تفسير سورة آل عمران

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية باتفاق وآياتها مائتان أو إلا آية وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة وأربعة عشر ألفاً وخمسمائة وعشرون حرفاً
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ بسم الله ﴾ الذي له صفات الكمال فاستحق التفرد بالألوهية ﴿ الرحمن ﴾ الذي سرت رحمته خلال الوجود فشملت كل موجود بالكرم والجود ﴿ الرحيم ﴾ لمن توكل عليه بالعطف إليه.

وقوله تعالى :
﴿ ألم ﴾ تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة.
﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ لم يقطع أحد من القراء السبعة هذه الهمزة التي في الله في الوصل، وإذا وقف على ألم يبدأ بالهمزة، ولكل من القراء مدّ على الميم ووصل في الوصل وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين كما هو مذهب سيبويه وجمهور النحاة.
فإن قيل : أصل التقاء الساكنين الكسر فلم عدل عنه ؟ أجيب : بأنهم لو كسروا لكان ذلك مفضياً إلى ترقيق لام الجلالة والمقصود تفخيمها للتعظيم فأوثر الفتح لذلك كما حركوها في نحو من الله، وأيضاً فقبل الميم ياء وهي أخت الكسرة وقبل هذه الياء كسرة، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات فحركوها بالفتح، وأمّا سقوط الهمزة فواضح وبسقوطها التقى الساكنان وقيل : إنّ هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين بل هي حركة نقل أي : نقلت حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو ﴿ قد أفلح ﴾ ( المؤمنون ١ ) في قراءة ورش وهذا مذهب الفرّاء وجرى عليه الزمخشريّ وأطال الكلام فيه ورده أبو حيان بما يطول ذكره وقوله تعالى ﴿ الله ﴾ مبتدأ وما بعده خبره وقوله تعالى :﴿ الحيّ القيوم ﴾ نعت له والحيّ هو الفعال الدراك والقيوم هو القائم بذاته والقائم بتدبير خلقه.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة ﴿ الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ﴾ ( البقرة، ٢٥٥ ) وفي آل عمران ﴿ الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ﴾ وفي طه ﴿ وعنت الوجوه للحيّ القيوم ﴾ ( طه، ١١١ ) ونقل البندنيجي عن أكثر العلماء أن الاسم الأعظم هو الله قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما : نزلت هذه الآية في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد صاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة حبرهم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات والحارث بن كعب يقول من ورائهم : ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دعوهم يصلوا إلى المشرق ) فكلم السيد والعاقب، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أسلما قالا قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاثة أشياء دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما للصليب وأكلكما الخنزير ) قالوا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعاً في عيسى، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ( ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ ) قالوا : بلى قال :( ألستم تعلمون أنّ ربنا حيّ لا يموت وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء ؟ ) قالوا : بلى قال :( ألستم تعلمون أنّ ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟ ) قالوا : بلى قال :( فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟ ) قالوا : لا قال :( ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ ) قالوا : بلى قال :( فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علمه الله ؟ ) قالوا : لا قال :( فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب ).
قالوا : بلى قال :( ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبيّ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ) قالوا : بلى قال :( وكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ ) فسكتوا فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ).
﴿ نزل عليك ﴾ يا محمد ﴿ الكتاب ﴾ أي : القرآن متلبساً ﴿ بالحق ﴾ أي : بالصدق في أخباره أو بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال أي : محقاً ﴿ مصدّقاً لما بين يديه ﴾ أي : قبله من الكتب.
فإن قيل : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه ؟ أجيب : بأن تلك الأخبار لغاية ظهورها وكونها موجودة سماها بهذا الاسم ﴿ وأنزل التوراة ﴾ جملة على موسى عليه الصلاة والسلام ﴿ والإنجيل ﴾ جملة على عيسى عليه الصلاة والسلام.
﴿ من قبل ﴾ أي : قبل تنزيل القرآن، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أو لا يدخلانهما لكونهما أعجميين فلا يناسب كونهما مشتقين، ورجح هذا الزمخشري وقال : قالوا لأنّ هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين وقوله تعالى :﴿ هدى ﴾ حال بمعنى هاديين من الضلالة ولم يثنه ؛ لأنه مصدر ﴿ للناس ﴾ أي : على العموم إن قلنا : متعبدون بشرع من قبلنا وهو رأي وإلا فالمراد بالناس قومهما وإنما عبر في التوراة والإنجيل بأنزل وفي القرآن بنزل المقتضى للتكرير ؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلافه. وقيل : إن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ومن سماء الدنيا منجماً في ثلاث وعشرين سنة فحيث عبر فيه بأنزل أريد الأول أو ينزل أريد الثاني.
فإن قيل : يردّ الأوّل بقوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ وبقوله تعالى :﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ ( البقرة، ٤ ) وبقوله تعالى :﴿ الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ﴾ ( الكهف، ١ ) وبقوله تعالى :﴿ وبالحق أنزلناه ﴾ ( الإسراء، ١٠٥ ) ويرد الثاني بقوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ﴾ ( الفرقان، ٣٢ ) أجيب : بأن القول بذلك جرى على الغالب ﴿ وأنزل الفرقان ﴾ أي : الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها، فكأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ولم يجمع ؛ لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران وقيل : القرآن وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحاً وتعظيماً وإظهاراً لفضله من حيث أنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً وتمييز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل.
وقيل : أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما قال تعالى :﴿ وآتينا داود زبوراً ﴾ ( النساء، ١٦٣ ) قال الزمخشريّ : وهو ظاهر ولما قرّر سبحانه جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال :﴿ إنّ الذين كفروا بآيات الله ﴾ من القرآن وغيره ﴿ لهم عذاب شديد ﴾ بسبب كفرهم ﴿ والله عزيز ﴾ أي : غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده ﴿ ذو انتقام ﴾ ممن عصاه والنقمة عقوبة المجرم أي : يعاقبه عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد.
﴿ إنّ الله لا يخفى عليه شيء ﴾ كائن ﴿ في الأرض ولا في السماء ﴾ لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئيّ.
فإن قيل : لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب : بأنه تعالى إنما خصهما ؛ به لأنّ البصر لا يتجاوزهما.
فإن قيل : لم قدّم الأرض على السماء ؟ أجيب : بأنها إنما قدمت ترقياً من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حياً.
وقوله تعالى :
﴿ هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ أي : من ذكورة وأنوثة، وبياض وسواد، وحسن وقبح، وتمام ونقص، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا : عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها : العلم، فإنه كان يخبر عن الغيوب، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً، فكأنه تعالى يقول : كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم التثليث فقال :﴿ لا إله إلا هو العزيز ﴾ في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب، وأنّ علم عيسى ببعض الصور، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم الإلهية ؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكنات عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود :( حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك أو قال : يبعث إليه الملك بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال : وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول : أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص ).
﴿ هو الذي أنزل عليك ﴾ يا محمد ﴿ الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ منه آيات محكمات ﴾ أحكمت عبارتها بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه فهي واضحات الدلالة ﴿ هنّ أمّ الكتاب ﴾ أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام ويحمل المتشابهات عليها وترد إليها ولم يقل أمّهات الكتاب ؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله واحد. وقيل : كل آية منهنّ أمّ الكتاب كما قال تعالى :﴿ وجعلنا ابن مريم وأمّه آية ﴾ ( المؤمنون، ٥٠ ) أي : كل واحد منهما آية وقوله تعالى :﴿ وأخر ﴾ نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر ﴿ متشابهات ﴾ أي : محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر.
فإن قيل : لم جعل بعضه متشابهاً وهلا كان كله محكماً ؟ أجيب : بأن في المتشابه من الابتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات الدرجات العلى عند الله.
فإن قيل : لم فرق هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع آخر فقال ﴿ الر كتاب أحكمت آياته ﴾ ( هود، ١ ) وجعل كله متشابهاً في موضع آخر فقال ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً ﴾ ( الزمر، ٢٣ ) أجيب : بأنه حيث جعل الكل محكماً فمعناه أنّ آياته حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وحيث جعل الكل متشابهاً فمعناه أنّ آياته يشبه بعضها بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
تنبيه : أخر جمع أخرى وإنما لم ينصرف ؛ لأنه وصف معدول عن الأخريات ففيه الوصف والعدل وهما علتان يمنعان الصرف ﴿ فأمّا الذين في قلوبهم زيغ ﴾ أي : ميل عن الحق كالمبتدعة ﴿ فيتبعون ما تشابه منه ﴾ أي : فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل ﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه ﴿ وابتغاء تأويله ﴾ أي : وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه ﴿ وما يعلم تأويله ﴾ أي : الذي يجب أن يحمل عليه ﴿ إلا الله والراسخون في العلم ﴾ أي : الذين ثبتوا وتمكنوا فيه وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم المتبع. وقال غيره : هو من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله تعالى، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
تنبيه : اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله ﴿ والراسخون ﴾ واو العطف أي : أنّ تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم ﴿ يقولون آمنا به ﴾ وهذا قول مجاهد والربيع وعلى هذا يكون قوله :﴿ يقولون ﴾ حالاً معناه والراسخون في العلم قائلين : آمنا به، وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله : والراسخون واو الاستئناف وتم الكلام عند قوله :﴿ وما يعلم تأويله إلا الله ﴾ وهو قول أبي بن كعب وعائشة وغيرهما وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحداً من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وعدد الزبانية، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به، وفي المحكم بالإيمان به والعمل. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به قال في «الكشاف » : والأوّل هو الأوجه اه.
ووجهه شيخنا القاضي زكريا بقوله : لأنّ المتشابه على الثاني يصير الخطاب به كالخطاب بالمهملات اه.
ومع هذا فالوجه هو الثاني ؛ لأنه أشبه بظاهر الآية ويدل له وجوه : أحدها أنه ذمّ طالب المتشابه بقوله تعالى :﴿ فأمّا الذين في قلوبهم زيغ ﴾ الآية وثانيها : أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون : آمنا به وقال في أوّل البقرة :﴿ فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ ( البقرة، ٢٦ ) فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ؛ لأنّ كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فلا بد أن يؤمن به وثالثها : لو كان قوله والراسخون معطوفاً لصار قوله : يقولون آمنا به ابتداء وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يقال وهم يقولون أو يقال ويقولون.
فإن قيل : في تصحيحه وجهان : الأوّل : أن يقولون خبر مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا. الثاني : أن يكون يقولون حالاً من الراسخون. أجيب : بأنّ الأوّل مدفوع بأنّ تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى، والثاني أنّ ذا الحال هو الذي تقدّم ذكره وهم الراسخون فوجب أن يكون قوله : آمنا به حالاً من الراسخون لا من الله وذلك ترك للظاهر، ورابعها : قوله تعالى :﴿ كل ﴾ أي : من المحكم والمتشابه ﴿ من عند ربنا ﴾ معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله وبما لم يعرفوا تفصيله ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة، وخامسها : نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحداً جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى، وسئل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى :﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ ( طه، ٥ ) فقال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
فإن قيل : ما الفائدة في لفظ عند، ولو قال كل من ربنا لحصل المقصود ؟ أجيب : بأنّ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد.
فإن قيل : لم حذف المضاف إليه من كل ؟ أجيب : بأنّ دلالته على المضاف إليه قوية فالأمن من اللبس بعد الحذف حاصل ﴿ وما يذكر ﴾ بإدغام التاء في الأصل في الذال أي : ما يتعظ بما في القرآن ﴿ إلا أولو الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول.
تنبيه : وجه اتصال هذه الآية وأوّلها ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ بما قبلها وأوّلها ﴿ هو الذي يصوّركم في الأرحام ﴾ أنه لما بين أنه قيوم وهو القائم بمصالح الخلق والمصالح قسمان : جسماني وروحاني، فالجسماني أشرفها تعديل البنية على أحسن شكل وهو المراد بقوله تعالى :﴿ هو الذي يصوّركم في الأرحام ﴾ وأمّا الروحاني فأشرفها العلم وهو المراد بقوله :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾.
ولما حكى سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : آمنا به حكى أنهم يقولون :
﴿ ربنا لا تزغ ﴾ أي : لا تمل ﴿ قلوبنا ﴾ عن طريق الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه ﴿ بعد إذ هديتنا ﴾ وفقتنا لدينك والإيمان بالحكم والمتشابه. قال عليه الصلاة والسلام :( قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه أي : القلب على الحق وإن شاء أزاغه عنه ) رواه الشيخان وغيرهما، وقيل : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا وعلى هذا اقتصر الزمخشري ووجه بأنّ ما ذكر كناية أو مجاز إذ لا تحسن من الله الإزاغة ليشمل نفيها وهذا بناء على مذهبه من الاعتزال، وأمّا مذهب أهل السنة فالزيغ والهداية خلق الله تعالى وكان صلى الله عليه وسلم يقول :( اللهمّ يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك ) وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً وبطناً ) ﴿ وهب لنا ﴾ أي : أعطنا ﴿ من لدنك ﴾ أي : من عندك ﴿ رحمة ﴾ أي : توفيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الإيمان والهدى أو مغفرة للذنوب ﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ لكل سؤل وفيه دليل على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى وأنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء ما.
﴿ ربنا إنك جامع الناس ﴾ أي : تجمعهم ﴿ ليوم ﴾ أي : في يوم ﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيه ﴾ أي : في وقوعه وما فيه من الحشر والجزاء وهو يوم القيامة فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت وقوله تعالى :﴿ إنّ الله لا يخلف الميعاد ﴾ أي : موعده بالبعث يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، وأن يكون من كلام الراسخين فيكون فيه التفات عن الخطاب وكأنهم لما طلبوا من ربهم الصون عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ووعدك حق فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن وفقته وهديته ورحمته بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.
تنبيه : احتج الوعيدية بهذه الآية على القطع بوقوع وعيد الفساق قالوا : لأنّ الوعيد داخل تحت لفظ الوعد لقوله تعالى :﴿ قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ﴾ ( الأعراف، ٤٤ ) والوعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. وأجيب : بأنا لا نسلم القول بالقطع بوقوع وعيد الفساق مطلقاً بل ذلك مشروط بعدم العفو كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاق فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه توعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ويكون قوله :﴿ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ﴾ كقوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ ( آل عمران، ٢١ ) وكقوله تعالى :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ ( الدخان، ٤٩ ) فيكون من باب التهكم، وذكر الواحدي في «البسيط » أنه يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ؛ لأنّ خلف الوعيد كرم عند العرب لأنهم يمدحون بذلك كما قال القائل :
إذا وعد السرّاء أنجز وعده وإن وعد الضرّاء فالعفو مانعه
وقال الآخر أيضاً :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
ولما حكى الله سبحانه وتعالى دعاء المؤمنين وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدّة عقابهم بقوله تعالى :
﴿ إنّ الذين كفروا ﴾ وهو عام في الكفرة، وقيل : المراد بهم وفد نجران أو اليهود أو مشركو العرب ﴿ لن تغنيَ ﴾ أي : لن تنفع ولن تدفع ﴿ عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ﴾ أي : من عذابه وقيل : من رحمته أو من طاعته على معنى البدلية قاله البيضاوي : أي : على أنّ من للبدل والمعنى لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي : بدل رحمته وطاعته. قال أبو حيان : وإثبات البدلية جمهور النحاة تأباه ﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾ أي : حطبها وفي ذلك كمال العذاب ؛ لأنّ كماله أن يزول عنه ما ينتفع به ثم يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، فالأوّل هو المراد بقوله تعالى :﴿ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ﴾ فإن المرء عند الشدّة يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب، فبين تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا وإذا تعذر عليه الانتفاع بالمال والولد وهما أقرب الطرق فما عداه بالتعذر أولى ونظيره ﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون٨٨ إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾ ( الشعراء، ٨٩ )، وأمّا الثاني من أسباب كمال العذاب وهو اجتماع الأسباب المؤلمة فهو المراد بقوله تعالى :﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾ وهذا هو النهاية في العذاب، فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس.
وقوله تعالى :
﴿ كدأب آل فرعون ﴾ إمّا استئناف مرفوع المحلّ خبر لمبتدأ مضمر تقديره دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون، وإمّا متصل بما قبله أي : لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد النار بهم كما توقد النار بآل فرعون وقوله تعالى :﴿ والذين من قبلهم ﴾ عطف على آل فرعون فيكون في محل جر وقيل : استئناف فيكون في محل رفع على الابتداء والخبر، وقوله تعالى :﴿ كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ وعلى الأوّل تكون هذه الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى :﴿ والله شديد العقاب ﴾ فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.
( ولما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع وقال : يا معشر اليهود احذروا من الله تعالى أن ينزل بكم مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت أقواماً أغماراً أي : جهالاً جمع غمر لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس ) نزل.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ للذين كفروا ستغلبون ﴾ في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية، وقد وقع ذلك بقتل قريظة وإجلاء النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم ﴿ وتحشرون ﴾ في الآخرة ﴿ إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ أي : الفراش والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس المهاد جهنم. وفي هذه الآية إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع خبره على موافقته فكان هذا إخباراً بالغيب فكان معجزة ولهذا لما نزلت هذه الآية قال لهم صلى الله عليه وسلم «إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم » وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
فإن قيل : أي فرق بين القراءتين من جهة المعنى ؟ أجيب : بأنّ معنى قراءة التاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم فهو إخبار بما سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيد بلفظه كأنه قال : أد إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.
﴿ قد كان لكم آية ﴾ أي : عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل قد كانت ؛ لأنّ الآية مؤنثة ؟ أجيب : بأنه إنما ذكر الفعل للفصل بينه وبين الاسم المؤنث بلكم فإن الفصل مسوغ لذلك مع المؤنث الحقيقي كقوله :
إنّ امرأ غره منكنّ واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
قال الفرّاء : وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه والخطاب لمشركي قريش وقيل : لليهود وقيل : للمؤمنين ﴿ في فئتين ﴾ أي : فرقتين ﴿ التقتا ﴾ يوم بدر ﴿ فئة ﴾ مؤمنة ﴿ تقاتل في سبيل الله ﴾ أي : طاعته وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف ﴿ و ﴾ فئة ﴿ أخرى كافرة ﴾ تقاتل في سبيل الشيطان وهم مشركو مكة وقوله تعالى :﴿ يرونهم مثليهم ﴾ قرأ نافع بالتاء على الخطاب أي : ترى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويوقنوا بالنصر الذي وعدهم به في قوله :﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ ( الأنفال، ٦٦ ) بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ ( الأنفال، ٦٥ ) والباقون بالياء على الغيبة أي : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكانوا تسعمائة وخمسين أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر.
فإن قيل : هذا مناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال ﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ ( الأنفال، ٤٤ ) أجيب : بأنه قللهم أوّلاً حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا إمداداً من الله تعالى للمؤمنين في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين ﴿ رأي ﴾ أي : في رأي ﴿ العين ﴾ أي : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقد نصرهم الله تعالى مع قلتهم ﴿ والله يؤيد ﴾ أي : يقوي ﴿ بنصره من يشاء ﴾ نصره كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ ﴿ إنّ في ذلك ﴾ المذكور ﴿ لعبرة ﴾ أي : عظة ﴿ لأولي الأبصار ﴾ أي : لذوي البصائر أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.
﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ أي : ما تشتهيه النفس، وتدعو إليه، والمزين هو الله تعالى للابتلاء كقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم ﴾ ( الكهف، ٧ ) أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله وقيل : الشيطان هو المزين، وذهب إليه المعتزلة واستدلوا بقول الحسن : الشيطان والله زينها لأنا لا نعلم أحداً أذم لها من خالقها، وإنما سميت شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحيوا شهواتها كقوله تعالى :﴿ أحببت حب الخير ﴾ ( ص، ٣٢ ) والشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ثم بيّن ذلك بقوله تعالى :﴿ من النساء ﴾ إنما بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان ﴿ والبنين والقناطير ﴾ جمع قنطار وهو المال الكثير قيل : ملء مسك ثور أي : ملء جلده وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : القنطار مائة ألف دينار. وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقال ﴿ المقنطرة ﴾ أي : المجمعة. وقال السديّ : المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير. وقال الفرّاء : المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ﴿ من الذهب والفضة ﴾ قيل : سمي الذهب ذهباً ؛ لأنه يذهب ولا يبقى والفضة فضة ؛ لأنها تنفض أي : تتفرّق ﴿ والخيل المسوّمة ﴾ أي : الحسان، وقال سعيد بن جبير : هي الراعية يقال : أسام الخيل وسوّمها والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس كالقوم والنساء ﴿ والأنعام ﴾ جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه ﴿ والحرث ﴾ أي : الزرع ﴿ ذلك ﴾ أي : ما ذكر من النساء وما بعده ﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ أي : يتمتع به فيها ثم يفنى ﴿ والله عنده حسن المآب ﴾ أي : المرجع وهو الجنة فينبغي الرغبة فيما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية دون غيره من الشهوات الناقصة الفانية.
فإن قيل : المآب قسمان : الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن كما قال تعالى :﴿ إنّ جهنم كانت مرصاداً ٢١ للطاغين مآباً ﴾ ( النبأ، ٢١ ) أجيب : بأنّ المقصود بالذات هو الجنة، وأمّا النار فمقصودة بالعرض والمقصود بالآية الترهيب في الدنيا والترغيب في الآخرة.
﴿ قل ﴾ يا محمد لقومك ﴿ أؤنبئكم ﴾ أأخبركم ﴿ بخير من ذلكم ﴾ أي : المذكور من الشهوات وهذا استفهام تقريري.
تنبيه : هنا همزتان مختلفتان من كلمة : الأولى مفتوحة والثانية مضمومة، قرأ قالون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل بينهما ألفاً وورش يسهل الثانية من غير إدخال ألف وينقل حركة الهمزة الأولى إلى اللام من قل فتصير اللام مفتوحة والثانية مضمومة، وابن كثير كورش إلا أنه لا ينقل الحركة إلا في لفظ القرآن وقرآن، وأبو عمرو يسهل الثانية ويدخل بينهما ألفاً كقالون وله وجه آخر وهو عدم إدخال ألف بينهما، والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى :﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ أي : مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم كما تقول : هل أدلك على رجل عالم عندي رجل عالم من صفته كيت وكيت ويجوز أن تتعلق اللام بخير وترتفع جنات على هو جنات ﴿ وأزواج مطهرة ﴾ من الحيض وغيره مما يستقذر من النساء وقوله تعالى :﴿ ورضوان من الله ﴾ قرأه شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها وهما لغتان : الكسر لغة الحجاز والضم لغة تميم. وقيل : بالكسر اسم وبالضم مصدر وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ).
تنبيه : قد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله لقوله تعالى :﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ ( التوبة، ٧٢ ) وأوسطها الجنة ونعيمها ﴿ والله بصير ﴾ أي : عالم ﴿ بالعباد ﴾ أي : بأعمالهم فيجازي كلاً منهم بعمله أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم جنات.
وقوله تعالى :
﴿ الذين ﴾ نعت للذين اتقوا أو للعباد أو بدل من الذين قبله ﴿ يقولون ﴾ يا ﴿ ربنا إننا آمنا ﴾ أي : صدّقنا ﴿ فاغفر لنا ذنوبنا ﴾ أي : استرها علينا وتجاوز عنا ﴿ وقنا عذاب النار ﴾.
تنبيه : في ترتيب سؤال المغفرة وما عطف عليها وسيلة على مجرّد الإيمان دليل على أنّ مجرّد الإيمان كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لأسبابها وأسباب ما عطف عليها.
وقوله تعالى :﴿ الصابرين ﴾ أي : على الطاعة وعن المعصية وعلى البأساء والضرّاء نعت ﴿ والصادقين ﴾ أي : في إيمانهم وأقوالهم قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السرّ والعلانية ﴿ والقانتين ﴾ أي : المطيعين لله ﴿ والمنفقين ﴾ أي : المتصدّقين ﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ أي : أواخر الليل كأن يقولوا : اللهمّ اغفر لنا خصت بالذكر ؛ لأنها وقت الغفلة ولذة النوم، وفي هذا كما قال البيضاوي : حصر لمقامات السالك على أحسن الترتيب أي : الذكرى فإنّ معاملته مع الله إمّا توسل وإمّا طلب، والتوسل إمّا بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما، وإمّا بالبدن وهو إمّا قولي وهو الصدق وإمّا فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة، وإمّا بالمال وهو الإنفاق في سبيل الخير وإمّا الطلب فالاستغفار ؛ لأنّ المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها انتهى.
وتوسيط الواو بين الصابرين وما بعده للدلالة على استقلال كل واحد منها وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بالصفات. وتخصيص الأسحار ؛ لأن الدعاء فيها أقرب من الدعاء في غيرها إلى الإجابة ؛ لأنّ العبادة حينئذٍ أشق والنفس أصفى والعقل أجمع لمعاني الألفاظ التي ينطق بها لا سيما للمتهجد قيل : إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون، وعن الحسن كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار فذا نهارهم وهذا ليلهم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ينزل الله إلى سماء الدنيا أي : أمره كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ).
وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه : يا بنيّ لا تكن أعجز من هذا الديك يصوّت في الأسحار وأنت نائم على فراشك. وعن زيد بن أسلم أنه قال : هم الذين يصلون الصبح في جماعة. وعبر بالسحر لقربه من الصبح.
﴿ شهد الله ﴾ أي : بين لخلقه بالدلائل وإنزال الآيات ﴿ أنه لا إله ﴾ أي : لا معبود بحق في الوجود ﴿ إلا هو ﴾ قال الكلبيّ :( قدم حبران من أحبار الشام على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له : أنت محمد ؟ قال : نعم قالا له : وأنت أحمد ؟ قال : أنا محمد وأحمد قالا : فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدّقناك فقال لهما : سلا قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلم الرجلان ). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الله الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد لنفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر فقال : شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴿ و ﴾ شهد بذلك ﴿ الملائكة ﴾ أي : أقرّوا بذلك ﴿ و ﴾ شهد بذلك ﴿ أولو العلم ﴾ أي : بالإيمان بذلك والاحتجاج عليه.
فإن قيل : ما المراد بأولي العلم الذين عظمهم الله تعالى هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله ؟ أجيب : بأنّ المراد بهم أنهم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد من الأنبياء والمؤمنين وفيه دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وقوله تعالى :﴿ قائماً ﴾ أي : بتدبير مصنوعاته حال من الله وإنما جاز إفراده تعالى بها لعدم اللبس، وإن اختلف في جاءني زيد وعمرو راكباً فقد منعه الزمخشري وتبعه البيضاويّ وجوّزه أبو حيان وقال : يحمل على الأقرب كما في الوصف في نحو جاءني زيد وعمرو الطويل أو حال من هو والعامل فيها معنى الجملة أي : تفرّد ﴿ بالقسط ﴾ أي : بالعدل وقوله تعالى :﴿ لا إله إلا هو ﴾ كرّر للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبني عليه قوله تعالى :﴿ العزيز ﴾ أي : في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ أي : في صنعه فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدم العزيز ؛ لأن العزة تلائم الوحدانية والحكمة تلائم القيام بالقسط فأتى بهما لتقرير الأمرين على ترتيب ذكرهما ورفعهما على البدل من الضمير الأوّل أو الثاني أو على الخبر المحذوف.
وعن أبي غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش، وكنت أختلف إليه، فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة فقام من الليل يتهجد فمرّ بهذه الآية، أي : شهد الله إلى آخرها ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً قلت : لقد سمع فيها فصليت معه وودّعته ثم قلت : إني سمعتك تردّدها فما بلغك فيها ؟ قال : والله لا أحدّثك بها إلى سنة فمكثت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة فقال : حدّثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة )، روى هذا الحديث الطبراني والبيهقيّ لكن بسند ضعيف.
وقوله تعالى :
﴿ إن الدين ﴾ أي : المرضي ﴿ عند الله ﴾ هو ﴿ الإسلام ﴾ جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي : لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو الشرع المبعوث به الرسل كما قال تعالى :﴿ ورضيت لكم الإسلام ديناً ﴾ ( المائدة، ٣ ) وقال تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ ( آل عمران، ٨٥ ) وقرأ الكسائي بفتح الهمزة إن قيل على أنه بدل من أنه الخ. . بدل اشتمال وضعفه أبو حيان ؛ لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي قال : والصواب أنه معمول للحكيم بإسقاط الجار أي : الحكيم بأن الدين، والباقون بكسرها على الاستئناف ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي : من اليهود والنصارى وقيل : من أرباب الكتب المتقدّمة في دين الإسلام فقال قوم : إنه حق. وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً أو في التوحيد فثلثت النصارى. وقالت اليهود : عزير ابن الله وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش ؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب ﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم ﴾ بالتوحيد أنه الحق الذي لا محيد عنه ﴿ بغياً ﴾ أي : ما كان الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب إلا حسداً ﴿ بينهم ﴾ وطلباً للرياسة. وقيل : هو اختلاف في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما جاءهم العلم ببيان بعثته في كتبهم حيث آمن به بعض وكفر به بعض وقيل : هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ومنهم من آمن بعيسى ولم يؤمن ببقية الأنبياء وقوله تعالى :﴿ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ﴾ أي : المجازاة له وعيد لمن كفر منهم.
