تفسير سورة آل عمران

فتح القدير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير المعروف بـفتح القدير .
لمؤلفه الشوكاني . المتوفي سنة 1250 هـ
سورة آل عمران
هي مدنية، قال القرطبي بالإجماع، ومما يدل على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزل في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة.
وقد أخرج البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة آل عمران بالمدينة. وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما هو مشترك بينها وبين هذه السورة من الأحاديث الدالة على فضلهما، وكذلك تقدم ما ورد في السبع الطوال. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس ". وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن عمر بن الخطاب قال : من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء. وأخرج الديلمي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : من قرأ آل عمران فهو غني. وأخرج الدارمي وعبد بن حميد والبيهقي عنه قال : نعم كنز الصعلوك آل عمران يقوم بها الرجل من آخر الليل. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عاطف قال : اسم آل عمران في التوراة طيبة. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير قال : قرأ رجل البقرة وآل عمران، فقال كعب : قد قرأ السورتين إن فيهما الاسم الذي إذا دعي به أجاب.

سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
هِيَ مَدَنِيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ صَدْرَهَا إِلَى ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ آيَةً نَزَلَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَ قُدُومُهُمْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِهِمَا، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ». وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحُكَمَاءِ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: نِعْمَ كَنْزُ الصُّعْلُوكِ آلُ عِمْرَانَ، يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عطاف قَالَ: اسْمُ آلِ عِمْرَانَ فِي التَّوْرَاةِ طَيْبَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ قَرَأَ السُّورَتَيْنِ إِنَّ فِيهِمَا الِاسْمَ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
قَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الرُّوَاسِيُّ: الم اللَّهُ بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى الم كَمَا يُقَدِّرُونَ الْوَقْفَ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ نَحْوَ وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ مَعَ وَصْلِهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ الم اللَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، وَلَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِثِقَلِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي الْكِتَابِ: أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُوَازَنَةً لِمُفْرَدٍ طَرِيقُ التَّلَفُّظِ بِهَا الْحِكَايَةُ فَقَطْ سَاكِنَةُ الْأَعْجَازِ عَلَى الْوَقْفِ، سَوَاءً جُعِلَتَ أَسْمَاءً أَوْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ وَإِنْ لَزِمَهَا الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ لِمَا أَنَّهُ مُغْتَفَرٌ فِي بَابِ الْوَقْفِ، فَحَقُّ هَذِهِ الْفَاتِحَةِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُبْدَأُ بِمَا بَعْدَهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ وَمَنْ مَعَهُ فِي قِرَاءَتِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ سَابِقًا. وَأَمَّا فَتْحُ الْمِيمِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْمِيمَ فُتِحَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: حُرُوفُ التَّهَجِّي إِذَا لَقِيَتْهَا أَلِفُ وَصْلٍ، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ وَحُرِّكَتِ
357
الْمِيمُ بِحَرَكَةِ الْأَلِفِ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَهَذِهِ الْفَوَاتِحُ إِنْ جُعِلَتْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنْ جُعِلَتْ أَسْمَاءً لِلسُّورَةِ فَمَحَلُّهَا إِمَّا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَآتٍ مُقَدَّرَةٍ قَبْلَهَا، أَوِ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أَفْعَالٍ يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ كَاذْكُرْ، أَوِ اقْرَأْ، أَوْ نَحْوِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُبُودِيَّةِ. وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ:
خَبَرَانِ آخَرَانِ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَوْ خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، أَوْ بَدَلَانِ مِنْهُ، أَوْ مِنَ الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَيِّ وَالْقَيُّومِ. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: الْقَيَّامُ عُمَرُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. قَوْلُهُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أَيِ: الْقُرْآنَ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ: إِمَّا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ أَيْ:
بِالصِّدْقِ، وقيل: بالحجة الغالبة البالغة، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً حَالٌ آخَرُ مِنَ الْكِتَابِ مُؤَكَّدَةً، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُصَدِّقًا، فَلَا تَكُونُ الْحَالُ مُنْتَقِلَةً أَصْلًا، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الِانْتِقَالَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مُصَدِّقًا، وَاللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ. قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا أَنْزَلَ وَفِيمَا تَقَدَّمَ نَزَّلَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا، وَالْكِتَابَانِ نَزَلَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابَيْنِ مَنْ أُنْزِلَا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْكِتَابَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا لَيْسَ إِلَّا إِلَى ذِكْرِ الْكِتَابَيْنِ لَا ذِكْرِ مَنْ نَزَلَا عَلَيْهِ. وقوله: مِنْ قَبْلُ أَيْ: أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ إِمَّا: حَالٌ مِنَ الْكِتَابَيْنِ، أَوْ عِلَّةٌ لِلْإِنْزَالِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ:
أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الشَّرَائِعِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ فِي الْبَقَرَةِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَيِ: الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ مَعَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذَا الذِّكْرُ الْآخَرُ مِنَ الْوَصْفِ لَهُ بِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَكَرَ التَّنْزِيلَ أَوَّلًا وَالْإِنْزَالَ ثَانِيًا لِكَوْنِهِ جَامِعًا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ مِنْهَا إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْفُرْقَانِ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رُسُلِهِ وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّبُورَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أَيْ:
بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ آيَةٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ بِمَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْمَذْكُورَةِ، عَلَى وَضْعِ آيَاتِ اللَّهِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَيْهَا، وَفِيهِ بَيَانُ الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْكُفْرَ لَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الْكُفْرِ عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ: عَظِيمٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ ذُو انْتِقامٍ عَظِيمٍ، وَالنِّقْمَةُ: السَّطْوَةُ، يُقَالُ انْتَقَمَ مِنْهُ:
إِذَا عَاقَبَهُ بِسَبَبِ ذَنْبٍ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ. قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ سَعَةِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْ مَعْلُومَاتِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَعَ كَوْنِهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ: لِقُصُورِ عِبَادِهِ عَنِ الْعِلْمِ بِمَا سِوَاهُمَا مِنْ أَمْكِنَةِ مَخْلُوقَاتِهِ وَسَائِرِ مَعْلُومَاتِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ: إِيمَانُ مَنْ آمَنَ مِنْ خَلْقِهِ وَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ. قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ
358
أَصْلُ اشْتِقَاقِ الصُّورَةِ مِنْ: صَارَهُ إِلَى كَذَا، أي: أماله إليه، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة، وأصل الرحم من: الرحمة لأنه مما يتراحم به، وهذه الجملة مستأنفة، مشتملة عَلَى بَيَانِ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوُجُودِ، وَهُوَ: تَصْوِيرُ عِبَادِهِ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ نُطَفِ آبَائِهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، مِنْ حَسَنٍ، وَقَبِيحٍ، وَأَسْوَدَ، وَأَبْيَضَ، وَطَوِيلٍ، وَقَصِيرٍ. وَكَيْفَ: مَعْمُولُ يَشَاءُ، وَالْجُمْلَةُ: حَالِيَّةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ أبو حارثة ابن عَلْقَمَةَ، وَالْعَاقِبُ، وَعَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ، وَهُوَ: الْأَيْهَمُ، ثُمَّ ذَكَرُوا الْقِصَّةَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ، فَذَكَرَ وَفْدَ نَجْرَانَ وَمُخَاصَمَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ: الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ هُوَ الْقُرْآنُ، فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَأَحَلَّ فِيهِ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامَهُ، وَشَرَعَ فِيهِ شَرَائِعَهُ، وَحَدَّ فِيهِ حُدُودَهُ، وَفَرَضَ فِيهِ فَرَائِضَهُ، وَبَيَّنَ فِيهِ بَيَانَهُ، وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَيِ: الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْزَابُ مِنْ أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِمَّنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فِيهَا. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أَيْ: قَدْ عَلِمَ مَا يُرِيدُونَ وَمَا يَكِيدُونَ وَمَا يُضَاهُونَ بِقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى إِذْ جَعَلُوهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَعِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ غَيْرُ ذَلِكَ غِرَّةً بِاللَّهِ وَكُفْرًا بِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَدْ كَانَ عِيسَى مِمَّنْ صُوِّرَ فِي الْأَرْحَامِ، لَا يَدْفَعُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ كَمَا صُوِّرَ غَيْرُهُ مَنْ بَنِي آدَمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا وَقَدْ كَانَ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: ذُكُورًا وَإِنَاثًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الْأَرْحَامِ طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا بَلَغَ أَنْ يُخْلَقَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يُصَوِّرُهَا، فَيَأْتِي الْمَلَكُ بِتُرَابٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَيَخْلِطُ مِنْهُ الْمُضْغَةَ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِهَا ثُمَّ يُصَوِّرُ كَمَا يُؤْمَرُ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَمَا رِزْقُهُ، وَمَا عُمُرُهُ، وَمَا أَثَرُهُ، وَمَا مَصَائِبُهُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْجَسَدُ دُفِنَ حَيْثُ أُخِذَ ذَلِكَ التُّرَابُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: مِنْ ذَكَرٍ وأنثى، وَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَتَامِّ الْخَلْقِ وَغَيْرِ تَامِّ الْخَلْقِ.
