوم وفسره به، ومنهم من حمله على الجهاد ولا وجه لتخصيص نوع دون نوع، والصبر حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله، وتوطينها على تحمل المشاق في العبادات وسائر الطاعات، وتجنب الجزع والمحظورات، والمعنى استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض وبالصلوات الخمس على تمحيص الذنوب، وخصها بالذكر لتكررها وعظمها لأنها أم العبادات ومناجاة رب الكائنات.
(إن الله مع الصابرين) أي بالعون والنصر وإجابة الدعوة، وهذه المعية التي أوضحها الله فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال، وهذه المعية خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين، وأما المعية بالعلم والقدرة فهي عامة في حق كل أحد، والجملة تعليل لما قبلها من الاستعانة بالصبر خاصة كما قال أبو السعود أو بالصبر والصلاة كما قال الكرخي.
(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء) قيل نزلت فيمن قتل ببدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وسماهم في الخازن بأسمائهم وكان الناس يقولون فيهم مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأنزل الله هذه الآية، وقيل إن الكفار قالوا إن
317
الناس يقتلون أنفسهم ظلماً لمراضاة محمد - ﷺ - من غير فائدة فنزلت هذه الآية.
وأخبر الله أن من قتل في سبيله فإنه حي، وإنما خص الشهداء لأنهم فضلوا على غيرهم بمزيد النعم، وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها، وغيرهم ينعمون بما دون ذلك.
(ولكن لا تشعرون) بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب أرواحهم لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر، بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر. وليسوا كذلك في الواقع بل هم أحياء في البرزخ تصل أرواحهم إلى الجنان، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الروح من أجسادهم.
وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر للعصاة وأن المطيعين لله يصل إليهم ثوابهم وهم في قبورهم في البرزخ، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) وقد وردت أحاديث في أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة (١)، فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن ماجة وروي " أن أرواح الشهداء على صور طيور بيض " كما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية.
والآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر، وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهور الصحابة والتابعين، وبه نطقت الآيات والسنن، وعلى هذا تخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ومزيد البهجة والكرامة.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٥٥٥.
318
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)
319
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) أي لنختبرنكم واللام جواب القسم، أي والله لنبلونكم يا أمة محمد - ﷺ - والبلاء أصله المحنة أي نمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء أم لا، وليظهر الطائع من العاصي، والتنكير للتقليل أي بشيء قليل من هذه الأمور، فإن ما وقاهم عنه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة فكذا ما يصيب به معانديهم، وإنما أخبر به قبل الوقوع ليوطنوا عليه نفوسهم ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة، والمراد بالخوف ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره، وبالجوع المجاعة التي تحصل عند الجدب والقحط، وبنقص الأموال ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجبه الله فيها من الزكاة ونحوها.
عن رجاء بن حيوة قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة، وبنقص الأنفس بالموت والقتل في الجهاد، وبنقص الثمرات ما يصيبها من الآفات، وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها.
وقال الشافعي: في تفسير هذه الآية الخوف خوف الله والجوع صيام شهر رمضان ونقص الأموال إخراج الزكاة والصدقات ونقص الأنفس بالأمراض ونقص الثمرات موت الأولاد لأن الولد ثمرة القلب. وفي الحديث: " إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته ": أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم قال: أقبضتم ثمرة فؤاده! قالوا: نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً.
وقال حديث حسن، ولكن اللفظ القرآني أو سمع مما قال وأعم منه فلا يخصص
319
بشيء دون غيره (وبشر الصابرين) أمر لرسول الله - ﷺ - أو لكل من يقدر على التبشير، وقد تقدم معنى البشارة، والصبر أصله الحبس، والجملة عطف على (ولنبلونكم) عطف المضمون على المضمون أي الإبتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر قاله سعد التفتازاني.
320
(الذين إذا أصابتهم مصيبة) المصيبة واحدة المصايب وهي النكبة التي يتأذى بها الإنسان وإن صغرت (قالوا) أي باللسان والقلب لا باللسان فقط فإن التلفظ بذلك مع الجزع قبيح وسخط للقضاء وذلك أن يتصور ما خلق لأجله وأنه يرجع إلى ربه ويتذكر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى الله عليه أضعاف ما استرده منه فيهون عليه ويستسلم (إنا لله وإنا إليه راجعون) في الآخرة فيجازينا. وصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة لأن ذلك تسليم ورضا. وفيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله والاعتراف بالبعث والنشور، والرجوع والتفويض إلى الله والرضا بكل ما نزل به من المصايب.
وفي الحديث " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه " وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون ألا تسمع إلى قول يعقوب عند فقد يوسف يا أسفا على يوسف "، وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة. (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) الصلاة هنا المغفرة قاله ابن عباس، أو الثناء الحسن قاله الزجاج، وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد، وقال في الكشاف: الصلاة الرحمة والتعطف فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة كقوله رأفة رحمة، رؤوف رحيم، والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة بعد رحمة انتهى، وعبر عن المغفرة بلفظ الجمع للتنبيه على كثرتها وتنوعها، قاله البيضاوي وأبو السعود، وقيل المراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم.
320
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩)
321
(وأولئك هم المهتدون) يعني إلى الاسترجاع، وقيل إلى الجنة، وقيل إلى الحق والصواب، وقال عمر بن الخطاب: نعم العدلان ونعمت العلاوة، فالعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة الهداية، وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين ذكرها المفسرون لا نطيل بذكرها هنا فإنها معروفة في كتب الآثار.
(إن الصفا والمروة من شعائر الله) أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس الصلب وهو هنا علم، جبل من جبال مكة معروف، وكذلك المروة علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة واحدة والمروى، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، وقيل التي فيها صلابة، وقيل يعم الجميع، وقيل إنها الحجارة البيض البراقة. وقيل إنها الحجارة السود، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة أي من أعلام مناسكه، والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله اعلاماً للناس من الموقف والمسعى والمنحر، ومنه إشعار الهدي أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه، والأجود شعائر بالهمز لزيادة حرف المد وهو عكس معايش ومصايب.
(فمن حج البيت) هو في اللغة القصد، وفي الشرع الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه (أو اعتمر) العمرة في اللغة الزيارة، وفي الشرع الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة فالحج والعمرة قصد وزيارة
321
(فلا جناح) أي فلا إثم (عليه أن يطوف) أي يدور (بهما) ويسعى بينهما والجناح أصله الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري، وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: هو واجب وليس بركن، وعلى تاركه دم وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين، وعن أحمد أنه سنة، وأجمعوا على أنه مشروع فيهما، وإنما الخلاف في وجوبه.
ومما يقوي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية (ومن تطوع خيراً) أي زاد على ما فرض عليه من حج أو عمرة أو طواف أو تطوع بالسعي أو فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً (فإن الله شاكر عليم) مثيب على الطاعة لا يخفى عليه، وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة، وبه قال الحسن، وإليه ذهب الشافعي ومالك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها أرأيت قول الله (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة، لطاغية كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله إن الصفا والمروة الآية، قالت عائشة ثم قد بين رسول الله - ﷺ - الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما.
وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته، لأن الله قال (إن الصفا والمروة من شعائر الله) وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال سئل رسول الله - ﷺ - فقال إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا، وأخرج أحمد في مسنده والشافعي وابن سعد وابن
322
المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجزأة قالت: رأيت رسول الله - ﷺ - يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور بهما إزاره، وهو يقول " اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي " ويؤيد ذلك حديث " خذوا عني مناسككم " (١) واختار الشوكاني في جميع مؤلفاته الوجوب وهو الراجح.
_________
(١) وقد كثرت الكتب التي تتكلم عن كيفية جمع النبي ﷺ ومنها ما ألفه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
323
(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) فيه إخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون، وفيه دليل على جواز لعن الكافر بعد موته خلافاً لمن قال إنه لا فائدة له، واختلفوا من المراد بذلك فقيل أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد - ﷺ -، وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا - ﷺ - وآية الرجم وغيرها من الأحكام التي كانت في التوراة، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية لكل من كتم الحق.
وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يأتي منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلا الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها.
وفي قوله (من البينات والهدى) دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم، أخرجه البخاري.
والضمير في (بيناه) راجع إلى (ما أنزلنا) والكتاب اسم جنس وتعريفه
323
يفيد شموله لجميع الكتب، وقيل المراد به التوراة، واللعن: الإبعاد والطرد، والمراد بقوله (اللاعنون) الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره ورجحه ابن عطية، وقيل كل من يتأتى منه اللعن، فيدخل في ذلك الجن والإنس، وقال ابن عباس: جميع الخلائق إلا الجن والإنس، وقيل هم الإنس والجن، وقيل ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت إلى اليهود والنصارى الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام التوراة والإنجيل، وقيل هم الحشرات والبهائم.
ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء ابن عازب قال: كنا في جنازة مع النبي - ﷺ - فقال: " إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته " فذلك قول الله تعالى: (ويلعنهم اللاعنون) يعني دواب الأرض، وعن مجاهد إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم، وعنه أن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم، وعن أبي جعفر يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء.
وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئاً أبداً (إن الذين يكتمون) الآية، وقوله (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) إلى آخرها.
وهل إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين، فيه خلاف، والأصح أنه إذا أظهرها البعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتوماً، وقيل متى سئل العالم عن شيء يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره وإلا فلا، وفي الآية دليل على وجوب قبول قول الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله.
324
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
325
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) فيه استثناء التائبين الراجعين من الكفر إلى الإسلام والمصلحين لما فسد من أعمالهم، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله، قال قتادة: أصلحوا ما بينهم وبين الله وبينوا الذين جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدونه (فأولئك أتوب عليهم) يعني أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم، قاله سعيد بن جبير (وأنا التواب) أي المتجاوز عن عبادي الرجاع بقلوبهم المنصرفة عني إلى (الرحيم) بهم بعد إقبالهم علي، والجملة اعتراض تذييل محقق لمضمون ما قبله والالتفات إلى التكلم للتفنن في النظم الكريم، مع ما فيه من التلويح والرمز إلى ما مر من اختلاف المبدأ في فعله تعالى السابق وهو اللعن واللاحق وهو الرحمة.
(إن الذين كفروا) بالكتمان وغيره (وماتوا وهم كفار) جملة حالية وإثبات الواو فيها أفصح خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً وهو الزمخشري تبعاً للفراء، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه - ﷺ - من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم، وقيل يجوز لعنه عملاً بظاهر الحال كما يجوز قتاله، واستدل بقوله (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة) على جواز لعن الكفار على العموم قال القرطبي لا خلاف في ذلك قال وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره، سواء كان الكافر عاقلاً أو مجنوناً، وقال قوم من السلف: لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر.
325
قال: ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم لا على الأمر به.
قال ابن العربي: إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق لما روي أن النبي - ﷺ - أتى بشارب خمر مراراً فقال بعض من حضر " لعنه الله ما أكثر ما يشربه " فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم " (١) والحديث في الصحيحين (والناس أجمعين) قيل هذا يوم القيامة، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر، ومن يعلم بالعاصي ومعصيته ومن لا يعلم فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس، وقيل في الدنيا، والمراد يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم، عن أبي العالية قال: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم يلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون، وقال قتادة: يعني بالناس أجمعين المؤمنين.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٧٣١٩.
326
(خالدين فيها) أي في النار، وقيل في اللعنة وإنما أضمرت لعظم شأنها (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) فيعتذرون قاله أبو العالية، وقال ابن عباس: لا يؤخرون، والإنظار والإمهال، وقيل معناه لا ينظر الله إليهم فهو من النظر، وقيل هو من الانتظار أي لا ينتظرون ليعتذروا.
(وإلهكم إله واحد) أي لا شريك له في الألوهية ولا نظير له في الربوبية، والتوحيد هو نفي الشريك والقسيم والشبيه، فالله تعالى واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في مصنوعاته، وواحد في ذاته لا قسيم له. وواحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه (لا إله إلا هو) تقرير للوحدانية بنفي غيره من الألوهية وإثباتها له (الرحمن الرحيم) وقد تقدم تفسيرهما، وفيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع العلائق، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وصححه ابن
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
ماجة عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله ﷺ أنه قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) و (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وأخرج الديلمي عن أنس أن النبي ﷺ قال: " ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة (وإلهكم إله واحد) " الآيتين.
(إن في خلق السموات والأرض) لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله (وإلهكم إله واحد) عقب ذلك بالدليل الدال عليه وهو هذه الأمور الثمانية التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أخذ من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها أو يقتدر عليه أو على بعضه، وهي خلق السموات، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبث الدواب فيها بسببه، وتصريف الرياح، وتسخير السحاب، فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له وضاق ذهنه عن تصور حقيقته، وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه، وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخر، ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب، والآية في السماء سمكها وارتفاعها بغير عمد، ولا علاقة ما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها على الماء وما يرى فيها من الجبال والبحار، والمعادن والجواهر، والأنهار والأشجار والثمار والنبات.
327
(واختلاف الليل والنهار) تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر، وقيل في الطول والقصر والزيادة والنقصان قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه ثالث هو أنهما كما يختلفان في الأزمنة فهما يختلفان في الأمكنة فإن من يقول إن الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح، وفي موضع آخر ظهر، وفي آخر عصر، وفي آخر مغرب. وفي آخر عشاء. وهلم جرّاً. هذا إذا اعتبرنا البلاد المختلفة في الطول. أما البلاد المختلفة في العرض فكل بلد يكون عرضه للشمال أكثر كانت أيامه الصيفية أطول وأيامه الشتوية بالضد من ذلك، فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلاد وعروضها أمر عجيب قاله الكرخي.
وإنما قدم الليل على النهار لأن الظلمة أقدم. قال تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) وهذا أصح القولين، وقيل النور سابق الظلمة، ويبنى على هذا الخلاف فائدة وهي أن الليلة هل هي تابعة لليوم قبلها أو لليوم بعدها، فعلى القول الصحيح تكون الليلة لليوم بعدها فيكون اليوم تابعاً لها، وعلى القول الثاني تكون لليوم قبلها فتكون الليلة تابعة له، فيوم عرفة على القول الأول مستثنى من الأصل فإنه تابع لليلة بعده، وعلى الثاني جاء على الأصل.
والآية فيهما أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة يكون في النهار وطلب النوم والراحة يكون بالليل، فاختلافهما إنما هو لتحصيل مصالح العباد، والنهار ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقال النضر ابن شميل: أول النهار طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار، وكذا قال ثعلب والزجاج، وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام: قسماً جعله ليلاً محضاً وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقسماً جعله نهاراً محضاً وهو من طلوع الشمس إلى غروبها، وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل وهو
328
ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادىء ضوء النهار، هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة، وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف.
(والفلك التي تجري في البحر) وهي السفن وإفراده وجمعه بلفظ واحد وهو هذا ويذكر ويؤنث، قال تعالى (في الفلك المشحون) و (الفلك التي تجري في البحر) وقال (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) وقيل واحده فلك بالتحريك مثل أسد وأسد، والآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرجال، فلا ترسب، وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة وتسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء وهيجان البحر فلا ينجي منه إلا الله تعالى.
(بما ينفع الناس) يعني ركوبها، والحمل عليها في التجارات لطلب الأرباح، والآية في ذلك أن الله لو لم يقو قلب من يركب هذه السفن لما تم الغرض في منافعهم، وأيضاً فإن الله خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل، فصار ذلك سبباً يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وخوف البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع لأنه يربح، والمحمول إليه ينتفع بما حمل اليه.
(وما أنزل الله من السماء من ماء) أي المطر الذي به حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق (فأحيا به الأرض) أي أظهر نضارتها وحسنها (بعد موتها) أي بعد يبسها وجدبها، سماه موتاً مجازاً، والآية في هذين الله جعله سبباً لإحياء الجميع من حيوان ونبات ونزوله عند وقت الحاجة إليه بمقدار المنفعة وعند الاستسقاء والدعاء، وإنزاله بمكان دون مكان (وبث فيها) أي في الأرض (من كل دابة) قال ابن عباس: يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم، والآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم مع ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة، والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان، والبث النشر، والظاهر أن قوله (بث) معطوف على
329
قوله فأحيا لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر، وقال في الكشاف: أن الظاهر عطفه على أنزل، وقال أبو حيان: لا يصح عطفه على أنزل ولا على أحيا، والصواب أنه على حذف الموصوف أي وما بث، وفيه زيادة فائدة وهو جعله آية مستقلة وحذف الموصول شائع في كلام العرب انتهى.
(وتصريف الرياح) أي إرسالها عقيماً وملقحة وصراً ونصراً وهلاكاً وحارة وباردة ولينة وعاصفة، وقيل تصريفها في مهابها جنوباً وشمالاً ودبوراً وقبولاً وصباً ونكباء، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين، وقيل تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر، وعن أبيّ بن كعب: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة وكل شيء من الريح فهي عذاب، وقد ورد في النهي عن سب الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية، والآية في الريح أنه جسم لطيف لا يمسك ولا يرى وهو مع ذلك في غاية القوة بحيث يقلع الشجر والصخر، ويخرب البنيان العظيم، وهو مع ذلك حياة الوجود فلو أمسك طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن ما على وجه الأرض.
(والسحاب المسخر بين السماء والأرض) أي الغيم المذلل، سمي سحاباً لانسحابه في الهواء وسحبت ذيلي سحباً وتسحب فلان على فلان اجترأ، والمسخر المذلل، وسخره بعثه من مكان إلى آخر، وقيل تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، والأول أظهر، والآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية العظيمة يبقى معلقاً بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه ولا دعامة تسنده، وفيه آيات أخر ففي هذه الأنواع الثمانية دلالة عظيمة على وجود الصانع القادر المختار وأنه الواحد في ملكه فلا شريك له ولا نظير، وهو المراد بقوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو (لآيات لقوم يعقلون) أي دلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله، وإنما جمع آيات لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقاً مدبراً مختاراً.
330
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥)
(ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) إظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيم المضاف، وإبانة كمال قبح ما ارتكبوه.
ولما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه وجليل قدرته وتفرده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه نداً يعبده من الأصنام كذا قيل، وقد تقدم تفسير الأنداد مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد، بل أحبوها حباً عظيماً، وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه، ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله أي عبدة الأوثان، قاله الزجاج وابن كيسان، ويجوز أن يكون مبنياً للمفعول ومعناه كما يحب الله ويعظم، والأول أولى لقوله:
(والذين آمنوا أشد حباً لله) فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد، لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك بل يشركون الله معهم ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله، ويمكن أن يجعل هذه الجملة دليلاً على الثاني لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حباً لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين لله، وقيل المراد بالأنداد هنا الرؤساء والكبراء أي يطيعونهم في معاصي الله، ويقوى هذا الضمير في قوله (يحبونهم) فإنه لمن يعقل، ويقويه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك
(إذ تبرأ الذين اتبعوا) الآية،
331
والحب نقيض البغض والمحبة والإرادة وقيل في معنى الآية غير ذلك وإيثار إظهار الاسم الجليل في موضح الإضمار لتفخيم الحب والإشعار بعلته.
(ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب) قرأ أهل مكة بالياء وأهل الشام بالفوقية، والمعنى على الأولى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه (أن القوة لله جميعاً) قاله أبو عبيدة، قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير انتهى، وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية، وروي عن محمد بن يزيد قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيدة بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة لأنه يقدر ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو الأحسن ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله، ويرى بمعنى يعلم أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه، قال: وجواب لو محذوف أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله (ولو ترى إذ وقفوا على النار) (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم).
ومن قرأ بالفوقية فالتقدير ولو ترى يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعاً، وقد كان النبي ﷺ علم ذلك؛ ولكن خوطب بهذا الخطاب؛ والمراد به أمته، وقيل (أن) في موضع نصب مفعول لأجله أي لأن القوة لله، ودخلت إذ وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه، وهو مما يتكرر في القرآن كثيراً، وجميع في الأصل فعيل من الجمع وكأنه اسم جمع فلذلك يتبع تارة بالمفرد، قال تعالى: (نحن جميع منتصر) وتارة بالجمع قال تعالى (جميع لدينا محضرون) وينتصب حالاً ويؤكد بمعنى كل، ويدل على الشمول كدلالة كل، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان.
(وأن الله شديد العذاب) عطف على ما قبله وفائدته تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه.
332
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)
(إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب) أي تنزه وتباعد معناه أن السادة والرؤساء من مشركي الإنس تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر ورأوا يعني التابعين والمتبوعين العذاب، قيل عند المعاينة في الدنيا، وقيل عند العرض والمساءلة في الآخرة، ويمكن أن يقال فيهما جميعاً إذ لا مانع من ذلك، وقيل هم الشياطين يتبرؤون من الإنس وبه قال قتادة، والقول هو الأول، وقد احتج جمع من أهل العلم بهذه الآية على ذم التقليد وهو مذكور في موطنه (وتقطعت بهم) أي عنهم (الأسباب) بسبب كفرهم جمع سبب، وأصله في اللغة الحبل الذي يشد به الشيء ويجذب به، ثم جعل كل ما جر شيئاً سبباً فهي مجاز هنا، والمراد بها الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحمة وغيرها، وقيل هي الأعمال، وقال ابن عباس: هي المنازل، وقال أيضاً: هي الأرحام وقال المودة، وقيل العهود والحلف.
333
(وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة) أي رجعة إلى الدنيا، الكرة الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، و " لو " هنا بمعنى التمني كأنه قيل ليت لنا كرة، ولهذا وقعت الفاء في الجواب، والمعنى أن الاتباع قالوا لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحاً (فنتبرأ منهم) أي المتبوعين (كما تبرؤا منا) اليوم وهو جواب التمني (كذلك) أي كما أراهم الله العذاب (يريهم الله أعمالهم) السيئة، وهذه الرؤية إن كانت البصرية فقوله (حسرات عليهم) منتصب على الحال،
333
وإن كانت القلبية فهو المفعول الثالث، والمعنى أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات وندامات أو يريهم الله الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها فيكون ذلك حسرة عليهم، والحسرة الغم على ما فاته وشدة الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه (وما هم بخارجين من النار) فيه دليل على خلود الكفار في النار، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب والبحث في هذا يطول، عن ثابت بن معبد قال: ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت هذه الآية.
334
(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) قيل إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الحرث والأنعام، حكاه القرطبي في تفسيره، وهذا هو المشهور بخلاف ما جرى عليه القاضي من أنها نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس فإنه مرجوح، قاله الكرخي، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسمي الحلال حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه، والطيب هنا هو المستلذ كما قاله الشافعي وغيره، وقال مالك وغيره: هو الحلال فيكون تاكيداً لقوله حلالاً.
" ومن " في مما للتبعيض للقطع بأن في الأرض ما هو حرام كالحجارة لا يؤكل أصلاً، وليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال حلالاً والأمر مستعمل في كل من الوجوب والندب والإباحة، الأول إذا كان لقيام البنية، والثاني كالأكل مع الضيف، والثالث كغير ما ذكر، وقيل معنى حلالاً، مأذوناً فيه شرعاً، والطيب الحلال وإن لم يستلذ كالأدوية، وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نص أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض فأصله الحل حتى يرد دليل يقتضي تحريمه وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى: (وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً).
334
(ولا تتبعوا خطوات الشيطان) جمع خطوة بالفتح والضم وهي بالفتح المرة وبالضمة لما بين القدمين، وقيل إنهما لغتان وقرىء خطؤات، بضم الخاء والطاء والهمز على الواو، قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة من الخطأ لا من الخطو، والمعنى على قراءة الجمهور لا تقتفوا أثر الشيطان وطرقه وتزيينه وعمله، وكل ما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان، وقيل هي النذور في المعاصي، وقيل المحقرات من الذنوب. والأولى التعميم وعدم التخصيص بفرد أو نوع، قال ابن عباس: ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان، وقال عكرمة: هي نزعات الشيطان، وعن سعيد بن جبير قال: هي تزيين الشيطان، وقال قتادة: كل معصية لله فهي من خطواته، وعن ابن عباس: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من الخطوات وكفارته كفارة يمين.
(إنه لكم عدو) تعليل للنهي عن الاتباع (مبين) أي ظاهر العداوة ومثله قوله تعالى (إنه عدو مضل مبين) وقوله (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) وقد أظهر الله عداوته بآية السجود لآدم. (١)
_________
(١) وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبد الله بن عمر: إن إبليس مُوثَق في الأرض السُفلى، فإذا تحرك فإن كل شرٍّ في الأرض بين اثنين فصاعداً من تحرّكه. وخرّج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: " وآمركم أن تذكروا الله فإن مَثَل ذلك كَمَثَل رجل خرج العدوّ في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله " الحديث. وقال فيه: (حديث حسن صحيح غريب).
335
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
ثم بين عداوته ما هي فقال
336
(إنما يأمركم) قيل استعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تسفيهاً لرأيهم، وتحقيراً لشأنهم قاله البيضاوي، وقيل لا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره لأن حقيقته طلب الفعل، ولا ريب أن الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه (بالسوء) سمي السوء سوءاً لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته، وهومصدر ساءه يسؤه سوءاً ومساءة إذا أحزنه (والفحشاء) أصله سوء المنظر ثم استعمل فيما يقبح من المعاني، وقيل السوء القبيح والفحشاء التجاوز للحد في القبح، وقيل السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه الحد قاله ابن عباس، وقيل الفحشاء الزنا، وقيل هو البخل وقيل إن كل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء.
(وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) أي بأن تقولوا، قال ابن جرير الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوهما مما جعلوه شرعاً. وقيل هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم، والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع بغير علم فيتناول ذلك جميع المذاهب الفاسدة التي لم يأذن فيها الله، ولم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي يجدها الإنسان في قلبه، وفاعل هذه الخواطر هو الله تعالى، وإنما الشيطان كالعرض، وقد صح عنه - ﷺ - أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم:
(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) الضمير في (لهم) راجع إلى الناس في قوله (يا أيها الناس) لأن الكفار منهم، وهم المقصودون هنا فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة على طريق الالتفات،
336
مبالغة في بيان ضلالهم، كأنه يقول للعقلاء انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون، وقيل مشركو العرب خاصة، وقد سبق ذكرهم في قوله (من يتخذ من دون الله أنداداً) ولفظ أبي السعود نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج الظاهرة والبينات الباهرة فجنحوا للتقليد انتهى، وقيل نزلت في اليهود، وعلى هذا فالآية مستأنفة، وألفينا معناه وجدنا وفي هذه الآية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش، واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره حيث عارضوا الدلالة بالتقليد.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) الآية يعني من التحريم والتحليل، وفي ذلك دليل على قبح التقليد والمنع منه، والبحث في ذلك يطول.
قال الرازي في هذه الآية تقرير هذا الجواب من وجوه.
(أحدها) أنه يقال للمقلد هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقاً أم لا، فإن اعترفت بذلك لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً فكيف عرفت أنه محق، وإن عرفت بتقليد آخر لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل فذلك كاف فلا حاجة إلى التقليد، وإن قلت ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً، فإذاً قد جوزت تقليده وإن كان مبطلاً، فإذاً أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل.
(وثانيها) هب أن ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط وما اختار فيه البتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل، فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا.
(وثالثها) أنك إذا قلدت من قبلك فذلك المتقدم كيف عرفته، أعرفته بتقليد أم لا بتقليد، فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل، وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم
337
بالدليل لا بالتقليد، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلاً.
وإنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل، انتهى كلامه.
وكم من آية بينة وأثر جلي تدل على ذم التقليد والمقلدين، ولكن مفاسد الجهل والتعصب كثيرة لا يأتي عليها الحصر، وقد أفرده الشوكاني بمؤلف مستقل سماه القول المفيد في حكم التقليد، واستوفى الكلام فيه في أدب الطلب ومنتهى الأرب، وألف الحافظ الواحد المتكلم ابن القيم في ذلك كتاباً ضخماً سماه أعلام الموقعين عن رب العالمين.
قال ابن عباس: دعا رسول الله - ﷺ - اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد - ﷺ - ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيراً منا، فأنزل الله في ذلك هذه الآية:
(أولو كان آباؤهم) الهمزة للإنكار، والواو إما للحال أو للعطف، وجواب لو محذوف قاله أبو البقاء وتقديره لاتبعوهم، والذي جرى عليه أبو السعود أن لو في مثل هذا التركيب لا تحتاج إلى جواب لأن القصد منها تعميم الأحوال (لا يعقلون) أي لا يعلمون (شيئاً) من أمر الدين، وهذا لفظ عام ومعناه خاص لأنهم كانوا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به خاص (ولا يهتدون) إلى الصواب وكيفية اكتسابه، قال البيضاوي: وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد.
338
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
ثم ضرب لهم مثلاً فقال
339
(ومثل الذين كفروا) في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم وفي ذلك نهاية الزجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقهم في التقليد (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) فيه تشبيه واعظ الكافرين وداعهم وهو محمد - ﷺ - بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع (إلا دعاء ونداء) ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره الزجاج والفراء وسيبويه، وبه قال جماعة من السلف، قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به، والمعنى مثلك يا محمد - ﷺ - ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى عليه، وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم يعني الأصنام كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي، وبه قال ابن جرير الطبري، وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى فهو يصيح بما لا يسمع ويجيبه ما لا حقيقة فيه، فهذه أربعة أقوال.
وقال البيضاوي: المعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه.
وقد اختلف الناس في هذه الآية اختلافاً واضطربوا اضطراباً شديداً.
والذي لخصناه أقوال مهذبة لكل قول منها تقدير، ذكره السمين، والنعيق زجر
339
الغنم والصياح بها. والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون أجهل من راعي ضان، قال ابن عباس: مثل الذين كفروا مثل البقر والحمار والشاة إن قلت لبعضها كلاماً لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك، ونحوه قال مجاهد والدعاء والنداء بمعنى واحد وسوغ العطف اختلاف اللفظ.
(صم بكم عمي) هذا نتيجة ما قبله، ورفع على الذم أي هم صم عن سماع الحق ودعاء الرسول (بكم) عن النطق بالحق (عمي) عن طريق الهدى (وفهم لا يعقلون) أي بالعقل للإخلال بالنظر نتيجة للنتيجة، قيل المراد به العقل الكسبي، لأن العقل الطبيعي كان حاصلاً فيهم، قال عطاء: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) إلى قوله فما أصبرهم على النار.
340
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) هذا تأكيد للأمر الأول أعني قوله: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) هو وإنما خص المؤمنين هنا لكونهم أفضل أنواع الناس، قيل والمراد بالأكل الانتفاع وقيل المراد به الأكل المعتاد وهو الظاهر، وقيل أن الأمر في كلوا قد يكون للوجوب كالأكل لحفظ النفس ودفع الضر عنها، وقد يكون للندب كالأكل مع الضيف، وقد يكون للإباحة إذا خلا من هذه العوارض، وعن عمر بن عبد العزيز أن المراد بما في الآية طيب الكسب لا طيب الطعام، وقال الضحاك: أنها حلال الرزق.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن الله لا يقبل إلا طيباً وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما
340
تعملون عليم) وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له " وقيل الطيب المستلذ من الطعام فلعل قوماً تنزهوا عن أكل المستلذ من الطعام فأباح الله لهم ذلك.
(واشكروا الله) على ما رزقكم من نعمه وأحل لكم، وفيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة إذ لو جرى على الأسلوب الأول لقال واشكرونا، والأمر فيه للوجوب فقط (إن كنتم إياه تعبدون) أي تخصونه بالعبادة وتقرون بأن إلهكم لا غيره كما يفيده تقديم المفعول، وقيل إن كنتم عارفين بالله وبنعمته فاشكروه عليها، والأول أولى.
341
(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) لما أمرنا الله تعالى في الآية التي تقدمت بأكل الطيبات التي هي الحلالات، بين في هذه الآية أنواعاً من المحرمات فقال (إنما) وهي كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حصرت ههنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها أي ما حرم عليكم إلا الميتة وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة.
وقد خصص هذا العموم بمثل حديث " أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد " أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى (أحل لكم صيد البحر) فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر.
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها
341
وميتها، وقال بعض أهل العلم أنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء، قال ابن القاسم: أنا أتقيه ولا أراه حراماً، والدم هو الجاري السائل وكانت العرب تجعل الدم في المصارين ثم تشويه وتأكله، فحرمه الله تعالى.
وقد اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى (أو دماً مسفوحاً) فيحمل المطلق على المقيد لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي بالإجماع، وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبي - ﷺ - ولا ينكره.
وأما لحم الخنزير فظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير) أن المحرم إنما هو اللحم فقط، وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره، وقد ذكرت جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم، وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه تجوز الخرازة به، وقيل: أراد بلحمه جميع أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود لذاته بالأكل، واختلفوا في نجاسته فقال الجمهور أنه نجس وقال مالك أنه طاهر وكذا كل حيوان عنده، لأن علة الطهارة هي الحياة، وللشافعي قولان في ولوغ الخنزير (الجديد) أنه كالكلب (والقديم) يكفي فيه غسلة واحدة.
والآية قصر قلب للرد على من استحل هذه الأربعة وحرم الحلال غيرها كالسوائب ومع ذلك هو نسبي أي ما حرم عليكم إلا هذه الأربعة لا غيرها من البحيرة وما بعدها في الآية وإن كان حرم غيرها من الأمور المذكورة في أول المائدة.
(وما أهل به لغير الله) يعني ما ذبح للأصنام والطواغيت وصيح في
342
ذبحه لغير الله، وأصل الإهلال رفع الصوت يقال أهل بكذا أي صرخ ورفع صوته ومنه إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته، ومنه الهلال لأنه يصرخ عند رؤيته، والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير الله تعالى كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنياً، والنار إذا كان الذابح مجوسياً. ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله.
ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن، قال مجاهد: يعني ما ذبح لغير الله، أخرجه ابن أبي حاتم، وفي تفسير النيسابوري للنظام قال العلماء لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً، وذبيحته ذبيحة مرتد انتهى.
وقال صاحب الروض: إن المسلم إذا ذبح للنبي - ﷺ - كفر وانتهى، وهذا القائل من الشافعية.
قال الشوكاني: وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم كفراً عنده فكيف بالذبح لسائر الأموات، انتهى.
وقيل أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان التي كانوا يذبحونها لأصنامهم كما تقدم وأجازوا ذبيحة النصارى إذا سمي عليها باسم المسيح، وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب لعموم قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يحل ذلك، والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم، ورُوي عن علي أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
343
(فمن اضطر) إلى شيء من هذه المحرمات، والمضطر هو المكلف بالشيء الملجأ إليه المكره عليه والمراد هنا من خاف التلف، والمضطر إما بإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه، أو يجوع في مخمصة، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها، وإن كانت نادرة فقال الشافعي: يأكل ما يسد به الرمق، وبه قال أبو حنيفة أو يأكل قدر الشبع، وبه قال مالك، فأكل (غير باغ) بالاستئثار على مضطر آخر أو على الوالي وأصل البغي الفساد (ولا عاد) اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد، والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة وبلغة، وقال ابن عباس: باغ في الميتة وعاد في الأكل وقيل غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قاطع السبيل والخارج على السلطان والمفارق للجماعة والأئمة، والمفسد في الأرض وقاطع الرحم، وقيل المراد غير باغ على مضطر آخر ولا عاد لسد الجوعة، قاله سعيد بن جبير.
(فلا إثم عليه) في تناوله ولا حرج، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى (إن الله غفور) لمن أكل من الحرام (رحيم) به إذ أحل له الحرام في الاضطرار. (١)
_________
(١) روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سَمَاك بن حرب عن جابر بن سَمُرة أن رجلاً نزل الحَرّة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضَلّت فإن وجدتها فأمسكها؛ فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبى فَنَفَقَت. فقالت: اسلخها حتى نُقدّد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسال رسول الله ﷺ فأتاه فسأله، فقال: " هل عندك غنىَّ يغنيك " قال لا، قال: " فكلوها " قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر؛ فقال: أفلا كنت نحرتها! فقال: أستحييت منك.
344
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)
345
(إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) المراد بهذه الآية علماء اليهود لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد - ﷺ - ونعته ووقت نبوته، هذا قول المفسرين، وقال المتكلمون بل كانوا يكتمون التأويل، والعنى يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب، والأول أولى (ويشترون به) أي بالكتمان أو بما أنزل الله من الكتاب، والأول أظهر، والاشتراء هنا الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه (ثمناً قليلاً) سماه قليلاً لانقطاع مدته وسوء عاقبته، وهذا السبب وإن كان خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله وأخذ عليه الرشا.
(أولئك ما يأكلون في بطونهم) ذكر البطون دلالة وتأكيداً على أن هذا الأكل حقيقة، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل أكل فلان أرضي ونحوه، وقال في الكشاف معناه ملء بطونهم ظرف متعلق بما قبله لا حال مقدرة كما قال الكواشي (إلا النار) استثناء مفرغ أي أنه يوجب عليهم عذاب النار فسمى ما أكلوه ناراً لأنه يؤول إليها، هكذا قال أكثر المفسرين وهو من مجاز الكلام، وقيل إنهم يعاقبون على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ومثله قوله سبحانه (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً).
(ولا يكلمهم الله يوم القيامة) أي كلام رحمة وما يسرهم بل يكلمهم بالتوبيخ، وعدم تكليم الله إياهم كناية عن حلول غضب الله عليهم وعدم الرضا عنهم، يقال فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه، وقال ابن جرير
345
الطبري المعنى ولا يكلمهم بما يحبونه ولا بما يكرهونه كقوله تعالى (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) وإنما كان عدم تكليمهم في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله فيه كل الخلائق بلا واسطة فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه وضده في أعدائه.
(ولا يزكيهم) لا يثنى عليهم خيراً، قاله الزجاج وقيل معناه لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم أو لا ينزلهم منازل الأزكياء، وقيل لا يطهرهم من دنس الذنوب (ولهم عذاب أليم) أي وجيع يصل ألمه إلى قلوبهم وهو النار.
346
(أولئك) أي الموصوفون بالصفات الستة من قوله (إن الذين يكتمون) إلى هنا، وهذا بيان لحالهم في الدنيا بعد أن بين حالهم في الآخرة (الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة) أي اختاروا الضلالة على الهدى واختاروا العذاب على المغفرة، لأنهم كانوا عالمين بالحق، ولكن كتموه وأخفوه، وكان في إظهاره الهدى والمغفرة. وفي كتمانه الضلالة والعذاب (فما أصبرهم على النار) حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل، وقد تقدم تحقيق معناه.
وذهب الجمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب، والمراد تعجب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم، وحكي الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم ما أصبر فلاناً على الحبس أي ما أبقاه فيه، وقيل المعنى ما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبراً، وقال الكسائي وقطرب أي ما أدومهم على عمل أهل النار، وقيل " ما " استفهامية ومعناه التوبيخ أي أي شيء صبرهم على عمل أهل النار، وهذا من مجاز الكلام، وبه قال ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة.
346
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
347
(ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) أي ذلك الأمر وهو العذاب، قاله الزجاج، وقال الأخفش: إن خبر اسم الإشارة محذوف والتقدير ذلك معلوم والمراد بالكتاب هنا القرآن أو التوراة والحق الصدق، وقيل الحجة (وإن الذين اختلفوا في الكتاب) يعني في معانيه وتأويله فحرفوه وبدلوه، وقيل آمنوا ببعض وكفروا ببعض، والمراد بالكتاب قيل التوراة فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى وأنكرهم اليهود، وقيل خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واختلفوا فيها، وقيل المراد القرآن والمختلفون هم كفار قريش، يقول بعضهم هو سحر وكهانة، وبعضهم يقول هو أساطير الأولين، وبعضهم يقول غير ذلك، وقيل المختلفون هم اليهود والنصارى (لفي شقاق) أي خلاف ومنازعة (بعيد) عن الحق وقد تقدم معنى الشقاق.
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) قيل أن هذه الآية نزلت للرد على اليهود والنصارى لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله ﷺ إلى الكعبة، وقيل أن سبب نزولها أنه سأل رسول الله - ﷺ - سائل عن الإيمان فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ثم سأله أيضاً فتلاها ثم سأله فتلاها قال وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك "، أخرجه ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر.
347
قيل أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى لأنهم يستقبلون مطلع الشمس وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود لأنهم يستقبلون بيت المقدس، وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك وزعم كل طائفة منهم أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر ليس فيما زعموا ولكنه فيما بينه في هذه الآية، وقيل المخاطب هم المسلمون وقيل هو عام لهم ولأهل الكتابين أي ليس البر مقصوراً على أمر القبلة.
والبر اسم جامع لكل طاعة وعمل الخير، ويجوز أن يكون بمعنى البار، ويطلق المصدر على اسم الفاعل كثيراً ومنه في التنزيل (إن أصبح ماؤكم غوراً) أي غائراً وهذا اختيار أبي عبيدة، والمشرق جهة شروق الشمس، والمغرب جهة غروبها، وهذا مشكل بما تقدم من أن قبلة اليهود إنما هي بيت المقدس، وهو بالنسبة إلى المدينة شمال لا مغرب (١) لأن من استقبل بيت المقدس يكون فيها ظهره مقابلاً لميزاب الكعبة ووجهه مقابلاً لبيت المقدس الذي هو من جهة الشام وكذا بالنسبة لمكة فلم يظهر المراد في هذه الآية، وقد تنبه أبو السعود لهذا وأجاب عنه بما لا يجدي شيئاً فليتأمل فإني لم أر من حقق المقام والله أعلم.
(ولكن البر) أي لكن ذا البر، وقرىء البار أو بر (من آمن بالله) والأخير أوفق وأحسن، والبر اسم جامع لكل طاعة وأعمال الخير مما لا يختلف باختلاف الشرائع وما يختلف باختلافها، والمراد بالبر هنا الإيمان والتقوى (واليوم الآخر) ذكر ذلك لأن عبدة الأوثان كانوا ينكرون البعث بعد الموت (والملائكة) أي الإيمان بهم كلهم لأن اليهود قالوا إن جبريل عدونا (والكتاب) قيل أراد به القرآن وقيل جميع الكتب المنزلة لسياق ما بعده وهو قوله (والنبيين) يعني أجمع، وإنما خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها.
_________
(١) إنما يأتي الإشكال على قول من فسر الآية بهذا القول، أما على قول الأخرين فلا إشكال.
348
(وآتى المال على حبه) ضمير حبه راجع إلى المال، وقيل إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله وآتى المال وقيل أنه راجع إلى الله سبحانه أي على حب الله، والمعنى على الأول أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به، ومنه قوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وعلى الثاني أنه يحب إيتاء المال وتطيب به نفسه، وعلى الثالث أنه أعطى من تضمنته الآية في حب الله عز وجل لا لغرض آخر، وهو مثل قوله (ويطعمون الطعام على حبه).
عن ابن مسعود قال: يعطى وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخاف الفقر، وأخرج الحاكم عنه مرفوعاً مثله، وعن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم قال " أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " أخرجه الشيخان (١).
(ذوي القربى) يعنى أهل قرابة المعطي وقدم ذوي القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء، وقد ثبت عن النبي - ﷺ - أنه قال: " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة " أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي (٢).
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود أنها سألت رسول الله هل تجزىء عنها من الصدقة النفقة على زوجها وأيتام في حجرها فقال: " لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة "، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ".
_________
(١) مسلم/١٠٣٢ - البخاري/٧٥٧.
(٢) أحمد ٤/-٢١٤، ١٨، ٧.
349
(واليتامى) أي وهكذا اليتامى المحاويج الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى لعدم قدرتهم على الكسب، واليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر (والمساكين) جمع مسكين، والمسكين الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئاً (وابن السبيل) المسافر المنقطع، وجعل ابنا للسبيل لملازمته له، وهو اسم جنس أو واحد أريد به الجمع.
(والسائلين) يعني الطالبين للإحسان المستطعمين ولو كانوا أغنياء، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " للسائل حق ولو جاء على فرس " (١) أخرجه أحمد وأبو داود، وعن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال: " أعطوا السائل ولو جاء على فرس "، أخرجه مالك في الموطأ، وعن أم نجيد قالت: قلت يا رسول الله المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئاً أعطيه إياه قال " إن لم تجدي إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه في يده "، أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح، وفي رواية مالك في الموطأ عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " ردوا المسكين ولو بظلف محرق ".
(وفي الرقاب) يعني المكاتبين وقيل هو فك النسمة وعتق الرقبة وفداء الأسارى أي دفعه في فكها أي لأجله وبسببه (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) المفروضة، فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوع لا صدقة الفريضة (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) الله أو الناس، قيل المراد بالعهد القيام بحدود الله والعمل بطاعته وقيل النذر ونحوه، وقيل الوفاء بالمواعيد والبر في الحلف وأداء الأمانات (والصابرين في البأساء) الشدة والفقر (والضراء) المرض والزمانة، والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ولا فعل لهما لأنهما اسمان وليسا بنعت ونصب والصابرين على المدح وقيل على الإختصاص، ولم يعطف على ما قبله لمزيد شرف الصبر وفضيلته. قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح
_________
(١) مسند أحمد ١/ ٢٠١.
350
أو الذم وخولف الأعراب في بعضها فذلك تفنن ويسمى قطعاً، لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع الذكر ومزيد اهتمام بشأنه.
قال الراغب: ولما كان الصبر من وجه مبدأ للفضائل ومن وجه جامعاً للفضائل إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ، غير إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد، وهذا كلام حسن، فالآية جامعة لجميع الكمالات الإنسانية وهي صحة الإعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس.
(وحين البأس) أي وقت الحرب وشدة القتال في سبيل الله وسمى الحرب بأساً لما فيه من الشدة.
(أولئك الذين صدقوا) وصفهم بالصدق في أمورهم والوفاء بها وإنهم كانوا جادين في الدين واتباع الحق، وتحري البر، حيث لم تغيرهم الأحوال، ولم تزلزلهم الأهوال، قال ربيع: صدقوا أي تكلموا بكلام الإيمان فكانت حقيقته العمل، قال: وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء.
(وأولئك هم المتقون) عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم، وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم، قال الواحدي: إن الواوات في هذه الأوصاف تدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها، فمن قام بواحد منها لا يستحق الوصف بالبر، وقيل هذه خاصة الأنبياء لأن غيرهم لا تجتمع فيه تلك الصفات، وقيل هي عامة في جميع المؤمنين وهي الأولى إذ لا دليل على التخصيص.
351
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
352
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) كتب معناه فرض وأثبت، وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك وقيل إن كتب هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، والخطاب للقاتلين وولاة الأمور، والقصاص أصله قص الأثر أي اتباعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل يقص أثره فيها ومنه قوله تعالى (فارتدا على آثارهما قصصاً) وقيل أن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع يقال قصصت ما بينهما أي قطعته، قيل نزلت في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية بسبب قتيل فكانت بينهم قتلى وحروب وجراحات كثيرة ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، وقيل نزلت في الأوس والخزرج، وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف.
وقيل نزلت لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوب القتل بلا عفو، ووجوب العفو بلا قتل، والقتل تارة وأخذ الدية تارة؛ والقصاص فرض على القاتل للولي لا على الولي، والقصاص المساواة والمماثلة في القتل والدية والجراح فيقتل القاتل بمثل الذي قتل به، وهو قول مالك والشافعي؛ وقيل يقتل بالسيف وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد؛ والكلام في فروع هذه المسألة يطول؛ " وفي " في القتلى للسبب كقوله - ﷺ - " أن امرأة دخلت النار في هرة أي بسببها " وفعلى يطرد جمعاً لفعيل بمعنى مفعول.
352
(الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد وهم الجمهور، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به إذا كان غير سيده، وأما سيده فلا يقتل به إجماعاً إلا ما روي عن النخعي، فليس مذهب أبي حنيفة ومن معه على الإطلاق ذكره الشوكاني في شرح المنتقي، قال القرطبي: وروي ذلك عن علي وابن مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم بن عتبة، واستدلوا بقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله الحر بالحر والعبد بالعبد مفسر لقوله تعالى (النفس بالنفس) وقالوا أيضاً أن قوله (وكتبنا عليهم فيها) يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة.
ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله - ﷺ - " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ويجاب عنه بأنه مجمل، والآية مبينة ولكنه يقال أن قوله تعالى (الحر بالحر والعبد بالعبد) إنما أفاد بمنطوقه أن الحر يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحر لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر، وهم الكوفيون والثوري لأن الحر يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان السلم، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى (أن النفس بالنفس) لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " لا يقتل مسلم بكافر " (١) وهو مبين لما يراد في
_________
(١) أحمد/١/ ٧٩ - ٢/ ١٧٨ وبرواية لا يقتل مؤمن بكافر ٢/ ١٨٠.
353
الآيتين، وهذه الآية مع الأحاديث الواردة في ذلك حجة على أصحاب الرأي، والبحث في هذا يطول.
واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحق والثوري وأبو ثور، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة وهو الحق، وقد بسط الشوكاني البحث في نيل الأوطار فليرجع إليه.
(فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) (من) هنا عبارة عن القاتل أو الجاني والمراد بالأخ المقتول أو الولي، والشيء عبارة عن الدم، والمعنى أن القاتل والجاني إذا عفي له من جهة المجنى عليه أو الولي دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية أو الأرش فليتبع المجنى عليه أو الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف وليؤد الجاني ما لزمه من الدية أو الأرش إلى المجنى عليه أو إلى الولي أداء بإحسان، وقيل أن (من) عبارة عن الولي، والأخ يراد به القاتل، والشيء الدية، والمعنى أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير بل إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل، بل يلزمه تسليمها.
وقيل معنى عفي بذل أي من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف، وقيل أن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفي بمعنى فضل، وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل فيتناول العفو من الشيء اليسير من الدية، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة.
وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً وأن الفاسق مؤمن لأن الله
354
تعالى خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه مؤمناً حال ما وجب عليه من القصاص، وقتل العمد والعدوان من الكبائر بالإجماع، فدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، وأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وولي الدم وأراد بها أخوة الإيمان، فلولا أن الإيمان باق على القاتل لم تثبت له الأخوة، وأيضاً ندب إلى العفو عن القاتل والعفو لا يليق إلا عن المؤمن لا عن الكافر.
(ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) إشارة إلى العفو والدية أي أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض، أو بعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود، فإنه أوجب عليهم القصاص ولا عفو، وكما ضيق على النصارى فإنه أوجب عليهم العفو ولادية، وفيه تضييق على كل من الوارث والقاتل، فهذا تخفيف مما كتب على من كان قبلكم.
(فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) أي بعد التخفيف نحو أن يأخذ الدية ثم يقتل القاتل أو يعفو ثم يستقص.
وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية فقال جماعة منهم مالك والشافعي أنه كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
وأخرج عبد الرازق وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي - ﷺ - قال: " من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها أبداً " (١) وعن قتادة
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٥٤٤١.
355
قال ذكر لنا أن رسول الله - ﷺ - قال: " لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية " أخرجه (١) ابن جرير وابن المنذر.
وأخرج سمويه في فوائده عن سمرة قال: قال رسول الله - ﷺ - فذكر مثله، والعذاب الأليم قيل هو عذاب الآخرة وقيل هو أن يقتل قصاصاً ولا تقبل منه دية ولا يعفى عنه، والأول أظهر وأولى، ويدل له الحديث المتقدم.
_________
(١) أبو داود كتاب الديات الباب ٥ - أحمد بن حنبل ٢/ ٢٦٢.
356
(ولكم في القصاص حياة) خطاب لمريدي القتل ظلماً، وقال أبو السعود: بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تنال غايته حيث جعل الشيء وهو القصاص محلاً لضده وهو الحياة، ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف، وذلك لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد فتنشر الفتنة بينهم، ففي شرع القصاص سلامة من هذا كله (١)، والمعنى ولكم في هذا الحكم الذي شرعه الله بقاء وحياة لأن الرجل إذا علم أنه
_________
(١) عن مسلم بن يزيد أحد بني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح الخزاعي ثم الكعبي وكان من أصحاب رسول الله ﷺ وهو يقول أذن لنا رسول الله ﷺ يوم الفتح في قتال بني بكر حتى أصبنا منهم ثأرنا وهو بمكة ثم أمر رسول الله ﷺ نوافع السيف فلقي رهط منا الغد رجلاً من هذيل في الحرم يؤم رسول الله ﷺ كي يسلم وكان قد وترهم في الجاهلية وكانوا يطلبونه فقتلوه وبادروا أن يخلص إلى رسول الله ﷺ فيأمر فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ غضب غضباً شديداً والله ما رأيته غضب غضباً أشد منة فسعينا إلى أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم نستشفعهم وخشينا أن نكون قد هلكنا فلما صلى رسول الله ﷺ الصلاة قام فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن الله عز وجل هو حرم مكة ولم يحرمها الناس وإنما أحلها لي ساعة من النهار أمس وهي اليوم حرام كما حرمها الله عز وجل أوّل مرة وأن أغنى الناس على الله عز وجل ثلاثة رجل قتل فيها ورجل قتل غير قاتله ورجل طلب بذحل في الجاهلية وإني والله لأديّن هذا الرجل الذي قتلتم فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
356
يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كف عن القتل وانزجر عن التسرع إليه، والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية.
وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنه جعل القصاص الذي هو موت، حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم، وقيل إن الحياة سلامة من القصاص في الآخرة فإنه إذا اقتص في الدنيا لم يقتص عنه في الآخرة والأول أولى.
وقال الخازن: هذا الحكم غير مختص القصاص الذي هو القتل، بل يدخل فيه جميع الجروح والشجاج وغير ذلك، وقرأ أبو الجوزاء (ولكم في القصص حياة) أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة أو في كتاب الله أي نجاة وقيل أراد حياة القلوب، وقيل هو مصدر بمعنى القصاص. والكل ضعيف والقراءة به منكرة (يا أولي الألباب) أي ذوي العقول الكاملة، جعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب وناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل، وأما من كان مصاباً بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة، ولا يفكر في أمر مستقبل، والألباب جمع لب، وهو العقل الخالي من الهوى، سمي بذلك لأحد وجهين إما لبنائه من لب بالمكان أقام به وإما من اللباب وهو الخالص.
ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله (لعلكم تتقون) أي تعملون عمل أهل التقوى، وتتحامون القتل بالمحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له، فيكون ذلك سبباً للتقوى.
357
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
(كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) قد تقدم معنى كتب قريباً، وحضور الموت حضور أسبابه وأماراته وظهور علاماته من العلل والأمراض المخوفة، وليس المراد منه معاينة الموت، لأنه في ذلك الوقت يعجز عن الإيصاء، وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية وهو كتب لوجود الفاصل بينهما، وقيل لأنها بمعنى الإيصاء، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل، وقد حكى سيبويه: أقام امرأة وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية.
(إن ترك خيراً) شرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيراً أي مالاً. قال الزهري: هو يطلق على القليل والكثير، فتجب الوصية في الكل وقيل لا يطلق إلاّ على المال الكثير، وهو قول الأكثرين.
واختلف أهل العلم في مقدار الخير فقيل ما زاد على سبعمائة دينار، وقيل ألف دينار، وقيل ما زاد على خمسمائة دينار، وقيل ستون ديناراً فما فوقها. وقيل من خمسمائة إلى ألف، وقيل إنه المال الكثير الفاضل عن العيال، والخير هنا المال، ويقع في القرآن على وجوه ونبه بتسميته خيراً على أن الوصية تستحب في مال طيب.
(الوصية) أي الإيصاء، والوصية في الأصل عبارة عن الأمر بالشيء والعهد به في الحياة وبعد الموت وهي هنا عبارة عن الأمر بالشيء بعد الموت، وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها، وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيراً أو غنياً، وقالت طائفة إنها واجبة.
358
(للوالدين والأقربين) لم يبين الله سبحانه ههنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين فقيل الخمس وقيل الربع وقيل الثلث، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فذهب جماعة إلى أنها محكمة، وقالوا هي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص، والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين، ومن هو في الرق، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة، وقال كثير من أهل العلم أنها منسوخة بآية المواريث مع قوله - ﷺ - " لا وصية لوارث " (١) وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه، وللشيخ سعد التفتازاني فيه مناقشة، وقال بعض أهل العلم إنه نسخ الوجوب وبقي الندب، روي ذلك عن الشعبي والنخعي ومالك.
(بالمعروف) أي بالعدل لا وكس فيه ولا شطط، وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه فلا يزيد على الثلث، ولا يوصي للغني ويدع الفقير، وعن علي لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، فمن أوصي بالثلث فلم يترك، وقيل يوصي بالسدس أو بالخمس أو بالربع (حقا) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله معناه الثبوت والوجوب، وقيل ثبوت ندب لا ثبوت فرض ووجوب (على المتقين) أي على الذين يتقون الشرك.
_________
(١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وحسنه أحمد والترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي به مرفوعاً وقواه ابن خزيمة وابن الجارود- انظر تمييز الطيب من الخبيث/١٦٣٦.
359
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
(فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه) هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية، وكذلك الضمير في قوله (سمعه) والتبديل التغيير، والضمير في (إثمه) راجع إلا التبديل المفهوم من قوله بدله، وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا حيف فيها ولا مضارة وإنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به.
قال القرطبي: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث قاله أبو عمرو، انتهى.
والمبدلون إما الأوصياء بأن ينكروا الوصية أو يغيروها إما في الكتابة أو في قسمة الحقوق، أو الشهود بأن يكتموا الشهادة أو يغيروها، والمعنى فمن بدل قول الميت أو ما أوصى به، وقيل الضمير في (بدله) يعود على الوصية لأنها بمعنى الإيصاء وقيل على نفس الإيصاء، وقيل على الأمر والفرض الذي أمر به الله وفرضه أو في المكتب أو الحق أو المعروف، فهذه ستة أقوال أولاها ما ذكرنا.
ولكن هنا وقفة من حيث أن الكلام السابق إنما هو في الوصية المنسوخة التي هي للوالدين والأقربين، وقوله (فمن بدله) إلا آخر الآية إنما هو في الوصية التي استقر عليها الشرع ويعمل بها إلا الآن، وعلى هذا فكيف يعود الضمير من المحكمة على المنسوخة. قال سليمان الجمل: فليتأمل فإني لم أر من نبه على هذا انتهى.
قلت إنما يرد هذا على قول من قال بنسخ الوصية المذكورة، وقد تقدم أن جماعة من أهل العلم ذهبت إلا أنها محكمة فلا تأمل ولا تنبيه والله أعلم.
(إن الله سميع) لما أوصى به الموصي ولقوله (عليم) بتبديل المبدل وفعل الوصي فيجازي عليه الأول بالخير والثاني بالشر.
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
(فمن خاف) أي علم وهو مجاز والعلاقة بينهما أن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من باب التعبير عن السبب بالمسبب، ومنه قوله تعالى (إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) أي يعلما (من موص جنفاً أو إثماً) الجنف المجاوزة، من جنف يجنف إذا جاوز قاله النحاس، وقيل الجنف الميل، قاله في الصحاح والكشاف، والإثم الظلم، وقيل الجنف الخطأ في الوصية والإثم العمد (فأصلح بينهم) أي أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطراب بسبب الوصية بإبطال ما فيه ضرر ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قرابة لغير وارث، والضمير في (بينهم) راجع إلى الورثة وإن لم يتقدم لهم ذكر لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق، وقيل راجع إلى الموصى لهم وهم الأبوان والقرابة (فلا إثم عليه) أي لا حرج عليه في الصلح وإن كان فيه تبدل لأنه خير بخلاف الأول فإنه ضير (إن الله غفور رحيم) لمن أصلح وصيته بعد الجنف والميل.
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " الحديث (١) أخرجه أبو داود والترمذي، ومعنى المضارة في الوصية أن لا تمضي أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها أو يحيف في الوصية ونحوها.
_________
(١) السنن الكبرى للبيهقي ٦/ ٢٧١،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) قد تقدم معنى (كتب) ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة، والصيام أصله في اللغة الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال للصمت صوم، لأنه إمساك عن الكلام، ومنه (إني نذرت للرحمن صوماً) أي إمساكاً عن الكلام، وهو في الشرع الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي الآية توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطييب للنفس (كما كتب على الذين من قبلكم) من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، والمعنى أن الصوم عبادة قديمة ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، لم يفرضها عليكم وحدكم.
واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل هو قدر الصوم ووقته، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيروا، وقيل هو الوجوب فإن الله أوجب على الأمم الصيام، وقيل هو الصفة أي ترك الأكل والشرب ونحوهما في وقت، فعلى الأول معناه أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم، وعلى الثالث أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم (لعلكم تتقون) المراد بالتقوى المحافظة عليها، وقيل تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة لأنها تكسر الشهوة وتضعف دواعي المعاصي كما ورد في الحديث أنه جنة وأنه وجاء (١).
_________
(١) وتمام الحديث عن مسلم/١٤٠٠.
يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
(أياماً معدودات) أي معينات بعدد معلوم ومقدرات، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام أي قليلات، يعني أقل من أربعين، وقيل أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً وصوم عاشوراء ثم نسخ ذلك بفريضة صوم شهر رمضان، قال ابن عباس: أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ثم الصوم، وقيل إن المراد أيام شهر رمضان، وعلى هذا فتكون الآية غير منسوخة.
وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني عن دغفل بن حنظلة عن النبي - ﷺ - قال: كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشراً ثم كان آخر فأكل لحماً، فأوجع فوه فقال لئن شفاه الله ليزيدن سبعة ثم كان عليهم ملك آخر فقال ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوماً ". وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت كان عاشوراء يصام فلما أنزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر (١).
(فمن كان) حين حضوره ووجود الشخص فيه (منكم مريضاً) ولو في أثناء اليوم بخلاف السفر، فلا يبيح له الفطر إذا طرأ في أثناء اليوم، وهذا سر التعبير بعلى في السفر دون المرض، قيل للمريض حالتان إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة وإن كان يطيقه مع تضرر ومشقة كان رخصة، وبهذا
_________
(١) جاء في البخاري عن عبد الله بن عمر:
صام النبي ﷺ عاشوراء، وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك.
363
قال الجمهور (أو على سفر) أي مستعلياً على السفر ومتمكناً منه بأن كان متلبساً به وقت طلوع الفجر.
واختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار فقيل مسافة قصر الصلاة، والخلاف في قدرها معروف، وبه قال الجمهور، وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها، والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض فهو الذي يباح عنده الفطر، وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة، واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه وكذا اختلفوا في سفر المعصية.
(فعدة من أيام أخر) أي فعليه عدة ما أفطر من أيام أخر بصومها بدله، وأخر جمع أخرى تأنيث أخر بفتح الخاء أو جمع أخرى بمعنى آخره تأنيث آخر بكسر الخاء، وفيه الوصف والعدل، واختلف النحاة في كيفية العدل فيه على أقوال، والعدة فعلة من العدد، وهو بمعنى المعدود أي فعلمه عدة أو فالحكم عدة أو فالواجب عدة من غير أيام مرضه وسفره، وإليه ذهب الظاهرية، وبه قال أبو هريرة، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء.
(وعلى الذين) لا (يطيقونه) لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فقيل إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام، لأنه شق عليهم، وكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم وهو يطيقه ثم نسخ ذلك وهو قول الجمهور، وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد، وهو يطوقونه أي يكلفونه والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (فدية طعام مسكين) وقرىء مساكين، والفدية الجزاء وهو القدر الذي يبذله الإنسان يقي به نفسه من تقصير وقع منه
364
في عبادة ونحوها.
وقد اختلفوا في مقدار الفدية فقيل كل يوم صاع من غير البر ونصف صاع منه، وقيل مد فقط أي من غالب قوت البلد، وقال ابن عباس: يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره أي قدر ما يأكله في يومه، وروي أن أنس ابن مالك ضعف عن الصوم عاماً قبل موته فصنع جفنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم، عن ابن عباس بسند صحيح أنه قال: لأم ولد له حامل أو مرضعة أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصوم. عليك الطعام لا قضاء عليك، عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان وهي حامل، قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكيناً، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
(فمن تطوع خيراً فهو خير له) قال ابن شهاب: معناه من أراد الإطعام مع الصوم، وقال مجاهد: معناه من زاد في الإطعام على المد، وقيل من أطعم مع المسكين مسكيناً آخر.
(وأن تصوموا) أي أن صيامكم (خير لكم) أيها المطيقون من الإقطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ، وقيل معناه وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق، وقيل هو خطاب مع الكافة لأن اللفظ عام فرجوعه إلى الكل أولى، وهو الأصح، وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جداً (إن كنتم تعلمون) أن الصوم خير لكم وقيل المعنى إذا صمتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للخير والتقوى، ولا رخصة لأحد من المكلفين في إفطار رمضان بغير عذر، والأعذار المبيحة للفطر ثلاثة (أحدها) السفر والمرض والحيض والنفاس وأهلها إذا أفطروا فعليهم القضاء دون الفدية (والثاني) الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء والفدية، وبه قال الشافعي، وذهب أهل الرأي إلى أنه لا فدية عليهما (الثالث) الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه فعليهم الفدية دون القضاء.
365
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
(شهر) أي ذلكم شهر أو كتب عليكم الصيام صيام شهر، وقرىء بالنصب أي صوموا شهراً، ولأهل اللغة فيه قولان أشهرهما أنه اسم لمدة الزمان الذي يكون مبدؤه الهلال ظاهراً إلى أن يستتر، سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه من المعاملات، والثاني ما قاله الزجاج أنه اسم للهلال نفسه، و (رمضان) علم لهذا الشهر المخصوص وهو علم جنس مركب تركيباً إضافياً وكذا باقي أسماء الشهور وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة، وهو مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا احترق جوفه من شدة العطش، والرمضاء ممدوداً شدة الحر، ومنه الحديث الثابت في الصحيح " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " (١) أي أحرقت الرمضاء أجوافها.
قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، يقال أنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام الحر فسمي بذلك، وقيل إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، وقال الماوردي: أن اسمه في الجاهلية ناتق وإنما سموه بذلك لأنه كان ينتقهم لشدته عليهم، وقد حققنا ذلك في كتابنا لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان فليرجع إليه.
وقد أخرج أبو حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي في سننه عن أبي
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٣٧٠٩.
366
هريرة مرفوعاً وموقوفاً لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " (١) وثبت عنه أنه قال: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " (٢) وثبت عنه أنه قال: " شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة " (٣) وقال " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة " (٤) وهذا كله في الصحيح، وثبت عنه في أحاديث كثيرة غير هذه أنه كان يقول " رمضان " بدون ذكر الشهر، وقد ورد في فضل رمضان أحاديث كثيرة.
" الذي أنزل فيه القرآن " أي ابتدىء فيه إنزاله، وكان ذلك ليلة القدر، قيل أنزل فيه من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم كان ينزل به جبرائيل نجماً نجماً إلى الأرض، وقيل أنزل في شأنه القرآن؛ وهذه الآية أعم من قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وقوله (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) يعني ليلة القدر، والقرآن اسم لكلام الله تعالى علم لما بين الدفتين وهو بمعنى المقروء كالمشروب يسمى شراباً، والمكتوب يسمى كتاباً، وقيل هو مصدر قرأ يقرأ ومنه قوله تعالى (وقرآن الفجر) أي قراءة الفجر، وعن الشافعي أنه قال: القرآن اسم وليس بمهموز، وليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل، فعلى هذا إنه ليس بمشتق.
وذهب الأكثرون إلى أنه مشتق من القرء، وهو الجمع فسمي قرآناً لأنه يجمع السور والآيات بعضها إلى بعض، ويجمع الأحكام والقصص والأمثال.
والآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وقيل في معنى الآية الذي نزل بفرض صيامه القرآن كما تقول نزلت هذه الآية في الصلاة والزكاة ونحو ذلك، روي
_________
(١) أحمد ٢/ ٢٣٢.
(٢) أحمد ٢/ ٢٨١.
(٣) أحمد ٥/ ٥١.
(٤) البخاري/الصوم: ٨.
367
هذا عن مجاهد والضحاك وهو اختيار الحسن بن الفضل.
وأخرج أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن جابر مثله لكنه قال وأنزل الزبور لاثني عشر، وزاد وأنزلت التوراة لست خلون من رمضان؛ وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان (١).
وعن ابن عباس قال أنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان وفي ليلة مباركة جملة واحدة ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام، وعنه قال نزل القرآن جملة لأربع وعشرين من رمضان فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل على رسول الله ﷺ ترتيلاً، وعنه أنه قال ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور؛ ثم نزل به جبريل نجوماً في ثلاث وعشرين سنة.
(هدى للناس) أي هادياً لهم من الضلال بإعجازه (وبينات من الهدى) من عطف الخاص على العام إظهاراً لشرف المعطوف بإفراده بالذكر لأن القرآن يشمل محكمه ومتشابهه، والبينات تختص بالمحكم منه، قيل الهدى الأول في الأحكام الاعتقادية والهدى الثاني في الفرعية فهما متغايران (والفرقان) هو ما فرق بين الحق والباطل أي فصل.
(فمن شهد منكم الشهر) هذا من أنواع المجاز اللغوي وهو إطلاق اسم الكل على الجزء، أطلق الشهر وهو اسم للكل وأراد جزءاً منه، وقد فسره علي وابن عمر أن من شهد أول الشهر (فليصمه) جميعه، والمعنى ومن حضر
_________
(١) أحمد ٤/ ١٠٧.
368
ولم يكن في سفر بل كان مقيماً فليصم فيه، قال جماعة من السلف والخلف أن من أدركه شهر رمضان مقيماً غير مسافر لزمه صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، واستدلوا بهذه الآية.
وقال الجمهور: أنه إذا سافر أفطر لأن معنى الآية أنه حضر الشهر من أوله إلى آخره لا إذا حضر بعضه وسافر فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره، وهذا هو الحق، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة، وقد كان يخرج ﷺ في رمضان فيفطر، وقيل هي رؤية الهلال ولذلك قال النبي ﷺ " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " (١)، أخرجه الشيخان، ولا خلاف أنه يصوم رمضان من رأى الهلال ومن أخبر به؛ ثم قيل يجزيء فيه خبر الواحد قاله أبو ثور، وقيل خبر الجمع قاله مالك.
(ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) قد تقدم تفسيره وإنما كرره لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم الصحيح ثم نسخه بقوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فلو اقتصر على هذا لاحتمل أن يشمل النسخ الجميع فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر ليعلم أن الحكم فيهما باق على ما كان عليه، وقد أطال بعضهم في بيان مسائل المرض والسفر في تفسير هذه الآية والأمر ظاهر.
(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فلذلك أباح الفطر للسفر والمرض، وفيه أن هذا مقصد من مقاصد الرب سبحانه ومراد من مراداته في جميع أمور الدين، ومثله قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقد ثبت عن رسول الله - ﷺ - " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " وهو في الصحيح (٢)، واليسر السهل الذي لا عسر فيه، عن ابن عباس قال اليسر الإفطار في السفر، والعسر الصوم في السفر.
_________
(١) مسند أحمد ٤/ ٤١٧ - ١/ ٣٦٥ - ٣/ ١٣١.
(٢) مسند أحمد ٢/ ٤١٥ - ٥/ ٤٢.
369
(ولتكملوا العدة) قال في الكشاف علة للأمر بمراعاة العدة، عن الربيع قال عدة رمضان، وقال الضحاك: عدة ما أفطر المريض في السفر، وقد صح عن رسول الله - ﷺ -: أنه قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً " (١).
(ولتكبروا الله) علة لما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، والمراد بالتكبير هنا هو قول القائل الله أكبر، قال الجمهور ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان، وقد وقع الخلاف في وقته فروي عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر وقيل إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة، وقيل إلى خروج الإمام، وقيل هو التكبير يوم الفطر، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر.
عن ابن مسعود أنه كان يكبر: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، وعن ابن عباس أنه كان يكبر: الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً الله أكبر وأجل ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. وعنه قال: حق على الصائمين إذا نظروا إلى شهر شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول ولتكبروا الله.
(على ما هداكم) أي أرشدكم إلى طاعته وإلى ما يرضى به عنكم، قيل (على) هنا على بابها من الإستعلاء كأنه قيل ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم قاله الزمخشري (الثاني) أنها بمعنى لام العلة والأول أولى لأن المجاز في الحرف ضعيف و (ما) في ما هداكم مصدرية أي على هدايته إياكم أو موصولة بمعنى الذي وفيه بعد (ولعلكم تشكرون) الله على نعمه، وقد تقدم تفسيره، وهو علة الترخيص والتيسير قاله في الكشاف، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيانه إلا النقاد من علماء البيان.
_________
(١) صحيح مسلم وفي رواية: " الشهر تسع وعشرون، فإذا رأيتم الهلال فصوموا.
واذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له.
370
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
(وإذا سألك عبادي عني) يحتمل أن يكون السؤال عن القرب والبعد كما يدل عليه قوله (فإني قريب) ويحتمل أن يكون السؤال عن إجابة الدعاء كما يدل على ذلك قوله (أجيب دعوة الداع) ويحتمل أن السؤال عما هو أعم من ذلك، وهذا هو الظاهر مع قطع النظر عن السبب الذي أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق الصلت بن حكيم عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جده قال جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، فسكت النبي - ﷺ - فنزلت هذه الآية، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن قال سأل أصحاب النبي - ﷺ - أين ربنا فأنزل الله هذه الآية. (١)
وأخرج ابن مردويه عن أنس أنه سأل أعرابي النبي - ﷺ - أين ربنا فنزلت.
وعن ابن عباس قال: قال يهود المدينة يا محمد ﷺ كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وأن غلظ كل سماء مثل ذلك، فنزلت هذه الآية، وقيل أنهم سألوه في أي ساعة ندعو ربنا فنزلت، والقرب قيل بالإجابة وقيل بالعلم وقيل بالإنعام، وقال في الكشاف أنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعى أسرعت تلبيته، قيل والقرب استعارة تبعية تمثيلية وإلا فهو متعال عن القرب الحسي لتعاليه عن المكان ونظيره (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) قاله الكرخي.
_________
(١) وقيل: عن مقاتل أن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعدما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك ورجع مغتماً -وكان ذلك قبل نزول الرخصة فنزلت هذه الآية- القرطبي ٢/ ٣٠٨.
371
والحق أن القرب من الصفات نؤمن به ونمره على ما جاء ولا نؤول ولا نعطل. وعن أبي موسى الأشعري قال لما غزا رسول الله - ﷺ - خيبر أو قال توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرّفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله - ﷺ - " أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً قريباً وهو معكم " أخرجه البخاري ومسلم، ومعنى أربعوا ارفقوا بها، وقيل أمسكوا عن الجهر فإنه قريب يسمع دعاءكم. (١).
(أجيب دعوة الداع إذا دعان) معنى الإجابة هو معنى ما في قوله تعالى (أدعوني أستجب لكم) وقيل معناه أقبل عبادة من عبدني بالدعاء لما ثبت عنه - ﷺ - من أن الدعاء هو العبادة كما أخرجه أبو داود وغيره من حديث النعمان بن بشير، والظاهر أن الإجابة هنا هي باقية على معناها اللغوي، وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي القبول للدعاء أي جعله عبادة متقبلة فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة، والمراد أن الله سبحانه وتعالى يجيب بما شاء وكيف شاء فقد يحصل المطلوب قريباً، وقد يحل بعيداً، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه، وهذا مقيدٍ بعدم اعتداء الداعي في دعائه كما في قوله سبحانه.
(ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين) ومن الإعتداء أن يطلب ما لا يستحقه ولا يصلح له كمن يطلب منزلة في الجنة مساوية لمنزله الأنبياء أو فوقها.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي - ﷺ - قال: " ما
_________
(١) وفي رواية لمسلم/٢٧٠٤: إنكم تدعون سمعياً قريباً وهو معكم قال الراوي (عبد الله بن قيس) فقال (النبي): يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة فقلت بلى يا رسول الله قال: قل لا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي رواية اخرى: والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم.
372
من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " (١) وثبت في الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي " (٢).
(فليستجيبوا لي) أي كما أجبتهم إذا دعوني فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل معناه أنهم يطلبون إجابة الله سبحانه لدعائهم باستجابتهم له أي القيام بما أمرهم به والترك لما نهاهم عنه، وقال: مجاهد أي فليطيعوني، والإجابة في اللغة الطاعة من العبد والإثابة والعطاء من الله.
(وليؤمنوا بي) اللام فيه للأمر كما فيما قبله أي وليدوموا على الإيمانِ.
(لعلهم يرشدون) أي يهتدون، قاله الربيع بن أنس، والرشد خلاف الغي، قال الهروي: الرشد والرشد والرشاد الهدى والإستقامة ومنه هذه الآية، وقد ورد في فضل الدعاء وآدابه أحاديث كثيرة ذكرها أهل التفسير، وهي في الصحاح والسنن لا نطول بذكرها (٣).
_________
(١) حديث ما من مسلم يدعوه.. رواه مسلم باب الذكر والدعاء/٩٢. ورواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ورواه البزار وأبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
(٢) حديث يستجاب لأحدكم ما لم يعجل... رواه مسلم ٢٧٣٥/.
(٣) والدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله، ومنها أكل الحلال فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء ومنها حضور القلب ففي بعض الحديث: (لا يقبل الله دعاء من قلب غافل).
373
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراماً عليهم، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية، فقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن البراء بن عازب قال كان أصحاب رسول الله - ﷺ - إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً فكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال هل عندكم طعام قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب ذلك، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت خيبة لك أنمت، فلما انتصف النهار غشى عليه، فذكر ذلك النبي - ﷺ - فنزلت هذه الآية إلى قوله (من الفجر) ففرحوا بها فرحاً شديداً.
والرفث كناية عن الجماع، وعن ابن عباس قال الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هذا الجماع، غير أن الله حيى كريم يكني بما شاء عما شاء، قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته وكذا قال الأزهري، وقيل الرفث أصله قول الفحش، رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح وليس هو المراد هنا وعُدي الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء.
374
(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) تعليل لما قبله وجعل النساء لباساً للرجال والرجال لباساً لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه، قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة لباس وفراش وإزار، وقيل إنما جعل كل واحد منهما لباساً للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس وعن ابن عباس: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قيل لا يسكن شيء إلى شي كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقد روي في سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء.
(علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم يقال خان واختان بمعنى وهما من الخيانة، قال القتيبي أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه انتهى، وإنما سماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم.
(فتاب عليكم) يحتمل معنيين أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) يعني خفف عنكم وكقوله (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) يعني تخفيفاً وهكذا قوله: (وعفا عنكم) يحتمل العفو من الذنب ويحتمل التوسعة والتسهيل (فالآن) قال أبو البقاء (الآن) حقيقة الوقت الذي أنت فيه وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر وهو المراد هنا، وقد تقدم الكلام على الآن (باشروهن) أي جامعوهن فهو حلال لكم في ليالي الصوم، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد بصاحبه، قيل هذا الأمر والثلاثة بعده للإباحة وفيه دليل على جواز نسخ الكتاب للسنة.
(وابتغوا ما كتب الله لكم) تأكيد لما قبله أو تأسيس، والثاني أولى أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل والولد، قيل فيه نهى عن العزل وقيل عن غير المأتي، والتقدير وابتغوا المحل
375
الذي كتب الله لكم، وقيل المراد ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه قاله الزجاج وغيره، وقيل ابتغوا الرخصة والتوسعة وقيل ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات، وقيل ابتغوا ليلة القدر، وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني ولا دل عليه دليل آخر، وقرأ الحسن البصري (واتبعوا) بالعين المهملة من الاتباع.
(كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) هو تشبيه للمنع والمراد هنا بالخيط الأبيض هو المعترض في الأفق لا الذي هو كذنب السرحان فإنه الفجر الكذاب الذي لا يحل شيئاً ولا يحرمه، والمراد بالخيط الأسود سواد الليل، والتبيين أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله (من الفجر) فعلموا أنه يعني الليل من النهار.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عدي بن حاتم أنه جعل تحت وسادته خيطين أبيض وأسود جعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود، فغدا على رسول الله - ﷺ - فأخبره قال: إن وسادك إذن لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل، وفي رواية (١) في البخاري وغيره أنه قال له إنك لعريض العقل، وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم أنه ضحك منه.
قيل " من " الأولي لابتداء الغاية والثانية للبيان، قاله السيوطي، وقال الزمخشري وغيره الثانية للتبعيض أي حال كون الخيط الأبيض بعضاً من الفجر، وفي تجويز المباشرة إلى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة
_________
(١) رواه أحمد في المسند وفي رواية لمسلم/١٠٩/: إن وساديك لعريض.
376
صوم من أصبح جنباً.
(ثم أتموا الصيام إلى الليل) أمر وهو للوجوب وهو يتناول كل الصيام عند أبي حنيفة، وقال الشافعية إنما ورد هذا في بيان أحكام صوم الفرض، ويدل على إباحة الفطر من النفل حديث عائشة في مسلم وفيه أهدى لنا حيس، قال أرنيه فلقد أصبحت صائماً فأكل، وقيل للوجوب في صوم الفرض وللندب في صوم النفل، وقيل للوجوب فيهما.
وفي الآية التصريح بأن للصوم غاية هي الليل فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من الغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما.
(ولا تباشروهن) قيل المراش بالمباشرة هنا الجماع، وقيل يشمل التقبيل واللمس إذا كانا بشهوة لا إذا كانا بغير شهوة فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكون بشهوة.
(وأنتم عاكفون في المساجد) الاعتكاف في اللغة الملازمة يقال عكف على الشيء إذا لازمه، ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له عاكف في المسجد ومعتكف فيه، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد، والاعتكاف في الشرع ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص، وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب، وعلى أنه لا يكون إلا في المسجد.
بين سبحانه في هذه الآية أن الجماع يحرم على المعتكف في الليل والنهار حتى يخرج من اعتكافه. وللاعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث.
وأقول أن قوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) جملة إنشائية نهيية مسوقة لتحريم مباشرة النساء في حال الاعتكاف في المساجد، فقوله (في المساجد) متعلق بقوله (عاكفون) وليست لبيان النهي عن مباشرة
377
النساء في المساجد من غير فرق بين المعتكف وغيره، ولو كان كذلك لم تكن لقوله (وأنتم عاكفون) فائدة.
ثم هذا الاعتكاف المذكور في الآية قد بينه رسول الله - ﷺ - لأمته باعتكافه غير مرة وهو وزوجاته وأصحابه بمحضره فكان - ﷺ - إذا أراد الاعتكاف أمر بخبائه فضرب في المسجد كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ثم أقام فيه لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان ويعود مسرعاً لا يعود مريضاً ولا يشتغل بشيء كما ثبت في دواوين الإسلام فهذا هو الاعتكاف الشرعي الذي علمنا رسول الله - ﷺ -.
ومن زعم أن المراد به مطلق اللبث ولو في غير المسجد، نظر إلى أصل معناه اللغوي فقد قدم الحقيقة اللغوية على الحقيقة الشرعية وهو خلاف ما تقرر في الأصول، بل خلاف ما عليه أهل العلم سلفاً وخلفاً، ولو كان الاعتكاف المشروع هو مجرد اللبث ولو في غير المسجد لكان اللابث في داره وفي سوقه وفي المصاطب ونحوها معتكفاً إذا حصلت منه النية، وهذا خلاف ما في القرآن الكريم، وخلاف ما ثبت تواتراً في السنة المطهرة، وخلاف ما فهمه المسلمون من هذه العبادة، بل خلاف ما ورد عنه - ﷺ - من قوله كما في سنن سعيد بن منصور من حديث ابن مسعود قال: لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال: إلا في مسجد جماعة (١).
وأما ما فهمه بعض الناس من جواز الوطء للمعتكف في غير المسجد فيرده ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع، وقد تقرر أن قول الصحابي " من السنة " أو السنة له حكم
_________
(١) والصحيح أنه يصح في مسجد جامع كما نصت كتب الفقه أما أحاديث الاعتكاف فهي كثيرة منها: ما روته عائشة رضي الله عنها: كان الرسول رسول الله ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
378
الرفع، وهذا الحديث كما يدل على تحريم الوطء على المعتكف يدل على أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جامع فهو يرد عليه من جهتين، وقد ذكر الشوكاني الكلام على هذا الحديث في شرحه على المنتقى فليرجع إليه. (١)
(تلك حدود الله فلا تقربوها) أي هذه الاحكام حدود الله، وأصل الحد المنع ومنه سمي البواب والسجان حداداً، وسميت الأوامر والنواهي حدود الله لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها وأن يخرج عنها ما هو منها، ومن ذلك سميت الحدود حدوداً لأنها تمنع أصحابها من العود، ومعنى النهي عن قربانها النهي عن تعديها بالمخالفة لها، وقيل أن حدود الله هي محارمة فقط ومنها المباشرة من المعتكف والإفطار في رمضان لغير عذر وغير ذلك مما سبق النهي عنه، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح، وقيل حدود الله فرائض الله.
وقيل المقادير التي قدرها ومنع من مخالفتها (كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) أي كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم معالم دينه وأحكام شريعته والعلامات الهادية إلى الحق.
_________
(١) وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجّله، ،، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إنسان (الغائط والبول) وقد أجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، واستحب مالك إلا يخرج المعتكف إلا بعد آذان صلاة العيد حين يغدو من المعتكف إلى المصلى وبه قال أحمد. وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس والله أعلم.
379
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) هذا يعم جميع الأمة وجميع الأموال لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحل لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارهاً كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها ونفقة من أوجب الشرع نفقته، والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه فهو مأكول بالباطل وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحلوان الكاهن، وثمن الخمر والملاهي، وأجرة المغني، والقمار، والرشوة في الحكم وشهادة الزور والخيانة في الوديعة والأمانة، والأكل بطريق التعدي والنهب والغصب، والباطل في اللغة الذاهب الزائل، والمعنى بالسبب الباطل أو مبطلين أو متلبسين بالباطل، عن ابن عباس قال: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه، وقال مجاهد معناها لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم.
(وتدلوا بها إلى الحكام) مجزوم عطفاً على (تأكلوا) فهو من جملة المنهي عنه أي لا تلقوا أمور تلك الأموال التي فيها الحكومة إلى الحكام، يقال أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال أدلى دلوه أرسلها، والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة، والمعنى لا تسرعوا بالخصومة في الأموال إلى الحكام ليعينوكم على إبطال حق أو تحقيق باطل، وأما الإسراع بها لتحقيق الحق فليس مذموماً.
وفي هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج، فمن حكم له القاضي بشيء مستنداً في حكمه
380
إلى شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يحل له أكله فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وهكذا إذا أرشى الحاكم فحكم له بغير الحق فإنه من أكل أموال الناس بالباطل، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال.
وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك، وهو مردود بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - ﷺ - كما في حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله - ﷺ -: " إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " وهو في الصحيحين وغيرهما (١).
وقيل معناه لا تأكلوا المال بالباطل وتنسبوه إلى الحكام، والأول أولى، وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالماً ولكن لا يسعني إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة وأن قضائى لا يحل لك حراماً (لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم) أي قطعة أو جزءاً أو طائفة فعبر بالفريق عن ذلك، وأصل الفريق القطعة من الغنم تشذ عن معظمها، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم، وسمي الظلم والعدوان إثماً باعتبار تعلقه بفاعله، قال ابن عباس أي باليمين الكاذبة، وقيل بشهادة الزور.
(وأنتم تعلمون) أي حال كونكم عالمين أنكم على الباطل أو أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء، وهذا أشد لعقابهم وأعظم لجرمهم.
_________
(١) حديث (إنكم تختصمون لدي... ) رواه مسلم ١٧١٣.
وفي رواية: أن رسول الله ﷺ سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: " إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم.
فلعل بعضكم أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها ".
381
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
382
(يسئلونك عن الأهلة) أي عن فائدة اختلافها، لأن السؤال عن فائدة اختلافها، لأن السؤال عن ذاتها غير مفيد، وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عتمة وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد، فنزلت هي مواقيت للناس في حل دينهم ولصومهم ولفطرهم، وأوقات حجهم وأجائرهم وأوقات الحيض وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة.
والأهلة جمع هلال وجمعها باعتبار هلال كل شهر أو كل ليلة تنزيلاً لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، والهلال اسم لما يبدو في أول الشهر وفي آخره، قال الأصمعي هو هلال حتى يستدير، وقيل هو هلال حتى ينير بضوئه السماء، وذلك ليلة السابع، وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته، ومنه استهل الصبي إذا صاح واستهل وجهه وتهلل إذا ظهر فيه السرور، والهلال في الحقيقة واحد وجمعه باعتبار أوقاته واختلافه في ذاته، واختلف أهل اللغة إلى متى يسمى هلالاً فقال الجمهور لليلتين، وقيل لثلاث ثم يكون قمراً، وقال أبو الهيثم لليلتين من أول الشهر ولليلتين من آخره وما بينهما قمر.
(قل هي مواقيت) الذي قرره أبو السعود والخازن أن الجواب مطابق
382
للسؤال، وفي الآية بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ومعاملاتهم بها كالصوم والفطر والحج ومدة الحمل والعدة والإجارات والأيمان وغير ذلك، ومثله قوله تعالى (ولتعلموا عدد السنين والحساب) وقيل هو جواب بغير ما سأل عنه تنبيهاً على أن الأولى لهم أن يسألوا عن هذا المجاب لا عن سبب الاختلاف، فهو من قبيل المغيبات التي لا غرض للمكلف في معرفتها ولا يليق أن تبين له.
والمواقيت جمع الميقات وهو الوقت والفرق بين الوقت وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة منقسمة إلى الماضي والحال والمستقبل، والوقت الزمان المفروض لأمر، وكل ما جاء في القرآن من السؤال أجيب عنه بقل بلا فاء إلا في طه (ويسئلونك عن الجبال فقل) لأن الجواب في الجميع كان بعد وقوع السؤال وفي طه كان قبله إذ تقديره إن سئلت عن الجبال فقل.
(للناس) أي لأغراضهم الدنيوية والدينية كما أشار لذلك بتعداد الأمثلة إذ الأهلة ليست مواقيت لذوات الناس (والحج) عطف على الناس أي يعلم بها وقته، فلو استمرت على حالة لم يعرف ذلك، قال سيبويه: بالفتح كالرد والشد وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى وقيل بالفتح مصدر وبالكسر الاسم، وإنما أفرد سبحانه بالحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، ولا يجوز فيه النسء عن وقته ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها.
وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب أعني قوله قل هي مواقيت الخ من الأسلوب الحكيم كما تقدم وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها فأجيبوا بالحكمة التي كانت الزيادة والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصده السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه.
383
(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها) وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه، لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم، وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين، وقال أبو عبيدة: إن هذا من ضرب المثل، والمعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن البر التقوى واسألوا العلماء كما تقول أتيت الأمر من بابه، وقيل هو مثل في جماع النساء وأنهم أمروا بإتيانهن في القبل لا في الدبر، وقيل غير ذلك، والبيوت جمع بيت وقرىء بضم الباء وكسرها (واتقوا الله لعلكم تفلحون) قد تقدم تفسير التقوى والفلاح.
384
(وقاتلوا في سبيل الله) لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعاً قبل الهجرة لقوله (فاعف عنهم واصفح) وقوله (واهجرهم هجراً جميلاً) وقوله (لست عليهم بمصيطر) وقوله (ادفع بالتي هي أحسن) ونحو ذلك مما نزل بمكة فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال ونزلت هذه الآية.
قال أبو العالية: إنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة، وقيل أول ما نزل قوله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) حتى نزل قوله تعالى (اقتلوا المشركين) وقوله تعالى (وقاتلوا المشركين كافة) قيل إنه نسخ بها سبعون آية والمعنى قاتلوا في طاعة الله وطلب رضوانه.
عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي
384
العليا فهو في سبيل الله " (١).
(الذين يقاتلونكم) قال جماعة من السلف المراد بهذا من عدا النساء والصبيان والشيوخ والزمنى والرهبان والمجانين والمكافيف ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة (ولا تعتدوا) المراد بالاعتداء عند أهل القول الأول هو مقاتلة من لم يقاتل من الطوائف الكفرية، والمراد به على القول الثاني مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدم ذكره، قال ابن عباس: أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير، ولا من ألقى السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم، وقال عمر بن عبد العزيز: أن هذه الآية في النساء والذرية (إن الله لا يحب المعتدين) أي لا يريد بهم الخير.
عن بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال " اغزوا بالله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ولا تعتدوا " أخرجه مسلم (٢).
_________
(١) وفي رواية: " أن رجلاً اعرابياً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله " وفي رواية من قاتل لتكون كلمة الله العليا فهو في سبيل الله، مسلم/١٩٠٤.
(٢) وقد اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا فعلى قولين:
١ - أنها منسوخة بقوله (واقتلوهم حيث ثقفتموهم).
٢ - أنها محكمة... وأما الذين لم يعدوا أنفسهم للقتال كالرهبان والمجانين... فلا تعتدوا عليهم.
وبه قال أبو جعفر وقال: وهذا القول أولى بالصواب.
385
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١)
(واقتلوهم حيث ثقفتموهم) يقال ثقف يثقف ثقفاً ورجل ثقيف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور، قال في الكشاف: والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه انتهى.
قال أبو السعود: أصل الثقف الحذق في إدراك الشيء علماً أو عملاً وفيه معنى الغلبة، قال ابن جرير: الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش انتهى والمعنى واقتلوهم حيث وجدتموهم وأدركتموهم في الحل والحرم وإن لم يبتدؤكم، وتحقيق القول فيه أن الله تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على القتال، وفي هذه الآية أمرهم بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
(وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) أي أخرجوهم من مكة، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر ربه فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله عليه (والفتنة أشد من القتل) أي الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم بها وهي رجوعكم إلى الكفر أشد من القتل، وقيل المراد بالفتنة المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه، وقيل المراد بالفتنة الشرك الذي عليه المشركون لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشد مما يستعظمونه، وقيل المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم، والظاهر أن المراد الفتنة في الدين بأي سبب كان وعلى أي صورة اتفق فإنها أشد من القتل لأنه يؤدي إلى الخلود في النار، والقتل ليس كذلك ولذا جعل أشد منه.
386
(ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) أختلف أهل العلم في ذلك فذهبت طائفة إلى أنها محكمة وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى متعد بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له، وهذا هو الحق، وقالت طائفة أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن هنا ببناء العام على الخاص فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنها لم تحل لأحد قبله وإنها أحلت لي ساعة من نهار "، وهو في الصحيح (١).
وقد احتج القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وآله وسلم لابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحل الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
(فإن قاتلوكم) أي في المسجد الحرام، هذا مفهوم الغاية (فاقتلوهم) أي فقاتلوهم (كذلك) أي القتل والاخراج (جزاء الكافرين) مطلقاً بأن يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم، فثبت بهذا تحريم القتال في الحرم إلا أن يقاتلوا فيقاتلوا ويكون دفعاً لهم
_________
(١) سبق ذكره.
387
(فإن انتهوا) عن قتالكم وعن الكفر ودخلوا في الإسلام (فإن الله غفور) لما سلف (رحيم) بعباده حيث لم يعاجلهم بالعقوبة.
(وقاتلوهم) فيه الأمر بمقاتلة المشركين ولو في الحرم وإن لم يبتدؤوكم بالقتال فيه، وهذا هو الذي استقر عليه الحكم الآن (حتى) أي إلى غاية هي أن (لا تكون فتنة ويكون الدين لله) وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله، وقيل المراد بالفتنة هنا الشرك والظاهر أنها الفتنة في الدين عما عمومها كما سلف.
387
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
388
(فإن انتهوا) يعني عن القتال، وقيل عن الشرك والكفر (فلا عدوان إلا على الظالمين) أي لا تظلموا إلا الظالمين أي لا تعتدوا إلا على ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ولم يدخل في الإسلام، وإنما سمي جزاء الظالمين عدواناً مشاكلة كقوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه).