﴿ فإن حاجوك ﴾ أي : جادلك الذين كفروا يا محمد في الدين ﴿ فقل ﴾ لهم ﴿ أسلمت وجهي ﴾ أي : أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيهما لغيره شركاً بأن أعبده ولا أدعو إلهاً معه يعني : أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبت عندكم صحته كما ثبت عندي، وما جئت بشيء مبتدع حتى تجادلوني فيه وخص الوجه بالذكر لشرفه فهو تعبير عن جملة الشخص بأشرف أجزائه الظاهرة وقوله تعالى :﴿ ومن اتبعن ﴾ عطف على التاء في أسلمت وحسن للفاصل ويجوز كما قال في «الكشاف » أن تكون الواو بمعنى مع فيكون مفعولاً معه أي : نظراً إلى أن المشاركة بين المتعاطفين في مطلق الإسلام أي : الإخلاص لا فيه بقيد وجهه حتى يمتنع ذلك لاختلاف وجهيهما ﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب ﴾ وهم اليهود والنصارى ﴿ والأمّيين ﴾ أي : الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب ﴿ أأسلمتم ﴾ أي : فهل أسلمتم ما أسلمت أنا فقد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة، أم أنتم بعد على الكفر وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته هل فهمتها ؟ وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ؛ لأن المنصف إذا انجلت له الحجة لم يتوقف إذعاناً للحق وكذلك في هل فهمتها ؟ توبيخ بالبلادة. وقيل : المراد بالاستفهام هنا الأمر أي : أسلموا كما قال تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ ( المائدة، ٩١ ) أي : انتهوا ﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا ﴾ أي : نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب : أسلمنا فقال لليهود :( أتشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ورسوله ؟ فقالوا : معاذ الله. وقال للنصارى : أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبداً ) فقال عز وجل ﴿ وإن تولوا ﴾ أي : عن الإسلام لم يضرّوك ﴿ فإنما عليك البلاغ ﴾ أي : فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى وقد بلغت وليس إليك الهداية ﴿ والله بصير بالعباد ﴾ أي : عالم بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن فيجازي كلاً منهم بعمله، وهذا قبل الأمر بالقتال.
﴿ إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ﴾ أي : بالعدل ﴿ من الناس ﴾ وهم اليهود قتل أوّلهم الأنبياء وقتلوا أتباعهم، ومن في عصره صلى الله عليه وسلم كفروا به وقصدوا قتله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لكن الله تعالى عصمهم.
وعن أبي عبيدة بن الجرّاح قلت :( يا رسول الله أي الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة ؟ قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عنه ). وروي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم وخبر إن ﴿ فبشرهم ﴾ أي : أعلمهم ﴿ بعذاب أليم ﴾ أي : مؤلم وذكر البشارة تهكم بهم.
فإن قيل : لم أدخل الفاء في خبر إن مع أنه لا يقال أن زيداً فقائم أجيب : بأن الموصول متضمن معنى الشرط فكأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم.
﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم ﴾ أي : ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم ﴿ في الدنيا والآخرة ﴾ فلا يعتدّ بها لعدم شرطها ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ أي : مانعين عنهم العذاب.
﴿ ألم تر ﴾ أي : تنظر ﴿ إلى الذين أوتوا نصيباً ﴾ أي : حظاً ﴿ من الكتاب ﴾ أي : التوراة أو جنس الكتب السماوية ومن للتبعيض أو البيان، قال البيضاوي : وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير انتهى. أمّا التعظيم فظاهر وهو ما اقتصر عليه الزمخشريّ، وأمّا التحقير ففيه نظر إذ النصيب المراد به الكتاب أو بعضه لا حقارة فيه وقد يقال : إن تحقيره بالنسبة إليهم حيث لم يعملوا به ﴿ يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ﴾ الداعي هو محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله القرآن أو التوراة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال :( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس أي : موضع صاحب دراسة كتبهم على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت ؟ قال : دين إبراهيم فقالا له : إن إبراهيم كان يهودياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله عز وجل هذه الآية ).
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أنّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى وعديّ بن عمرو : جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بيني وبينكم التوراة » قالوا : قد أنصفتنا قال :«فمن أعلمكم بالتوراة ؟ » قالوا : رجل يقال له عبد الله بن صوريا فأرسلوا إليه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له : اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجماً، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود وانصرفوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية ﴿ ثم يتولى فريق منهم ﴾ ) وأتى بثم لاستبعاد توليهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله تعالى واجب لا للتراخي في الزمان إذ لا تراخي فيه. وقوله تعالى :﴿ وهم معرضون ﴾ أي : عن قبول حكمه جملة حالية من فريق وإنما ساغ لتخصيصه بالصفة.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما ذكر من التولي والإعراض ﴿ بأنهم قالوا ﴾ أي : بسبب قولهم ﴿ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ﴾ أي : قالوا ذلك بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الاعتقاد المائل والطمع الفارغ عن حصول المطموع فيه وهو الخروج من النار بعد أيام قليلة وهي أربعون يوماً مدّة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم ﴿ وغرّهم في دينهم ﴾ والغرور هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء ﴿ ما كانوا يفترون ﴾ أي : من أن النار لن تمسهم إلا أياماً قلائل أو أن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.
تنبيه : في دينهم متعلق بغرّهم ولا يصح تعلقه بيفترون خلافاً للسيوطي ؛ لأن ما قبل الموصول لا يتعلق بما بعده.
﴿ فكيف ﴾ حالهم أو فكيف صنعهم ﴿ إذا جمعناهم ليوم ﴾ أي : في يوم ﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيه ﴾ وهو يوم القيامة وفي ذلك استعظام لما يحيق بهم في الآخرة.
روي أن أوّل راية أي : علم ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بهم إلى النار
﴿ ووفيت كل نفس ﴾ أي : من أهل الكتاب وغيرهم جزاء ﴿ ما كسبت ﴾ أي : عملت من خير أو شر وفي ذلك دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار وإن دخلها ؛ لأن توفية إيمانه وعمله لا يكون في النار ولا قبل دخولها فإذا هي بعد الخلاص إن دخلها ؛ ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي : بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
تنبيه : ذكر ضمير وهم لا يظلمون وجمعه باعتبار معنى كل نفس ؛ لأنه في معنى كل إنسان، ولما فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمداً مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم فأنزل الله سبحانه وتعالى.
﴿ قل اللهمّ ﴾ أي : يا الله والميم عوض عن ياء النداء ولذلك لا يجتمعان، والتعويض من خصائص هذا الاسم كما اختص بدخولها عليه مع لام التعريف وقطع همزته وكما اختص بدخول تا القسم عليه وأمّا قولهم : ترب الكعبة فنادر ﴿ مالك الملك ﴾ أي : مالك العباد وما ملكوا قال الله تعالى في بعض الكتب المنزلة : أنا الله ملك الملوك ومالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( كما تكونوا يولى عليكم ) ﴿ تؤتي ﴾ أي : تعطي ﴿ الملك ﴾ أي : في الدنيا ﴿ من تشاء ﴾ من خلقك ﴿ وتنزع الملك ممن تشاء ﴾ منهم، وقيل : المراد بالملك النبوّة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم، وقال الكلبيّ : تؤتي الملك لمحمد وأصحابه وتنزعه من أبي جهل وصناديد قريش، وقيل : تؤتيه لآدم وذرّيته وتنزعه من إبليس وجنوده ﴿ وتعز من تشاء ﴾ من خلقك، وقيل : محمداً وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها ﴿ وتذل من تشاء ﴾ منهم وقيل : أبا جهل وأصحابه حزت رؤوسهم وألقوا في القليب، وقيل : تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية، وقيل : تعز من تشاء بالقناعة وتذل من تشاء بالحرص والطمع، وقيل : تعز من تشاء بالتهجد وتذل من تشاء بتركه ﴿ بيدك ﴾ أي : بقدرتك ﴿ الخير ﴾ أي : والشر، واقتصر على الأوّل لمسارعة الأدب في الخطاب أو اكتفى بذكر أحد المقابلين كما في قوله تعالى :﴿ سرابيل تقيكم الحرّ ﴾ ( النحل، ٨١ ) أي : والبرد أو ؛ لأن الكلام وقع فيه إذ روى البيهقيّ وغيره :( أنه صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشر أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فجاء وأخذ المعول منه فضربها ضربة فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها أي : المدينة فكأنّ بها مصباحاً جاء في جوف بيت مظلم فكبر وكبر المسلمون وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب أي : في بياضها وصفرتها وانضمام بعضها إلى بعض، واللابتان حرّتان يكتنفانها والحرّة كل أرض ذات حجارة سوداء كأنها محترقة من الحرّ ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل أنّ أمّتي ظاهرة على كلها أي : الأراضي التي أضاءت فأبشروا، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم أيها المؤمنون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب أي : المدينة قصور الحيرة وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق أي : الخوف فنزلت ). ونبه أيضاً على أن الشرّ بيده بقوله :﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾ والشرّ شيء.
ثم عقب ذلك ببيان قدرته على تعاقب الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله فقال :
﴿ تولج ﴾ أي : تدخل ﴿ الليل في النهار ﴾ حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات ﴿ وتولج ﴾ أي : تدخل ﴿ النهار في الليل ﴾ حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر ﴿ وتخرج الحيّ من الميت ﴾ كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة ﴿ وتخرج الميت من الحيّ ﴾ كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر، وقال الحسن وعطاء : تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن فالمؤمن حيّ الفؤاد والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى :﴿ أو من كان ميتاً فأحييناه ﴾ ( الأنعام، ١٢٢ ) وقال الزجاج : تخرج النبات الغض الطريّ من الحب اليابس وتخرج الحب اليابس من النبات الحيّ النامي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة :﴿ الميت ﴾ بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشدّدة.
﴿ وترزق من تشاء بغير حساب ﴾ أي : رزقاً واسعاً. عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران شهد الله إلى قوله :﴿ إنّ الدين عند الله الإسلام ﴾، ﴿ وقل اللهمّ مالك الملك ﴾ إلى قوله ﴿ بغير حساب ﴾ معلقات ما بينهنّ وبين الله عز وجل حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك ؟ قال الله عز وجل بي حلفت لا يقرأكنّ أحد دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ولأسكننه حظيرة قدسي ولأنظرن إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرّة ولأقضينّ له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعيذنه من كل عدوّ وحاسد ولأنصرنه منه ).
﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾ يوالونهم. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار يرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر وقوله تعالى :﴿ من دون ﴾ أي : غير ﴿ المؤمنين ﴾ إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأنّ في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان
﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ أي : يوالي الكفرة ﴿ فليس من الله ﴾ أي : من ولاية الله ﴿ في شيء ﴾ يصح أن يسمى ولاية شرعية فإنّ ولاية المتعاديين لا يجتمعان لما بينهما من التضاد كما قال القائل :
فليس أخي من ودّني رأي عينه ولكن أخي من ودّني في المغايب
تودّ عدوّي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب
بعين مهملة وزاي أي : بغائب والنوك بضم النون الحمق والجنون ثم استثنى فقال :﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ أي : إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام : كن وسطاً أي : في معاشرتهم ومخالفتهم وامش جانباً أي : من موافقتهم فيما يأمرون ويذرون وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قوياً فيها، قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوّة المسلمين وأمّا اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوّهم ﴿ ويحذركم الله ﴾ أي : يخوّفكم ﴿ نفسه ﴾ أن يغضب عليكم إن واليتموهم ﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي : المرجع فيجازيكم فلا تتعرّضوا للسخط بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه فلا يبالي عنده بما يحذر من الكفرة.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ إن تخفوا ما في صدوركم ﴾ أي : قلوبكم من موالاة الكفار أو غيرها بما لا يرضى الله ﴿ أو تبدوه ﴾ أي : تظهروه ﴿ يعلمه الله ﴾ ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به وقال الكلبيّ : إن تسرّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله يعلمه الله ﴿ و ﴾ هو الذي ﴿ يعلم ما في السموات وما في الأرض ﴾ لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سرّكم وعلانيتكم ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فهو قادر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ لأنّ نفسه متصفة بعلم ذاتي يحيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية تعمّ المقدورات بأسرها فلا تعصوه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها لا محالة قادر على العقاب بها ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله بأن يوكل من يتجسس عن مواطن أموره لأخذ حذره منه كل الحذر فما بال من علم أن العالم الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهمّ إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك ونسألك اليقظة من سنة الغفلة.
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ﴾ نصب يوم بمضمر نحو اذكر وقوله تعالى :﴿ وما عملت ﴾ أي : عملته ﴿ من سوء ﴾ مبتدأ خبره
﴿ تودّ لو أنّ بينها ﴾ أي : النفس ﴿ وبينه ﴾ أي : السوء ﴿ أمداً بعيداً ﴾ أي : غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها، وكرّر سبحانه وتعالى :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾، قال البيضاوي : للتأكيد والتذكير وقال التفتازاني : الأحسن ما قيل أنّ ذكره أوّلاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشرّ وقوله تعالى :﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ إشارة إلى أنه تعالى : إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة إصلاحهم. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي رؤوف بقصر الهمزة والباقون بالمدّ وورش على أصله في المدّ والتوسط والقصر ونزل في اليهود والنصارى حيث قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾ وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وهم يسجدون لها فقال :( يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ) فقال له قريش : إنما نعبدها حباً لله تعالى ليقرّبونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى : قل لهم يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام لتقرّبكم إليه فاتبعوني يحببكم الله فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم أي : اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله، فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى :﴿ ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور ﴾ لمن اتبعني ما سلف من ذنبه قبل ذلك ﴿ رحيم ﴾ به. وعن الحسن زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عملهم، فمن ادّعى محبته وخالف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكره ويطرب وينعر ويصعق فلا شك أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا ؛ لأنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله وادّعائه ثم صفق وطرب ونعر وصعق عند تصوّرها وربما رأيت المنيّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته وحمقى العامة حواليه قد ملؤوا أذقانهم بالدموع لما رأوه من حاله.
ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى نزل قوله تعالى :
﴿ قل ﴾ لهم ﴿ أطيعوا الله والرسول ﴾ فيما يأمركم به من التوحيد ﴿ فإن تولوا ﴾ أي : أعرضوا عن الطاعة ﴿ فإنّ الله لا يحب الكافرين ﴾ أي : لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم وإنما أتى بالظاهر ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أنّ التولي كفر وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأنّ محبته مخصوصة بالمؤمنين.
ولما أوجب الله سبحانه وتعالى طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبيّن أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً على الطاعة فقال تعالى :
﴿ إن الله اصطفى ﴾ أي : اختار ﴿ آدم ونوحاً وآل إبراهيم ﴾ وهم إسماعيل وإسحق وأولادهما الرسل وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وآل عمران ﴾ موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر ﴿ على العالمين ﴾ بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم وبهذه الآية استدل على فضل الرسل على الملائكة وقيل : آل عمران عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة وقيل : آل إبراهيم وآل عمران أنفسهما.
وقوله تعالى :
﴿ ذرّية ﴾ بدل من آل إبراهيم وآل عمران ﴿ بعضها من ﴾ ولد ﴿ بعض ﴾ منهم وقيل : بعضها من بعض في الدين والذرّية تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى ﴿ والله سميع ﴾ لأقوال الناس ﴿ عليم ﴾ بأحوالهم فيصطفي من كان منهم مستقيم القول والحال، واذكر.
﴿ إذ قالت امرأت عمران ﴾ وهي حنة بنت فاقوذ أمّ مريم، وعمران هو عمران بن ماثان رئيس بني إسرائيل وليس هو عمران أبا موسى وهرون إذ كان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة كما مرّ وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
فائدة : رسمت امرأة بالتاء المجرورة ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء، والباقون بالتاء، ووقف الكسائيّ بالفتح والإمالة وإذا وقف حمزة سهل الهمزة.
وروي أنّ حنة كانت عاقراً عجوزاً فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت : اللهمّ إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من خدمه فحملت، فلما أحست بالحمل قالت : يا ﴿ رب إني نذرت ﴾ أن أجعل ﴿ لك ما في بطني محرّراً ﴾ أي : عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدّس، وكان هذا النذر مشروعاً في عهدهم في الغلمان فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همّ من ذلك وهلك عمران وحنة حامل بمريم ﴿ فتقبل مني ﴾ ما نذرته ﴿ إنك أنت السميع ﴾ لقولي ﴿ العليم ﴾ بنيتي.
﴿ فلما وضعتها ﴾ أي : ولدتها جارية والضمير لما في بطنها، وإنما أنث على المعنى ؛ لأنّ ما في بطنها كان أنثى في علم الله أو على تأويل النفس أو النسمة ولم يكن يحرّر إلا الغلمان وكانت ترجو أن يكون غلاماً ولذلك نذرت تحريره ﴿ قالت ﴾ معتذرة يا { رب إني وضعتها أنثى ).
فإن قيل : كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها وهو كقوله وضعت الأنثى أنثى ؟ أجيب : بأنّ الأصل وضعته أنثى وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأنّ الحال وصاحبها بالذات واحد وأما على تأويل النفس أو النسمة فهو ظاهر كأنها قالت : إني وضعت النفس أو النسمة أنثى
﴿ والله أعلم ﴾ أي : عالم ﴿ بما وضعت ﴾ قرأ ابن عامر وشعبة بسكون العين وضم التاء فيكون من كلامها قالته تسلية لنفسها أي : ولعل لله فيه سرّاً وحكمة ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون التاء فيكون من كلام الله تعالى تعظيماً لموضوعها وتجهيلاً لها بقدر ما وهب لها منه ومعناه والله أعلم بالأنثى التي وضعت وما علق به من عظائم الأمور وأن يجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت. وقرأ أبو عمرو والله أعلم بسكون الميم وإخفائها عند الباء بخلاف عنه، والباقون بالإظهار وقوله تعالى :﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾ بيان لما في قوله :﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾ من التعظيم للموضوع والرفع منه ومعناه وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها واللام فيهما للعهد أمّا معهود لام الأنثى ففي قولها إني وضعتها أنثى وأمّا معهود لام الذكر ففي قولها محرّراً ويجوز أن يكون معنى قولها وليس الذكر كالأنثى أي : وليس الذكر والأنثى سيين فيما نذرت لما يعتري الأنثى من الحيض والنفاس فتكون اللام للجنس وقوله تعالى :﴿ وإني سميتها مريم ﴾ عطف على ﴿ إني وضعتها أنثى ﴾ وما بينهما جملتان معترضتان كقوله تعالى :﴿ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ﴾ ( الواقعة، ٧٦ ) وإنما ذكرت ذلك لربها تقرّباً إليه وطلباً ؛ لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة.
تنبيه : في قوله تعالى : حكاية عنها ﴿ سميتها مريم ﴾ دليل على أنّ الاسم والمسمّى والتسمية أمور متغايرة أو معنى سميتها مريم جعلت اسم المولود مريم ﴿ وإني أعيذها ﴾ أي : أجيرها ﴿ بك ﴾ أي : بحفظك ﴿ وذرّيتها ﴾ أي : أولادها ﴿ من الشيطان الرجيم ﴾ أي : المطرود. روى الشيخان :( ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها ) ولا يبعد كما قال الطيبي اختصاص عيسى وأمّه بهذه الفضيلة دون الأنبياء لجواز أن يمكن الله تعالى الشيطان من مسهم مع عصمتهم من الإغواء ولا يمتنع كما قال التفتازاني : أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع وليست تلك المسة للإغواء ليدفع أنه لا يتصوّر في حق المولود حيث يولد وحينئذٍ فقول البيضاويّ معناه أنّ الشيطان يطمع في إغواء كل مولود أي : لا يمسه فيه إخراج الحديث عن ظاهره، وتبع فيه الزمخشريّ وهو ما سلكه المعتزلة حيث أنكروا هذا الحديث وقدحوا في صحته ؛ لأنّ الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل بني آدم يطعنه الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعنه في الحجاب ).
﴿ فتقبلها ربها ﴾ أي : قبل مريم من أمّها ورضي بها في النذر مكان الذكر ﴿ بقبول حسن ﴾ وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى ﴿ وأنبتها نباتاً حسناً ﴾ أي : أنشأها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام ﴿ وكفلها زكريا ﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ بتشديد الفاء وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش على أنّ الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي : جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها فلا بدّ من تقدير مضاف في الآية وهو مصالح ؛ لأنّ كفالة البدن لا معنى لها، وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدّوا زكريا مرفوعاً على الفاعلية.
روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد الأقصى ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها ؛ لأنها بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح فقال زكريا : أنا أحق بها ؛ لأنّ خالتها عندي، فقالت الأحبار : لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمّها التي ولدتها لكنا نقترع فيها فتكون عند من خرج سهمه وكانوا تسعة وعشرين رجلاً فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقوا فيه أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره.
وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء كما قال تعالى :﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب ﴾ أي : الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدّمها وكذلك هو من المسجد ويقال أيضاً للمسجد محراب قال المبرّد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرج ﴿ وجد عندها رزقاً ﴾.
قال الربيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب، فإذا دخل عليها غرفتها وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فإذا وجد عندها ذلك.
﴿ قال يا مريم أنّى لك هذا ﴾ أي : من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك ﴿ قالت ﴾ وهي صغيرة ﴿ هو من عند الله ﴾ يأتيني به من الجنة قيل : تكلمت في المهد وهي صغيرة كما تكلم ابنها عيسى وهو صغير في المهد ولم ترضع ثدياً قط، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة وفي هذا دليل وأي دليل على كرامة الأولياء وليس ذلك معجزة لزكريا كما زعمه جماعة ؛ لأنّ ذلك مدفوع باشتباه الأمر عليه حتى قال لها : أنى لك هذا ؟ ولو كان معجزة له لادعاها وقطع بها ؛ لأنّ النبيّ شأنه ذلك ويدل عليها غير ذلك كقصة أصحاب الكهف ولبثهم في الكهف سنين عدداً بلا طعام ولا شراب وقصة آصف من إتيانه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف ورؤية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر جيشه بنهاوند حين قال : يا سارية الجبل وسماع سارية ذلك وكان بينهما مسافة شهر، وشرب خالد رضي الله تعالى عنه السم من غير أن يضره، وبالجملة فكرامات الأولياء حق ثابتة بالكتاب والسنة وليس بعجيب إنكارها من أهل البدع والأهواء إذا لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يمزقونهم ويسمونهم بالجهلة المتصوّفة ولم يعرفوا أنّ مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما روي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة أنّ من اعتقد جواز ذلك يكفر والإنصاف ما ذكره الإمام النسفيّ حين سئل عما يحكى أنّ الكعبة كانت تزور بعض الأولياء هل يجوز القول به ؟ فقال : نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة.
وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله تعالى عنها رغيفين وبضعة لحم في طبق مغطى آثرته به فرجع بذلك إليها وقال :«هلمي يا بنية » فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنّ ذلك نزل من عند الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنى لك هذا ؟ » قالت : هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال لها عليه الصلاة والسلام :( الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل ) ثم جمع صلى الله عليه وسلم علياً والحسن والحسين وجميع أهل بيته، فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها ). فهذه كرامة لفاطمة رضي الله تعالى عنها وفي هذه الرواية دليل على أنّ قوله تعالى :﴿ إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ أي : رزقاً واسعاً بلا تبعة من كلام مريم رضي الله تعالى عنها ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى.
ولما رأى زكريا كرامة مريم ومنزلتها عند الله قال : إنّ الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب قادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر فطمع في الولد وذلك أنّ أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد قال الله عز وجل :
﴿ هنالك دعا زكريا ربه ﴾ أي : في ذلك المكان أو الوقت، قال الزمخشريّ : قد تستعار هنا، وثم وحيث للزمان أي : لمشابهة الزمان للمكان في الظرفية فاستعير له فدخل زكريا المحراب وناجى ربه في جوف الليل ﴿ قال ﴾ يا ﴿ ربّ هب لي ﴾ أي : أعطني ﴿ من لدنك ﴾ أي : من عندك ﴿ ذرية طيبة ﴾ كما وهبتها لحنة العجوز العاقر أي : ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً، والذرّية يكون واحداً وجمعاً ذكراً وأنثى وهو هنا واحد بدليل قوله :﴿ فهب لي من لدنك ولياً٥ يرثني ﴾ ( مريم، ٦ ) وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرّية ﴿ إنك سميع ﴾ أي : مجيب ﴿ الدعاء ﴾ لمن دعاك فلا تردّني خائباً.
﴿ فنادته الملائكة ﴾ أي : جنسهم كقولهم : فلان يركب الخيل فإنّ المنادي كان هو جبريل وحده، وقرأ حمزة والكسائيّ فناداه بالإمالة والتذكير، والباقون بالتاء ﴿ وهو قائم يصلي في المحراب ﴾ أي : المسجد وذلك أنّ زكريا كان هو الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول فبينما هو قائم يصلي في المحراب والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول، فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض، ففزع منه فناداه وهو جبريل.
وقرأ ﴿ إن الله يبشرك بيحيى ﴾ ابن عامر وحمزة بكسر الهمزة على إرادة القول، أو لأنّ النداء نوع من القول، والباقون بالفتح على بأن، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الياء من يبشرك وسكون الباء الموحدة وضمّ الشين مخففة، والباقون بضمّ الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين المشدّدة، واختلفوا في أنه لِمَ سمي يحيى قال ابن عباس : لأنّ الله أحيا به عقر أمّه وقال قتادة : لأنّ الله أحيا قلبه بالإيمان وقيل : لأنّ الله تعالى أحيا قلبه بالطاعة حتى أنه لم يهم بمعصية وهو اسم أعجمي منع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى وقيل : عربي ومنع صرفه للتعريف ووزن الفعل كينسى، وجمعه يحيون كموسون وعيسون ﴿ مصدّقاً بكلمة ﴾ كائنة ﴿ من الله ﴾ أي : بعيسى أنه روح الله وسمي كلمة ؛ لأنه خلق بكلمة كن وقيل : لأنّ الله أخبر الأنبياء بكلامه في كتابه أنه يخلق نبياً بلا أب فسماه بكلمة لحصول ذلك الوعد، وكان يحيى أوّل من آمن بعيسى وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليهما الصلاة والسلام، وقول البيضاويّ وكان يحيى وعيسى ابن خالة من الأب فيه تجوز إذ يحيى ابن خالة أمّ عيسى لا ابن خالته وعيسى ابن بنت خالة يحيى لا ابن خالته ﴿ وسيداً ﴾ أي : يسود قومه فيصير متبوعاً. وقال الضحاك : السيد الحسن الخلق. وقال سعيد بن جبير : السيد الذي يطيع ربه وقال سعيد بن المسيب : السيد الفقيه العالم ﴿ وحصوراً ﴾ أي : مبالغاً في حبس النفس على الشهوات والملاهي.
روي أنه مرّ وهو طفل بصبيان فدعوه للعب فقال : ما للعب خلقت. وقال سعيد بن المسيب : الحصور هو المعسر الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور كأنه ممنوع من النساء وقيل : كان له مثل هدبة الثوب، وقد تزوّج مع ذلك ليكون أغض لبصره، وقيل : هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه واختار قوم هذا القول لوجهين : أحدهما أنّ الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء ﴿ ونبياً ﴾ ناشئاً ﴿ من الصالحين ﴾ لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين فمن على هذا للتبعيض كقوله تعالى :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ ( البقرة، ١٣٠ ).
﴿ قال رب أنى ﴾ أي : كيف ﴿ يكون لي غلام ﴾ أي : ابن ﴿ وقد بلغني الكبر ﴾ أي : أدركني كبر السن وأثر فيّ وكان عمره مائة وعشرين سنة وقيل : تسعاً وتسعين سنة ﴿ وامرأتي عاقر ﴾ أي : لا تلد من العقر وهو القطع ؛ لأنها ذات عقر من الأولاد وكانت بنت ثمان وتسعين سنة.
فإن قيل : كيف قال زكريا بعدما وعده الله تعالى أن يكون له غلام أنى يكون لي غلام أكان شاكاً في وعد الله وفي قدرته ؟ أجيب : بأنه قال ذلك استبعاداً من حيث العادة كما قالت مريم أو استعظاماً وتعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه أي : أتجعلني وامرأتي شابين أو ترزقنا ولداً على الكبر منا أو ترزقني امرأة أخرى ؟ وقيل : إنّ زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال : يا زكريا إنّ الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعاً للوسوسة ﴿ قال ﴾ الأمر ﴿ كذلك ﴾ أي : من خلق غلام منكما ﴿ الله يفعل ما يشاء ﴾ لا يعجزه عنه شيء ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه الله السؤال ليجاب بها ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به.