359

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧ الى ٩]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
الْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ وَهُوَ «عَلَيْكَ» لِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ. وَقَوْلُهُ:
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ الْمُوَافِقُ لِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَالْأَوْلَى بِالْمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ مِنَ الْكِتَابِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْقِسَامُ الْكِتَابِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، لَا مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْكِتَابِ، وَالْجُمْلَةُ:
حَالِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: مَا عُرِفَ تَأْوِيلُهُ، وَفُهِمَ مَعْنَاهُ، وَتَفْسِيرُهُ. وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالُوا: وَذَلِكَ نَحْوُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، فَإِذَا رُدَّتْ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَأُبْطِلَ الْبَاقِي صَارَ الْمُتَشَابِهُ مُحْكَمًا وَقِيلَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: نَاسِخُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحَلَالُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَنَعْمَلُ عَلَيْهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَنْسُوخُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه: ما فيه تصريف، وتحريف، وَتَأْوِيلٌ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يرجع فيه إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا قَالَهُ النَّحَّاسُ يُبَيِّنُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ الجاري على وضع اللسان، ذلك أَنَّ الْمُحْكَمَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْكَمَ، وَالْإِحْكَامُ، الْإِتْقَانُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَاتِ كَلِمَاتِهِ وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهَا، وَمَتَى اخْتَلَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَاءَ التَّشَابُهُ وَالْإِشْكَالُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: لِلْمُتَشَابِهِ وُجُوهٌ، مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَيُّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتِ الْأُخْرَى؟ كَمَا فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ آيَةَ وَضْعِ الْحَمْلِ نَسَخَتْ آيَةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرِ، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار، وتعارض الْأَقْيِسَةِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: هُوَ الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الدَّلَالَةِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَا يَتَّضِحُ مَعْنَاهُ، أَوْ لَا تَظْهَرُ دَلَالَتُهُ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ أهل كل قوم عَرَّفُوا الْمُحْكَمَ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ، وَعَرَّفُوا
360
الْمُتَشَابِهَ بِمَا يُقَابِلُهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَعَلُوا الْمُحْكَمَ مَا وُجِدَ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ أَوْسَعُ دَائِرَةً مِمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْخَفَاءِ، أَوْ عَدَمَ الظُّهُورِ، أَوِ الِاحْتِمَالَ، أَوِ التَّرَدُّدَ يوجب التشابه وأهل القول الثاني: خضوا الْمُحْكَمَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَالْمُتَشَابِهُ بِمَا فِيهِ احْتِمَالٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بَعْضُ أَوْصَافِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، لَا كُلُّهَا وَهَكَذَا أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ:
فَإِنَّهُمْ خَصُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَأَهْلُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ: خَصُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ مِمَّا قَالُوهُ جَمِيعًا وَأَهْلُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ:
خَصُّوا الْمُحْكَمَ بِوَصْفِ عَدَمِ التَّصْرِيفِ وَالتَّحْرِيفِ، وَجَعَلُوا الْمُتَشَابِهَ مُقَابِلَهُ، وَأَهْمَلُوا مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذلك مما لا سبيل إلى علمه مِنْ دُونِ تَصْرِيفٍ وَتَحْرِيفٍ كَفَوَاتِحِ السُّوَرِ الْمُقَطَّعَةِ، وَأَهْلُ الْقَوْلِ السَّادِسِ: خَصُّوا الْمُحْكَمَ:
بِمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: بِمَا لَا يَقُومُ بِهَا، وَأَنَّ هَذَا هُوَ بَعْضُ أَوْصَافِهِمَا، وَصَاحِبُ الْقَوْلِ السَّابِعِ وَهُوَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ، عَمَدَ إِلَى صُورَةِ الْوِفَاقِ فَجَعَلَهَا مُحْكَمًا، وَإِلَى صُورَةِ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ فَجَعَلَهَا مُتَشَابِهًا، فَأَهْمَلَ مَا هُوَ أَخَصُّ أَوْصَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ كَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ مَفْهُومَ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرَ مَفْهُومٍ. قَوْلُهُ: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أَيْ: أَصْلُهُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَآيَاتٌ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وَهِيَ جَمْعُ أُخْرَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ عُدِلَ بِهَا عَنِ الْآخَرِ، لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ وَاحِدَهَا لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَمْ تَنْصَرِفْ لِأَنَّهَا صِفَةٌ، وَأَنْكَرَهُ أَيْضًا الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُخَرُ: مَعْدُولَةً عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُولَةً عَنْهَا لَكَانَ مَعْرِفَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ سَحَرَ مَعْرِفَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ لَمَّا كَانَتْ مَعْدُولَةً. قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الزَّيْغُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَيُقَالُ: زَاغَ يَزِيغُ زَيْغًا، إِذَا تَرَكَ الْقَصْدَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «١» وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْحَقِّ. وَسَبَبُ النُّزُولِ:
نَصَارَى نَجْرَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي. قَوْلُهُ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ أَيْ: يَتَعَلَّقُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْكِتَابِ، فَيُشَكِّكُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُونَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمَائِلَةِ عَنِ الْحَقِّ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّهُمْ يَتَلَاعَبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَلَاعُبًا شَدِيدًا، وَيُورِدُونَ مِنْهُ لِتَنْفِيقِ جَهْلِهِمْ مَا لَيْسَ مِنَ الدَّلَالَةِ فِي شَيْءٍ. قَوْلُهُ: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أَيْ: طلبا منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبيس عليهم وإفساد ذات بينهم وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أَيْ: طَلَبًا لِتَأْوِيلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ وَيُوَافِقُ مَذَاهِبَهُمُ الْفَاسِدَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَعْنَى ابْتِغَائِهِمْ تَأْوِيلَهُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ وَوَقْتَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ «٢» أَيْ: يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ والنشور والعذاب يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أَيْ: تَرَكُوهُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ «٣» أَيْ:
قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيلَ مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُلُ. قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ التَّأْوِيلُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِمْ:
تَأْوِيلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى كَذَا، أَيْ: تَفْسِيرُهَا، وَيَكُونُ بِمَعْنَى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من: آل الأمر
(١). الصف: ٥.
(٢). الأعراف: ٥٣.
(٣). الأعراف: ٥٣.
361
إلى كذا، يؤول إِلَيْهِ، أَيْ: صَارَ، وَأَوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا، أَيْ: صَيَّرْتُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ لِابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ، وَالْحَالُ أَنَّ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هَلْ هُوَ كَلَامٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ؟ فتكون الواو للجمع، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَأَبِي نُهَيْكٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالْأَخْفَشِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ نَسَّقَ الرَّاسِخِينَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ، قَالَ:
وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ: آمَنَّا بِهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ يَقُولُونَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضْمِرُ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولَ مَعًا، وَلَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ لَمْ يَكُنْ حَالًا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، يَعْنِي أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُصْلِحُ حَالًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَنْشَدَنِيهِ أَبُو عَمْرٍو. قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ:
أَرْسَلْتُ فِيهَا رَجُلًا «١» لُكَالِكَا... يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا
فَكَانَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مَعَ مُسَاعَدَةِ مَذَاهِبِ النَّحْوِيِّينَ لَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَحْدَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَيْئًا عَنِ الخلق ويثبته لِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «٢»، وقوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «٣»، وقوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «٤» فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ به لا يشركه فيه غيره، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فَائِدَةٌ. انْتَهَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِدٍ غَيْرُهُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ به يقولون آمنا به. وقاله الرَّبِيعُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بن محمد، وغيرهم.
ويَقُولُونَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الراسخون كما قال:
الرّيح تبكي شجوها... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ
وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَالْبَرْقُ: مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ: يَلْمَعُ، عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيحِ، وَيَلْمَعُ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، أَيْ:
لَامِعًا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي وَجْهِ امْتِنَاعِ كَوْنِ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا: من
(١). في اللسان وشرح القاموس «قطما» وهو الغضبان، والفحل الصئول. و «اللّكالك» الجمل الضخم المرمي باللحم.
(٢). النمل: ٦٥.
(٣). الأعراف: ١٨٧.
(٤). القصص: ٨٨.
362
أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ هُنَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْفِعْلُ مَذْكُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَكِنَّهُ جَاءَ الْحَالُ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «١» إلى قوله:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «٢» الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «٣» أَيْ: وَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا، وَلَكِنْ هَاهُنَا مَانِعٌ آخَرُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ حَالًا، وَهُوَ: أَنَّ تَقْيِيدَ عِلْمِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ بِحَالِ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْعَطْفِ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ يَعْلَمُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ، فَاقْتَضَى هَذَا أن جعل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا، غير صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبْتَدَأً، خَبَرُهُ:
يَقُولُونَ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْعَطْفِ: أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، فَكَيْفَ يَمْدَحُهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِطَلَبِ عِلْمِ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلًا هُوَ مِنْ رُسُوخِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ هُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا مِنْ رُسُوخٍ. وَأَصْلُ الرُّسُوخِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الثُّبُوتُ فِي الشَّيْءِ، وَكُلُّ ثَابِتٍ رَاسِخٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَجْرَامِ: أَنْ تَرْسَخَ الْخَيْلُ، أَوِ الشَّجَرُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تُغَيَّرَا
فَهَؤُلَاءِ ثَبَتُوا فِي امْتِثَالِ مَا جَاءَهُمْ عَنِ اللَّهِ مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، وَإِرْجَاعِ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فَقَالَ: التَّأْوِيلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: التأويل بمعنى:
حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ «٤»، وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ»
أَيْ: حَقِيقَةُ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَكُنْهَهَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ، ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خَبَرُهُ. وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الشيء كقوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أَيْ: بِتَفْسِيرِهِ، فَالْوَقْفُ عَلَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالًا مِنْهُمْ، وَرَجَّحَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ رَجَّحُوا ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ:
وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ: رَاسِخِينَ، تَقْضِي بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ، لَكِنَّ الْمُتَشَابِهَ يَتَنَوَّعُ فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ أَلْبَتَّةَ، كَأَمْرِ الرَّوْحِ وَالسَّاعَةِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمَهُ أَحَدٌ فَمَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ. وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ في
(١). الحشر: ٨.
(٢). الحشر: ١٠.
(٣). الفجر: ٢٢. [.....]
(٤). يوسف: ١٠٠.
(٥). الأعراف: ٥٣.
363
اللُّغَةِ، فَيُتَأَوَّلُ وَيُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَيُزَالُ مَا فِيهِ مِنْ تَأْوِيلٍ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاضْطِرَابَ الْوَاقِعَ فِي مَقَالَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْظَمُ أَسْبَابِهِ اخْتِلَافُ أَقْوَالِهِمْ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا لَكَ مَا هُوَ الصَّوَابُ فِي تَحْقِيقِهِمَا، وَنَزِيدُكَ هَاهُنَا إِيضَاحًا وَبَيَانًا، فَنَقُولُ: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فَوَاتِحَ السُّوَرِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَّضِحَةِ الْمَعْنَى، وَلَا ظَاهِرَةِ الدَّلَالَةِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْفُسِهَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ يَعْلَمُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَيَعْرِفُ عُرْفَ الشَّرْعَ مَا مَعْنَى الم، المر، حم، طس، طسم وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بَيَانَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الشَّرْعِ، فَهِيَ غَيْرُ مُتَّضِحَةِ الْمَعْنَى، لَا بِاعْتِبَارِهَا نَفْسِهَا، وَلَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ لُغَةِ الْعَجَمِ، وَالْأَلْفَاظُ الْغَرِيبَةُ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا يُوَضِّحُهَا، وَهَكَذَا مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالرُّوحِ وَمَا فِي قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «١» إلى الآخر الْآيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَكَذَا مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، كَوُرُودِ الشَّيْءِ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ احْتِمَالًا لَا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ كَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادُ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ، وَكَذَلِكَ وُرُودُ دَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ تَعَارُضًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يُرَجِّحُهُ. وَأَمَّا مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، أَوْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي وَرَدَ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، أَوِ الْأُمُورِ الَّتِي تَعَارَضَتْ دَلَالَتُهَا، ثُمَّ وَرَدَ مَا يُبَيِّنُ رَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ سَائِرِ الْمُرَجِّحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ الْمَقْبُولَةِ، عِنْدَ أَهْلِ الْإِنْصَافِ، فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ مِنَ الْمُحْكَمِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ فَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الصَّوَابُ، فَاشْدُدْ يَدَيْكَ عَلَى هَذَا فَإِنَّكَ تَنْجُو بِهِ مِنْ مَضَايِقَ وَمَزَالِقَ وَقَعَتْ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، حَتَّى صَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ تُسَمِّي مَا دَلَّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ: مُحْكَمًا وَمَا دَلَّ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مَنْ يُخَالِفُهَا: مُتَشَابِهًا: سِيَّمَا أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَعَلَيْهِ بِمُؤَلَّفَاتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُهُ مُحْكَمٌ، وَلَكِنْ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «٢» وقوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ «٣» وَالْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ صَحِيحُ الْأَلْفَاظِ، قَوِيمُ الْمَعَانِي، فَائِقٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْفَصَاحَةِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ. وَوَرَدَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُهُ مُتَشَابِهٌ لَكِنْ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً «٤» والمراد بالتشابه بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الصِّحَّةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَالْحُسْنِ، وَالْبَلَاغَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِوُرُودِ الْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ فَوَائِدَ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ مَزِيدُ صُعُوبَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ لِلْمُسْتَخْرِجِينَ لِلْحَقِّ وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا وُجُوهًا هَذَا أَحْسَنُهَا، وَبَقِيَّتُهَا لَا تَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ هَاهُنَا.
قَوْلُهُ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فِيهِ ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ عَائِدٌ عَلَى قِسْمَيِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، أَيْ: كُلُّهُ، أو المحذوف
(١). لقمان: ٣٤.
(٢). هود: ١.
(٣). يونس: ١.
(٤). الزمر: ٢٣.