وسمي الكافر ظالماً لوضعه العبادة في غير موضعها، والنفي هنا بمعنى النهي لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى، والعرب إذا بالغت في النهي عن الشيء أبرزته في صورة النفي المحض إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يوجد البتة فدلوا على هذا المعنى بما ذكرت لك، وعكسه في الإثبات إذا بالغوا في الأمر بالشيء أبرزوه في صورة الخبر نحو (والوالدات يرضعن) وسيأتي.
(الشهر الحرام) هو ذو القعدة من السنة السابعة (بالشهر الحرام) هو ذو القعدة من السنة السادسة وهذا في المعنى تعليل لقوله (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال لما سار رسول الله - ﷺ - معتمراً في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام قاضاهم على الدخول من قابل فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم، نزلت في ذلك هذه الآية (١)، وروي نحوه عن أبي العالية
_________
(١) ابن كثير ١/ ٢٢٨.
388
ومجاهد وقتادة وابن جريج، والمعنى إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته قاتلوهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم، وهذا صريح في أنه قد وقع منهم مقاتلة في عام الحديبية، وهو كذلك فقد وقع قتال خفيف بالرمي بالسهام والحجارة.
(والحرمات) جمع حرمة كالظلمات جمع ظلمة، وإنما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، والحرمة ما منع الشرع انتهاكه (قصاص) أي المساواة والمماثلة، والمعنى أن كل حرمة يجزي فيها القصاص، فمن هتك حرمة عليكم فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصاً ولا تبالوا به، قيل وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال، وقيل أنه ثابت بين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ينسخ، فيجوز لمن تعدي عليه في مال أو بدن أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه، وبهذا قال الشافعي وغيره.
وقال آخرون إن أمور القصاص مقصورة على الحكام وهكذا الأموال لقوله - ﷺ -: " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك (١) "، أخرجه الدارقطني وغيره، وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني، والقول الأول أرجح، وبه قال ابن المنذر، واختاره ابن العربي والقرطبي، وحكاه الداودي عن مالك، ويؤيده إذنه صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها، وهو في الصحيح.
ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى أعني قوله والحرمات قصاص، وإنما سمي المكافآت اعتداء مشاكلة كما تقدم.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٣٨.
389
وعن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله (وجزاء سيئة) الآية وقوله (ولمن انتصر بعد ظلمه) الآية وقوله (وإن عاقبتم) الآية قال هذا ونحوه نزل بمكة، والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان يقهر المشركين، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يتجارأ منهم أن يتجارأ بمثل ما أوتي إليه أو يصبر أو يعفو، فلما هاجر رسول الله - ﷺ - إلى المدينة، وأعز الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً) الآية يقول ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله انتهى.
وأقول هذه الآية التي جعلها ابن عباس ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله (فقد جعلنا لوليه سلطاناً) أنه جعل السلطان له، أي جعل له تسلطاً يتسلط به على القاتل، ولهذا قال (فلا يسرف في القتل).
ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصاً للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخاً له، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده، وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام الله سبحانه.
ولما أباح لهم الاقتصاص بالمثل، وشأن النفس حب المبالغة في الانتقام من العدو حذرهم من ذلك فقال (واتقوا الله) أي في حال كونكم منتصرين لأنفسكم ممن اعتدى عليكم فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم (واعلموا أن الله مع المتقين) بالنصر والعون.
390
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
(وأنفقوا في سبيل الله) في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله وهو الجهاد بالمال، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله، والإنفاق هو صرف المال في وجوه المصالح الدينية كالإنفاق في الحج والعمرة وصلة الرحم والصدقة وتجهيز الغزاة وعلى النفس والعيال وغير ذلك مما فيه قربة الله تعالى، لأن كل ذلك يصدق عليه أنه في سبيل الله، ولكن إطلاق هذا اللفظ ينصرف إلى الجهاد.
عن خزيم بن فانك قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف " أخرجه الترمذي والنسائي (١).
(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) الباء زائدة ومثله (ألم يعلم بأن الله يرى) وقال المبرد: أي بأنفسكم تعبير بالبعض عن الكل كقوله (بما كسبت أيديكم) وقيل هذا مثل مضروب يقال فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان.
وقال قوم: التقدير ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم، وعبر بالأيدي عن الأنفس، لأن بها البطش والحركة، والتهلكة مصدر من هلك يهلك هلاكاً، وهلكاً وتهلكة أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قال اليزيدي: التهلكة من نوادر المصادر ليست مما يجري على القياس.
وللسلف في معنى الآية أقوال، قال حذيفة: نزلت في النفقة أي تركها في
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٥٩٨٦.
391
سبيل الله مخافة العيلة، وروي نحوه عن ابن عباس وعكرمة والحسن، وقال الحسن: هو البخل، وقال زيد بن أسلم: هو أن يهلك رجل من الجوع والعطش ومن المشي في البعث.
وقال أبو أيوب: كانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو، وقال البراء بن عازب: هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول لا يغفر الله لي أبداً، وروي عن النعمان بن بشير نحوه. وقيل أنه القنوط وقيل عذاب الله، وقيل غير ذلك.
والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما يصدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري.
ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين.
ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رووا السبب، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها، وهو ظن تدفعه لغة العرب.
(وأحسنوا) أي في الإنفاق في الطاعة أو الظن بالله في إخلافه عليكم وقال رجل من الصحابة معناه أدوا الفرائض، وقيل لا تقتروا ولا تسرفوا (إن الله يحب المحسنين) المنفقين في سبيله الظانين به حسناً.
392
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦)
(وأتموا الحج والعمرة لله) اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة فقيل أداؤهما والإتيان بهما من دون أن يشوبهما بشيء مما هو محظور، ولا يخل بشرط ولا فرض كقوله تعالى (فأتمهن) وقوله (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن يخرج لهما لا لغيرهما. وقيل إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع ولا قران، وبه قال ابن حبيب.
وقال مقاتل: إتمامهما أن لا يستحلوا فيهما ما لا ينبغي لهم، وقيل إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله، وقيل أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل وابن عبد البر في التمهيد عن يعلى بن أمية قال: جاء رجل إلى النبي - ﷺ - وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق فقال كيف تأمرني يا رسول الله - ﷺ - أن أصنع في عمرتي، فأنزل الله (وأتموا الحج والعمرة لله) فقال رسول الله - ﷺ - أين السائل عن العمرة فقال: ها أناذا قال " اخلع الجبة واغسل عنك أثر الخلوق، ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك " وقد أخرجه الشيخان وغيرهما من حديثه، ولكن فيهما أنه أنزل عليه بعد السؤال ولم يذكرا ما الذي أنزل عليه.
وقال ابن عباس: تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حل، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة فقد حل.
وقد ورد في فضل الحج والعمرة أحاديث كثيرة ليس هذا موطن ذكرها.
393
وقد اتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، واستدل بهذه الآية على وجوب العمرة لأن الأمر بإتمامها أمر بها، وبذلك قال علي وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد ابن جبير ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكية.
وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي كما حكاه ابن المنذر عنهم أنها سنة، وحكى عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب.
ومن القائلين بأنها سنة ابن مسعود وجابر بن عبد الله.
ومن جملة ما استدل به الأولون ما ثبت عنه - ﷺ - في الصحيح أنه قال لأصحابه: " من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة " وثبت عنه أيضاً في الصحيح أنه قال: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ".
وأخرج الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت " (١).
واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الأم وعبد الرازق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله - ﷺ -: " الحج جهاد والعمرة تطوع ".
وأخرج ابن ماجة عن طلحة بن عبيد الله مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه عن جابر: أن رجلاً سأل رسول الله - ﷺ - عن العمرة أواجبة هي، قال: لا وأن تعتمروا خير لكم.
_________
(١) قطعة من حديث طويل أورده مسلم/١٢١٨... دخلت العمرة في الحج -مرتين- لا بل لأبعد أبد...
394
وأجابوا عن الآية والأحاديث المصرحة بأنها فريضة بحمل ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف.
وهذا وإن كان فيه بعد لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة، ولا سيما بعد تصريحه - ﷺ - بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب.
وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها كما أخرجه الشافعي في الأم أن في الكتاب الذي كتبه النبي - ﷺ - لعمرو بن حزم أن العمرة هي الحج الأصغر، وكحديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أوصني فقال: " تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتسمع وتطيع، وعليك بالعلانية وإياك والسر ".
وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال وأنهما كفارة لما بينهما وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك.
وأركان الحج خمسة الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي والحلق أو التقصير، وأركان العمرة أربعة الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير، وبهذه الأركان تمام الحج والعمرة.
(فإن أحصرتم) أصل الحصر في اللغة الحبس والتضييق، قال أبو عبيدة والكسائي والخليل أنه يقال أحصر بالمرض وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس العكس، ورجح الأول ابن العربي قال وهو رأي أكثر أهل اللغة، وقال الزجاج: أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو، ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني فقال حصرني الشيء وأحصرني أي حبسني.
وبسبب هذا الإختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية
395
فقالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعاً من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غيره، وقالت الشافعية وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه في الحديبية.
(فما استيسر من الهدي) أي إن أحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم فالواجب أو فعليكم أو فانحروا أو فاهدوا ما تيسر، يقال يسر الأمر واستيسر كما يقال صعب واستصعب، وليس السين للطلب، والهدي والهدى لغتان وهما جمع هدية وهي ما يهدى إلى البيت من بدنة أو غيرها، ويقال في جمع الهدي أهداء.
واختلف أهل العلم في المراد بقوله (فما استيسر) فذهب الجمهور إلى أنه شاة، وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: جمل أو بقرة، وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة، وهذا الدم دم ترتيب وتعديل كما أشار له ابن المقرىء.
(ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر، وإليه ذهب جمع من أهل العلم، وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة أي لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرام قد بلغ محله، وهو الوضع الذي يحل فيه ذبحه.
واختلفوا في تعيينه فقال مالك والشافعي: هو موضع الحصر اقتداء برسول الله - ﷺ - حيث أحصر في عام الحديبية، وقال أبو حنيفة: هو الحرم لقوله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) وأجيب عن ذلك بأن المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، وأجاب الحنفية عن نحره - ﷺ - بالحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم، ورد بأن المكان الذي
396
وقع فيه النحر ليس هو من الحرم.
(فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) المراد بالمرض هنا ما يصدق عليه مسمى المرض لغة، والمراد بالأذى من الرأس ما فيه من قمل أو صداع أو جراح ونحو ذلك فمن حلق فعليه فدية.
وقد بينت السنة ما أطلق هنا من الصيام والصدقة والنسك فثبت في الصحيح أن رسول الله - ﷺ - رأى كعب بن عجرة وهو محرم وقمله يتساقط على وجهه فقال: يؤذيك هوام رأسك قال نعم، فأمره أن يحلق ويطعم ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام (١).
وقد ذكر ابن عبد البر أنه لا خلاف بين العلماء أن النسك هنا هو شاة، وحكى عن الجمهور أن الصوم هنا ثلاثة أيام والإطعام لستة مساكين.
وروي عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام والإطعام لعشرة مساكين، والحديث الصحيح المتقدم يرد عليهم ولبطل قولهم.
وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وداود إلى أن الإطعام في ذلك مدان بمد النبي - ﷺ - أي لكل مسكين، وقال الثوري: نصف صاع من بر أو صاع من غيره، وروي ذلك عن أبي حنيفة، قال ابن المنذر: وهذا غلط لأن في بعض أخبار كعب أن النبي - ﷺ - قال له: تصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين.
واختلفت الرواية عن أحمد فروي عنه مثل قول مالك والشافعي، وروي عنه أنه إن أطعم براً فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمراً فنصف صاع.
واختلفوا في مكان هذه الفدية فقال عطاء ما كان من دم فبمكة وما كان
_________
(١) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
397
من طعام أو صيام فحيث شاء، وبه قال أصحاب الرأي، وقال طاوس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء وقال مالك ومجاهد: حيث شاء في الجميع، وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان، وهذا الدم دم تخيير وتقدير.
(فإذا أمنتم) أي برئتم من المرض، وقيل من خوفكم من العدو، على الخلاف السابق ولكن الأمن من العدو أظهر من استعمال أمنهم في ذهاب المرض، فيكون مقوياً لقول من قال أن قوله (فإن أحصرتم) المراد به الإحصار من العدو كما أن قوله فمن كان منكم مريضاً يقوي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر، وقد وقع الخلاف هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة على حسب ما سلف.
(فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) يعني أن يحرم الرجل بعمرة ثم يقيم حلالاً بمكة إلى أن يحرم بالحج فقد استباح بذلك ما لا يحل للمحرم استباحته، وهو معنى تمتع واستمتع، ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع بل هو أفضل أنواع الحج عند أهل التحقيق.
(فما استيسر من الهدي) وهو شاة يذبحها يوم النحر فلو ذبحها قبله بعد ما أحرم بالحج أجزأه عند الشافعي، ولا يجزئه ذبحه عند أبي حنيفة قبل يوم النحر، وهذا الدم دم ترتيب وتقدير كما ذكره ابن المقرىء.
وقد اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أنواع من أنواع الدم الواجب في النسك وبقي الرابع يذكر في المائدة في قوله (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) الآية وهو دم تخيير وتعديل، ويجب في شيئين صيد وشجر.
(فمن لم يجد) الهدي إما لعدم المال أو لعدم الحيوان (فصيام ثلاثة أيام في) أيام (الحج) وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، ومع ذلك يجوز ذبحه قبل الإحرام به على القاعدة من أن كل حق مالي تعلق بسببين جاز
398
تقديمه على ثانيهما، وقيل يصوم قبل يوم التروية يوماً ويوم التروية ويوم عرفة، وقيل ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة، وقيل يصومهن من أول عشر ذي الحجة، وقيل ما دام بمكة، وقيل أنه يجوز أن يصوم الثلاث قبل أن يحرم.
وقد جوز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي، ومنعه آخرون وبه قال الشافعي.
(وسبعة إذا رجعتم) أي إلى الأوطان والأهل، قال أحمد وإسحق: يجزئه الصوم في الطريق ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه، وبه قال الشافعي وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم، وقال مالك إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم والأول أرجح.
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال - ﷺ -: " فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " (١).
فبين - ﷺ - أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل، وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ: " وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم "، وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج، وبه قال أبو حنيفة، والأول أولى، وفيه التفات عن الغيبة.
وإنما قال سبحانه (تلك عشرة كاملة) مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة: عشرة لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج والسبعة إذا رجع، قاله الزجاج، وقال المبرد: ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة، وقيل هو توكيد كما تقول كتبت بيدي، وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد.
وقوله (كاملة) توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية بصيامها وأن لا
_________
(١) جزء من حديث رواه مسلم ١٢٢٧/عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
399
ينقص من عددها، والمعنى كاملة يعني في الثواب والأجر يعني أن ثواب صيام العشرة كثواب الذبح لا ينقص شيئاً، وقيل كاملة في قيامها مقام الهدي.
(ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) الإشارة قيل هي راجعة إلى التمتع فيدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: ومن تمتع منهم كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه، وقيل أنها راجعة إلى الحكم وهو وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام كما يقوله الشافعي ومن وافقه، والمراد من لم يكن ساكناً في الحرم، أو من لم يكن ساكناً في المواقيت فما دونها، على الخلاف في ذلك بين الأئمة.
قال مالك: هم أهل مكة، وقال طاوس: هم أهل الحرم، وقال ابن جريج: هم أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلة، وقال الشافعي: من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر، وقال أبو حنيفة: هم أهل الميقات، والمواقيت ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق، وقيل من تلزمه الجمعة فيه.
قال السيوطي: والأهل كناية عن النفس أي نفس المحرم أي ذلك المحرم لم يكن هو نفسه حاضر المسجد الحرام، وهذا معنى سخيف والأولى ما قاله غيره.
وحكى الرملي عن الطبري أن المراد بالأهل الزوجة والأولاد الذين تحت حجره دون الآباء والاخوة.
(واتقوا الله) أي فيما فرض عليكم في هذه الأحكام، وقيل هو أمر بالتقوى على العموم وتحذير من شدة عقاب الله سبحانه (واعلموا أن الله) إظهار في موضع الإضمار لتربية المهابة في روع السامع (شديد العقاب) لمن خالف أمره وتهاون بحدوده وارتكب مناهيه، وهو من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها.
400
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)
(الحج أشهر معلومات) أي وقت الحج أشهر أو وقت عمل الحج، وقيل التقدير الحج في أشهر، وقيل غير ذلك.
وقد اختلف في الأشهر المعلومات فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: هي شوال وذو القعدة، وذو الحجة كله، وبه قال مالك.
وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وقد روي أيضاً عن مالك.
وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر فمن قال أن ذا الحجة كله من الوقت قال لم يلزمه دم التأخير، ومن قال ليس إلا العشر منه قال يلزمه دم التأخير.
وقد استدل بهذه الآية من قال أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو عطاء وطاوس ومجاهد والأوزاعي والشافعي وأبو ثور، قالوا: فمن أحرم بالحج قبلها أحل بالعمرة ولا يجزئه عن إحرام الحج كمن دخل في صلاة قبل وقتها فلا تجزئه، وقال أحمد وأبو حنيفة أنه مكروه فقط، وروي نحوه عن مالك والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة، وروي مثله عن أبي حنيفة.
401
وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية، وقد قيل أن النص عليها لزيادة فضلها، وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق بن راهويه وإبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد، واحتج لهم بقوله تعالى (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، ولم يخص الثلاثة الأشهر، ويجاب بأن هذه الآية عامة وتلك خاصة والخاص مقدم على العام.
ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة كذلك يجوز للحج، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنص القرآني فهو باطل.
والحق ما ذهب إليه الأولون إن كانت الأشهر المذكورة في قوله (الحج أشهر) مختصة بالثلاثة المذكورة بنص أو إجماع، فإن لم يكن كذلك فالأشهر، جمع شهر، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة والثلاثة هي المتيقنة فيجب الوقوف عندها.
ومعنى معلومات أن الحق في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ليس كالعمرة، أو المراد معلومات ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو معلومات عند المخاطبين لا يجوز التقدم عليها ولا التأخر عنها.
(فمن فرض) على نفسه (فيهن الحج) أي أوجبه عليها وألزمه إياها، وأصل الفرض في اللغة الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقوس، وقيل معنى فرض أبان وهو أيضاً يرجع إلى القطع لأن من قطع شيئاً فقد أبانه عن غيره.
وقال ابن مسعود: الفرض الإحرام، وقال ابن الزبير: الإهلال، وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين، والمعنى في الآية فمن ألزم نفسه وأوجب
402
عليها فيهن الحج بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلاً ظاهراً وبالتلبية نطقاً مسموعاً، وقال أبو حنيفة إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه، وقال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج.
(فلا رفث) قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك هو الجماع، وفي رواية عن ابن عباس هو غشيان النساء والتقبيل والغمز، وقال ابن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الإفحاش بالكلام والخنا، والقول القبيح، وعلى هذا التلفظ به في غيبة النساء يكون رفثاً، وقال أبو عبيدة الرفث اللغا من الكلام.
(ولا فسوق) أصله الخروج عن حدود الشرع وعن الطاعة، وقيل هو الذبح للأصنام، وقيل التنابز بالألقاب، وقيل السباب، وقال ابن عمر: هو ما نهى عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظفار وأخذ الشعر وما أشبه ذلك.
والظاهر أنه لا يختص بمعصية متعينة، وإنما خصصه من خصصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق على ذلك الفرد اسم الفسوق كما قال سبحانه في الذبح للأصنام (أو فسقاً أهل لغير الله به) وقال في التنابز (بئس الاسم الفسوق) وقال - ﷺ - " سباب المسلم فسوق " (١) ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصى لا يوجب اختصاصه به.
(ولا جدال) مشتق من الجدل وهو الفتل، والمراد به هنا المماراة وقيل السباب، وقيل الفخر بالآباء، والظاهر الأول ومعنى النفي لهذه الأمور والنهي عنها.
_________
(١) رواه مسلم/٦٤ وتتمته وقتاله كفر.
403
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - الرفث التعريض للنساء بالجماع، والفسوق المعاصي كلها والجدال جدال الرجل صاحبه، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة.
قال ابن عباس: الجدال هو المراء، قيل هو قول الرجل: الحج اليوم، ويقول آخر الحج غداً، وقيل هو ما كان عليه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بمزدلفة وبعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة، وكل يقول الصواب فيما فعلته، فأخبر الله أنه أمر الحج قد استقر على ما فعله رسول الله - ﷺ - فلا خلاف فيه بعده.
(في الحج) أي في أيامه ونكتة الإظهار كمال الإعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها من موجبات ترك الأمور المذكورة، وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يقع، فإن ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه ففي خلال الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة.
ظاهر الآية في الثلاثة خبر ومعناه نهي، وإنما نهى عن ذلك وإن كان اجتنابها في كل الأحوال والأزمان واجباً لأنها في الحج أسمج وأفظع منه في غيره، وقيل معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسىء.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " (١) أخرجه البخاري ومسلم.
(وما تفعلوا من خير يعلمه الله) حث على الخير بعد ذكر الشر، وعلى
_________
(١) رواه مسلم/١٣٥٠ وبرواية من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه.
404
الطاعة بعد ذكر المعصية، وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن، ومكان الفسوق البر والتقوى، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء.
(وتزودوا) ما يبلغكم لسفركم (فإن خير الزاد التقوى) أي ما يتقى به سؤال الناس وغيره، فيه الأمر باتخاذ الزاد لأن بعض العرب كانوا يقولون كيف نحج بيت ربنا ولا يطعمنا فكانوا يحجون بلا زاد، ويقولون نحن متوكلون على الله سبحانه ثم يقدمون فيسألون الناس ويكونون كَلاَّ عليهم، فأنزل الله هذه الآية، أخرجه عبد بن حميد والبخاري أبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس، وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك.
قال ابن الجوزي: قد لبَّس إبليس على قوم يدعون التوكل فخرجوا بلا زاد، وظنوا أن هذا هو التوكل، وهم على غاية من الخطأ.
وقيل المعنى تزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة فإن خير الزاد التقوى، والأول أرجح كما دل عليه سبب نزول الآية، وفيه إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات، فكأنه قال اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خيره التقوى، وقيل المعنى فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من التهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف.
(واتقون) أي وخافوا عقابي. وقيل اشتغلوا بتقواي، وفيه تنبيه على كمال عظمة الله جل جلاله (يا أولي الألباب) فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حث جميع العباد على التقوى، لأن أرباب الألباب والعقول هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها، ولب كل شيء خالصه.
405
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) فيه الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق، وهو المراد بالفضل هنا، ومنه قوله تعالى (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) أي لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحج رزقاً ونفعاً وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج، نزل رداً لكراهتهم ذلك.
والحق أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص وتركها أولى لقوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) والإخلاص هو أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة.
(فإذا أفضتم من عرفات) يقال فاض الإناء إذا امتلأ ماء حتى ينصب من نواحيه، ورجل فياض أي مندفعة يده بالعطاء، ومعناه أفضتهم أنفسكم، فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا، وعرفات اسم لتلك البقعة كأذرعات أي موضع الوقوف، وعرفة اسم اليوم وسميت عرفات لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل لأن آدم التقى هو وحواء فيها فتعارفا، وقيل غير ذلك.
قال ابن عطية: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع إلا على القول بأن أصله جمع، واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده ولا يتم الحج إلا به، ووقت الإفاضة من عرفات بعد غروب
406
الشمس، فإذا غربت دفع منها وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة.
(فاذكروا الله) المراد بذكر الله هنا دعاؤه ومنه التلبية والتكبير أي اذكروه لذاته من غير ملاحظة نعمه، لأنه تعالى يستحق الحمد من حيث ذاته ومن حيث إنعامه على خلقه، فحصلت المغايرة بين هذا وقوله (واذكروه كما هداكم) وقيل المراد بالذكر صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعاً، وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاج بينهما فيها.
(عند المشعر الحرام) سمى مشعراً من الشعار وهو العلامة، والدعاء عنده من شعائر الحج ووصف بالحرام لحرمته من التحريم وهو المنع، فهو ممنوع من أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جداً، رواه مسلم أي دخل في السفر بفتحتين وهو بياض النهار، قاله الشوبري، والمشعر هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام، وقيل هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادى محسر.
(واذكروه) ذكراً حسناً (كما هداكم) هداية حسنة، وكرر الأمر بالذكر تأكيداً، وقيل الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص، وقيل المراد بالثاني تعديد النعمة عليهم والكاف للتعليل.
(وإن كنتم من قبله لمن الضالين) الضمير في قبله عائد إلى الهدى، وقيل إلى القرآن، وقيل إلى الرسول، والضالين الجاهلين بالإيمان والطاعة قاله الخطيب، وقيل جاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه.
407
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) فيه الخطاب للحمس من قريش لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، فأمروا بذلك.
وقد ورد في هذا المعنى روايات عن الصحابه والتابعين عند البخاري ومسلم وغيرهما، وعلى هذا يكون ثم لعطف جملة بمعنى الواو لا للترتيب، وقيل الخطاب لجميع الأمة، والمراد بالناس " إبراهيم " أي أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم فيحتمل أن يكون أمراً لهم بالإضافة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى وهي التي من مزدلفة، وعلى هذا يكون " ثم " على بابها للترتيب في الذكر لا في الزمان الواقع فيه الأعمال، وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن.
(واستغفروا الله) أي من مخالفتكم في الموقف ولجميع ذنوبكم، وإنما أمروا بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة، ومواطن القبول، ومظنات الإجابة، وقيل أن المعنى استغفروا للذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة، وقد وردت أحاديث كثيرة في المغفرة لأهل عرفة ونزول الرحمة عليهم وإجابة دعائهم (١).
(إن الله غفور رحيم) أي ساتر لذنوب عباده برحمته، وفيه دليل على أنه يقبل التوبة من عباده التائبين ويغفر لهم.
_________
(١) منها: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ومنها: ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عدداً من النار من يوم عرفة.
ومنها: ما رؤى الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة.
408
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١)
409
(فإذا قضيتم مناسككم) المراد بالمناسك أعمال الحج، ومنه قوله - ﷺ - " خذوا عني مناسككم " أي فإذا فرغتم من أعمال الحج، وقيل المراد بها الذبائح وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى.
(فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً) إنما قال سبحانه ذلك لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة، وقيل عند البيت فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم بالمنثور والمنظوم من الكلام الفصيح، وغرضهم بذلك الشهرة والسمعة والرفعة، فلما من الله عليهم بالإسلام أمرهم بذكره مكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد من ذكرهم لآبائهم، والذكر له بالتمجيد والتحميد والتهليل والتسبيح والتكبير والثناء عليه، وقيل أو بمعنى الواو أي وأكثروا ذكر الله تعالى من ذكركم للآباء لأنه هو المنعم عليكم وعلى آبائكم فهو المستحق للذكر والحمد مطلقاً.
(فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق) لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره وكان الدعاء نوعاً من نواع الذكر جعل من يدعوه منقسماً إلى قسمين: أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت إلى حظ الآخرة، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعاً، والخلاق النصيب أي ما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها، ولا يطلب سواها.
409
وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا والذم لمن جعلها غاية رغبته ومعظم مقصوده.
عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " أخرجه البخاري، وهذا دعاء عليه بالهلاك.
وفي الباب أحاديث كثيرة وإنما كان سؤال المشركين للدنيا ولم يطلبوا التوبة والمغفرة ونعيم الآخرة لأنهم كانوا ينكرون البعث.
410
(ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) قد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية فقيل هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية وما لابد منه من الرزق، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا، وقيل المراد بحسنة الدنيا الزوجة الحسناء، وبحسنة الآخرة الحور العين، وقيل حسنة الدنيا العلم والعبادة وحسنة الآخرة الجنة وقيل الأولى العمل الصالح والثانية المغفرة والثواب، وقيل من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلاً ومالاً فقد أوتي فيهما حسنة، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في ذكره. (١)
قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة قال وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن " حسنة " نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع انتهى.
_________
(١) وقال القرطبي: قال ابن عباس: إن عند الركن ملكاً قائماً منذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين فقولوا: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) القرطبي ٢/ ٤٣٤.
410
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
411
(أولئك) إشارة إلى الفريق الثاني فقط (لهم نصيب مما) أي من جنس ما (كسبوا) من الأعمال أي من ثوابها ومن جملة أعمالهم الدعاء فما أعطاهم بسببه من الخير فهو مما كسبوا، وقيل معناه من أجل ما كسبوا وهو بعيد، وقيل قوله أولئك إشارة إلى الفريقين جميعاً أي للأولين نصيب من الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا والآخرة (والله سريع الحساب) الحساب مصدر كالمحاسبة وأصله العدد والمراد هنا المحسوب سمي حساباً تسمية للمفعول بالمصدر.
والمعنى أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه فبادروا ذلك بأعمال الخير أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وأعمالهم ليدل ذلك على كمال قدرته، لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولا يحتاج إلى آلة ولا إمارة ولا مساعدة فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال تعالى (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة).
وقال السيوطي: يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف من نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك انتهى.
وهذا تمثيل للسرعة لا تعيين لمقدار زمن الحساب، وقيل معناه أن الله يعلم العباد ما لهم وما عليهم، وهذا أبعد، وقيل المحاسبة المجازاة ويدل عليه قوله (فحاسبناها حساباً شديداً) وقيل معناه أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابه لهم، وقيل معنى الآية أن إتيان القيامة قريب لا محالة. وفيه إشارة إلى المبادرة بالتوبة والذكر وسائر الطاعات وطلب الآخرة.
(واذكروا الله) يعني بالتوحيد والتعظيم والتكبير في أدبار الصلوات وعند رمي الجمرات، فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر مع كل حصاة، والخطاب للحاج وغيره كما ذهب إليه الجمهور، وقيل هو خاص بالحاج.
(في أيام معدودات) قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى وهي أيام التشريق الثلاثة، وهي أيام رمي الجمار، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو مذهب الشافعي، وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وقتادة.
وقال إبراهيم: الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر، وكذا روي عن مكي والمهدوي، قال القرطبي: ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمر ابن عبد البر وغيره.
عن أبي يوسف: الأيام المعلومات أيام النحر، قال لقوله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وقال محمد بن الحسن: هي أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده وهو قول علي، وروي عن ابن عمر، وهو مذهب أبي حنيفة.
قال الكيا الطبري: فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف، وروي عن مالك أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان. واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهو مروي عن ابن عمر.
قال ابن زيد: الأيام المعلومات عشر ذو الحجة وأيام التشريق.
412
وأجمع العلماء على أن المراد بهذا هو التكبير عند رمي الجمرات مع كل حصاة يرمي بها في جميع أيام التشريق، وهو سنة بالاتفاق، وعن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى (١)، رواه مسلم، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير.
وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعاً.
وقد اختلف أهل العلم في وقته فقيل من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير على هذا في ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول علي بن أبي طالب ومكحول، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقيل من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر، وبه قال أبو حنيفة وابن مسعود، وعلى هذا يكون التكبير في ثمان صلوات، وقيل من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال مالك والشافعي فيكون التكبير على هذا في خمس عشرة صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر، ولفظ التكبير عند الشافعي الله أكبر ثلاثاً نسقاً وعند أهل العراق مرتين.
(فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) اليومان هما يوم ثاني النحر ويوم ثالثه من أيام التشريق، قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي من رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج.
فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً وتأكيداً لأن من العرب من كان يذم التعجل، ومنهم من كان يذم التأخر، فنزلت الآية
_________
(١) رواه مسلم/١١٤١.
413
رافعة للجناح في كل ذلك.
وقال علي وابن مسعود: معنى الآية من تعجل فقد غفر له، ومن تأخر فقد غفر له.
والآية قد دلت على أن التعجل والتأخر مباحان ولا بد من ارتكاب مجاز في قوله (يومين) من حيث أنه جعل الواقع في أحدهما واقعاً فيهما كقوله (نسيا حوتهما) ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (وجعلا له شركاء فيما آتاهما) والناسي أحدهما وكذلك المخرج منه، والجاعل له أحدهما أو من حيث حذف المضاف أي في ثاني يومين والأول أولى. (١)
(لمن اتقى) أي أن ذلك التخيير ورفع الإثم ثابت لمن اتقى، لأن صاحب التقوى يحترز عن كل ما يريبه، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم، قال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي، وقيل لمن اتقى قتل الصيد، وقيل معناه السلامة لمن اتقى، وقيل أي الذكر لمن اتقى في حجه لأنه الحاج في الحقيقة.
(واتقوا الله) أي في المستقبل (واعلموا أنكم إليه تحشرون) فيجازيكم بأعمالكم، وفيه حث على التقوى، وهو عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات.
_________
(١) وقد روى القرطبي عن النخعي والحسن أنهما قالا: من أدركه العصر وهو غني من اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغد.
وروى الدارقطني ٢/ ٣٠٠ عن أبي سعيد الخدري: قلنا يا رسول الله هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فحسب أنها تنقص فقال: إنه ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها مثل الجبال.
414
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤)
(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي يروقك وتستحسنه ويعظم في قلبك حلاوة كلامه مما يتعلق بأمر الدنيا، والإعجاب استحسان الشيء والميل إليه والتعظيم له.
وقال الراغب: العجب حيرة تعرض للإنسان بسبب الشيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالة حقيقية بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه انتهى.
لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله (ومن الناس من يقول) عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين، وقيل إنها نزلت في كل من أضمر كفراً أو نفاقاً أو كذباً وأظهر بلسانه خلافه.
(ويشهد الله على ما في قلبه) أي أنه يحلف على ذلك فيقول إني بك مؤمن ولك محب أو يقول الله يعلم أني أقول حقاً وأني صادق في قولي لك، أو أن ما في قلبي موافق لقولي (وهو ألد الخصام) أي شديد الخصومة يقال رجل ألد، وامرأة لداء، والخصام مصدر خاصم قاله الخليل؛ وقيل جمع خصيم قاله الزجاج.
والمعنى أنه أشد المخاصمين خصومة لكثرة جداله وقوة مراجعته، والإضافة بمعنى في، أي ألد في الخصام أو جعل الخصام ألد على المبالغة أي شديد الجدال في الباطل؛ وهو كاذب القول؛ وقيل شديد القسوة في المعصية يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة؛ وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم (١)؛ أخرجه البخاري ومسلم.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٣٩.
415
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)
416
(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) أي إذا أدبر وذهب عنك يا محمد - ﷺ - وقيل أنه ضل وغضب، وقيل أنه بمعنى الولاية أي إذا كان والياً بفعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض، والسعي يحتمل أن يكون المراد به السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض كقطع الطريق وقطع الأرحام وحرب المسلمين وسفك دمائهم، ويحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين كالتدبير على المسلمين بما يضرهم وأعمال الحيل عليهم؛ وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له سعي وهذا هو الظاهر من هذه الآية.
(ويهلك الحرث والنسل) من عطف الخاص على العام فإن الفساد أعم من ذلك فيشمل سفك الدماء ونهب الأموال وغير ذلك، والمراد بالحرث الزرع والنسل الأولاد، وقيل الحرث النساء، قال الزجاج: وذلك لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال وفيه هلاك النسل.
وقال مجاهد: الحرث نبات الأرض، والنسل نسل كل شيء من الحيوان الناس والدواب، وعنه أيضاً قال: معنى الآية يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم فيحبس الله بذلك القطر من السماء فيهلك بحبس القطر الحرث والنسل.
وقال ابن عباس: نسل كل دابة، وأصل الحرث في اللغة الشق ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث كسب المال وجمعه، وأصل النسل في اللغة الخروج والسقوط ومنه نسل الشعر، ومنه (أيضاً إلى ربهم ينسلون)، (ومن
416
كل حدب ينسلون)، ويقال لما خرج من كل أنثى نسل لخروجه منها.
(والله لا يحب الفساد) يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين وما فيه فساد الدنيا، واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن المحبة عبارة عن الإرادة، وأجيب عنه بأن الإرادة معنى غير المحبة فإن الإنسان قد يريد شيئاً ولا يحبه كالدواء المر يتناوله ولا يحبه، فبان الفرق بينهما، وقيل أن المحبة مدح الشيء وتعظيمه، والإرادة بخلاف ذلك.
417
(وإذا قيل له) أي على سبيل النصيحة وهي مستأنفة أو معطوفة على يعجبك (اتق الله) أي خف الله في سرك وعلانيتك (أخذته العزة بالإثم العزة القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه ومنه (وعزني في الخطاب) وقيل العزة هنا الحمية والأنفة وقيل المنعة وشدة النفس.
والمعنى حملته العزة على فعل الإثم، من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه، قاله الزمخشري، وقيل أخذته العزة بما يؤثمه أي ارتكب الكفر للعزة، ومنه (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) وقيل الباء في قوله بالإثم بمعنى اللام أي أخذته الحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه وهو النفاق، وقيل الباء بمعنى مع أي أخذته العزة مع الإثم، وقيل للسببية أي إن إثمه كان سبباً لأخذ العزة له.
وفي هذه الآية التتميم، وهو نوع من علم البديع وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها إلى الفهم، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة، فمن مجيئها محمودة قوله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) فلو أطلقت لتوهم فيها بعض من لا دراية له أنها المحمودة فقيل (بالإثم) توضيحاً للمراد، فرفع اللبس به، قاله السمين.
قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه اتق الله فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني، وعن سفيان قال: قال رجل لمالك ابن مغول اتق الله فسقط فوضع خده على الأرض تواضعاً لله.
417
(فحسبه جهنم) أي كافيه معاقبة وجزاء كما تقول للرجال كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم عليه ما حل به وحسب اسم فاعل، وقيل اسم فعل (ولبئس المهاد) جمع المهد وهو الموضع المهيأ للنوم ومنه مهد الصبي، وقيل اسم مفرد سمى به الفراش الموطأ للنوم وسميت جهنم مهاداً لأنها مستقر الكفار، وقيل المعنى أنها بدل لهم من المهاد كقوله (فبشرهم بعذاب أليم) وقال مجاهد: بئسما مهدوا لأنفسهم، وقال ابن عباس: بئس المنزل وهذا من باب التهكم والاستهزاء.
418
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) يشري بمعنى يبيع أي يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال قتادة: هم المهاجرون والأنصار، ومثله قوله تعالى (وشروه بثمن بخس) وأصله الاستبدال ومنه قوله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) والمرضاة الرضا، قال ابن عباس: نزلت في سرية الرجيع وكانت بعد أحد، وفي البخاري تمام قصته عن حديث أبي هريرة فإن شئت فارجع إليه.
(والله رؤوف بالعباد) وجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة لهم ولطفاً بهم، ومن رأفته أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته أنه يقبل توبة عبده وأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأن المصر على الكفر ولو مائة سنة إذا تاب ولو لحظة أسقط عنه عقاب تلك السنين وأعطاه الثواب الدائم.
ومن رأفته أن نفس العباد وأموالهم له ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً.
وهذه أربعة أقسام اشتملت عليها تلك الآيات الكريمات أولها راغب في الدنيا فقط ظاهراً وباطناً، والثاني راغب فيها وفي الآخرة كذلك، والثالث راغب في الآخرة وفي الدنيا باطناً، والرابع راغب في الآخرة ظاهراً وباطناً معرض عن الدنيا كذلك.
418
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
419
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) لما ذكر سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف مؤمنين وكافرين ومنافقين، أمرهم بعد ذلك ما يكون على ملة واحدة، وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان لأن أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه، والسلم بفتح السين وكسرها، قال الكسائي: معناهما واحد، وكذا عند البصريين وهما جميعاً يقعان للإسلام والمسالمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: أنه بالفتح للمسالمة وبالكسر للإسلام، وأنكر البرد هذه التفرقة.
وقال الجوهري: السلم بفتح السين ويكسر ويذكر ويؤنث أصله من الاستسلام والانقياد، ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام، وقد حكى البصريون في سلم وسلم أنها بمعنى واحد، (وكافة) حال من السلم أو من ضمير المؤمنين فمعناه على الأول لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني لا يخرج من أنواع السلم شيء بل ادخلوا فيها جميعا أي في خصال الإسلام، وهو مشتق من قولهم كففت أي منعت أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكف المنع، والمراد به هنا الجميع.
(ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان، وقيل لا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلاله والغواية والأهواء المضلة لأن من تبع سنة إنسان فقد اتبع أثره، وقد
419
تقدم الكلام على خطوات.
(إنه لكم عدو مبين) يعني الشيطان وأنه يحاول إيصال الضرر والبلاء إلينا، وأن الله بيَّن عداوته ما هي، فكأنه مبين وإن لم يشاهد، وهذا البيان بالنسبة لمن أنار الله قلبه، وأما غيره فهو حليف له.
420
(فإن زللتم) أي تنحيتم عن طريق الاستقامة، وأصل الزلل في القدم ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال زل يزل زلاً، وزلولاً أي دحضت قدمه، والمعنى فإن ملتم وضللتم وأشركتم وعرجتم عن الحق.
(من بعد ما جاءتكم البينات) أي بالحجج الواضحة والبراهين الصحيحة على أن الدخول في الإسلام هو الحق (فاعلموا أن الله عزيز) غالب لا يعجزه شيء عن الانتقام (حكيم) لا ينتقم إلا لحق، وفي الآية وعيد وتهديد لمن في قلبه شك ونفاق أو عنده شبهة في الدين. (١)
_________
(١) حكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن. فأقرأه الذي كان يعلمه (فاعلموا أن الله غفور رحيم).
فقال كعب: إني لأستنكر أن يكون هكذا.
ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية.
فقال الرجل: (فاعلموا أن الله عزيز حكيم).
فقال كعب: هكذا ينبغي.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال:
والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.
420
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢)
421
(هل ينظرون) استفهام إنكاري أي ينتظرون يقال نظرته وانتظرته بمعنى، والمراد هل ينتظر الزالون التاركون للدخول في الإسلام والمتبعون خطوات الشيطان، فهو التفات إلى الغيبة للإيذان بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم، وحكاية جنايتهم لما عداهم من أهل الإنصاف على طريق الإهانة.
(إلا أن يأتيهم الله) بما وعدهم من الحساب والعذاب، استثناء مفرغ من مقدر أي ليس لهم شيء ينتظرونه إلا إتيان العذاب، وهذا مبالغة في توبيخهم (في ظلل) جمع ظلة وهي ما يظلك، وقال الأخفش: وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعاً إلى الجزاء فسمى الجزاء إتياناً كما سمى التخويف والتعذيب في قصة ثمود إتياناً فقال (فأتى الله بنيانهم من القواعد) وقال في قصة النضير (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا).
وإنما احتمل الإتيان هذا لأن أصله عند أهل اللغة القصد إلى الشيء، فمعنى الآية هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلاً من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم وقيل أن المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه، وقيل أن قوله (في ظلل) بمعنى بظلل، وقيل المعنى يأتيهم ببأسه في ظلل.
421
(من الغمام) يعني السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لأنه يغم أي يستر، ووجه إتيان العذاب في الغمام على تقدير أن ذلك هو المراد ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة وعظم الموقع، لأن الغمام مظنة الرحمة لا مظنة العذاب، وهذا أبلغ في تبكيتهم وتخويفهم.
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي - ﷺ - قال: " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي (١) ".
وعن ابن عمر قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب.
وعن ابن عباس: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قطعت طاقات.
والتقدير في ظلل كائنة من الغمام، " ومن " على هذا للتبعيض أو من ناحية الغمام، وهي على هذا لابتداء الغاية.
(والملائكة) أي وتأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة، وقرىء بالجر عطفاً على ظلل أو على الغمام فتوصف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه، وقال عكرمة: والملائكة حوله، وقيل حول الغمام، وقيل حول الرب تعالى.
وهذه من آيات الصفات وللعلماء فيها وفي أحاديث الصفات مذهبان:
_________
(١) أبو داود كتاب الصلاة باب ١٦٣.
422
أحدهما الإيمان والتسليم لما جاء في آيات الصفات وأحاديثها ووجوب الاعتقاد بظاهرها والإيمان بها كما جاءت، وإحالة علمها إلى الله تعالى، مع تنزيهه سبحانه عن التشبيه والتمثيل والتحريف والتبديل والتعطيل، وهو قول سلف هذه الأمة وأئمتها، قال الكلبي: هذا من الذي لا يفسر، وكان ابن عُيَينة والزهري والأوزاير ومالك وابن المبارك والثوري والليث بن سعد وأحمد ابن حنبل وإسحق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها اقرؤها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل، هذا مذهب أعلام أهل السنة ومعتقد سلف الأمة، وأنشد بعضهم في المعنى.
شهد الخطيئة حين يلقي ربه أن الوليد أحق بالعذر
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ولا ذاته شيء، عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها وإجراءها للظاهر المتقارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا وتأويلنا فعل اللبيب المغالب
ونركب للتسليم سفناً فإنها لتسليم دين المرء خير المراكب
(والثاني) التأويل لها بما يناسب تنزيهه سبحانه وتعالى عندهم وهو قول جمهور علماء المتكلمين وأصحاب النظر كما قالوا في هذه الآية مجيء الله هو مجيء الآيات أو مجيء أمر الله أو عذاب الله، فأنكروا إمرار الصفات على ظاهرها وإجرائها على ما أراد الله، وهذا خلاف ما عليه سلف الأمة وأئمتها، وقد أوضحنا ذلك في كتابينا الانتقاد الرجيح وبغية الرائد بما لا يحتاج الناظر فيهما إلى غيرهما.
(وقضي الأمر) عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه فكأنه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلاله على أن مضمونها واقع لا محالة أي وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم، قال عكرمة: قضي الأمر أي قامت الساعة.
(وإلى الله ترجع الأمور) أي أمور العباد في الآخرة لا إلى غيره، والمراد
423
من هذا إعلام الخلق أنه المجزي على الأعمال بالثواب والعقاب.
424
(سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) المأمور بالسؤال هو النبي - ﷺ -، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين، وهو سؤال تقريع وتوبيخ، والمسؤول عنهم يهود المدينة، وكم إما استفهامية للتقرير أو خبرية للتكثير، والآية هي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد - ﷺ -، وقيل المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى وهي تسع، قال أبو العالية: آتاهم الله آيات بينات عصا موسى ويده وأقطعهم البحر، وأغرق عدوهم وهم ينظرون وظللاً من الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى.
(ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته) المراد بالنعمة هنا ما جاءهم من الآيات، وقال ابن جرير الطبري: النعمة هنا الإسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على كل عبد من عباده كائناً من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها.
ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول، لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فإن الله شديد العقاب) فيه من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره.
(زين للذين كفروا الحياة الدنيا) المزين هو الشيطان بأن وسوس لهم ومناهم الأماني الكاذبة، وذلك حقيقة كما قال السعد التفتازاني وجيء به ماضياً دلالة على أن ذلك وقع وفرغ منه، أو المزين الأنفس المجبولة على حب العاجلة، وزين مبني للمجهول.
وقرىء بفتح الزاء والمزين هو الله بأن خلق الأشياء العجيبة ومكنهم منها إذ ما من شيء إلا وهو خالقه وعلى هذا المسند والإسناد مجاز لأن خذلانه إياهم
424
صار سبباً لاستحسانهم الحياة الدنيا وتزيينها في أعينهم.
والمراد بالذين كفروا رؤساء قريش أو كل كافر، وإنما خص الكفار بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً، لأن الكافر افتتن بهذا التزيين وأعرض عن الآخرة، والسلم لم يفتتن به بل أقبل على الآخرة والمعنى حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها.
(ويسخرون من الذين آمنوا) أي والحال أن أولئك الكفار يسخرون من المؤمنين لكونهم فقراء لا حظ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفار وأساطين الضلال، وذلك لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيداً رابحاً ومن حرمه شقياً خاسراً، وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة وأمر الآخرة وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها.
وحكى الأخفش أنه يقال سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، والاسم السخرية والسخرى، وجيء به مضارعاً دلالة على التجدد والحدوث.
ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين رد الله عليهم بقوله (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) والمراد بالفوقية هنا العلو في الدرجة لأنهم في الجنة، والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق المكان لأن الجنة في السماء والنار في أسفل سافلين. أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام وسقوط الكفر وقتل أهله وأسرهم وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة.