﴿ قال رب اجعل لي آية ﴾ أي : علامة أعرف بها حمل امرأتي لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر ﴿ قال آيتك ﴾ عليه ﴿ أن لا تكلم الناس ﴾ أي : تمتنع من كلامهم ﴿ ثلاثة أيام ﴾ أي : بلياليها كما في سورة مريم ثلاث ليال ﴿ إلا رمزاً ﴾ أي : إشارة بيد أو رأس والاستثناء منقطع وقيل : متصل والمراد بالكلام حينئذٍ ما دل على ما في الضمير وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذلك قال :﴿ واذكر ربك كثيراً وسبح ﴾ أي : صل ﴿ بالعشيّ ﴾ وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ﴿ والإبكار ﴾ وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
فإن قيل : لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟ أجيب : بأنه إنما فعل به ذلك لتخلص المدّة المذكورة لذكر الله تعالى لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها التي طلب الآية من أجله كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه وقال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قالت الملائكة ﴾ أي : جبريل قال لها شفاهاً :﴿ يا مريم إنّ الله اصطفاك ﴾ أي : اختارك بأن تقبلك من أمّك ولم يقبل قبلك أنثى وفرغك للعبادة وأغناك برزق الجنة عن الكسب وتكليمه لها شفاها كرامة لها. وقيل : كان معجزة لزكريا، وقيل : كان إرهاصاً أي : تأسيساً لنبوّة عيسى صلى الله عليه وسلم بطريق الخوارق قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بطريق الشام وإنما حمل على هذا التأويل ؛ لأنها ليست بنبية على الأصح بل حكى البيضاويّ الإجماع على أنه تعالى لم ينبئ امرأة لقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً ﴾
( الأنبياء، ٧ ) لكن نوزع في دعوى الإجماع ؛ لأنّ الخلاف ثابت في نبوّة نسوة خصوصاً مريم إذ القول بنبوّتها مشهور ﴿ وطهرك ﴾ أي : مسيس الرجال ومما يستقذر من النساء ﴿ واصطفاك ﴾ ثانياً ﴿ على نساء العالمين ﴾ بهدايتك وإرسال الملائكة إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب ولم يكن لأحد من النساء.
فائدة : أفضل نساء العالمين مريم كما في الآية إذ قيل بنبوّتها ثم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خديجة أمّها ثم عائشة ثم آسية امرأة فرعون.
فإن قيل : روى الطبرانيّ :( خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ثم آسية امرأة فرعون ) أجيب : بأنّ خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة.
﴿ يا مريم اقنتي لربك ﴾ أي : أطيعيه ﴿ واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾ أي : وصلي مع المصلين في الجماعة أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم.
فإن قيل : لم قدم السجود على الركوع ؟ أجيب : باحتمال أنه كان كذلك في تلك الشريعة وقيل : بل كان السجود قبل الركوع في الشرائع كلها أو للتنبيه على أنّ الواو لا تقتضي الترتيب.
﴿ ذلك ﴾ أي : ما قصصناه عليك يا محمد من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى ﴿ من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾ أي : من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي ﴿ وما كنت لديهم ﴾ أي : عندهم ﴿ إذ يلقون أقلامهم ﴾ في الماء أي : سهامهم التي طرحوها فيه وعليها علامة على القرعة وقيل : هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركاً بها ليعلموا ﴿ أيهم يكفل مريم ﴾ أي : يحضنها ويربيها، فأيّ متعلق بمحذوف كما علم من التقدير ﴿ وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ في كفالتها فتعرف ذلك فتخبر به وإنما عرفته من جهة الوحي.
فإن قيل : لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم من غير شبهة وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم ؟ أجيب : بأنه كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ وما كنت بجانب الغربي ﴾ ( القصص، ٤٤ ) ﴿ وما كنت بجانب الطور ﴾ ( القصص، ٢٦ ) ﴿ وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ﴾ ( يوسف، ١٠٢ ) واذكر.
﴿ إذ قالت الملائكة ﴾ أي : جبريل ﴿ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ﴾ أي : بابن ﴿ اسمه المسيح عيسى بن مريم ﴾ وإنما خاطبها بنسبته إليها تنبيهاً على أنها تلده بلا أب إذ عادة الأبناء نسبتهم إلى آبائهم لا إلى أمهاتهم وبنسبته إليها فضلت واصطفيت على نساء العالمين.
فإن قيل : هذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى، وأمّا المسيح والابن فلقب وصفة أجيب : بأنّ الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز عمن سواه مجموع هذه الثلاثة، والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك لقوله :﴿ وجعلني مباركاً أينما كنت ﴾ واشتقاقه من المسح ؛ لأنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحاً بالدهن، أو لأنّ جبريل مسحه بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل، أو لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له. وقال ابن عباس : سمي مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برئ، ويسمى الدجال مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين وعيسى معرب إيشوع وهو بالشين المعجمة السيد. قال البيضاويّ اشتقاقه من العيس وهو بياض تعلوه حمرة وهو تكلف لا طائل تحته وقوله تعالى :﴿ وجيهاً ﴾ أي : ذا جاه حال مقدّرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة.
فإن قيل : لم ذكر ضمير الكلمة أجيب : بأنّ المسمى بها مذكر ﴿ في الدنيا ﴾ أي : بالنبوّة والتقدّم على الناس ﴿ و ﴾ في ﴿ الآخرة ﴾ بالشفاعة والدرجات العلى ﴿ ومن المقرّبين ﴾ عند الله تعالى لعلوّ درجته في الجنة ورفعه إلى السماء وصحبته للملائكة.
﴿ ويكلم الناس في المهد ﴾ أي : صغيراً قبل أوان الكلام كما ذكر في سورة مريم قال :﴿ قال إني عبد الله آتاني الكتاب ﴾ ( مريم، ٣٠ ) الآية. وحكي عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. والمهد ما يمهد للصبيّ من مضجعه وقوله تعالى :﴿ وكهلاً ﴾ عطف على في المهد أي : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولية وحال الكهولية التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء، وقد رفع بعد كهولته، وقيل : إنه رفع شاباً وعلى هذا المراد كهلاً بعد نزوله وذكر تعالى أحواله المختلفة المتنافية إرشاداً إلى أنه بمعزل عن الألوهية.
فإن قيل : فما فائدة البشارة بكلامه كهلاً والناس في ذلك سواء ؟ أجيب : بأنه بشرها بأنه يبقى إلى أن يتكهل وبعدم التفاوت بين الحالين كما مرّ وقوله تعالى :﴿ ومن الصالحين ﴾ أي : من عباد الله الصالحين حال من كلمة أو من ضميرها الذي في يكلم.
فإن قيل : لم ختم الصفات المذكورة بقوله :﴿ ومن الصالحين ﴾ بعد كونه وجيها في الدنيا وفسرت بالنبوّة ولا شك أنّ النبوّة أرفع من منصب الصلاح بل كل واحدة من الصفات المذكورة أشرف من كونه صالحاً ؟ أجيب : بأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على المنهج الأصلح وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعد النبوّة ﴿ وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ ( النمل، ١٩ ) فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات.
﴿ قالت ربّ ﴾ أي : يا سيدي فقولها لله عز وجلّ وقيل : قالته لجبريل قاله البغويّ وقال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل بمعنى يا سيدي ﴿ أنى ﴾ أي : كيف ﴿ يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ﴾ أي : ولم يصبني رجل بتزوّج ولا غيره، قالت ذلك تعجباً إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد مولود بلا أب أو استفهاماً عن أن يكون بتزوّج أو بغيره ﴿ قال ﴾ الأمر ﴿ كذلك ﴾ من خلق ولد منك بلا أب ﴿ الله يخلق ما يشاء ﴾ القائل جبريل أو الله وجبريل حكى لها وقوله تعالى ﴿ إذا قضى أمراً ﴾ أي : أراد كون شيء ﴿ فإنما يقول له كن ﴾ صر وقرأ ﴿ فيكون ﴾ ابن عامر بفتح النون، والباقون بضمها أي : فهو يكون ؛ لأنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجاً بأسباب وموادّ يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه هناك.
وقوله تعالى :
﴿ ونعلمه الكتاب ﴾ أي : الكتابة ﴿ والحكمة ﴾ أي : العلم المقترن بالعمل ﴿ والتوراة والإنجيل ﴾ كلام مستأنف ذكر تطييباً لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم حين علمت أنها تلد من غير زوج وقيل : المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما، وقرأ نافع وعاصم بالياء والباقون بالنون.
﴿ و ﴾ نجعله ﴿ رسولاً إلى بني إسرائيل ﴾ إما في الصبا أو بعد البلوغ وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثه إليهم وللردّ على من زعم أنه مبعوث إلى غيره.
فائدة : كان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى عليهم الصلاة والسلام، ولما بعث إليهم قال لهم : إني رسول الله إليكم
﴿ أني ﴾ أي : بأني ﴿ قد جئتكم بآية ﴾ أي : علامة ﴿ من ربكم ﴾ تصدّق قولي، وإنما قال بآية وقد أتى بآيات ؛ لأنّ الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة.
ولما قال ذلك لبني إسرائيل قالوا : وما هي ؟ قال : هي ﴿ أني ﴾ قرأ نافع وحده بكسر الهمزة على الاستئناف، وفتح الياء من إني نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون ﴿ أخلق ﴾ أي : أصوّر ﴿ لكم من الطين كهيئة الطير ﴾ أي : مثل صورته فيصير طيراً كسائر الطيور وحياً طياراً، والكاف اسم مفعول وقرأ ورش بالمدّ على الياء من هيئة والتوسط كما تقدّم في شيء ﴿ فأنفخ فيه ﴾ الضمير للكاف أي : في ذلك المماثل للطير أي : في فيه
﴿ فيكون طيراً بإذن الله ﴾ أي : بإرادته نبه بذلك على أن إحياءه من الله تعالى لا منه، وقرأ نافع بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة ورقق ورش الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف فقراءة الجمع نظراً إلى أنه خلق طيراً كثيراً وقراءة المفرد نظراً إلى أنه نوع واحد من الطير ؛ لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش ؛ لأنه أكمل الطير خلقاً ؛ لأنّ له أسناناً وللأنثى ثدياً وتحيض، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الله وليعلم أنّ الكمال لله عز وجلّ.
﴿ وأبرئ ﴾ أي : أشفي ﴿ الأكمه ﴾ وهو الذي ولد أعمى أو ممسوح العينين. قال الزمخشريّ : ويقال لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب «التفسير » ولعل هذا على التفسير الثاني ﴿ والأبرص ﴾ وهو الذي به برص وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته وإنما خص هذين المرضين بالذكر ؛ لأنهما أعيا الأطباء وكان الغالب في زمن عيسى الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك، قال وهب : ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً، من أطاق منهم أن يبلغه أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده على شرط الإيمان.
وإنما قال ثانياً ﴿ وأحيي الموت بإذن الله ﴾ وكرّر بإذن الله دفعاً لتوهّم الألوهية، فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية، قال ابن عباس : قد أحيا عيسى أربعة أنفس : عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح عليه السلام، فأمّا عازر فكان صديقاً له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام إنّ أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتى هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله سبحانه وتعالى فقام وخرج من قبره وبقي وولد له، وأما ابن العجوز فمرّ به ميتاً على عيسى يحمل على سرير فدعا الله تعالى عيسى فجعل على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له، وأما ابنة العاشر فكان رجلاً يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى فأحياها فبقيت وولد لها، وأما سام بن نوح فإنّ عيسى عليه السلام جاء إلى قبره ودعا فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفاً من قيام الساعة وما كانوا يشيبون في ذلك الزمان فقال : قد قامت القيامة ؟ فقال : لا ولكن قد دعوت الله تعالى فأحياك، ثم قال له : مت فقال : بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى ففعل به ما قال.
﴿ وأنبئكم ﴾ أي : أخبركم ﴿ بما تأكلون ﴾ بما لم أعاينه ﴿ وما تدّخرون ﴾ أي : تخبئون ﴿ في بيوتكم ﴾ حتى تأكلوه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما أكل اليوم وبما ادّخره للعشاء، وقال السدي : كان عيسى في الكتاب يحدث الغلمان بما تصنع آباؤهم، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا قال : فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون : من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا لهم : لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا : ليسوا ههنا قال : فما في هذا البيت ؟ قالوا : خنازير قال عيسى : كذلك يكونوا ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل فلما خافت عليه أمّه حملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر، وقال قتادة : إنما هذا في المائدة وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمنّ والسلوى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد فخانوا وخبؤوا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وادّخروا منها فمسخهم الله خنازير ﴿ إن في ذلك ﴾ الذي ذكرته لكم
﴿ لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي : مصدّقين للحق غير معاندين.
وقوله تعالى :
﴿ ومصدّقاً ﴾ منصوب بإضمار فعل يدل عليه قد جئتكم أي : وجئتكم مصدّقاً ﴿ لما بين يدي ﴾ أي : قبلي ﴿ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم ﴾ فيها في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فأحل لهم أكل الشحوم والثروب وهو شحم رقيق يغشى الكرش والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت وقيل : أحل الجميع فبعض بمعنى كل كقول لبيد :
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
يعني كل النفوس.
فإن قيل : كيف يكون مصدّقاً للتوراة والإحلال يدل على أنّ شرعه كان ناسخاً لشرع موسى ؟ أجيب : بأنه لا تناقض كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بالتناقض والتكاذب، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وإنما كرر ﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾ للتأكيد وليبني عليه ﴿ فاتقوا الله ﴾ أي : في مخالفة أمره أي : جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات وبغيره من ولادتي من غير أب ومن كلامي في المهد وغير ذلك، فهي في الحقيقة آيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته
﴿ وأطيعون ﴾ فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وطاعته.
ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال :
﴿ إنّ الله ربي وربكم ﴾ لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه ﴿ فاعبدوه ﴾ أي : لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ﴿ هذا ﴾ الذي دعوتكم إليه ﴿ صراط ﴾ أي : طريق ﴿ مستقيم ﴾ أي : هو المشهود له بالاستقامة.
روى الإمام أحمد وغيره أنّ رجلاً قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال :( قل آمنت بالله ثم استقم ).
ولما قال لهم ذلك كذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى :
﴿ فلما أحس عيسى ﴾ أي : علم ﴿ منهم ﴾ علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ﴿ الكفر قال من أنصاري ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالسكون أي : أعواني وقوله :﴿ إلى الله ﴾ متعلق بمحذوف حال من الياء أي : من أنصاري ذاهباً إلى الله تعالى ملتجئاً إليه تعالى لأنصر دينه وقيل : إلى هنا بمعنى مع أو في أو اللام ﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ أي : أعوان دينه واختلفوا في الحواريين، فقال السدي : لما بعث الله تعالى عيسى إلى بني إسرائيل كذبوه وأخرجوه فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوماً مهتماً حزيناً فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم : ما شأن زوجك أراه كئيباً ؟ قالت : لا تسأليني قالت : أخبريني لعل الله يفرّج كربته قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يوماً أن يطعمه وجنوده ويسقيهم خمراً فإن لم يفعل عاقبه واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة قالت : فقولي له لا تهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك، فقالت مريم لعيسى في ذلك قال عيسى : إن فعلت ذلك وقع شرّ قالت : فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا. قال عيسى : قولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك فدعا الله عيسى فتحوّل ماء القدور مرقاً ولحماً وماء الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط، فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال : من أين هذا الخمر ؟ قال : من أرض كذا قال : فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هي من أرض أخرى فلما خلط على الملك شدّد عليه قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً، فلما أحضره وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق إليه فقال : إنّ رجلاً دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً ليجأ به إليّ حتى يحيي ابني فدعي بعيسى إليه فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا أفعل فإنه إن عاش وقع شرّ. قال الملك : لا عليك. قال عيسى : إن أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء ؟ قال : نعم فدعا الله تعالى فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمّه فمرّوا بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : نصطاد السمك قالوا : ومن أنت ؟ قال : عيسى بن مريم عبد الله ورسوله فقالوا :﴿ آمنا ﴾ أي : صدقنا ﴿ بالله واشهد ﴾ يا عيسى ﴿ بأنا مسلمون ﴾ لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت ﴾ من الإنجيل ﴿ واتبعنا الرسول ﴾ عيسى ﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ لك بالوحدانية أو مع النبيين الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم شهداء على الناس وقال الحسن : كانوا قصارين سموا بذلك ؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب أي : يبيضونها، وعلى الأوّل سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال عطاء : سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال : يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان وقد علمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغاً منها عند قدومي، وخرج فطبخ عيسى جباً واحداً على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال : كوني بإذن الله تعالى على ما أريد منك فقدم الحواري والثياب كلها في الجب فقال : ما فعلت ؟ قال : فرغت منها قال : أين هي ؟ قال : في الجب قال : كلها ؟ قال : نعم قال : لقد أفسدت تلك الثياب فقال : قم فانظر فأخرج عيسى ثوباً أصفر وثوباً أخضر وثوباً أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها، فجعل الحواري يتعجب وعلم أنّ ذلك من الله تعالى، فقال للناس : تعالوا فانظروا فآمن هو وأصحابه وهم الحواريون وقال الكلبي وعكرمة : الحواريون الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى أوّل من آمن به وكانوا اثني عشر من الحور وهو البياض الخاص، وحواري الرجل صفوته وخالصته. وقيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهن قال القائل :
فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
قال الله تعالى :
﴿ ومكروا ﴾ أي : كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر به، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام بعد إخراج قومه إياه وأمّه عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ووكلوا به من يقتله غيلة وهي بالكسر أن يخدع غيره فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله فذلك مكرهم إذ المكر من المخلوق الخبث والخديعة والحيلة، وأمّا من الخالق وهو قوله تعالى :﴿ ومكر الله ﴾ أي : بهم ﴿ والله خير الماكرين ﴾ أي : أعلمهم به، فقال الزجاج : مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء ؛ لأنه في مقابلته كقوله تعالى :﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ ( البقرة، ١٥ ) وهو خادعهم ومكر الله تعالى بهم في هذه الآية بأن ألقى شبهه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل.
روي أنّ عيسى استقبل رهطاً من اليهود فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير، فلما رأى ذلك يهوذا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها كوة فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الكوة فأمر يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل لم ير عيسى فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه، فلما صلب جاءت أمّ عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله تعالى من الجنون يبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى فقال لهما : على من تبكيان ؟ إنّ الله تعالى رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شبه لهم، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى : اهبط إلى مريم فإنه لم يبك عليك أحد بكاها ولم يحزن حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل، فأهبطه الله تعالى إليها فاشتعل حين أهبط نور فجمعت له الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله تعالى إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون تحدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه الصلاة والسلام إليهم.
وروي أنّ الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت فقال لها : إنّ القيامة تجمعنا وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة، وقالت أهل التواريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشر سنة وولدته لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، فأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين وعاشت أمّه بعد رفعه ست سنين.
وقوله تعالى :
﴿ إذ قال الله ﴾ ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو لمضمر مثل اذكر ﴿ يا عيسى إني متوفيك ﴾ أي : مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكافر ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم أو قابضك من الأرض. من توفيت مالي أي : قبضته أو متوفيك نائماً كما قال تعالى :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ﴾ ( الأنعام، ٦٠ ) أي : يميتكم، إذ روي أنه رفع نائماً أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت ﴿ ورافعك إليّ ﴾ أي : إلى محل كرامتي ومقرّ ملائكتي، إذ روي أنّ الله تعالى رفعه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وكان إنسياً سماوياً أرضياً، وقال محمد بن إسحاق : النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه. وقال الضحاك : إنّ في الآية تقديماً وتأخيراً معناه إني رافعك إليّ ﴿ ومطهرك من الذين كفروا ﴾ أي : مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ومتوفيك بعد إنزالك من السماء.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ).
وروى الشيخان حديث :( أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ) وفي حديث مسلم أنه يمكث سبع سنين، وفي حديث عند أبي داود والطيالسي «أربعين سنة » ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، فيحمل على أنّ مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده أربعون، وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد نزول عيسى في القرآن ؟ قال : نعم قوله تعالى :﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلاً ﴾
( آل عمران، ٤٦ ) وهو لم يتكهل في الدنيا وإنما معناه كهلاً بعد نزوله من السماء انتهى. وهذا إنما يأتي على القول بأنه رفع شاباً، وأما على القول بأنه رفع بعد ثلاث وثلاثين فلا دليل فيه إذ الكهولة من الثلاثين إلى الأربعين ﴿ وجاعل الذين اتبعوك ﴾ أي : صدقوا بنبوّتك من النصارى ومن المسلمين ؛ لأنه متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفت الشرائع ﴿ فوق الذين كفروا ﴾ بك من اليهود والنصارى أي : يغلبونهم بالحجة والسيف ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ وقيل : المراد بالذين اتبعوه النصارى وبالذين كفروا اليهود إذ لم نسمع غلبة اليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة وملك النصارى قائم إلى قريب من قيام الساعة وعلى هذا يكون الإتباع بمعنى الادعاء في المحبة لا اتباع الدين ﴿ ثم إليّ مرجعكم ﴾ الضمير لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به وغلب المخاطب على الغائبين ﴿ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ من أمر الدين.
ثم بين الحكم بقوله :
﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا ﴾ بالقتل والسبي والجزية والذلة ﴿ و ﴾ أعذبهم في ﴿ الآخرة ﴾ بالنار.
فإن قيل : الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة فكيف يصح في تبيينه العذاب في الدنيا ؟ أجيب : بأنّ المقصود التأييد من غير نظر إلى الدنيا والآخرة كما في قوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ أي : مانعين منه.
﴿ وأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم ﴾ أي : أجور أعمالهم، وقرأ حفص بالياء، والباقون بالنون ﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ أي : لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل.
وقوله تعالى :
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما سبق من خبر عيسى ومريم وامرأة عمران وهو مبتدأ خبره ﴿ نتلوه ﴾ أي : نقصه ﴿ عليك ﴾ يا محمد وقوله تعالى :﴿ من الآيات ﴾ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أو حال من الهاء ﴿ والذكر الحكيم ﴾ أي : القرآن وصف بصفة من هو سببه أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. وقيل : هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء. ولما قال وفد نجران للرسول صلى الله عليه وسلم : مالك سببت صاحبنا ؟ قال : وما أقول ؟ قالوا : تقول إنه عبد قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب، نزل.
﴿ إنّ مثل عيسى ﴾ أي : شأنه وحالته الغريبة ﴿ عند الله كمثل آدم ﴾ أي : كشأنه في خلقه من غير أب وقوله تعالى :﴿ خلقه ﴾ أي : آدم ﴿ من تراب ﴾ جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم أي : خلق آدم من تراب ولم يكن ثم أب ولا أم فكذلك حال عيسى.
فإن قيل : كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب وآدم بغير أب وأم ؟ أجيب : بأنّ مثله في أحد الطرفين ولا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيه به ؛ لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران، ولأنّ الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له قال : فآدم أولى ؛ لأنه لا أبوين له قالوا : كان يحيي الموتى قال فحزقيل أولى ؛ لأنّ عيسى أحيا أربعة أنفس ؟ قيل ثمانية آلاف فقالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص قال : فجرجيس أولى ؛ لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً. ومعنى خلق آدم من تراب أي : صوّر جسده من تراب ﴿ ثم قال له كن ﴾ أي : أنشأه بشراً بأن نفخ فيه الروح كقوله تعالى :﴿ ثم أنشأناه خلقاً آخر ﴾ ( المؤمنون، ١٤ ) وقوله تعالى :﴿ فيكون ﴾ حكاية حال ماضية أي : فكان وكذلك عيسى قال له : كن من غير أب فكان ويجوز أن تكون ثم لتراخي الخبر لا لتراخي المخبر عنه.
وقوله تعالى :
﴿ الحق من ربك ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : أمر عيسى وقوله تعالى :﴿ فلا تكن من الممترين ﴾ أي : الشاكين خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره فحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممترياً.
﴿ فمن حاجك ﴾ أي : جادلك من النصارى ﴿ فيه ﴾ أي : عيسى ﴿ من بعد ما جاءك من العلم ﴾ أي : من البينات الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبد الله ورسوله ﴿ فقل ﴾ لهم ﴿ تعالوا ﴾ أي : هلموا بالرأي والعزم ﴿ ندع ﴾ جزم في جواب الأمر وعلامة جزمه سقوط الواو ﴿ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾ أي : ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وإنما قدّمهم على النفس ؛ لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم فنجمعهم ﴿ ثم نبتهل ﴾ أي : نتضرع في الدعاء ونبالغ فيه ﴿ فنجعل لعنت الله على الكاذبين ﴾ بأن نقول : اللهم العن الكاذب بأمر عيسى، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض وقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها رضي الله عنها وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم :«إذا أنا دعوت فأمنوا » فقال أسقف نجران وهو اسم سرياني لرئيس النصارى وعاملهم وهو غير العاقب : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا : يا أبا القاسم رأيت أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمك ( فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ) فأبوا فقال :( إني أنابذكم ) فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تحنفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب تؤديها للمسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدّوها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال :( والذي نفسي بيده إنّ العذاب تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ) ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال :﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ﴾ ) ( الأحزاب، ٣٣ )، وفي ذلك دليل على نبوّته صلى الله عليه وسلم وعلى فضل أهل الكساء رضي الله تعالى عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين.
فائدة : رسمت لعنة هنا بالتاء المجرورة، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي عليها بالهاء، والباقون بالتاء.
﴿ إن هذا ﴾ أي : الذي قص عليك من نبأ عيسى ﴿ لهو القصص ﴾ أي : الخبر ﴿ الحق ﴾ الذي لا شك فيه، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء من لهو والباقون بالرفع حيث جاء وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها وإمّا مبتدأ والقصص الحق خبره والجملة خبران.
فإن قيل : لم جاز دخول اللام على الفصل ؟ أجيب : بأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أولى ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ وأصلها أن تدخل على المبتدأ ﴿ وما من إله إلا الله ﴾ إنما صرح فيه بمن المزيدة للاستغراق تأكيداً للردّ على النصارى في تثليثهم ﴿ وإن الله لهو العزيز ﴾ في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه فلا أحد يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة فلا يشاركه في الألوهية.
﴿ فإن تولوا ﴾ أي : أعرضوا عن الإيمان ﴿ فإنّ الله عليم بالمفسدين ﴾ فيجازيهم وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنّ التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والاعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم.
ولما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود واختصموا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه وأولى الناس به، وقالت اليهود : بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام ) فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، نزل.
﴿ قل يا أهل الكتاب ﴾ وهو يعم أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى ﴿ تعالوا إلى كلمة ﴾ العرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنها سميت القصيدة كلمة، وقوله تعالى :﴿ سواء ﴾ مصدر بمعنى مستو أمرها لا تختلف فيها الرسل والكتب ﴿ بيننا وبينكم ﴾ هو نعت الكلمة ؛ لأنّ المصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مدّت وإذا كسرت أو ضمت قصرت كقوله تعالى :﴿ مكاناً سوى ﴾ ( طه، ٥٨ ) ثم فسر الكلمة بقوله :﴿ أن لا نعبد إلا الله ﴾ أي : نوحده بالعبادة ونخلص له فيها ﴿ ولا نشرك به شيئاً ﴾ أي : ولا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً ؛ لأن يعبد ﴿ ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ﴾ أي : ولا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل، لأنهم بشر مثلنا.
روى الترمذي لما نزل قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾ قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال :( أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟ قال : نعم قال : هو ذلك ) أي : أخذكم بقولهم ﴿ فإن تولوا ﴾ أي : أعرضوا عن التوحيد ﴿ فقولوا ﴾ أنتم لهم ﴿ اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ أي : موحدون دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو نحو ذلك : اعترف بأني الغالب وسلم لي الغلبة.
قال البيضاوي : تنبيه : انظر ما راعى أي : الله سبحانه وتعالى في هذه القصة من المبالغة والإرشاد وحسن التدرج في الحجاج أولاً لأحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح أي : يزيل شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد إليهم بالإرشاد وسلك طريقاً أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد أي : ينفع ذلك أيضاً عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك، وقال : اشهدوا بأنا مسلمون.
﴿ يا أهل الكتاب ﴾ وقد مرّ أنه يعم أهل الكتابين اليهود والنصارى ﴿ لم تحاجون ﴾ أي : تخاصمون ﴿ في إبراهيم ﴾ بزعمكم أنه على دينكم ﴿ وما أنزلت التوراة ﴾ على موسى ﴿ والإنجيل ﴾ على عيسى ﴿ إلا من بعده ﴾ أي : بزمن طويل إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية ﴿ أفلا تعقلون ﴾ بطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.