364
غَيْرُ ضَمِيرٍ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْمَقُولِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أَيِ: الْعُقُولُ الْخَالِصَةُ، وَهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، الْوَاقِفُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، الْعَالِمُونَ بِمُحْكَمِهِ، الْعَامِلُونَ بِمَا أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُزِغْ إِلَخْ، مِنْ تَمَامِ مَا يَقُولُهُ الرَّاسِخُونَ، أَيْ: يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَيَقُولُونَ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سَأَلُوا أَلَّا يَزِيغُوا فَتَزِيغَ قُلُوبُهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «١» كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالُوا: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إِلَى الْحَقِّ، بِمَا أَذِنْتَ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِالْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، وَالظَّرْفُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: بَعْدَ مُنْتَصِبٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُزِغْ. قَوْلُهُ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أَيْ: كَائِنَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَمِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَلَدُنْ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخَرُ، هَذِهِ أَفْصَحُهَا، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الزَّمَانِ، وَتَنْكِيرُ: رَحْمَةً، لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: رَحْمَةً عَظِيمَةً وَاسِعَةً. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للسؤال، أو لإعطاء المسؤول. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ أَيْ: بَاعِثُهُمْ وَمُحْيِيهِمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ لِيَوْمٍ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: لِحِسَابِ يَوْمٍ، أَوْ لِجَزَاءِ يَوْمٍ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ: فِي وُقُوعِهِ، وَوُقُوعِ مَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّيْبِ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لِلتَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ شَأْنُ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَخُلْفُهُ يُخَالِفُ الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا أَنَّهَا تُنَافِيهِ، وَتُبَايِنُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ: نَاسِخُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحُدُودُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَنَعْمَلُ بِهِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: مَنْسُوخُهُ، وَمُقَدِّمُهُ، وَمُؤَخِّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قَالَ: الثَّلَاثُ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ محكمات قُلْ تَعالَوْا «٢» وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَخْرَجَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: آياتٌ مُحْكَماتٌ قَالَ: مِنْ هُنَا قُلْ تَعالَوْا إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، ومن هنا وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «٣» إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَهَا. وَأَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا أَقَلَّ جَدْوَى هَذَا الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ. فَإِنَّ تَعْيِينَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ عَشْرٍ أَوْ مِائَةٍ مِنْ جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَوَصْفِهَا بِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَيْسَ تَحْتَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ شَيْءٌ، فَالْمُحْكَمَاتُ: هِيَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، حَتَّى عَلَى قَوْلِهِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ قَرِيبًا مِنْ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ نَاسِخُهُ وَحَلَالُهُ إِلَخْ، فَمَا مَعْنَى تَعْيِينِ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلِلسَّلَفِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ هِيَ رَاجِعَةٌ إلى ما قدّمناه فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَعْنِي: أَهْلَ الشَّكِّ، فَيَحْمِلُونَ الْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَيَلْبِسُونَ فَلَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ: تَأْوِيلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن ابن مسعود
(١). الصف: ٥.
(٢). الأنعام: ١٥١.
(٣). الإسراء: ٢٣.
365
زَيْغٌ قَالَ: شَكٌّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إِلَى قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الذين عنى الله فَاحْذَرُوهُمْ»
. وَفِي لَفْظٍ: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، وَالَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالَ:
هُمُ الْخَوَارِجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٍ، وَآمِرٍ، وَحَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَافْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَقُولُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سلمة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعبد الله ابن مَسْعُودٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ، مَا عَرَفْتُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ» وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ: «وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنْ حَقِيقَةُ تَأْوِيلِهِ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الشَّعْثَاءِ وَأَبِي نَهِيكٍ قَالَ: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فَانْتَهَى عِلْمُهُمْ إِلَى قَوْلِهِمُ الَّذِي قَالُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ. قَالَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبَدِ الْعَزِيزِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ مَا اسْتَبَانَ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَآمِنْ بِهِ وَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَمَا عَرَفْتُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ فَذَرُوهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: تَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ العلماء، وتفسير لا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالَتِهِ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بَلُغَتِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، مَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كذاب.
366
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على أربعة أَحْرُفٍ: حَلَالٍ وَحَرَامٍ، لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهَالَةِ بِهِ، وَتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ الْعَرَبُ، وَتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ الْعُلَمَاءُ، وَمُتَشَابِهٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ نُؤْمِنُ بِالْمُحْكَمِ، وَنَدِينُ بِهِ، وَنُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ، وَلَا نَدِينُ بِهِ وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كُلِّهِ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَنَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ:
أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ضُبَيْعٌ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرَ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ضُبَيْعٌ، فَقَالَ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! حَسْبُكَ، قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ ضَرَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَتْرُكُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ.
وَأَخْرَجَ أَصْلَ الْقِصَّةِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يُجَالِسُوا ضُبَيْعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَمَاعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَزْدِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْجِدَالُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ». وَأَخْرَجَ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ وَرَاءِ حُجْرَتِهِ قَوْمٌ يَتَجَادَلُونَ بِالْقُرْآنِ، فَخَرَجَ مُحْمَرَّةً وَجْنَتَاهُ كَأَنَّمَا يَقْطُرَانِ دَمًا فَقَالَ: يَا قوم! لا تجادلوا بالقرآن فَإِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِجِدَالِهِمْ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنْ نَزَلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا كَانَ مِنْ مُحْكَمِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ مُتَشَابِهِهِ فَآمِنُوا بِهِ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، ثُمَّ قَرَأَ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، والطبراني وابن مردويه عنه مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَ نَحْوُهُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ فِي قَوْلِهِ:
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ الْآيَةَ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَلَدِيِّ قَالَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى شَيْءٍ ضَاعَ مِنْهُ رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ بَعْدَ قِرَاءَتِهَا: يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَالِي، إِنَّكَ على كل شيء قدير».
367

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: جِنْسُ الْكَفَرَةِ، وَقِيلَ: وَفْدُ نَجْرَانَ، وَقِيلَ: قُرَيْظَةُ وَقِيلَ: النَّضِيرُ وَقِيلَ:
مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: لَنْ يُغْنِيَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِسُكُونِ الْيَاءِ الْآخِرَةِ تَخْفِيفًا. قَوْلُهُ:
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ: مِنْ، بِمَعْنَى عِنْدَ، أَيْ: لَا تُغْنِي عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَدَلٍ. وَالْمَعْنَى: بَدَلُ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الْوَقُودُ: اسْمٌ لِلْحَطَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَيْ: هُمْ حَطَبُ جَهَنَّمَ الَّذِي تُسَعَّرُ بِهِ، وَهُمْ: مُبْتَدَأٌ، وَوَقُودُ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ: خَبَرُ أُولَئِكَ، أَوْ هُمْ: ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ:
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، مُقَرِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَطِلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وُقُودُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَكَذَلِكَ الْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْحَطَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى وَزْنِ الْفَعُولِ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ: أَيْ هُمْ أَهْلُ وَقُودِ النَّارِ. قَوْلُهُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدَّأْبُ: الِاجْتِهَادُ، يُقَالُ: دَأَبَ الرَّجُلُ في عمله، يدأب، دأبا، ودؤوبا: إِذَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَالدَّائِبَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالدَّأْبُ:
الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بمأسل
والمراد هنا: كعادة آل فرعون وشأنهم وَحَالِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَافِ، فَقِيلَ: هِيَ فِي موضع رفع، تقديره: دأبهم كدأب آلُ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْمَعْنَى: كَفَرَتِ الْعَرَبُ كَكُفْرِ آلِ فِرْعَوْنَ.
قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ مُتَعَلِّقَةً بِكَفَرُوا، لِأَنَّ كَفَرُوا دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَخَذَهَمُ اللَّهُ، أَيْ: أَخَذَهُمْ أَخْذَةً كَمَا أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلَنْ تُغْنِيَ، أَيْ: لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ غِنَاءً، كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ مِنْ لَفْظِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي نَفْسِ الْإِحْرَاقِ.
قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «١». أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ، وَمِنْهُمُ الْأَزْهَرِيُّ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، أَيْ: وَكَدَأْبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. قَوْلُهُ: كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَنْصُوبَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ. وَالْجُمْلَةُ: بَيَانٌ تفسير لِدَأْبِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: دَأْبُ هَؤُلَاءِ كَدَأْبِ أُولَئِكَ قَدْ كَذَّبُوا إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: بِسَائِرِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْذِيبُهُمْ. قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وقيل: هم مشركو مكة،
(١). غافر: ٤٦، وتمامها النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
368
وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: سَتُغْلَبُونَ قُرِئَ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَلِكَ:
تُحْشَرُونَ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَفَتْحِ خَيْبَرَ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى سَائِرِ الْيَهُودِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمِهادُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوله لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً تَهْوِيلًا وَتَفْظِيعًا. قَوْلُهُ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: كَانَتْ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ ذَكَرَ الْفِعْلَ لِأَجْلِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْمِ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْفِئَتَيْنِ: الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا الْتَقَوْا يَوْمَ بَدْرٍ. قَوْلُهُ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِرَفْعِ فِئَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ: «فئة» و «كافرة» بِالْخَفْضِ، فَالرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِحْدَاهُمَا فِئَةٌ. وَقَوْلُهُ: تُقاتِلُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فِئَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَأُخْرى أَيْ: وَفِئَةٌ أُخْرَى كَافِرَةٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. قَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ عَلَى الْحَالِ، أَيِ: الْتَقَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ، مُؤْمِنَةً وَكَافِرَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَسُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ: فِئَةٌ، لِأَنَّهُ يُفَاءُ إِلَيْهَا أَيْ: يُرْجَعُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ.
وَقَالَ الزجاج: الفئة: الفرقة، مأخوذة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، إِذَا قَطَعْتَهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَتَيْنِ هُمَا الْمُقْتَتِلَتَانِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْخِطَابِ فَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَقِيلَ:
الْيَهُودُ. وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيتُ نُفُوسِهِمْ وَتَشْجِيعُهَا، وَفَائِدَتُهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْيَهُودِ عَكْسُ الْفَائِدَةِ الْمَقْصُودَةِ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرُّؤْيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَرَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَوْلُهُ:
مِثْلَيْهِمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أن فاعل ترون هم: المؤمنون، والمفعول هم:
الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين، أي: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَفِيهِ بُعْدٌ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا: أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْكُمْ فِي الْعَدَدِ وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ، فَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ مِثْلَيْ عُدَّتِهِمْ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ. وَقَدْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّ الْمِائَةَ مِنْهُمْ تَغْلِبُ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي مِثْلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَكُمْ مِثْلَيْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ لِتَقْوَى بِذَلِكَ أَنْفُسُكُمْ، وَقَدْ قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ: أَعْنِي: أَنَّ فَاعِلَ الرُّؤْيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «١» بَلْ قُلِّلُوا أَوَّلًا فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُلَاقُوهُمْ وَيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَاقَوْهُمْ كَثُرُوا فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى غَلَبُوا. قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: تَرَوْنَهُمْ أَيْ: رُؤْيَةً ظَاهِرَةً مَكْشُوفَةً، لَا لَبْسَ فِيهَا وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُقَوِّي مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُقَوِّيَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَأْيِيدُ أَهْلِ بَدْرٍ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ، إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في
(١). الأنفال: ٤.
369
رُؤْيَةِ الْقَلِيلِ كَثِيرًا لَعِبْرَةً فِعْلَةً مِنَ الْعُبُورِ، كَالْجِلْسَةِ مِنَ الْجُلُوسِ. وَالْمُرَادُ الِاتِّعَاظُ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَوْعِظَةٌ جَسِيمَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قَالَ: كَصَنِيعِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: كَفِعْلِ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: كَسُنَّتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ مَا أَصَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِمَا أَصَابَ قُرَيْشًا، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَرًا كَانُوا غِمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَبْصارِ «١». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أبي حاتم، عن عاصم بن عمر عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ فِنْحَاصُّ الْيَهُودِيُّ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ: عِبْرَةٌ وَتَفَكُّرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ وَأُخْرى كافِرَةٌ فِئَةُ قُرَيْشٍ الْكُفَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ يَقُولُ: قَدْ كَانَ لَكُمْ في هؤلاء عبرة وتفكر، أَيَّدَهُمُ اللَّهُ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَكَانَ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يَضْعُفُونَ عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي التَّخْفِيفِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِثْلَيْهِمْ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ فأيّد الله المؤمنين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤ الى ١٧]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
قَوْلُهُ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ إِلَخْ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ حَقَارَةِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الأنفس في هَذِهِ الدَّارِ، وَالْمُزَيِّنُ:
قِيلَ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وغيره، ويؤيده قوله تعالى:
(١). آل عمران: ١٢- ١٣.