وفيه دلالة على أن فوقيتهم من أجل التقوى. وفيه تحريضهم على
425
الإتصاف به إذا سمعوا ذلك، أو للإيذان بأن إعراضهم عن الدنيا للإتقاء عنها لكونها شاغلة عن جانب القدس.
عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: " ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عُتُلٍّ جواظ جعظري مستكبر (١) " أخرجه الشيخان.
وعن أسامة بن زيد عن النبي - ﷺ - قال: " قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء "، أخرجه البخاري ومسلم.
(والله يرزق من يشاء بغير حساب) يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين ويوسع عليهم، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب أي بغير تقدير، لأن ما يدخل عليه الحساب فهو قليل، ويحتمل أن المعنى أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجاً لهم، وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه فقد رضي عنه، ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال تعالى (ويرزقه من حيث لا يحتسب).
وقال ابن عباس في تفسيرها: ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه، وقال سعيد بن جبير: لا يحاسب الرب، وقيل يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة، وقيل يرزقه بغير استحقاق، وقيل لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب. وقيل لا يعطي كل واحد على قدر حاجته بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه، وقيل غير ذلك.
_________
(١) مسلم ٢٨٥٣ - البخاري ٢٠٦٥.
426
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
(كان الناس أمة واحدة) أي كانوا متفقين على دين واحد، وهو الإسلام فاختلفوا، واختلف في الناس فقيل هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم.
عن أبيّ بن كعب قال: كانوا أمة واحدة حين عرضوا على آدم ففطرهم على الإسلام وأقروا بالعبودية وكانوا مسلمين، ثم اختلفوا من بعد آدم، وقيل آدم وحده قاله مجاهد، وسمى ناساً لأنه أصل النسل، وقيل آدم وحواء وقيل المراد القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة قرون. كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، قاله ابن عباس، وقيل المراد نوح ومن في سفينته، وقيل أن العرب كانت على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي.
وقيل كانوا من حين وفاة آدم إلى زمان نوح على الكفر والباطل بدليل قوله (فبعث الله النبيين) والحكم للغالب، والأول أولى قال أبو السعود: وهو الأنسب بالنظم الكريم، وقيل ليس في الآية ما يدل على أنهم كانوا على إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج، وقيل المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق لولا أن الله من عليهم بإرسال الرسل، والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء أي قصدته أي مقصدهم واحد غير مختلف.
(فبعث الله النبيين) قيل الأنبياء جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر، المذكور منهم في القرآن بأسماء الأعلام
427
ثمانية وعشرون نبياً، والله أعلم.
(مبشرين) بالثواب لمن آمن وأطاع (ومنذرين) بالعقاب لمن كفر وعصى (وأنزل معهم الكتاب) أي الجنس، وقيل المراد به التوراة أو أنزل مع كل واحد الكتاب، وجملة الكتب المنزلة من السماء مائة وأربعة كتب كما قيل (بالحق) أي الصدق والعدل، والمراد هنا الحكم والفوائد والمصالح (ليحكم بين الناس) مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو مجاز مثل قوله تعالى (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) وقيل أن المعنى ليحكم كل نبي بكتابه، وقيل ليحكم الله (فيما اختلفوا فيه) أي في الحق الذي اختلفوا فيه من بعد ما كانوا متفقين عليه، وقيل الضمير في (فيه) راجع إلى ما في قوله (فيما).
والضمير في قوله (وما اختلف فيه) يحتمل أن يعود إلى الكتاب ويحتمل أن يعود إلى المنزل عليه وهو محمد - ﷺ -، قاله الزجاج، ويحتمل أن يعود إلى الحق (إلا الذين أوتوه) أي أوتوا الكتاب أو أوتوا الحق، أو أوتوا النبي - ﷺ - أي أعطوا علمه (من بعد ما جاءتهم البينات) أي الدلالات الواضحات على صحة نبوة محمد - ﷺ - أو الحجج الظاهرة على التوحيد (بغياً بينهم) أي لم يختلفوا إلا للبغي أي الحسد والحرص على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، وفي هذا تنبيه على الصفة في فعلهم القبيح الذي وقعوا فيه لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدة الخلاف.
(فهدى الله الذين آمنوا) أي أمة محمد- ﷺ - (لما اختلفوا فيه من الحق) أي إلى الحق، و " من " للبيان أو للتبعيض، وذلك لما بين لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم، وقيل معناه فهدى الله أمة محمد - ﷺ - للتصديق بجميع الكتب بخلاف من قبلهم، فإن بعضهم كذب كتاب بعض، وقيل أن الله هداهم إلى الحق من القبلة، وقيل هداهم ليوم الجمعة، وقيل هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذبته اليهود، وجعلته النصارى رباً، وقيل المراد بالحق الإسلام.
428
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
وقال الفراء: إن في الآية قلباً وتقديره فهدى الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه، واختاره ابن جرير وضعفه ابن عطية (بإذنه) قال الزجاج: معناه بعلمه، وقال النحاس: هذا غلط، والمعنى بأمره وإرادته (والله يهدي من يشاء) من عباده (إلى صراط مستقيم) أي طريق سوي.
429
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) أم هنا منقطعة بمعنى بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة همزة الاستفهام يبتدأ بها الكلام، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا التقرير والإنكار أي أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً، والغرض من هذا التوبيخ تشجيعهم على الصبر وحثهم عليه، وحسب هنا من أخوات ظن، وقد تستعمل في اليقين.
(ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) الواو للحال، ولما بمعنى لم أي والحال أنكم لم يأتكم مثلهم بعد، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة وهو متوقع منتظر، ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا.
ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم، ومثل هذه الآية قوله (أم حسبتم أن تدخلوا
429
الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) وقوله (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون).
(مستهم) استئناف بيان لقوله (مثل الذين خلوا) (البأساء والضراء) قد تقدم تفسيرهما (وزلزلوا) الزلزلة شدة التحريك تكون في الأشخاص وفي الأقوال، يقال زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالاً بالكسر فتزلزلت أي تحركت واضطربت، فمعنى زلزلوا خوفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً، وحركوا بأنواع البلايا والرزايا، وقال الزجاج: الزلزلة نقل الشيء من مكانه، فإذا قلت زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه.
(حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه) أي استمر ذلك إلى غاية هي قول الرسول ومن معه أي صاحبوه في الإيمان، وحتى بمعنى إلى، وأن مضمرة أي إلى أن يقول، وهي غاية لما تقدم من المس والزلزال وذلك لأن الرسل أثبت من غيرهم وأصبر، وأضبط للنفس عند نزول البلايا وكذلك أتباعهم من المؤمنين.
(متى نصر الله) متى ظرف زمان لا ينصرف إلا بجره بحرف والرسول هنا قيل هو محمد - ﷺ -، وقيل شعياء: وقيل هو كل رسول بعث إلى أمته.
وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير أي حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله، ويقول الرسول ألا إن نصر الله قريب.
ولا ملجىء لهذا التكلف لأن قول الرسول ومن معه (متى نصر الله) ليس فيه إلا استعجال النصر من الله سبحانه، وليس فيه ما زعموه من الشك والإرتياب حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسف.
قال قتادة: نزلت هذه الآية في يوم الأحزاب وهي غزوة الخندق أصاب
430
النبي - ﷺ - يومئذ وأصحابه بلاء وحصر، وقيل نزلت في غزوة أحد، وقيل غير
ذلك.
وقال ابن عباس: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم، والمعنى أنه بلغ بهم الجهد والشدة والبلاء ولم يبق لهم صبر، وذلك هو الغاية القصوى في الشدة، فلما بلغ الحال في الشدة إلى هذه الغاية واستبطؤوا النصر قيل لهم.
(ألا إن نصر الله قريب) إجابة لهم في طلبهم، والمعنى هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء والشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر الله، فكونوا يا معشر المسلمين كذلك، وتحملوا الأذى والشدة والمشقة في طلب الحق، فإن نصره سبحانه قريب إتيانه لا بعيد، وفيه إشارة إلى أن المراد بالقرب القرب الزماني، وفي إيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقرر ما لا يخفى.
431
(يسئلونك ماذا ينفقون) السائلون هنا هم المؤمنون، سألوا عن الشيء الذي ينفقونه ما هو أي ما قدره وما جنسه (قل ما أنفقتم من خير) إلى آخره فأجيبوا ببيان المصرف الذي يصرفون فيه تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد لأن الشيء لا يعتد به إلا إذا وضع في موضعه وصادف مصرفه، وقيل أنه قد تضمن الآية بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وقيل إنما سألوا عن وجوه البر التي ينفقون فيها وهو خلاف الظاهر " وما " شرطية، وقيل موصولة والأول أولى لتوافق ما بعدها.
(فللوالدين) قدمهما لوجوب حقهما على الولد لأنهما السبب في وجوده (والأقربين) قدمهم لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح جميع الفقراء فتقديم القرابة أولى من غيرهم ولأنهم أبعاض الوالدين (واليتامى) لأنهم لا
431
يقدرون على الكسب ولا لهم منفق، وقد تقدم الكلام في الأقربين واليتامى (والمساكين وابن السبيل) أي هم أولى به، وانظر إلى هذا الترتيب الحسن العجيب في كيفية الإنفاق كيف فصله ثم أتبعه بالإجمال فقال (وما تفعلوا من خير) أي مع هؤلاء أو غيرهم طلباً لوجه الله ورضوانه (فإن الله به عليم) فيجازيكم عليه.
قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة، وقال الحسن: أنها محكمة، وقال ابن زيد: هذا في النفل أي التطوع، وهو ظاهر الآية، فمن أحب التقرب إلى الله بالإنفاق فالأولى به أن ينفق في الوجوه المذكورة في الآية فيقدم الأول فالأول.
ولم يذكر فيها السائلين والرقاب كما في الآية الأخرى اكتفاء بها أو بعموم قوله (وما تفعلوا من خير) فإنه شامل لكل خير وقع في أي مصرف. (١)
_________
(١) وفي سبب نزول الآية هو أن عمرو بن الجموح الأنصاري وكان له مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق، وعلى من ننفق فنزلت هذه الآية.
وقيل: أن رجلاً قال للنبي ﷺ إن لي ديناراً.
فقال: أنفقه على نفسك.
فقال: إن لي دينارين.
فقال: أنفقهما على أهلك.
فقال: إن لي ثلاثة فقال أنفقها على خادمك فقال إن لي أربعة فقال أنفقها على والديك فقال إن لي خمسة فقال أنفقها على أقربائك فقال إن لي ستة فقال أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها فنزلت هذه الآية.
432
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
(كتب عليكم القتال وهو كره لكم) بين سبحانه، أن هذا أي فرض القتال عليهم من جملة ما امتحنوا به، والمراد بالقتال قتال الكفار، والكره بالضم المشقة، وبالفتح ما أكرهت عليه، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، وإنما كان الجهاد كرهاً لأن فيه إخراج المال ومفارقة الأهل والوطن والتعرض لذهاب النفس، وفي التعبير بالمصدر وهو كره مبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه كما في قولهم: الدراهم ضرب الأمير.
قيل الجهاد فرض على كل مسلم ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراَّ " أخرجه أبو داود بزيادة فيه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " (١)، وقيل الجهاد تطوع.
والمراد من الآية أصحاب رسول الله - ﷺ - دون غيرهم، وبه قال الثوري والأوزاعي والأول أولى، والجمهور على أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، قال الزهري: كتب الله القتال على الناس جاهدوا أو لم يجاهدوا فمن غزا فبها ونعمت، ومن قعد فهو عدة إن استعين به أعان وإذا استنفر نفر، وإن استغنى عنه قعد، وقيل فرض عين إن دخلوا بلادنا وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم.
_________
(١) مسلم/١٨٦٤.
433
(وعسى أن تكرهوا شيئاً) قيل عسى هنا بمعنى (قد) روي ذلك عن الأصم، وقال أبو عبيدة: عسى من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا الجهاد طبعاً لما فيه من المشقة، وأما شرعاً فهو محبوب وواجب ولا يلزم منه ما قاله السعد التفتازاني كراهة حكم الله ومحبة خلافه، وهو ينافي كمال التصديق، لأن معناه كراهة النفس ذلك الفعل ومشقته مع كمال الرضا بالحكم والإذعان له.
(وهو خير لكم) فربما تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات شهيداً والواو للحال أو صفة لشيء، وعليه جرى أبو البقاء هنا والزمخشري في قوله (ولها كتاب معلوم) وهو رأي ابن حيزان، وسائر النحويين يخالفونه.
(وعسى أن تحبوا شيئاً) أي الدعة وترك القتال (وهو شر لكم) فربما يتقوى عليكم العدو فيغلبكم ويقصدكم إلى عقر دياركم فيحل بكم أشد مما تخافونه من الجهاد الذي كرهتم مع ما يفوتكم في ذلك من الفوائد العاجلة والآجلة.
(والله يعلم) ما فيه صلاحكم وفلاحكم وما هو خير لكم وما في الجهاد من الغنيمة والأجر والخير فلذلك يأمركم به (وأنتم لا تعلمون) ذلك ولذلك تكرهونه، قيل أنها محكمة ناسخة للعفو عن المشركين، وقيل منسوخة لأن فيها وجوب الجهاد على الكافة والناسخ قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وقيل إنها ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه، فالناسخ منها إيجاب الجهاد مع المشركين بعد المنع منه، والمنسوخ إيجاب الجهاد على الكافة.
وقد ورد في فضل الجهاد ووجوبه أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها.
434
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧)
(يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) أي القتال فيه أمر كبير مستنكر، والشهر الحرام المراد به الجنس، وقد كانت العرب لا تسفك فيه دماء ولا تغير على عدو، والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد، وهذه الأمور أعظم ذنباً وأشد إثماً من القتال في الشهر الحرام كذا قال المبرد وغيره، قيل إنها محكمة وإنه لا يجوز الغزو في الشهر الحرام إلا بطريق الدفع، وقيل منسوخة بقوله (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وبقوله (قاتلوا المشركين كافة) وبه قال الجمهور.
(وصد عن سبيل الله) أي صدكم المسلمين عن الحج أو صدكم عن الإسلام من يريده (وكفر به) الضمير يعود إلى الله، وقيل إلى الحج (والمسجد الحرام) أي وصدكم عنه قاله الزمخشري وغيره، وتعقب بأن عطف قوله (وكفر به) على صد مانع منه إذ لا يتقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة وهو سبيل الله لوجود الفصل بأجنبي، وأجيب بأن الكفر بالله والصد عن سبيله متحدان معنى فكأنه لا فصل بأجنبي بين سبيل وما عطف عليه.
(وإخراج أهله منه) يعني رسول الله - ﷺ - والمؤمنين حين آذوهم حتى
435
هاجروا وتركوا مكة، وإنما جعلهم الله أهله لأنهم كانوا هم القائمين بحقوق المسجد الحرام دون المشركين.
ومعنى الآية الذي ذهب إليه الجمهور إنكم يا قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن الكفر بالله ومن الصد عن المسجد الحرام ومن إخراج أهل الحرم منه (أكبر) جرماً (عند الله) وسبب النزول يشهد لهذا المعنى، ويفيد أنه المراد فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لا وقع من السرية التي بعثها النبي - ﷺ -.
(والفتنة أكبر من القتل) المراد بالفتنة هنا الكفر والشرك قاله ابن عمر أي كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي - ﷺ -، وقيل المراد بالفتنة الإخراج لأهل الحرام منه، وقيل المراد بالفتنة هنا فتنتهم عن دينهم حتى يهلكوا أي فتنة المستضعفين من المؤمنين، أو نفس الفتنة التي الكفار عليها، وهذا أرجح من الوجهين الأولين، لأن الكفر والإخراج قد سبق ذكرهما وإنهما مع الصد أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، وعن سفيان الثوري هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام وعن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة.
(ولا يزالون يقاتلونكم) ابتداء كلام يتضمن الإخبار عن الله عز وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار والمشركين لا يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم (حتى يردوكم عن دينكم) أي الإسلام إلى الكفر (إن استطاعوا) ذلك وتهيأ لهم منكم، والتقييد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك وقدرتهم عليه.
ثم حذر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار والدخول فيما يريدونه
436
من ردهم عن دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين فقال (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) الردة الرجوع عن الإسلام إلى الكفر، والتقييد بالكفر يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر، وأما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت عليه شيء من أحكام الردة، وفيه دليل للشافعي أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت على ردته.
وعند أبي حنيفة أن الردة تحبط العمل وإن أسلم، وحبط معناه بطل وفسد، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.
(في الدنيا والآخرة) أي لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا فلا يأخذ شيئاً مما يستحقه المسلمون من الميراث وغيره، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام، ولا ينال شيئاً من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام ويستحقه أهله.
وقد اختلف أهل العلم في الردة هل تحبط العمل بمجردها أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر، والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد.
(وأولئك أصحاب النار) يعني الذين ماتوا على الردة والكفر (هم فيها خالدون) أي لا يخرجون منها أبداً وقد تقدم الكلام في معنى الخلود.
437
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله) الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع وترك الأول لإيثار مكاني، والهجر ضد الوصل، والتهاجر التقاطع والمراد بها هنا الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، والمجاهدة استخراج الجهد، والجهاد والتجاهد بذل الوسع.
(أولئك يرجون) أي يطمعون، وإنما قال يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، والرجاء الأمل يقال رجوت فلاناً أرجوه رجاء وهو ضد اليأس.
وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى (ما لكم لا ترجون لله وقاراً) أي لا تخافون عظمة الله، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة أو المجاز، زعم قوم أنه حقيقة ويكون من الاشتراك اللفظي، وزعم قوم أنه من الأضداد فهو اشتراك لفظي أيضاً.
وقال ابن عطية: الرجاء أبداً معه خوف كما أن الخوف معه رجاء، وزعم قوم أنه مجاز للتلازم الذي ذكرناه، قال قتادة أثنى الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الثناء في هذه الآية وهم خيار هذه الأمة ثم جعلهم أهل رجاء ومن رجا طلب ومن خاف هرب.
(رحمت الله) أخبر أنهم على رجاء الرحمة وقد كتبت (رحمة) هنا بالتاء وهي في القرآن في سبعة مواضع (والله غفور) لذنوب عباده (رحيم) بهم بإجزال الأجر.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
(يسئلونك عن الخمر) السائلون المؤمنون فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم عن عمر أنه: قال اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فإنها تذهب بالمال والعقل، فنزلت يعني هذه الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت التي في سورة النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فكان ينادي رسول الله - ﷺ - إذا قام إلى الصلاة أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعى عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في المائدة فدعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون؟ قال عمر انتهينا انتهينا.
والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره، ومنه " خمروا آنيتكم " وسمي خمر لأنه يخمر العقل أي يغطيه ويستره، وقيل سميت خمراً لأنها تركت حتى أدركت أي بلغت إدراكه، وقيل لأنها تخالط العقل من المخامرة وهو المخالطة.
وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت ثم خالطت العقل فخمرته أي سترته، والخمر ماء العنب الذي غلا واشتد وقذف بالزبد، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور، وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال أي ما دون المسكر منه، وذهب أبو حنيفة إلى حل ما ذهب ثلثاه بالطبخ، والخلاف في ذلك مشهور، وقد أطلت الكلام
439
على الخمر في شرحي لبلوغ المرام، وأطال الشوكاني الكلام عليه في شرحه للمنتقى فليرجع إليهما.
وجملة القول في تحريم الخمر أن الله أنزل فيه أربع آيات:
نزل بمكة (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً) فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهي لهم حلال، ثم نزل بالمدينة في جواب عمر ومعاذ هذه الآية فتركها قوم لقوله (فيهما إثم كبير) وشربها قوم لقوله (ومنافع للناس) ثم نزل (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فترك قوم شربها في أوقات الصلاة، ثم أنزل الله الآية التي في المائدة، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام.
والخمر تذكر وتؤنث وقال الأصمعي الخمر أنثى وأنكر التذكير.
(والميسر) مصدر ميمي مأخوذ من اليسر وهو وجوب الشيء لصاحبه يقال يسر لي كذا إذا وجب، والياسر اللاعب بالقداح، وقال الأزهري: الميسر الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر الجازر، وقال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور ياسرون لأنهم جازرون، إذ كانوا سبباً لذلك.
والمراد بالميسر في الآية قمار العرب بالأزلام، قال جماعة من السلف: من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق، وقال مالك: الميسر ميسران ميسر اللهو وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار ما
440
يتخاطر الناس عليه وكل ما قومر به فهو ميسر كالطاب والمنقلة والطاولة وغيرها، وسيأتي البحث مطولاً في هذا في سورة المائدة عند قوله (إنما الخمر والميسر) إن شاء الله تعالى.
(قل فيهما إثم كبير) يعني في الخمر والميسر، فإثم الخمر أي إثم تعاطيها ينشأ من فساد عقل مستعملها فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وتعطيل الصلوات وسائر ما يجب عليه، وأما إثم الميسر أي إثم تعاطيه فما ينشأ عن ذلك من الفقر وذهاب المال في غير طائل والعداوة وإيحاش الصدور.
(ومنافع للناس) أما منافع الخمر فربح للتجارة فيها، وقيل ما يصدر عنها من الطرب واللذة والنشاط والفرح وقوة القلب وثبات الجنان وإصلاح المعدة وقوة الباه (١) وتصفية اللون، وحمل البخيل على الكرم، وزوال الهم وهضم الطعام، وتشجيع الجبان، وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك في أشعارهم.
ومنافع الميسر مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كد، وما يحصل من السرور والأريحية عند أن يصير له منها سهم صالح، وسهام الميسر أحد عشر، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الخطوط وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافر والمسبل والمعلى والسفح والوغد والضعف والجزور، ولا نطول بذكر علاماتها وأحوالها.
(وإثمهما أكبر من نفعهما) أخبر سبحانه بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع، لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر
_________
(١) باهَ لهُ بيهاً: فطِن. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا في هامش المطبوع، وأظن المراد هنا بـ (الباه): الجماع، والله أعلم]
441
واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم.
وقد وردت في تحريم الخمر ووعيد شاربها أحاديث كثيرة.
(ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو) والعفو ما سهل وتيسر، ولم يشق على القلب، والمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا فيه أنفسكم، وقيل هو ما فضل عن نفقة العيال، وقال جمهور العلماء هو نفقات التطوع، وقيل إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة، وقيل هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول " وثبت نحوه في الصحيح مرفوعاً من حديث حكيم بن حزام، وفي الباب أحاديث كثيرة، وقيل المعنى خذ الميسور من أخلاق الرجال ولا تستقص عليهم. (١)
(كذلك يبين الله لكم الآيات) أي في أمر النفقة ومصارفها (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) أي في أمرهما فتحبسون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم وتنفقون الباقي في الوجوه المقربة إلى الآخرة، وقيل في الكلام تقديم وتأخير أي كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها، وفي الآخرة وبقائها فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٣٢٧٦.
442
فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
(ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم) وقوله (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) وقد ضاق على الأولياء الأمر فنزلت هذه الآية، والمراد بالإصلاح هنا مخالطتهم على وجه الإصلاح لأموالهم، فإن ذلك أصلح من مجانبتهم.
وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال الأيتام من الأولياء والأوصياء بالبيع والمضاربة والإجارة ونحو ذلك، وقيل أن يوسع على اليتيم من طعام نفسه ولا يوسع عليه من طعامه ولا يأخذ أجرة ولا عوضاً على إصلاح أمواله.
(وإن تخالطوهم فإخوانكم) اختلف في تفسير المخالطة لهم فقال أبو عبيدة: مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ولا يجد بداً من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد تقع فيه الزيادة والنقصان، فدلت هذه الآية على الرخصة وهي ناسخة لما قبلها، وقيل المراد بالمخالطة المعاشرة للأيتام، وقيل المراد بها المصاهرة لهم والأولى عدم قصر المخالطة على نوع خاص، بل يشمل كل مخالطة كما يستفاد من الجملة الشرطية، والتقدير فهم إخوانكم في الدين.
(والله يعلم المفسد) لأموالهم بمخالطته (من المصلح) بها تحذير للأولياء أي لا يخفى على الله من ذلك شيء فهو يجازي كل أحد بعمله، من أصلح فلنفسه ومن أفسد فعليها، ففيه وعد ووعيد خلا أن في تقديم المفسد مزيد تهديد وتأكيد للوعيد.
(ولو شاء الله لأعنتكم) أي جعل ذلك شاقاً عليكم ومتعباً لكم
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
وأوقعكم فيما فيه الحرج والمشقة، وقيل العنت هنا معناه الهلاك، قاله أبو عبيده وأصل العنت المشقة، وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد، ثم نقل إلى معنى الهلاك (إن الله عزيز) أي لا يمتنع عليه شيء لأنه غالب لا يغالب (حكيم) يتصرف في ملكه بما تقتضيه مشيئته وحكمته وليس لكم أن تختاروا لأنفسكم.
(ولا تنكحوا المشركات) أي لا تتزوجوا، والمراد بالنكاح العقد لا الوطء حتى قيل أنه لم يرد في القرآن بمعنى الوطء أصلاً (حتى يؤمنَّ) حتى بمعنى إلى أي إلى أن يؤمنَّ.
وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات فقيل المراد بها الوثنيات، وقيل أنها تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون قالت: اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله.
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية فقالت طائفة: إن الله حرم نكاح المشركات فيها والكتابيات من الجملة، ثم جاءت آية المائدة فخصصت الكتابيات من هذا العموم، وهذا محكي عن ابن عباس ومالك وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمرو والأوزاعي.
وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات، وهذا أحد قولي الشافعي وبه قال جماعة من أهل
444
العلم، ويجاب عن قولهم إن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أول ما أنزل، وسورة المائدة من آخر مما نزل، والقول الأول هو الراسخ، وقد قال به مع من تقدم عثمان بن عفان وطلحة وجابر وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك كما حكاه النحاس والقرطبي، وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين، وزاد عمر بن الخطاب وقال: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) وعلى فرض أن لفظ المشركين يعم فهذا العموم مخصوص بآية المائدة كما قدمنا عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي استأذن النبي - ﷺ - في عناق أن يتزوجها، وكانت ذات حظ من جمال، وهي مشركة وأبو مرثد يومئذ مسلم فقال يا رسول الله إنها تعجبني، فأنزل الله (ولا تنكحوا المشركات) أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر.
وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: حرم الله نكاح المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله.
(ولأمة مؤمنة خير من مشركة) أي ولرقيقة مؤمنة أنفع وأصلح وأفضل من حرة مشركة، وقيل المراد بالأمة الحرة لأن الناس كلهم عبيدٌ لله وإماؤه والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ ولأنه أبلغ فإن تفضيل الأمة المؤمنة على الحرة المشتركة يستفاد منه تفضيل الحرة المؤمنة على الحرة المشركة بالأولى.
قال ابن عرفة: يجيء التفضيل في كلامهم إيجاباً للأول ونفياً عن الثاني، فعلى هذا لا يلزم وجود خير في المشركة مطلقاً.
445
(ولو أعجبتكم) المشركة من جهة كونها ذات جمال أو مال أو نسب أو شرف وهذه الجملة حالية، قال السيوطي: وهذا مخصوص بغير الكتابيات بآية (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) (١).
(ولا تنكحوا المشركين) أي لا تزوجوا الكفار بالمؤمنات خطاب للأولياء (حتى يؤمنوا) قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام (ولعبد) الكلام فيه كالكلام في قوله ولأمة والترجيح كالترجيح (مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) أي بحسنه وجماله ونسبه وماله.
(أولئك) إشارة إلى المشركين والمشركات (يدعون إلى النار) أي إلى الأعمال الموحبة للنار فكان في مصاهرتهم ومعاشرتهم ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له ويدخلوا فيه.
(والله يدعو إلى الجنة والمغفرة) أي إلى الأعمال الموجبة للجنة، وقيل المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة (بإذنه) أي بأمره قاله الزجاج، وقيل بتيسيره وتوفيقه قاله في الكشاف، فتجب إجابته بالتزويج من أوليائه وهم المسلمون (ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) أي يوضح أدلته وحججه في أوامره ونواهيه وأحكامه لعلهم يتعظون.
_________
(١) وقيل أن رسول الله ﷺ بعث صحابياً إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من أصحابه، وكان له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها عناق فجاءته فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية قالت فتزوجني قال: حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها.
446
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
447
(ويسئلونك عن المحيض) السائل أبو الدحداح في نفر من الصحابة، والمحيض هو الحيض وهو مصدر ميمي، يقال حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً فهي حائض وحائضة كذا قال الفراء، ونساء حيض وحوائض، والحيضة بالكسر المرة الواحدة وقيل الاسم، وقيل المحيض عبارة عن الزمان والمكان وهو مجاز فيهما.
وقال ابن جرير الطبري: المحيض اسم الحيض أي الحدث، وأصل هذه الكلمة من السيلان والإنفجار، يقال حاض السيل وفاض وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحوض لأن الماء يحوض إليه أي يسيل.
(قل هو أذى) أي شيء يتأذى به أي برائحته، والأذى كناية عن القذر أو محله ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى (ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) ومنه قوله تعالى (ودع أذاهم) (فاعتزلوا النساء في المحيض) أي فاجتنبوهن واتركوا وطأهن في زمان الحيض أن حمل المحيض على المصدر أو في محل الحيض إن حمل على الاسم.
والمراد من هذا الاعتزال ترك المجامعة لا ترك المجالسة أو الملابسة فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك.
447
وأما ما يروى عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت فليس ذلك بشيء.
ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض وهو معلوم من ضرورة الدين.
وقد أخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أنس، " أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فأنزل الله (ويسئلونك عن المحيض) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح (١) ".
(ولا تقربوهن) بالجماع (حتى يطهرن) قرىء بالتخفيف والتشديد، والطهر انقطاع الحيض والتطهير الاغتسال، وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء، وقال محمد بن كعب القرظي ويحيى بن بكير: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل، وقال مجاهد وعكرمة إن انقطع الدم يحلها لزوجها ولكن تتوضأ.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة، وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد.
والأولى أن يقال أن الله سبحانه جعل للحل غايتين كما تقتضيه القراءتان إحداهما انقطاع الدم والأخرى التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى فيجب المصير إليها، وقد دل على أن الغاية الأخرى هي
_________
(١) مسلم ٣٠٢.
448
المعتبرة قوله تعالى بعد ذلك (فإذا تطهرن) فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر لا مجرد انقطاع الدم، وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة ما والعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين.
(فأتوهن من حيث أمركم الله) أي فجامعوهن، وكنى عنه بالإتيان والمراد أنهم يجامعوهن في المأتى الذي أباحه الله، وهو القبل، وقيل من حيث بمعنى في حيث كما في قوله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) أي في يوم الجمعة وقوله (ماذا خلقوا من الأرض) أي في الأرض وقيل أن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، وقيل أن المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقيل من قبل الحلال لا من قبل الزنا.
(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) قيل المراد التوابون من الذنوب والمتطهرون من الجنابة والأحداث، وقيل التوابون من إتيان النساء في أدبارهن وقيل من إتيانهن في المحيض والأول أظهر.
449
(نساؤكم حرث لكم) لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة إذ هو مزدرع الذرية كما أن الحرث مزدرع النبات فقد شبه ما يلقى في أرحامهم من النطف التي منها النسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى أعني قوله (فأتوهن من حيث أمركم الله).
(فأتوا حرثكم) أي محل زرعكم واستنباتكم الولد وهو القبل، وهذا على سبيل التشبيه، فجعل فرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر، والولد كالزرع (أنى شئتم) أي من أي جهة شئتم من خلف وقدام وباركةً ومستلقية ومضطجعة وقائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة إذا كان في موضع الحرث، وإنما عبر سبحانه بكلمة أنى لكونها أعم في اللغة من أين وكيف ومتى، وأما سيبويه ففسرها بكيف.
449
وقد ذهب السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ما ذكرناه من تفسير الآية وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام، وروي عن سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك ابن الماجشون أنه يجوز ذلك، حكاه عنهم القرطبي في تفسيره قال: وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب السر، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سر، ووقع هذا القول في العتبية.
وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كثيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة عن كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن.
قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني شك في أنه حلال، يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ (نساؤكم حرث لكم) ثم قال: فأي شيء أبين من هذا.
وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك وفي أسانيدها ضعف.
وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي - ﷺ - في تحليله ولا تحريمه شيء، والقياس أنه حلال، وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب. (١)
قال ابن الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن جابر قال: كانت
_________
(١) وقد ورد التحريم صريحاً بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. " لا تأتوا النساء في أعجازهن " رواه أحمد والنسائي.
450
اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد.
وقد روي هذا عن جماعة من السلف وصرحوا أنه السبب، والصمام السبيل.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي والضياء في المختارة وغيرهم عن ابن عباس قال: " جاء عمر إلى رسول الله فقال: يا رسول الله هلكت قال: وما أهلكك قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه شيئاً فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية (نساؤكم حرث لكم) يقول أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة.
وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة وآبن المنذر والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت أن سائلاً سائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال " حلال، أو لا بأس " فلما ولى دعاه فقال: كيف قلت أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن ".
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة من الدبر " (١).
وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن ابن عمرو أن النبي - ﷺ - قال: " الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى (٢) ".
_________
(١) وقد صحح الحديث ابن خزيمه في صحيحه.
(٢) رواه البزار والطبراني وصححه المنذري.
451
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ملعون من أتى امرأته في دبرها " (١).
وقد ورد النهي عن ذلك من طرق.
وقد ثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعاً وموقوفاً.
وقد روي القول بحل ذلك عن بعضهم كما قدمنا، وليس في أقوال هؤلاء حجة البتة ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم فإنهم لم يأتوا بدليل يدل على الجواز فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية فقد أخطأ في فهمه، وقد فسرها لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكابر أصحابه بخلاف ما قاله هذا المخطىء في فهمه كائناً من كان.
ومن زعم منهم أن سبب نزول الآية أن رجلاً أتى امرأته في دبرها فليس في هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك، ومن زعم ذلك فقد أخطأ بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام، فكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله، فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا وتارة بتحريمه.
(وقدموا لأنفسكم) أي خيراً كما في قوله تعالى (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) وقيل ابتغاء الولد وقيل التزويج بالعفائف، وقيل التسمية والدعاء عند الجماع وقيل غير ذلك (واتقوا الله) فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرمات (واعلموا أنكم ملاقوه) بالبعث مبالغة في التحذير (وبشر المؤمنين) الذين اتقوه بالجنة تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٨٤٨.
452
الجزء الأول
تم الجزء الأول بفضل الله ونعمته ويليه الجزء الثاني وأوله تفسير الآية ٢٢٤ من سورة البقرة وتبدأ بقوله تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
453
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثاني
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

أوله تفسير الآيه ٢٢٤ من سورة البقرة وتبدأ بقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) إلى آخر سورة آل عمران
5
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)
7
(ولا تجعلوا الله) أي الحلف به (عرضة لأيمانكم) العرضة النصبة قاله الجوهري، وقيل العرضة الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة عرضة للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة أي قوة، وتطلق العرضة على الهمّة، ويقال فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه.
فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري أن العرضة النصبة كالغرفة يكون ذلك اسماً لما تعرضه دون الشيء أي تجعله حاجزاً له ومانعاً منه، أي لا تجعلوا الله حاجزاً ومانعاً لما حلفتم عليه، وذلك لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة الرحم أو إحسان إلى الغير أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك ثم يمتنع من فعله معللاً لذلك الإمتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية فنهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم أي حاجزاً لما حلفوا عليه ومانعاً منه، وسمّي المحلوف عليه يميناً لتلبُّسه باليمين.
وعلى هذا يكون قوله (أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) عطف بيان لأيمانكم أي لا تجعلوا الله مانعاً للأيمان التي هي برُّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، ويتعلق قوله لأيمانكم بقوله لا تجعلوا أي لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعاً وحاجزاً.
ويجوز أن يتعلق بعرضة، أي لا تجعلوا شيئاً معترضاً بينكم وبين البر وما بعده.
وعلى المعنى الثاني وهو أن العرضة الشدة والقوة يكون معنى الآية لا
7
تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم وعدّة في الامتناع من الخير.
ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث وهو تفسير العرضة بالهمة.
وأما على المعنى الرابع وهو قولهم فلان عرضة للناس، فيكون معنى الآية عليه: ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتبتذلونه بكثرة الحلف به، ومنه (واحفظوا أيمانكم) وقد ذم الله المكثرين للحلف فقال (ولا تطع كل حلاّف مهين) وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان فيكون قوله (أن تبروا) علة للنهي أي لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس لأن من يكثر الحلف بالله يجترىء على الحنث ويفجر في يمينه.
وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلا هذه الوجوه التي ذكرناها (والله سميع) أي لأقوال العباد (عليم) بما يصدر منهم.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه " (١).
وثبت أيضاً في الصحيحين وغيرهما أن النبي ﷺ قال: " والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني " (٢).
وأخرج ابن ماجه وابن جرير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبرّه أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه " (٣) وفي الباب أحاديث.
_________
(١) مسلم ١٦٥٠.
(٢) مسلم ١٦٤٩ - البخاري ١٤٧٦.
(٣) صحيح الجامع الصغير ٦٠٩١.
8
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) اللغو مصدر لغا يلغو لغواً ولغا يلغي لغياً إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه وهو الساقط
8
الذي لا يعتد به، فاللغو من اليمين هو الساقط، ومنه اللغو في الدية وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل، ومعنى الآية لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم (ولكن يؤاخذكم) أي يعاقبكم (بما كسبت قلوبكم) أي اقترفته بالقصد إليه وهي اليمين المقصودة، ومثله قوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان).
وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو، فذهب ابن عباس وعائشة وجمهور العلماء إلى أنها قول الرجل لا والله وبلى والله في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريد لها.
قال المروزي: هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء، ويدل له الأحاديث، وبه قال الشافعي.
وقال أبو هريرة وجماعة من السلف: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه أتاه فاذا هو ليس ما هو ظنه، وإلى هذا ذهب الحنفية، وبه قال مالك في الموطأ ولا كفارة فيه ولا إثم عليه عنده.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان، وبه قال طاوس ومكحول وروي عن مالك، وقيل: إن اللغو هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير وأخوه عروة كالذي يقسم ليشربنّ الخمر أو ليقطعن الرحم.
وقيل لغو اليمين هو دعاء الرجل على نفسه كأن يقول أعمى الله بصره أذهب الله ماله، هو يهودي هو مشرك قاله زيد بن أسلم، وقال مجاهد: لغو اليمين أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا، وقال الضحاك: لغو اليمين هي المكفرة أي إذا كفّرت سقطت وصارت لغواً والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي ولدلالة الأدلة عليه (١).
_________
(١) القرطبي ٣/ ١٠٠.
9
(والله غفور حليم) حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد أو قصد، وأخذكم بما تعمدته قلوبكم وتكلمت به ألسنتكم، وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة، وقال سعيد بن جبير (والله غفور) يعني إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها (حليم) إذ لم يجعل عليها الكفارة.
10
(للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر) أي يحلفون والمصدر إيلاء وألية وألوة، وقرأ ابن عباس للذين آلوا يقال آلى يولي ايلاء ويأتلي بالتاء ائتلاء أي حلف، ومنه (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) والإيلاء حقه أن يستعمل بعلى، واستعماله بمن لتضمنه معنى البعد أي يحلفون متباعدين من نسائهم.
وقد اختلف أهل العلم في الإيلاء فقال الجمهور إن الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مولياً، وكانت عندهم يميناً محضاً، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور، وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعداً وهو قول عطاء.
وروي عن ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يمسها أبداً وقالت طائفة: إذا حلف أن لا يقرب امرأته يوماً أو أقل أو أكثر ثم لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، وبه قال ابن مسعود والنخعي وابن أبي ليلى والحكم وحماد بن سليمان وقتادة وإسحق.
قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم.
وقوله (من نسائهم) يشمل الحرائر والإماء إذا كن زوجات وكذلك يدخل تحت قوله (للذين يؤلون) العبد إذا حلف من زوجته، وبه قال أحمد والشافعي وأبو ثور قالوا وإيلاؤه كالحر، وقال مالك والزهري وعطاء وأبو حنيفة
10
وإسحق: إن أجله شهران، وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة، والتربص التأني والتأخر.
وإنما وقت الله سبحانه بهذه المدة دفعاً للضرار عن الزوجة، وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك ضرار النساء، وقد قيل إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها (١).
(فإن فَاءُوا) أي رجعوا فيها أو بعدها عن اليمين إلى الوطء، ومنه (حتى تفيء إلى أمر الله) أي ترجع، ومنه قيل للظل بعد الزوال (فيء) لأنه رجع عن جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال فاء يفيء فيئة وفيئاً، وأنه سريع الفيئة أي الرجعة، وللسلف في الفيء أقوال مختلفة فينبغي الرجوع إلى معنى الفيء وقد بيناه.
قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك.
وقالت طائفة: إذا أشهد على فيئه بقلبه في حال العذر أجزأه، وبه قال الحسن وعكرمة والنخعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل.
وقد أوجب الجمهور على المولى إذا فاء بجماع امرأته الكفارة، وقال الحسن والنخعي: لا كفارة عليه، وللصحابة والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة، والمتعيّن الرجوع إلى ما في الآية الكريمة وهو ما عرّفناك واشدد عليه يديك (فإن الله غفور) للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته (رحيم) لكل التائبين.
_________
(١) القرطبي ٣/ ١٠٨.
11
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
12
(وإن عزموا الطلاق) العزم العقد على الشيء يقال عزم يعزم عزماً وعزيمة وعزماناً واعتزم، فمعنى عزموا الطلاق عقدوا عليه قلوبهم بأن لم يفيئوا فليوقعوه، والطلاق من طلقت المرأة تطلق كنصر ينصر، طلاقاً فهي طالق وطالقة أيضاً: والطلاق حل عقد النكاح، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر كما قال مالك ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضاً فإنه قال: (فإن الله سميع) لقولهم، وسميع يقتضي مسموعاً بعد المضى، وقال أبو حنيفة سميع لإيلائه (عليم) بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر.
والمعنى: ليس لهم بعد تربص ما ذكر إلا الفيئة أو الطلاق.
واعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي أي يحلف من امرأته أربعة أشهر، ثم قال مخبراً لعباده بحكم هذا المؤلي بعد هذه المدة (فإن فَاءُوا) أي رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح (فإن الله غفور رحيم) أي لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم (وإن عزموا الطلاق) أي وقع العزم منهم عليه والقصد له (فإن الله سميع) لذلك منهم (عليم) به فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة، فمن حلف أن لا يطأ امرأته ولم يقيد بمدة أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر، فإذا مضت فهو بالخيار إما رجع إلى نكاح امرأته وكفّر عن يمينه، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها، أو
12
طلقها وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء.
وأما إذا وقّت بدون أربعة أشهر فإن أراد أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين آلى من نسائه شهراً فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وكان ممتثلاً لما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " (١).
(والمطلقات) أي المخلَّيات من حبال أزواجهنّ، والمطلقة هي التي أوقع الزوج عليها الطلاق (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) تمضي من حين الطلاق تدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول، ثم خصصت بقوله تعالى (فما لكم عليهن من عدّة تعتدونها) فوجب بناء العام على الخاص، وخرجت من هذا العموم المطلقة قبل الدخول، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وكذلك خرجت الآية بقوله تعالى: (فعدتهن ثلاثة أشهر)؛ والتربص الانتظار قيل هو خبر في معنى الأمر أي لتتربص قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه وزاده تأكيداً وقوعه خبراً للمبتدأ.
قال ابن العربي: وهذا باطل وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس ذلك من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره.
_________
(١) روى مسلم أحاديث كثيرة بهذا المعنى/١٦٥٠ وما بعده./صحيح الجامع الصغير/٦٠٨٤.
13
والقروء (١) جمع قرء، قال الأصمعي: الواحد القرء بضم القاف، وقال أبو زيد بالفتح وكلاهما قال: أقرأت المرأة حاضت وأقرأت طهرت، وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت قرأت بلا ألف.
وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قَرْأً، ومنهم من يسمي الطهر قرأً، ومنهم من يجمعهما جميعاً فيسمي الحيض مع الطهر قرأ.
وينبغي أن يعلم أن القَرْءَ في الأصل الوقت يقال هبت الرياح لقَرئها ولقارئها أي لوقتها فيقال للحيض قَرء وللطهر قَرء لأن كل واحد منهما له وقت معلوم، وقد أطلقته العرب تارة على الطهر وتارة على الحيض.
وقال قوم مأخوذ من قرأَ الماء في الحوض وهو جمعه، ومنه (القرآن) لاجتماع المعاني فيه.
والحاصل أن القَرْءَ في لغة العرب مشترك بين الحيض والطهر، ولأجل ذلك الاشتراك اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدى وأحمد بن حنبل، وقال أهل الحجاز: هي الإظهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي.
واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القَرْءَ الوقت فصار معنى الآية عند الجميع والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، فهي على هذا مفسرة في العدد مجملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في هذه الآية الحيض بقوله - ﷺ - " دعي الصلاة أيام
_________
(١) القُروء: جمعُ قَرْء (مجمل اللغة لابن فارس، باب القاف والراء وما يثلثهما، ٢/ ٧٥٠؛ تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، اطبعة مؤسسة الرسالة- بيروت).
14
إقرائك (١) " وبقوله- ﷺ -: " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان (٢) " وبأن المقصود من العدة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر.
واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر، وبقوله - ﷺ - لعمر " مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء (٣) " وذلك لأن زمن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء.
قال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركنا أحداً من فقهائنا إلا يقول بأن الإقراء هو الإطهار فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدة انتهى.
وعندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعاً:
أما قول الأولين أن النبي - ﷺ - قال: " دعي الصلاة أيام إقرائك " فغاية ما في هذا أن النبي - ﷺ - أطلق الإقراء على الحيض، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو شأن اللفظ المشترك فإنه يطلق تارة على هذا وتارة على هذا، وإنما النزاع في
_________
(١) أبو داود كتاب الطهارة باب ١٠٧.
(٢) ضعيف الجامع الصغير ٣٦٥٢. والصواب وقفه على ابن عمر (وعن عائشة مرفوعاً: " طلاق العبد اثنتان فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره " رواه الدارقطني) ٢/ ٢٤٢. وهو ضعيف. أخرجه الدارقطني (٤٤١) وعنه البيهقي (٧/ ٢٣٩ - ٣٧٠، ٤٢٦).
أما " طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان ".
أخرجه أبو داود (٢١٨٩) والترمذي (١/ ٢٢٢) وابن ماجه (٢٠٨٠) والدارقطني والحاكم (٢/ ٢٠٥) والبيهقي والخطابي في " غريب الحديث " (ق ١٥٢/ ٢) وقال أبو داود: " وهو حديث مجهول ".
وقال الترمذي: " لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث مظاهر، ولا نعرف له غير هذا الحديث ".
(٣) مسلم ١٤٧١.
15
الإقراء المذكور في هذه الآية.
وأما قوله - ﷺ - في الأمة: " وعدتها حيضتان " فهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعاً، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً أيضاً، ودلالته على ما قاله الأولون قوية (١).
وأما قولهم: إن المقصود من العدة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر، فيجاب عنه بأنه إنما يتم لو لم يكن في هذه العدة شيء من الحيض على فرض تفسير الإقراء بالإطهار، وليس كذلك بل هي مشتملة على الحيض كما هي مشتملة على الإطهار.
وأما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله: (لعدتهن) يصير ذلك محتملاً ولا تقوم به الحجة.
وأما استدلالهم بقوله - ﷺ - لعمر " مره فليراجعها (٢) " الحديث فهو في الصحيح ودلالته قوية على ما ذهبوا اليه، ويمكن أن يقال إنها تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض ولا مانع من ذلك فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه، وبذلك يجمع بين الأدلة ويرتفع الخلاف ويندفع النزاع.
وقد استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله: وقروء هي جمع كثرة دون الإقراء التي هي من جموع القلة، وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية.
_________
(١) رواه الحاكم في مستدركه باب الطلاق ٢/ ٢٠٥ بلفظ: " وقرؤها حيضتان ".
(٢) مسلم ١٤٧٠.