﴿ ها أنتم ﴾ يا ﴿ هؤلاء ﴾ ها للتنبيه وأنتم مبتدأ خبره ﴿ حاججتم ﴾ أي : جادلتم ﴿ فيما لكم به علم ﴾ من أمر موسى وعيسى وزعمتم أنكم على دينهما ﴿ فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ﴾ من شأن إبراهيم وليس له ذكر في كتابكم ﴿ والله يعلم ﴾ ما حاججتم فيه ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ أي : جاهلون به.
ثم قال تعالى تبرئة لإبراهيم :
﴿ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً ﴾ أي : مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم ﴿ مسلماً ﴾ أي : موحداً منقاداً لله تعالى وليس المراد أنه كان على دين الإسلام وإلا لاشترك الإلزام ؛ لأنهم يقولون : ملة الإسلام حدثت بعد نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وكان إبراهيم قبله بمدّة طويلة فكيف يكون على ملة الإسلام الحادثة بنزول القرآن، فعلم أن المراد يكون إبراهيم مسلماً أنه كان على ملة التوحيد لا على هذه الملة ﴿ وما كان من المشركين ﴾ كما لم يكن منكم أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم عزيراً والمسيح.
﴿ إنّ أولى الناس ﴾ أي : أحقهم ﴿ بإبراهيم ﴾ من أمّته ﴿ للذين اتبعوه ﴾ من أمّته ﴿ وهذا النبيّ والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين ﴾ أي : ناصرهم وحافظهم ولما دعا اليهود معاذاً وحذيفة وعماراً إلى دينهم نزل.
﴿ ودّت ﴾ أي : تمنت ﴿ طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ﴾ عن دينكم ويردّونكم إلى الكفر ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ أي : أمثالهم أو إن أثم إضلالهم عليهم والمؤمنون لا يطيعونهم فيه ﴿ وما يشعرون ﴾ بذلك.
﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وأنتم تشهدون ﴾ أنها آيات الله عز وجل أو بالقرآن العزيز وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق.
﴿ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق ﴾ أي : القرآن المشتمل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بالباطل ﴾ أي : بالتحريف والتزوير ﴿ وتكتمون الحق ﴾ أي : نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنه حق.
﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب ﴾ أي : اليهود قالوا لجماعة منهم ﴿ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا ﴾ أي : القرآن أي : أظهروا الإيمان به ﴿ وجه النهار ﴾ أي : أوّله وإنما سمي أوّله وجهاً لأنه أحسنه ولأنه أوّل ما يرى بعد الليل ﴿ واكفروا ﴾ به ﴿ آخره لعلهم ﴾ أي : المؤمنين ﴿ يرجعون ﴾ عن دينهم إذا رأوكم رجعتم واختلف في هذه الطائفة، فقال الحسن والسديّ : هي اثنا عشر من يهود خيبر وقيل : قريظة تواطؤوا، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أوّل النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك فظهر لنا كذبه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه واتهموه وقالوا : إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا فيرجعون عن دينهم. وقال مجاهد ومقاتل والكلبيّ : هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما تحوّلت القبلة وشق ذلك على اليهود آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أوّل النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا.
﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع ﴾ أي : وافق ﴿ دينكم ﴾ أي : ولا تقرّوا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أولى وأهمّ فأطلع الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على سرّهم.
تنبيه : قال البغويّ : اللام في لمن صلة أي : لا تصدقوا إلا من تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى :﴿ عسى أن يكون ردف لكم ﴾ ( النمل، ٧٢ ) أي : ردفكم ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إنّ الهدى هدى الله ﴾ الذي هو الإسلام وما عداه ضلال وقوله تعالى :﴿ أن يؤتى ﴾ بمعنى الجحد أي : ما يؤتى ﴿ أحد مثل ما أوتيتم ﴾ يا أمّة محمد ﴿ أو يحاجوكم ﴾ أي : إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا : نحن أفضل منكم وقوله تعالى :﴿ عند ربكم ﴾ أي : عند فعل ربكم بكم ذلك، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والكلبيّ ومقاتل والحسن وهو حسن، وقال الفرّاء : ويجوز أن تكون أو بمعنى حتى كما يقال تعلق به أو يعطيك حقك أي : حتى يعطيك حقك ويكون معنى الآية ما أعطى أحد مثل ما أعطيتم يا أمّة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم أي يوم القيامة.
وقال مجاهد قوله :﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ كلام معترض بين كلامين وما بعد متصل بالكلام الأوّل إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض أي : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات من المنّ والسلوى وفلق البحر وغيرها من الكرامات ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح ديناً منهم، وقرأ ابن كثير وحده بهمزة واحدة، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هدى الله بدلاً من الهدى وأن يؤتى أحد خبر أن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم، قال : ويجوز أن ينتصب أن يؤتى بفعل مضمر يدل عليه قوله :﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ﴾ كأنه قيل : قل إنّ الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأنّ قولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم إنكار، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا قال تعالى :﴿ قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ من عباده ﴿ والله واسع ﴾ أي : كثير الفضل ﴿ عليم ﴾ بمن هو أهله.
﴿ يختص برحمته ﴾ أو نبوّته ﴿ من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾ ففي ذلك ردّ وإبطال لما زعموه بالحجة الواضحة.
﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار ﴾ أي : بمال كثير ﴿ يؤدّه إليك ﴾ كعبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأدّاه إليه ﴿ ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك ﴾ كفنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر من قريش ديناراً فجحده ﴿ إلا ما دمت عليه قائماً ﴾ أي : إلا إن أودعته واسترجعته منه وأنت قائم على رأسه لم تفارقه ردّه إليك وإن فارقته وأخرته نكل ولم يردّه، وقيل : المأمون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم، وقرأ حمزة وأبو عمرو وشعبة يؤدّه ولا يؤدّه إليك بإسكان الهاء فهو وصل بنية الوقف فهو سكون وقف بالنية لا بالفعل وقالون باختلاس حركة الهاء، وحفص والكسائي بالحركة الكاملة والألف في قنطار ودينار بالإمالة لأبي عمرو والدوري عن الكسائي وورش بينَ بين والباقون بالفتح ﴿ ذلك ﴾ أي : ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤدّه ﴿ بأنهم قالوا ﴾ أي : بسبب قولهم ﴿ ليس علينا في الأمّيين ﴾ أي : العرب ﴿ سبيل ﴾ أي : إثم لاستحلالهم ظلم من خالفهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى قالوا : لن يجعل الله لهم في التوراة حرمة فكذبهم الله عز وجل بقوله عز من قائل ﴿ ويقولون على الله الكذب ﴾ أي : في نسبة ذلك إليه ﴿ وهم يعلمون ﴾ أنهم كاذبون وقال الحسن وابن جريج ومقاتل : بايع اليهود رجلاً من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا : ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء ؛ لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فكذبهم الله تعالى في ذلك.
روى الطبراني وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه ( كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي ) أي : منسوخ متروك إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر أي : والديون من الأمانة ؛ لأنّ المراد من الأمانة الرضا بالذمّة.
وقوله تعالى :
﴿ بلى ﴾ إثبات لما نفوه أي : بلى على اليهود في الأمّيين سبيل ثم ابتدأ فقال :﴿ من أوفى بعهده ﴾ أي : ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة ﴿ واتقى ﴾ الله بترك المعاصي وفعل الطاعات ﴿ فإن الله يحب المتقين ﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر أي : يحبهم بمعنى يثيبهم.
فإن قيل : فأين الضمير الراجع من الخبر إلى من ؟ أجيب : بأنّ عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.
ونزل في أحبار من اليهود حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانة وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة.
﴿ إن الذين يشترون ﴾ أي : يستبدلون ﴿ بعهد الله ﴾ إليهم في الإيمان للنبيّ صلى الله عليه وسلم والوفاء بأداء الأمانة ﴿ وإيمانهم ﴾ أي : حلفهم به تعالى كاذباً من قولهم : والله لنؤمننّ ولننصرنه ﴿ ثمناً قليلاً ﴾ من الدنيا ﴿ أولئك لا خلاق ﴾ أي : لا نصيب ﴿ لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ﴾ أي : بما يسرّهم أو بشيء أصلاً وأنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة ﴿ ولا ينظر إليهم ﴾ أي : ولا يرحمهم ﴿ يوم القيامة ولا يزكيهم ﴾ أي : ولا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به وقيل : نزلت في جماعة من اليهود جاؤوا إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين فقال لهم : أتعلمون أنّ هذا الرجل رسول الله قالوا : نعم قال : لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً كثيراً فقالوا : لعله اشتبه علينا فرويداً حتى نلقاه فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته ثم رجعوا إليه وقالوا : لقد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ففرح ومارهم، وعن الأشعث بن قيس :( نزلت فيّ كان بيني وبين رجل خصومة في بئر وأرض، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : شاهداك أو يمينه فقلت : إذا يحلف ولا يبالي فقال : من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك هذه الآية ).
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات فقال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟ قال :( المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ) وفي رواية المسبل إزاره، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم رجل حلف على يمين على مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر أنه أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماء، فإنّ الله تعالى يقول :( اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ).
﴿ وإن منهم ﴾ أي : أهل الكتاب ﴿ لفريقاً ﴾ أي : طائفة ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب ﴿ يلوون ألسنتهم بالكتاب ﴾ أي : يقتلونها بقراءته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك يقال : لوى لسانه عن كذا أي : غيره
﴿ لتحسبوه ﴾ أي : المحرف المدلول عليه بقوله تعالى :﴿ يلوون ﴾ ﴿ من الكتاب ﴾ الذي أنزل الله ﴿ وما هو من الكتاب ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم بفتح السين والباقون بكسرها، وقوله تعالى :﴿ ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ﴾ تأكيد لقوله ﴿ وما هو من الكتاب ﴾ وزيادة تشنيع عليهم به وبيان لأنهم يزعمون ذلك تصريحاً لا تعريضاً أي : ليس هو نازلاً من عنده.
فإن قيل : نفى الله تعالى كون التحريف من عنده وهو فعل العبد فلا يكون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى وإلا لما صح نفيه عنه تعالى أجيب : بأنّ المنفي هو الإنزال كما تقرّر ولا كون التحريف غير مخلوق لله تعالى بكسب العبد وقوله تعالى :﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ تأكيد أيضاً وتسجيل عليهم بالكذب والتعمد فيه.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
﴿ ما كان ﴾ أي : ما ينبغي ﴿ لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ﴾ أي : الفهم للشريعة ﴿ والنبوّة ﴾ أي : المنزلة الرفيعة بالإنباء ﴿ ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ﴾ فقال مقاتل والضحاك : نزلت في نصارى نجران كانوا يقولون : إن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً فقال تعالى :﴿ ما كان لبشر ﴾ أي : عيسى ﴿ أن يؤتيه الله الكتاب ﴾ أي : الإنجيل، وقال ابن عباس وعطاء : ما كان لبشر أي : محمد أن يؤتيه الله الكتاب أي : القرآن وذلك ( أن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟ فقال :( معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني ) فنزلت.
وقيل :( قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال :( ما ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم ويوضع موضع الجمع والواحد ﴿ ولكن ﴾ يقول :﴿ كونوا ربانيين ﴾ أي : علماء عاملين منسوب إلى الرب بزيادة ألف ونون تفخيماً كما يقال رقباني ولحياني وهو الشديد التمسك بدين الله تعالى وطاعته، وقيل : الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل : الربانيون فوق الأحبار والأحبار العلماء والربانيون الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس. وعن الحسن : ربانيين علماء فقهاء، وحكي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال : هو الذي يربي علمه بعمله. وقال محمد بن الحنفية : يوم مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهم : اليوم مات رباني هذه الأمّة ﴿ بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾ أي : بسبب كونكم تعلمون الكتاب وبسبب كونكم دارسين له، فإنّ فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل فيكتفي بذلك دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جميع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ويجوز أن يكون معناه : تدرسونه على الناس كقوله تعالى :﴿ لتقرأه على الناس ﴾ وفيه أنّ من علم ودرس العلم ولم يعمل، فليس من الله في شيء وأنّ السبب بينه وبين الله تعالى منقطع حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء وسكون العين وفتح اللام مخففة، والباقون بضمّ التاء وفتح العين وكسر اللام مشدّدة.
﴿ ولا يأمركم ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب الراء عطفاً على يقول أي : البشر والباقون برفع الراء على أنه استئناف أي : الله ﴿ أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ﴾ كما اتخذت الصابئة الملائكة واليهود عزيراً والنصارى عيسى وقوله تعالى :﴿ أيأمركم بالكفر ﴾ إنكار والضمير فيه للبشر أو لله على الوجهين السابقين وقوله تعالى :﴿ بعد إذ أنتم مسلمون ﴾ دليل على أنّ الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون على أن يسجدوا له.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ أخذ الله ميثاق النبيين ﴾ أي : عهدهم ﴿ لما آتيتكم من كتاب وحكمة ﴾.
قرأ حمزة والكسائي بكسر اللام من لما فتكون متعلقة بأخذ، والباقون بالفتح على الابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وما موصولة على الوجهين أي : للذي آتيتكموه لتؤمننّ به، وقرأ نافع : آتيناكم بالنون مفتوحة بعد الياء بعدها ألف، والباقون بتاء مضمومة ﴿ ثم جاءكم ﴾ تقدّم أنّ حمزة وابن ذكوان يميلان الألف محضة، والباقون بالفتح ﴿ رسول مصدّق لما معكم ﴾ من الكتاب والحكمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى :﴿ لتؤمننّ به ولتنصرنه ﴾ جواب القسم أي : إن أدركتموه وأممهم تبع لهم في ذلك. وقيل : المراد أولاد النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرائيل أو سماهم نبيين تهكماً لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوّة من محمد ؛ لأنا أهل كتاب والنبيون كانوا منا ﴿ قال ﴾ الله تعالى لهم :
﴿ أأقررتم ﴾ بذلك قرأ قالون وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وألف بينها وبين الهمزة الأولى وابن كثير كذلك إلا أنه لا يدخل ألفاً بينهما، ولورش وجهان : أحدهما كابن كثير والثاني أنه يبدل الثانية حرف مدّ ولهشام في الهمزة التحقيق والتسهيل مع دخول ألف بينهما، والباقون بتحقيق الهمزتين من غير دخول ألف بينهما ﴿ وأخذتم ﴾ أي : قبلتم تقدّم أن ابن كثير وحفصاً يظهران الذال المعجمة عند التاء من أخذتم والباقون بالإدغام ﴿ على ذلكم إصري ﴾ أي : عهدي سمي به ؛ لأنه مما يؤصر أي : يشدّ ويعقد ومنه الآصار الذي يعقد به ﴿ قالوا أقررنا قال فاشهدوا ﴾ على أنفسكم وأتباعكم بذلك ﴿ وأنا معكم من الشاهدين ﴾ عليكم وعليهم وهو توكيد وتحذير عظيم من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض، وقيل : الخطاب للملائكة.
﴿ فمن تولى ﴾ أي : أعرض ﴿ بعد ذلك ﴾ أي : الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة ﴿ فأولئك الفاسقون ﴾ أي : المتمرّدون من الكفرة.
روي ( أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من الفريقين ادّعى أنه أولى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم ) فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ دينك فنزل.
﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾ وهذه الجملة معطوفة على الجملة المتقدّمة وهي ﴿ فأولئك هم الفاسقون ﴾ والهمزة متوسطة بينهما للإنكار ويجوز أن تعطف على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله ؛ لأنه أهمّ من حيث أن الإنكار الذي معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل، وقرأ أبو عمرو وحفص بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب على تقدير وقل لهم :﴿ وله ﴾ سبحانه وتعالى :﴿ أسلم ﴾ أي : خضع وانقاد ﴿ من في السماوات والأرض طوعاً ﴾ أي : بالنظر في الأدلة واتباع الحجة والإنصاف من نفسه ﴿ وكرهاً ﴾ بالسيف ومعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون وقومه والإشراف على الموت لقوله تعالى :﴿ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ﴾ ( غافر، ٨٤ ) وقال الحسن : أسلم أهل السماوات طوعاً وأهل الأرض بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً خوفاً من السيف والسبي وقيل : هذا يوم الميثاق حين قال :﴿ ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ﴾ ( الأعراف، ١٧٢ ) فقال بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً قال قتادة : المسلم أسلم طوعاً فنفعه، والكافر كرهاً في وقت البأس فلم ينفعه قال تعالى :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ﴾ ( غافر، ٨٥ ) وانتصب طوعاً وكرهاً على الحال بمعنى الطائعين ومكروهين ﴿ وإليه ترجعون ﴾ قرأ حفص بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ﴾ أي : أولاده ﴿ وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ﴾ بالتصديق والتكذيب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعمن تبعه بالإيمان، فلذلك وحد الضمير في قل وجمعه في آمنا وعلينا ؛ لأن القرآن كما هو منزل عليه منزل على متابعيه بتوسط تبليغه إليهم أو بأن يتكلم عن نفسه بالجمع على طريقة الملوك إجلالاً له.
فإن قيل : لم عدي أنزل في هذه الآية بعلى وفيما تقدّم من مثلها في سورة البقرة بإلى ؟ أجيب : بأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فعدي تارة بإلى ؛ لأنه ينتهي إلى الرسل وتارة بعلى ؛ لأنه من فوق وما قيل : من أنه إنما خص ما هنا بعلى وما هناك بإلى ؛ لأن ما هنا خطاب للنبيّ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية فناسب الإتيان بعلى المختصة بالعلوّ، وما هناك خطاب للأمّة وقد وصل إليهم بواسطة النبيّ الذي هو من البشر فناسب الإتيان بإلى المختصة بالاتصال. قال الزمخشري : فيه تعسف ألا ترى إلى قوله :﴿ بما أنزل إليك ﴾ و﴿ أنزلنا إليك الكتاب ﴾
( النساء، ١٠٥ ) وإلى قوله تعالى :﴿ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا ﴾ ( آل عمران، ٧٢ ).
فإن قيل : لم قدم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل ؟ أجيب : بأنه إنما قدم ؛ لأن المنزل عليه هو المعرّف للمنزل على سائر الرسل، ولأنه أفضل الكتب المنزلة ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي : موحدون مخلصون له في العبادة لا نجعل له شريكاً فيها. ونزل فيمن ارتدّ ولحق بالكفار وهم اثنا عشر رجلاً ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً ﴾ أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله فهو مشتمل على الإيمان بهذا التقدير وديناً تمييز مبين للإسلام والدين يشتمل على التصديق والأعمال الصالحة فالإسلام كذلك ؛ لأنّ المبين لا يخالف المبين وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله تعالى :﴿ إنّ الدين عند الله الإسلام ﴾ ( آل عمران، ١٩ ) والدين هو الوضع الإلهي السائق لكل خير ﴿ فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.
وقوله تعالى :
﴿ كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ﴾ لفظه استفهام ومعناه جحد أي : لا يهديهم الله لما علم من تصميمهم على كفرهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم ﴿ و ﴾ بعدما ﴿ شهدوا أن الرسول حق و ﴾ قد ﴿ جاءهم البينات ﴾ أي : الحجج الظاهرة على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي : الكافرين.
﴿ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴾ والمراد بالناس المؤمنون أو العموم، فإن الكافر يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.
تنبيه : دلت هذه الآية بمنطوقها على جواز لعن القوم المذكورين وبمفهومها على نفي جواز لعن غيرهم من الكفار الذين لم يكفروا بعد إيمانهم. قال البيضاوي : ولعلّ الفرق أنهم أي : هؤلاء مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مأيوسون عن الرحمة بخلاف غيرهم أي : فلا يلعن الكافر الأصلي المعين حياً ولا ميتاً ما لا يعلم موته على الكفر، وكالأصلي المرتدّ وأمّا لعن الكافر على العموم فيجوز.
﴿ خالدين فيها ﴾ أي : اللعنة أو النار أو العقوبة المدلول باللعنة عليها ﴿ لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ﴾ أي : يمهلون.
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾ عملهم تصديقاً لتوبتهم ﴿ فإنّ الله غفور ﴾ لهم يقبل توبتهم ﴿ رحيم ﴾ بهم يتفضل عليهم وذلك ( أنّ الحرث بن سويد لما ارتدّ ولحق بالكفار ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته ).
ونزل في اليهود :﴿ إنّ الذين كفروا ﴾ بعيسى والإنجيل ﴿ بعد إيمانهم ﴾ بموسى والتوراة ﴿ ثم ازدادوا كفراً ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل : كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه والصدّ عن الإيمان ونقض الميثاق ﴿ لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ﴾ أي : الثابتون على الضلال.
فإن قيل : قد وعد الله تعالى قبول توبة من تاب فما معنى قوله تعالى :﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ ؟ أجيب : بأنّ محل القبول إذا كان قبل الغرغرة وهؤلاء توبتهم كانت بعدها وإنهم لم يتوبوا أصلاً فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها أو أنّ توبتهم لا تكون إلا نفاقاً.
﴿ إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء ﴾ أي : مقدار ما يملؤها من ﴿ الأرض ﴾ شرقها إلى غربها ﴿ ذهباً ﴾ تغليظاً في شأنهم وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة.
فإن قيل : لم قال في الآية الأولى لن تقبل بغير فاء وفي هذه بقوله : فلن يقبل بالفاء أجيب : بأن الفاء إنما دخلت في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذاناً بتسبب امتناع الفدية على الموت على الكفر بخلافه في الآية الأولى لا دليل فيه على السبب كما تقول : الذي جاءني له درهم لم تجعل المجيء سبباً لاستحقاق الدرهم بخلاف قولك : فله درهم ونصب ذهباً على التمييز كقولهم : عشرون درهماً وقوله تعالى :﴿ ولو افتدى به ﴾ محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرّب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى :﴿ ولو أنّ للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه ﴾ والمثل يحذف كثيراً في كلامهم كقوله : ضربته ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله ﴿ أولئك لهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ أي : مانعين عنهم العذاب ومن مزيدة للاستغراق.
روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة : لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول : نعم فيقول : أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي ).
﴿ لن تنالوا البر ﴾ أي : لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله تعالى الذي هو الرحمة والرضا والجنة ﴿ حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ من أموالكم أو ما يعمها وغيرها كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله تعالى والنفس في سبيله، وقال الحسن : لن تكونوا أبراراً.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله.
روي لما نزلت هذه الآية جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء وهو بفتح الباء الموحدة وكسرها وبفتح الراء وضمها مع المدّ والقصر ضيعة بالمدينة وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بخ بخ ذاك مال رابح أو قال رائح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه ) قوله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة وهي مبنية على السكون، فإن وصلت كسرت ونونت وربما شدّدت وقوله : رابح أو رائح يقال لضيعة الإنسان : مال رائح بالياء أي : يروح نفعه إليه ورابح بالباء الموحدة أي : ذو ربح كقولك لابن وتامر أي : ذو لبن وذو تمر.
وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة فكأن زيداً وجد في نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدّق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أما إن الله قد قبلها منك ) وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعريّ أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال : إن الله قال :
﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ ( آل عمران، ٩٢ ) فأعتقها وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ﴿ وما تنفقوا من شيء ﴾ أي : من أي شيء تحبونه أو غيره ومن بيان لما ﴿ فإنّ الله به عليم ﴾ فيجازيكم بحسبه.
ولما قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( كان ذلك حلالاً لإبراهيم ) فقالوا : كل ما نحرّمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ) نزل.
﴿ كل الطعام ﴾ أي : المطعومات أو كل أنواع الطعام ﴿ كان حلاً ﴾ أي : حلالاً أكله ﴿ لبني إسرائيل ﴾ والحل مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع قال تعالى :﴿ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾ ( الممتحنة، ١٠ ) ﴿ إلا ما حرم إسرائيل ﴾ وهو يعقوب صلى الله عليه وسلم ﴿ على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ﴾ أي : ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم بل كان الكل حلالاً له ولبني إسرائيل وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة فليس في التوراة حرمتها. واختلفوا في الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه وفي سببه، فقال مقاتل والكلبي : كان ذلك الطعام لحمان الإبل وألبانها وسبب ذلك أنه مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان ذلك أحب إليه فحرمه، وقال ابن عباس والضحاك : هي العروق وسبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا وهو بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ وكان أصل وجعه أنه كان نذر إن وهبه الله اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا ثم قال له : أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة ؛ لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت ولدك فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجاً فكان لا ينام بالليل من الوجع فحلف يعقوب لئن عافاه الله تعالى أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق، فحرّمه على نفسه وكان بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق يخرجونها من اللحم.
وقال ابن عباس : لما أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرّمها يعقوب على نفسه، ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرّم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي : حرّم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها. وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك حراماً عليهم وإنما حرموا على أنفسهم اتباعاً لأبيهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله عز وجل وأكذبهم الله تعالى فقال تعالى :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ فأتوا بالتوراة فاتلوها ﴾ ليتبين صدق قولكم ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ فيه فبهتوا ولم يأتوا بها وفي إخباره صلى الله عليه وسلم عما في التوراة دليل على نبوّته.
قال الله تعالى :
﴿ فمن افترى ﴾ أي : ابتدع ﴿ على الله الكذب من بعد ذلك ﴾ أي : ظهور الحجة بأنّ التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم ﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ أي : المتجاوزون الحق إلى الباطل.
وقوله تعالى :
﴿ قل ﴾ أي : لهم ﴿ صدق الله ﴾ تعريض بكذبهم أي : ثبت أنّ الله صادق في هذا كجميع ما أخبر به وأنتم الكاذبون ﴿ فاتبعوا ملة إبراهيم ﴾ أي : ملة الإسلام التي أنا عليها التي هي في الأصل ملة إبراهيم حتى تخلصوا من اليهودية التي وطنتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله تعالى لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله تعالى لإبراهيم عليه السلام ومن تبعه ﴿ حنيفاً ﴾ أي : مائلاً عن كل دين إلى دين الإسلام وقوله تعالى :﴿ وما كان من المشركين ﴾ فيه إشارة إلى أن اتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم واجب في التوحيد الصرف، والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط وهو تحريف التوراة وعن التفريط وهو ترك العمل وفيه إشارة إلى التعريض بشرك اليهود.
ولما قالت اليهود للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل نزل.
﴿ إن أوّل بيت وضع للناس ﴾ أي : جعله الله متعبداً لهم وهو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته بناه الملائكة قبل خلق آدم ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين. ولما أهبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام وقيل : أوّل من بناه آدم فانطمس في الطوفان ثم بناه إبراهيم وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح بضاد معجمة وحاء مهملة سمي بذلك ؛ لأنه ضرّح من الأرض أي : بعد ويطوف به الملائكة، فلما أهبط أمر بأن يحجه ويطوف حوله، ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السماوات.
قال البيضاوي : وهذا القول لا يلائم ظاهر الآية وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش ﴿ للذي ﴾ أي : للبيت الذي ﴿ ببكة ﴾ بالباء لغة في مكة سميت بذلك ؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة أي : تدقها فلم يرمها جبار بسوء إلا وقسمه الله وسميت مكة بالميم لقلة مائها من قول العرب : مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وتدعى أم رحم ؛ لأنّ الرحمة تنزل بها وقوله تعالى :﴿ مباركاً ﴾ حال من الذي أي : ذا بركة لأنه كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجوا واعتمره واعتكف عنده أو طاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب ﴿ وهدى للعالمين ﴾ لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأنّ فيه آيات عجيبة.