370
إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «١». وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، حَكَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ زُيِّنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْجِنْسُ. وَالشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ: نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُرِيدُهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالشَّهَوَاتِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا، أَوْ تَحْقِيرًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُسْتَرْذَلَةً عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ صِفَاتِ الطَّبَائِعِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَوَجْهُ تَزْيِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا ابْتِلَاءُ عِبَادِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَقَوْلُهُ:
مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ حَالَ كَوْنِهَا مِنَ النِّسَاءِ والبنين إلخ.
وبدأ بالنساء لكثرة تشوق النُّفُوسِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَخَصَّ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ لِعَدَمِ الِاطِّرَادِ فِي مَحَبَّتِهِنَّ. وَالْقَنَاطِيرُ: جَمْعُ قِنْطَارٍ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِنْطَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقْدِ الشَّيْءِ وَإِحْكَامِهِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَحْكَمْتَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ: الْقَنْطَرَةُ، لِإِحْكَامِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ لِلسَّلَفِ، سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى: الْمُقَنْطَرَةِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ:
مَعْنَاهَا الْمُضَعَّفَةُ، وَقَالَ الْقَنَاطِيرُ: ثَلَاثَةٌ، والمقنطرة تسعة. وقال الفراء: القناطير: جمع القنطار، وَالْمُقَنْطَرَةُ:
جَمْعُ الْجَمْعِ، فَتَكُونُ تِسْعَ قَنَاطِيرَ وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ: الْمَضْرُوبَةُ وَقِيلَ: الْمُكَمَّلَةُ، كَمَا يُقَالُ: بَدْرَةٌ مُبَدَّرَةٌ، وَأُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَبِهِ قَالَ مَكِّيٌّ وَحَكَاهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَكُونُ الْمُقَنْطَرَةُ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ قَنَاطِيرَ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بَيَانٌ لِلْقَنَاطِيرِ، أَوْ حَالٌ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قِيلَ هِيَ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْمُرُوجِ وَالْمَسَارِحِ، يُقَالُ سَامَتِ الدَّابَّةُ وَالشَّاةُ: إِذَا سَرَحَتْ وَقِيلَ هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ وَقِيلَ: هِيَ الْحِسَانُ وَقِيلَ:
الْمُعَلَّمَةُ، مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ: الْعَلَامَةُ، أَيِ: الَّتِي يُجْعَلُ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الْمُسَوَّمَةُ: الْمُرْسَلَةُ وَعَلَيْهَا رُكْبَانُهَا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْبُلْقُ. وَالْأَنْعَامُ: هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَإِذَا قُلْتَ نَعَمٌ فَهِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسُ خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
وَالْحَرْثُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُحْرَثُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَحْرُوثُ، يَقُولُ: حَرَثَ الرَّجُلُ حَرْثًا: إِذَا أَثَارَ الْأَرْضَ، فَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْحَرْثُ: التَّفْتِيشُ. قَوْلُهُ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى، وَفِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ في الآخرة. والمآب: المرجع آب يؤوب إِيَابًا: إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أَيْ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَإِبْهَامُ الْخَيْرِ لِلتَّفْخِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ وَعِنْدَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٍ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِخَيْرٍ. وَجَنَّاتٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: هُوَ جَنَّاتٌ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَا بعده. قوله:
(١). الكهف: ٧.
371
الَّذِينَ يَقُولُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا يَكُونُ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الصَّبْرِ وَالصِّدْقِ وَالْقُنُوتِ. قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ هُمُ السَّائِلُونَ لِلْمَغْفِرَةِ بِالْأَسْحَارِ، وَقِيلَ: الْمُصَلُّونَ. وَالْأَسْحَارُ: جَمْعُ سَحَرٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ حِينِ يُدْبِرُ اللَّيْلُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَخَصَّ الْأَسْحَارَ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَمَّا نَزَلَتْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قَالَ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زَيَّنْتَهَا لَنَا، فَنَزَلَتْ: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ بِلَفْظِ خَيْرٍ. انْتَهَى إلى قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ فَبَكَى وَقَالَ: بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَا زَيَّنْتَهَا؟. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ». رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الوراث عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ فَقَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ». وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ». وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وأخرجه ابن جرير مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِلْءُ مَسْكِ (جِلْدِ) الثَّوْرِ ذَهَبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِنْطَارُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْقِنْطَارُ ثَمَانُونَ أَلْفًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِائَةُ رَطْلٍ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ مثقال، والمثال أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ. وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُقَنْطَرَةَ: الْمَضْرُوبَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قَالَ: الرَّاعِيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الرَّاعِيَةُ وَالْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: تَسْوِيمُهَا: حُسْنُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ الْغِرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ قَالَ: قَوْمٌ صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَبَرُوا عَنْ محارمه، وَالصَّادِقِينَ: قَوْمٌ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، وَصَدَقُوا في السرّ والعلانية، وَالْقانِتِينَ هم المطيعون وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أَهْلُ الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
372
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ صَلَاةَ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَغْفِرَ بِالْأَسْحَارِ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ! أَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ! مَا أَدْرِي إِلَّا أَنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ فِي السَّحَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مستغفر فأغفر له؟».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
قَوْلُهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَيْ: بَيَّنَ وَأَعْلَمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّاهِدُ: هو الذين يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا الله عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِمَا خَلَقَ وَبَيَّنَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَهِدَ اللَّهُ بِمَعْنَى: قَضَى، أَيْ: أَعْلَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا مَرْدُودٌ مِنْ جِهَاتٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا شَبَّهَتْ دَلَالَتَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَفْعَالِهِ، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ: بِأَنَّهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْبَاءُ، كَمَا فِي: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، أَيْ:
بِالْخَيْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّهُ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، بِتَضْمِينِ شَهِدَ مَعْنَى قَالَ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُهَلَّبِ: شُهَداءَ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ وَالْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَشَهَادَتُهُمْ: إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَأُولُوا الْعِلْمِ مَعْطُوفٌ أَيْضًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَشَهَادَتُهُمْ:
بِمَعْنَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْبَيَانِ لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْنًى يَشْمَلُ شَهَادَةَ اللَّهِ، وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولِي الْعِلْمِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي: أُولِي الْعِلْمِ هَؤُلَاءِ، مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَقِيلَ: مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَقِيلَ:
الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ الْحَقُّ، إِذْ لَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ. وَفِي ذَلِكَ فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة لقرنهم بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْعِلْمِ هُنَا: عُلَمَاءُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِمَا، إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِعِلْمٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.
وَقَوْلُهُ: قائِماً بِالْقِسْطِ: أَيِ الْعَدْلِ، أَيْ: قَائِمًا بِالْعَدْلِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ أَوْ مُقِيمًا لَهُ، وَانْتِصَابُ قَائِمًا:
عَلَى الْحَالِ مِنَ الِاسْمِ الشَّرِيفِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهَا حال مؤكدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «١» وَجَازَ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لِعَدَمِ اللبس وقيل: إنه منصوب على
(١). البقرة: ٩١. [.....]
373
الْمَدْحِ وَقِيلَ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: إِلهَ أَيْ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ، أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَمَّا قطعت نصب كقوله: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «١» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ. وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَكْرِيرٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَالدَّعْوَى، وَالْأَخِيرَةُ كَالْحُكْمِ.
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: الْأُولَى: وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ، وَالثَّانِيَةُ: رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ. وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مُرْتَفِعَانِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوِ الْوَصْفِيَّةِ لِفَاعِلِ شَهِدَ، لِتَقْرِيرِ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ إِنَّ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقُرِئَ: بِفَتْحِ أَنَّ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَنْصِبُهُمَا جَمِيعًا يَعْنِي قَوْلَهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ وَقَوْلَهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ بِمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ كَذَا وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَا فِي الْأَصْلِ مُتَغَايِرَيْنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ، وَصَدَّقَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْآخَرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَوْلُهُ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَانَ لِمُجَرَّدِ الْبَغْيِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ الْمُنَزَّلَةُ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ: هُوَ خِلَافُهُمْ فِي كون نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي نُبُوَّةِ عِيسَى وَقِيلَ:
اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ، حتى قالت اليهود: ليس النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليس الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ أَيْ: بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فَيُجَازِيهِ، وَيُعَاقِبُهُ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِهِ، وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ، مَعَ كَوْنِهِ مَقَامَ الْإِضْمَارِ:
لِلتَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ حَاجُّوكَ أَيْ: جَادَلُوكَ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّفَةِ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ: أَخْلَصْتُ ذَاتِي لِلَّهِ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ سَائِرِ الذَّاتِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، وَأَجْمَعَهَا لِلْحَوَاسِّ، وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا: بِمَعْنَى الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَنِ عَطْفٌ عَلَى فَاعِلِ أَسْلَمْتُ، وَجَازَ لِلْفَصْلِ، وَأَثْبَتَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ الْيَاءَ فِي: اتَّبَعَنِ، عَلَى الْأَصْلِ وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى: مَعَ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ هُنَا: مشركو العرب. وقوله:
أَأَسْلَمْتُمْ استفهام تقرير يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ، أَيْ: أَسْلِمُوا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
أَأَسْلَمْتُمْ تَهْدِيدٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ أَتَاكُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ مَا يُوجِبُ الإسلام، فهل عملتم بِمُوجِبِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ تَبْكِيتًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ فِي الْإِنْصَافِ وَقَبُولِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا أَيْ: ظَفِرُوا بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْحَظُّ الْأَكْبَرُ، وَفَازُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمُوجِبِهَا: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أَيْ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَلَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر، فلا
(١). النحل: ٥٢.
374
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَالْبَلَاغُ: مَصْدَرٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ قَالَ: بِالْعَدْلِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قَالَ:
الْإِسْلَامُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءَهُ، لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ صَنَمٌ أَوْ صَنَمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ، فَأَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ كُلُّهَا قَدْ خَرَّتْ سُجَّدًا لِلْكَعْبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الشَّحَامِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «١» إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ «٢» هُنَّ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، يَقُلْنَ يَا رَبِّ تَهَبَّطْنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ؟ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي حَلَفْتُ لَا يَقْرَؤُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا أَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ، وَإِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَةِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ نَظْرَةً، وَإِلَّا قَضَيْتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ، وَإِلَّا أَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُّوٍ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُ». وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وفيه: «لا يتلو كنّ عَبْدٌ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ، وَأَسْكَنْتُهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَضَيْتُ لَهُ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَالَ:
وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ»
وَلَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ: «وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَضَعَّفَهُ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تجارة فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ «٣» شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فَقَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللَّهُ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي وَدِيعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَهَا مِرَارًا، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
(١). آل عمران: ٢٦.
(٢). آل عمران: ٢٧.
(٣). الصواب: الآيتين.
375
«يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: بَغْياً بَيْنَهُمْ يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الدُّنْيَا مِنْ بَعْدِ مَا كَانُوا عُلَمَاءَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ قَالَ: إِنْ حَاجَّكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْأُمِّيِّينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يكتبون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
قَوْلُهُ: بِآياتِ اللَّهِ ظَاهِرُهُ: عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي: الْيَهُودَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِالْعَدْلِ. وَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُمُ النَّبِيُّونَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَامَ أُنَاسٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَقَتَلُوهُمْ. فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ إِلَخْ، وَدَخَلَتْهُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ: إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَقَالُوا إِنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ إِنَّ وَإِنْ تَضَمَّنَ اسْمُهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ قَدْ نُسِخَ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشُ وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا: إِلَى أَنَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَا يُنْسَخُ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ الْمَكْسُورَةِ الْمَفْتُوحَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «١». وَقَوْلُهُ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِحْبَاطِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَبِطَتْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِحَسَنَاتِهِمْ أَثَرٌ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُعَامَلُوا فِيهَا مُعَامَلَةُ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ أَهْلِ السَّيِّئَاتِ، فَلُعِنُوا، وَحَلَّ بِهِمُ الْخِزْيُ وَالصَّغَارُ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ.
قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِيهِ تَعْجِيبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَتَنْكِيرُ النَّصِيبِ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: نَصِيبًا عَظِيمًا، كَمَا يُفِيدُهُ مَقَامَ الْمُبَالَغَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّحْقِيرِ فَلَمْ يُصِبْ. فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ، وَذَلِكَ بأنهم
(١). الأنفال: ٤١.
376
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الذي أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ والحال مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دُعُوا إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ مِنَ التَّوَلِّي والإعراض بسبب بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَهِيَ مِقْدَارُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْقَوْلُ.
قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ هُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالٌ لِمَا غَرَّهُمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ، أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي لَا يَرْتَابُ مُرْتَابٌ فِي وُقُوعِهِ؟، فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ لَا مَحَالَةَ، وَيَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهِ بِالْحِيَلِ وَالْأَكَاذِيبِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ. وَالْمُرَادُ: كُلُّ النَّاسِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ نَفْسٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ بِمَعْنَى: فِي، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْمَعْنَى: لِحِسَابِ يَوْمٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى: لِمَا يَحْدُثُ فِي يَوْمٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلًا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا أَوَّلَ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: بَعَثَ عِيسَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، فَكَانَ يَنْهَى عَنْ نِكَاحِ بِنْتِ الْأَخِ، وَكَانَ مَلِكٌ لَهُ بِنْتُ أَخٍ تُعْجِبُهُ فَأَرَادَهَا وَجَعَلَ يَقْضِي لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةً، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّهَا: إِذَا سَأَلَكِ عَنْ حَاجَةٍ فَقُولِي حَاجَتِي أَنْ تَقْتُلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ:
لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ هَذَا، فَلَمَّا أَبَتْ أَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ فِي طَسْتٍ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخَتُنَصَّرَ، فَدَلَّتْ عَجُوزٌ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَزَالَ يَقْتُلُ حَتَّى يَسْكُنَ هَذَا الدَّمُ، فَقَتَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ وَسِنٍّ وَاحِدٍ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن معقل ابن أَبِي مِسْكِينٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ، فَيُقْتَلُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ: وُلَاةُ الْعَدْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَتَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ» قَالَ: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا. قَالَ لهما النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «فَهَلُمَّا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
377
مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ
الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: نَصِيباً قَالَ:
حَظًّا مِنَ الْكِتابِ قَالَ: التَّوْرَاةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَ: يَعْنُونَ الْأَيَّامَ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ حِينَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ يَعْنِي تُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ مَا كَسَبَتْ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ يعني: من أعمالهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنْ أَصْلَ اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ، فَلَمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْكَلِمَةُ دُونَ حرف النداء الَّذِي هُوَ «يَا» جَعَلُوا بَدَلَهُ هَذِهِ الْمِيمَ المشددة، فجاؤوا بِحَرْفَيْنِ وَهُمَا الْمِيمَانِ عِوَضًا مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا الْيَاءُ وَالْأَلِفُ وَالضَّمَّةُ فِي الْهَاءِ: هِيَ ضَمَّةُ الِاسْمِ الْمُنَادَى الْمُفْرَدِ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْكُوفِيُّونَ:
إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ أُمَّنَا بخير، فحذف وخلط الكلمتين وَالضَّمَّةُ الَّتِي فِي الْهَاءِ: هِيَ الضَّمَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي أُمَّنَا، لَمَّا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ انْتَقَلَتِ الحركة. قال النحاس: هذا عند الكوفيين مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ، وَالْقَوْلُ فِي هَذَا: مَا قاله الخليل وسيبويه. وقال الْكُوفِيُّونَ: وَقَدْ يُدْخَلُ حَرْفُ النِّدَاءِ عَلَى اللَّهُمَّ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْتَ يَا اللَّهُمَّا وَقَوْلَ الْآخَرِ:
وَمَا عَلَيْكَ أن تقولي كلّما سبّحت أو هلّلت يا اللهمّ ما
وَقَوْلَ الْآخَرِ:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا أقول يا اللهمّ يا اللهمّا
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْمِيمُ عِوَضًا مِنْ حَرْفِ النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: هذا شَاذٌّ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ، فَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ. قَوْلُهُ: مالِكَ الْمُلْكِ أَيْ: مَالِكَ جِنْسِ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَالِكَ: مَنْصُوبٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ ثَانٍ، أَيْ: يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ لِأَنَّ الْمِيمَ عِنْدَهُ تَمْنَعُ الْوَصْفِيَّةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «١».
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ، وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَصْوَبُ وَأَبْيَنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسم مفرد ضم إليه
(١). الزمر: ٤٦.
378
صَوْتٌ، وَالْأَصْوَاتُ لَا تُوصَفُ، نَحْوَ: غَاقْ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا وَقِيلَ:
الْمَعْنَى مَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ: الْمُلْكُ هُنَا: النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: الْغَلَبَةُ وَقِيلَ: الْمَالُ وَالْعَبِيدُ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُهُ لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُلْكِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أَيْ: مَنْ تَشَاءُ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ نَزْعَهُ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِمَا يُؤْتِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَيَنْزِعُهُ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَامِّ. قَوْلُهُ:
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: عَزَّ، إِذَا غَلَبَ، وَمِنْهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «١» وَقَوْلُهُ: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: ذَلَّ ذُلًّا، إِذَا غَلَبَ وَقَهَرَ. قَوْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ لَا بِيَدِ غَيْرِكَ، وَذَكَرَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ: لِأَنَّ الْخَيْرَ بِفَضْلٍ مَحْضٍ، بِخِلَافِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَزَاءً لِعَمَلٍ وُصِلَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ شَرٍّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مِنْ قَضَائِهِ سُبْحَانَهُ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْخَيْرِ، فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٢» وَأَصْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَقِيلَ: خَصَّ الْخَيْرَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ دُعَاءٍ.
قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تَعْلِيلٌ لِمَا سَبَقَ وَتَحْقِيقٌ لَهُ. قَوْلُهُ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ: تُدْخِلُ مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: تُعَاقِبُ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ زَوَالُ أَحَدِهِمَا وُلُوجًا فِي الْآخَرِ. قَوْلُهُ: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الطَّائِرِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الدَّجَاجَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ. قَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ: بِغَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، كَمَا تَقُولُ:
فُلَانٌ يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْبَاءُ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ: «أَنَّهُ شَكَا إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ أَنْ يَتْلُوَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولَ: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمَا وَتَمْنَعُ مَنْ تَشَاءُ، ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ أَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ». وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: «أَلَا أُعَلِّمَكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ دَيْنًا لَأَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ» فَذَكَرَهُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «٣» بَعْضُ فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ قَالَ: النُّبُوَّةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الْآيَةَ، قَالَ:
تَأْخُذُ الصَّيْفَ مِنَ الشِّتَاءِ، وَتَأْخُذُ الشِّتَاءَ مِنَ الصَّيْفِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ تُخْرِجُ الرَّجُلَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الرَّجُلِ الحيّ. وأخرج عبد بن حميد، وابن
(١). ص: ٢٣.
(٢). النحل: ٨١.
(٣). آل عمران: ١٨.
379
جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ قَالَ: مَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ تَجْعَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ تَجْعَلُهُ فِي النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْحَيِّ، ثُمَّ تُخْرِجُ مِنَ النُّطْفَةِ بَشَرًا حَيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: هِيَ الْبَيْضَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيِّ وَهِيَ مَيْتَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْحَيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةُ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةُ مِنَ الْحَبَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَالْمُؤْمِنُ عَبْدٌ حَيُّ الْفُؤَادِ، وَالْكَافِرُ عَبْدٌ مَيِّتُ الْفُؤَادِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهُ، أَوْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ خَالِدَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قِيلَ: خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا. وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
قَوْلُهُ: لَا يَتَّخِذِ فِيهِ النَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ «١» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «٢» وقوله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «٣» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «٤»، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ «٥». وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَافِرِينَ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَى الاتخاذ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أَيْ: مِنْ وِلَايَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ مُنْسَلِخٌ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ:
إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. وَتُقَاةٌ: مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ، وَأَصْلُهَا: وِقْيَةٌ، عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً وَالْيَاءُ أَلِفًا، وَقَرَأَ رَجَاءٌ، وَقَتَادَةُ تَقِيَّةً. وَفِي ذلك دليل على
(١). آل عمران: ١١٨.
(٢). المائدة: ٥١.
(٣). المجادلة: ٢٢.
(٤). المائدة: ٥١.
(٥). الممتحنة: ١. [.....]
380
جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ مَعَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ، فَقَالُوا:
لَا تَقِيَّةَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ. قَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أَيْ: ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ، وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ جَائِزٌ فِي الْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ «١» وَفِي غَيْرِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ إِلَّا مُشَاكَلَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَلَ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فَمَعْنَاهُ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عِنْدَكَ وَلَا مَا فِي حَقِيقَتِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ الله عقابه مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
«٢» فَجُعِلَتِ النَّفْسُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَتَخْوِيفٌ عَظِيمٌ لِعِبَادِهِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِعِقَابِهِ بِمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ الْآيَةَ، فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُضْمِرُهُ الْعَبْدُ وَيُخْفِيهِ، أَوْ يُظْهِرُهُ وَيُبْدِيهِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُخْفُونَهَا أَوْ يُبْدُونَهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَقِيلَ:
بِمَحْذُوفٍ، أي: اذكر، ومُحْضَراً حَالٌ، وَقَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا الْأُولَى، أَيْ: وَتَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. فَحَذَفَ مُحْضَرًا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ تَجِدُ مِنْ وِجْدَانِ الضَّالَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ: وَجَدَ، بِمَعْنَى: عَلِمَ، كَانَ مُحْضَرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَيَكُونُ مَا فِي: مَا عَمِلَتْ، مُبْتَدَأٌ، وَيَوَدُّ خَبَرُهُ. وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَجَمْعُهُ آمَادٌ، أَيْ: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ أَمَدًا بَعِيدًا وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: تَوَدُّ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُ لِلْيَوْمِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلِلِاسْتِحْضَارِ لِيَكُونَ هَذَا التَّهْدِيدُ الْعَظِيمُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْهُمْ، وَفِي قوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مُقْتَرِنٌ بِالرَّأْفَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ لُطْفًا بِهِمْ. وَمَا أَحْسَنَ مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ وَتُبْعَثُ وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: أَتُهَدِّدُونَنِي بِمَنْ لَمْ أَرَ الْخَيْرَ قَطُّ إِلَّا مِنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ بَطَّنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النَّفَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ قَالَ:
نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ وَيَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فقد برىء الله منه. وأخرج
(١). المائدة: ١١٦.
(٢). يوسف: ٨٢.
381
ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ: مَنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَهُوَ معصية لله فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: التُّقَاةُ: التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ، وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقْتُلُ وَلَا إِلَى إِثْمٍ فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِالْعَمَلِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَتَصِلُهُ لِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا نَبَشُّ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «١» وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّقِيَّةِ بِاللِّسَانِ: أَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا الْآيَةَ قَالَ:
أَخْبَرَهُمْ: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوا وَمَا أَعْلَنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مُحْضَرًا:
يَقُولُ: مُوَفَّرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسُرُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَلِكَ أَبَدًا، يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ يَسْتَلِذِّهَا. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَداً بَعِيداً قَالَ: مَكَانًا بَعِيدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَمَدًا قَالَ: أَجَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قَالَ: مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
الْحُبُّ وَالْمَحَبَّةُ: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَحَبَّهُ فَهُوَ مُحِبٌّ، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ بِالْكَسْرِ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ، لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الْمُضَاعَفِ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْنُ الدِّهَانِ: فِي حَبَّ لُغَتَانِ: حَبَّ، وَأَحَبَّ، وأصل حبّ في هذه الْبَابِ: حَبَبَ، كَطَرَقَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: طَاعَتُهُ لَهُمَا وَاتِّبَاعُهُ أَمْرَهُمَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعِبَادِ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالْغُفْرَانِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: فَاتَّبِعُونِي بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ أبي عمرة بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ أَدْغَمَ الرَّاءَ مِنْ يَغْفِرْ فِي اللَّامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يُجِيزُ الْخَلِيلُ وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرة أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَغْلَطَ فِي هَذَا، وَلَعَلَّهُ كان يخفي الحركة كما يفعل في أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. قَوْلُهُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيْ: في جميع الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَحْتَمِلُ أَنْ يكون من تمام مقول القول،
(١). النحل: ١٠٦.