16
(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) قيل المراد به الحيض وقيل الحمل وقيل كلاهما، ووجه النهي عن الكتمان ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المرأة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت هي لم تحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، وكذلك الحمل ربما تكتمه لتقطع حقه من الارتجاع وربما تدّعيه لتوجب عليه النفقة، ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج.
وقد اختلفت الأقوال في المدة التي تصدق فيها المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها وفيه دليل على قبول قولهن في ذلك نفياً وإثباتاً.
(إن كنّ يؤمن بالله واليوم الآخر) فيه وعيد شديد للكاتمات، وبيان أن من كتمت ذلك منهن لم تستحق اسم الإيمان، وهذا الشرط ليس للتقييد بل للتغليظ حتى لو لم يكن مؤمنات كان عليهن العدة أيضاً.
(وبعولتهن) البعولة جمع بعل وهو الزوج سمي بعلاً لعلوه على الزوجة لأنهم يطلقونه على الرب، ومنه قوله تعالى (أتدعون بعلاً) أي رباً، ويقال بعول وبعولة كما يقال في جمع الذكر ذكور وذكورة، وهذه التاء لتأنيث الجمع وهو شاذ لا يقاس عليه بل يعتبر فيه السماع، والبعولة أيضاً يكون مصدراً من بعل الرجل يبعل مثل منع يمنع أي صار بعلاً، والتقدير أهل بعولتهن، واستفيد من هذا أن البعولة لفظ مشترك بين المصدر والجمع.
(أحق بردهن) أي برجعتهن وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله
17
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن) لأنه يعم المثلثات وغيرهن، وصيغة التفضيل لإفادة أن الرجل إذا
17
أراد الرجعة والمرأة تأباها وجب إيثار قوله على قولها، وليس معناه أن لها حقاً في الرجعة، قاله أبو السعود.
(في ذلك) يعني في مدة التربص، فإن انقضت مدة التربص فهي أحق بنفسها ولا تحل له إلا بنكاح مستأنف بولي وشهود ومهر جديد، ولا خلاف في ذلك، والرجعة تكون باللفظ وتكون بالوطء ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا خلاف.
(إن أرادوا إصلاحاً) أي بالمراجعة أي إصلاح حاله معها وحالها معه، فإن قصد الإضرار بها فهي محرمة لقوله تعالى (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) قيل وإذا قصد بالرجعة الضرار فهي صحيحة وإن ارتكب به محرماً وظلم نفسه، وعلى هذا فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج على قصد الصلاح والزجر لهم عن قصد الضرار، وليس المراد به جعل قصد الصلاح شرطاً لصحة الرجعة.
(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) أي ولهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجل عليهن فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم، وهي كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهن يفعلنه لأزواجهن من طاعة وتزين وتحبب ونحو ذلك.
قال ابن عباس في الآية: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي لأن الله قال (ولهن) الخ، قال الكرخي: أي من الوجوب لا في الجنس فلو غسلت ثيابه أو خبزت له لم يلزمه أن يفعل ذلك، وقيل في مطلق الوجوب لا في عدد الأفراد ولا في صفة الواجب.
(وللرجال عليهن درجة) أي منزلة ليست لهن وهي قيامه عليها في الإنفاق وكونه من أهل الجهاد والعقل والقوة، وله من الميراث أكثر مما لها، وكونه يجب عليها امتثال أمره والوقوف عند رضاه والشهادة والدية وصلاحية
18
الإمامة والقضاء، وله أن يتزوج عليها ويتسرّى، وليس لها ذلك، وبيده الطلاق والرجعة وليس شيء من ذلك بيدها، ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهن خلقن من الرجال لما ثبت أن حواء خلقت من ضلع آدم لكفى.
وقد أخرج أهل السنن عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله - ﷺ - قال: " ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً، أما حقكم على نسائكم أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن (١) " وصححه الترمذي وأصله عند مسلم في الصحيح.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري: أنه سأل النبي - ﷺ - ما حق المرأة على الزوج؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تهجر إلا في البيت (٢) ".
وعن ابن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه رسول الله - ﷺ - فيها ثم رجع فرأى رجالاً يسجد بعضهم لبعض، فذكر ذلك لرسول الله - ﷺ - فقال: " لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (٣) "، رواه البغوي بسنده.
(والله عزيز) يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه (حكيم) يطوي شرائعه على الحكم والمصالح.
_________
(١) الترمذي، كتاب الرضاعة باب ١١.
(٢) المستدرك، كتاب النكاح ٢/ ١٨٨.
(٣) صحيح الجامع الصغير ٥١١٥.
19
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
(الطلاق مرتان) أي عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان، فالمراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم في الآية أي الطلقة الأولى والثانية إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه (مرتان) ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين.
ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك لها واستدامة نكاحها، وعدم ايقاع الثالثة عليها؛ قال سبحانه (فامساك) أي بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين (بمعروف) أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة وحقوق النكاح (أو تسريح بإحسان) أي بإيقاع طلقة ثالثة من دون ضرار لها.
وقيل المراد إمساك بمعروف أي برجعة بعد الطلقة الثانية أو تسريح بإحسان أي بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها، والأول أظهر.
قال أبو عمرو: أجمع العلماء على أن التسريح هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين وإياها عنى بقوله
(فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره).
وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل تقع ثلاث أو واحدة فقط فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق، وقد قرره الشوكاني في مؤلفاته تقريراً بالغاً، وأفرده برسالة مستقلة وكذا الحافظ
20
ابن القيم في إغاثة اللهفان واعلام الموقعين وقررته في شرحي على بلوغ المرام.
(ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) الخطاب للأزواج أي لا يحل لهم أن يأخذوا مقابلة الطلاق مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئاً على وجه المضارة لهن، وتنكير شيء للتحقير أي شيئاً نزراً فضلاً عن الكثير، وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا من أموالهن التي يملكنها من غير المهر، لكون ذلك هو الذي يتعلق به نفس الزوج ويتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها.
على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها في مقابلة البضع عند خروجه عن ملكه لا يحل له، كان ما عداه ممنوعاً منه بالأولى.
وقيل الخطاب للأئمة والحكام ليطابق قوله (فإن خفتم) فإن الخطاب فيه للأئمة والحكام، وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك والأول أولى لقوله (ما آتيتموهن) فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جداً لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم، وقيل: إن الثاني أولى لئلا يشوش النظم.
(إلا أن يخافا) أي يعلم الزوجان من أنفسهما، فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة (أن لا يقيما حدود الله) أي تخاف المرأة أن تعصى الله في أمور زوجها، ويخاف الزوج أنه إذا لم تطعه أن يعتدي عليها.
وقرأ حمزة يخافا بضم الياء أي إلا أن يعلم من حالهما، والفاعل محذوف وهو الأئمة والولاة والحكام والقضاة، واختاره أبو عبيد قال لقوله.
(فإن خفتم) فجعل الخوف لغير الزوجين، وقد احتج لذلك من جعل الخلع إلى السلطان وهو سعيد بن جبير والحسن ابن سيرين، وقد ضعّف النحاس اختيار أبي عبيد.
(فإن خفتم) أي خشيتم وأشفقتم وقيل معناه ظننتم (أن لا يقيما حدود الله) يعني ما أوجب الله على كل واحد منهما من طاعته فيما أمره به من حسن
21
الصحبة والمعاشرة بالمعروف، وقيل هو يرجع إلى المرأة وهو سوء خلقها واستخفافها بحق زوجها (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) أي لا جناح على الرجل في الأخذ، ولا على المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع، وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج وأنه يحل له الأخذ مع ذلك الخوف وهو الذي صرح به القرآن.
وحكى ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا يحل له ما أخذ، ولا يجبر على رده، وهذا في غاية السقوط.
وأخرج البخاري والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس: أن جميلة بنت عبد الله بن سلول امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - ﷺ - فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضاً وأكره الكفر في الإسلام، قال: " أتردين عليه حديقته " قالت: نعم، قال: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة (١) ".
ولفظ ابن ماجة " فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد "، وفي الباب أحاديث كثيرة (٢).
وقد ورد في ذم المختلعات أحاديث منها عن ثوبان عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي قال: قال رسول الله - ﷺ -: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (٣) "، وقال: " المختلعات هن المنافقات ".
_________
(١) البخاري كتاب الطلاق باب ١٢.
(٢) ابن ماجه كتاب الطلاق باب ٢٢.
(٣) المستدرك كتاب الطلاق ٢/ ٢٠٠. وهو حديث صحيح كما رواه أصحاب السند وقالوا: -[٢٣]- صحيح.
أخرجه أبو داود (٢٢٢٦) والترمذي (١/ ٢٢٣) والدارمي (٢/ ١٦٢) وابن ماجه (٢٠٥٥) وابن الجارود (٧٤٨) وابن حبان (١٣٢٠) والبيهقي (٧/ ٣١٦) وابن أبي شيبة (٨/ ١٤١/١ - ٢) والطبري في " التفسير " (٤٨٤٣، ٤٨٤٤) والحاكم (٢/ ٢٠٠) من طرق عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذكره. وقال الترمذي:
" حديث حسن ". وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي.
قلت: وإنما هو على شرط مسلم وحده، فإن أبا أسماء الرحبي واسمه عمرو بن مرثد إنما أخرج له البخاري في " الأدب المفرد ".
وللحديث طريق أخرى، يرويه ليث عن أبي إدريس عن ثوبان به.
أخرجه الطبري (٤٨٤٠).
وليث هو ابن أبي سليم، وهو ضعيف.
22
ومنها عن ابن عباس عند ابن ماجه أن رسول الله - ﷺ - قال: " لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة، وأن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً (١) ".
وقد اختلف أهل العلم في عدة المختلعة والراجح أنها تعتد بحيضة لما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس: أن النبي - ﷺ - أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة.
ولما أخرجه الترمذي عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تعتد بحيضة، قال الترمذي الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وفي الباب أحاديث.
ولم يرد ما يعارض هذا من المرفوع بل ورد عن جماعة من الصحابة
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٦٢٣٢.
23
والتابعين أن عدة المختلعة كعدة الطلاق وبه قال الجمهور، قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات فهي داخلة تحت عموم القرآن.
والحق ما ذكرناه لأن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخصص عموم القرآن.
وقد حكي عن بكر بن عبد الله المزني أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً) وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الآيتين.
وقد اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر وما يتبعه ورضيت بذلك المرأة هل يجوز أم لا، وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور، وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، وقال طاوس وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحق: إنه لا يجوز لما ورد في ذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
(تلك حدود الله فلا تعتدوها) يعني هذه أوامر الله ونواهيه وهي ما تقدم من الأحكام فلا تجاوزوها بالمخالفة والرفض. (ومن يتعد حدود الله) أي أحكام النكاح والفراق المذكورة هي حدود الله التي أمرتم بامتثالها فلا تعتدوها بالمخالفة لها فتستحقوا ما ذكره الله من التسجيل على فاعل ذلك بأنه ظالم، (فأولئك هم الظالمون) أي لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه، وفيه وفيما قبله الإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروع في ذهن السامع وذكر هذا الوعيد بعد النهى عن تعديها للمبالغة في التهديد.
24
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
(فإن طلقها) أي الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله (أو تسريح بإحسان) أي فإن وقع منه ذلك فقد حرمت عليه بالتثليث سواء كان قد راجعها أم لا وسواء انقضت عدتها في صورة عدم الرجعة أم لا (فلا تحلّ له من بعد) الحكمة في شرع هذا الحكم الردع عن المسارعة إلى الطلاق وعن العود إلى الطلقة الثالثة والرغبة فيها.
(حتى تنكح زوجاً غيره) أي حتى تتزوج بزوج آخر غير المطلق بعد انقضاء عدتها من الأول فيجامعها، والنكاح يتناول العقد والوطء جميعاً والمراد هنا الوطء، وقد أخذ بظاهر الآية سعيد بن المسيب ومن وافقه قالوا: كفى مجرد العقد لأنه المراد بقوله حتى تنكح زوجاً غيره، وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا بد مع العقد من الوطء لما ثبت عن النبي - ﷺ - من اعتبار ذلك وهو زيادة يتعين قبولها، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب ومن تابعه.
وفي الآية دليل على أنه لابد أن يكون ذلك نكاحاً شرعياً مقصوداً لذاته لا نكاحاً غير مقصود لذاته بل حيلة للتحليل وذريعة إلى ردها إلى الزوج الأول، فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذم فاعله، وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع ولعن من اتخذه لذلك.
25
وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - ﷺ - فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبتّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي - ﷺ - فقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيلته ويذوق عسيلتك (١) ".
وقد روى نحو هذا عنها من طرق.
وأخرج أحمد والنسائي عن ابن عباس أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي - ﷺ - وفي آخره: فقال النبي - ﷺ -: " ليس ذلك لك حتى يذوق عُسَيلتك رجل غيره (٢) " والعُسَيلة مجاز عن قليل الجماع إذ يكفي قليل الانتشار، شبهت تلك اللذة بالعسل، وصغرت بالتاء لأن الغالب على العسل التأنيث قاله الجوهري.
وقد ثبت لعن المحلل في أحاديث كثيرة منها عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي وصححه النسائي والبيهقي في سننه قال: " لعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المحلِّل والمحلَّل له (٣) ".
وفي الباب أحاديث في ذم التحليل وفاعله، وقد أطال في بيان ذلك الحافظ ابن القيم في إغاثة اللهفان، واعلام الموقعين وهو بحث نفيس جداً فارجع إليه.
_________
(١) مسلم/١٤٣٣ بروايات كثيرة مختلفة.
(٢) مسلم/١٤٣٣ بروايات كثيرة مختلفة.
(٣) وإسناده صحيح/المشكاة ٣٢٩٦ ورواه ابن ماجه عن علي.
26
(فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) أي إن طلقها الزوج الثاني فلا جناح على الزوج الأول والمرأة أن يرجع كل واحد منها لصاحبه يعني بنكاح جديد، قال ابن النذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثاً ثم انقضت عدتها، ونكحت زوجاً ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها، ثم نكحها الزوج الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات.
(إن ظنا) علما وأيقنا، وقيل إن رجوا لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى (أن يقيما حدود الله) أي حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر. وقيل إن علما أن نكاحهما على غير دلسة، والدلسة التحليل، والأول أولى.
وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو ترددا أو أحدهما، ولم يحصل لهما الظن فلا يجوز الدخول في هذا النكاح لأنه مظنة للمعصية لله والوقوع فيما حرمه على الزوجين.
(وتلك حدود الله) إشارة إلى الأحكام المذكورة كما سلف (يبينها لقوم يعلمون) خصهم مع عموم الدعوة للعالم وغيره، ووجوب التبليغ لكل فرد لأنهم المنتفعون بذلك البيان.
27
(وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) البلوغ إلى الشيء معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازاً لعلاقة مع قرينة كما هنا، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأن المرأة إذا بلغت آخر جزء من مدة العدة وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء فقد خرجت من العدة ولم يبق للزوج عليها سبيل.
27
قال القرطبي في تفسيره: إن معنى بلغن هنا قاربن بإجماع العلماء، قال: ولأن المعنى يضطر إلى ذلك لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، يعني فالبلوغ هنا بلوغ مقاربة.
والمعنى قاربن انقضاء عدتهن وشارفن منتهاها، ولم يرد انقضاء العدة كما يقال بلغ فلان البلد إذا قاربه وشارفه، فهذا من باب المجاز الذي يطلق اسم الكل فيه على الأكثر، وقيل: إن الأجل اسم للزمان فيحمل على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة فيه بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة إلى الرجعة، وعلى هذا التأويل فلا حاجة إلى المجاز.
(فأمسكوهن) أي راجعوهن (بمعروف) وهو أن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء، وقيل: الإمساك بمعروف هو القيام بحقوق الزوجية وهو الظاهر، قيل: أعاده اعتناء بشأنه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه.
(أو سرحوهن بمعروف) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن، والمعنى إذا طلقتم النساء فقاربن آخر العدة فلا تضارّوهن بالمراجعة من غير قصد لاستمرار الزوجية واستدامتها، بل اختاروا أحد أمرين إما الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار أو التسريح بإحسان أي تركها حتى تنقضي عدتها من غير مراجعة ضراراً.
(ولا تمسكوهن ضراراً) كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء عدتها ثم مراجعتها لا عن حاجة ولا لمحبة ولكن لقصد تطويل العدة وتوسيع مدة الانتظار ضراراً (لتعتدوا) أي لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم بهن (ومن يفعل ذلك) أي الإمساك المؤدي للضرار (فقد ظلم نفسه) لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه في ضمن ظلمه لهن، قال الزجاج: يعني عرض نفسه للعذاب لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله.
(ولا تتخذوا آيات الله هزواً) أي بالإعراض عنها والتهاون بالعمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر: إنما أنت هازٍ كأنه نهى عن الهزو، وأراد به
28
الأمر بضده، والمعنى لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزو، فإنها جد كلها فمن هزل فيها فقد لزمته.
نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل، فإنه كان يطلق الرجل منهم أو يعتق أو يتزوج ويقول كنت لاعباً، قال القرطبي: ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه.
أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة " (١).
(واذكروا نعمة الله عليكم) أي النعمة التي صرتم فيها بالإسلام وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء، وظلمات بعضها فوق بعض (وما أنزل عليكم من الكتاب) وهو القرآن (والحكمة) قال المفسرون هي السنة التي سنّها لهم رسول الله - ﷺ -، وبه قال الشافعي (يعظكم به) أي يخوفكم بما أنزل عليكم، وأفرد الكتاب والحكمة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولاً أولياً تنبيهاً على خطرهما، وعظم شأنهما (واتقوا الله) يعني خافوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه (واعلموا أن الله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء من ذلك فيؤاخذكم بأنواع العقاب.
_________
(١) المستدرك كتاب النكاح ٢/ ١٩٨.
حسن. أخرجه أبو داود (٢١٩٤) والترمذي (١/ ٢٢٣) وابن ماجه (٢٠٣٩) والطحاوي (٢/ ٥٨) وابن الجارود (٧١٢) والدارقطني (٣٩٧) والحاكم (٢/ ١٩٨) وكذا ابن خزيمة في " حديث علي بن حجر " (ج ٤ رقم ٥٤) والبغوي في " شرح السنة " (٣/ ٤٦/٢) كلهم من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله (- ﷺ -) قال: فذكره.
وقال الترمذي:
" حديث حسن غريب، وعبد الرحمن هو ابن حبيب بن أدرك المدني ".
وقد ذكر الزيلعي في " نصب الراية " (٣/ ٢٩٤) في معناه أحاديث أخرى.
29
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
(وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) الخطاب في هذه الآية بقوله (وإذا طلقتم النساء) وبقوله (فلا تعضلوهن) إما أن يكون للأزواج ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن لحمية الجاهلية، كما يقع كثيراً من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كن تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النخوة والكبرياء يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع.
وإما أن يكون الخطاب للأولياء ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهن، وبلوغ الأجل المذكور هنا المراد به المعنى الحقيقي أي نهايته لا كما سبق في الآية الأولى، ولهذا قال الشافعي: اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين، والعضل الحبس، وحكى الخليل: دجاجةٌ معضَلة قد احتبس بيضها، وقيل العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس.
وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وكل مشكل عند العرب معضل، ويقال أعضل الأمر إذا اشتد، وداء عضال أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء.
وقوله (أزواجهن) إن أريد به المطلقون لهن فهو مجاز باعتبار ما كان، وإن أريد به من يردن أن يتزوجنه فهو مجاز أيضاً باعتبار ما سيكون.
30
(إذا تراضوا بينهم بالمعروف) يعني إذا تراضى الخطّاب والنساء، والمعروف هنا ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز، وقيل هو أن يرضى كل واحد منهما بما التزمه لصاحبه بحق العقد حتى تحصل الصحبة الحسنة والعشرة الجميلة.
(ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر) إشارة إلى ما فصل من الأحكام، وإنما أفرد مع كون المذكور قبله جمعاً، حملاً على معنى الجمع بتأويله بالفريق وغيره، والمعنى أن المؤمن هو الذي ينتفع بالوعظ دون غيره.
(ذلكم) محمول على لفظ الجمع، خالف سبحانه ما بين الإشارتين امتناناً (أزكى لكم) أنمى وأنفع (وأطهر لكم) من الأدناس وأطيب عند الله لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) ما لكم فيه الصلاح، وقال الضحاك يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت أيها الولي.
قيل: سبب نزولها أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فأراد أن يراجعها فمنعها معقل كما رواه الحاكم، واسمها جميلة واسم زوجها عاصم بن عدي، فلما نزلت هذه الآية كفَّرَّ عن يمينه وأنكحها إياه وتمام القصة في البخاري (١).
_________
(١) روى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدّتها فخطبهما فأبي معقل فنزلت: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن). وأخرجه أيضاً الدارقطني عن الحسن.
31
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
(والوالدات يرضعن أولادهن) لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق، ذكر الرضاع لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد، ولهذا قيل: إن هذا خاص بالمطلقات وقيل هو عام، وقوله (يرضعن) قيل هو خبر بمعنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه، وليس أمر إيجاب، وإنما هو أمر ندب واستحباب، وقيل هو خبر على بابه (حولين كاملين) تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي، وفيه رد على أبي حنيفة في قوله إن مدة الرضاع ثلاثون شهراً وعلى زفر في قوله (إنها ثلاث سنين) ذلك (لمن أراد أن يتم الرضاعة) فيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً، بل هو التمام ويجوز الاقتصار على ما دونه، وليس له حد محدود، وإنما هو على مقدار إصلاح الطفل وما يعيش به، قال النحاس: لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بالفتح، وحكى الكوفيون جواز الكسر، والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها، وقد حمل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها.
(وعلى المولود له) أي على الأب الذي يولد له، وآثر هذا اللفظ دون قوله وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهن كأنهن إنما ولدن لهم فقط، ذكر معناه في الكشاف (رزقهن) المراد بالرزق هنا الطعام الكافي المتعارف بين الناس، ويطلق الرزق بالكسر على المرزوق وعلى المصدر (وكسوتهن) المراد بالكسوة ما يتعارفونه أيضاً (بالمعروف) أي على قدر الميسرة.
32
وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات، وهذا في المطلقات طلاقاً بائناً، وأما غير المطلقات فنفقتهن وكسوتهن واجبة على الأزواج من غير إرضاعهن لأولادهن.
وقال القرطبي: الأظهر أن الآية في الزوجات في حال بقاء النكاح لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة أرضعن أو لم يرضعن، وهما في مقابلة التمكين لكن إذا اشتغلت الزوجة بالإرضاع لم يكمل التمكين ولا التمتع بها فقد يتوهم أن هذه النفقة تسقط حالة الإرضاع فدفع هذا التوهّم بقوله (وعلى المولود له).
ثم قال في محل آخر: وفي هذه الآية دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لعجزه وضعفه، ونسبه تعالى للأم لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع، وأجمع العلماء على أنه يجب على الأب نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم انتهى.
(لا تكلف نفس إلا وسعها) هو تقييد لقوله بالمعروف أي هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منهما إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه، وقيل المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد.
(لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده) قرىء بالرفع على الخبر وبفتح الراء المشددة محلى النهي، وأصله لا تضارر أو لا تضارر على البناء للفاعل أو المفعول أي لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة أو بأن تفرط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه أو لا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين.
ويجوز أن تكون الباء في قوله بولدها صلة لقوله تضار على أنه بمعنى تضر
33
أي لا تضر والدة بولدها فتسيء تربيته أو تقصر في غذائه، ولا والد بولده، وقدمها لفرط شفقتها، وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم للاستعطاف، لا لبيان النسب، إذ لو كاشط له لم تصح إلا للوالد لأنه هو الذي ينسب إليه الولد.
وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه فلا يضارّه بسبب ولده.
(وعلى الوارث مثل ذلك) معطوف على قوله (وعلى المولود له) وما بينهما تفسير للمعروف أو تعليل له معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
واختلف أهل العلم في معنى الآية فقيل هو وارث الصبي أي إذا مات المولود له كان على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك، قاله عمر بن الخطاب وقتادة والسدى والحسن ومجاهد وعطاء وأحمد واسحق وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على خلاف بينهم هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيباً من الميراث أو على المذكور فقط أو على كل ذي رحم له وإن لم يكن وارثاً منه.
وقيل المراد بالوارث وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة وكسوتها بالمعروف، قاله الضحاك، وقال مالك في تفسير هذه الآية: بمثل ما قاله الضحاك ولكنه قال: إنها منسوخة وأنها لا تلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبي مال فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعة من ماله.
وقيل المراد بالوارث المذكور في الآية هو الصبي نفسه أي عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله، قاله قبيصة بن ذؤيب وبشير ابن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز، وروي عن الشافعي وقيل هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية
34
الطفل إذا لم يكن له مال، قاله سفيان الثوري.
وقيل وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية.
وقيل: إن معنى الآية أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب، وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا: وهذا هو الأصل فمن ادعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل.
قال القرطبي: وهو الصحيح إذ لو أراد الجميع الذي هو الرضاع والإنفاق. وعدم الضرر لقال وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من الضارة وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب.
قال ابن عطية وقال مالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك وجماعة من العلماء المراد بقوله (مثل ذلك) أن لا يضار، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منهما، وحكى ابن القاسم عن مالك مثل ما قدمنا عنه في تفسير هذه الآية ودعوى النسخ.
ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة فإن ما خصصوا به معنى قوله (وعلى الوارث مثل ذلك) من ذلك المعنى أي عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله (لا تضار والدة بولدها) لصدق ذلك على كل مضارة ترد عليها من المولود له أو غيره.
وأما قول القرطبي: لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء فلا يخفى ما فيه من الضعف البين، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه.
وأما ما ذهب إليه أهل القول الأول من أن المراد بالوارث وارث الصبي
35
فيقال عليه إنه لم يكن وارثاً حقيقة مع وجود الصبي حياً، بل هو وارث مجازاً باعتبار ما يؤول إليه.
وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي لكن إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبي فيه ما فيه، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيراً، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدم من ذكر الوالدات والمولود له والولد، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم.
(فإن أرادا فصالاً) الضمير للوالدين، والفصال الفطام عن الرضاع أي التفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه.
(عن تراض منهما) أي صادراً عن تراض من الأبوين وعلى اتفاق من الوالدين إذا كان الفصال وفطام الولد قبل الحولين (وتشاور) أي يشاورون أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد (فلا جناح عليهما) في ذلك الفصال.
لما بين الله سبحانه أن مدة الرضاع حولان كاملان قيد ذلك بقوله (لمن أراد أن يتم الرضاعة) وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبي قبل الحولين كان ذلك جائزاً له، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما فلا بد من الجمع بين الأمرين بأن يقال إن الإرادة المذكورة في قوله (لمن أراد أن يتم الرضاعة) لابد أن تكون منهما، أو يقال: إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبي حيين بأن كان الموجود أحدهما أو كانت المرضعة للصبي ظئراً غير أمه.
والتشاور استخراج الرأي يقال شرت العسل استخرجته فلابد لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك.
(وإن أردتم) خطاب للآباء، وزاد بعضهم الأمهات وفيه خروج من
36
الغيبة إلى الخطاب (أن تسترضعوا أولادكم) قال الزجاج: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة، وعن سيبويه المعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم (فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم) بالمد أي أعطيتم وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير فإنه قرأ بالقصر أي فعلتم.
والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتكم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما قد أرضعن لكم أي وقت إرادة الاسترضاع، قاله سفيان الثوري ومجاهد.
وقال قتادة والزهري: إن معنى الآية إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي كان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير، وإرادة معروف من الأمر، وعلى هذا فيكون قوله (سلّمتم) عاماً للرجال والنساء تغليباً، وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط.
وقيل المعنى إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه أي إعطاءه إلى المرضعات، وليس هذا قيداً لصحة الإجارة فإن تعجيل الأجرة لا يشترط، وإنما هو قيدُ كمال لأنه أطيب لنفوسهن.
(بالمعروف) أي بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهن أو حط بعض ما هو لهن من ذلك، فإن عدم توفير أجرهن يبعثهن على التساهل بأمر الصبي والتفريط في شأنه، والمعنى أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيّبين لأنفس المراضع بما أمكن.
(واتقوا الله) أي خافوه فيما فرض عليكم من الحقوق وفيما أوجب عليكم للمراضع ولأولادكم (واعلموا أن الله بما تعملون بصير) لا يخفى عليه خافية من جميع أعمالكم سرها وعلانيتها فإنه تعالى يراها ويعلمها.
37
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً).
لما ذكر سبحانه عدة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، عقب ذلك بذكر عدة الوفاة لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق.
قال الزجاج: ومعنى الآية والرجال الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن، وقال أبو علي الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم وهو كقولك السمن منوان بدرهم أي منه.
وحكى عن سيبويه أن المعنى وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، ذكره صاحب الكشاف.
وفيه أن قوله ويذرون أزواجاً لا يلائم ذلك التقدير لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة، وقال بعض النحاة من الكوفيين: إن الخبر عن الذين متروك والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن.
وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً فمن مات فقد استوفى عمره كاملاً، يقال توفي فلان يعني قبض وأخذ، والخطاب لكافة الناس بطريق التلوين والمراد بالأزواج هنا النساء لأن العرب تطلق اسم الزوج على الرجل والمرأة.
والمعنى الذين يموتون ويتركون النساء ينتظرن بأنفسهن قدر هذه المدة.
ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك
38
في الغالب لثلاثة أشهر والأنثى لأربعة فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلاً، ولا يتأخر عن هذا الأجل.
وظاهر هذه الآية العموم وإن كان من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العدة ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وإلى هذا ذهب الجمهور، وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتد بآخر الأجلين جمعاً بين العام والخاص وإعمالاً لهما.
والحق ما قاله الجمهور، والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قوانين الشرع، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بإن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له.
وقد صح عنه - ﷺ - أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع.
والتربُّص التأني والتصبُّر عن النكاح، وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض والآيِسة وأن عدتهن جميعاً للوفاة أربعة أشهر وعشر، وقيل إن عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام قال ابن العربي: إجماعاً إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوّى بين الحرة والأمة، وقال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال: عدتها عدة الحرة وليس بالثابت عنه.
ووجه ما ذهب إليه الأصم وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم.
ووجه ما ذهب إليه من عداهما قياس عدة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وقد تقدم حديث " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " (١) وهو صالح للاحتجاج
_________
(١) الدارقطني كتاب الطلاق والخلع ٤/ ٣٨.
39
به، وليس المراد منه إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة وعدتها على النصف من عدتها، ولكنه لما لم يمكن أن يقال طلاقها تطليقة ونصف، وعدتها حيضة ونصف لكون ذلك لا يعقل، كانت عدتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبراً للكسر.
ولكن ههنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور وهو أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً هو ما قدمناه من معرفة خلوّها من الحمل ولا يعرف إلا بتلك المدة ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين فإن ذلك يعرف به خلو الرحم، ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدة أم الولد.
واختلف أهل العلم في عدة أم الولد بموت سيدها، فقال سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحق بن راهوية وأحمد بن حنبل في رواية عنه إنها تعتد بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا - ﷺ - عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر (١)، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، وضعفه أحمد وأبو عبيد، وقال الدارقطني الصواب أنه موقوف.
وقال طاوس وقتادة عدتها شهران وخمس ليال، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح تعتد بثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي، وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه عدتها حيضة وغير الحائض شهر، وبه يقوله ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور.
وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت هذه الآية متقدمة في التلاوة (٢).
_________
(١) المستدرك كتاب الطلاق ٢/ ٢٠٩.
(٢) مسلم ١٤٨٦ - البخاري ٦٨٠
-[٤١]-
أخرجه مالك (٢ (٥٩٦/ ١٠١) وعنه البخاري (٣/ ٤٨٠ - ٤٨١) وكذا مسلم (٤/ ٢٠٢) والسياق له وكذا أبو داود (٢٢٩٩) والنسائي (٢/ ١١٤) والترمذي (١/ ٢٢٥) والطحاوي (٢/ ٤٤) والبيهقي (٧/ ٤٣٧) كلهم عن مالك به. وروى أحمد (٦/ ٣٢٤) عنه الحديث الثاني، و (٦/ ٢٩١ - ٢٩٢ و ٣٢٦) وابن الجارود (٧٦٨) عن شعبة عن حميد ابن نافع به الحديث الثالث.
وأخرج الدارمي (٢/ ١٦٧) وابن الجارود (٧٦٥) من هذا الوجه الأول.
40
(فإذا بلغن أجلهن) المراد بالبلوغ هنا انقضاء العدة (فلا جناح عليكم) الخطاب للأولياء لأنهم هم الذين يتولون العقد وقيل المخاطب جميع المسلمين (فيما فعلن في أنفسهن) من التزين والتعرض للخطاب، والنقلة من المسكن الذي كانت معتدة فيه، وقيل عنى بذلك النكاح خاصة والأول أولى (بالمعروف) الذي لا يخالف شرعاً ولا عادة مستحسنة.
وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدة الوفاة، وقد ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي - ﷺ - قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " (١).
وكذلك ثبت عنه - ﷺ - في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة، والإحداد ترك الزينة من الطيب ولبس الثياب الجيدة، والحلي وغير ذلك ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة ولا خلاف في عدة الرجعية واختلفوا في عدة البائنة على قولين، ومحل ذلك كتب علم الفروع.
واحتج أصحاب أبي حنيفة على جواز النكاح بغير ولي بهذه الآية لأن إضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة، وأجيب بأنه خطاب للأولياء ولو صح العقد بغير ولي لما كان مخاطباً (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه خافية.
_________
(١) حديث أم عطية، ترويه حفصة وهي بنت سيرين عنها وبه زيادة:
" ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار ".
41
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
(ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء) المتوفَّى عنهن أزواجهن في العدة وكذا المطلقات طلاقاً بائناً، وأما الرجعيات فيحرم التعريض والتصريح بخطبتهن ففي المفهوم تفصيل.
والجناح الإثم أي لا إثم عليكم والتعريض ضد التصريح وهو من عرض الشيء أي جانبه كأنه يحوم به حول الشيء ولا يظهره، وقيل هو من قولك عرضت الرجل أي أهديت له، ومنه إن ركباً من المسلمين عرضوا رسول الله - ﷺ - وأبا بكر ثياباً بيضاً أي أهدوا لهما، فالمعرِّض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاماً يفهم معناه.
وقال في الكشاف: الفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا، وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده انتهى.
والمعنى لوحتم وأشرتم، والخطبة بالكسر ما يفعله الطالب من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل، يقال خطبها بخطبها خطبة وخطباً، والخطبة بالضم هي الكلام الذي يقوم به الرجل خاطباً.
(أو أكننتم) معناه سترتم وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة، والإكنان التستر والإخفاء يقال أكننته وكننته وهما بمعنى واحد، ومنه بيض
42
مكنون، ودر مكنون، وأو هنا للإباحة أو التخيير أو التفصيل أو الإبهام على المخاطب (في أنفسكم) يعني من قصد نكاحهن، وقيل هو أن يدخل ويسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء.
(علم الله أنكم ستذكرونهن) أي لا تصبرون عن النطق لهن برغبتكم فيهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح، وقال في الكشاف أن فيه طرفاً من التوبيخ كقوله (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم).
(ولكن لا تواعدوهن سراً) قد اختلف العلماء في معنى السر فقيل معناه نكاحاً أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض تعريضاً، وقد ذهب إلى أن هذا معنى الآية جمهور العلماء، وقيل السر الزنا أي لا يكون منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزويج بعدها قاله جابر بن زيد وأبو مجلز والحسن وقتادة والضحاك والنخعي واختاره ابن جرير الطبري.
وقيل السر الجماع أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيباً لهن في النكاح وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية.
والاستدراك بقوله " لكن " من مقدر دل عليه ستذكرونهن أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سراً، ولا تصرحوا بالخطبة بأن تذكروا صريح النكاح.
وقال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز وقال أيضاً: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر وللسيد في أمته، وقال ابن عباس: المواعدة سراً أن يقول لها إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ونحو هذا.
(إلا أن تقولوا) قيل هو استثناء منقطع بمعنى لكن لأن القول هو التعريض والمستثنى منه المراد به التصريح وهذا هو شأن المنقطع يفسر بلكن وبه قال السيوطي، ومنع صاحب الكشاف أن يكون منقطعاً، وقال هو مستثنى من
43
قوله لا تواعدوهن أي مواعدة مّا قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة شرعاً، وهي ما يكون بطريق التعريض والتلويح، فجعله على هذا استثناء متصلاً مفرغاً.
ووجه كونه منقطعاً أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك لأن التعريض طريق المواعدة لا أنه الموعود في نفسه، وعن ابن عباس قال: التعريض أن يقول أني أريد التزويج وإني لأحب المرأة من أمرها وإن من شأني النساء ولوددت أن الله يسر لي امرأة صالحة رواه البخاري وجماعة.
(قولاً معروفاً) أي تعريضاً، وقال ابن عباس: هو قوله إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، أو يقول إنك لجميلة وإنك إلى خير وإن النساء من حاجتي.
(ولا تعزموا عقدة النكاح) قد تقدم الكلام في معنى العزم يقال عزم الشيء وعزم عليه والمعنى هنا لا تعزموا على عقدة النكاح في العدة لأن العزم عليه بعدها لا بأس به ثم حذف على، قال سيبويه: والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه.
قال النحاس: يجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا عقدة النكاح لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد قيل: إن العزم على الفعل يتقدمه فيكون في هذا النهي مبالغة لأنه إذا نهى عن المتقدم على الشيء كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى.
(حتى) غاية للنهي (يبلغ الكتاب أجله) أي تنقضي العدة، والكتاب هنا هو الحد والقدر الذي رسم من المدة سماه كتاباً لكونه محدوداً ومفروضاً كقوله تعالى (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) وهذا الحكم أعني تحريم عقد النكاح في العدة مجمع عليه، والمراد بالأجل آخر مدة العدة.
(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم) من العزم على ما لا يجوز (فاحذروه) أي عقابه إذا عزمتم على عقدة النكاح في العدة وألا تعزموا عليه، فإن العزم على المعصية معصية (واعلموا أن الله غفور حليم) لا يعاجلكم بالعقوبة على الجهر بالمعصية بل يسترها.
44
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
(ولا جناح عليكم) المراد بالجناح هنا التبعة من المهر ونحوه، فرفعه رفع لذلك أي لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه (إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن) أي مدة عدم مسيسكم، وقال أبو البقاء: والمعنى إن اطلقتموهن غير ماسّين لهن، فعلى الأولى " ما " مصدرية ظرفية، وعلى الثاني شرطية، وقيل إنها موصولة أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن أي ما لم تجامعوهن، وقرأ ابن مسعود: من قبل أن تجامعوهن، وقرأ غيره تماسّوهن من المفاعلة.
وهكذا اختلفوا في قوله (أو تفرضوا لهن فريضة) فقيل أو بمعنى إلا، أي إلا أن تفرضوا، وقيل بمعنى حتى أي حتى تفرضوا وقيل بمعنى الواو أي وتفرضوا.
ولست أرى لهذا التطويل وجهاً، ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس، فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين، أي مدة انتفاء ذلك الأحد، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معاً، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل، وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس، وكل واحد منها جناح أي المسمى أو مهر المثل أو نصفه.
واعلم أن المطلقات أربع:
مطلقة مدخول بها مفروض لها وهي التي تقدم ذكرها قبل هذه الآية، وفيها نهي الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئاً وأن عدتهن ثلاثة قروء.
ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها، وهي المذكورة هنا فلا مهر لها
45
بل المتعة، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها.
ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها وهي المذكورة بقوله سبحانه
46
(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة).
ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها وهي المذكورة في قوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) والمراد بالفريضة هنا تسمية المهر، وفيها وجهان أظهرهما أنها مفعول به والتقدير شيئاً مفروضاً، والثاني أن تكون منصوبة على المصدر بمعنى فرضاً، واستجود أبو البقاء الوجه الأول.
(ومتعوهن) أي أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك.
ومن أدلة الوجوب قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهم من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً).
وقال مالك وأبو عبيد والقاضي شريح وغيرهم: إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى (حقاً على المحسنين) ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين، ويجاب عنه بأن ذلك لا ينافي الوجوب بل هو تأكيد له كما في قوله في الآية الأخرى (حقاً على المتقين) أي أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه.
وقد وقع الخلاف أيضاً هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط، فقيل: إنها مشروعة لكل مطلقة، وإليه ذهب ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبو العالية
46
والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحق، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط.
واستدلّوا بقوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين) وبقوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً) والآية الأولى عامة لكل مطلقة والثانية في أزواج النبي - ﷺ - وقد كنّ مفروضاً لهن مدخولاً بهن.
وقال سعيد بن المسيب: إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنأت ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن) قال هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى أو مهر المثل، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة أي سمى لها مهراً وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى، ومن القائلين بهذا ابن عمر ومجاهد.
وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول أو الفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة، وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أنها لها المتعة، وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها ولا تستحق مالاً في مقابل تأذي مملوكته لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك.
وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدرة بقدر أم لا، فقال مالك والشافعي في الجديد: لا حد لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة، وقال أبو حنيفة: أنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها ولا
47
ينقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم، وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وقوله (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير، والموسع هو الذي اتسعت حاله، وقرىء الموسّع بالتشديد، وقرىء قدره بسكون الدال فيهما، وبفتح الدال فيهما، قال الأخفش وغيره: هما لغتان فصيحتان، وهكذا في قوله تعالى (فسالت أودية بقدرها) وقوله (وما قدروا الله حق قدره).
والمقتر المقل، والتقدير على الموسع منكم أو على موسعكم قدره أي قدر إمكانه وطاقته، وكذا يقال في الثاني، والآية تفيد أنه لا نظر إلى قدر الزوجة، وقيل هذا ضعيف في مذهب الشافعي، بل ينظر الحاكم باجتهاد إلى حالهما جميعاً على أظهر الوجوه.
(متاعاً) مصدر مؤكد أي متعوهن متاعاً (بالمعروف) ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له.
وقوله (حقاً على المحسنين) وصف لقوله متاعاً أو مصدر لفعل محذوف أي حق ذلك حقاً، يقال حققت عليه القضاء وأحققت أي أوجبت، قال ابن عباس: المس النكاح والفريضة الصداق، وأمر الله أن يمتعها على قدر عسره وشره، فإن كان موسراً متعها بخادم وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب ونحو ذلك، وعنه قال متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن عمر: أدق ما يكون من المتعة ثلاثون درهماً، وعن الحسن بن علي أنه متع بعشرين ألفاً وزقاق من عسل، وعن شريح أنه متع بخمسمائة درهم، وعن الحسن بن علي أيضاً أنه متع بعشرة آلاف وعن ابن سيرين أنه كان يمتع بالخادم والنفقة والكسوة.
48
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة، أي فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر، وهذا مجمع عليه.
وقد وقع الاتفاق أيضاً على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات وقد فرض لها مهراً تستحقه كاملاً بالموت ولها الميراث وعليها العدة.
واختلفوا في الخلوة هل تقوم مقام الدخول وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك والشافعي في القديم والكوفيون والخلفاء الراشدون وجمهور أهل العلم وتجب أيضاً عندهم العدة، وقال الشافعي في الجديد: لا يجب إلا نصف المهر، وهو ظاهر الآية لما تقدم من أن المسيس هو الجماع، ولا يجب عنده العدة وإليه ذهب جماعة من السلف.
(إلا أن يعفون) أي المطلقات ومعناه يتركن ويصفحن وهو استثناء مفرغ من أعم العام، وقيل منقطع ومعناه يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج، وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: (إلا أن يعفون) يعني الرجال وهو ضعيف لفظاً ومعنى.
(أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) معطوف على محل قوله (إلا أن يعفون) لأن الأول مبني وهذا معرب قيل هو الزوج، وبه قال جبير بن مطعم
49
وسعيد بن المسيب وشريح وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع وابن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبو مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان، وهو الجديد من قولي الشافعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي، ورجحه ابن جرير.
وفي هذا القول قوة وضعف.
أما قوته فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج لأنه الذي إليه رفعه بالطلاق، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملاً غير ظاهر، لأن العفو لا يطلق على الزيادة، وقيل المراد بقوله (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) هو الولي، وبه قال النخعي وعلقمة والحسن وطاوس وعطاء وأبو الزناد وزيد بن أسلم وربيعة والزهري والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في قوله القديم.
وفيه قوة وضعف.
أما قوته فلكون معنى العفو فيه معقولاً، وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده.
ومما يزيد هذا القول ضعفاً أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه.
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الولي لا يملك شيئاً من مالها، والمهر مالها، فالراجح ما قاله الأولون لوجهين:
الأول أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة.
الثاني: أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك المطلق التصرف
50
بخلاف الولي، وتسمية الزيادة عفواً وإن كان خلاف الظاهر لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملاً عند العقد كان العفو معقولاً، لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه.
ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال: إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف لأنه عفو حقيقي أي ترك لما يستحق المطالبة به إلا أن يقال إنه مشاكلة أو تغليب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج.
(وأن تَعْفُوَآ أقرب للتقوى) قيل هو خطاب للرجال والنساء تغليباً أي وعفو بعضكم أيها الرجال والنساء أقرب للتقوى أي من عدم العفو الذي فيه التنصيف، والمراد بالتقوى الألفة وطيب النفس من الجانبين، وعليه قراءة الجمهور بالتاء الفوقية، وقرأ الشعبي وأبو نهيك بالياء التحتية فيكون الخطاب مع الرجال فقط، وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، لأن عفو الولي عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب للتقوى، بل أقرب إلى الظلم والجور، والمعنى وليعف الزوج فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قبل الطلاق فهو أقرب للتقوى.
(ولا تنسوا الفضل بينكم) المعنى أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضاً والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت بينهما من إفضاء البعض إلى البعض، وهي صلة لا تشبهها وصلة، فمن رعاية حقها ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح.
(إن الله بما تعملون بصير) فيه من ترغيب المحسن وترهيب غيره ما لا يخفى.
51
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)
(حافظوا على الصلوات) المحافظة على الشيء المداومة والمواظبة عليه أي داوموا وواظبوا على الخمس المكتوبات بجميع شرائطها وحدودها وإتمام أركانها وفعلها في أوقاتها المختصة بها، ولعل الأمر بالصلوات وقع في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها (والصلاة الوسطى) الوسطى تأنيث الأوسط وأوسط الشيء ووسطه خياره، ومنه قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) ووسط فلان القوم يسطهم أي صار في وسطهم، وليست من الوسط الذي معناه متوسط بين شيئين لأن فعلى معناها التفضيل ولا يبنى للتفضيل إلا ما يقبل الزيادة والنقص، والوسط بمعنى العدل والخيار يقبلهما بخلاف التوسط بين الشيئين فإنه لا يقبلهما فلا يبنى منه أفعل للتفضيل.
وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفاً لها وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولاً أوردها الشوكاني في شرحه للمنتقى وذكر ما تمسك به كل طائفة، وأرجح الأقوال وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر لما ثبت عند البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث علي قال: كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله - ﷺ - يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً (١).
وأْخرج مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعاً مثله.
_________
(١) مسلم/٦٢٧ بروايات مختلفة.
52
وأخرجه ابن جرير وابن المنذر والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعاً وأخرجه أيضاً البزار بسند صحيح من حديث حذيفة مرفوعاً.
وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعاً.
وورد في تعيين أنها العصر من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي - ﷺ - وهذه أحاديث مصرحة بأنها العصر.
وقد روى عن الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كثيرة وفي الثابت عن النبي - ﷺ - ما لا يحتاج معه إلى غيره.
وأما ما روي عن علي وابن عباس أنهما قالا إنها صلاة الصبح كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وكذلك غيره عن ابن عمر وأبي أمامة فكل ذلك من أقوالهم، وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي - ﷺ -، ولا تقوم بمثل ذلك حجة لا سيما إذا عارض ما ثبت عن النبي - ﷺ - ثبوتاً يمكن أن يدعى فيه التواتر، وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعد من التابعين وتابعيهم بالأولى.
وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال صلاة الوسطى المغرب.
وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة أنها الظهر وغيرها من الصلوات.
ولكن المحتاج إلى إمعان نظر وفكر ما ورد مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - مما فيه دلالة على أنها الظهر كما أخرجه ابن جرير عن زيد بن ثابت مرفوعاً أن
53
الصلاة الوسطى صلاة الظهر، ولا يصح رفعه بل المروي عن زيد ذلك من قوله، واستدل على ذلك بأن النبي - ﷺ - كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلاة على أصحابه، وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا لا اعتبار بما روي عن ابن عمر من قوله: إنها الظهر، وكذلك ما روي عن عائشة وأبي سعيد الخدري وغيرهم فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما رواه عبد الرزاق وابن جرير وغيرهما أن حفصة قالت لأبي رافع مولاها وقد أمرته أن يكتب لها مصحفاً: إذا أتيت على هذه الآية حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فتعال حتى أمليها عليك، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر.
وأخرجه أيضاً عنها مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في سننه وزادوا وقالت: أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج مالك ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي يونس مولى عائشة وفيه قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا روي عن أم سلمة أنها قالت كما قالت حفصة وعائشة (١).
فغاية ما في هذه الروايات عن أمهات المؤمنين الثلاث أنهن يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر أو غيرها، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى أنها غيرها لأن المعطوف غير المعطوف عليه.
_________
(١) مسلم ٦٢٩.
54
وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتاً لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه.
فالحاصل أن هذه القراءة التي نقلها أمهات المؤمنين الثلاث بإثبات قوله " وصلاة العصر " معارضة بما أخرجه ابن جرير عن عروة قال: كان في مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر.
وأخرج وكيع عن حميدة قالت قرأت في مصحف عائشة والصلاة الوسطى صلاة العصر، وفي الباب روايات.
فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة ونقل القراءة، ويبقى ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التعيين صافياً عن شوب كدر المعارضة.
على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة وعائشة وأم سلمة فأخرج عبد بن حميد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير والبيهقي عن البراء بن عازب قال: نزلت حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول الله - ﷺ - ما شاء الله ثم نسخها الله فأنزل (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فقيل له هي إذاً صلاة العصر قال: قد حدثتك كيف نزلت وكيف نسخها الله والله أعلم (١).
إذا تقرر لك هذا وعرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر.
وأما حجج بقية الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به، لأنه لم
_________
(١) مسلم ٦٣٠.
55
يثبت عن النبي - ﷺ - في ذلك شيء، وبعض القائلين عوَّل على أمر لا يعوَّل عليه فقال: إنها صلاة كذا لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات وبعدها كذا من الصلوات.
وهذا الرأي المحض والتخمين لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن رسول الله - ﷺ -، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويالله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله والتجرؤ على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى. فجاؤا بما يُضحَكُ منه تارة وُيبَكى منه أخرى، قال الخازن: وأصح الأقوال كلها أنها العصر للأحاديث الصحيحة الواردة فيها والله أعلم انتهى، وقيل صلاة الجنازة وقيل صلاة الجمعة وكلها أقوال ضعيفة ليس عليها أثارة من علم.
(وقوموا لله قانتين) القنوت قيل هو الطاعة أي قوموا في صلاتكم طائعين قاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشافعي، وقيل هو الخشوع قاله ابن عمر ومجاهد وقيل هو الدعاء، وبه قال ابن عباس.
وفي الحديث أن رسول الله - ﷺ - قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان وقال قوم إن القنوت طول القيام، وقيل معناه ساكتين قاله السدى، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما، قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي - ﷺ - في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت.
وقيل أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء فكل معنى يناسب الدوام
56
يصح إطلاق القنوت عليه.
وقد ذكر أهل العلم أن للقنوت ثلاثة عشر معنى، وقد ذكرها الشوكاني في شرح المنتقى، وذكرناها في شرح بلوغ المرام، والمتعين ههنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إنَّ في الصلاة لشغلاً (١).
وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (١).
وقد اختلفت الأحاديث في القنوت المصطلح عليه هو قبل الركوع أو بعده وهل هو في جميع الصلوات أو بعضها، وهل هو مختص بالنوازل أم لا؟ والراجح اختصاصه بالنوازل وقد أوضح الشوكاني ذلك في شرحه للمنتقى فليرجع إليه.
_________
(١) روى مسلم في صحيحه/٥٣٧ عن معاوية بن الحكم السلمي قال بينما أنا أصلي مع رسول الله ﷺ إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: " واثكل أمّاه ما شأنكم تنظرون إليّ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يُصمتونني لكني سكت. فلما صلّى رسول الله ﷺ فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فوالله ما نكرني ولا ضربني ولا شتمني قال: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ".
57
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
(فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً) الخوف هو الفزع، والرجال جمع رجل أو راجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلاً إذا عدم المركوب ومشى على قدميه فهو رَجِل وراجل، يقول أهل الحجاز مشى فلان إلى بيت الله حافياً رَجِلاً حكاه ابن جرير الطبري وغيره، ويجمع على رَجْل ورجَّالة (١)، فالراجل بمعنى الماشي له ثلاثة جموع، والركبان جمع راكب قيل لا يطلق إلا على راكب الإبل، ويقال لمن ركب الحمار والبغل حمار وبغال والأجود صاحب حمار وبغل، وهذا بحسب اللغة، والمراد بها هنا ما يعمّ الكل.
لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات، ذكر حالة الخوف أنهم يصنعون فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل وحال الركوب، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان.
وقد اختلف أهل العلم في حد الخوف المبيح لذلك، والبحث مستوفى في كتب الفروع، قال ابن عباس: يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه، وعن جابر بن عبد الله قال: إذا كانت المسايفة فليومىء برأسه حيث كان وجهه فذلك قوله (فرجالاً أو ركباناً).
والمعنى إن لم يمكنكم أن تُصلوا قانتين موفين حقوق الصلاة من إتمام الركوع والسجود والخضوع والخشوع لخوف عدو أو غيره فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركباناً على دوابكم، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وهذا في حال
_________
(١) الراجِلُ: خلاف الفارس، والجمع رَجْلٌ مثل صاحب وصحب، ورجَّالة (راجع معجم الصحاح للجوهري، باب اللام فصل الرَّاء ٤/ ١٧٠٥، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار).
58
المقاتلة والمسايفة في وقت الحرب.
وصلاة الخوف قسمان (أحدهما) أن يكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية، وقسم في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) وسيأتي الكلام عليه في موضعه (١).
وفي إيراد هذه الشرطية بكلمة " إن " المنبئة عن عدم تحقق وقوع الخوف وقلته، وفي إيراد الشرطية الثانية بكلمة " إذا " المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في " جواب " الثانية من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولى الأبصار.
(فإذا أمنتم) أي إذا زال خوفكم بعد وجوده أو لم يكن أصلاً فارجعوا إلى ما أمرتم به إتمام الصلاة مستقبلين القبلة، قائمين بجميع شروطها وأركانها وهو قوله (فاذكروا الله) وقيل معنى الآية خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة وهو خلاف معنى الآية (كما علمكم) أي ذكراً مثل ما علمكم من الشرائع أن يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه، والكاف صفة لمصدر محذوف
_________
(١) روى الكلبى عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن المشركين لمّا رأوا رسولَ الله ﷺ وأصحابه قامُوا إلى الظهر يُصلون جميعاً ندموا إلا كانوا أكبُوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب اليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر، فإذا قاموا فيها فشدوا عليهم فاقتلوهم، فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عزّ وجل يقول: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) فعلّمه صلاة الخوف.
وعن جابر قال: شهدت مع رسول الله ﷺ صلاة الخوف فصفنا صفين خلفه. والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي ﷺ فكبرنا جميعاً ثم ركعنا وركعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف الآخر في نحر العدو.
فلما قضى النبي ﷺ السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصنف المقدم ثم ركع النبي ﷺ وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي ﷺ السجود بالصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي ﷺ وسلمنا جميعاً ".
رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة والبيهقي.
59
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
أي ذكراً كائناً كتعليمه إياكم أو مثل تعليمه إياكم (ما لم تكونوا تعلمون) فيه إشارة إلى إنعام الله تعالى علينا بالعلم، ولولا تعليمه إيانا لم نعلم شيئاً ولم نصل إلى معرفة شيء فله الحمد على ذلك.
60
(والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً) أي يقربون من الوفاة إذ المتوفى بالفعل لا يتصوّر منه وصية، وهذا عود إلى بقية الأحكام المفصلة فيما سلف.
وقد اختلف السلف ومن تبعهم من المفسرين في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة، فذهب الجمهور إلى أنها منسوخة بالأربعة الأشهر والعشر كما تقدم، وأن الوصية المذكورة فيها منسوخة بما فرض الله لهنّ من الميراث.
وحكى ابن جرير عن مجاهد أن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، وأن العدة أربعة أشهر وعشر، ثم جعل الله لهن وصية منها سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وقد حكى ابن عطية والقاضي عياض أن الإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر.
(وصيّة لأزواجهم) قرىء بالنصب على تقدير فعل محذوف أي فليوصوا وصية أو أوصى الله وصية أو كتب الله عليهم وصية، وقرىء بالرفع ومعناه وصية الذين يتوفون وصية أو حكم الذين يتوفون وصية، والمعنى فيجب عليهم أن يوصوا لأزواجهم بثلاثة أشياء النفقة والكسوة والسكنى، وهذه الثلاثة تستمر سنة وحينئذ يجب على الزوجة ملازمة المسكن وترك التزين والإحداد هذه السنة.
60
(متاعاً إلى) تمام (الحول) أي متعوهن متاعاً أو جعل الله لهن ذلك متاعاً والمتاع هنا نفقة السنة، والمعنى أنه يجب على الذين يتوفّون أن يوصوا قبل نزول الموت بهم لأزواجهم أن يمتعن بعدهم حولاً كاملاً بالنفقة والسكنى من تركتهم (غير إخراج) أي لا يخرجن من مساكنهن (١).
(فإن خرجن) باختيارهن قبل الحول (فلا جناح) ولا حرج (عليكم) أي على الولي والحاكم (فيما فعلن في أنفسهن) من التعرض للخطاب والتزين لهم وترك الإحداد (من معروف) أي بما هو معروف في الشرع غير منكر، وفيه دليل على أن النساء كن مخيرات في سكنى الحول وليس ذلك بحتم عليهن، وقيل المعنى لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن وهو ضعيف لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله فيما فعلن.
(والله عزيز) أي غالب قوي في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده (حكيم) فيما شرعه من الشرائع وبين من الأحكام.
_________
(١) ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات احدهم، مكثت زوجته في بيته حوْلاً، ينفق عليها من ميراثه فإذا تم الحول خرجت إلى باب بيتها ومعها بعره فرمت به كلياً وخرجت بذلك من عدتها (زاد المسير ١/ ٢٨٦).
61
(وللمطلقات متاع بالمعروف) قد اختلف المفسرون في هذه الآية فقيل هي المتعة وأنها واجبة لكل مطلقة، وقيل إن هذه الآية خاصة بالثيّبات اللواتي قد جومعن، لأنه قد تقدم قبل هذه الآية المتعة واللواتي لم يدخل بهن الأزواج، وقد قدمنا الكلام على هذه المتعة والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض، أو عامة المطلقات، وقيل إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة وهي متعة المطلقة قبل البناء والفرض، وغير الواجبة وهي متعة سائر المطلقات فإنها مستحبة فقط، وقيل المراد بالمتعة هنا النفقة (حقاً على المتقين) يعني الذين يتقون الشرك.
61
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
62
(كذلك يبين الله لكم آياته) أي ما يلزمكم ويلزم أزواجكم والذي يجب لبعضكم على بعض (لعلكم تعقلون) أي لكي تعقلوا ما بينت لكم من الفرائض والأحكام وما فيه صلاح دينكم ودنياكم.
(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) الاستفهام هنا للتقرير، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر، والمعنى عند سيبويه تنبَّه إلى أمر الذين خرجوا، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل.
وحاصله أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمّنة معنى التنبيه. ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إليهم، أو معنى الوصول أي الم يصل علمك إليهم، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية أي ألم تنظر إلى الذين خرجوا، وهم قوم من بني إسرائيل.
جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد أو المبصَرة لكل مبصر، لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودوّنوها وأشهروا أمرها، والخطاب هنا لكل من يصلح له، والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجب ادعاء لظهوره وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد والغائب، قاله السعد التفتازاني وقيل الخطاب للنبي - ﷺ - خاصة والعموم أولى.
(وهم ألوف) قيل ثلاثة آلاف أو أربعة وقيل عشرة آلاف، وقيل بضع وثلاثون ألفاً، وقيل أربعون ألفاً، وقيل سبعون ألفاً، وأصح الأقوال قول من
62
قال إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن الألوف من جموع الكثرة وحقيقته ما فوق العشرة، قاله القرطبي فدل على أنها ألوف كثيرة وجمع القليل آلاف، وقيل جمع ألف أو آلف كقاعد وقعود، والمعنى مؤتلفون والأول أولى والواو للحال.
(حذر الموت) أي مخافة الطاعون، وكان قد نزل بهم، وقيل إنهم أمروا بالجهاد ففروا منه حذر الموت (فقال لهم الله موتوا) أمر تكوين وتحويل وهو عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا فأطاعوا فماتوا (ثم أحياهم) يعني بعد موتهم بدعاء نبيهم حزقيل بعد ثمانية أيام أو أكثر فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن واستمرّ في أسباطهم.
(إن الله لذو فضل) التنكير للتعظيم أي لذو فضل عظيم (على الناس) جميعاً فيجب عليهم شكره، أما هؤلاء الذين خرجوا فلكونه أحياهم ليعتبروا وأما المخاطبون فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء.
قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراًْ من الطاعون وقالوا نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال لهم الله موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم، وإن القرية التي خرجوا منها داوردان، قيل هو حزقيل، ويقال له ابن العجوز، ويقال له ذو الكفل وهو ثالث خليفة في بني إسرائيل، لأن موسى بعده يوشع ثم كالب ثم حزقيل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم هذه القصة مطوّلة عن أبي مالك وفيها أنهم بضعة وثلاثون ألفاً، وقال سعيد بن عبد العزيز: إن ديارهم
63
هي أذرعات، وعن أبي صالح قال كانوا تسعة آلاف، وأخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على أنحاء ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة.
وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن دخول الأرض التي هو بها من حديث عبد الرحمن بن عوف (١).
(ولكن أكثر الناس لا يشكرون) يعنى أن أكثر من أنعم الله عليه لا يشكر.
_________
(١) قال ابن الجوزي في زاد المسير ٢٨٨
روى حصين بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: كانت أمّة من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الوجع، خرج أغنياؤهم، وأقام فقراؤهم، فمات الذين أقاموا، ونجا الذين خرجوا، فقال الأشراف: لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا، وقال الفقراء: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعاً، فظعنوا فماتوا، وصاروا عظاماً تبرق، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم، فمر بهم نبي من الأنبياء، فقال: يا رب لو شئت أحييتهم، فعبدوك، وولدوا أولاداً يعبدونك، ويعمرون بلادك. [قال: أو أب إليك أن أفعل؟ قال: نعم]. فقيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تكسى لحماً وعصباً، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فنظر فإذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه. وأنزل الله فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتاً. وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتاً سبعة أيام، وقيل: ثمانية أيام.
64
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
65
(وقاتِلوا في سبيل الله) هو معطوف على مقدر كأنه قيل اشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم، وقاتلوا، هذا إذا كان الخطاب بقوله (وقاتلوا) راجعاً إلى المخاطبين بقوله (ألم تر إلى الذين خرجوا) كما قاله جمهور المفسرين، وعلى هذا يكون إيراد هذه القصة لتشجيع المسلمين على الجهاد، وقيل إن الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل فيكون عطفاً على قوله: (موتوا) وفي الكلام محذوف تقديره وقال لهم قاتلوا، وقال ابن جرير: لا وجه لقول من قال إن الأمر بالقتال للذين أُحيوا، وقيل العطف على حافظوا على الصلوات وفيه بُعد والأول أولى.
(واعلموا أن الله سميع) لما يقوله المتعلل عن القتال (عليم) بما يضمره وفيه وعد لمن بادر بالجهاد ووعيد لمن تخلف عنه.
(من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) لما أمر سبحانه بالقتال والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك، وإقراض الله مَثَلَ لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب، وأصل القرض أنه اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال أقرض فلان فلاناً أي أعطاه ما يتجازاه، وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيء.
وقال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيء، وأصل الكلمة القطع ومنه المقراض.
واستدعاء القرض في الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه،
65
والله هو الغني الحميد، شبّه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء.
وقيل كنّى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة كما كنّى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام، ففي الحديث الصحيح إخباراً عن الله عز وجل " يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي " وكذا فيما قبله أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنّى عنه ترغيباً لمن خوطب به.
وقوله (حسناً) أي طيبة به نفسه من دون مَنٍّ ولا أذى، وقيل محتسباً، وقيل هو الإنفاق من المال الحلال في وجوه البر، وقيل هو الخالص لله تعالى ولا يكون فيه رياء ولا سمعة.
وقد اختلف في تقدير هذا التضعيف على أقوال، وقيل لا يعلمه إلا الله وحده، قاله السدي وهذا هو الأولى، وإنما أبهم الله ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود، وقيل إلى سبعمائة ضعف، وقيل غير ذلك.
وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله إن الله ليريد منا القرض؟ قال نعم، قال: أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي وله فيه ستمائة نخلة (١).
_________
(١) رواه ابن أبي حاتم بإسناد ضعيف، مجمع الزوائد ٦/ ٣٢١.
66
وقد أخرج هذه القصة جماعة من المحدثين.
وأخرج أحمد وابن المنذر من حديث أبي هريرة وفيه قال: والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " (١).
وأخرج ابن حبان في صحيحه والبيهقي وغيرهما عن ابن عمر قال لما نزلت (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) إلى آخرها قال رسول الله - ﷺ -: " رب زد أمتى " فنزلت
_________
(١) رواه أحمد في المسند من طريق مبارك بن فضاله عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي، وعلي بن زيد ضعفه غير واحد. والحديث حسن.
قد قال الشيخ أحمد شاكر: رواه ابن أبي حاتم عن أبي خلاد سليمان بن خلاد المؤدب عن محمد الرفاعي عن زياد ين الحصاص عن أبي عثمان النهدي، وزياد بن الجصاص، ذكره البخاري في " التاريخ الكبير " فلم يذكر فيه جرحاً، وهذا أمارة توثيقه عنده، ثم لم يذكره في الضعفاء، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: ربما وهم. وهذا الحديث لم ينفرد به كما ترى، فقد رواه كما رواه علي ابن زيد بن جدعان بنحوه، فارتفعت شبهة الخطأ والوهم، وصح الحديث من الوجهين، والحمد لله..
67
(من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) قال رب زد أمتي، فنزلت (إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال لما نزلت (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) قال رسول الله - ﷺ -: رب زد أمتي، فنزلت (من ذا الذي يقرض الله) قال رب زد أمتي، فنزلت (مثل الذين ينفقون أموالهم) قال رب زد أمتي فنزلت (إنما يوفي الصابرون) وفي الباب أحاديث هذه أحسنها.
(والله يقبض ويبسط) حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح فلا تبخلوا عليه بما وسّع عليكم كيلا تبدل أحوالكم، ولعل تأخير البسط عن القبض في الذكر للإيماء إلى أنه يعقبه في الوجود تسلية للفقراء، هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، والقبض التقتير، والبسط التوسيع، وفيه وعيد بأن بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض، ولهذا قال (وإليه ترجعون) أي هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه، فإن أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم، وإن بخلتم عاقبكم.
67
وعن قتادة يقبض الصدقة ويبسط قال يخلف (وإليه ترجعون) قال: من التراب وإلى التراب تعودون.
وعن ابن زيد قال: علم الله فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوة وفيمن لا يقاتل في سبيل لله فندب هؤلاء إلى القرض فقال (من ذا الذي يقرض الله) قال: يبسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، ويقبض عن هذا وهو يطيب نفساً بالخروج ويخلف له فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ.
وقيل المعنى أن الله يقبض بعض القلوب حتى لا تقدر على الإنفاق في الطاعة وعمل الخير ويبسط بعض القلوب حتى تقدر على فعل الطاعات والإنفاق في البر.
وعن ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال رسول الله - ﷺ -: " اللهم مصرّف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك " أخرجه مسلم (١).
وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يجب الإيمان بها وإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل ولا تأويل، وبهذا قال سلف هذه الأمة وأئمتها.
_________
(١) رواه مسلم/٢٦٥٤ عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
68
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
(ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل) الكلام فيه كالكلام في قوله (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) وقد قدمناه، والملأ الأشراف من الناس كأنهم ملؤا شرفاً، وقال الزجاج: سُمُّوا بذلك لأنهم مليؤن بما يحتاج إليه منهم، وهو اسم جمع كالقوم والرهط لا واحد له من لفظه، قال الفراء الملأ الرجال في كل القرآن ويجمع على إملاء مثل سبب وأسباب.
ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة، والمعنى كائنين (من بعد) وفاة (موسى إذ قالوا لنبي لهم) قل هو شمويل بن يال ابن علقمة ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه شمعون وهو من ولد يعقوب، وقيل من نسل هرون، وقيل هو يوشع بن نون وهذا ضعيف جداً لأن يوشع هو فتى موسى ولم يوجد داود إلا بعد ذلك بدهر طويل، وقيل هو بالعربية اسمعيل قاله أبو السعود.
(ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله) المراد بالملك الأمير أي نرجع إليه ونعمل على رأيه (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا) عسى من أفعال المقاربة أي فهل قاربتم أن لا تقاتلوا وإدخال الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده والإشعار بأنه كائن، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به.
69
(قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله) قيل المعنى وأي شيء لنا أن لا نقاتل، وقيل غير ذلك قال النحاس: هذا هذا أجودها (وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا) إفراد الأولاد بالذكر لأنهم الذين وقع عليهم السبي أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة، وهذا كلام عام والمراد منه خاص لأن القائلين لنبيهم ما ذكر كانوا في ديارهم، وإنما أخرج بعض آخر غيرهم.
ثم أخبر سبحانه أنهم تولّوا لما فرض عليهم القتال لاضطراب نياتهم وفتور عزائمهم فقال.
(فلما كتب عليهم القتال تولوا) بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته (١).
(إلا قليلاً منهم) واختلف في عدد قليل الذين استثناهم الله سبحانه وهم الذين اكتفوا بالغرفة.
(والله عليم بالظالمين) أي عالم بمن ظلم نفسه حين خالف أمر ربه ولم يف بما قال وهم بقية السبعين ألفاً وهم من عدا القليل المذكور.
_________
(١) لذلك كان توجيه رسول الله ﷺ بالنهي عن تمني لقاء العدو. فقد روي.
" لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا ".
وفي رواية " لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا " رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
70
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
(وقال لهم نبيهم) شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً) وهو اسم أعجمي وكان سقّاءً، وقيل راعياً، وقيل دباغاً، وقيل مكارياً واسمه بالعبرانية شاول ابن قيس وجعله فعلوتاً من الطول تعسف يدفعه منع صرفه.
(قالوا أنى يكون له الملك علينا) أي كيف يكون ذلك وكيف يستحقه ولم يكن من بيت الملك (ونحن أحق بالملك منه) وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان سبط نبوة وسبط مملكة فسبط النبوة سبط لاوى ابن يعقوب، ومنه كان موسى وهرون عليهما السلام، وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان عليهما السلام، ولم يكن طالوت من أحدهما، وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام، فلهذا أنكروا كونه ملكاً لهم وزعموا أنهم أحق بالملك منه.
ثم أكدوا ذلك بقولهم (ولم يؤت سعة من المال) أي ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه أو لماله بل هو فقير، والملك يحتاج إلى المال (قال) يعني شمويل النبي (إن الله اصطفاه عليكم) أي اختاره وخصه بالملك واختيار الله هو الحجة القاطعة.
ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء وقال (وزاده بسطة) أي فضيلة وسعة (في العلم) الذي هو ملاك الإنسان ورأس الفضائل وأعظم وجوه
71
الترجيح، وكان من أعلم بني إسرائيل وقيل هو العلم بالحرب وبالملك، وقيل به وبالديانات (والجسم) الذي يظهر به الأثر في الحروب ونحوها فكان قوياً في دينه وبدنه، وذلك هو المعتبر لأشرف النسب، فإن فضائل النفس مقدمة عليه (١).
وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من زعم من الشيعة أن الأمامة موروثة، وكان طالوت أطول من الناس برأسه ومنكبيه، وقيل بالجمال وكان من أجملهم، وقيل المراد به القوة لأن العلم بالحروب والقوة على الأعداء مما فيه حفظ المملكة.
(والله يؤتي ملكه من يشاء) فالملك ملكه والعبيد عبيده، فما لكم والأعتراض على شيء ليس هو لكم ولا أمره إليكم.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله هذا من قول نبينا محمد - ﷺ - وقيل هو من قول نبيهم وهو الظاهر، وقيل من كلام الله لمحمد - ﷺ - (والله واسع) أي واسع الفضل يوسع على من يشاء من عباده (عليم) بمن يستحق الملك ويصلح له.
_________
(١) قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه.
وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك، أم أحدثت له بعد الملك؟ فيه قولان. أحدهما: قبل الملك، قاله وهب، والسدي. والثاني: بعد الملك، قاله ابن زيد. والمراد بتعظيم الجسم، فضل القوة، إذ العادة أن من كان أعظم جسماً، كان أكثر قوة والواسع: الغني.
ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكاً، فأتى بعصا وقرن فيه دهن، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا، ومتى دخل عليك رجل، فنشق الدهن، فهو الملك، فادهن به رأسه، وملكه على بني إسرائيل، فقاس القوم أنفسهم بالعصا، فلم يكونوا على مقدارها. قال عكرمة، والسدي: كان طالوت سقاءً يسقي على حمار له، فضلّ حماره، فخرج يطلبه. وقال وهب: بل كان دباغاً يعمل الأدم، فضلت خمرٌ لأبيه، فأرسل مع غلام له في طلبها، فمر ببيت شمويل النبي - ﷺ -، فدخلا ليسألاه عن ضالتهما، فنشق الدهن، فقام شمويل، فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها، فدهنه، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل، فقال طالوت: أما علمت أن وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى. قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، فكان كما قال.
72
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
(وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) التابوت فعلوت من التوب وهو الرجوع لأنهم يرجعون إليه أي علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منكم أي رجوعه إليكم، وهو صندوق التوراة قيل وكان من خشب الشمشاد وهو الذي تتخذ منه الأمشاط طوله ثلاثة أذرع في عرض ذراعين.
(فيه سكينة من ربكم) السكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة أي فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، وقيل الضمير للإتيان أي في إتيانه سكون لكم أو للتابوت أي مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة، قال ابن عطية: الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتتقوى، وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان بعضها.
(وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون) اختلف في البقية فقيل هي عصا موسى ورضاض الألواح، قال ابن عباس وقيل عصا موسى وعصا هرون وشيء من ألواح التوراة، وقيل كانت التوراة والعلم وقيل كان فيه عصا موسى ونعلاه وعصا هرون وعمامته وقفيز من المن، وكان عند بني اسرائيل يتوارثونه قرناً بعد قرن، فلما عصوا وأفسدوا سلّط عليهم العمالقة فغلبوهم عليه وأخذوه منهم، وقيل غير ذلك.
وقيل المراد بآل موسى وهرون هما أنفسهما أي مما ترك موسى وهرون، ولفظ آل مقحمة لتفخيم شأنهما، وقيل المراد الأنبياء من بني يعقوب لأنهما من
73
ذرية يعقوب فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما.
(تحمله الملائكة) أي تسوقه، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت فلما رأوا ذلك قالوا نعم، فسلموا له الرياسة وملكوه، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدموا التابوت بين أيديهم ويقولون إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن وبعصا موسى من الجنة، وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
وقال قتادة: كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقي هناك فأقبلت الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره فأقروا بملكه، وقد ورد هذا المعنى مختصراً ومطولاً عن جماعة من السلف فلا يأتي التطويل بذكر ذلك بفائدة يعتد بها.
وعن ابن عباس أيضاً كان طالوت عظيماً جسيماً يفضل بني إسرائيل بعنقه ولم يأته وحي وكانت سعة تابوت موسى نحواً من ثلاثة أذرع من ذراعين.
والسكينة الرحمة والطمأنينة أو الدابة قدر الهرة لها عينان لهما شعاع وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم فيهزم الجيش من الرعب، وعن علي السكينة ريح خجوج هفافة ولها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وقال مجاهد: السكينة شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة ووجه كوجه الهرة وجناحان وذنب مثل ذنب الهرة، وعن ابن عباس: السكينة طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ألقى الألواح فيه.
وعن وهب بن منبه أنه قال: هي روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فتخبرهم ببيان ما يريدون، وعن الحسن قال: هي شيء تسكن إليه قلوبهم، وعن عطاء بن أبي رباح: هي ما يعرفون من الآيات التي يسكنون إليها.
74
وأقول هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأَهم الله فجاؤا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيواناً وتارة جماداً وتارة شيئاً لا يعقل وهكذا كل منقول عن بني اسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير التناقضة مروياً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا رأياً رآه قائله، فهم أجلّ قدراً عن التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه (١).
إذا تقرر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة فقد جعل الله عنها سعة، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي - ﷺ - لوجب علينا المصير إليه والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن كما في صحيح مسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي - ﷺ - فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة نزلت للقرآن (٢).
وليس في هذا إلا أن هذه التي سماها رسول الله - ﷺ - سكينة سحابة دارت على ذلك القارىء فالله أعلم.
وعن أبي صالح قال: كان في التابوت عصا موسى وعصا هرون وثياب موسى وثياب هرون ولوحان من التوراة والمن، وكلمة الفرج " لا إله إلا الله
_________
(١) وقد ذكر الشوكاني رحمه الله في تفسيره - عبارة " وأقول هذه التفاسير.... " فلا أدري هل نسي المؤلف رحمه الله نسبتها للشوكاني أم قد سقطت في الطبع ".
(٢) قال ابن جرير الطبري: فأولى هذه الأقوال بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح أنها الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي يعرفونها.
75
الحليم الكريم سبحان الله رب السموات ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين "، وقال قتادة والكلبي: السكينة الطمأنينة ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا وسكنوا إليه (١).
وهذا القول أولى بالصحة، فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه فهو سكينة فيحمل على جميع ما قيل فيه لأن كل شيء يسكن إليه القلب فهو سكينة، ولم يرد فيه نص صريح فلا يجوز تصويب قول وتضعيف آخر، والمرجع فيه إلى اللغة كما تقدم والله أعلم.
(إن في ذلك) أي في مجيء التابوت (لآية لكم) أي علامة ودلالة على صدقي ما أخبرتكم به (إن كنتم مؤمنين) يعني مصدقين، قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا بالملك لطالوت تأهبوا للخروج إلى الجهاد فأسرعوا لطاعته وخرجوا معه وذلك وقوله:
_________
(١) قال القرطبي ٣/ ٢٤٩:
قلت: وفى صحيح مسلم عن البَراء قال: كان رجل يقرأ سورة " الكهف " وعنده فرس مربوط بشَطَنَيْن فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال: " تلك السكينة تنزلت للقرآن ". وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضَير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم " أخرجه البخاري ومسلم. فأخبر ﷺ عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظُّلة، وأنها تنزل ابداً مع الملائكة. وفي هذا حجة لمن قال أن السكينة روح؛ لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم.
76
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
(فلما فصل طالوت بالجنود) فصل معناه خرج بهم يقال فصلت الشيء فانفصل أي قطعته فانقطع، وأصله متعد يقال فصل نفسه ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل، وقيل يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال فصل عن البلد فصولاً وفصل نفسه فصلاً، والمعنى قطع مستقره شاخصاً إلى غيره، فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم سبعون ألف مقاتل، وقيل ثمانون ألفاً وقيل مائة وعشرون ألفاً ولم يتخلف عنه إلا كبير لكبره أو مريض لمرضه أو معذور لعذره، وكان مسيرهم في حر شديد فشكوا إلى طالوت قلة الماء بينهم وبين عدوهم، وقالوا إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهراً.
(قال) طالوت (إن الله مبتليكم بِنَهَرٍ) أي مختبركم والإبتلاء الاختبار، والنهر قيل هو بين الأردن وفلسطين، وأردن موضع ذو رمل قريب من بيت المقدس، والمراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو في العصيان في سائر الشدائد أحرى.
(فمن شرب منه) قليلاً كان أو كثيراً (فليس مني) أي ليس من أهلِ ديني وطاعتي (ومن لم يطعمه) أي لم يذقه يعني الماء أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً (فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) رخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى
77
العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال.
وفيه أن الغرفة تكف سَوْرة العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية.
فالمراد بقوله (فمن شرب منه) أي كرع ولم يقتصر على الغرفة، ومعنى ليس مني ليس من أصحابي، من قولهم فلان من فلان كأنه بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما، وهذا في كلام العرب معروف، يقال طعمت الشيء أي ذقته، وأطعمته الماء أي أذقته.
وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام، والإغتراف الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، والغرف مثل الإغتراف، والغرفة المرة الواحدة، وقد قرىء بفتح الغين وضمها فالفتح للمرة والضم اسم للشيء المغترف، وقيل بالفتح الغرفة الواحدة بالكف وبالضم الغرفة بالكفين، وقيل هما لغتان بمعنى واحد.
(فشربوا منه) أي من النهر (إلا قليلاً منهم) وهم المذكورون في قوله (ومن لم يطعمه) قال القرطبي: إن القليل لم يشرب أصلاً، قال سعيد بن جبير: القليل ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً عدة أهل بدر.
وعن البراء قال: كنا أصحاب محمد - ﷺ - نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلثمائة وعن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت (١).
_________
(١) رواه ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ قال لأصحابه يوم بدر، فذكره. وأخرج أحمد والبخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر -ولم يجاوز معه إلا مؤمن- بضعة عشر وثلاثمائة.
78
وعن ابن عباس قال: كانوا ثلثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة عشر فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أصحاب النبي - ﷺ - يوم بدر فردهم طالوت ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر، وقرىء إلا قليل، ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى أي لم يطعمه إلا قليل وهو تعسف.
(فلما جاوزه هو) أي جاوز النهر طالوت (والذين آمنوا معه) وهم القليل الذين أطاعوه واقتصروا على الغرفة وقال القرطبي: هم الذين لم يذوقوا الماء أصلاً (وقالوا) أي الذين شربوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) أي بمحاربتهم ومقاومتهم فضلاً عن أن يكون لنا غلبة عليهم لما شاهدوا منهم من الكثرة والشدة، قال القرطبي: قيل وكانوا مائة ألف رجل شاكي السلاح وأكثر المفسرين على أنهم قالوا هذا القول بعدما عبروا النهر مع طالوت، ورأوا جالوت وجنوده فرجعوا منهزمين قائلين هذه المقالة.
وبعض المفسرين على أن العصاة لم يعبروا النهر بل وقفوا بساحله وقالوا معتذرين عن التخلف منادين ومسمعين لطالوت والمؤمنين الذين معه لا طاقة لنا اليوم الخ، والجند الأنصار والأعوان والجمع أجناد وجنود الواحد جندي.
فالياء للوحدة مثل روم ورومي.
و (قال الذين يظنون) أي يتيقنون رداً على المتخلفين (أنهم ملاقوا الله) أي أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله، صرح به القاضي كالكشاف (كم من فئة قليلة) الفئة الجماعة لا واحد له من لفظه والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف أي قطعته (غلبت فئة كثيرة بإذن الله) أي بقضاء الله وإرادته (والله مع الصابرين) بالنصر والعون، وهذه من جملة مقولهم، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى أخبر بها عن حال الصابرين فلا محل لها من الإعراب.
79
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١)
80
(ولما برزوا لجالوت وجنوده) أي صاروا في البراز وهو المتسع من الأرض وما انكشف منها واستوى، ومنه سميت المبارزة في الحرب لظهور كل قرن إلي صاحبه.
والمعنى ظهروا لقتالهم وتصافحوا، والبراز بالفتح والكسر لغة قليلة: الفضاء الواسع الخالي من الشجر، وجالوت أمير العمالقة وكان جباراً من أولاد عمليق بن عاد (قالوا) أي جميع من معه من المؤمنين (ربنا أفرغ) أي أصبب (علينا صبراً) الإفراغ يفيد معنى الكثرة (وثبت أقدامنا) عبارة عن كمال القوة والرسخ وعدم الفشل والتزلزل عند المقاومة، يقال ثبت قدم فلان على كذا إذا استقر له ولم يزل عنه وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له والنصر معه، وليس المراد تقررها في مكان واحد (وانصرنا على القوم الكافرين) هم جالوت وجنوده، ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لما هو العلة الموجبة للنصرة عليهم وهي كفرهم، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام لكون الثاني هو غاية الأول.
(فهزموهم بإذن الله) الهزم الكسر ومنه سقاء منهزم أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم إنها هزمة جبريل أي هزمها برجله فخرج الماء، والهزم ما يكسر من يابس الحطب، وتقدير الكلام فأنزل الله عليهم النصر فهزموهم بأمر الله وإرادته.
80
(وقتل داود جالوت) هو داود بن إيشاو ويقال ابن داود بن زكريا ابن بشوى من سبط يهوذا ابن يعقول جمع الله له بين النبوة والملك بعد أن كان راعياً، وكان أصغر أخوته، اختاره طالوت لمقابلة جالوت فقتله، وكان يومئذ صغيراً لم يبلغ الحلم سقيماً أصفر اللون يرعى الغنم، فهذه الواقعة قبل نبوته وأن أباه كان من جملة جيش طالوت.
وعن مجاهد وغيره قال: كان طالوت أميراً على الجيش فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته فقال داود لطالوت: ماذا لي وأقتل جالوت فقال: لك ثلث ملكي وأنكحك ابنتي فأخذ نحلاة فجعل فيها ثلاث مروات ثم سمى إبراهيم وإسحق ويعقوب ثم أدخل يده فقال بسم الله إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب فخرج على إبراهيم فجعله في مرجمته فرمى بها جالوت فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ما وراءه ثلاثين رجلاً فأخذ داود جالوت حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح بنو إسرائيل فزوجه ابنته، وأعطاه نصف الملك فمكث معه كذلك أربعين سنة فمات طالوت واستقل داود بالملك سبع سنين، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى فسبحان من لا ينقضي ملكه، وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس فالله أعلم.
(وآتاه الله) أي داود (الملك) الكامل سبع سنين بعد موت طالوت (والحكمة) والمراد بالحكمة هنا النبوة، وقيل هي تعليمه صنعة الدروع من الحديد وكان يلين في يده وينسجه كنسج الغزل، ومنطق الطير والألحان أي فهم أصواته، وكذا البهائم، وقيل هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها.
(وعلّمه مما يشاء) قيل إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي وفاعل ذلك هو الله تعالى، وقيل داود، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته وتعلقت به إرادته، وقد قيل إن من ذلك ما قدمناه من تعليمه
81
صنعة الدروع وما بعده، قيل كان ملك طالوت إلى أن قتل مدة أربعين سنة فأتى بنو إسرائيل إلى داود فملكوه عليهم وأعطوه خزائن طالوت.
قال الكلبي والضحاك: ملك داود بعد قتل طالوت نحو سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود، فجمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن كذلك من قبل، ولم يجتمعا لأحد قبله، بل كانت النبوة في سبط، والملك في سبط ثم جمع الله له ذلك ولابنه سليمان بين الملك والنبوة.
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) قرىء الدفع والدفاع وهما مصدران لدفع كذا وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل أي ولولا دفع الله الناس، وبعضهم بدل من الناس وهم الذين يباشرون أسباب الشر والفساد ببعض آخر منهم، وهم أهل الإيمان الذين يكفّونهم عن ذلك ويردونهم عنه.
(لفسدت الأرض) لتغلب أهل الفساد عليها وإحداثهم الشرور التي تهلك الحرث والنسل، قال ابن عباس: يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي.
وأخرج ابن عدي وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر (ولولا دفع الله الناس) الآية في إسناده يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف جداً ورواه أحمد أيضاً (١).
(ولكن الله ذو فضل) التنكير للتعظيم (على العالمين) أي عمّ فضله الناس كلهم.
_________
(١) ضعيف جداً رواه ابن جرير في التفسير ٥/ ٥٧٤/٥٧٥٣ والعقيلي في الضعفاء/٤٦٣ والواحدي في تفسيره الوسيط ١/ ٩١/٢ وابن عدي ١٠٠/ ٢.
82
تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)
83
(تلك آيات الله) هي ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة (نتلوها عليك بالحق) والمراد بالحق هنا الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب والمطلعين على أخبار العالم (وإنك لمن المرسلين) إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه وتثبيتاً لجنانه وتشييداً لأمره، وأن الذي يخبر به من الأخبار العجيبة والقصص القديمة وحي من الله من غير أن يعرفها بقراءة كتب ولا استماع أخبار فدل ذلك على رسالتك.
(تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض) قيل هو إشارة إلى جميع الرسل فيكون الألف واللام للاستغراق، وقيل هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة، وقيل إلى الأنبياء الذي بلغ علمهم إلى النبي - ﷺ -.
والمراد بتفضيل بعضهم على بعض أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر فكان الأكثر مزايا فاضلاً، والآخر مفضولاً، وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، كذلك دلت الآية الأخرى عليه وهي قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً).
وعن قتادة قال: اتخذ الله إبراهيم خليلاً وكلم الله موسى تكليماً وجعل
83
عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون وهو عبد الله وكلمته وروحه وآتى داود زبوراً وآتى سليمان ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعده وغفر لمحمد - ﷺ - ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال الخازن: أجمعت الأمة على أن نبينا محمداً - ﷺ - أفضل الأنبياء لعموم رسالته وهو قوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً).
وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " لا تفضلوني على الأنبياء " وفي لفظ آخر: " لا تفضلوا بين الأنبياء " (١)، وفي لفظ: " لا تخيروا بين الأنبياء " فقال قوم إن هذا القول منه - ﷺ - كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقيل إنه قال - ﷺ - ذلك على سبيل التواضع كما قال: لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى (٢)، تواضعاً مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله: " أنا سيد ولد آدم ".
وقيل إنما نهى عن ذلك قطعاً للجدال والخصام في الأنبياء فيكون مخصوصاً بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأموناً.
وقيل إن النهي هو من جهة النبوة فقط لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات.
وقيل إن المراد النهي عن التفضيل بمجرد الأهواء والعصبية، وفي جميع هذه الأقوال ضعف.
_________
(١) روى مسلم في صحيحه ٢٣٧٤.
(٢) رواه مسلم في صحيحه ٢٣٧٦ برواية أنه قال -يعني الله عز وجل- لا ينبغي لعبدي أن يقول أنا خير من يونس بن متى عليه السلام.
84
وعندى أنه لا تعارض بين القرآن والسنة فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله تعالى لا يخفى على الله منها، خافية، وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً وهذا مفضولاً لاقبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعمله الفاعل له وهو ممنوع منه.
فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن بالإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك.
وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان فقد غلط غلطاً بيناً.
(منهم) تفصيل للتفضيل المذكور إجمالاً (من كلّم الله) أي بغير واسطة وهو موسى كلمه في الطور، ونبينا سلام الله عليهما كلمه ليلة الإسراء، وقد روى عن النبي - ﷺ - أنه قال في آدم نبي مكلم، وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر، والإلتفات حيث لم يقل كلمنا لتربية المهابة بهذا الاسم الشريف والرمز إلى ما بين التكليمين ورفع الدرجات من التفاوت.
(ورفع بعضهم درجات) هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت
85
منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء، ويحتمل أن يراد به نبينا - ﷺ - لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً، وقيل إنهم أولو العزم، وقيل إبراهيم.
ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من نبيه - ﷺ -، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه.
وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا - ﷺ -، وأطالوا في ذلك واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل. وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين، وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني، انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه (١).
وقد أغنى الله نبينا المصطفى - ﷺ - عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه - ﷺ - بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن.
(وآتينا عيسى بن مريم البينات) أي الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة
_________
(١) وقد استدل هؤلاء بحديث: بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأُحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وغيرها من المعجزات.
86
من إحياء الأموات وإبراء المرضى من الأكمه والأبرص وغير ذلك (وأيدناه) أي قويناه (بروح القدس) هو جبريل وكان يسير معه حيث سار إلى أن رفعه الله إلى عنان السماء السابعة وقد تقدم الكلام على هذا.
(ولو شاء الله ما اقتتل) أي ما اختلف فأطلق الاقتتال وأراد سببه وهو الاختلاف (الذين من بعدهم) أي من بعد الرسل وقيل من بعد موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأن الثاني مذكور صريحاً، والأول والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله (منهم من كلم الله) أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة، وقيل أن لا يؤمروا بالقتال وقيل أن يصيرهم إلى الإيمان وكلها متقاربة.
(من بعد ما جاءتهم البينات) أي الدلالات الواضحات من الله بما فيه مزدجر لمن هداه الله تعالى ووفقه (ولكن اختلفوا) استثناء من الجملة الشرطية أي ولكن الاقتتال ناشىء عن اختلافهم اختلافاً كثيراً حتى صاروا مللاً مختلفة، والمعنى لو شاء الله الاتفاق لاتفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا وفيه إشارة إلى قياس استثنائي.
(فمنهم من آمن ومنهم من كفر) أي ثبت على إيمانه أو تعمد الكفر بعد قيام الحجة كالنصارى بعد المسيح (ولو شاء الله) عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف (ما اقتتلوا) تأكيد (ولكن الله يفعل ما يريد) من توفيق من شاء، وخذلان من شاء، لا رادّ لحكمه ولا مبدل لقضائه فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض عليه في ملكه وفعله.
وسأل رجل علياً عن القدر فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأعاد السؤال فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه.
87
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) ظاهر الآية الوجوب وقد حمله جماعة على صدقة الفطر لذلك ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد، وقيل إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض والتطوع، قال ابن عطية: وهذا صحيح ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع المؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله.
قال القرطبي: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجباً ومرة ندباً بحسب تعينّ الجهاد وعدم تعينه.
(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) أي أنفقوا ما دمتم قادرين وقدموا لأنفسكم اليوم من الأموال من قبل أن يأتي ما لا يمكنكم الإنفاق فيه وهو يوم لا يتبايع الناس فيه ولا تجارة فيكتسب الإنسان من يفتدي به نفسه من العذاب.
(ولا خلّة) خالص المودة من تخلل الأسرار بين الصديقين أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ولا مودة ولا صداقة.
(ولا شفاعة) مؤثرة إلا لمن أذن الله له، قيل وقد دلت النصوص على ثبوت المودة والشفاعة بالإذن بين المؤمنين هذا عام مخصوصاً (والكافرون هم الظالمون) فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه. ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعاً يوجب كفره لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق، وعن عطاء قال: الحمد لله الذي قال (والكافرون هم الظالمون) ولم يقل والظالمون هم الكافرون.
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي لا معبود بحق إلا هو، وهذه الجملة خبر المبتدأ، والحي الباقي، وقيل الذي لا يزول ولا يحول، وقيل المصرف للأمور والمقدّر للأشياء.
قال الطبري: عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وهو خبر ثان أو مبتدأ خبره محذوف. والقيوم القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل القائم بذاته المقيم لغيره، وقيل القائم بتدبير الخلق وحفظه، وقيل هو الذي لا ينام، وقيل الذي لا بديل له.
وقرأ جماعة القيام بالألف. وروي ذلك عن عمر. ولا خلاف بين أهل اللغة أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة.
وهذه الآية أفضل آية في القرآن. ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتها أكثر منه على غيرها من الآيات، هذا هو التحقيق في تفضيل القرآن بعضه على بعض، وإنما كانت أفضل لأنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى.
(لا تأخذه سنة ولا نوم) هذا كالتعليل لقوله القيوم، السِّنة النعاس في قول الجمهور، والنعاس ما يتقدم النوم من الفتور وانطباق العينين فإذا صار في القلب صار نوماً، وفرق المفضل بين السِّنة والنعاس والنوم فقال السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب انتهى.