كما قال تعالى :
﴿ فيه آيات بينات ﴾ كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار فلا تعلو فوقه وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها، وإذا قصدت الجارحة صيداً فدخلت الحرم كفت عنه وأنه بلد صار إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار، وإنّ الصلاة فيه تضاعف بمائة ألف وإن كان جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل، وجملة فيه آيات بينات مفسرة لهدى أو حال كمباركاً وهدى وقوله تعالى :﴿ مقام إبراهيم ﴾ مبتدأ حذف خبره أي : منها مقام إبراهيم أو خبر مبتدأ محذوف أي : أحدها أو بدل من آيات بدل بعض من كل وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ولعل الذي اندرس بعضه فإني رأيت أثر القدمين فيه، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى وبنوّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؛ لأنّ تأثير القدم في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين، ولأنه بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين معجزة عظيمة، واختلف في سبب هذا الأثر على قولين : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر، فغاصت به قدماه وهذا هو المشهور، والقول الثاني أنه لما جاز إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حوّلته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه. قال البيضاوي : وقيل عطف بيان وردّ هذا القول بأنّ آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين وقوله تعالى :﴿ ومن دخله كان آمناً ﴾ جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي : ومنها أمن من دخله وذلك بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام :﴿ رب اجعل هذا البلد آمناً ﴾ ( إبراهيم، ٣٥ )، وفي الاقتصار على ذكر هاتين الآيتين وطيّ ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما، ونحوه في طي الذكر قول جرير :
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة، والأمن من العذاب يوم القيامة ) قال عليه الصلاة والسلام :( من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً ) رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( الحجون والبقيع يؤخذا بأطرافهما وينثران في الجنة ) والحجون مقبرة مكة والبقيع مقبرة المدينة. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى : من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما لم يتعرّض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل، وكان عمر بن الخطاب يقول : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وعند الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى : لا يلجأ إلى الخروج بل يقتل للأمر في خبر الشيخين بقتل ابن خطل وقد كان ارتدّ وتعلق بأستار الكعبة وأمّا قوله : ومن دخله كان آمناً وخبر من دخل المسجد فهو آمن فمعناه جمعاً بين الأدلة أنّ من دخله بغير استحقاق قتل كان آمناً، ومن دخله بعد استحقاق قَتل قُتل، وأما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفى منه بالاتفاق ﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ أي : قصده للزيارة على وجه مخصوص وهو أحد أركان الإسلام، قال صلى الله عليه وسلمك ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ) وقرأ حفص وحمزة والكسائي بكسر الحاء وهي لغة نجد وقرأ الباقون بالفتح وهي لغة أهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وقوله تعالى :﴿ من استطاع إليه ﴾ أي : الحج أو البيت ﴿ سبيلاً ﴾ أي : طريقاً بدل من الناس مخصص له ( وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة ) رواه الحاكم وغيره ﴿ ومن كفر ﴾ أي : بما فرضه الله من الحج أو كفر بالله ﴿ فإنّ الله غني عن العالمين ﴾ أي : الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم وقيل : وضع كفر موضع لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :( من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ) رواه الترمذي وضعفه ونحوه في التغليظ :( من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ).
تنبيه : في هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد على طلب الحج منها قوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ أي : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر الناس ثم إنه أبدل منه من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التوكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أنّ الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ومنها ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله : عن العالمين ولم يقل عنه وفيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب.
وروي أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال :( إنّ الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل وهم المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس، قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل : ومن كفر الخ ). وعنه صلى الله عليه وسلم :( حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرّتين ويرفع في الثالثة ).
وروي :( حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البرّ جانبه )، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه :( حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت ) أي : ماتت.
﴿ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أنّ كفرهم أقبح وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما ﴿ والله شهيد ﴾ أي : والحال إنّ الله تعالى شهيد ﴿ على ما تعملون ﴾ فيجازيكم عليه.
﴿ قل يا أهل الكتاب لم تصدّون ﴾ أي : تصرفون ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام ﴿ من آمن ﴾ بتكذيبكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وكتمكم نعته، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون في صدّهم عن دين الله ويمنعون من أراد الدخول فيه جهدهم وقيل : أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان والحروب ليعودوا لمثله، وإنما كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التوبيخ ونفي العذر لهم وإشعاراً بأنّ كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب وقوله تعالى :﴿ تبغونها ﴾ أي : السبيل ﴿ عوجاً ﴾ حال من الواو أي : باغين طالبين لها اعوجاجاً أي : ميلاً عن القصد والاستقامة بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أنّ في دين الإسلام عوجاً عن الحق بمنع النسخ وبتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوهما.
فائدة : قال أبو عبيدة : العوج بالكسر في الدين والقول والعمل وبالفتح في الجدار وكل شخص قائم ﴿ وأنتم شهداء ﴾ أي : عالمون بأنّ الدين المرضي هو دين الإسلام كما في كتابكم ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ من الكفر والتكذيب وإنما يؤخركم لوقتكم فيجازيكم.
فإن قيل : لم ختمت الآية الأولى بقوله تعالى :﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾ وهذه الآية بقوله تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ؟ أجيب : بأنه لما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله تعالى :﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾ ولما كان في هذه الآية صدهم المؤمنين عن الإسلام كانوا يخفونه ويحتالون فيه قال :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾.
ولما مر شاس بن قيس اليهوديّ وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مسجد لهم يتحدّثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وهو موضع بالمدينة وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال :( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ كرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف به بينكم ؟ ) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ) نزل.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي : شاساً وأصحابه ﴿ يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ قال جابر : ما رأيت يوماً قط أقبح أوّلاً وأحسن آخراً مثل ذلك اليوم، ثم قال الله تعالى على وجه التعجب والتوبيخ.
﴿ وكيف تكفرون ﴾ أي : ولم تكفرون ﴿ وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال إنّ آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم غضة طرية وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ﴿ ومن يعتصم بالله ﴾ أي : ومن يتمسك بدينه أو يلتجئ إليه في مجامع أموره ﴿ فقد هدى ﴾ أي : فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول : إذا جئت فلاناً فقد أفلحت كان الهدي قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً ومعنى التوقع في قد ظاهر لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدي كما أنّ قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده ﴿ إلى صراط ﴾ أي : طريق ﴿ مستقيم ﴾ أي : واضح.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ أي : واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم. وقال ابن مسعود : بأن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى.
وروي مرفوعاً لما نزلت هذه الآية ( قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله من يقوى على هذا ؟ فنسخ بقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾. وقال مقاتل : ليس في آل عمران منسوخ إلا هذه الآية ﴿ ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ﴾ أي : موحدون والمعنى : لا تكونن على حال سوى حالة الإسلام إذا أدرككم الموت، فإنّ النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات إلى القيل تارة وإلى المقيد أخرى وإلى المجموع منهما وهو هنا إلى المقيد كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ ولا تأتني إلا وأنت على حصان بكسر الحاء فلا تناه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان، فالنهي هما متوجه إلى القيد وحده، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، الآية فلو أنّ قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامهم وليس لهم طعام غيره ).
﴿ واعتصموا بحبل الله ﴾ أي : بدينه وهو دين الإسلام استعار له الحبل من حيث إنّ التمسك به سبب للنجاة من الردى كما أنّ التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي أو بكتابه وهو القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم :( القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم ) وقوله تعالى :﴿ جميعاً ﴾ حال أي : مجتمعين عليه ﴿ ولا تفرقوا ﴾ أي : ولا تتفرقوا بعد الإسلام بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه.
﴿ واذكروا نعمة الله ﴾ أي : إنعامه ﴿ عليكم ﴾ التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدّي إلى التآلف ﴿ إذ كنتم أعداء ﴾ في الجاهلية بينكم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ﴿ فألف بين قلوبكم ﴾ بالإسلام وقذف فيها المحبة ﴿ فأصبحتم بنعمته إخواناً ﴾ متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد وهو الأخوّة في الله وقيل : هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة بسبب قتيل وتطاولت الحروب والعداوة بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وكنتم على شفى ﴾ أي : طرف ﴿ حفرة من النار ﴾ أي : حفرة ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا كفاراً ﴿ فأنقذكم منها ﴾ بالإسلام والضمير للحفرة أو النار أو الشفى وأنثه لتأنيث ما أضيف إليه كقول الشاعر :
كما شرقت صدر القناة من الدم***
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك البيان البليغ ﴿ يبين الله لكم آياته ﴾ أي : دلائله ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ إرادة أن تزدادوا هدى.
﴿ ولتكن منكم أمة ﴾ أي : طائفة ﴿ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ فمن للتبعيض ؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، فإنّ الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وعلى هذا فالمخاطب به الكل على الأصح ويسقط بفعل البعض الحرج عن الباقين وهكذا كل ما هو فرض كفاية، فإن تركوه أصلاً أثموا جميعاً وقيل : من زائدة وقيل : للتبيين بمعنى وكونوا أمة تأمرون بالمعروف كقوله تعالى :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ﴾ ﴿ وأولئك ﴾ أي : الداعون الآمرون الناهون ﴿ هم المفلحون ﴾ أي : الفائزون بكمال الفلاح.
روى الإمام أحمد وغيره ( أنه صلى الله عليه وسلم سئل وهو على المنبر : من خير الناس ؟ قال :( آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم ).
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ ( المائدة، ١٠٥ ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إنّ الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرّ بالماء على الذي في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : ما لك فقال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم ) وعن حذيفة : يأتي على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجباً فواجب، وإن كان مندوباً فمندوب، وأمّا النهي عن المنكر أي : الحرام فواجب كله لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه ؛ لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر. وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وإنما يجب الأمر والنهي على المكلف إذا لم يخش ضرراً ويجب أن يدفع بالأخف فالأخف كدفع الصائل.
فإن قيل : الدعاء للخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك فهو شامل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما فائدة ذكر ذلك ؟ أجيب : بأنه من عطف الخاص على العام إيذاناً بفضله كقوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ ( البقرة، ٢٣٨ ).
﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا ﴾ عن دينهم ﴿ واختلفوا ﴾ فيه وهم اليهود والنصارى ﴿ من بعدما جاءهم البينات ﴾ أي : الآيات والحجج الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق، وقيل : هم مبتدعة هذه الأمة وهم المشبهة والجبرية والحشوية وأشباههم وقوله تعالى :﴿ وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ وعيد للذين تفرقوا وتهديد للمتشبه بهم.
﴿ يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه ﴾ هو يوم القيامة ونصب يوم بالظرف وهو لهم لما فيه من معنى الفعل أو بإضمار اذكروا والبياض من النور والسواد من الظلمة فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وأشرقت وسعى النور بين يديه ويمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله ﴿ فأما الذين اسودّت وجوههم ﴾ فهم الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم توبيخاً ﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ واختلفوا في كيف كفروا بعد إيمانهم فقال أبي بن كعب : أراد به الإيمان يوم الميثاق حين قال لهم :﴿ ألست بربكم قالوا : بلى ﴾ ( الأعراف، ٧٢ ) يقول : أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق ؟ وعلى هذا هم جميع الكفرة وقال الحسن : هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروا بقلوبهم. وعن عكرمة أنهم أهل الكتابين آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال قتادة : هم أهل البدع. وقال أبو أسامة : هم الخوارج، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب : أهل النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء وخير قتلى تحت أديم الأرض الذين قتلهم هؤلاء، فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرّة قال : فما شأنك دمعت عيناك قال : رحمة لهم كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية ثم أخذ بيده فقال : إنّ بأرضك منهم كثيراً فأعاذك الله تعالى منهم وقوله تعالى :﴿ فذوقوا العذاب ﴾ أمر إهانة ﴿ بما كنتم تكفرون ﴾ أي : بسبب كفركم أو جزاء كفركم فالباء متعلقة بذوقوا على الأول وبمحذوف على الثاني.
﴿ وأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله ﴾ أي : جنته عبر عنها بالرحمة تنبيهاً على أنّ المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله.
فإن قيل : كان حق الترتيب أن يقدّم ذكرهم أجيب : بأنّ القصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى :﴿ هم فيها خالدون ﴾ بعد قوله ﴿ ففي رحمة الله ﴾ أجيب : بأنّ فائدته أنه أخرج مخرج الاستئناف والتأكيد كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقال : هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
﴿ تلك ﴾ أي : هذه الآيات الواردة في الوعد والوعيد ﴿ آيات الله نتلوها عليك ﴾ يا محمد ﴿ بالحق ﴾ أي : متلبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء ﴿ وما الله يريد ظلماً للعالمين ﴾ إذ يستحيل الظلم منه تعالى ؛ لأنه لا يجب عليه شيء بل هو المالك على الإطلاق.
كما قال تعالى :
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ ملكاً وخلقاً ﴿ وإلى الله ترجع ﴾ أي : تصير ﴿ الأمور ﴾ فيجازي كلاً بما وعد له وأوعد.
﴿ كنتم ﴾ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم في علم الله تعالى ﴿ خير أمة أخرجت ﴾ أي : أظهرت ﴿ للناس ﴾ وقيل : كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي خيرها وأكرمها على الله تعالى ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوّله خير أم آخره ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمّتي ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة ) وقوله تعالى :﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ استئناف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبر ثان لكنتم وقوله تعالى :﴿ وتؤمنون بالله ﴾ يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به ؛ لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتدّ بإيمانه فكأنه غير مؤمن بالله.
فإن قيل : لم أخر تؤمنون بالله وحقه أن يقدم ؟ أجيب : بأنه إنما أخر ؛ لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله تعالى وتصديقاً به وإظهاراً لدينه.
تنبيه : استدل بهذه الآية على أنّ إجماع هذه الأمة حجة ؛ لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف ناهين عن كل منكر إذ اللام فيها للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كتحريم شيء هو في نفس الأمر معروف كان أمرهم على خلاف ذلك ﴿ ولو آمن أهل الكتاب ﴾ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ لكان ﴾ الإيمان ﴿ خيراً لهم ﴾ مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام ﴿ منهم المؤمنون ﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿ وأكثرهم الفاسقون ﴾ أي : المتمرّدون في الكفر.
﴿ لن يضروكم ﴾ أي : اليهود يا معشر المسلمين بشيء ﴿ إلا أذى ﴾ أي : ضرراً يسيراً كسب وطعن في الدين وتهديد ونحو ذلك ﴿ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ﴾ منهزمين ولا يضرّوكم بقتل أو أسر ﴿ ثم لا ينصرون ﴾ عليكم بل لكم النصر عليهم. وفي هذا تثبيت لمن أسلم منهم ؛ لأنهم كانوا يؤذونهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى إلى ضرر يبالي به مع أنه تعالى وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل.
فإن قيل : هلا جزم المعطوف في قوله :﴿ ثم لا ينصرون ﴾ ؟ أجيب : بأنه عدل به عن حكم الجزاء ؛ إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون والفرق بين رفعه وجزمه في المعنى أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها أو أبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر كما أخبر عن حال بني قريظة والنضير ويهود خيبر.
فإن قيل : ما معنى التراخي في ثم أجيب : بأنّ معناه التراخي في الرتبة ؛ لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
﴿ ضربت عليهم الذلة ﴾ أي : هدر النفس والمال والأهل أو ذل التمسك بالباطل والجزية ﴿ أينما ثقفوا ﴾ أي : حيثما وجدوا فلا عز لهم ولا اعتصام في سائر أحوالهم ﴿ إلا ﴾ في حال اعتصامهم ﴿ بحبل من الله ﴾ أي : بذمّة الله أو كتابه ﴿ وحبل من الناس ﴾ أي : بذمّة المسلمين أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين أي : لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوا من الجزية أو دين الإسلام ﴿ وباؤوا ﴾ أي : رجعوا ﴿ بغضب من الله ﴾ أي : مستوجبين له ﴿ وضربت عليهم المسكنة ﴾ كما يضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها يظهرون الفقر والمسكنة. وفسر أكثر المفسرين المسكنة بالجزية وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه قال البيضاوي : واليهود في غالب الأمر فقراء مساكين اه. ﴿ ذلك ﴾ أي : ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب كائن ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك ﴾ أي : الكفر والقتل ﴿ بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ أي : كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى فإنّ الإصرار على الصغائر يقضي إلى الكبائر والإصرار على الكبائر يقضي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
﴿ ليسوا ﴾ أي : أهل الكتاب ﴿ سواء ﴾ أي : مستوين، وقوله تعالى :﴿ من أهل الكتاب أمّة قائمة ﴾ أي : مستقيمة ثابتة على الحق استئناف لبيان نفي الاستواء وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله هذه الآية ﴿ يتلون آيات الله ﴾ أي : يقرؤون كتاب الله ﴿ آناء الليل ﴾ أي : في ساعاته وقوله تعالى :﴿ وهم يسجدون ﴾ حال أي : يصلون ؛ لأنّ التلاوة لا تكون في السجود، واختلفوا في معناها فقال بعضهم : هي قيام الليل. وقال ابن مسعود : هي صلاة العتمة ؛ لأنّ أهل الكتاب لا يصلونها لما روي :( أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما إنه أي : الشأن ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم ) رواه الإمام أحمد والنسائيّ وغيرهما وقوله : غيركم بالنصب خبر ليس ومن أهل الأديان حال من أحد قاله التفتازاني.
وصف الله تعالى تلك الأمة القائمة بصفات أخر فقال :
﴿ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك ﴾ أي : الموصوفون بما ذكر ﴿ من الصالحين ﴾ أي : ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناه أي : والأمة الأخرى غير قائمة بل منحرفون عن الحق غير متعبدين بالليل مشركون بالله ملحدون في صفاته واصفون لليوم الآخر بغير صفته متباطئون عن الخيرات فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين.
﴿ وما تفعلوا من خير فلن تكفروه ﴾ أي : تعدموا ثوابه بل تجازون عليه، وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ بالياء فيهما أي : الأمة القائمة والباقون بالتاء على الخطاب أي : أيها الأمة القائمة وقوله تعالى :﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى.
﴿ إنّ الذين كفروا لن تغني ﴾ أي : تدفع ﴿ عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله ﴾ أي : من عذابه ﴿ شيئاً ﴾ وخص الأموال والأولاد بالذكر لأنّ الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد ﴿ وأولئك أصحاب النار ﴾ أي : ملازموها ﴿ هم فيها خالدون مثل ﴾ أي : صفة.
﴿ ما ينفقون ﴾ أي : الكفار ﴿ في هذه الحياة الدنيا ﴾ في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحوها ﴿ كمثل ريح فيها صرّ ﴾ قال أكثر المفسرين : فيها برد شديد وحكي عن ابن عباس أنها السموم الحارّة التي تقتل وقيل : فيها صرّ أي : صوت ﴿ أصابت حرث ﴾ أي : زرع ﴿ قوم ظلموا أنفسهم ﴾ بالكفر والمعاصي ﴿ فأهلكته ﴾ عقوبة لهم ؛ لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ والمعنى مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح الزرع فلم ينتفعوا به فكذلك نفقة هؤلاء ذاهبة لا ينتفعون بها ﴿ وما ظلمهم الله ﴾ بضياع نفقاتهم ﴿ ولكن أنفسهم يظلمون ﴾ بالكفر الموجب لضياعها ويجوز أن يعود الضمير لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم أي : وما ظلمهم الله تعالى بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة ﴾ أي : أصفياء تطلعونهم على سرّكم ثقة بهم شبهوا ببطانة الثوب كما شبهوا بالشعار قال عليه الصلاة والسلام :( الأنصار شعار والناس دثار ) رواه الشيخان والشعار ما يلي الجسد والدثار فوقه وقوله تعالى :﴿ من دونكم ﴾ أي : من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف هو صفة بطانة أي : كائنة من دونكم أي : غيركم من الكفار المنافقين ﴿ لا يألونكم خبالاً ﴾ أي : لا يقصرون لكم في الفساد والألو التقصير وأصله أن يعدّى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أو النقص والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه ﴿ ودّوا ﴾ أي : تمنوا ﴿ ما عنتم ﴾ أي : عنتكم وهو شدّة الضرر وما مصدرية أي : تمنوا أن يضرّوكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه ﴿ قد بدت ﴾ أي : ظهرت ﴿ البغضاء من أفواههم ﴾ أي : في كلامهم بالوقيعة فيكم وإطلاع المشركين على سركم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم، وعن قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك ﴿ وما تخفي صدورهم ﴾ من العداوة والغيظ ﴿ أكبر ﴾ أي : أعظم مما بدا ؛ لأنّ بدوّه ليس عن روية واختيار ﴿ قد بينا لكم الآيات ﴾ الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ﴿ إن كنتم تعقلون ﴾ ما بين لكم فلا توالوهم.
فإن قيل : كيف موقع هذه الجمل وهي لا يألونكم وودّوا ما عنتم وقد بدت البغضاء وقد بينا لكم الآيات أجيب : بأنها مستأنفات على وجه التعليل بمعنى إنّ كلا علة للنهي عن اتخاذهم بطانة.
﴿ ها أنتم أولاء ﴾ ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين وأولاء اسم للمشار إليهم وهم المؤمنون وقوله تعالى :﴿ تحبونهم ﴾ أي : هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي منكم من القرابة والرضاع والمصاهرة ﴿ ولا يحبونكم ﴾ لمخالفتهم لكم في الدين بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء ﴿ وتؤمنون بالكتاب كله ﴾ أي : بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم، وفي هذا توبيخ شديد للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحو هذا قوله تعالى :﴿ فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ﴾ ( النساء، ١٠٤ ).
﴿ وإذا لقوكم قالوا آمنا ﴾ أي : نفاقاً وتغريراً ﴿ وإذا خلوا ﴾ أي : خلا بعضهم ببعض ﴿ عضوا عليكم الأنامل ﴾ أي : أطراف الأصابع ﴿ من الغيظ ﴾ أي : شدّة الغضب لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ويعبر عن شدّة الغضب بَعض الأنامل مجازاً، وإن لم يكن ثم عض فيوصف المغتاظ والنادم بَعض الأنامل والبنان والإبهام. قال الحارث بن ظالم المري :
فأقتل أقواماً لئاماً أذلة يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
﴿ قل موتوا بغيظكم ﴾ أي : ابقوا إلى الممات بغيظكم فلن تروا ما يسركم وقوله تعالى :﴿ إنّ الله عليم بذات الصدور ﴾ أي : بما في القلوب ومنه ما يضمره هؤلاء يحتمل أن يكون من المقول أي : وقل لهم : إنّ الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً وأن يكون خارجاً عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم.
﴿ إن تمسسكم ﴾ أي : تصبكم أيها المؤمنون ﴿ حسنة ﴾ أي : نعمة كنصر وغنيمة وخصب في معاشكم وتتابع الناس في دينكم ﴿ تسؤهم ﴾ أي : تحزنهم ﴿ وإن تصبكم سيئة ﴾ أي : إساءة كهزيمة وجدب واختلاف يكون بينكم ﴿ يفرحوا بها ﴾ وجملة الشرط متصلة بالشرط، قيل : وما بينهما اعتراض والمعنى إنهم متناهون في عداوتكم فلم توالونهم فاجتنبوهم.
فإن قيل : كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة ؟ أجيب : بأنّ المس مستعار بمعنى الإصابة فكان المعنى واحد ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ ( النساء، ٧٩ ) ﴿ وإن تصبروا ﴾ على أذاهم ﴿ وتتقوا ﴾ الله في موالاتهم وغيرها ﴿ لا يضركم كيدهم شيئاً ﴾ بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين وهذا تعظيم من الله تعالى وإرشاداً إلى أنه يستعان على كيد العدوّ بالصبر والتقوى، وقد قال الحكماء : إذا أردت أن تكيد من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره، والباقون بضم الضاد وضم الراء مشدّدة للإتباع كضمة مدّ وهي ضمة الأمر المضاعف وكل مجزوم من المضاعف المضموم العين، فإنه يجوز ضمه للإتباع كما يجوز فتحه للخفة وكسر لأجل تحريك الساكن ﴿ إن الله بما تعملون محيط ﴾ أي : عالم فيجازيكم به.
﴿ و ﴾ اذكر يا محمد ﴿ إذ غدوت من أهلك ﴾ أي : من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها ﴿ تبوّىء ﴾ أي : تنزل ﴿ المؤمنين مقاعد ﴾ أي : مراكز يقفون فيها ﴿ للقتال والله سميع ﴾ لأقوالكم ﴿ عليم ﴾ بأحوالكم.
روي ( أنّ المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره، فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس أي : بكسر الباء وهو مكان لا ماء فيه ولا طعام وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وقال بعض أصحابه : اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم وضعفنا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأوّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ) فقال رجال من المسلمين قد فاتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل، فلبس لأمته أي : درعه فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال :( لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة ونزل في عدوة الوادي أي : بالعين المهملة وهي جانبه وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفوفهم وأجلس خمسين من الرماة وأمّر عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل وقال : انضحوا علينا بالنبل لا يأتون من ورائنا ولا تبرحوا غلبنا أو نصرنا ).
﴿ إذ ﴾ بدل من إذ قبله ﴿ همت طائفتان منكم ﴾ بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما جناحا العسكر ﴿ أن تفشلا ﴾ أي : تجبنا عن القتال وترجعا.
روي ( أنه صلى الله عليه وسلم خرج في زهاء ألف رجل ووعدهم النصر إن صبروا وكان المشركون ثلاثة آلاف فلما بلغوا عند جبل أحد بالمدينة انعزل ابن أبيّ المنافق في ثلاثمائة وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال ابن أبيّ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم فهمّ الحيان باتباعه فثبتهم الله ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال الزمخشريّ : إنها ما كانت إلا همة وحديث نفس وكما لا تخلو النفس عند الشدّة من بعض الهلع ثم يردّها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه كما قال عمرو بن الإطنابة :
أقول لها إذا جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
﴿ والله وليهما ﴾ أي : ناصرهما فما لهما تفشلان ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي : ليثقوا به دون غيره فينصرهم كما نصرهم ببدر، ونزل لما هزموا من أحد تذكرة لهم بنعمة الله تعالى.
﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾ وهو ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به وقوله تعالى :﴿ وأنتم أذلة ﴾ أي : بقلة العدد والسلاح والمال حال من الضمير.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ وأنتم أذلة ﴾ وقد قال تعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ أجيب : بأنه بمعنى القلة وضعف الحال وقلة السلاح والمال كما مرّ فإن نقيض ذلك العز وهو القوّة والغلبة.
روي أنّ المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ولم يكن فيهم إلا فرس واحد وأكثرهم كانوا رجالة وربما كان الجمع منهم يركبون جملاً واحداً والكفار كانوا قريباً من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدّة الكاملة ﴿ فاتقوا الله ﴾ في الثبات وعدم المخالفة ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي : بتقواكم نعمه التي أنعم بها عليكم من نصرته.
وقوله تعالى :
﴿ إذ تقول للمؤمنين ﴾ أي : توعدهم تطميناً ظرف لنصركم وقوله تعالى :﴿ ألن يكفيكم أن يمدّكم ﴾ أي : يعينكم ﴿ ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾ إنكار أن لا يكفيهم ذلك وإنما جيء بلن إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوّة العدوّ وكثرتهم. وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي.
وقوله تعالى :
﴿ بلى ﴾ إيجاب لما بعد لن أي : بلى يكفيكم.
فإن قيل : قد قال تعالى في سورة الأنفال :﴿ إني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ ( الأنفال : ٩ ) فكيف قال هنا بثلاثة آلاف ؟ أجيب : بأنه مدهم أولاً بألف ثم صارت ثلاثة ثم صارت خمسة كما قال تعالى :﴿ إن تصبروا ﴾ أي : على لقاء العدوّ ﴿ وتتقوا ﴾ الله في المخالفة ﴿ ويأتوكم ﴾ أي : المشركون ﴿ من فورهم ﴾ أي : من وقتهم ﴿ هذا ﴾ والفور العجلة والسرعة ومنه فارت القدر اشتدّ غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج ﴿ يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ﴾ أي : معلمين وقد صبروا واتقوا وأنجز الله وعده بأن قاتل معهم الملائكة على خيل يلف عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم، وعن عرفة بن الزبير : كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك، وعن الضحاك معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها، وعن مجاهد مجزوزة أذناب خيلهم. قال أكثر المفسرين : إن الملائكة لم تقاتل في غير يوم بدر.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه :( تسوموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو والباقون بفتحها.
﴿ وما جعله الله ﴾ أي : الإمداد ﴿ إلا بشرى ﴾ أي : بشارة ﴿ لكم ﴾ أي : بالنصر ﴿ ولتطمئن ﴾ أي : ولتسكن ﴿ قلوبكم به ﴾ فلا تجزعوا من كثرة عدوّكم وقلة عددكم كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ لا من العدّة والعدد وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد الملائكة وإنما أمدّهم ووعدهم به بشارة لهم وربطاً على قلوبهم من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر ﴿ العزيز ﴾ الذي لا يغالب ﴿ الحكيم ﴾ الذي ينصر ويخذل من يشاء بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة.
وقوله تعالى :
﴿ ليقطع ﴾ متعلق بنصركم أي : ليهلك ﴿ طرفاً ﴾ أي : طائفة ﴿ من الذين كفروا ﴾ بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم ﴿ أو يكبتهم ﴾ أي : لم ينالوا ما راموه وأو للتنويع لا للترديد.
ونزل لما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وشج وجهه يوم أحد وقال :( كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم ).
﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ بل الأمر كله لله فاصبر إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد :( اللهمّ العن الحارث بن هشام اللهمّ العن صفوان بن أمية ) فنزلت هذه الآية، وقال قوم : نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من القرّاء بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم أميرهم المنذر بن عمرو فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجداً شديداً وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين وقوله تعالى :﴿ أو يتوب عليهم أو يعذبهم ﴾ عطف على قوله أو يكبتهم وليس لك من الأمر شيء اعتراض، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم، فإمّا أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا ﴿ فإنهم ظالمون ﴾ بالكفر، وقيل : إنّ أو يتوب عليهم بمعنى إلى أن يتوب عليهم.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ ملكاً وخلقاً فله الأمر كله والمقصود من هذا تأكيد ما ذكره أوّلاً من قوله :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ والمعنى : إنما يكون ذلك لمن له الملك وليس هو لأحد إلا لله تعالى.