فيكون مضارعا حذفت فيه إحدى التاءين: أي تتولوا، ويحتمل أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ مَاضِيًا.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ نَفْيُ الْمَحَبَّةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُغْضِ وَالسُّخْطِ. وَوَجْهُ الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ كَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ إِضْمَارٍ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّعْمِيمِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ إِلَخْ.
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ الْمَرْضِيَّ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْبَغْيِ عَلَيْهِ وَالْحَسَدِ لَهُ، شَرَعَ فِي تَقْرِيرِ رِسَالَةِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ. وَالِاصْطِفَاءُ: الِاخْتِيَارُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اخْتَارَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيِ: اصْطَفَى دِينَ آدَمَ، إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الْعَالَمِينَ، وَتَخْصِيصُ آدَمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، وَكَذَلِكَ نُوحٌ، فَإِنَّهُ آدَمُ الثَّانِي، وَأَمَّا آلُ إِبْرَاهِيمَ، فلكون النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مَعَ كَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا آلُ عِمْرَانَ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ وَجْهٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ: إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ، وَبِآلِ عِمْرَانَ: عِمْرَانُ نَفْسُهُ. قَوْلُهُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ نَصْبُ ذَرِّيَّةً عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِمَّا قَبْلَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ، وَبَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى صِفَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: مُتَنَاسِلَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ، أَوْ مُتَنَاصِرَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ فِي الدِّينِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حاتم عن الْحَسَنِ مِنْ طُرُقٍ قَالَ: قَالَ أَقْوَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّا لِنُحِبُّ رَبَّنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ أَيْ: إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِكُمْ فِي عِيسَى حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَيْ: مَا مَضَى مِنْ كُفْرِكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَآلِ يَاسِينَ، وَآلِ مُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ قَالَ فِي النية والعمل، والإخلاص والتوحيد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
قَوْلُهُ: إِذْ قالَتِ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِذْ زَائِدَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ إِذْ قَالَتْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اصْطَفى وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ
383
وَامْرَأَةُ عِمْرَانَ اسْمُهَا: حَنَّةُ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلٍ أُمُّ مَرْيَمَ، فَهِيَ جَدَّةُ عِيسَى.
وَعِمْرَانُ: هُوَ ابْنُ مَاثَانَ جَدُّ عِيسَى. قَوْلُهُ: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ، وَهَذَا النَّذْرُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ. وَمَعْنَى: لَكَ أَيْ: لِعِبَادَتِكَ. وَمُحَرَّرًا: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَتِيقًا خَالِصًا لِلَّهِ خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْحُرِّيَّةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُحَرَّرِ هُنَا: الْخَالِصُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، الَّذِي لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ عِمْرَانَ وَامْرَأَتَهُ حُرَّانِ. قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلْ مِنِّي التَّقَبُّلُ: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا، أَيْ: تَقَبَّلْ مِنِّي نَذْرِي بِمَا فِي بَطْنِي. قَوْلُهُ: فَلَمَّا وَضَعَتْها التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ مَا عُلِمَ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ الَّذِي فِي بَطْنِهَا أُنْثَى، أَوْ لِكَوْنِهِ أُنْثَى فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ بِتَأْوِيلِ مَا فِي بَطْنِهَا بِالنَّفْسِ أَوِ النَّسَمَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى إِنَّمَا قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقْبَلُ فِي النَّذْرِ إِلَّا الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى، فَكَأَنَّهَا تَحَسَّرَتْ وَتَحَزَّنَتْ لِمَا فَاتَهَا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ تَرْجُوهُ وَتُقَدِّرُهُ، وَأُنْثَى: حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، بِضَمِّ التَّاءِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهَا وَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ مَعْنَى:
التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّنْزِيهِ لَهُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَضَعَتْ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِمَا وَضَعَتْهُ، وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهِ، وَالتَّجْلِيلِ لَهَا، حَيْثُ وَقَعَ مِنْهَا التَّحَسُّرُ وَالتَّحَزُّنُ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْهَا سَيَجْعَلُهَا اللَّهُ وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَعِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَيَخْتَصُّهَا بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِما وَضَعَتْ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا، أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذَا الْمَوْهُوبِ، وَمَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَقَاصَرُ عَنْهَا الْأَفْهَامُ، وَتَتَضَافَرُ عِنْدَهَا الْعُقُولُ. قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى أَيْ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْ كَالْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا أَرَادَتْ مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ، وَأَمْرُ هَذِهِ الْأُنْثَى عَظِيمٌ وَشَأْنُهَا فَخِيمٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْضُوعِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، وَاللَّامُ فِي: الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِلْعَهْدِ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهَا وَمِنْ تَمَامِ تَحَسُّرِهَا وَتَحَزُّنِهَا، أَيْ: لَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا، وَيَصْلُحُ لِلنُّذُرِ، كَالْأُنْثَى الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَأَنَّهَا أَعْذَرَتْ إِلَى رَبِّهَا مِنْ وُجُودِهَا لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَصَدَتْ. قَوْلُهُ: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عَطْفٌ عَلَى إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَمَقْصُودُهَا مِنْ هَذَا الْإِخْبَارِ بِالتَّسْمِيَةِ: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مُطَابِقًا لِمَعْنَى اسْمِهَا، فَإِنَّ مَعْنَى مَرْيَمَ خَادِمُ الرَّبِّ بِلُغَتِهِمْ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعَابِدَاتِ. قَوْلُهُ: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَالرَّجِيمُ الْمَطْرُودُ، وَأَصْلُهُ الْمَرْمِيُّ بِالْحِجَارَةِ، طَلَبَتِ الْإِعَاذَةَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَعْوَانِهِ. قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أَيْ: رَضِيَ بِهَا فِي النُّذُرِ، وَسَلَكَ بِهَا مَسْلَكَ السُّعَدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ التَّكَفُّلُ وَالتَّرْبِيَةُ وَالْقِيَامُ بِشَأْنِهَا، وَالْقَبُولُ: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ السَّابِقِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْأَصْلُ: تَقَبُّلًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَأَصْلُهُ: إِنْبَاتًا،
384
فَحُذِفَ الْحَرْفُ الزَّائِدُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَوَّى خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ قِيلَ، إِنَّهَا كَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي عَامٍ وَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ عَنِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهَا بِمَا يُصْلِحُهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، قَوْلُهُ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أَيْ: ضَمَّهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَكَفَّلَها بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: جَعَلَهُ اللَّهُ كَافِلًا لَهَا وَمُلْتَزِمًا بِمَصَالِحِهَا، وَفِي مَعْنَاهُ: مَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَأَكْفَلَهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّخْفِيفِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى زَكَرِيَّا، وَمَعْنَاهُ:
مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ ضَمَّهَا إِلَيْهِ وَضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزمني: وَكَفِلَهَا بِكَسْرِ الْفَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لَمْ أَسْمَعْ كفل. وقرأ مجاهد فتقبلها بإسكان اللام، على المسألة والطلب، ونصب ربها على أنه مُنَادَى مُضَافٌ. وَقَرَأَ أَيْضًا وَأَنْبِتْهَا بِإِسْكَانِ التَّاءِ وَكَفِّلْهَا بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَنَصَبَ زكرياء مَعَ الْمَدِّ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
زَكَرِيَّا بِغَيْرِ مَدٍّ، وَمَدَّهُ الْبَاقُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَمُدُّونَ زَكَرِيَّا وَيَقْصُرُونَهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ:
فِيهِ لغات: المد والقصر، وزكريّا: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ مَعَ أَلِفِ التَّأْنِيثِ. قَوْلُهُ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ قُدِّمَ الظَّرْفُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَكَلِمَةُ: كُلَّ: ظَرْفٌ، وَالزَّمَانُ مَحْذُوفٌ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْعَامِلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَدَ أَيْ: كُلَّ زَمَانِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، أَيْ: نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ. وَالْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ: أَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّوَسُّعِ قِيلَ: إِنَّ زَكَرِيَّا جَعَلَ لَهَا مِحْرَابًا: لَا يرتقى إليه إلا بسلم، وكان يغلق عَلَيْهَا حَتَّى كَبِرَتْ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَفَاكِهَةَ الصيف في الشتاء، فقال: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أَيْ: مِنْ أَيْنَ يَجِيءُ لَكَ هَذَا الرِّزْقُ الَّذِي لَا يُشْبِهُ أَرْزَاقَ الدُّنْيَا؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَجِيبٍ وَلَا مُسْتَنْكَرٍ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهَا، وَمَنْ قال إنه كَلَامِ زَكَرِيَّا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً قَالَ: كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي الْكَنِيسَةِ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: نَذَرَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ مُحَرَّرًا لِلْعِبَادَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أبي حاتم عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُحَرَّراً قَالَ: خَادِمًا لِلْبَيْعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مُحَرَّرًا خَالِصًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُوَلَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ». وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا أَحُدُهَا، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الْمِحْرَابَ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا عِنَبًا فِي مِكْتَلٍ فِي غَيْرِ حِينِهِ، فَقَالَ: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَرْزُقُكِ الْعِنَبَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَقَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي مِنَ الْعَاقِرِ الْكَبِيرِ الْعَقِيمِ وَلَدًا هُنالِكَ
385
دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ
. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ مَرْيَمُ ابْنَةَ سَيِّدِهِمْ وَإِمَامِهِمْ، فَتَشَاحَّ عَلَيْهَا أَحْبَارُهُمْ فَاقْتَرَعُوا فِيهَا بِسِهَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا زَوْجَ أُخْتِهَا، فَكَفَلَهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ وَحَضَنَهَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قَالَ: جَعَلَهَا مَعَهُ فِي مِحْرَابِهِ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
قَوْلُهُ: هُنالِكَ ظَرْفٌ يُسْتَعْمَلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَصْلُهُ لِلْمَكَانِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلزَّمَانِ خَاصَّةً، وَهُنَاكَ لِلْمَكَانِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَاللَّامُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْبُعْدِ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ دَعَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ فِيهِ عِنْدَ مَرْيَمَ، أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ: أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَالَّذِي بَعَثَهُ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَآهُ مِنْ وِلَادَةِ حَنَّةَ لِمَرْيَمَ وَقَدْ كَانَتْ عَاقِرًا، فَحَصَلَ لَهُ رَجَاءُ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، وَامْرَأَتُهُ عَاقِرًا، أَوْ بَعَثَهُ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَآهُ مِنْ فَاكِهَةِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَالصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ عِنْدَ مَرْيَمَ، لِأَنَّ مَنْ أَوْجَدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الْوَلَدِ مِنَ الْعَاقِرِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ قِصَّةً مُسْتَأْنَفَةً سِيقَتْ فِي غُضُونِ قِصَّةِ مَرْيَمَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِارْتِبَاطِ. وَالذُّرِّيَّةِ: النسل، يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَيَكُونُ لِلْجَمْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هُنَا لِلْوَاحِدِ، قَوْلُهُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَلَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاءَ، وَتَأْنِيثُ طَيِّبَةٍ: لِكَوْنِ لَفْظِ الذُّرِّيَّةِ مُؤَنَّثًا. قَوْلُهُ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قَرَأَ حمزة والكسائي: فناده، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ الْمُرَادُ هُنَا جِبْرِيلُ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ فِي العربية، ومنه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وَقِيلَ: نَادَاهُ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْجَمْعِ وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُقَدَّمٌ، فَلَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا لِقَرِينَةٍ. قَوْلُهُ: وَهُوَ قائِمٌ جملة حالية، ويُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: قائِمٌ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ. قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ قُرِئَ: بِفَتْحٍ أَنَّ، وَالتَّقْدِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ، وَقُرِئَ: بِكَسْرِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:
يُبَشِّرُكَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بن قيس المكي بكسر الشين وَضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي وردت كثيرا في القرآن، ومنه: فَبَشِّرْ عِبادِ «١» فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ «٢» فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ»
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ «٤» وهي قراءة الجمهور.