89
والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم أن السنة لا يفقد معها العقل بخلاف النوم، فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل. بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر.
والمراد أنه لا يعتريه شيء منهما، وقدّم السنة على النوم لكونها تتقدمه في الوجود فهو على حد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قال الرازي في تفسيره: إن السنة ما يتقدم النوم، فإذا كانت عبارة عن مقدمة النوم، فإذا قيل لا تأخذه سنة دل على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى، فكان ذكر النوم تكراراً، قلنا تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم والله أعلم بمراده انتهى.
وأقول إن هذه الأولوية التي ذكرها غير مسلمة فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس، وإذا ورد على القلب والعين دفعة واحدة فإنه يقال له نوم، ولا يقال له سنة، فلا يستلزم نفي السِّنة نفي النوم. وقد ورد عن العرب نفيهما جميعاً.
وأيضاً فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السنة، فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم، وهكذا لو وقَع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة فكم من ذي سنة غير نائم.
وكرر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما فالسنة النوم الخفيف، والنوم هو الثقيل المزيل للعقل والقوة، والوسنان بين النائم واليقظان.
والجملة نفي للتشبيه بينه تعالى وبين خلقه والله منزّه عن النقص
90
والآفات، وإن ذلك تغير وهو مقدس عن التغير.
وعن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بخمس كلمات فقال: " إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام " (١) الحديث رواه مسلم.
(له ما في السموات وما في الأرض) يعني أنه تعالى مالك جميع ذلك بغير شريك ولا منازع وهو خالقهم، وهم عبيده وخلقه، وهم في ملكه، وأجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ " ما " دون " من " وفيه رد على المشركين العابدين لبعض الكواكب التي في السماء، والأصنام التي في الأرض يعني فلا تصلح أن تعبد لأنها مملوكة مخلوقة له، واللام إما للقهر وإما للملك وإما للإيجاد.
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحداً من عباده يقدر على أن ينفع أحداً منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه. وفيه من الدفع في صدور عباد القبور والصك في وجوههم والفت في أعضادهم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقوله تعالى (وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) وقوله تعالى (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) بدرجات كثيرة.
وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة
_________
(١) رواه مسلم/١٧٩.
91
ولمن هي ومن يقوم بها بالإذن (١).
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) الضميران لما في السموات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم، وما بين أيديهم وما خلفهم عبارة عن المتقدم عليهم والمتأخر عنهم، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما، وقال مجاهد: ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الآخرة. وعن ابن عباس: ما قدّموا من أعمالهم وما أضاعوا من أعمالهم.
والمقصود أنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه. حتى يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، تحت الأرض الغبراء، وحركة الذرة في جو السماء، والطير في الهواء، والسمك في الماء.
وفيه رد على من ينفي عنه سبحانه علم الجزئيات كالفلاسفة وهي أي صفة العلم له سبحانه إمام أئمة الصفات فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
(ولا يحيطون بشيء من علمه) قد تقدم معنى الإحاطة، والعلم هنا بمعنى المعلوم أي لا يحيطون بشيء من معلوماته (إلا بما شاء) أن يطلعهم عليه بأخبار الأنبياء والرسل ليكون دليلاً على نبوتهم؛ وليس ذلك إليهم بل إليه.
(وسع كرسيه) ويقال فلان يسع الشيء سعة إذا احتمله وأمكنه القيام به، وأصل الكرسي في اللغة مأخوذ من تركب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض، وفي العرف ما يجلس عليه، والكرسي هنا الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك.
_________
(١) انظر/شرح العقيدة الطحاوية.
92
وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة. وأخطأوا في ذلك خطأً بيناً وغلطوا غلطاً فاحشاً.
وقال بعض السلف: إن الكرسي هنا عبارة عن العلم قالوا: ومنه قيل للعلماء كراسي، ومنه الكراسة التي يجمع فيها العلم، ورجح هذا القول ابن جرير المجري، وفي القاموس الكرسي بالضم والكسر السرير والعلم. والجمع كراسي، وقيل كرسيُّه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض كما يقال اجعل لهذا الحائط كرسياً أي ما يعمده، وقيل إن الكرسي هو العرش وقيل هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له.
وقال التفتازاني: إنه من باب إطلاق المركب الحسي المتوهم على المعنى العقلي المحقق، وقال البيضاوي: لا كرسي في الحقيقة ولا قاعد وهو تمثيل مجرد، وقيل هو عبارة عن الملك والسلطان مأخوذ من كرسي العالم والملك.
والحق القول الأول ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات جاءت عن الفلاسفة أقمأهم الله تعالي.
والمراد بكونه وسع (السموات والأرض) أنها صارت فيه وأنه وسعها ولم يضق عنها لكونه بسيطاً واسعاً، وأخرج الدارقطني في الصفات والخطيب في تاريخه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله وسع كرسيه قال: " كرسيه موضع قدمه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " وأخرجه الحاكم وصححه (١).
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عن أبي
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٢٨٢.
93
ذر الغفاري أنه سأل رسول الله ﷺ عن الكرسي فقال رسول الله - ﷺ -: والذي نفسي بيده ما السموات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " (١).
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً أنه موضع القدمين وفي سنده الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك.
وقد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم في وصف الكرسي آثار لا حاجة في بسطها.
(ولا يؤوده حفظهما) معناه لا يثقله ولا يجهده ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض، يقال آدَنيِ بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة، وقال الزجاج: يحتمل أن يكون الضمير في قوله يؤوده لله سبحانه، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله.
(وهو العلي العظيم) العلي يراد به علو القدر والمنزلة أي الرفيع فوق خلقه ليس فوقه شيء وقيل العلي بالملك والسلطنة والقهر فلا أعلى منه أحد، وقيل علا من أن يحيط به وصف الواصفين ذو العظمة والجلال الذي كمل في عظمته.
وحكى الطبري عن بعضهم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين وكان الواجب أن لا يحكى انتهى.
والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف والخلف، والنزاع فيه كائن
_________
(١) أخرجه الآجري وأبو حاتم البُسْتي في صحيح مسندة والبيهقي وذكر أنه صحيح.
94
بينهم والأدلة من الكتاب والسنة طافحة بها، ولكن الناشىء على مذهب يرى غيره خارجاً عن الشرع، ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها الكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، ويتبين به الصحيح من الفاسد، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض.
ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على القاهر الغالب أيضاً كما في قوله (إن فرعون علا في الأرض) والعظيم بمعنى عظم شأنه وخطره.
قال في الكشاف: إن الجملة الأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه والثانية بيان لكونه مالكاً لما يدبره، والجملة الثالثة بيان لكبرياء شأنه والجملة الرابعة بيان لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والجملة الخامسة بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره انتهى.
وبالجملة فهذه الآية قد اشتملت على أمهات المسائل الإلهية فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الإلوهية متصف بالحياة الأزلية الأبدية، واجب الوجود لذاته موجد لغيره، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره منزّه عن التحيز والحلول، مبرّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوس والأرواح، مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع، وذو البطش الشديد الذي لا يشفع أحد عنده كائناً من كان إلا من أذن له الرحمن، عالم بالأشياء كلها جليها وخفيها كُلّيها وجزئيها، واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه، لا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن، متعال عن الخلق، مباين عن العالم مستو على العرش، عليّ الذات سمي الصفات كبير الشأن جليل القدر رفيع الذكر مطاع الأمر جلي البرهان عليّ عما يدركه القياس والظن والوهم عظيم لا يحيط به عالم الخلائق والفهم.
ولذلك قد ورد في فضل هذه الآية أحاديث فأخرج أحمد ومسلم واللفظ
95
له عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأله: أي آية من كتاب الله أعظم قال: آية الكرسي قال: " ليهنك العلم أبا المنذر ".
وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم في صفّة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الله لا اله إلا هو الحي القيوم) الآية.
وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا وخرج منه، آية الكرسي " قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في هاتين الآيتين (الله لا إله إلا هو الحي القيوم، والم، الله لا إله إلا هو) " إن فيهما اسم الله الأعظم ".
وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه وورد أيضاً في فضل قراءتها دُبر الصلوات وفي غير ذلك، وورد أيضاً مع مشاركة غيرها لها أحاديث في فضلها، وورد عن السلف في ذلك شيء كثير (١).
_________
(١) في البخاري عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان، وذكر
قصة وفيها: فقلت يا رسول الله، زعم أنه يعلِّمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: " ما هي "؟ قلت قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم " الله لا إله إلا هو الحي القيوم ". وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة "؟ قال: لا؛ قال: " ذاك شيطان ".
96
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
وقد اختلف أهل العلم في قوله (لا إكراه في الدين) على أقوال:
الأول: أنها منسوخة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا الإسلام، والناسخ لها قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) وقال تعالى (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين.
القول الثاني: أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وإنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاك.
القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصة.
القول الرابع: أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره فلا إكراه في الدين.
القول الخامس: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام.
وقال ابن كثير في تفسيره أى لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على
97
الدخول فيه، بل من هداه الله إلى الإسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً (١)، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً.
وقال في الكشاف في تفسير هذه الآية أي لم يُجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ولكن على التمكن والإختيار، ونحوه قوله (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكن لم يفعل وبنى الأمر على الأختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً.
والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمه غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت يهود بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فنزلت، أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس.
وقد وردت هذه القصة من وجوه حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا إنما جعلناهم على دينهم أي دين اليهود ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم، فلما نزلت خيّر الأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكرههم على الإسلام.
وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية، وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم لأن النكرة في سياق النفي وتعريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خصص هذا العموم بما ورد في الآيات من إكراه
_________
(١) ابن كثير ١/ ٣١٠.
98
أهل الحرب من الكفار على الإسلام.
وقد قيل هذه الآية إلى (خالدون) من بقية آية الكرسي، والتحقيق أن هذه الآية مستأنفة جيء بها إثر بيان صفات الباري المذكورة إيذاناً بأن من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإكراه في الدين بل يختار الدين الحق من غير تردد.
(قد تبيّن الرشد من الغيّ) الرشد هنا الإيمان، والغي الكفر أي قد تميز أحدهما من الآخر، وأصل الغي بمعنى الجهل إلا أن الجهل في الاعتقاد والغي في الأعمال، وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله.
(فمن يكفر بالطاغوت) الطاغوت فعلوت من طغى يطغى ويطغو، إذا جاوز الحد، قال سيبويه: هو اسم مذكر مفرد أي اسم جنس يشمل القليل والكثير قاله سيبويه، وقال أبو علي الفارسي إنه مصدر كرهبوت وجبروت يوصف به الواحد والجمع.
وقيل أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من مخير اشتقاق، وقال المبرد هو جمع، قال ابن عطية وذلك مردود.
قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والساحر والشيطان وكل رأس في الضلال وكل ما عبد من دون الله وقد يكون واحداً، قال تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) وقد يكون جمعاً، قال تعالى (أولياؤهم الطاغوت) والجمع الطواغيت أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورؤس الضلالة أو بالجميع.
(ويؤمن بالله) عز وجل بعدما تميز له الرشد من الغي، والحق عن الباطل والهدى عن الضلالة، وإنما قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لأن
99
الشخص ما لم يخالف الشيطان ويترك عبادة غيره تعالى لم يؤمن بالله كما قالوا إن التخلية مقدمة على التحلية.
(فقد استمسك بالعروة) هو في الأصل شد اليد وأصل المادة يدل على التعلق، ومنه عروته إذا ألمت به متعلقاً به واعتراه الهم تعلق به (الوثقى) أي فقد فاز وتمسّك بالحبل الوثيق المحكم، والوثقى فعلى من الوثاقة تأنيث الأوثق وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل.
وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة فقيل المراد بالعروة الإيمان، وقيل الإسلام، وقيل لا إله إلا الله، وقيل من باب الاستعارة المفردة حيث استعير العروة الوثقى للاعتقاد الحق ولا مانع من الحمل على الجميع.
(لا انفصام لها) الانفصام الانكسار من غير بينونة، قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع.
والمعنى أن المتمسك بالدين كالمتمسك بالشيء الذي لا يمكن كسره ولا انقطاعه، والجملة مستأنفة أو حالية (والله سميع عليم) يسمع قول من كفر بالطاغوت وأتى بالشهادتين، والجملة اعتراض تذييلي حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد والوعيد.
100
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)
(الله ولي الذين آمنوا) الولي فعيل بمعنى فاعل وهو الناصر (يخرجهم من الظلمات إلى النور) تفسير للولاية أو حال من الضمير في ولي، وهذا يدل على أن المراد بقوله (الذين آمنوا) الذين أرادوا الإيمان لأن من قد وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج إخراجهم من الشبهة التي تعرض المؤمنين فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة، قيل كل ما في القرآن من الظلمات والنور فالمراد به الكفر والإيمان غير الذي في سورة الأنعام فالمراد به الليل والنهار، وإفراد النور لوحدة الحق، وجمع الظلمات لتعدد فنون الضلال.
(والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) المراد بالنور ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم منه إلى ظلمة الكفر أي قرّرهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الحق من الأنبياء، وقيل المراد بالذين كفروا هنا الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين ورؤس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج، وقيل ذكر هذا الإخراج مشاكلة للأول أو فيمن آمن بالنبي قبل بعثته من اليهود ثم كفر به، فتلخص أن الجواب الأول بالتسليم والثاني بالمنع.
(أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يعني الكفار والطاغوت أي هم ملابسوها وملازموها بسبب ما لهم من الجرائم ماكثون فيها أبداً.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
(ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه) في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي أي ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة، وألم تر: كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ولفظها استفهام، قال الفراء: ألم تر بمعنى هل رأيت أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم وهو النمرود بن كوش ابن كنعان بن سام بن نوح، وقيل إنه النمرود بن فالخ بن شانج بن أرفخشد ابن سام، وهو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية وكان ابن زنا.
(أن آتاه الله الملك) أي لأن آتاه الله أو من أجل أن آتاه الله على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو، فحاج لذلك أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر، كما يقال عاديتني لأني أحسنت إليك.
قال مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمرود وبخت نصر، واختلفوا في وقت المحاجة فقيل لما كسر إبراهيم الأصنام وقيل بعد إلقائه في النار، وكان مدة ملكه أربعمائة سنة.
(إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت) أراد
102
إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد الكافر أنه يقدر على أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جواباً أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم لأنه أراد غير ما أراده الكافر، فلو قال له ربي الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك لبهت الذي كفر بادىء بدء وفي أول وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى أوضح منها تنفيساً لخناقه وإرسالاً لعنان المناظرة. (١)
(قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) لكون هذه الحجة لا تجري فيها الغالطة ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة وتمويهاً وتلبيساً على العوام.
(فبهت الذي كفر) بهت الرجل وبهت وبهت إذا انقطع وسكت متحيراً، وقال ابن عطية: وقد تأوّل قوم في قراءة بهت بالفتح أنه بمعنى سب وقذف وأن النمرود هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة انتهى.
وقال سبحانه (فبهت الذي كفر) ولم يقل فبهت الذي حاج إشعاراً بأن تلك المحاجة كفر، وقيل هذا الفعل من جملة الأفعال التي جاءت على صورة المبني للمفعول، والمعنى فيها على البناء للفاعل، والبهت الانقطاع والحيرة وهو مبهوت لا باهت ولا بهيت.
(والله لا يهدي القوم الظالمين) تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله.
_________
(١) وقال ابن الجوزي تعليقاً على هذا الموضوع: إن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمراً يدل على ضعف فهمه فإنه عارض اللفظ بمثله ونسي اختلاف الفعلين فانتقل إلى حجة أخرى قصداً لقطع المحاج لا عجزاً عن نصرة الأولى.
103
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
(أو كالذي مرّ على قرية) أي ألم تر إليه كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود.
واختلف في ذلك المار فروى عن مجاهد أنه كان كافراً شكّ في البعث، وهذا ضعيف جداً لقوله (كم لبثت) والله لا يخاطب الكافر، ولقوله (ولنجعلك آية للناس) وهذا لا يستعمل في حق الكافر.
وقال ابن عباس، وعبد الله بن سلام وسليمان وبريدة والضحاك وقتادة وعكرمة والسدي: هو عزيز بن شرخيا، وقال ابن عبيد ووهب بن منبه: هو أرمياء بن حلقياء من سبط هرون وهو الخضر بعينه، وعن رجل من أهل الشام أنه حزقيل.
ومقصود القصة تعريف منكري البعث قدرة الله على إحياء خلقه بعد إماتتهم لا تعريف اسم ذلك المار.
قال وهب وعكرمة والربيع: إن القرية هي بيت المقدس بعد تخريب بخت نصر لها، وقيل المراد بالقرية أهلها، وقيل هي القرية التي خرج أهلها من ديارهم وهم ألوف، وقال الكلبي: هي دير سابر آباد موضع بفارس، وقال السدي: سلما باد محلة أو قرية من نواحي جرجان أو همدان، وقيل دير هرقل
104
بين بصرة وعسكر مكرم على شط دجلة، والأول هو الأظهر والأشهر.
(وهي خاوية على عروشها) أي ساقطة يعني سقط السقف ثم سقطت الحيطان عليه، قاله السدي واختاره ابن جرير، وقيل معناه خالية من الناس، والبيوت قائمة، وأصل الخوى: الخلو يقال خوت الدار وخويت تخوى خواء ممدود وخوياً أقوت، والخوى أيضاً الجوع لخلو البطن عن الغذاء.
والظاهر القول الأول بدلالة قوله (على عروشها) من خوى البيت إذا سقط وخوت الأرض إذا انهدمت، قال ابن عباس: خاوية أي خراب، وقال قتادة: خاوية أي ليس فيها أحد، وقال الضحاك: العروش السقوف.
(قال) أي ذلك المار (أنىّ يحيى هذه الله بعد موتها) أي متى يحيي أو كيف يحيي، وهو استبعاد لإحيائها وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباينة لحالة الأحياء، وتقديم المفعول لكون الإستبعاد ناشئاً من جهته لا من جهة الفاعل، وقيل: قال ذلك استعظاماً لقدرته تعالى، قاله السيوطي.
وعبارة أبي السعود قال: ذلك تلهفاً عليها، وتشوقاً إلى عمارتها مع استشعار اليأس منها، وعبارة البيضاوي قال: ذلك اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء..
وسبب توجعه على تلك القرية أنه كان أهلها من جملة من سباهم بخت نصر، فلما خلص من السبي وجاء ورآها على تلك الحالة توجع وتلهف.
ولما قال المار هذه المقالة مستبعداً لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه فقال (فأماته الله مائة عام) وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
105
قال ابن عطية: ليس يدخل شك في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله عن إحياء موتاها، والعام السنة أصله مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان والعوم هو السباحة سميت السنة عاماً لأن الشمس تعوم في جميع بروجها.
(ثم بعثه) أي أحياه ليريه كيفية ذلك، وإيثار البعث على الإحياء للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري تعالى كأنه بعثه من النوم، وللإيذان بأنه عاد كهيئته يوم موته عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر والاستدلال.
قال علي: فأول ما خلق الله عيناه فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض ثم كسيت لحماً ثم نفخ فيه الروح، قال علي: فأتى مدينته وقد ترك جاراً له إسكافاً شاباً فجاء وهو شيخ كبير.
(قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم) اختلف في فاعل قال فقيل هو الله عز وجل وقيل ناداه بذلك ملك من السماء قيل هو جبريل وقيل غيره، وقيل إنه نبي من الأنبياء وقيل رجل من المؤمنين من قومه شاهده عند إن أماته الله وعمر إلى حين بعثه، والأول أولى لقوله فيما بعد (وانظر إلى العظام كيف ننشزها).
وإنما قال (يوماً أو بعض يوم) بناء على ما عنده وفي ظنه فلا يكون كاذباً، ومثل قول أصحاب الكهف (قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) ومثله قوله - ﷺ - في قصة ذي اليدين " لم تقصر ولم أنس " (١) وهذا مما يؤيد قول من قال: إن الصدق ما طابق الاعتقاد والكذب ما خالفه.
وقيل إن الله أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار قبل أن تغيب الشمس، فقال (لبثت يوماً) وهو يرى أن الشمس قد غابت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال (أو بعض يوم) وقيل إن أو بمعنى بل التي للإضراب وهو قول ثابت وقيل هي للشك والأول أولى.
_________
(١) الدارمي كتاب الصلاة باب ١٧٥.
106
(قال بل لبثت مائة عام) هو استئناف أيضاً كما سلف أي ما لبثت يوماً ْأو بعض يوم بل لبثت مائة عام (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه) الطعام هو التين الذي كان معه والشراب هو العصير، والمعنى لم يتغير ولم ينتن فكان التين كأنه قد قطف من ساعته، والعصير كأنه عصر من ساعته.
أمره الله أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة، وهو عدم تغير طعامه وشرابه مع طول تلك المدة.
والتسنّه مأخوذ من السنة أي لم تمر عليه السنون أي المائة سنة لبقائه على حاله وعدم تغيره مع طول الزمان، مع أن شأنه التغير سريعاً، وأصله سنهة أو سنعة من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون، ونخلة سنّاء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى.
وقيل هو من أسن الماء إذا تغير، وكان يجب على هذا أن يقال يتأسن من قوله (حمأ مسنون) قاله أبو عمرو الشيباني، وقال الزجاج: ليس كذلك لأن قوله (مسنون) ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنه الأرض.
(وانظر إلى حمارك) اختلف المفسرون في معناه فذهب الأكثر إلى أن معناه أنظر إليه كيف تفرقت أجزاؤه ونخرت عظامه وتقطعت أوصاله، ثم أحياه الله وعاد كما كان لتشاهد كيفية الإحياء، فالنظران مختلفان، وقال الضحاك ووهب بن منبه: أنظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء بعد أن مضت عليه مائة عام.
ويؤيد القول الأول قوله تعالى (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) ويؤيد القول الثاني مناسبته لقوله (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه).
وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه وشرابه بعد إخباره أنه لبث مائة عام، مع أن عدم تغير ذلك الطعام والشراب لا يصلح أن يكون دليلاً على تلك المدة الطويلة، بل على ما قاله من لبثه يوماً أو بعض يوم، لزيادة استعظام ذلك الذي أمات تلك المدة، فإنه إذا رأى طعامه وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظن
107
أنه لم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم، زادت الحيرة وقويت عليه الشبهة، فإذا نظر إلى حماره عظاماً نخرة تقرر لديه أن ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول، فإن الطعام والشراب سريع التغير، وقد بقي هذه المدة الطويلة غير متغير، والحمار يعيش المدة الطويلة وقد صار كذلك فتبارك الله أحسن الخالقين.
(ولنجعلك آية للناس) وعبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله الفراء، وقال الأعمش: كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات فوجد الأبناء والحفدة شيوخاً.
(وانظر إلى العظام كيف ننشزها) قرأ الكوفيون بالزاي والباقون بالراء، وقد أخرج الحاكم وصححه عن زيد بن ثابت أن رسول الله - ﷺ - قرأ كيف ننشزها فمعنى القراءة بالزاي نرفعها ومنه النشز، وهو المرتفع من الأرض أي نرفع بعضها إلى بعض، وأما معنى القراءة بالراء فواضحة من أنشر الله الموتى أي أحياهم.
(ثم نكسوها لحماً) أي نسترها به كما يستر الجسد باللباس، واستعار اللباس لذلك ولعل عدم التعرض لنفخ الروح لما أن الحكمة لا تقتضي بيانه.
(فلما تبين له) ما تقدم ذكره من الآيات التي أراه الله سبحانه وأمره بالنظر إليها والتفكر فيها التي استغربها، قال ابن جرير: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه من إحياء القرية.
وقال الزمخشري: ما أشكل عليه يعني من أمر الإحياء، والأول أولى لأن قوة الكلام تدل عليه بخلاف الثاني.
(قال أعلم) أي علم مشاهدة بعد العلم اليقيني الحاصل بالفطرة والأدلة العقلية، قال أبو علي الفارسي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته (أن الله على كل شيء قدير) لا يستعصي عليه شيء من الأشياء، ويدخل تحته الإماتة والإحياء دخولاً أولياً.
108
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
(وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) إذ ظرف منصوب بفعل محذوف أي اذكر وقت قول إبراهيم، وإنما كان الأمر بالذكر موجهاً إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف.
وقوله " ربّ " آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء، قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب، وإنما أراد رؤية العين، وكذا قال غيره ولا يصح أن يراد به الرؤية القلبية هنا لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة.
(قال أو لم تؤمن) أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءَته (قال بلى) علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك (ولكن) سألت (ليطمئن قلبي) باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان.
وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أُخبرت عنه، ولهذا قال النبي - ﷺ -: ليس الخبر كالمعاينة (١).
_________
(١) قال ابن عباس: والمعنى: أرني لأعلم إنك تجيبني إذا دعوتك. والله أعلم.
109
وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله، واستدلوا بما صح عنه - ﷺ - في الصحيحين وغيرهما من قوله " نحن أحق بالشك من إبراهيم، وبما روى عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن عندي آية أرجى منها. أخرجه عنه الحاكم وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له.
قال ابن عطية وهو عندي مردود يعني قول هذه الطائفة ثم قال: وأما قول النبي - ﷺ -: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى أن لا يشك ".
فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم.
وأما قول ابن عباس: هي أرجى آية فمن حيث أن فيها الإدلال على الله وسؤال الإحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك.
ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله (أو لم تؤمن) أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث، قال: فالشك يبعد على من ثبت قدمه بالإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلّة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً.
وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكاً، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول نحو قولك: كيف علم زيد، وكيف نسج الثوب، ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله.
وقد يكون كيف خبراً عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، وهي في هذه الآية استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض
110
المنكرين لوجود شيء قد يعبّرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح.
مثال ذلك أن يقول مدّع أنا أرفع هذا الجبل فيقول المكذب له أرني كيف ترفعه، فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل، كأنه يقول افرض أنك ترفعه.
فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له (أو لم تؤمن قال بلى) فكمل الأمر وتخلص من كل شيء ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
قال القرطبي: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث.
وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقال اللعين (إلا عبادك منهم المخلصين) وإذا لم تكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها.
فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين.
فقوله (ربِّ أرني كيف) طلب مشاهدة الكيفية، قال الماوردي: وليست الألف في قوله (أو لم تؤمن) ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير، والواو واو الحال، وتؤمن معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فصل إحياء الموتى، والطمأنينة اعتدال وسكون، وقال ابن جرير: ليوقن قلبي.
(قال فخذ أربعة من الطير) أي إن أردت ذلك فخذ، والطير اسم جمع
111
لطائر كركب لراكب وهو مذهب أبي الحسن أو جمع نحو تاجر وتجر أو مصدر قاله أبو البقاء: وخص الطير بذلك قيل لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان شبهاً في تدوير الرأس والمشي على الرجلين، وقيل إن الطير همته الطيران في السماء، والخليل كانت همته العلو.
وقيل غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير، وكل هذه لا تسمن ولا تغني من جوع وليست إلا خواطر أفهام، وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوهاً لكلام الله وعللاً لما يرد في كلامه.
وهكذا قيل ما وجه تخصيص هذا العدد فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد، فقيل إن الخليل إنما سأل واحداً على عدد العبودية فأعطي أربعاً على قدر الربوبية، وقيل الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي يتركب منها أركان الحيوان، ونحو ذلك من الهذيان.
قال ابن عباس: والطير الذي أخذ وز ودال وديك وطاوس، وروي نحوه عن قتادة والحسن وعنه قال الغرنوق والطاوس والديك، والحمامة، وقال مجاهد الغراب بدل الغرنوق.
(فصرهن إليك) أي اضممهن إليك وأملهن واجمعهن يقال رجل أصور إذا كان مائل العنق ويقال صار الشيء يصوره يصيره أماله أو قطعه، فاللغتان لفظ مشترك بين هذين العنيين والقراءتان تحتملهما معاً، وقرىء فصرهن بضم الصاد وكسرها وقيل معناه قطعهن، وبه قال ابن عباس، وبالنبطية مزقهن وشققهن، وعنه قال أوثقهن.
(ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً) فيه الأمر بالتجزئة لأن جعل كل جزء على جبل يستلزم تقدم التجزئة، قال الزجاج: المعنى ثم اجعل على كل
112
جبل من كل واحد منهن جزءاً، والجزء النصيب، واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال وليس في ذكر ذلك كثير فائدة.
(ثم ادعهن) أي قل لهن تعالين بإذن الله تعالى (يأتينك) إتياناً سريعاً (سعياً) أي مشياً سريعاً. والمراد بالسعي الإسراع في الطيران أو المشي وقيل السعي هو الحركة الشديدة، وقيل العدو، وقيل الطيران، وفيه أنه لا يقال للطائر إذا طار سعى، فالحكمة في السعي دون الطيران أن ذلك أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطيور، أو أن أرجلها غير سليمة فنفى الله تعالى هذه الشبهة (واعلم أن الله عزيز حكيم) في صنعه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: وضعهن على سبعة أجبل وأخذ الرؤوس بيده فجعل ينظر إلى القطرة تلقى القطرة والريشة تلقى الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رؤوس فجئن إلى رؤوسهن فدخلن فيها، وناهيك بالقصة دليلاً على فضل الخليل وحسن الأدب في السؤال، حيث أراه ما سأل في الحال، وأرى العُزَيْر ما أراه بعد إماتته مائة عام (١).
_________
(١) قال ابن عباس: فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعاً صغاراً، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وامسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولاً وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعياً، أي عدواً على أرجلهن. وقد ذكر القرطبي القصص عن المفسرين في ماهية الطيور وكيفية جمعها.
113
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) قيل المراد به الإنفاق في الجهاد وقيل في جميع وجوه البر فيدخل فيه الواجب والتطوع (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) المراد بالسبع السنابل هي التي تخرج في ساق واحد يتشعب منه سبع شعب في كل شعبة سنبلة، والحبة اسم لكل ما يزدرعه ابن آدم، وقيل المراد بالسنابل هنا سنابل الذرة والدخن فهو الذي يكون منهما في السنبلة هذا العدد.
وقال القرطبي: إن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر على ما شاهدنا، قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر.
وقال الطبري: إن قوله في كل سنبلة مائة حبة معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن يفرضه والذي ينبغي الاعتماد عليه في هذه الآية وأمثالها أن المقصود بها مجرد تمثيل زيادة الأجر وكثرة الثواب دون وجود ذلك.
(والله يضاعف لمن يشاء) يحتمل أن يكون المراد يضاعف هذه المضاعفة
114
لمن يشاء أو يضاعف هذا العدد فيزيد عليه أضعافه لمن يشاء لا لكل الناس، وهذا هو الراجح لما سيأتي.
وقد ورد القرآن بأن الحسنة بعشر أمثالها (١)، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، فيبنى العام على الخاص، وهذا بناء على أن سبيل الله هو الجهاد فقط، وأما إذا كان المراد به وجوه الخير فيخص هذا التضعيف إلى سبعمائة بثواب النفقات ويكون العشرة الأمثال فيما عدا ذلك (والله واسع عليم).
أخرج مسلم وأحمد والنسائي والحاكم والبيهقي: عن ابن مسعود: " أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول الله - ﷺ -: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة " (١).
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف " (٢) وأخرجه البخاري في تاريخه من حديث أنس.
وأخرجه أحمد من حديث أبي عبيدة وزاد " من أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً فالحسنة بعشر أمثالها ".
وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم من حديث عمران بن حصين وعلي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة وابن عمر وجابر كلهم يحدّث عن رسول
_________
(١) أخرجه مسلم عن ابن مسعود.
(٢) مسلم عن أبي هريرة مثله.
115
الله - ﷺ - " من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم " (١) ثم تلا هذه الآية (والله يضاعف لمن يشاء).
وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " (٢) وأخرجه أيضاً مسلم.
وأخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله - ﷺ - قال: طوبى لمن أكثر في الجهاد في سبيل الله من ذكر الله فإن له بكل كلمة سبعين ألف حسنة منها عشرة أضعاف ".
وقد وردت الأحاديث الصحيحة في أجر من جهّز غازياً (٣).
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن الصلاة والصوم والذكر يضاعف عن النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف " (٤).
وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه عن بريدة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف " (٥).
_________
(١) أحمد ٥/ ٣٢٩.
(٢) أحمد في مسنده ٢/ ٤٤٣ - ٢/ ٤٧٧.
(٣) أحمد في مسنده ٥/ ٣٥٥.
(٤) روى مسلم في صحيحه ١٨٩٥.
من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا وفي رواية: ومن خلَّف غازياً في أهله فقد غزا.
(٥) ضعيف الجامع الصغير/١٤٩٣.
116
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
117
(الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) هذه الجملة متضمنة لبيان كيفية الإنفاق الذي تقدم أي هو إنفاق الذين ينفقون، قيل نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، وأما عبد الرحمن فجاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلا رسول الله - ﷺ -.
(ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى) المن هو ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، وقيل المن التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه، والمن من الكبائر كما ثبت في صحيح مسلم (١) وغيره أنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم.
والأذى السب والتطاول والتشكي، قال في الكشاف: ومعنى (ثم) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وإنّ تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الإستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله (ثم استقاموا) انتهى.
فثم على هذا للتراخي في الرتبة، وقيل هو على بابه للتراخي في الزمان نظراً للغالب من أن وقوع المن والأذى يكون بعد الإنفاق بمدة، وقدَّم المنَّ على الأذى لكثرة وقوعه، ووسط كلمة " لا " للدلالة على شمول النفي لاتباع كل واحد منهما.
(لهم أجرهم) يعني ثوابهم في الآخرة (عند ربهم) فيه تأكيد وتشريف
_________
(١) مسلم ١٠٦.
117
(ولا خوف عليهم) يعني يوم القيامة (ولا هم يحزنون) يعني على ما خلّفوا من الدنيا، وظاهر الآية نفي الخوف عنهم في الدارين كما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول، وكذلك نفي الحزن يفيد دوام انتفائه عنهم.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة في النهي عن المن والأذى وفي فضل الإنفاق في سبيل الله وعلى الأقارب وفي وجوه الخير، ولا حاجة إلى التطويل بذكرها فهي معروفة في مواطنها.
قال عبد الرحمن بن يزيد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فلا تسلم عليه، والعرب تمدح بترك المن وكتم النعمة وتذم على إظهارها والمن بها، والأذى ما يصل إلى الإنسان من ضرر بقول أو فعل، والمراد هنا أن يشكو منهم بسبب ما أعطاهم.
118
(قول معروف) قيل الخبر محذوف أي أولى وأمثل، ذكره النحاس، قال: ويجوز أن يكون خبراً عن مبتدأ محذوف أي الذي أمرتم به قول معروف أي كلام حسن ورد جميل على الفقير السائل، وقيل عِدَة حسنة توعده بها وقيل دعاء صالح تدعو له بظاهر الغيب.
(ومغفرة) له في الحاجة مبتدأ أيضاً وخبره (خير من صدقة) وجاز الإبتداء بالنكرتين لأن الأولى تخصصت بالوصف والثانية بالعطف والمعنى أن القول المعروف من المسؤول للسائل، وهو التأنيس والترجية بما عند الله والرد الجميل خير من الصدقة التي (يتبعها أذى) وقد ثبت في صحيح مسلم عنه - ﷺ - " الكلمة الطيبة صدقة " (١) وأن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق.
_________
(١) مسلم ٢٢٢٤.
118
والمراد بالمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج والعفو عن السائل إذا صدر منه من الإلحاح ما يكدّر صدر المسؤول، وقيل إن المراد أن العفو من جهة السائل لأنه إذا رده رداً جميلاً عذره، وقيل المراد فعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة أي غفران الله خير من صدقتكم.
وهذه الجملة مستأنفة مقررة لترك اتباع المن والأذى للصدقة (١)، قال الضحاك: قول معروف رد جميل تقول يرحمك الله ويرزقك الله ولا تنهره ولا تغلظ له القول، وعن عمرو بن دينار قال: بلغنا أن النبي - ﷺ - قال: " ما من صدقة أحب إلى الله من قول الحق " ألم تسمع قول الله (قول معروف) الآية أخرجه ابن أبي حاتم.
(والله غني) عن صدقة العباد لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤنة المن والأذى ويرزقهم من جهة أخرى (حليم) بتأخير العقوبة عن المانّ والموذي لا يعاجلهم بها لا أنهم لا يستحقونها بسببهما، والجملة تذييل لما قبله مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعاً.
_________
(١) زاد المسير ١٥١.
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ". المسبل هو الذي يسبل إزاره أو ثيابه أو قميصه أو سراويله حتى تكون إلى القدمين، لأنه ﷺ قال. " ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار " وفي الحديث أيضاً: " ثلاثة لا يدخلون الجنة، العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان " رواه النسائي وفيه أيضاً: " لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان " والخب هو المكر والخديعة، والمنان هو الذي يعطي شيئاً أو يتصدق به ثم يمن به. وجاء عن النبي ﷺ أنه قال: إياكم والمن بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر، ثم تلا رسول الله ﷺ قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى).
119
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤)
(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم) يعني أجورها والإبطال للصدقات إذهاب أثرها وإفساد منفعتها، أي لا تبطلوها (بالمنّ والأذى) أو بأحدهما يعني على السائل الفقير، وقال ابن عباس: بالمن على الله والأذى لصاحبها. قال بعضهم: ذهب أجره فلا أجر له ولا وزر عليه، وقال بعضهم: له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن، قال الكرخي: وهذا أوجه وقال بعضهم: لا أجر له في نفقته وعليه وزر فيما مَنَّ على الفقير.
(كالذي) أي كإبطال الذي (ينفق ماله رئاء الناس) أي لأجل الرياء أو مرائياً لا يقصد بذلك وجه الله وثواب الآخرة بل يفعل ذلك رياء للناس وسمعة واستجلاباً لثنائهم عليه ومدحهم له، قيل والمراد به المنافق بدليل قوله (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) قال ابن عباس: لا يدخل الجنة منان، وذلك في كتاب الله يعني هذه الآية.
(فمثله) أي مثل الذي ينفق رئاء الناس أو المان المعطي وقد عدل من خطاب إلى غيبة ومن جمع إلى إفراد (كمثل صفوان) الصفوان الحجر الكبير الأملس الصلب، وفيه لغتان أشهرهما سكون الفاء والثانية فتحها، وبها قرأ ابن المسيب والزهري وهي شاذة، وقال الأخفش: صفوان جمع صفوانة، وقال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صفى واصفى وأنكره المبرد، وقال النحاس: يجوز أن يكون جمعاً وأن يكون واحداً وهو أولى لقوله (عليه تراب) أي استقر على الصفوان (فأصابه) أي الصفوان أو التراب (وابل) أي مطر، والوابل
120
المطر الشديد العظيم القطر، والمطر أوله رشّ ثم طشّ ثم طلّ ثم نضح ثم هطل ثم وبل، يقال وبلت السماء وبلاً، ووبولاً اشتد مطرها، وكان الأصل وبل مطر السماء فحذف للعلم به ولهذا يقال للمطر وابل.
مثل الله سبحانه هذا المنافق بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب (فتركه) أي الصفوان يعني بقي (صلداً) أي أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه، وأملس ليس عليه شيء من الغبار أصلاً، وكذلك حال هذا المرائي يوم القيامة فإن نفقته لا تنفع، قال ابن عباس صلداً أي يابساً جاسياً لا ينبت شيئاً.
(لا يقدرون على شيء مما كسبوا) أي على ثواب شيء مما عملوا في الدنيا، مستأنفة كأنه قيل ماذا يكون حالهم فقيل لا يقدرون الخ (والله لا يهدي القوم الكافرين) يعني الذي سبق في علمه أنهم يموتون على الكفر، وفيه تعريض بأن المن والأذى والرياء من خصال الكفار.
وعن محمود بن لبيد أن رسول الله - ﷺ - قال: " إنما أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر، قال: الرياء يقال لهم يوم تجازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم خيراً " رواه البغوي بسنده (١).
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري وتركته وشركه ".
_________
(١) وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى رجل وهو يطأطيء رقبته، فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب. وقيل: إن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو، فقال له أبو أمامة: أنت، أنت، لو كان هذا في بيتك!
121
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله) ابتغى معناه طلب ومرضاة مصدر رضي يرضى (وتثبيتاً) معناه يثبتون (من أنفسهم) ببذل أموالهم على الإيمان وسائر العبادات رياضة لها وتدريباً وتمريناً أو يكون التثبيت بمعنى التصديق أي تصديقاً للإسلام ناشئاً من جهة أنفسهم.
وقد اختلف السلف في معنى هذا الحرف فقال الحسن ومجاهد معناه أنهم يثبتون أن يضعوا صدقاتهم، وقال بعضهم: معناه تصديقاً ويقيناً، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل معناه احتساباً من أنفسهم؛ قاله قتادة، وقيل معناه أن أنفسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتاً قاله الشعبي والسدي وابن زيد وأبو صالح، وهذا أرجح مما قبله، يقال ثبت فلاناً في هذا الأمر أثبته تثبيتاً أي صححت عزمه.
(كمثل جنة بربوة) الجنة البستان وهي أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، مأخوذ من لفظ الجن والجنين لاستتارها، وقال أبو السعود الجنة تطلق على الأشجار الملتفة المتكاتفة وعلى الأرض المشتملة عليها، والأول أولى، لأجل قوله بربوة، والربوة بالحركات الثلاث المكان المرتفع ارتفاعاً يسيراً، وإنما خص الربوة لأن نباتها يكون أحسن من غيره مع كونه لا يصطلمه البرد في الغالب لجودته وكرمه ولطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له.
قال الطبري: وهي أرض الحزن التي تستكثر العرب من ذكرها، واعترضه ابن عطية فقال: إن رياض الحزن منسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن وليست هذه المذكورة هنا من ذلك.
122
ولفظ الربوة مأخوذ من ربا يربو إذا زاد، وقال الخليل: الربوة أرض مرتفعة طيبة وقيل هي الأرض المستوية الجيدة الطيبة إذا أصابها المطر انتفخت وربت وكثر ريعها وحملت أشجارها.
(أصابها وابل) قال الخليل: الوابل المطر الشديد يقال وبلت السماء تبل والأرض موبولة، قال الأخفش: ومنه قوله تعالى (أخذاً وبيلاً) أي شديداً، وضرب وبيل وعذاب وبيل، قال بعضهم.
ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل
أراد بالحزن ما غلظ وارتفع من الأرض (فآتت أكلها) بضم الهمزة الثمرة التي تؤكل كقوله تعالى: (تؤتى أكلها كل حين) وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الفرس وباب الدار (ضعفين) أي مثل ما كانت تثمر بسبب الوابل، فالمراد بالضعف المثل وقيل أربعة أمثال.
(فإن لم يصبها وابل فطل) أي فإن الطل يكفيها وهو الطش أي المطر الضعيف. الخفيف المستدق القطر، قال المبرد وغيره تقديره فطلّ يكفيها، وقال الزجاج: تقديره فالذي يصيبها طل والمراد أن الطل ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وقال قوم: الطل الندى، وفي الصحاح الطل أضعف المطر والجمع أطلال، قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر.
والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت متفاوتة ويجوز أن يعتبر التمثيل ما بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة، وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير والقليل، فكما أن كل واحد من المطرين يضاعف أكلها فكذلك نفقتهم جلّت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية زائدة في أجورهم.
(والله بما تعملون) أي عملاً ظاهراً قلبياً (بصير) لا يخفى عليه من شيء، وفي هذا ترغيب لهم بالإخلاص مع ترهيب من الرياء ونحوه فهو وعد ووعيد.
123
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
(أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) الود الحب للشيء مع تمنيه والهمزة الداخلة على الفعل لإنكار الوقوع، والجنة تطلق على الشجر الملتف وعلى الأرض التي فيها الشجر، والأول أولى هنا لقوله (تجري من تحتها الأنهار) بإرجاع الضمير إلى الشجر من دون حاجة إلى مضاف محذوف وأما على الوجه الثاني فلا بد من تقديره أي من تحت أشجارها، وهكذا قوله الآتي فاحترقت لا يحتاج إلى تقدير مضاف على الوجه الأول. وأما على الثاني فيحتاج إلى تقديره أي فاحترقت أشجارها.
وخص النخيل والأعناب بالذكر مع قوله: (له فيها من كل الثمرات) لكونهما أكرم الشجر وأشرف الفواكه جامعين لفنون المنافع لما فيهما من الغذاء والتفكه، وهذه الجمل صفات للجنة والنخيل اسم جمع واحده نخلة أو جمع نخل الذي هو اسم جنس، والأعناب جمع عنب الذي هو جنس واحده عنبه.
(وأصابه الكبر) الواو للحال حملاً على المعنى بتقدير قد وقيل غير ذلك وهذا أرجح، وكبر السن هو مظنة شدة الحاجة لما يلحق صاحبه من العجز عن تعاطي الأسباب، والمعنى كثرت جهات حاجاته ولم يكن له كسب غيرها.
(وله ذرية ضعفاء) حال من الضمير في " أصابه " أي والحال أن له أولاداً صغاراً عجزت عن الحركة بسبب الضعف والصغر. فإن من جمع بين كبر السن وضعف الذرية كان تحسّره على تلك الجنة في غاية الشدة (فأصابها إعصار) الإعصار الريح الشديدة المرتفعة التي تهبّ من الأرض إلى السماء
124
كالعمود، وهي التي يقال لها الزوبعة قاله الزجاج، وقال الجوهري: الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمّي الإعصار زوبعة وأم زوبعة وأبا زوبعة يقال فيه شيطان مارد، وهي ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنه عمود، وقيل هي ريح تثير سحاباً ذات رعد وبرق.
وقال ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة سميت بذلك لأنها تلتف كما يلتف الثوب المعصور، وقيل لأنها تعصر السحاب، وتجمع على أعاصير، والريح مؤنثة على الأكثر وقد تذكر على معنى الهواء، وقال ابن الأنباري: وكذا سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر.
(فيه نار فاحترقت) عطف على قوله (فأصابها) وهذه الآية تمثيل لمن يعمل خيراً ويضم ما يحبطه فيجده يوم القيامة عند شدة حاجته إليه لا يسمن ولا يغني من جوع بحال من له هذه الجنة الموصوفة وهو متصف بتلك الصفة وقال ابن عباس: ضرب الله مثلاً لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها (١).
(كذلك) أي كما بين ما ذكر من أمر النفقة المقبولة وغيرها (يبين الله لكم الآيات) قال ابن عباس: يعني في زوال الدنيا وإقبال الآخرة (لعلكم تتفكرون) أي تعتبرون.
_________
(١) وهذه الآية مثل ضربه الله سبحانه وتعالى في الحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة وفيمن قصد به ثلاثة أقوام.
١ - قوم ختم الله لهم بالفساد آخر عمرهم.
٢ - مفرطون في طاعة الله تعالى حتى الممات.
٣ - قوم مراؤن في النفقة، ينقطع عنهم نفقها وهم أحوج الناس إليها.
125
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) أي من جيّد ما كسبتم وخياره كذا قال الجمهور، وقال جماعة إن معنى الطيبات هنا الحلال، ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعاً لأن جيد الكسب ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع، وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالاً كان أو حراماً، فالحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية.
قال علي ابن أبي طالب: ما كسبتم من الذهب والفضة، وقال مجاهد: من التجارة، وقيل المواشي قيل وفيه دليل على إباحة الكسب، وفي الحديث عن المقدام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده " أخرجه البخاري.
واختلف في المراد بالإنفاق فقيل الزكاة المفروضة لأن الأمر للوجوب، وقيل صدقة التطوع وقيل الفرض والنفل جميعاً.
(ومما) أي من طيبات ما (أخرجنا لكم من الأرض) وحذف لدلالة ما قبله عليه وهي النباتات والمعادن والركاز، وقال علي: يعني من الحب والثمر وكل شىء عليه زكاة، وقال مجاهد من الثمار.
وظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض، لكن الجمهور خصصوا هذا العموم، وخصه الشافعي بما يزرعه الآدميون ويقتات اختياراً وقد بلغ نصاباً وبثمر النخل وثمر العنب، وأبقاه أبو حنيفة على عمومه
126
فأوجبها في كل ما يقصد من نبات الأرض كالفواكه والبقول والخضروات كالبطيخ والقثاء والخيار، وأوجب في ذلك العشر قليلاً كان أو كثيراً، والأول أولى وتفصيل ذلك في كتب الفروع.
(ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون) أي لا تقصدوا المال الرديء، وفي الآية الأمر بأنفاق الطيب والنهي عن إنفاق الخبيث.
وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهب آخرون إلى أنها تعم صدقة الفرض والتطوع وهو الظاهر، وسيأتي من الأدلة ما يؤيد هذا (١).
وتقديم الظرف يفيد التخصيص أي لا تخصوا الخبيث بالإنفاق أي لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به قاصرين له عليه.
أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه وغيرهما عن البراء بن عازب قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفّة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر، والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله هذه الآية، وفي الباب أحاديث.
_________
(١) وروى النسائي عن أبي امامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) قال: هو الجعرور ولون حبيق؛ فنهى رسول الله ﷺ أن يؤخذا في الصدقة؛ وروى الدارقطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: أمر رسول الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السحل بكبائس -قال سفيان: يعني الشيص- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جاء بهذا "؟! وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به. فنزلت: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون).
127
وعن علي قال: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون فأنزل الله هذه الآية. (١)
(ولستم بآخذيه) أي والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات، هكذا بيّن معناه الجمهور، وقيل معناه ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع (إلا أن) أي بأن (تغمضوا فيه) هو من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل ورضي ببعض حقه وتجاوز وغض بصره عنه.
وقرىء بفتح التاء وكسر الميم مخففاً، وقرىء بضم التاء وكسر الميم مشددة، والمعنى على الثانية إلا أن تهضموا سومها من البائع منكم، وعلى الثالثة إلا أن تأخذوا بنقصان، قال ابن عطية: وقراءة الجمهور وهي الأولى تخرج على التجاوز أو على تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض، أو على أن " إلا " بمعنى حتى أي حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك، والإغماض يطلق على كل من التساهل في الشيء وأطباق جفن العين.
وإذا عرفت هذا عرفت أن لا حاجة لدعوى المجاز والكناية التي قالها بعضهم. والمعنى لستم بآخذيه في حال من الأحوال إلا في حال الإغماض.
(واعلموا أن الله غني) عن صدقاتكم لم يأمركم بالتصدق لعوز واحتياج إليها بل لنفعكم بها واحتياجكم لثوابها فينبغي لكم أن تتحروا فيها الطيب (حميد) محمود في أفعاله على كل حال من التعذيب والإثابة.
_________
(١) وكان يقول: لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء " فكان الصحابة بعد ذلك يأتون بصالح ما عندهم " رواه ابن أبي حاتم والترمذي.
128
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)
129
(الشيطان يعدكم الفقر) قد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه، ويعدكم معناه يخوفكم بالفقر لئلا تنفقوا، فهذه الآية متصلة بما قبلها وقرىء الفقر بضم الفاء وهي غلة، قال الجوهري: والفقر لغة في الفقر مثل الضعف والضعف (ويأمركم بالفحشاء) أي الخصلة الفحشاء وهي المعاصي والإنفاق فيها، والبخل عن الإنفاق في الطاعات، قال في الكشاف: والفاحش عند العرب البخيل انتهى.
ولكن العرب وإن أطلقته على البخيل فذلك لا ينافي إطلاقهم على غيره من المعاصي، وقد وقع كثيراً في كلامهم، والمعنى يحسن لكم البخل ومنع الزكاة والصدقة، قال الكلبي: كل فحشاء في القرآن فالمراد به الزنا إلا هذا الموضع.
(والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً) بسبب الإنفاق كقوله (إن الحسنات يذهبن السيئآت) وقوله (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيد فقد يقيد تارة بالخير وتارة بالشر، ومنه قوله تعالى (النار وعدها الله الذين كفروا) ومنه أيضاً ما في هذه الآية من تقييد وعد الشيطان بالفقر وتقييد وعد الله سبحانه بالمغفرة والفضل.
والمغفرة الستر على عباده في الدنيا والآخرة لذنوبهم وكفارتها، والفضل أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا فيوسع لهم في أرزاقهم وينعم عليهم في الآخرة بما هو أفضل وأكثر وأجل وأجمل.
(والله واسع) أي غني قادر على إغنائكم وإخلاف ما تنفقونه (عليم) بإنفاقكم لا تخفى عليه خافية.
129
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان لأن يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر أعط ممسكاً تلفاً " أخرجه الشيخان وفي الباب أحاديث.
130
(يؤتي الحكمة من يشاء) الحكمة هي العلم وقيل الفهم، وقيل الإصابة في القول، ولا مانع من الحمل على الجميع شمولاً أو بدلاً، وقيل إنها النبوة وقيل الخشية وقيل العقل، وقيل الورع، وقيل المعرفة بالقرآن وقيل الفقه في الدين وقيل التفكر في أمر الله وقيل طاعة الله والعمل بها.
وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتفاق في عمل أو قول، وكل ما ذكر هو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله تعالى حكمة، وسنة نبيه - ﷺ - حكمة، وأصل الحكمة ما يمنع من السفه وهو كل قبيح.
وعن ابن عباس قال: الحكمة المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومُحكَمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله.
وعنه قال إنها القرآن، يعني تفسيره، وعنه إنها الفقه في القرآن، وعن أبي الدرداء إنها قراءة القرآن والتفكر فيه، وعن أبي العالية هي الكتاب والفهم به، وبه قال النخعي، وعن مجاهد هي الكتاب يؤتي إصابته من يشاء، وعنه قال: هي الإصابة في القول، وعن أبي العالية ومطر الوراق قال هي الخشية.
(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) قرىء ومن يؤت الحكمة على البناء للفاعل، وقراءة الجمهور على البناء للمفعول أي من أعطاه الله الحكمة أي العلم النافع المؤدي إلى العمل الصالح فقد أعطاه خيراً عظيماً قدره، جليلاً خطره، لمصيره إلى السعادة الأبدية، والتنكير للتعظيم.
(وما يذّكر إلا أولوا الألباب) أي الذين عقلوا عن الله أمره ونهيه،
130
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
والألباب العقول واحدها لبّ، وقد تقدم الكلام فيه، وفيه من الترغيب في المحافظة على الأحكام الواردة في شأن الإنفاق ما لا يخفى، والجملة إما حال وإما اعتراض تذييلي.
131
(وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) ما شرطية ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي الذي أنفقتموه، وهذا بيان لحكم كلي عام يشمل كل صدقة مقبولة وغير مقبولة، وكل نذر مقبول وغير مقبول، وفيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول، والوعيد لمن جاء بعكس ذلك.
ووحّد الضمير مع كونه مرجعه شيئين هما النفقة والنذر لأن التقدير: وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلمها أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، ثم حذف أحدهما استغناء بالآخر، قاله النحاس.
وقيل إنما كان العطف فيه بكلمة " أو " كما في قولك زيد أو عمرو، فإنه يقال أكرمته ولا يقال أكرمتهما.
والأولى أن يقال إن العطف بأو يجوز فيه الأمران: توحيد الضمير كما في هذه الآية وفي قوله تعالى (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) وقوله (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً) وتثنيته كما في قوله تعالى (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما).
131
ومن الأول في العطف بالواو قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها.)
وقيل إذا وحّد الضمير بعد ذكر شيئين أو أشياء فهو بتأويل المذكور أي فإن الله يعلم المذكور، وبه جزم ابن عطية ورجحه القرطبي، وذكر معناه كثير من النحاة في مؤلفاتهم.
(وما للظالمين) أنفسهم بما وقعوا فيه من الإثم بمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير (من أنصار) ينصرونهم ويمنعونهم من عقاب الله بما ظلموا به أنفسهم، والأولى الحمل على العموم من غير تخصيص بما يفيده السياق أي ما للظالمين بأي مظلمة كانت من أنصار.
وقد ثبت عن النبي - ﷺ - في نذر الطاعة والمعصية في الصحيح وغيره ما هو معروف كقوله - ﷺ -: " لا نذر في معصية الله " (١) وقوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " (٢) وقوله: " النذر ما ابتغى به وجه الله " (٣) وثبت عنه في كفارة النذر ما هو معروف.
_________
(١) صحيح الجامع ٧٤٢٢/مسلم ٧٨/ ٧٩.
(٢) صحيح الجامع ٦٤٤١.
(٣) روي بمعناه النسائي عن عِمْرِان بن حصين.
132
(إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) في هذا نوع تفصيل لما أجمل في الشرطية المتقدمة، ولذا ترك العطف بينهما أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئاً إظهارها، وإن تخفوها وتصيبوا بها مصارفها من الفقراء فالإخفاء خير لكم.
وقد ذهب جمهور من المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع لا في صدقة الفرض فلا فضيلة للإخفاء فيها، بل قد قيل إن الإظهار فيها أفضل
132
وقالت طائفة: إن الإخفاء في الفرض والتطوع (١).
عن ابن عباس قال: جعل السر في التطوع يفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً، وكذا جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها (٢).
وعنه في الآية قال: كان هذا يعمل قبل أن تنزل براءة فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها، وعنه قال: هذا منسوخ، وقوله (في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) قال: منسوخ نسخ كل صدقة في القرآن الآية التي في سورة التوبة (إنما الصدقات للفقراء) وقد ورد في فضل صدقة السر أحاديث صحيحة مرفوعة.
(ونكفر عنكم من سيآتكم) مِن للتبعيض أي شيئاً من سيآتكم لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئآت كذا قدره أبو البقاء، وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة، وذلك على رأي الأخفش، قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ وقيل إنها للسببية أي من أجل ذنوبكم وهذا ضعيف، والسيئآت جمع سيئة ووزنها فَيعَلة وعينها واو، قال ابن عباس: جميع سيئاتكم (والله بما تعلمون خبير) يعني من إظهار الصدقات وإخفائها، وفيه ترغيب في الإسرار.
_________
(١) وروى النسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: " إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يسر بالقرآن كالذي يسر بالصدقة ". وفي الحديث: " صدقة السر السر تطفىء غضب الرب ".
(٢) روى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة " وإسناده صحيح.
وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع اليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".
133
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
(ليس عليك هداهم) أي ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهتدين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه، فالهدى مصدر مضاف للمفعول أو ليس عليك أن يهتدوا فيكون مضافاً لفاعله (ولكن الله يهدي من يشاء) هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة وفيها الإلتفات.
وعن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فنزلت هذه الآية إلى آخرها فرخص لهم، وفي الباب آثار عن الصحابة والتابعين.
(وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) أي كل ما يصدق عليه اسم الخير كائناً ما كان ولو على كافر ولكن هذا في غير صدقة الفرض (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) استثناء من أعم العلل أي لا تنفقوا لغرض إلا لهذا الغرض، ثم بين أن النفقة المعتد بها المقبولة إنما هي ما كان لابتغاء وجه الله سبحانه، قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين، وقال بعضهم: لو أنفقت على شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك، ويرده حديث لا يأكل طعامك إلا تقي.
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا إلى المسلمين، وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وخالفه سائر العلماء في ذلك.
(وما تنفقوا من خير يوفّ) أي يرد (إليكم) أجره وثوابه على الوجه الذي تقدم ذكره من التضعيف، قال عطاء الخراساني: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله (وأنتم لا تظلمون) أي لا تنقصون شيئاً من ثواب أعمالكم.
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
(للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) بالغزو والجهاد، وفيه بيان مصرف الصدقات واختاره ابن الأنباري، قال ابن عباس: هم أصحاب الصُفَّة يعني فقراء المهاجرين، كانوا نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، وكانوا يأوون إلى صفة في المسجد يتعلمون القرآن بالليل، وهم الذين حبسوا أنفسهم على الجهاد خاصة، وعلى طاعة الله عامة قيل منعوا عن التكسب لما هن فيه من الضعف.
(لا يستطيعون ضرباً في الأرض) للتكسب بالتجارة والزراعة ونحو ذلك بسبب ضعفهم، قال مجاهد: هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي - ﷺ - أمروا بالصدقة عليهم، وقال سعيد بن جبير: هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله فصاروا زمنى، فجعل لهم في أموال المسلمين حقاً وقيل كل من يتصف بالفقر وما ذكر معه.
(يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) ذكر سبحانه من صفة أولئك الفقراء ما يوجب الحنوّ عليهم والشفقة بهم، وهو كونهم متعففين عن المسئلة وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم ومن لم يختبر حالهم أنهم أغنياء، والتعفف تفعُّل من العفة وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه.
وفي " يحسبهم " لغتان فتح السين وكسرها قال أبو علي الفارسي والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسور فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة فالقراءة
135
بالكسر على هذا حسنة وإن كانت شاذة " ومن " لابتداء الغاية وقيل لبيان الجنس.
(تعرفهم) أي تعرف فقرهم (بسيماهم) أي برثاثة ثيابهم من الضرّ وصفرة ألوانهم من الجوع وضعف أبدانهم من الفقر وكل ما يشعر بالفقر والحاجة، وقيل التواضع والخضوع، والأول أولى، والخطاب إما لرسول الله - ﷺ - أو لكل من يصلح للمخاطبة، والسيما مقصورة العلامة وقد تمد وهي مقلوبة لأنها مشتقة من الوسم فهى من السمة أي العلامة.
(لا يسألون الناس إلحافاً) الإلحاف الإلحاح في المسئلة وهو مشتق من اللحاف سمى بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسئلة كاشتمال اللحاف على التغطية، والمعنى أنهم لا يسألونهم البتة لا سؤال إلحاح ولا سؤال غير إلحاح، وبه قال الطبري والزجاج وإليه ذهب جمهور المفسرين.
ووجهه أن التعفف صفة ثابتة لهم لاتفارقهم ومجرد السؤال ينافيها، وقيل المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف ولا يلحفون في سؤالهم، وهذا وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد لكن صفة التعفف تنافيه، وأيضاً كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال البتة.
وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، واقرؤا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافاً (١) ".
وقد ورد في تحريم المسئلة أحاديث كثيرة إلا من ذي سلطان أو في أمر لا يجد منه بداً.
(وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) أي يعلم مقادير الإنفاق يجازي عليه وفيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة لا سيما على هؤلاء.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٥٢٥٩ و٥٢٦٠.
136
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية) يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق وشدة حرصهم عليه حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلاً ولا نهاراً ويفعلونه سراً وجهراً عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين وتظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال.
وعن ابن عباس بسند ضعيف قال: نزلت في علي بن أبي طالب كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهاراً ودرهما سراً ودرهما علانية.
وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية لأنه تعالى قدم نفقة الليل على نفقة النهار، وقدم السر على العلانية.
وقيل نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد في سبيل الله لأنهم يعلفونها في هذه الأربعة الأحوال، والأول أولى.
عن غريب المليكي مرفوعاً قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الخيل، وقال أبو أمامه الباهلي فيمن لا يربطها خيلاء ولا رياء ولا سمعة، وعن ابن عباس قال: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله، وقال قتادة: هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد.
وقال سعيد بن المسيب: نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة، وكون ما ذكر سبباً لنزولها لا يقتضي خصوص الحكم به، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(فلهم أجرهم عند ربهم) الفاء للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها وقيل هي للعطف (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي يوم القيامة أو في الدارين.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥)
(الذين يأكلون الربا) الربا في اللغة الزيادة مطلقاً يقال ربا الشيء يربو إذا زاد، وفي الشرع يطلق على شيئين: على ربا الفضل وربا النسيئة حسب ما هو مفصل في كتب الفروع، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حل أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه أتقضي أم تربي، فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه وأخر له الأجل إلى حين، وهذا حرام بالاتفاق.
وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوله، وقد كتبوه في المصحف بالواو.
وليس المراد بالذين يأكلون الربا اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهم، فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل.
عن جابر قال: لعن رسول الله - ﷺ - آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه رواه مسلم (١).
(لا يقومون) أي يوم القيامة من قبورهم، وبهذا فسره جمهور المفسرين، قالوا أنه يبعث كالمجنون عقوبة له تمقيتاً عند أهل المحشر، وقيل إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته إنه قد جن.
_________
(١) رواه أبو داود والترمذي. ومسلم وهما سواءً.
138
(إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) أي يصرعه، وأصل الخبط الضرب بغير استواء كخبط العشواء، وهو المصروع، والمس المجنون والممسوس المجنون، وكذلك الأولق، قال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة.
وفي الآية دليل على فساد قول من قال إن الصرع لا يكون من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان وليس بصحيح وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس، وقد استعاذ النبي - ﷺ - من أن يتخبطه الشيطان كما أخرجه النسائي وغيره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا منها حديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه والبيهقي عن النبي - ﷺ -، قال: " الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " (١).
وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن جماعة من الصحابة، وورد عن جماعة منهم أن آخر آية أنزلها على رسوله آية الربا.
(ذلك بأنهم قالوا) ذلك إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم (إنما البيع مثل الربا) أي أنهم جعلوا البيع والربا شيئاً واحداً أي اعتقدوا مدلول هذا القول وفعلوا مقتضاه أي ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه استحلاله، وقالوا يجوز بيع درهم بدرهمين، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً والبيع فرعاً، أي إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك، وهذا من عكس التشبيه مبالغة وهو
_________
(١) نزلت في عثمان بن عفان، والعباس، كانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال صاحب التمر: إن أخذتما مالكما، لم يبق لي ولعيالي ما يكفي، فهل لكما أن تأخذا النصف واضعّف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهما.
139
أعلى مراتبه نحو قولهم: القمر كوجه زيد والبحر ككفه إذ صار المشبَّه مشبهاً به.
فرد الله عليهم بقوله (وأحل الله البيع وحرم الربا) أي أن الله تعالى أحل البيع وحرم نوعاً من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل، والبيع مصدر باع يبيع أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً، وقد ذكر المفسرون في هذا المقام سبب تحريم الربا واختلاف أهل العلم في عللها وأحكامها ومسائل القرض وإنما محلها كتب الفروع.
(فمن جاءه موعظة من ربه) أي من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا، والموعظة والعظة والوعظ معناها واحد وهو الزجر والتخويف وتذكير العواقب، والاتعاظ القبول والامتثال.
(فانتهى) عن أكله أي فامتثل النهي الذي جاء وانزجر عن المنهى عنه واتعظ وقبل (فله ما سلف) أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا (وأمره) أي أمر الربا (إلى الله) في تحريمه على عباده واستمرار ذلك التحريم، وقيل الضمير عائد إلى ما سلف أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه وقيل الضمير يرجع إلى المُرْبى أي أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية، وقيل إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.
(ومن عاد) إلى أكل الربا والمعاملة به (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) الإشارة إلى من عاد وجمع أصحاب باعتبار معنى من، وقيل إن معنى من عاد هو أن يعود إلى القول بأنما البيع مثل الربا وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة كما تقول العرب: مُلك خالد أي طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحّدين من النار، قال سعيد بن جبير: خالدون يعني لا يموتون.
140
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
141
(يمحق الله الربا) أي يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيراً فلا يبقى بيد صاحبه وقيل يمحق بركته في الآخرة، قال ابن عباس: لا يقبل الله منه صدقة ولا حجاً ولا جهاداً ولا صلة (ويربي الصدقات) أي يزيدها ويثمرها يعني يزيد في المال الذي أخرجت صدقته، وقيل يبارك في ثواب الصدقة ويضاعفه، ويزيد في أجر المتصدق، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " (١)، وزاد في حديث عائشة وابن عمران أن رسول الله - ﷺ - قرأ هذه الآية.
وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله - ﷺ -: " إن العبد ليتصدق بالكِسرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد ".
وهذه الأخبار تبين معنى الآية يقال أرباه إذا زاده كما يؤخذ من القاموس ويستعمل لازماً أيضاً فيقال أربى الرجل إذا دخل في الربا.
_________
(١) (يمحق الله الربا) فيه قولان. أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله، ومنه: محاق الشهر لنقصان الهلال فيه. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها، رواه الضحاك عن ابن عباس.
141
(والله لا يحب) أي لا يرضى لأن الحب مختص بالتوابين (كل كفار أثيم) فيه تشديد وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر، ووصفه بأثيم للمبالغة وقيل لإزالة الاشتراك إذ قد يقع على الزراع، ويحتمل أن المراد بقوله (كل كفار) من صدرت منه خصلة توجب الكفر، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا إنما البيع مثل الربا كفار.
وقد تقدم تفسير قوله
142
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم) قيل المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا والعموم أولى، والإيمان التصديق بالله ورسوله والعمل الصالح الذي أمرهم الله به ومن جملته ترك الربا، والصلاة والزكاة هما المفروضتان (ولا خوف عليهم) من مكروه يأتي في المستقبل (ولا هم يحزنون) على أمر محبوب فاتهم في الماضي.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا) أي قوا أنفسكم من عقابه واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً، قال السدي: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف في الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية. (١)
(إن كنتم مؤمنين) قيل هو شرط مجازي على جهة المقابلة، وقيل إنْ بمعنى إذ، قال ابن عطية: وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى إن كنتم مؤمنين على الحقيقة فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه.
_________
(١) رواه الواحدي عن السدي بدون سند. وأخرج مسلم من حديث جابر في صفة حجة النبي ﷺ وفيه: فخطب الناس وقال: " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله ".
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
(فإن لم تفعلوا) يعني ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا (فأذنوا) قريء بكسر الذال والمد على وزن آمنوا ومعناه فأعلموا بها غيركم من آذن بالشيء إذا أعلم به، وقيل هو من الأذن وهو الاستماع لأنه من طرق العلم، وقرىء بفتح الذال مع القصر ومعناه فاعلموا أنتم وأيقنوا.
(بحرب من الله ورسوله) قال ابن عباس: يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب.
قال أهل المعاني: الحرب هنا السيف، وقيل المراد بهذه المحاربة المبالغة في الوعيد والتهديد دون نفس الحرب، وقيل بل نفس الحرب، وذلك إن كان آكل الربا ذا شوكة لا ينزع عنه فحق على الإمام أن يحاربه، والأول أولى.
وقد دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك وتنكير الحرب للتعظيم وزادها تعظيماً نسبتها إلى اسم الله الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته.
(وإن تبتم) من الربا (فلكم رؤوس أموالكم) تأخذونها دون الزيادة (لا تظلمون) غرماءكم بأخذ الزيادة مستأنفة أو حال من الكاف في لكم (ولا تظلمون) أنتم من قبلهم بالمطل والنقص، والجملة حالية أو استئنافية، وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم.
143
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
144
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظِرة إلى يسار، والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة، والنظِرة التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد، وهذا قول سيبويه وأبي علي الفارسي وغيرهما وفي مصحف أُبيّ وإن كان ذا عسرة على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة.
وقرأ الأعمش (وإن كان معسراً) قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين وإليه ذهب الجمهور.
وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن يُنْظِرَه، وفي ثواب إنظار المعسر والوضع عنه وتشديد أمر الدين والأمر بقضائه، وهي معروفة يطول ذكرها، والميسرة في اللغة اليسار والسعة.
(وأن تصدقوا خير لكم) أي على معسري غرمائكم بالإبراء من كل الدين أو بعضه، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله السدى وابن زيد والضحاك.
قال الطبري وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير
144
خير لكم، والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني (إن كنتم تعلمون) جوابه محذوف أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به، وفي الحديث: " من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " (١) رواه مسلم.
_________
(١) مسلم ٣٠٠٦.
145
(واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) هو يوم القيامة وتنكيره للتهويل، وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت، وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة كما تقدم، قرىء ترجعون بفتح التاء أي تصيرون فيه إلى الله، وقرىء بضمها وفتح الجيم أي تردون فيه إليه.
(ثم توفّى كل نفس) من النفوس المكلفة (ما كسبت) أي جزاء ما كسبت يعني عملت من خير أو شر (وهم لا يظلمون) أي في ذلك اليوم، والجملة حالية وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب.
وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس، وفيها وعيد شديد وزجر عظيم.
عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت من القرآن على النبي - ﷺ - هذه الآية، وكان بين نزولها وبين موت النبي - ﷺ - أحد وثمانون يوماً.
وعن سعيد بن جبير أنه عاش النبي - ﷺ - بعد نزولها تسع ليال ثم مات، وقيل سبعاً وقيل ثلاث ساعات ومات - ﷺ - لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الإثنين، حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، قال الخفاجي: وكون هذه الآية آخر آية مذكور في كتب الحديث مصحح.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا، أي إذا داين بعضكم بعضاً وعامله بذلك سواء كان معطياً أو آخذاً، وذكر الدين بعد ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله: (ولا طائر يطير بجناحيه) وقيل إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله فاكتبوه، ولو قال فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله (إذا تداينتم بدين) والدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضراً والدين ما كان غائباً.
وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله (إلى أجل مسمّى) يعني إلى مدة
146
معلومة الأول والآخر، مثل السنة والشهر، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السَّلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محل الأجل، وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصاً أجل السَّلم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - ﷺ -: " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم " (١) وقد قال بذلك الجمهور، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين قالوا ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك وجوزه مالك، قال ابن عباس: لما حرم الربا أباح السَّلم.
(فاكتبوه) أي الدين بأجله بيعاً كان ذلك أو سلماً أو قرضاً لأنه أدفع للنزاع وأقطع للخلاف، قال ابن عباس: نزلت يعني هذه الآية في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم، وأخرج البخاري وغيره عنه: قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله قد أحله وقرأ هذه الآية.
(وليكتب بينكم كاتب) هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال عطاء والشعبي وابن جريج والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري، وأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ولم يوجد كاتب سواه وقيل الأمر للندب والاستحباب، وبه قال الجمهور.
(بالعدل) صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب منصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه وقلمه هوادة لأحدهما على الآخر، بل يتحرى الحق بينهم والعدالة فيهم.
(ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله) النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم أي لا يمتنع أحد من الكتاب من أن يكتب كتاب التداين على الطريقة التي علّمه الله من الكتابة أو كما علمه الله بقوله بالعدل (فليكتب) بالحق من
_________
(١) مسلم ١٦٠٤ - البخاري ١١٢٣.
147
غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخيره بل يكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ويكون كل واحد منهما آمناً من إبطال حقه وأن يحترز من الألفاظ التي يقع النزاع فيها.
(وليملل) الإملال والإملاء لغتان، الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة بني تميم فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى (فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً) والإدغام في مثل ذلك جائز لا واجب.
(الذي عليه الحق) هو من عليه الدين أمره الله تعالى بالإملاء لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته (وليتق الله) الذي عليه الحق (ربه) أمره بالتقوى فيما يمليه على الكاتب فلا يجحد جميع الحق والبعض كما سيأتي، وبالغ في ذلك بالجمع بين الإسم والوصف (ولا يبخس منه شيئاً) نهاه عن البخس وهو النقص، وقيل إنه نهي للكاتب، والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص.
(فإن كان الذي عليه الحق) إظهار في مقام الإضمار لزيادة الكشف والبيان لا لأن الأمر والنهي لغيره (سفيهاً) السفيه هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى، وبالجملة فالسفيه هو المبذّر إما لجهله بالتصرف أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب، وقيل الطفل أي جاهلاً بالإملاء.
(أو ضعيفاً) وهو الشيخ الكبير أو الصبي، قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن وفتحها في الرأي لعته أو جنون (أو لا يستطيع أن يملّ هو) يعني لخرس أو عِيّ أو عُجمة في كلامه أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب أو يجهل بماله وعليه أو لا يقدر على التعبير كما ينبغي، فهؤلاء
148
كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد أن يقوم غيرهم مقامهم، وقيل إن الضعيف هو الدخول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع هو الصغير.
(فليملل وليه) الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيمل عن السفيه وليّه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعفه وليه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي، ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي.
وقال الطبري: إن الضمير في قوله وليه يعود إلى الحق، وهو ضعيف جداً.
قال القرطبي في تفسيره: وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ولا يؤثر شيئاً فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف انتهى.
(بالعدل) أي الصدق من غير زيادة ولا نقص.
(واستشهدوا شهيدين) الاستشهاد طلب الشهادة وسمَاهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة (من رجالكم) أي كائنين من المسلمين فيخرج الكفار، ولا وجه لخروج العبيد عن هذه الآية فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين، وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق، وقال الشعبي والنخعي: تصح في الشيء اليسير دون الكثير، واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالداينة، والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة،
149
ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأيضاً العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك.
وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب؟ قال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري وابنه أنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري، وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه أنه مندوب.
وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع واستدل الموجبون بقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله (واستشهدوا) فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة.
(فإن لم يكونا رجلين) أي الشاهدان أي بحسب القصد والإرادة أي فإن لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين (فرجل وامرأتان) أي فليشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون، كائنون (ممن ترضون) دينهم وعدالتهم حال كونهم (من الشهداء).
وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة.
واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك.
وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه وهو زيادة لم يخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها، وقد أوضحنا ذلك في شرح بلوغ المرام، وأوضحه الشوكاني في شرحه
150
للمنتقى وغيره من مؤلفاته.
ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يرد به قضاء رسول الله - ﷺ - بالشاهد واليمين، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على جرف هار هي قولهم إن الزيادة على النص نسخ، وهذه دعوى باطلة بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها، وقد أوضحت ذلك في كتابي حصول المأمول من علم الأصول فليرجع إليه.
وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب، ولا بيمين الرد على الطالب، وقد حكموا بهما، والجواب الجواب.
(أن تضل إحداهما) قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى أي لنقص عقلهن وضبطهن، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء (فتذكر إحداهما) أي الذاكرة (الأخرى) أي الناسية، قرىء فتذكر بالتخفيف ومعناها تزيدها ذكراً وقراءة الجماعة بالتشديد أي تنبهها إذا غفلت ونسيت.
وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء أي فليشهد رجل ولتشهد امرأتان عوضاً عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما الأخرى إذا ضلت، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد، فقيل وجهه أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
والعلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته وأبهم الفاعل في تضل وتذكر لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان، فالمعنى إن ضلت هذه ذكرتها هذه وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين أي إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها الأخرى.
وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال.
وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال والتذكير يقع بينهما
151
متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه، وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها.
قال سفيان بن عُيَينة: معنى قوله (فتذكر إحداهما الأخرى) تصيرها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد، وروى نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل.
(ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل، وقيل إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام.
(ولا تسأموا) أي لا تملوا ولا تضجروا، والخطاب للمؤمنين أو للمتعاملين أو للشهود (أن تكتبوه) أي الدين الذي تداينتم به وقيل الحق وقيل الشاهد وقيل الكتاب، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا.
ثم بالغ في ذلك فقال (صغيراً أو كبيرا) أي لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً أو قليلاً وعلى أي حال كان الكتاب مختصراً أو مشبعاً، وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال أن هذا مال صغير أي قليل لا احتياج إلى كتبه (إلى أجله) أي إلى محل الدين أو الحق.
(ذلكم) أي المكتوب المذكور في ضمير قوله أن تكتبوه (أقسط عند الله) أي أعدل وأحفظ وأصح، من القسط بالكسر، والقسوط الجور والعدول عن الحق (وأقوم للشهادة) أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها، وهو مبني من أقام وكذلك أقسط مبني من فعله أي أقسط وقد صرح سيبويه بأنه قياسي أي بناء أفعل التفضيل.
152
(وأدنى أن لا ترتابوا) أي أقرب لنفي الريب في معاملاتكم أي الشك، وذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان.
(إلا أن تكون تجارة) أي تقع أو توجد تجارة على أن كان تامة، والتجارة تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء والزيادة بالأرباح، والاستثناء منقطع أي لكن وقت تبايعكم وتجارتكم فإنه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها، وقال أبو البقاء إنه متصل والأول أولى، وقرىء بالنصب على الناقصة أي تكون التجارة تجارة (حاضرة) بحضور البدلين وهي تعم المبايعة بعين أو دين (تديرونها بينكم) أي تتعاطونها يداً بيد، فالإدارة التعاطي والتقابض فالمراد التبايع الناجز يداً بيد.
(فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) أي فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته، وإنما رخص الله في ترك الكتابة في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانه بين الناس، فلو كلفوا الكتابة فيه لشق عليهم، ولأنه إذا أخذ كل واحد حقه في المجلس لم يكن هناك خوف الجحود فلا حاجة إلى الكتابة.
(وأشهدوا إذا تبايعتم) قيل معناه هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي، وقيل معناه أي تبايع كان حاضراً أو كالِئاً لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف، وأقطع لمنشأ الشجار، وهذا وما قبله أمر ندب وقد تقدم قريباً ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجباً أو مندوباً.
(ولا يضارّ كاتب ولا شهيد) يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول، فعلى الأول معناه لا يضار كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما إما بعدم الإجابة أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابته، ويدل على هذا قراءة عمر وابن عباس وغيرهما " لا يضارِر " بكسر الراء الأولى وعلى الثاني لا يضارَر كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذَيا إن حصل منهما التراخي أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود " لا يضارر " بفتح الراء الأولى،
153
وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً وقد تقدم في تفسير قوله تعالى (لا تضار والدة بولدها) ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله تعالى.
(وإن تفعلوا) أي ما نهيتم عنه من المضارة (فإنه) أي فعلكم هذا (فسوق بكم) خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم (واتقوا الله) في فعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه (ويعلمكم الله) ما تحتاجون إليه من العلم، حال مقدرة أو مستأنفة وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه، ومنه قوله تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) (والله بكل شيء عليم) هذا آخر آية الدَّين.
وقد حث الله سبحانه فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد. قال القفال: ويدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسط شديد، ألا ترى أنه قال: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) ثم قال ثانياً (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) ثم قال ثالثاً (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) فكان هذا كالتكرار لقوله (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) لأن العدل هو ما علمه الله ثم قال رابعاً (فليكتب) وهذا إعادة للأمر الأول ثم قال خامساً (وليملل الذي عليه الحق) لأن الكاتب العدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً (وليتق الله ربه) وهذا تأكيد، ثم قال سابعاً (ولا يبخس منه شيئاً) وهذا كالمستفاد من قوله (وليتق الله ربه) ثم قال ثامناً (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله) وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة.
وكل ذلك يدل على المبالغة في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك، ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخطه من الرياء وغيره، والمواظبة على ذكر الله وتقواه، ذكره الخطيب.
154
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
155
(وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة) لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب، ونص على حالة السفر فإنها من جملة أحوال العذر، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة أي فإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتباً في سفركم فرهان مقبوضة، و " على " هنا بمعنى في، وفيه إشارة أن " على " استعارة تبعية شبّه تمكنهم من السفر بتمكن الراكب مركوبَه.
قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله - ﷺ - كما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم رهن درعاً له من يهودي.
وأفاد قوله (مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن ووكيله، وقرأ الجمهور (كاتباً) أي رجلاً يكتب لكم، وقرئ " كتاباً " قال ابن الأنباري: فسره ابن مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مداداً في الأسفار.
وقرىء " فرهن " بضم الراء والهاء جمع رهان، وقرىء فرهن، وقراءة الجمهور (فرهان) قال الزجاج: يقال في الرهن رهنت وأرهنت، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش.
155
وقال أبو علي الفارسي: يقال أرهنت في المعاملات، وأما في القرض والبيع فرهنت، وقال ابن السكيت: أرهنت فيهما بمعنى أسلفت، والمرتهن الذي يأخذ الرهن والشيء مرهون ورهين، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته، وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض.
(فإن أمن بعضكم بعضاً) أي الدائن المديون على حقه فلم يرتهنه يعني إن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق لحسن ظنه به وأمانته واستغنى بأمانته عن الارتهان (فليؤد الذي اؤتمن) وهو المديون (أمانته) أي الدين الذي عليه، والأمانة مصدر سُمي به الذي في الذمة وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة.
(وليتق الله ربه) في أن لا يكتم من الحق شيئاً وفي أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود، بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه، وفيه مبالغات من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب، والجمع بين ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين، وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى.
(ولا تكتموا الشهادة) نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة إذا دعوا لإقامتها وهو في حكم التفسير لقوله (ولا يضار كاتب) أي لا يضارِر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدمين (ومن يكتمها) يعني الشهادة (فإنه آثم) أي فاجر (قلبه) خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله ولكونه رئيس الأعضاء وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد كله.
وإسناد الفعل إلى الجارحة التي تعمله أبلغ، وهو صريح في مؤاخذة الشخص بأعمال القلب، وارتفاع القلب على أنه فاعل أو مبتدأ وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم، بدل البعض من
156
الكل، ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من. وقرىء قلبه بالنصب كما في قوله إلا من سفه نفسه (والله بما تعملون عليم) فيه وعيد وتحذير لمن كتم الشهادة ولم يظهرها، ويقال لهذه الآية آية الدين.
وأخرج البخاري في تاريخه وأبو داود وغيرهما عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية، وقال هذه نسخت ما قبلها.
(وأقول) رضي الله عن هذا الصحابي الجليل، ليس هذا من باب النسخ فهذا مقيد بالائتمان وما قبله ثابت محكم لم ينسخ، وهو مع عدم الائتمان. وعن سعيد ابن المسيب أنه بلغه أن أحدثَ القرآن بالعرش آية الدين، وعن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين.
157
(لله ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وأهلهما له عبيد وهو مالكهم، واستدل بسعة ملكه على سعة علمه (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم وأظهرته من الأمور التي يحاسب عليها (فيغفر لمن يشاء) منهم ما يغفره منها (ويعذب من يشاء) منهم بما أسر وأظهر منها.
هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال:
الأول: أنها وإن كانت عامة فهي مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر، وقد روى هذا عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به.
157
والقول الثاني: أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص.
والقول الثالث: أنها محكمة عامة ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين، حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص فإن قوله (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) لا يختص ببعض معين إلا بدليل.
والقول الرابع: أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي - ﷺ -: أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها (١).
وأخرج البخاري والبيهقي عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسبه ابن عمر (إن تبدوا ما في أنفسكم) الآية قال نسختها الآية التي بعدها.
وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن علي نحوه.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عى أبي هريرة قال لما نزلت على رسول الله - ﷺ - (ولله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم) الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله - ﷺ - ثم جثوا على الركب فقالوا
_________
(١) مسلم ١٢٧.
158
يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله - ﷺ - أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم، سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) إلى آخرها (١).
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً نحوه، وزاد فأنزل الله (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال قد فعلت (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) قال قد فعلت (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال قد فعلت (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا) الآية قال قد فعلت (٢)، وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من طرق.
وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما روي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال نزلت في كتمان الشهادة، فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة.
وعلى كل حال فبعد الأحاديث المصرحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها.
ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها
_________
(١) مسلم ١٢٥.
(٢) مسلم ١٢٦.
159
ما لم تتكلم أو تعمل به (١) ".
وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: كل عبد همّ بسوء ومعصية وحدّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل بشيء.
والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه.
عن ابن عباس قال: إن الله يقول يوم القيامة إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت، وهو مدفوع بما تقدم.
وقيل محكمة لأنه إذا حمل ما في الأنفس على خصوص العزم لم يكن نسخ لأنه مؤاخذ به وقد نظم بعضهم مراتب القصد بقوله؛
مراتب القصد خمس. هاجس ذكروا وخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعاً
(والله على كل شيء قدير) فيغفر للمؤمنين فضلاً ويعذب الكافرين عدلاً قال ابن عباس يغفر الذنب العظيم ويعذب على الذنب الصغير.
_________
(١) روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم عن صفوان بن محرز قال: " بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى؟ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول له: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب اعرف مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، قال: فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رؤوس الأشهاد (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين).
ثم قال ابن جرير: فتأويل الآية إذاً: وإن تبدوا ما في أنفسكم أيها الناس فتظهروه، أو تخفوه فتنطوي عليه نفوسكم يحاسبكم به الله، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه، ومغفرته له، فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه، ونبوة أنبيائه.
160
آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) أي بجميع ما أنزل إليه، قال الزجاج: لما ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام وبيّن أحكام الحج والجهاد وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء، وبيّن حكم الربا، ذكر تعظيمه ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ذكر تصديق جميع المؤمنين ذلك فقال (آمن الرسول) أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون.
(كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) أفرد الضمير في آمن لأن المراد إيمان كل فرد منهم من غير اعتبار الإجتماع كما اعتبر ذلك في قوله (وكل أتوه داخرين) وهذه أربع مراتب من أصول الدين وضرورياته.
وسبب نزولها الآية التي قبلها، وقد تقدم بيان ذلك.
وقوله (وملائكته) أي من حيث كونهم عباده المكرمين المتوسطين بينه وبين أنبيائه في إنزال كتبه، وقوله (وكتبه) لأنها المشتملة على الشرائع التي تعبد بها عباده، وقوله (ورسله) لأنهم المبلغون لعباده ما نزل إليهم.
وقرأ ابن عباس (وكتابه) قال الكتاب أكثر من الكتب وبينه صاحب الكشاف فقال: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شىء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع انتهى، ومن أراد تحقيق المقام فليرجع إلى شرح التلخيص المطول عند
161
قول الماتن واستغراق المفرد أشمل (١)
(لا نفرق بين أحد من رسله) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، لم يقل بين آحاد لأن الأحد يتناول الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث كما في قوله تعالى (فما منكم من أحد عنه حاجزين) فوصفه بقوله (حاجزين) لكونه في معنى الجمع.
(وقالوا سمعنا وأطعنا) أي أدركناه بأسماعنا وفهمناه وأطعنا ما فيه وقيل معنى سمعنا أجبنا دعوتك (غفرانك ربنا) أي اغفر غفرانك، قاله الزجاج وغيره، وقيل نسألك غفرانك، وقدم السمع والطاعة على طلب المغفرة لكون الوسيلة تتقدم على المتوسل إليه (وإليك المصير) أي المرجع والمآب بالبعث. (٢)
_________
(١) وروى مسلم في " صحيحه " عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض، قال: (إذ يغشي السدرة ما يغشى) قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله ﷺ ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات. والمقحمات، بكسر الحاء: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار، أي تلقيهم فيها.
(٢) روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) اشتد ذلك على أصحاب النبي - ﷺ -[فأتوا رسول ال - ﷺ -، ثم جثوا على الركب] فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال: " أتريدون أن تقولوا كفي قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ". فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها (آمن الرسول).
162
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)
(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) أي ما تسعه قدرتها فضلاً منه ورحمة أو ما دون مدى طاقتها أي غاية طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها.
التكليف هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة، والوسع الطاقة والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه (إن تبدوا ما في أنفسكم) الآية لكشف كربة المسلمين ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس، وهي كقوله سبحانه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) قال ابن عباس: وأكثر المفسرين: إن هذه الآية نسخت حديث النفس والوسوسة.
(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) فيه ترغيب وترهيب أي لها ثواب ما كسبت من الخير وعليها وزر ما اكتسبت من الشر، وتقديم لها وعليها على الفعلين يفيد أن ذلك لها لا لغيرها وعليها لا على غيرها، وهذا مبني على أن " كسب " للخير فقط، واكتسب للشر فقط كما قاله صاحب الكشاف وغيره، وقيل كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين، وإنما كرر فعل وخالف بين التصريفين تحسيناً للنظم كما وقع في قوله تعالى (فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً).
وقيل اللام للخير وعلى للمضرة ولكن ينقض هذا بقوله تعالى (ولهم اللعنة) و (عليهم صلوات) اللهم إلا أن يقال هما يقتضيان ذلك عند
163
الإطلاق بلا ذكر الحسنة والسيئة أو أنهما يستعملان لذالك عند تقاربهما كما في هذه الآية.
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) أي لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين، وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما فما معنى الدعاء بذلك فإنه من تحصيل الحاصل.
وأجيب عن ذلك بأن المراد طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط وعدم المبالاة لا من نفس النسيان والخطأ فإنه لا مؤاخذة بهما كما يفيد ذلك قوله - ﷺ - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وسيأتي تخريجه.
وقيل إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته.
وقيل إنه وإن ثبت شرعاً أنه لا مؤاخذة بهما فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلاً.
وقيل لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمداً وإنما يصدر عنهم خطأً أو نسياناً فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذون به فما منهم سبب المؤاخذة إلا الخطأ والنسيان.
قال القرطبي: وهذا لم يختلف فيه إن الإثم مرفوع وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله اختلف فيه، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع فقسم
164
لا يسقط باتفاق كالغرامات، والديانات والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسياً في رمضان أو حنث ساهياً، وما كان مثله مما يقع خطأ أو نسياناً، ويعرف ذلك في الفروع انتهى.
والآية تعليم من الله لعباده كيفية الدعاء وهذا من غاية الكرم حيث يعلمهم الطلب ليعطيهم المطلوب.
(ربنا ولا تحمل علينا إصراً) تكرير النداء للإيذان بمزيد التضرّع واللجوء إلى الله سبحانه، والإصر العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، والمراد به هنا التكليف الشاق والأمر الغليظ الصعب، وقيل الإصر شدة العمل وما غلظ على بني اسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة، وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير وقيل العهد، ومنه قوله تعالى: (وأخذتم على ذلكم إصري).
وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا لا إلى معنى الإصر في لغة العرب فإنه تقدم ذكره بلا نزاع، والإصار الحبل الذي يربط به الأحمال ونحوها يقال أصر يأصر أصراً حبس، والإصر بكسر الهمزة من ذلك، قال الجوهري: والوضوع مأصر والجمع مآصر، ومعنى الآية أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقيل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم.
(كما حملته على الذين من قبلنا) يعني اليهود، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم زكاة، ومن أصاب منهم ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه، نحو هذا من الأثقال والآصار.
(ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) تكرير النداء للنكتة المذكورة قبل
165
هذا، والمعنى لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق وقيل: هو عبارة عن إنزال العقوبات كأنه قال لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا، وقيل المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف، والطاقة القدرة على الشيء.
(واعف عنا) أي عن ذنوبنا يقال عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه عليه (واغفر لنا) أى استر على ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة، والغفر الستر (وارحمنا) أي تفضل برحمة منك علمنا وتعطف بنا (أنت مولانا) أي ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون، وقيل معناه أنت سيدنا ونحن عبيدك (فانصرنا على القوم الكافرين) فإن من حق المولى أن ينصر عبيده والمراد عامة الكفرة وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله بالجهاد في سبيله.
وقد قدمنا في شرح الآية التي قبل هذا أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات " قد فعلت " فكان ذلك دليلاً على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ والنسيان، ولا حمل عليهم شيئاً من الإصر الذي حمله على من قبلهم، ولا حمَّلهم ما لا طاقة لهم به، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
وقد أخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن حبان في صحيحه والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (١) " وروي من طرق كثيرة وفي أسانيدها مقال ولكنها يقوّي بعضها بعضاً فلا يقصر عن رتبه الحسن لغيره، وقد تقدم حديث " قد فعلت " وهو يشهد لهذا الحديث.
وقد ورد عن جماعة من الصحابة وغيرهم أن جبريل لقّن النبي - ﷺ -
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٧٢٧. والمشكاة ٦٢٨٤.
166
خاتمة البقرة " آمين ".
وقد ثبت عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم عن أبي مسعود عن النبي - ﷺ - قال " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (١) " وأخرج أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة أن النبي - ﷺ - كان يقول " أعطيت هذه الآية من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبلي (٢) ".
وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان (٣) ".
وأخرج مسلم والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال: بينا رسول الله - ﷺ - وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط قال: فنزل منه ملك فأتى النبي - ﷺ - فقال: " أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته ".
فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل هاتين الآيتين، وقد روى في فضلهما من غير الرفوع عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي مسعود وكعب الأحبار والحسن وأبي قلابة.
وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يغني عن غيره ولله الحمد.
_________
(١) مسلم ٨٠٧ - البخاري ١٨٦٢.
(٢) صحيح الجامع الصغير ١٠٧١.
(٣) صحيح الجامع الصغير ١٧٩٥. والمشكاة/٢١٤٥.
167

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران
مدنية وهي مائتا آية هي مدنية قال القرطبي بإجماع. ومما يدل على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزل في وفد نجران. وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة واسمها في التوراة طيبة حكاه النقاش.
169

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)
171
Icon