فإن قيل : ظاهر ما ذكر يدل على أنّ ذلك ورد للمنع من أمر كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفعله وذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى فكيف يمنعه منه وإن كان بغير أمره فكيف يصح مع قوله تعالى :﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ ( النجم، ٣ ) أجيب : بأنّ ذلك كان من باب ترك الأفضل والأولى فلا جرم أرشده الله تعالى إلى اختيار الأولى نظيره قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين١٢٦ واصبروا وما صبرك إلا بالله ﴾ ( النحل، ١٢٧ ) فكأنه تعالى قال أوّلاً : إن كان ولا بدّ أن تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل، ثم قال ثانياً وإن تركته كان ذلك أولى. ثم أمره أمراً جازماً بتركه فقال : واصبر وما صبرك إلا بالله ﴿ يغفر لمن يشاء ﴾ مغفرته ﴿ ويعذب من يشاء ﴾ تعذيبه. ولما كان له فعل ذلك إلا أن جانب المغفرة والرحمة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل التفضل والإحسان قال :﴿ والله غفور ﴾ لأوليائه ﴿ رحيم ﴾ بعباده فلا تبادر بالدعاء عليهم.
ولما شرح سبحانه وتعالى عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً ﴾ وهو جمع ضعف. ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة أتبعه بما يدل على ذلك وهو الوصف بقوله :﴿ مضاعفة ﴾ بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب والتخصيص بحسب الواقع، إذ كان الرجل منهم يرابي إلى أجل ثم يزيد في الدين زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء اللطيف مال الديون وإلا فالربا حرام بلا مضاعفة بل هو من الكبائر مطلقاً، وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين ولا ألف قبلها، والباقون بتخفيف العين وألف قبلها ﴿ واتقوا الله ﴾ بترك ما نهيتم عنه ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : تفوزون.
ثم خوّفهم فقال تعالى :
﴿ واتقوا النار التي أعدّت للكافرين ﴾ بالتحرّز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم، كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه وفي الآية تنبيه على أنّ النار بالذات للكفار وبالعرض للعصاة.
﴿ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ﴾ لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة على عادته تعالى المستمرّة في القرآن، قال محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ولعلّ وعسى في أمثال ذلك دليل على عزة التوصل إلى ما جعل خيراً لهما ومن تأمّل هذه الآيات وأمثالها لم يحدّث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله تعالى.
﴿ وسارعوا ﴾ أي : بادروا وأقبلوا ﴿ إلى مغفرة من ربكم ﴾ أي : إلى ما تستحق به المغفرة كالإسلام والتوبة وأداء الفرائض والهجرة والجهاد والتكبيرة الأولى والأعمال الصالحات. وقرأ نافع وابن عامر بغير واو قبل السين والباقون بواو قبلها ﴿ و ﴾ إلى ﴿ جنة عرضها السماوات والأرض ﴾ أي : عرضها كعرضهما كقوله تعالى :﴿ عرضها كعرض السماء والأرض ﴾ ( الحديد، ٢١ ) وإنما جمعت السماء وأفردت الأرض لأنها أنواع قيل : بعض فضة وبعض غير ذلك، والأرض نوع واحد وذكر العرض للمبالغة في وصف الجنة بالسعة ؛ لأنّ العرض دون الطول كما دلّ عليه قوله تعالى :﴿ بطائنها من إستبرق ﴾ ( الرحمن، ٥٤ ) على أن الظهارة أعظم يقول : هذه صفة عرضها فكيف طولها ؟ قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله تعالى وهذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسماوات والأرض لا غير بل معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ﴾ ( هود، ١٠٧ ) أي : عند ظنكم وإلا فهما زائلتان.
وعن ابن عباس : الجنة كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض. وعنه أيضاً إنّ لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة.
وروي أنّ ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار ؟ فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار فأين يكون الليل ؟ فقالوا : إنه لمثلها في التوراة، ومعناه أنه حيث شاء الله. وسئل أنس بن مالك عن الجنة : أفي السماء أم في الأرض وأيّ أرض وسماء تسع الجنة ؟ قيل : فأين هي ؟ قال : فوق السماوات السبع تحت العرش، وقال قتادة : كانوا يرون أنّ الجنة فوق السماوات السبع وأنّ جهنم تحت الأرضين السبع.
فإن قيل : قال تعالى :﴿ وفي السماء رزقكم وما توعدون ﴾ وأراد بالذي وعدنا الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها ما ذكر ؟ أجيب : بأنّ باب الجنة في السماء وعرضها كما أخبر تعالى :﴿ أعدّت ﴾ هيئت ﴿ للمتقين ﴾ الله بعمل الطاعات وترك المعاصي وفي ذلك دليل على أنّ الجنة مخلوقة الآن وقيل : إنّ الجنة والنار يخلقان بعد قيام الساعة.
ثم وصف الله تعالى المتقين بصفات فقال :
﴿ الذين ينفقون ﴾ أي : في طاعة الله ﴿ في السرّاء والضرّاء ﴾ أي : في العسر واليسر أو الأحوال كلها ؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي : لا يخلون عن حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدّق ببصلة، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدّقت بحبة عنب. فأول ما ذكر من أوصافهم الموجبة للجنة ذكر السخاء. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( السخيّ قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد عن النار والبخيل بعيد من الله قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من العالم البخيل ) ﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ أي : الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء ).
وروي :( من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً )
وروي :( ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب )، ﴿ والعافين عن الناس ﴾ أي : التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا ) وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله )، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون منقطعاً وهو ظاهر وأن يكون متصلاً لما في القلة من معنى العدم كأنه قيل : إن هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد في أمّتي، وقوله تعالى :﴿ والله يحب المحسنين ﴾، يجوز أن تكون اللام فيه للجنس، فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء.
وقوله تعالى :
﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ أي : ذنباً قبيحاً كالزنا ﴿ أو ظلموا أنفسهم ﴾ أي : بما دون الزنا كالقبلة وقيل : الفاحشة ما يتعدّى وظلم النفس ما ليس كذلك ﴿ ذكروا الله ﴾ أي : ذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم ﴿ فاستغفروا لذنوبهم ﴾ بالندم والتوبة عطف على المتقين أو على الذين ينفقون. واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال عطاء : نزلت في أبي سعيد التمار ؛ أتته امرأة حسنة تبتاع منه تمراً فقال لها : إنّ هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له : اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفيّ لم يستقبله الأنصاري، فسأل امرأته عن حاله فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً، وقال الأنصاري : هلكت وذكر القصة، فقال أبو بكر : ويحك أما علمت أنّ الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم أتيا عمر، فقال عمر : مثل ذلك ثم أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : مثل مقالهما فنزلت هذه الآية وقوله تعالى :﴿ ومن ﴾ أي : أحد ﴿ يغفر الذنوب إلا الله ﴾ استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين والمراد به وصفه سبحانه وتعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة ﴿ ولم يصروا على ما فعلوا ﴾ أي : ولم يقيموا على قبيح فعلهم بل أقلعوا عنه مستغفرين.
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ).
وروي :( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ) وقوله تعالى :﴿ وهم يعلمون ﴾ حال من يصروا أي : ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به.
وقوله تعالى :
﴿ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ إشارة إلى الفريقين ويجوز أن يكون والذين مبتدأ وأولئك خبره، وقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ حال مقدّرة أي : مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها.
تنبيه : لا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، فقول الزمخشري في «الكشاف » وفي هذه الآيات بيان قاطع على أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون وتائبون ومصرون، وأنّ الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه، جار على طريق الإعتزال من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرّاً لا يدخل الجنة، ونعوذ بالله من ذلك، بل كل من مات على الإسلام يدخل الجنة، وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه وقوله تعالى :﴿ ونعم أجر العاملين ﴾ المخصوص فيه بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك أي : المغفرة والجنات.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد مؤمن أذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ).
وروي :( أيّ عبد أذنب ذنباً فقال : يا رب أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه : علم عبدي أنّ له رباً يغفر الذنوب ويؤاخذ بها فغفر له فمكث ما شاء الله ثم أذنب ذنباً آخر فقال : يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي قال ربه : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويؤاخذ به قد غفرت له فليعمل ما شاء أي : ويستغفر فأغفر له ).
وروي أنه تبارك وتعالى قال :( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ابن آدم إنك إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئاً، ابن آدم إنك إن تذنب ذنباً حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك ).
وروي أنّ الله تبارك وتعالى قال :( من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً ) قال ثابت البناني : بلغني أنّ إبليس بكى حين نزلت هذه ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ إلى آخرها.
وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام :( ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي ). وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، وعن الحسن يقول الله تعالى يوم القيامة :( جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم )، وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إنّ السفينة لا تجري على اليبس
ونزل في هزيمة أحد :
﴿ قد خلت ﴾ أي : مضت ﴿ من قبلكم سنن ﴾ جمع سنة وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ومنه سنة الأنبياء عليه الصلاة والسلام أي : قد مضت من قبلكم طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم ﴿ فسيروا ﴾ أيها المؤمنون ﴿ في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة ﴾ أي : آخر أمر ﴿ المكذبين ﴾ الرسل من الهلاك فلا تحزنوا لغلبتهم فأنا أمهلهم لوقتهم.
﴿ هذا ﴾ أي : القرآن ﴿ بيان للناس ﴾ عامّة ﴿ وهدى ﴾ من الضلالة ﴿ وموعظة للمتقين ﴾ خاصة.
﴿ ولا تهنوا ﴾ أي : تضعفوا عن قتال الكفار بما نالكم من القتل والجراح يوم أحد.
﴿ ولا تحزنوا ﴾ على ما أصابكم وكان قد قتل يومئذٍ من المهاجرين خمسة : منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل من الأنصار سبعون رجلاً ﴿ وأنتم الأعلون ﴾ أي : وحالكم أنكم أعلى شأناً منهم فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة أي : وأنتم الأعلون في العاقبة ﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ ( الصافات، ١٧٣ ) وقوله تعالى :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ متعلق بالنهي بمعنى لا تهنوا إن صح إيمانكم على أنّ صحة الإيمان توجب قوّة القلب والثقة بالله تعالى وقلة المبالاة بأعدائه أو متعلق بالأعلون أي : إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
﴿ إن يمسسكم قرح ﴾ : جهد من جرح ونحوه يوم أحد، ﴿ فقد مس القوم ﴾ : الكفار ﴿ قرح مثله ﴾ : يوم بدر ثم إنهم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى أن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون، وقيل : كلا المسين كان يوم أحد، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ أبو بكر وشعبة وحمزة والكسائي بضم قاف قرح في الموضعين، والباقون بالفتح وهما لغتان بمعنى، وقال الفرّاء : القرح بالفتح الجرح وبالضم آلمه، ﴿ وتلك الأيام ﴾ : تلك مبتدأ أو الأيام صفته، وقوله تعالى :﴿ نداولها ﴾ خبره ويصح أنّ تلك الأيام مبتدأ وخبر، كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة أي : نصرّفها ﴿ بين الناس ﴾، قال البغوي : فيوماً عليهم ويوماً لهم. قال في «الكشاف » كقوله وهو من أبيات الكتاب :
فيوم علينا ويوماً لنا ويوم نُساءُ ويوماً نُسَر
تقديره، فيوماً يكون الأمر علينا، أي : بالأضرار ويوماً لنا، أي : بالنفع فيكون يوماً ظرفاً ملائماً لقوله : ويوماً نُساء ويوماً نسر قاله الشيخ سعد الدين. أي : أديل تارة للمسلمين على المشركين وهو يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين وأديل تارة للكافرين على المسلمين وهو يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين.
روي أنه صلى الله عليه وسلم جعل عبد الله بن جبير على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً، فقال :( إن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهنّ وسوقهنّ رافعات ثيابهنّ ) فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة الغنيمة فما تنتظرون ؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد ثلاث مرّات فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرّات، ثم قال : أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرّات، ثم رجع إلى أصحابه وهو يقول : أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال : كذبت والله يا عدوّ الله إنّ الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال : يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة ثم أخذ يرتجز :
اعل هبل اعل هبل***
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( «ألا تجيبوه ؟ » فقالوا : يا رسول الله ما نقول قال : قولوا الله أعلى وأجل قال : إنّ لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :«ألا تجيبوه » فقالوا : يا رسول الله ما نقول ؟ فقال : قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ). وفي حديث ابن عباس : قال أبو سفيان : يوم بيوم وإنّ الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار وإنما كانت الدولة يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾ أي : أخلصوا إيمانهم من غيرهم.
فإن قيل : ظاهر هذه الآية أنّ الله تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم وذلك في حقه تعالى محال ونظير هذا الإشكال قوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ ( آل عمران، ١٤٢ )
وقوله تعالى :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين ﴾ ( العنكبوت : ٣ ) وقوله :﴿ لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا ﴾ ( الكهف، ١٢ ) وقوله :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم ﴾ ( محمد، ٣١ )
وقوله :﴿ إلا لنعلم من يتبع الرسول ﴾ ( البقرة، ١٤٣ ) وقوله :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ﴾ ( الملك، ٢ ) فظاهر هذه الآيات يدل على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها، وأجاب المتكلمون عنها بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها، فثبت أن التغير في العلم محال إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدرة مجاز مشهور يقال : هذا علم فلان والمراد معلومه، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدّد العلم فالمراد تجدّد المعلوم وإذا عرف هذا فهذه الآية محتملة لوجوه أحدها : ليظهر المخلص من المنافق والمؤمن من الكافر وثانيها : ليعلم أولياء الله وأضاف إلى نفسه تفخيماً وثالثها : ليحكم بالامتياز فأوقع العلم مكان الحكم بالامتياز ؛ لأنّ الحكم لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع ؛ لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لا يوجد ﴿ ويتخذ منكم شهداء ﴾ ويكرم ناساً منكم بالشهادة وهم المتشهدون يوم أحد أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما وجد منهم من الثبات والصبر على الشدائد كما قال تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ ( البقرة : ١٤٣ ) وقوله تعالى :﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ قال ابن عباس أي المشركين كقوله تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ ( لقمان : ١٣ ) وهو اعتراض بين بعض التعاليل وبعض وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يظفرهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين.
﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ﴾ أي : ليطهرهم من الذنوب بما أصابهم ﴿ ويمحق ﴾ أي : يهلك ﴿ الكافرين ﴾ أي : إن كانت الدولة على المؤمنين فاللتمييز والاستشهاد والتمحيص وغير ذلك مما هو أصلح لهم، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
﴿ أمّ ﴾ منقطعة مقدّرة ببل ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي : بل ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ : في الشدائد وقد مرّ معنى يعلم.
تنبيه : قال البيضاوي : والفرق بين لما يعلم ولم أنّ في لما توقع الفعل فيما يستقبل لكن قال أبو حيان : لا أعلم أحداً من النحويين ذكره بل ذكروا أنك إذا قلت لما يخرج زيد دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار، وأمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا انتهى. لكن قال الفرّاء : لما لتعريض الوجود بخلاف لم.
﴿ ولقد كنتم تمنون ﴾ فيه حذف إحدى التاءين في الأصل أي : تتمنون ﴿ الموت ﴾ أي : الحرب فإنها من أسباب الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج ﴿ من قبل أن تلقوه ﴾ أي : تشاهدوه وتعرفوا شدّته ﴿ فقد رأيتموه ﴾ أي : الحرب أو الموت حتى قتل دونكم من قتل من إخوانكم ﴿ وأنتم تنظرون ﴾ أي : بصراء تتأملون الحال كيف هم فلم انهزمتم.
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ﴾ فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد ؛ لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكافل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال وأكرم الله تعالى نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم باسمين مشتقين من اسمه جل وعلا محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت :
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وقوله تعالى :﴿ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه صلى الله عليه وسلم بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ أفإن مات أو قتل ﴾ شك وهو على الله محال ؟ أجيب : بأن المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجود الارتداد، قال ابن عباس وأصحاب المغازي : لما رأى خالد بن الوليد الرماة يوم أحد اشتغلوا بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ثم حمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم ورمى عبد الله ابن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرّق عنه أصحابه، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة » ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فرجع وقال : إني قتلت محمداً وصاح صارخاً، ألا إن محمداً قد قتل فقيل : إن ذلك الصارخ كان إبليس فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس :( إليّ عباد الله إليّ عباد الله ) فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال :«ارم فداك أبي وأمي ).
وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثاً، فكان الرجل يمرّ ومعه جعبته من النبل فيقول : انثرها لأبي طلحة وكان إذا رمى يشرف النبيّ صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذٍ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت، لا نجوت، فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( دعوه حتى إذا دنا منه وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : عندي رمكة أعلفها يوم فرق ذرة أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«بل أنا أقتلك إن شاء الله » فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول : قتلني محمد واحتمله أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي : أقتلك فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف ).
قال ابن عباس : اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ، واشتدّ غضب الله على من رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وفشا في الناس أن محمداً قد قتل، فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل، فقال أنس بن مالك بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وقال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأشار إليّ أن أمسك » فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفرار، فقالوا : يا نبيّ الله فديناك بآبائنا وأمّهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فإن قيل : إنه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنه عليه الصلاة والسلام لا يقتل فقال :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ﴾ ( الزمر، ٣٠ ) وقال :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ ( المائدة، ٦٧ ) وقال :﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ ( التوبة، ٣٣ )
وإذا علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل ؟ أجيب : بأن هذا ورد على سبيل الإلزام، فإن موسى عليه الصلاة والسلام مات ولم ترجع أمّته عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام قتل ولم يرجعوا عن دينه فكذا ههنا ﴿ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً ﴾ بارتداده وإنما يضرّ نفسه ﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾ على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه.
﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ﴾ أي : بقضائه ومشيئته أو بإذنه لملك الموت في قبضه روحه وقوله تعالى :﴿ كتاباً ﴾ مصدر أي : كتب الله ذلك ﴿ مؤجلاً ﴾ أي : مؤقتاً لا يتقدّم ولا يتأخر فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة.
ونزل في الذين تركوا المركز يوم أحد طلباً للغنيمة ﴿ ومن يرد ﴾ أي : بعمله ﴿ ثواب الدنيا نؤته منها ﴾ ما نشاء مما قدّرناه له كما قال تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ ( الإسراء : ١٨ ) وفي الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا ﴿ ومن يرد ﴾ أي : بعمله ﴿ ثواب الآخرة نؤته منها ﴾ أي : من ثوابها ﴿ وسنجزي الشاكرين ﴾ أي : الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له ) وقال صلى الله عليه وسلم :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ).
وقوله تعالى :
﴿ وكأين ﴾ أصله أي : دخلت الكاف عليها فصارت مركبة من كاف التشبيه ومن أي : وحدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية ومثلها في التركيب وإفهام التكثير كذا في قولهم : عندي كذا كذا درهماً وأصله كاف التشبيه، وذا الذي هو إسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية وكأين وكذا كلها بمعنى واحد، والنون تنوين في المعنى أثبت في الخط على غير قياس. قال البغوي : لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وقرأ ابن كثير بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة، والباقون بهمزة بعد الكاف مفتوحة بعدها ياء مشدّدة، ووقف أبو عمرو على الياء والباقون على النون وسهل حمزة الهمزة وحققها الباقون وقوله تعالى :﴿ من نبيّ ﴾ تمييز لكأين لأنها مثل كم الخبرية وقوله تعالى :﴿ قتل ﴾ قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم القاف وكسر التاء ولا ألف بين القاف والتاء والباقون بفتح القاف والتاء وألف بين القاف والتاء وقوله تعالى :﴿ معه ﴾ خبر مبتدؤه ﴿ ربيون ﴾ وهم جمع ربي وهو العالم المتقي منسوب إلى الرب، وإنما كسرت راؤه تغييراً في النسب وقيل : لا تغيير فيه وهو منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة وقوله تعالى :﴿ كثير ﴾ صفة لربيون وإن كان بلفظ الإفراد لأنّ معناه جمع ﴿ فما وهنوا ﴾ أي : ضعفوا ﴿ لما أصابهم في سبيل الله ﴾ من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم ﴿ وما ضعفوا ﴾ عن الجهاد ﴿ وما استكانوا ﴾ أي : خضعوا لعدوّهم كما فعلتم حين قيل : قتل نبيكم ﴿ والله يحب الصابرين ﴾ على الشدائد فيثيبهم ويعظم أجرهم.
﴿ وما كان قولهم ﴾ عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم وكونهم ربانيين ﴿ إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا ﴾ أي : تجاوزنا الحدّ وقولهم :﴿ في أمرنا ﴾ إيذان بأنّ ما أصابهم لسوء فعلهم وهضماً لأنفسهم ﴿ وثبت أقدامنا ﴾ أي : بالقوّة على الجهاد ﴿ وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ أي : فهلا قلتم وفعلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ فآتاهم الله ثواب الدنيا ﴾ أي : بالنصر والغنيمة والعز وحسن الذكر ﴿ وحسن ثواب الآخرة ﴾ أي : بالجنة والنعيم المقيم وخص ثوابها بالحسن إشعاراً بفضله وأنه المعتدّ به عند الله ﴿ والله يحب المحسنين ﴾ أي : فيكثر لهم الثواب.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ﴾ أي : اليهود والنصارى فيما يأمرونكم به وقال علي : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ولو كان محمد نبياً لما قتل ﴿ يردّوكم على أعقابكم ﴾ أي : إلى الكفر ﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾ الدنيا والآخرة أمّا خسران الدنيا فلأنّ أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد إلى العدوّ وإظهار الحاجة إليه وأمّا خسران الآخرة، فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.
﴿ بل الله مولاكم ﴾ أي : ناصركم وحافظكم على دينكم ﴿ وهو خير الناصرين ﴾ فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره.
﴿ سنلقي ﴾ أي : سنقذف ﴿ في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ أي : الخوف وذلك أنّ الكفار لما هزموا المسلمين في أحد أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفرّوا منهم من غير سبب، حتى روي أنّ أبا سفيان صعد الجبل ونادى يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام :«إن شاء الله » وقيل : لما ذهبوا متوجهين إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق ندموا وقالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم. وقرأ ابن عامر والكسائي بضم العين والباقون بالسكون ﴿ بما أشركوا ﴾ أي : بسبب إشراكهم ﴿ بالله ما لم ينزل به سلطاناً ﴾ أي : حجة على عبادته وهو الأصنام وهذا كقوله :
ولا ترى الضبّ بها ينجحره***
أي : ليس بها ضب فلا ينجحر فكذلك هؤلاء ليس لهم حجة أصلاً، وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة بحدة اللسان ﴿ ومأواهم النار وبئس مثوى ﴾ أي : مأوى ﴿ الظالمين ﴾ أي : الكافرين هي.
﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله هذه الآية ؛ لأنّ النصر كان للمسلمين في الابتداء كما قال تعالى :﴿ إذ تحسونهم ﴾ أي : تقتلونهم من حسه إذا أبطل حسه وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء والباقون بالإدغام ﴿ بإذنه ﴾ أي : بإرادته ﴿ حتى إذا فشلتم ﴾ أي : جبنتم عن القتال ﴿ وتنازعتم ﴾ أي : اختلفتم ﴿ في الأمر ﴾ أي : أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمقام في سفح الجبل للرمي حين انهزم المشركون، فقال بعضكم : نذهب فقد نصر أصحابنا وقال آخرون : لا تخالفوا أمر النبيّ فاثبتوا مكانكم، فثبت عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهبى وهو المعنى بقوله تعالى : وعصيتم أي : أمر النبي وتركتم المركز لطلب الغنيمة ﴿ من بعدما أراكم ﴾ أي : الله ﴿ ما تحبون ﴾ من الظفر والغنيمة وانهزام العدوّ وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله أي : منعكم نصره ويجوز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا سواء كانت الدولة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم، ثم اشتغل بعضهم بالغنيمة كما قال تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾ وهم التاركون المركز للغنيمة ﴿ ومنكم من يريد الآخرة ﴾ وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا.
فإن قيل : فإذا كان البعض هو المخالف فكيف جاء العتاب عاماً بقوله :﴿ وعصيتم ﴾ أجيب : بأنّ اللفظ وإن كان عاماً فقد جاء المخصص بعده وهو قوله :﴿ منكم ﴾ وقوله تعالى :﴿ ثم صرفكم ﴾ أي : ردّكم بالهزيمة ﴿ عنهم ﴾ أي : الكفار عطف على ما قبله والجملتان من قوله منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة اعتراض بين المتعاطفين وقيل : عطف على جواب إذا المقدّر ﴿ ليبتليكم ﴾ أي : ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره ﴿ ولقد عفا عنكم ﴾ ما ارتكبتموه من مخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وميلكم إلى الغنيمة تفضلاً منه تعالى.
فإن قيل : إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ الذنب من الصغائر لصحة العفو عنه من غير توبة لقيام الدليل على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرة أجيب : بأنّ هذا الذنب لا شك أنه كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين فلا بدّ من إضمار توبتهم ﴿ والله ﴾ أي : المتفضل المنعم ﴿ ذو فضل على المؤمنين ﴾ أي : يتفضل عليهم بالعفو أو في الأحوال كلها سواء أجعلت الدولة لهم أم عليهم إذ الابتلاء أيضاً رحمة.
وقوله تعالى :
﴿ إذ ﴾ العامل فيها مضمر أي : اذكر إذ ﴿ تصعدون ﴾ أي : تبعدون في الأرض هاربين ﴿ ولا تلوون ﴾ أي : تعرجون ﴿ على أحد ﴾ أي : لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره ﴿ والرسول يدعوكم ﴾ أي : يقول : إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة ﴿ في أخراكم ﴾ أي : من ورائكم ﴿ فأثابكم ﴾ أي : جازاكم ﴿ غماً ﴾ بالهزيمة ﴿ بغمّ ﴾ أي : بسبب غمكم الرسول بالمخالفة. وقيل : الباء بمعنى على أي : مضاعفاً على غمّ فوت الغنيمة.
والغموم كانت هناك كثيرة أحدها : غمهم بما نالهم من العدوّ في الأنفس والأموال وثانيها : غمهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها وثالثها : غمهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورابعها : غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام وذلك من أشق الأشياء ؛ لأنّ الإنسان بعد انهزامه يضعف قلبه ويجبن فإذا أمر بالمعاودة فإن فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف عقاب الآخرة وخامسها : غمهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل وسادسها : غمهم حين أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيل المشركين وسابعها : غمهم حين أشرف عليهم أبو سفيان.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذٍ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه وأراد أن يرميه فقال :«أنا رسول الله » ففرحوا حين وجدوه وفرح صلى الله عليه وسلم حين رأى من يمتنع به فأقبلوا على المشركين يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس لهم أن يعلونا اللهمّ إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) ثم بدت أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، وإذا عرفت ذلك فلا يضر اختلاف المفسرين، فإن بعضهم فسر هذين الغمين بغمين من هذه وبعضهم بخلافه وقال القفال : وعندي أن الله تعالى ما أراد بقوله غماً بغمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي : إن الله تعالى عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، فكأنه تعالى قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زجراً لكم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. والغمّ التغطية ومنه غمّ الهلال إذا لم ير وقوله تعالى ﴿ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ﴾ أي : من الغنيمة متعلق بعفا أو بأثابكم فلا زائدة ﴿ ولا ما أصابكم ﴾ أي : من القتل والهزيمة ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ أي : عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
﴿ ثم أنزل عليكم ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ من بعد الغمّ أمنة ﴾ أي : أمناً والأمن والأمنة بمعنى واحد وقيل : الأمن يكون مع زوال سبب الخوف، والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف ههنا قائماً وقوله تعالى :﴿ نعاساً ﴾ بدل من أمنة، وأمنة مفعول أو نعاساً هو المفعول وأمنة حال منه متقدّمة ﴿ يغشى طائفة منكم ﴾ وهم المؤمنون. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على التأنيث ردّاً إلى الأمنة والباقون بالياء على التذكير ردّاً إلى النعاس ﴿ وطائفة ﴾ وهم المنافقون ﴿ قد أهمتهم أنفسهم ﴾ أي : حملتهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إلا إنجاءها دون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يناموا، فإن الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان أحدهما : الجازمون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعين بأن الله ينصر هذا الدين وأن هذه الوقعة لا تؤدّي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الأمن إلى أن غشيهم النعاس فإن النوم لا يجيء مع الخوف، قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس. قال الزبير : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ الخوف، فأرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن بشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول :﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ﴾. والفريق الثاني : هم المنافقون كانوا شاكين في نبوّته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتدّ جزعهم وعظم خوفهم. قال ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق بالله والفراغ من الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
فإن قيل : ما فائدة هذا النعاس ؟ أجيب : بأنّ له فوائد : الأولى : أنّ السهر يوجب الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوّة والنشاط والثانية : أنّ الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله تعالى النوم على الباقين لئلا يشاهدوا قتل غيرهم فيشتدّ خوفهم والثالثة : أنّ الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في تلك المعركة من أدل الدلائل على أنّ الله تعالى يحفظهم ويعصمهم وذلك مما يزيل الخوف من قلوبهم ويورّثهم الأمن.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ وطائفة ﴾ مبتدأ والخبر ﴿ قد أهمتهم أنفسهم ﴾.