(١). الزمر: ١٧.
(٢). يس: ١١.
(٣). هود: ٧١.
(٤). الفجر: ٥٥.
386
وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ، وَبِهَا قَرَأَ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَالثَّالِثَةُ: مِنْ أَبْشَرَ يُبْشِرُ إِبْشَارًا. وَيَحْيَى: مُمْتَنِعٌ، إِمَّا لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا، أَوْ لِكَوْنِ فِيهِ وَزْنُ الْفِعْلِ، كَيَعْمَرَ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ حَاكِيًا عَنِ النَّقَّاشِ: كَانَ اسْمُهُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ حَنَّا. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْإِنْجِيلِ أَنَّهُ: يُوحَنَّا قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ النَّاسَ بِالْهُدَى. وَالْمُرَادُ هُنَا: التَّبْشِيرُ بِوِلَادَتِهِ، أَيْ: يُبَشِّرُكَ بِوِلَادَةِ يَحْيَى. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُمِّيَ: كَلِمَةَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ كَانَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: كُنْ وَقِيلَ: سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ: لِأَنَّ النَّاسَ يَهْتَدُونَ بِهِ كَمَا يَهْتَدُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
مَعْنَى بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ: بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَنْشَدَنِي كَلِمَتَهُ، أَيْ: قَصِيدَتَهُ، كَمَا رُوِيَ: أَنَّ الْحُوَيْدِرَةَ ذُكِرَ لِحَسَّانَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، يَعْنِي: قَصِيدَتَهُ. انْتَهَى. وَيَحْيَى أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى وَصَدَّقَ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالسَّيِّدُ: الَّذِي يَسُودُ قَوْمَهُ قَالَ الزَّجَّاجُ:
السَّيِّدُ: الَّذِي يَفُوقُ أَقْرَانَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْحَصُورُ: أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ، وَهُوَ الْحَبْسُ، يُقَالُ: حَصَرَنِي الشَّيْءُ وَأَحْصَرَنِي، إِذَا حَبَسَنِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، كَأَنَّهُ يُحْجِمُ عَنْهُنَّ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ حَصُورٌ، وَحَصِيرٌ: إِذَا حَبَسَ رِفْدَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، فَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَصُورًا عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ: أَيْ: مَحْصُورًا لَا يَأْتِيهِنَّ كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ إِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِكَوْنِهِ يَكُفُّ عَنْهُنَّ مَنْعًا لِنَفْسِهِ عَنِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَقَدْ رُجِّحَ الثَّانِي بِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَدْحٍ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى أَمْرٍ مُكْتَسَبٍ يَقْدِرُ فَاعِلُهُ عَلَى خِلَافِهِ، لَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَفِي نَفْسِ الْجِبِلَّةِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: نَاشِئًا مِنَ الصَّالِحِينَ، لِكَوْنِهِ مِنْ نَسْلِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ كَائِنًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ: الَّذِي يُؤَدِّي لِلَّهِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَإِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ. قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْخِطَابَ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ الْوَاصِلُ إِلَيْهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ لِمَزِيدِ التَّضَرُّعِ وَالْجِدُّ فِي طَلَبِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالرَّبِّ جِبْرِيلَ، أَيْ: يَا سَيِّدِي قِيلَ: وَفِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَأَلَ هَلْ يُرْزَقُ هَذَا الْوَلَدَ مِنِ امْرَأَتِهِ الْعَاقِرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؟ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَيِّ سَبَبٍ أَسْتَوْجِبُ هَذَا، وَأَنَا وَامْرَأَتِي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ اسْتَبْعَدَ حُدُوثَ الْوَلَدِ مِنْهُمَا مَعَ كَوْنِ الْعَادَةِ قَاضِيَةً بِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ مَنْ مِثْلِهِمَا لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمُ التَّبْشِيرِ كَبِيرًا قِيلَ: فِي تِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ فِي ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أَيْ: وَالْحَالُ ذَلِكَ، جَعَلَ الْكِبَرَ كَالطَّالِبِ لَهُ لِكَوْنِهِ طَلِيعَةً مِنْ طَلَائِعِ الْمَوْتِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. وَالْعَاقِرُ: الَّتِي لَا تَلِدُ أَيْ ذَاتُ عُقْرٍ عَلَى النَّسَبِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ لَقَالَ عَقِيرَةٌ أَيْ: بِهَا عُقْرٌ يَمْنَعُهَا مِنَ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ دُعَائِهِ بِأَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَمُشَاهَدَتُهُ لِتِلْكَ الْآيَةِ الْكُبْرَى فِي مَرْيَمَ اسْتِعْظَامًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا لِمَحْضِ الِاسْتِبْعَادِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ بَعْدَ دُعَائِهِ إِلَى وَقْتٍ يَشَاءُ رَبُّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَقِيلَ: عِشْرُونَ سَنَةً فَكَانَ
387
الِاسْتِبْعَادُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِيجَادُ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ، وَالْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَصْدَرِ يَفْعَلُ أَوِ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ، أَيْ: عَلَى هَذَا الشَّأْنِ الْعَجِيبِ شَأْنِ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَفْعَلُ مَا يَشاءُ
بَيَانًا لَهُ، أَوِ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَفْعَلُ اللَّهُ الْفِعْلَ كَائِنًا مِثْلَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ: عَلَامَةً أَعْرِفُ بِهَا صِحَّةَ الْحَبَلِ، فَأَتَلَقَّى هَذِهِ النِّعْمَةَ بالشكر قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أَيْ: عَلَامَتُكَ أَنْ تَحْبِسَ لِسَانَكَ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ، وَوَجْهُ جَعْلِ الْآيَةِ هَذَا: لِتَخْلُصَ تِلْكَ الْأَيَّامُ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: بِأَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ الْآيَةَ بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالرَّمْزُ فِي اللُّغَةِ: الْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ، أَوِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الْحَاجِبَيْنِ، أَوِ الْيَدَيْنِ، وَأَصْلُهُ: الْحَرَكَةُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِكَوْنِ الرَّمْزِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَلَامَ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِفْهَامُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ. قَوْلُهُ: وَسَبِّحْ أَيْ: سَبِّحْهُ بِالْعَشِيِّ وَهُوَ جَمْعُ عَشِيَّةٍ وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ وَقِيلَ: مِنَ الْعَصْرِ إِلَى ذَهَابِ صَدْرِ اللَّيْلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَالْإِبْكارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ. قوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، كَالظَّرْفِ الْأَوَّلِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ اخْتَارَكِ وَطَهَّرَكِ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ مِنَ الأدناس عَلَى عُمُومِهَا وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ قِيلَ: هَذَا الِاصْطِفَاءُ الْآخَرُ غَيْرُ الِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ حَيْثُ تَقَبَلَّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَالْآخَرُ لِوِلَادَةِ عِيسَى. وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ هُنَا: قِيلَ:
نِسَاءُ عَالَمِ زَمَانِهَا وَهُوَ الْحَقُّ وَقِيلَ: نِسَاءُ جَمِيعِ الْعَالَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ الِاصْطِفَاءُ الْآخَرُ تَأْكِيدٌ لِلِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جَمِيعًا: واحد. قوله: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أَيْ: أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، أو أديميها، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِي الْقُنُوتِ، وَقَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ، أَوْ لِكَوْنِ صَلَاتِهِمْ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا، مَعَ كَوْنِ الْوَاوِ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ بِلَا تَرْتِيبٍ، وَقَوْلُهُ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ظَاهِرُهُ: أَنَّ رُكُوعَهَا يَكُونُ مَعَ رُكُوعِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ تُصَلِّ مَعَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا سَبَقَ من الأمور التي أخبره اللَّهُ بِهَا. وَالْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنَى: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْوَحْيُ: الْإِشَارَةُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالرِّسَالَةُ، وَكُلُّ مَا ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه. قوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: تحضرنهم، يَعْنِي:
الْمُتَنَازِعِينَ فِي تَرْبِيَةِ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا نَفَى حُضُورَهُ عِنْدَهُمْ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الوحي، كَانَ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ صَحِيحًا لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ للعلم له إِلَّا الْمُشَاهَدَةُ وَالْحُضُورُ، وَهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ فثبت كونه وحيا تَسْلِيمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَلَا مِمَّنْ يُلَابِسُ أَهْلَهَا. وَالْأَقْلَامُ: جَمْعُ قَلَمٍ، مِنْ قلمه: إذا قطعه، أي: أقلامهم يَكْتُبُونَ بِهَا وَقِيلَ: قُدَّاحُهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أَيْ: يَحْضُنُهَا، أَيْ: يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَيُّهُمْ يكفلها، وذلك
388
عِنْدَ اخْتِصَامِهِمْ فِي كَفَالَتِهَا، فَقَالَ زَكَرِيَّا: هُوَ أَحَقُّ بِهَا، لَكَوْنِ خَالَتِهَا عِنْدَهُ، وَهِيَ: أَشْيَعُ أُخْتُ حَنَّةَ أُمِّ مَرْيَمَ، وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا، لِكَوْنِهَا بِنْتَ عَالِمِنَا، فَاقْتَرَعُوا، وَجَعَلُوا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ قَلَمُهُ وَلَمْ يَجْرِ مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ صَاحِبُهَا، فَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ وَوَقَفَ قَلَمُ زَكَرِيَّا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ أَثْبَتَ الْقُرْعَةَ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا ذَلِكَ، يَعْنِي: فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ عِنْدَ مَرْيَمَ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَتَى بِهَذَا مَرْيَمَ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ قَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا، فَذَلِكَ حِينَ دَعَا رَبَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً يَقُولُ: مُبَارَكَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَيْ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْمِحْرَابُ: الْمُصَلَّى. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا هَذِهِ الْمَذَابِحَ» يَعْنِي الْمَحَارِيبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَّخِذُوا فِي مَسَاجِدِهِمْ مَذَابِحَ كَمَذَابِحِ النَّصَارَى» وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ: يَحْيَى، لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ. وَأَخْرَجُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ قال: عيسى ابن مَرْيَمَ، هُوَ الْكَلِمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَيِ الْخَالَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ بِعِيسَى سُجُودُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَسَيِّداً قَالَ: حَلِيمًا تَقِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّيِّدُ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: السَّيِّدُ: الْفَقِيهُ الْعَالِمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَيِّداً وَحَصُوراً قَالَ: السَّيِّدُ: الْحَلِيمُ، وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْحَصُورِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يُنْزِلُ الْمَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«كَانَ ذَكَرُهُ مِثْلَ هُدْبَةِ الثَّوْبِ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَقْوَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: اسْمُ أُمِّ يَحْيَى: أَشْيَعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ: بِالْحَمْلِ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ:
إِنَّمَا عُوقِبَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَافَهَتْهُ بِذَلِكَ مُشَافَهَةً فَبَشَّرَتْهُ بِيَحْيَى، فَسَأَلَ الْآيَةَ بَعْدَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَمْزاً
قَالَ: الرَّمْزُ: بِالشَّفَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ
389
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ قَالَ: الْعَشِيُّ: مَيْلُ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، وَالْإِبْكَارُ: أَوَّلُ الْفَجْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نسائها خديجة بنت خويلد «١» ». وأخرج ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ خَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ وَمَرْيَمُ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ» وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا تُفِيدُ أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، لَا نِسَاءِ جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعُ نِسْوَةٍ سَادَاتِ نِسَاءِ عَالَمِهِنَّ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَأَفْضَلُهُنَّ عَالَمًا فَاطِمَةُ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مجاهد في قوله: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ قال: أطيلي الركوع يَعْنِي الْقِيَامَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اقْنُتِي لِرَبِّكِ قَالَ: أَخْلِصِي. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَطِيعِي رَبَّكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمَّا وُضِعَتْ فِي الْمَسْجِدِ اقْتَرَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمُصَلَّى، وَهُمْ يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ، فَاقْتَرَعُوا بِأَقْلَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا. قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ فَذَهَبَتْ مَعَ الْجَرْيَةِ، وَصَعِدَ قَلَمُ زَكَرِيَّا، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْأَقْلَامَ هِيَ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عطاء أنها القداح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
(١). المعنى: أن كلا منهما خير نساء الأرض في عصرها.