فإن قيل : كيف جاز الابتداء بالنكرة ؟ أجيب : بأنه جاز لأحد أمرين : إمّا للاعتماد على واو الحال وقد عدّه بعضهم مسوّغاً وإن كان الأكثر لم يذكروه وأنشد :
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوءه كل شارق
وإمّا لأنّ الموضع موضع تفصيل، فإنّ المعنى يغشى طائفة وطائفة لم يغشاهم فهو كقوله :
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشق عندنا لم يحوّل
وقوله تعالى :﴿ يظنون بالله غير الحق ﴾ أي : أن لا ينصر الله محمداً صفة أخرى لطائفة وغير الحق نصب على المصدر أي : يظنون بالله غير الظنّ الحق الذي يحق أن يظنّ به ﴿ ظنّ ﴾ أي : كظنّ ﴿ الجاهلية ﴾ حيث اعتقدوا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل أو لا ينصر وقوله تعالى :﴿ يقولون ﴾ أي : لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدل من يظنون ﴿ هل لنا ﴾ أي : ما لنا لفظه استفهام ومعناه جحد ﴿ من الأمر ﴾ أي : النصر الذي وعدناه ﴿ من شيء ﴾ أي : شيء ومن صلة زيدت للتأكيد وهو إمّا مبتدأ خبره لنا وإمّا فاعل للنا لاعتماده على الإستفهام ومن الأمر حال من المبتدأ أو الفاعل وهو شيء لكونه مرفوعاً حقيقة لا مجروراً، وقيل : إنّ عبد الله بن أبيا بنُ سلول لما شاوره النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة أشار إليه بأن لا يخرج من المدينة ثم إنّ بعض الصحابة ألحوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم فغضب ابن أبيّ من ذلك، فقال : عصاني وأطاع الولدان ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع ابن أبي فقيل له : قتل بنو الخزرج فقال : هل لنا من الأمر من شيء يعني أنّ محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن لا يخرج من المدينة والمعنى : هل لنا أمر يطاع فهو استفهام على سبيل الإنكار ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ إنّ الأمر كله ﴾ أي : الغلبة الحقيقية لله ولأوليائه، فإنّ حزب الله هم الغالبون أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقرأ أبو عمرو برفع اللام بعد الكاف على أنه مبتدأ والخبر لله والباقون بالنصب على أنه توكيد.
تنبيه : هذه الآية تدل على أنّ جميع المحدثات خلق الله تعالى بقضائه وقدره ؛ لأنّ المنافقين قالوا : لو أنّ محمداً قبل منا رأينا ونصحنا لما وقع في هذه المحنة، فأجابهم الله تعالى بأنّ الأمر كله لله. وهذا إنما ينتظم إذا كانت أفعال العباد بقضائه وقدره، إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب رافعاً لشبهة المنافقين وقوله تعالى :﴿ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون ﴾ أي : يظهرون ﴿ لك ﴾ حال من ضمير يقولون، وقل إنّ الأمر كله لله اعتراض بين الحال وذي الحال أي : يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وقوله تعالى :﴿ يقولون ﴾ بيان لما قبله ﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ﴾ أي : كما وعد محمد وزعم أنّ الأمر كله لله ولأوليائه أو لو كان الاختيار إلينا لم نخرج كما كان رأي ابن أبيّ وغيره ﴿ ما قتلنا ههنا ﴾ أي : لما غلبنا ولما قتل من قتل منا في هذه المعركة.
﴿ قل ﴾ لهم ﴿ لو كنتم في بيوتكم ﴾ وفيكم من كتب الله تعالى عليه القتل ﴿ لبرز ﴾ أي : خرج ﴿ الذين كتب ﴾ أي : قضى ﴿ عليهم القتل ﴾ منكم ﴿ إلى مضاجعهم ﴾ أي : مصارعهم فيقتلوا ولم ينجهم قعودهم ؛ لأنّ قضاء الله تعالى كائن لا محالة فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه وقرأ أبو عمرو وحفص وورش بضم الباء في بيوتكم والباقون بالكسر قوله تعالى :﴿ وليبتلي ﴾ أي : ليختبر ﴿ الله ما في صدوركم ﴾ أي : قلوبكم من الإخلاص والنفاق علة فعل محذوف تقديره فرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليبتلي وقيل : معطوف على علة محذوفة تقديره ليقضي الله أمره وليبتلي وقوله تعالى :﴿ وليمحص ما في قلوبكم ﴾ فيه وجهان : أحدهما : إنّ هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات وتظهرها والثاني : إنها تصير كغارة لذنوبكم فيمحصكم من تبعات المعاصي والسيئات.
فإن قيل : قد سبق ذكر الابتلاء في قوله تعالى :﴿ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴾ فلِمَ أعاده ؟ أجيب : بأنه أعيد إما لطول الكلام بينهما وإما لأنّ الابتلاء الأوّل هزيمة للمؤمنين والابتلاء الثاني بسائر الأحوال ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ أي : بما في القلوب قبل إظهارها وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه تعالى : غني عن الابتلاء وإنما يبتلي ليظهر للناس حال المؤمنين من حال المنافقين.
﴿ إنّ الذين تولوا منكم ﴾ عن القتال ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ أي : جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً : ستة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ﴿ إنما استزلهم الشيطان ﴾ أي : طلب منهم الزلل بوسوسته ﴿ ببعض ما كسبوا ﴾ من الذنوب بترك المركز والحرص على الغنيمة ومخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم فأطاعوه فمنعوا التأييد وقوّة القلب حتى تولوا ﴿ ولقد عفى الله عنهم ﴾ لتوبتهم واعتذارهم ﴿ إنّ الله غفور ﴾ للذنوب ﴿ حليم ﴾ لا يعاجل بعقوبته المذنب كي يتوب.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ﴾ أي : المنافقين وهم ابن أبي وأصحابه ﴿ وقالوا لإخوانهم ﴾ أي : في شأنهم ومعنى إخوانهم اتفاقهم في النفاق والكفر وقيل : في النسب ﴿ إذا ضربوا في الأرض ﴾ أي : سافروا فيها لتجارة أو غيرها فماتوا ﴿ أو كانوا غزى ﴾ أي : غزاة جمع غاز فقتلوا ﴿ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾ أي : لا تقولوا كقولهم ﴿ ليجعل الله ذلك ﴾ القول في عاقبة أمرهم ﴿ حسرة في قلوبهم ﴾ أي : لأنهم إذا ألقوا تلك الشبهة على المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم. وقيل : إنّ اجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحسرة والخيبة وضيق الصدر وهو المراد بقوله تعالى :﴿ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ﴾ ( الأنعام، ١٢٥ ).
فإن قيل : كيف قيل إذا ضربوا مع قالوا ؟ أجيب : بأنّ ذلك هي حكاية الحال الماضية قال التفتازاني معناه : إنك تقدّر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي، أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك : قالوا ذلك حين يضربون والمعنى : حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض وقوله تعالى :﴿ والله يحيي ويميت ﴾ ردّ لقولهم. أي : هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والمغازي ويميت المقيم والقاعد ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة ردّاً على الذين كفروا، والباقون بتاء الخطاب ردّاً على قوله : ولا تكونوا وهو خطاب للمؤمنين وفيه تهديد لهم على أن يماثلوهم.
﴿ ولئن قتلتم ﴾ اللام هي الموطئة لقسم محذوف ﴿ في سبيل الله ﴾ أي : الجهاد ﴿ أو متم ﴾ أي : أتاكم الموت في سبيل الله وجواب القسم قوله تعالى :﴿ لمغفرة ﴾ كائنة ﴿ من الله ﴾ وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسدّه لكونه دالاً عليه ﴿ ورحمة ﴾ أي : من الله فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ولا بد من حذف آخر مصحح للمعنى تقديره لمغفرة من الله لكم ورحمة منه لكم.
فإن قيل : المغفرة هي الرحمة فلم كررها ونكرها ؟ أجيب : بأنه إنما نكرها إيذاناً بأن أدنى خير وأقلّ شيء خير من الدنيا وما فيها وهو المراد بقوله :﴿ خير مما تجمعون ﴾ من الدنيا وأما التكرير فغير مسلم ؛ لأنّ المغفرة مترتبة على الرحمة فيرحم ثم يغفر.
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون أصلاً ؟ أجيب : بأنّ الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيراً وأيضاً هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
﴿ ولئن متم أو قتلتم ﴾ على أيّ وجه اتفق هلاككم ﴿ لا إلى الله ﴾ لا غيره ﴿ تحشرون ﴾ في الآخرة فيجازيكم وقرأ نافع وحمزة ﴿ متم ﴾ بكسر الميم والباقون بالضم، وقرأ حفص ﴿ يحشرون ﴾ بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب ورسمت لا إلى الله بألف بعد اللام.
فإن قيل : هنا ثلاثة مواضع فقدّم الموت على القتل في الأوّل والأخير وقدّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمة في ذلك ؟ أجيب : بأنّ الأوّل لمناسبة ما قبله من قوله :﴿ إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا ﴾ فرجع الموت لمن ضرب في الأرض والقتل لمن غزا، وأمّا الثاني فلأنه محل تحريض على الجهاد فقدّم الأهم الأشرف، وأمّا الأخير فلأن الموت أغلب.
﴿ فبما رحمة ﴾ أي : فبرحمة ﴿ من الله لنت لهم ﴾ فما مزيدة للتأكيد والجار والمجرور مقدّم للدلالة على أنّ لينه صلى الله عليه وسلم ما كان إلا برحمة من الله، ومعنى الرحمة توفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه ﴿ ولو كنت فظاً ﴾ أي : سيئ الخلق ﴿ غليظ القلب ﴾ أي : جافياً ﴿ لانفضوا ﴾ أي : تفرّقوا ﴿ من حولك ﴾ أي : عنك وذلك ؛ لأنّ المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه وسكون نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم كريماً يتجاوز عن ذنوبهم ويعفو عن سيئاتهم ويخصهم بالبر والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وغلظ القلب ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء كثير القيام بإعانة الفقراء. وحمل القفال هذه الآية على واقعة أحد قال : فبما رحمة من الله لنت لهم يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام، ولو كنت فظاً غليظ القلب فشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام، فكان ذلك مما يطمع العدوّ فيك وفيهم ﴿ فاعف ﴾ أي : تجاوز ﴿ عنهم ﴾ أي : ما أتوه ﴿ واستغفر لهم ﴾ ذنوبهم حتى أشفعك فيهم فأغفر لهم.
واختلفوا في معنى قوله تعالى :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ على وجوه أحدها : إنّ ذلك يقتضي شدّة محبته لهم فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة لهم فيحل سوء الخلق والفظاظة وثانيها : إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان أكمل الناس عقلاً إلا أنّ عقول الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر ببال آخر لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام :( أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم ) ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم :( ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم ) وثالثها : قال الحسن وسفيان بن عيينة : إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة وتصير سنة ورابعها : أنه عليه الصلاة والسلام شاورهم في وقعة أحد أشاروا عليه بالخروج وكان ميله أن لا يخرج، فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم شيء، فأمر الله تعالى بمشاورتهم بعد تلك الواقعة ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة وخامسها : أمره بالمشاورة لا ليستفيد منهم رأياً ولكن ليعلم مقادير عقولهم ومحبتهم له. وذكروا أيضاً وجوهاً أخر، وفي هذا القدر كفاية واتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور الأمّة فيه ؛ لأنّ النص إذا جاء بطل الرأي ﴿ فإذا عزمت ﴾ أي : قطعت الأمر على إمضاء ما تريد بعد المشاورة ﴿ فتوكل على الله ﴾ أي : ثق به لا بالمشاورة فليس التوكل إهمال التدبير بالكلية بل بمراعاة الأسباب مع تفويض الأمر إلى الله تعالى ﴿ إن الله يحب المتوكلين ﴾ عليه فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.
﴿ إن ينصركم الله ﴾ أي : يعنكم على عدوّكم كيوم بدر ﴿ فلا غالب لكم ﴾ أي : فلا يغلبكم أحد ﴿ وإن يخذلكم ﴾ بترك نصركم كيوم أحد ﴿ فمن ذا الذي ينصركم من بعده ﴾ أي : من بعد خذلانه أي : لا أحد ينصركم. وفي هذا تنبيه على المقتضي للتوكل وتحريض على ما يستحق به النصر من الله وتحذير عما يستجاب خذلانه ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي : فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر سواه ؛ لأنّ إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه.
﴿ وما كان لنبي أن يغل ﴾ أي : ما صح لنبيّ أن يخون في الغنائم فإنّ النبوّة تنافي الخيانة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس : نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، وقال مقاتل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم :( ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ ) فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم :( بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم ؟ ) وقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذا في الوحي يقول ما كان لنبي أن يكتم شيئاً من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة، كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه سب دينهم وسب آلهتهم فسألوا أن يترك ذلك فنزلت.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم وتأخرت القسمة لبعض الموانع، فجاء قوم وقالوا : ألا نقسم غنائمنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :( لو كان لكم مثل أحد ذهباً ما حبست عليكم منه درهماً أتحسبون أني أغلكم مغنمكم ) فنزلت وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول والمعنى على هذا وما صح لنبي أن يوجد غالاً أو ينسب إلى الغلول ﴿ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴾ قال أكثر المفسرين : إنّ هذه الآية على ظاهرها، قالوا : وهي نظير قوله تعالى في مانعي الزكاة ﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ﴾ ( التوبة، ٣٥ ) ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم :( لا ألقين أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها نغاء فينادي : يا محمد فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) قال المحققون : وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك المغلول ازدادت فضيحته. وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له : انزل إليه فخذه فينزل إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه ففعل ذلك به. وعن أبي هريرة : قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد فقال الناس : هنيئاً له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه ناراً ) فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( شراك من النار أو شراكان من نار ) وقال أبو مسلم : ليس المقصود من الآية ظاهرها بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل كقوله تعالى :﴿ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ﴾ ( لقمان، ١٦ )
فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد والمعنى أنّ الله تعالى يحفظ عليه هذا المغلول ويقرّره عليه يوم القيامة ويجازيه به ؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية. وعن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسد على الصدقة، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال :( ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في بيت أمّه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ منها أحد شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو ) ثم رفع يديه حتى رؤيت عفرة إبطه ثم قال :( اللهمّ هل بلغت اللهمّ هل بلغت ) ﴿ ثم توفى كل نفس ﴾ أي : تعطى جزاء ﴿ ما كسبت ﴾ أي : عملت وافياً الغال وغيره.
فإن قيل : هلا قيل : ثم يوفى أي : الغال ما كسب ؟ أجيب : بأنه عم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ شيئاً فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم.
وقوله تعالى :
﴿ أفمن اتبع رضوان الله ﴾ الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف والتقدير أفمن اتقى فاتبع رضوان الله ﴿ كمن باء ﴾ أي : رجع ﴿ بسخط من الله ﴾ بسبب المعاصي ﴿ ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ أي : المرجع هي أي : ليس مثله واختلف في المراد من هذه الآية، فقال الكلبي والضحاك : فمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، وقال الزجاج : لما حل المشركون على المسلمين دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين ففعله بعضهم وتركه آخرون فقوله :﴿ أفمن اتبع رضوان الله ﴾ هم الذين امتثلوا أمره كمن باء بسخط من الله هم الذين لم يقبلوا قوله.
وقيل :﴿ أفمن اتبع رضوان الله ﴾ بالإيمان به والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته، قال القاضي : وكل واحد من هذه الوجوه صحيح ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه ؛ لأنّ اللفظ عام فيجب أن يتناول الكل وإن كانت الآية نزلت في واقعة معينة لكن عموم اللفظ لا يبطل بخصوص السبب.
تنبيه : الفرق بين المصير والمرجع أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع فإنه قد يوافق المبدأ، وقرأ شعبة ﴿ رضوان ﴾ بضم الراء والباقون بالكسر.
وقوله تعالى :
﴿ هم درجات ﴾ مبتدأ وخبر أي : الفريقان درجات ولا بد من تأويل في الأخبار بالدرجات عن هم ؛ لأنها ليست إياهم فيجوز أن يكون جعلوا نفس الدرجات مبالغة، والمعنى : إنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم كما أنّ الدرجات متفاوتة فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أي : هم مثل الدرجات في التفاوت ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي : ذوو درجات أي : أصحاب منازل ورتب في الثواب والعقاب ﴿ عند الله ﴾ فلمن اتبع رضوانه الثواب ولمن باء بسخطه العقاب ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ أي : عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها.
﴿ لقد منّ الله على المؤمنين ﴾ أي : أنعم على من آمن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ووجه هذه المنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه كقوله تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ ( الأنبياء، ١٠٧ ).
فإن قيل : لم خصهم بالنعمة مع أن البعثة عامّة ؟ أجيب : بأنهم هم المنتفعون بها كقوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾ ﴿ إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ﴾ أي : من جنسهم عربياً مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به ويشرفوا به لا ملكاً ولا عجمياً وقرئ شاذاً من أنفسهم بفتح الفاء أي : من أشرفهم ؛ لأنه كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم وقد خطب أبو طالب لما تزوّج صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر، فقال : الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إنّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. ولم أذكر في التفسير قراءة شاذة إلا هذه لكونها في شرف الرسول صلى الله عليه وسلم وقراءة السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها ﴿ يتلو عليهم آياته ﴾ أي : القرآن بعدما كانوا جهالاً لم يسمعوا الوحي ﴿ ويزكيهم ﴾ أي : ويطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال ﴿ ويعلمهم الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ والحكمة ﴾ أي : السنة من بعدما كانوا من أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم كما قال تعالى :﴿ وإن كانوا من قبل ﴾ أي : قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ﴿ لفي ضلال مبين ﴾ أي : بين ظاهر.
﴿ أو لما ﴾ أي : حين ﴿ أصابتكم مصيبة ﴾ بأحد بقتل سبعين منكم ﴿ قد أصبتم مثليها ﴾ ببدر بقتل سبعين وأسر سبعين ﴿ قلتم ﴾ متعجبين ﴿ أنى ﴾ أي : من أين لنا ﴿ هذا ﴾ القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ هو من عند أنفسكم ﴾ أي : هو مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز، فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات في المركز والمطاوعة في الأمر، وعن علي رضي الله تعالى عنه لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم.
روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله تعالى عنه قال :( جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدّموا أي : الأسارى فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عددهم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل نأخذ منهم فداهم فنتقوّى به على قتال أعدائنا ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر ) وهذا معنى قوله :﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾ أي : بأخذكم الفداء واختياركم للقتل ﴿ إنّ الله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على النصر وعلى منعه وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى.
﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان ﴾ أي : جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة ﴿ فبإذن الله ﴾ أي : فهو كائن بقضائه وإرادته ودخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو الذي يأتيني فله درهم ﴿ وليعلم المؤمنين ﴾ وقد تقدّم أنّ معنى وليعلم الله كذا أي : يميز أو يظهر للناس ما كان في علمه.
﴿ وليعلم الذين نافقوا ﴾ قال الواحدي : يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها. قال أبو عبيدة : مشتق من نافقاء اليربوع ؛ لأنّ جحر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فإن طلب من أيهما كان يخرج من الآخر فقيل للمنافق : إنه منافق وهم اسم إسلامي ؛ لأنه صنع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلب خرج من الآخر وقوله تعالى :﴿ وقيل لهم ﴾ عطف على نافقوا أي : وليعلم الذين قيل لهم لما انصرفوا عن القتال وقالوا : لم نلقي أنفسنا في القتل فرجعوا، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه وكانوا ثلاثمائة من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ تعالوا قاتلوا في سبيل الله ﴾ الكفار ﴿ أو ادفعوا ﴾ عنا أي : إن كان في قلبكم حب الإيمان فقاتلوا للدين، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، وقال السدي وابن جريج : ادفعوا عنا العدوّ بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا ؛ لأنّ الكثرة أحد أسباب الهيبة.
روي عن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره : لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوّهم قيل : وكيف وقد ذهب بصرك ؟ قال : لقوله تعالى :﴿ أو ادفعوا ﴾ أراد أكثروا سوادهم واختلفوا في القائل فقال الأصم : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى القتال وقيل : أبو جابر الأنصاري قال لهم : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدوّ ﴿ قالوا لو نعلم ﴾ أي : نحسن ﴿ قتالاً لاتبعناكم ﴾ فيه قال تعالى تكذيباً لهم :﴿ هم للكفر يومئذٍ ﴾ أي : يوم إذ قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ﴿ أقرب منهم للإيمان ﴾ أي : لانقطاعهم وارتدادهم وكلامهم، فإنّ ذلك أوّل إمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل : المعنى على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان بما أظهروه من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل أقرب إلى الإيمان من حيث الظاهر.
تنبيه : فضلوا هنا على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين، ولولا ذلك لم يجز تقول زيد قاعداً أفضل منه قائماً أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً لم يجز ﴿ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ﴾ أي : يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.
تنبيه : إضافة القول إلى الأفواه تصوير لنفاقهم، فإنّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط وبهذا انتفى كونه للتأكيد، كما قيل به لتحصيل هذه الفائدة وقال ابن عادل : والظاهر أنّ القول يطلق على اللساني وعلى النفساني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محمليه اللهمّ إلا أن يقال إطلاقه على النفساني مجاز ﴿ والله أعلم بما يكتمون ﴾ أي : عالم بما في ضمائرهم وبما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنه يعلم ذلك مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بإمارات وجوّزوا في موضع.
﴿ الذين قالوا ﴾ ألقاب الإعراب الثلاثة : الرفع والنصب والجرّ، فالرفع من ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين، الثاني : أنه بدل من واو يكتمون، الثالث : إنه مبتدأ والخبر قوله ﴿ قل فادرؤوا ﴾ ولا بد من حذف عائد تقديره قل لهم فادرؤوا، والنصب من ثلاثة أوجه أيضاً : أحدها : النصب على الذمّ أي : أذم الذين قالوا، الثاني : أنه بدل من الذين نافقوا، الثالث : إنه صفة لهم، والجرّ من وجهين : أحدهما أنه بدل من الضمير في بأفواههم، والثاني : أنه بدل من الضمير في قلوبهم. كقول الفرزدق :
على حالة لو أنّ في القوم حاتماً على جوده لضنّ بالماء حاتم
بجرّ حاتم على أنه بدل من الهاء في جوده وضن مبني للمفعول وهو بالماء أي : ولو أن حاتماً مستقرّاً في القوم كائناً على جوده، وهم بتلك الحالة لبخل بالماء ﴿ لإخوانهم ﴾ أي : لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب أو في سكنى الدار أو في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى :﴿ وقعدوا ﴾ حال مقدّرة بقد أي : قالوا : قاعدين عن القتال ﴿ لو أطاعونا ﴾ في القعود ﴿ ما قتلوا ﴾ كما لم نقتل. واختلف في قائل ذلك، فقال أكثر المفسرين : هو ابن أبي وأصحابه، وقول الأصم هذا لا يجوز ؛ لأنّ ابن أبي خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد يوم أحد وهذا القول واقع ممن تخلف فيه نظر لاحتمال أنّ المراد بالقعود القعود عن القتال لا عن الخروج إلى القتال ﴿ قل :﴾ لهم ﴿ فادرؤوا ﴾ أي : ادفعوا ﴿ عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾ في أن القعود ينجي منه لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة ولا بد لكم أن يتعلق بكم بعضها.
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة : سبعون منافقاً.
فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلال فإن التحرز عن القتل ممكن وأمّا التحرز عن الموت فغير ممكن ؟ أجيب : بأن الكل بقضاء الله وقدره فلا فرق بين الموت والقتل وفي قوله تعالى :﴿ فادرؤوا عن أنفسكم الموت ﴾ استهزاء بهم أي : إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا، ونزل في شهداء أحد كما رواه الحاكم : وكانوا سبعين رجلاً : أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شاس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
﴿ ولا تحسبن ﴾ أي : ولا تظنن ﴿ الذين قتلوا في سبيل الله ﴾ أي : لأجل دينه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ﴿ أمواتاً بل ﴾ هم ﴿ أحياء عند ربهم ﴾ أي : ذوو زلفى منه فليس المراد القرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه لعدم مناسبة المقام له بل بمعنى القرب شرفاً ورتبة.
قال البيضاوي وقيل : نزلت في شهداء بدر أي : وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، قال شيخنا القاضي زكريا : وهو غلط إنما نزل فيهم آية البقرة ﴿ يرزقون ﴾ من ثمار الجنة.
روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال :( أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش ).
وروي أنّ الله تعالى يطلع عليهم ويقول : سلوني ما شئتم فيقولون : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا ؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا : نسألك أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك لما رأوا من النعيم.
كما قال تعالى :
﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ﴾ وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله والتمتع بنعيم الجنة ﴿ ويستبشرون ﴾ أي : ويفرحون ﴿ بالذين لم يلحقوا بهم ﴾ من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فلذلك يستبشرون ﴿ من خلفهم ﴾ أي : الذين من خلفهم زماناً أو رتبة وأبدل من الذين ﴿ أن ﴾ أي : بأن ﴿ لا خوف عليهم ﴾ أي : الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ في الآخرة والمعنى : إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة لا يكدّرون بخوف وقوع محذور ولا بحزن فوات محبوب وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة والجدّ في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه ؛ لأنّ الله تعالى مدحهم على ذلك.
﴿ يستبشرن بنعمة من الله وفضل ﴾ لما بين تعالى أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بين هنا أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم لذلك أعاد لفظ الاستبشار.
فإن قيل : أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار فلزم التكرار ؟ أجيب : بأن الاستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم التكرار بأنّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة والفرق بين النعمة والفضل أن النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
فإن قيل : لم قال يستبشرون من غير عطف ؟ أجيب : بأنه تأكيد للأوّل ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلق الاستبشار الأول ﴿ وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾ لما ذكر إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء بين أنّ ذلك ليس مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئاً من الأجر والثواب، فإنّ الله تعالى يوصل ثوابه إليه ولا يضيعه.
وقوله تعالى :
﴿ الذين استجابوا والرسول ﴾ أي : دعاءه مبتدأ ﴿ من بعد ما أصابهم القرح ﴾ بأحد وخبر المبتدأ ﴿ للذين أحسنوا منهم ﴾ بطاعته ﴿ واتقوا ﴾ مخالفته ﴿ أجر عظيم ﴾ هو الجنة.
روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال :( لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد ) وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر.
روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم إنّ المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وذلك لكثرة الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة، فمرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعبد يومئذٍ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أنّ الله قد أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت.
تنبيه : من في الذين أحسنوا منهم للتبيين مثلها في قوله تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ﴾ ( الفتح، ٢٩ ).
لأنّ الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم.
وقوله تعالى :
﴿ الذين ﴾ بدل من الذين قبله أو نعت ﴿ قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم ﴾ أي : الجموع ليستأصلوكم ﴿ فاخشوهم ﴾.
روي أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال صلى الله عليه وسلم :«إن شاء الله » فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مرّ الظهران فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وإنّ هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليه، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحبّ إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يد سهل بن عمرو ويضمنها، فقال له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي ذلك وأنطلق إلى محمد وأثبطه ؟ قال : نعم، فخرج نعيم حتى أتى المدينة، فوجد الناس يجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها، فقال : بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد، فكره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم –( والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ولو لم يخرج معي أحد ) فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يلتفتوا إلى ذلك القول كما قال تعالى :﴿ فزادهم ﴾ ذلك القول ﴿ إيماناً ﴾ أي : تصديقاً بالله ويقيناً ﴿ وقالوا حسبنا الله ﴾ أي : كافينا أمرهم ﴿ ونعم الوكيل ﴾ أي : المفوّض إليه الأمر هو حتى وافوا بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم يريدون أن يرهبوا المسلمين فيقول المسلمون : حسبنا الله ونعم الوكيل وهذه هي الكلمة التي قالها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حين ألقي في النار، حتى بلغوا بدراً وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات فباعوها واشتروا أدماً وزبيباً وأصابوا الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.
كما قال تعالى :
أي : انصرفوا ﴿ بنعمة من الله ﴾ أي : بعافية لم يلقوا عدوّاً ﴿ وفضل ﴾ أي : تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق ﴿ لم يمسسهم سوء ﴾ أي : لم يصبهم أذى ولا مكروه، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق.
تنبيه : الناس الأول المثبطون والآخرون أبو سفيان وأصحابه.
فإن قيل : المثبط هو أبو نعيم فكيف قيل : الناس ؟ أجيب : بأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس البرد وما له إلا فرس واحد، وبرد واحد ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يثبطون مثل تثبيطه بل قيل : إنهم كانوا جماعة فقد مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم.
فإن قيل : كيف زادهم القول إيماناً ؟ أجيب : بأنهم لما سمعوا ذلك وأخلصلوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم كما يزداد الإيمان والإيقان بتناصر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط إلى وجه العدو طاعة عظيمة والطاعات تزيد الإيمان فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا : يا رسول الله إنّ الإيمان يزيد وينقص قال :( نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار ). وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزدد إيماناً، وعنه رضي الله تعالى عنه :( لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه بإيمان هذه الأمّة لرجح به ) ﴿ واتبعوا رضوان الله ﴾ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم ﴿ والله ذو فضل عظيم ﴾ قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدوّ بالحفظ على كل من يسوءهم وإصابة النفع من ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل وفيه تحسر المتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
﴿ إنما ذلكم ﴾ أي : المثبط أو أبو سفيان ﴿ الشيطان يخوّف أولياءه ﴾ أي : القاعدين عن الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو يخوّفكم أولياءه وهم أبو سفيان وأصحابه، ويدلّ على ذلك قوله تعالى :﴿ فلا تخافوهم وخافون ﴾ في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ حقاً فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً.
﴿ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ﴾ أي : يقعون فيه وقوعاً سريعاً حرصاً عليه، وهم المنافقون من المتخلفين أو قوم ارتدوا عن الإسلام أي : لا تهتم لكفرهم ﴿ إنهم لن يضرّوا الله شيئاً ﴾ بفعلهم وإنما يضرّون به أنفسهم، وقرأ نافع يحزنك بضمّ الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله تعالى في الأنبياء ﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر ﴾ ( الأنبياء، ١٠٣ ) فإنه على فتح الياء وضمّ الزاي فيه والباقون كذلك في الكل من حزنه لغة في أحزنه ﴿ يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً ﴾ أي : نصيباً ﴿ في الآخرة ﴾ أي : الجنة فلذلك خذلهم وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر ﴿ ولهم ﴾ مع حرمان الثواب ﴿ عذاب عظيم ﴾ في النار.
﴿ إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان ﴾ أي : أخذوه بدله ﴿ لن يضروا الله ﴾ بكفرهم ﴿ شيئاً ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم وكرّر ذلك للتأكيد أو هو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين أو ارتدوا من الأحزاب.
ونزل في مشركي مكة كما قاله مقاتل أو في قريظة أو النضير كما قاله عطاء :
﴿ ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي ﴾ أي : نمهل ﴿ لهم ﴾ بتطويل الأعمار ﴿ خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ﴾ بكثرة المعاصي ﴿ ولهم عذاب مهين ﴾ أي : ذو إهانة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الناس خير ؟ قال :( من طال عمره وحسن عمله ) قيل : فأيّ الناس شرّ ؟ قال :( من طال عمره وساء عمله ) وقرأ حمزة :﴿ ولا تحسبنّ الذين كفروا ﴾ و﴿ لا تحسبنّ الذين يبخلون ﴾ بالتاء فيهما على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة.
﴿ ما كان الله ليذر ﴾ أي : ليترك ﴿ المؤمنين على ما أنتم عليه ﴾ أيها الناس من اختلاط المسلم بغيره ﴿ حتى يميز ﴾ أي : يفصل ﴿ الخبيث ﴾ أي : المنافق ﴿ من الطيب ﴾، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبيّ : قالت قريش : يا محمد تزعم أنّ من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأنّ من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن ؟ فنزلت وقال السديّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عرضت عليّ أمّتي في صورتها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن ومن يكفر ) فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعده ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال :( ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا نبأتكم به ) فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي يا رسول الله ؟ قال :«حذافة » فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبياً فاعف عنا عفا الله تعالى عنك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «فهل أنتم منتهون ؟ » ثم نزل عن المنبر فنزلت.
فإن قيل : لمن الخطاب في أنتم ؟ أجيب : بأنه للمصدّقين جميعاً من أهل النفاق والإخلاص كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فيختبر بها بواطنكم ويستدلّ بها على عقائدكم ففعل ذلك يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ حمزة والكسائي يميز بضم الياء وفتح الميم وتشديد الياء بعد الميم مع كسرها، والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء بعد الميم ﴿ وما كان الله ليطلعكم على الغيب ﴾ فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز ﴿ ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء ﴾ فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها ﴿ فآمنوا بالله ورسله ﴾ أي : بصفة الإخلاص أو بأن تعلموا أنّ الله وحده مطلع على الغيب وتعلموا أنهم عباد مجتبون لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم.
روي أنّ الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت الآية ﴿ وإن تؤمنوا ﴾ حق الإيمان ﴿ وتتقوا ﴾ النفاق ﴿ فلكم أجر عظيم ﴾ أي : لا يقادر قدره.
﴿ ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو ﴾ أي : بخلهم ﴿ خيراً لهم بل هو ﴾ أي : بخلهم ﴿ شرّ لهم ﴾ لاستجلاب العقاب إليهم، واختلفوا في المراد بهذا البخل، فقال أكثر العلماء : المراد به منع الواجب واستدلوا بوجوه : أحدها : أنّ الآية دالة على الوعيد الشديد وذلك لا يليق إلا بالواجب وثانيها : أنّ الله تعالى ذمّ البخل، والتطوّع لا يذمّ على تركه وثالثها : قال عليه الصلاة والسلام :«وأي داء أدوأ من البخل »، وتارك التطوّع لا يليق به هذا الوصف وإنفاق الواجب على أقسام منها : إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين تلزمه مؤنتهم ومنها : الزكوات ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدوّ يقصد أنفسهم وأموالهم فيجب عليهم إنفاق الأموال على من يدفعهم عنهم ومنها : دفع ما يسدّ رمق المضطرّ.
﴿ سيطوّقون ﴾ أي : سوف يطوّقون ﴿ ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ اختلفوا في هذا الوعيد، فقال ابن عباس وابن مسعود : يجعل ما منعه من الزكاة حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه وتنقر رأسه تقول : أنا مالك. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا :﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون ﴾ الآية )، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده أو الذي لا إله غيره أو كما حلف ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس ) وقال مجاهد : معنى سيطوّقون سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة أي : يؤمرون بأداء ما منعوا فلا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخاً وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته وأراد بالبخل كتمان العلم كما في سورة النساء :﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾ ( النساء، ٣٧ )
ومعنى قوله : على هذا سيطوّقون أي : يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى :﴿ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴾ ( الأنعام، ٣١ ) وقوله تعالى :﴿ ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ في معناه وجهان أحدهما : أنّ له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فهو الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونحوه قوله تعالى :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ ( الحديد، ٧ ) والثاني : وبه قال الأكثرون : إنّ معناه أنه يفنى أهل السماوات والأرض ويفنى الأملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة، قال ابن الأنباري : يقال : ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركاً فيه، وقال تعالى :﴿ وورث سليمان داود ﴾ ( النمل، ١٦ ) لأنه انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركاً له فيه.
﴿ والله بما تعملون ﴾ ( البقرة : ٢٣٤ ) من المنع والإعطاء ﴿ خبير ﴾ فيجازيكم به، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾ قال الحسن ومجاهد لما نزل قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ﴾ ( البقرة، ٢٤٥ )
قالت اليهود : إنّ الله فقير ويستقرض منا ونحن أغنياء، وذكر الحسن : أنّ قائل هذه المقالة حييّ بن أخطب، وقال عكرمة والسديّ ومقاتل ومحمد بن إسحق :( كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصدّيق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد أناساً كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فآمن وصدّق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أنّ ربنا يستقرض من أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقاً فإنّ الله إذن لفقير ونحن أغنياء وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنياً ما أعطانا الربا يعني في قوله :﴿ فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ) ( البقرة : ٢٤٥ ) فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :( ما حملك على ما صنعت ؟ ) فقال : يا رسول الله إنّ عدوّ الله قال قولاً عظيماً زعم أنّ الله فقير وهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله عز وجل ردّاً على فنحاص وتصديقاً لأبي بكر رضي الله تعالى عنه :{ لقد سمع الله ﴾ الآية.
وهذا لا يدل على أنّ غيره لم يقل ذلك ؛ لأنّ الآية دالة على أنّ القائل جماعة لقوله تعالى : الذين قالوا :﴿ سنكتب ﴾ أي نأمر بكتب ﴿ ما قالوا ﴾ من الإفك والفرية في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه ونحوه وإنا له كاتبون أو سنحفظه في علمنا لا نهمله ؛ لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله واستهزاء بالله والرسول ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء كما قال تعالى :﴿ وقتلهم ﴾ أي : وسنكتب قتلهم ﴿ الأنبياء بغير حق ﴾ وفي نظمه به تنبيه على أنه ليس أوّل جريمة ارتكبوها وأنّ من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول ﴿ ويقول ﴾ أي : الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة ﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾ أي : النار وهي بمعنى المحرق كما يقال عذاب أليم أي : مؤلم وقرأ حمزة : سيكتب بالياء المثناة تحت بعد السين مضمومة وفتح التاء بعد الكاف وضمّ اللام من قتلهم وبالياء في ويقول والباقون بالنون بعد السين مفتوحة وضمّ التاء بعد الكاف ونصب اللام من قتلهم وبالنون في ونقول ويقال لهم : إذا ألقوا في النار.
﴿ ذلك ﴾ أي : العذاب ﴿ بما قدّمت أيديكم ﴾ من الافتراء وقتل الأنبياء وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس ؛ لأنّ أكثر أعمالها بهنّ ﴿ وأنّ الله ليس بظلام ﴾ أي : بذي ظلم ﴿ للعبيد ﴾ فيعذبهم بغير ذنب.
فإن قيل : ظلام للمبالغة المقتضية للتكثير فهو أخص من ظالم ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ أجيب : بأنه لما قوبل بالعبيد وهم كثيرون ناسب أن يقابل الكثير بالكثير وبأنه إذا نفي الظلم الكثير ينفى القليل ؛ لأنّ الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه فيمن يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أترك وبأن ظلام للنسب كما قدّرته في الآية الكريمة، كما في بزاز وعطار أي : لا ينسب إليه ظلم البتة.
وقوله تعالى :
﴿ الذين ﴾ نعت للذين قبله ﴿ قالوا ﴾ لمحمد صلى الله عليه وسلم : تزعم أنّ الله بعثك بالحق رسولاً وأنزل عليك كتاباً وأن نؤمن بك أي : وقالوا ﴿ إنّ الله ﴾ قد ﴿ عهد إلينا ﴾ أي : أمرنا وأوصانا في كتبه ﴿ أن لا نؤمن لرسول ﴾ أي : لا نصدّق رسولاً أنه قد جاء من عند الله ﴿ حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾ أي : حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل، فيكون دليلاً على صدقه والقربان كل ما يتقرّب به العبد إلى الله من نسيكة وعمل صالح وكانوا إذا قرّبوا قرباناً أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وهفيف فتأكل ذلك القربان وتأكل الغنيمة. ومعنى أكلها أن تحيل ذلك إلى طبعها بالإحراق فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يتقبل بقي على حاله وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم ؛ لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات في ذلك سواء، وقال السديّ : هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط آخر وهو أنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدّقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات ﴾ أي : بالمعجزات ﴿ وبالذي قلتم ﴾ من القربان كزكريا ويحيى فقتلتموهم ﴿ فلم قتلتموهم ﴾ والخطاب لمن في زمن نبينا وإن كان الفعل لأجدادهم لرضاهم به ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أنكم تؤمنون بالرسل عند الإتيان بذلك.
ثم قال الله تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود :
﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات ﴾ أي : المعجزات ﴿ والزبر ﴾ أي : الصحف كصحف إبراهيم ﴿ والكتاب ﴾ أي : التوراة والإنجيل ﴿ المنير ﴾ أي : الواضح فاصبر كما صبروا، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام، وقرأ ابن عامر وبالزبر بالباء الموحدة والباقون بغير باء بعد الواو، وقرأ هشام وبالكتاب بالباء الموحدة بعد الواو والباقون بغير باء.
وقوله تعالى :
﴿ كلّ نفس ذائقة الموت ﴾ زيادة تأكيد في تسليته صلى الله عليه وسلم ومبالغة في إزالة الحزن عن قلبه، فإنّ من علم أن عاقبته إلى الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان.
روي أنّ الله تعالى لما خلق آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يردّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي أخذ منها، ولأنّ بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المحسن من المسيء والمحق من المبطل ويجازى كلّ بما يستحقه كما قال تعالى :﴿ وإنما توفون أجوركم ﴾ أي : جزاء أعمالكم ﴿ يوم القيامة ﴾ إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ ﴿ فمن زحزح ﴾ أي : بعد ﴿ عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ﴾ بالنجاة ونيل المراد والفوز بالظفر بالبغية بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم ﴿ وما الحياة الدنيا ﴾ أي : العيش فيها ﴿ إلا متاع الغرور ﴾ أي : الباطل يتمتع به قليلاً ثم يفنى.
روي أنّ الله تعالى يقول :( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) اقرؤوا إن شئتم ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ ( السجدة، ١٧ ) وإنّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم ﴿ وظل ممدود ﴾ ( الواقعة، ٣٠ ) ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرؤوا إن شئتم ﴿ فمن زحزح عن النار ﴾ الآية ).
وروي :( من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤتي الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه ) أي : يفعل بهم ما يحبّ أن يفعل به.
وقوله تعالى :﴿ لتبلونّ ﴾ جواب قسم محذوف تقديره والله لنبلونّ وحذف منه نون الرفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع وحذفت واو الرفع لالتقاء الساكنين أي : لتختبرنّ ﴿ في أموالكم ﴾ بالفرائض فيها والجوائح ﴿ و ﴾ في ﴿ أنفسكم ﴾ بالعبادات والبلاء والأسر والجراح وغير ذلك ﴿ ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ أي : اليهود والنصارى ﴿ ومن الذين أشركوا ﴾ أي : مشركي العرب ﴿ أذى كثيراً ﴾ وذلك أنهم كانوا يقولون : عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بكل ما يقدرون عليه وهجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفته صلى الله عليه وسلم ويجمعون العساكر لمحاربته ويثبطون المسلمين عن نصرته ﴿ وإن تصبروا ﴾ على ذلك ﴿ وتتقوا ﴾ الله ﴿ فإنّ ذلك من عزم الأمور ﴾ أي : من صواب التدبير والرشد الذي ينبغي لكل عاقل أن يقدم عليه، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن جريج والكلبيّ ومقاتل : نزلت في أبي بكر وفنحاص وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص اليهودي ليستمدّه وكتب إليه كتاباً لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع إليّ فجاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : احتاج ربك إلى أن نمدّه فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف فتذكر أبو بكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وكف عنه، فنزلت وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه في شعره ويتشبب بنساء المسلمين.
تنبيه : في الآية تأويلان : أحدهما : المراد بالمصابرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على الابتلاء في النفس والمال وتحمل الأذى وترك المعارضة والمقاتلة وذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين كقوله تعالى :﴿ فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ﴾ ( طه، ٤٤ ) وقال تعالى :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ ( الجاثية، ١٤ ) وقال تعالى :﴿ وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً ﴾ ( الفرقان، ٧٢ ) وقال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ ( الأحقاف، ٣٥ ) وقال تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ﴾ ( فصلت، ٣٤ )، قال الواحدي : وهذا قبل نزول آية السيف، وقال القفال : والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول عليه الصلاة والسلام من طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة. التأويل الثاني : إنّ المراد الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم، فالصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي : العهد عليهم في التوراة أي : على علمائهم ﴿ ليبيننه ﴾ أي : الكتاب ﴿ للناس ولا يكتمونه ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بالياء في الفعلين على الغيبة ؛ لأنّ أهل الكتاب المخاطبين بذلك غيب، والباقون بالتاء على الخطاب حكاية لمخاطبتهم ﴿ فنبذوه ﴾ أي : طرحوا الميثاق ﴿ وراء ظهورهم ﴾ أي : لم يعملوا به ولم يلتفتوا إليه ونقيض هذا جعله نصب عينيه ﴿ واشتروا به ﴾ أي : أخذوا بدله ﴿ ثمناً قليلاً ﴾ من حطام الدنيا وأعراضها من سفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوتها عليهم وقوله تعالى :﴿ فبئس ما يشترون ﴾ العائد محذوف تقديره يشترونه، قال قتادة رضي الله تعالى عنه :( هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم شيئاً فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة )، وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) وقال أبو الحسن بن عمارة رضي الله تعالى عنه : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدّثني فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت : إمّا أن تحدّثني وإمّا أن أحدّثك فقال : حدّثني فقلت : حدّثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال : سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدّثني أربعين حديثاً.
﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ﴾ أي : فعلوا من إضلال الناس ﴿ ويحبون أن يحمدوا ﴾ بما أوتوا من علم التوراة و﴿ بما لم يفعلوا ﴾ من التمسك بالحق وهم على ضلال وهذا أيضاً من جملة أذاهم، لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البرّ والصدق والتقوى ولا شك أنّ الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها.
روي أنه صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فأطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي : لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب وقيل : هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به، وقيل : هم المنافقون فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد بما ليس فيه وقوله تعالى :﴿ فلا تحسبنهم ﴾ تأكيد ﴿ بمفازة ﴾ أي : مكان ينجون فيه ﴿ من العذاب ﴾ في الآخرة بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم فيها وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بالكسر، ومفعولا تحسب الأولى دل عليهما مفعولا الثانية على قراءة التحتانية وعلى الفوقانية حذف الثاني فقط، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : فلا يحسبنهم بالياء على الغيبة وضم الباء الموحدة والباقون بالتاء على الخطاب وفتح الباء الموحدة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة كما تقدّم.
﴿ و ملك السماوات والأرض ﴾ فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغير ذلك ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
﴿ إنّ في خلق السماوات والأرض ﴾ وما فيهما من العجائب ﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ بالمجيء والذهاب والزيادة والنقصان ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات واضحة على قدرته تعالى : وباهر حكمته ﴿ لأولي الألباب ﴾ لذوي العقول الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر، وفي النصائح الصغار : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكراً في قدرة مقدرها متدبراً حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ( قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها : أخبريني بأعجب ما رأيت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب أتاني ليلة فدخل في لحافي حتى التصق جلده بجلدي ثم قال :( يا عائشة هل لك أن تأذني الليلة في عبادة ربي ؟ ) فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فقال :( يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ ) ثم قال :( وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة ﴿ إنّ في خلق السماوات والأرض ﴾ ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ).
وروي :( ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها )، وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : إنّ في خلق السماوات والأرض، وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت أمه : لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال : ما أذكر ؟ قالت : لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر قال : لعل، قالت : فما أوتيت إلا من ذاك.
وقوله تعالى :
﴿ الذين ﴾ نعت لما قبله أو بدل ﴿ يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾ أي : مضطجعين أي : يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ؛ لأنّ الإنسان قلّ أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث.
وروى الطبرانيّ وغيره : أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب، وعن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال :( يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب ).
تنبيه : قياماً وقعوداً حالان من فاعل يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضاً فيتعلق بمحذوف، والمعنى يذكرون قياماً وقعوداً ومضطجعين فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة عكس الآية الأخرى وهي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً حيث عطف الصريحة على المؤوّلة ﴿ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴾ وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله تعالى ويعرفون أنّ لهما مدبراً حكيماً. قال بعض العلماء : الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث في القلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم :( لا تفضلوني على يونس بن متى ) أي : تفضيلاً يؤدي إلى تنقيصه وإلا فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض. قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب، لأنّ أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض، وقال صلى الله عليه وسلم :( لا عبادة كالتفكر ) أي : لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق لكن الحديث رواه البيهقيّ وغيره وضعفوه وقال صلى الله عليه وسلم :( بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أنّ لك رباً وخالقاً اللهمّ اغفر لي فنظر الله تعالى إليه فغفر له ) رواه الثعلبيّ بسند فيه من لا يعرف قال البيضاوي : وهذا دليل واضح على شرف علم أصول الدين وفضل أهله وقوله تعالى :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً ﴾ على إرادة القول أي : يتفكرون قائلين ذلك، وهذا إشارة إلى الخلق بمعنى المخلوق من السماوات والأرض أو إلى السماوات والأرض ؛ لأنهما في معنى المخلوق والمعنى ما خلقته عبثاً وضائعاً من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك.
تنبيه : نصب باطلاً على الحال من هذا وهي حال لا يستغنى عنها لو حذفت لاختل الكلام وهي كقوله تعالى :﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ﴾ ( الدخان، ٣٨ ) وقيل : على إسقاط حرف الخفض وهو الباء والمعنى ما خلقتهما بباطل بل بحق وقدرة ﴿ سبحانك ﴾ أي : تنزيهاً لك عن العبث وهو معترض بين قوله ﴿ ربنا ﴾ وبين قوله ﴿ فقنا عذاب النار ﴾ أي : للاختلال بالنظر في خلق السماوات والأرض والقيام بما يقتضيه قال أبو البقاء : ودخلت الفاء لمعنى الجزاء والتقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا قال ابن عادل : ولا حاجة إليه بل التسبب فيها ظاهر تسبب عن قولهم ﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ﴾ طلبهم وقاية النار.
﴿ ربنا إنك من تدخل النار ﴾ أي : للخلود فيها ﴿ فقد أخزيته ﴾ أي : أهنته ﴿ وما للظالمين ﴾ أي : للكافرين فيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بتخصيص الخزي بهم ﴿ من أنصار ﴾ أي : أنصار فمن زائدة زيدت لتأكيد النفي.
﴿ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي ﴾ أي : يدعو الناس ﴿ للإيمان ﴾ أي : إليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم ﴿ أن ﴾ أي : بأن ﴿ آمنوا بربكم فآمنا ﴾ به.
فإن قيل : أي فائدة في الجمع بين منادياً وينادي ؟ أجيب : بأنه ذكر المبدأ مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان تفخيماً لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام وذلك أنّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإغاثة المكروب أو نحو ذلك وكذا الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي وغير ذلك، فإذا قلت : ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ﴿ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ﴾ أي : الكبائر منها ﴿ وكفر عنا سيآتنا ﴾ أي : الصغائر منها أو يكون ذلك من باب التعميم والاستيعاب كقوله :﴿ الرحمن الرحيم ﴾ ولأنّ الإلحاح والمبالغة في الدعاء أمر مطلوب ﴿ وتوفنا مع الأبرار ﴾ أي : مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم وهم الأنبياء والصالحون وفيه تنبيه على إنهم يحبون لقاء الله تعالى ( ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه )، رواه الشيخان.
﴿ ربنا وآتنا ﴾ أي : أعطنا ﴿ ما وعدتنا ﴾ به ﴿ على ﴾ ألسنة ﴿ رسلك ﴾ من الرحمة والفضل وسؤالهم ذلك، وإن كان وعده تعالى لا يتخلف سؤال أن يجعلهم من مستحقيه ؛ لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها وتكرير ربنا مبالغة في التضرّع. وفي الآثار : من حزبه أي أصابه أمر فقال : ربنا خمس مرات أنجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد ﴿ ولا تخزنا ﴾ أي : ولا تعذبنا ولا تفضحنا ولا تهنا ﴿ يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ﴾ أي : الموعد بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، وعن ابن عباس : الميعاد البعث بعد الموت.
﴿ فاستجاب لهم ربهم ﴾ دعاءهم وهو أخص من أجاب ؛ لأنه يفيد حصول جميع المطلوب لكثرة مبانيه ؛ لأنّ كثرة المباني تدل على كثرة المعاني ويتعدّى بنفسه وباللام ﴿ أني ﴾ أي : بأني ﴿ لا أضيع عمل عامل منكم ﴾ وقوله تعالى :﴿ من ذكر أو أنثى ﴾ بيان عامل ﴿ بعضهم من بعض ﴾ أي : يجمع ذكركم وأنثاكم أصل واحد فكل واحد منكم من الآخر أي : الذكور من الإناث والإناث من الذكور وقيل : المراد وصلة الإسلام وهذه الجملة وهي بعضكم من بعض معترضة بين عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وما فصل به عمل عامل من قوله :﴿ فالذين هاجروا ﴾ الخ. . بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله تعالى عباده العاملين.
روي أنّ أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت :( يا رسول الله أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت ) وقوله تعالى :﴿ فالذين هاجروا ﴾ أي : من مكة إلى المدينة ﴿ وأخرجوا من ديارهم ﴾ تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله تعالى بدينهم من دار الفتنة واضطروا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشؤوا ﴿ وأوذوا في سبيلي ﴾ أي : ديني ﴿ وقاتلوا ﴾ الكفار ﴿ وقتلوا ﴾ في الجهاد، وقرأ حمزة والكسائي بتقديم قتلوا وتأخير قاتلوا وشدد ابن كثير وابن عامر التاء من قتلوا للتكثير ﴿ لأكفرن عنهم سيئاتهم ﴾ أي : أسترها بالمغفرة ﴿ ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً ﴾ أي : أثيبهم بذلك إثابة ﴿ من عند الله ﴾ أي : تفضلاً منه تعالى فهو مصدر مؤكد لما قبله ؛ لأنّ قوله تعالى :﴿ لأكفّرن عنهم ولأدخلنهم ﴾ في معنى لأثيبنهم ﴿ والله عنده حسن الثواب ﴾ أي : الجزاء.
ولما كان المشركون في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون، وقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد نزل.
﴿ لا يغرنك تقلب ﴾ أي : تصرف ﴿ الذين كفروا في البلاد ﴾ للتجارات وأنواع المكاسب والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره.
وقوله تعالى :
﴿ متاع قليل ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك التقلب متاع قليل يتمتعون به في الدنيا يسيراً ويغني فهو قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب قال صلى الله عليه وسلم :( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) رواه مسلم، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال :( جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال :«ما يبكيك ؟ » فقلت : يا رسول الله إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال :«أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ » ﴿ ثم مأواهم ﴾ أي : مصيرهم ﴿ جهنم وبئس المهاد ﴾ أي : الفراش هي.
﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين ﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿ فيها نزلاً من عند الله ﴾ وهو ما يعد للضيف ونصبه على الحال من جنات لتخصيصها بالوصف والعامل فيها معنى الظرف ﴿ وما ﴾ أي : والذي ﴿ عند الله ﴾ من الثواب لكثرته ودوامه ﴿ خير للأبرار ﴾ مما يتقلب فيه الكفار من متاع الدنيا لقلته وسرعة زواله.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ﴾ فقال جابر وابن عباس وأنس : نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه الصلاة والسلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :( اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ) فقالوا : ومن هو ؟ قال :«النجاشي » فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبّر عليه أربع تكبيرات واستغفر له، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصرانيّ لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية )، وقال عطاء : نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب ﴿ وما أنزل إليكم ﴾ أي : القرآن ﴿ وما أنزل إليهم ﴾ أي : التوراة والإنجيل وقوله تعالى :﴿ خاشعين ﴾ حال من ضمير يؤمن مراعى فيه معنى من لأنها في معنى الجمع أي : متواضعين ﴿ لا يشترون ﴾ أي : لا يستبدلون ﴿ بآيات الله ﴾ التي عندهم في التوراة والإنجيل من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ثمناً قليلاً ﴾ من الدنيا بأن يكتموها خوفاً على الرياسة كما فعل غيرهم من اليهود ﴿ أولئك لهم أجرهم ﴾ أي : ثواب أعمالهم ﴿ عند ربهم ﴾ وهو ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله تعالى :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ﴾ وقوله تعالى :﴿ يؤتكم كفلين من رحمته ﴾ ﴿ إن الله سريع الحساب ﴾ لنفوذ علمه في كل شيء فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر بحساب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا ﴾ على مشاق الطاعة وما يصيبكم من الشدائد وعن المعاصي ﴿ وصابروا ﴾ أي : غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب فلا يكونوا أشد صبراً منكم ﴿ ورابطوا ﴾ أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو قال الله تعالى :﴿ ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم ﴾ ( الأنفال، ٦٠ ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة ) ﴿ واتقوا الله ﴾ في جميع أحوالكم ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : تفوزون بالجنة وتنجون من النار وقال بعض العلماء : اصبروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا له الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء.
Icon