390
قَوْلُهُ: إِذْ قالَتِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَتِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: يَخْتَصِمُونَ وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ:
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ.
والمسيح اختلف فيه ممّا ذا أُخِذَ؟ فَقِيلَ: مِنَ الْمَسْحِ، لِأَنَّهُ: مَسَحَ الْأَرْضَ، أَيْ: ذَهَبَ فِيهَا فَلَمْ يَسْتَكِنَّ بِكُنٍّ وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا برىء، فَسُمِّيَ مَسِيحًا، فَهُوَ عَلَى هَذَيْنِ: فَعَيْلٌ، بِمَعْنَى: فَاعِلٍ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ بِالدُّهْنِ الَّذِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَمْسَحُ بِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْأَخْمَصَيْنِ وَقِيلَ:
لِأَنَّ الْجَمَالَ مَسَحَهُ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْوَالِ: فَعِيلٌ، بِمَعْنَى:
مَفْعُولٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْمَسِيحُ ضِدُّ الْمَسِيخِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ: مَشِيخًا، بِالْمُعْجَمَتَيْنِ، فَعُرِّبَ كَمَا عُرِّبَ مُوشَى بِمُوسَى. وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَسُمِّيَ مَسِيحًا: لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ، أَيْ: يَطُوفُ بُلْدَانَهَا إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقَوْلُهُ: عِيسَى عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ بَدَلٌ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مَنْ عَاسَهُ يَعُوسُهُ إِذَا سَاسَهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ مُعَرَّبٌ مِنْ أَيْشُوعَ. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي الْإِنْجِيلِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ اسْمَهُ يَشُوعُ بِدُونِ هَمْزَةٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ: ابْنُ مَرْيَمَ، مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ مَعَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُوَلَدُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَنُسِبَ إِلَى أُمِّهِ. وَالْوَجِيهُ: ذُو الْوَجَاهَةِ، وَهِيَ: الْقُوَّةُ وَالْمَنَعَةُ، وَوَجَاهَتُهُ فِي الدُّنْيَا النُّبُوَّةُ، وَفِي الْآخِرَةِ الشَّفَاعَةُ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ: كَلِمَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَجِيهًا. وَالْمَهْدُ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، وَمَهَّدْتُ الْأَمْرَ: هَيَّأْتُهُ وَوَطَّأْتُهُ. وَالْكَهْلُ: هُوَ مَنْ كَانَ بَيْنَ سِنِّ الشَّبَابِ وَالشَّيْخُوخَةِ، أَيْ:
يُكَلِّمُ النَّاسَ حَالَ كَوْنِهِ رَضِيعًا فِي الْمَهْدِ وَحَالَ كَوْنِهِ كَهْلًا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ كَهْلًا مَعْطُوفٌ عَلَى وَجِيهًا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنَ الصَّالِحِينَ عَطْفٌ عَلَى وَجِيهًا، أَيْ:
هُوَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ. قَوْلُهُ: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ؟ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ عَلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ كَوْنِ لَهُ أَبٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْأَحْكَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ هُنَا الْإِرَادَةُ: أَيْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا مُزَاوَلَةٍ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ. قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُبَشِّرُكَ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ وَإِنَّ اللَّهَ يُعَلِّمُهُ وَقِيلَ: عَلَى يَخْلُقُ: أَيْ: وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ، أَوْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ سِيقَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا.
وَالْكِتَابُ: الْكِتَابَةُ. وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ وَقِيلَ: تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ، وَانْتِصَابُ: رَسُولًا، عَلَى تَقْدِيرِ: وَيَجْعَلُهُ
391
رَسُولًا، أَوْ وَيُكَلِّمُهُمْ رَسُولًا، أَوْ وَأَرْسَلْتُ رَسُولًا وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجِيهاً فَيَكُونُ حَالًا، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى النُّطْقِ، أَيْ: وَنَاطِقًا، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ فِي قوله: ورسولا، مقحمة، والرسول: حالا. وقوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مَعْمُولٌ لِرَسُولٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى النُّطْقِ كَمَا مَرَّ وَقِيلَ: أَصْلُهُ: بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، فَحُذِفَ الْجَارُ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: تَقُولُ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ. وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعَلَامَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَوْلُهُ: أَنِّي أَخْلُقُ أَيْ: أُصَوِّرُ، وَأُقَدِّرُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أَوْ بَدَلٌ مِنْ آيَةٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ أَنِّي، وَقُرِئَ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَخْلُقُ لَكُمْ خَلْقًا أَوْ شَيْئًا مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَنْفُخُ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ، أَوْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الطَّيْرِ، أَيِ: الْوَاحِدُ مِنْهُ وَقِيلَ: إِلَى الطِّينِ، وَقُرِئَ: فَيَكُونُ طَائِرًا وَطَيْرًا، مِثْلَ تَاجِرٍ وَتَجْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الْخُفَّاشِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّ لَهُ ثَدْيًا وَأَسْنَانًا وَأُذُنًا وَيَحِيضُ وَيَطْهُرُ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ طَلَبُوا خَلْقَ الْخُفَّاشِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِكَوْنِهِ يَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ، وَيَلِدُ كَمَا يَلِدُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الطَّيْرِ، وَلَا يَبِيضُ كَمَا يَبِيضُ سَائِرُ الطُّيُورِ، وَلَا يُبْصِرُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ، وَلَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا يَرَى فِي سَاعَتَيْنِ: بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَاعَةً، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَاعَةً، وَهُوَ يَضْحَكُ كَمَا يَضْحَكُ الْإِنْسَانُ وَقِيلَ: إِنَّ سُؤَالَهُمْ لَهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ، قِيلَ: كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَهُ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا، لِيَتَمَيَّزَ فِعْلُ اللَّهِ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا الْإِذْنُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَجْرَاهُ عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ: كَانَتْ تَسْوِيَةُ الطِّينِ وَالنَّفْخِ مِنْ عِيسَى، وَالْخَلْقُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْكَمَهُ: الْعَمَى يُوَلَدُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَقَدْ يَعْرِضُ، يُقَالُ: كَمِهَ، يَكْمَهُ، كَمَهًا: إِذَا عَمِيَ، وَكَمِهْتُ عَيْنَهُ: إِذَا أَعْمَيْتَهَا وَقِيلَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَقِيلَ: هُوَ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ. وَالْبَرَصُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ: بَيَاضٌ يَظْهَرُ فِي الْجِلْدِ.
وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبْرِئُ مِنْ أَمْرَاضٍ عِدَّةٍ كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرءان فِي الْغَالِبِ بِالْمُدَاوَاةِ، وَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، قَدِ اشْتَمَلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى قَصَصٍ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أَيْ: أَخْبِرُكُمْ بِالَّذِي تَأْكُلُونَهُ، وَبِالَّذِي تَدَّخِرُونَهُ. قَوْلُهُ: وَمُصَدِّقاً عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَرَسُولًا وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَجِئْتُكُمْ مُصَدِّقًا. قَوْلُهُ: وَلِأُحِلَّ أَيْ:
وَلِأَجْلِ أَنْ أُحِلَّ، أَيْ: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجِئْتُكُمْ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَطْعِمَةِ فِي التَّوْرَاةِ، كَالشُّحُومِ، وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ مَا حَرَّمَتْهُ عَلَيْهِمُ الْأَحْبَارُ وَلَمْ تُحَرِّمْهُ التَّوْرَاةُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ، بِمَعْنَى: كُلَّ، وَأَنْشَدَ:
392
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْبَعْضَ وَالْجُزْءَ لَا يَكُونَانِ بِمَعْنَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ عِيسَى لَمْ يُحَلِّلْ لَهُمْ جَمِيعَ مَا حَرَّمَتْهُ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَلِّلِ الْقَتْلَ ولا السرقة وَلَا الْفَاحِشَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْإِنْجِيلِ، مَعَ كَوْنِهَا ثَابِتَةً فِي التَّوْرَاةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَيْنِ، ولكنه قد يقع البعض موضع الْكُلِّ مَعَ الْقَرِينَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أَيْ: بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ كُلِّهِ. قَوْلُهُ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ آيَةً، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَمَجِيئُهُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَكُونُ عَلَامَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هذه الآية هي الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فَتَكُونُ تَكْرِيرًا لِقَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ الْآيَةَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِكَلِمَةٍ قَالَ: عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَهْدُ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَةٍ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَمَةٍ تجرر وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْتِ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَيَقُولُونَ: سَرَقْتِ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا عِيسَى، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ». وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا قَالَ: يُكَلِّمُهُمْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَهْلُ: هُوَ مَنْ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَهْلُ: الْحَلِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قَالَ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا خَلَقَ عِيسَى طائرا واحدا وهو الخفاش. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ
393
الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يولد أعمى. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الْأَعْمَى الْمَمْسُوحُ الْعَيْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ:
الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجُوا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالُوا: الْأَكْمَهُ: الْأَعْمَشُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِذَا سَرَّحَ رُسُلَهُ يُحْيُونَ الْمَوْتَى يَقُولُ لَهُمْ قُولُوا: كَذَا، فَإِذَا وَجَدْتُمْ قَشْعَرِيرَةً وَدَمْعَةً فَادْعُوا عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ قَالَ: بِمَا أَكَلْتُمُ الْبَارِحَةَ مِنْ طَعَامٍ وَمَا خَبَّأْتُمْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ مِنَ الْمَائِدَةِ وَما تَدَّخِرُونَ مِنْهَا، وَكَانَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَائِدَةِ حِينَ نَزَلَتْ أَنْ يَأْكُلُوا وَلَا يَدَّخِرُوا، فَأَكَلُوا، وَادَّخَرُوا، وَخَانُوا، فَجُعِلُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ وَهْبٍ: أَنَّ عِيسَى كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى، وَكَانَ يُسْبِتُ وَيَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي لَمْ أَدْعُكُمْ إِلَى خِلَافِ حَرْفٍ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا لِأَحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَأَضَعَ عَنْكُمْ مِنَ الْآصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ: قَالَ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى أَلَيْنُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَكَانَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لُحُومُ الْإِبِلِ وَالثُّرُوبِ «١»، فَأَحَلَّهَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَأُحِلَّتْ لَهُمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى، وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ السَّمَكِ، وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيْرِ، وَفِي أَشْيَاءَ أُخَرَ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَجَاءَهُمْ عِيسَى بِالتَّخْفِيفِ مِنْهُ فِي الْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قال: ما بين لهم من الأشياء كلها وما أعطاه ربه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٨]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
قَوْلُهُ: فَلَمَّا أَحَسَّ أَيْ: عَلِمَ وَوَجَدَ: قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى: أَحَسَّ: عَرَفَ، وَأَصْلُ ذلك: وجود الشيء بالحاسة، والإحساس: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ «٢». وَالْمُرَادُ بِالْإِحْسَاسِ هُنَا: الْإِدْرَاكُ الْقَوِيُّ الْجَارِي مَجْرَى الْمُشَاهَدَةِ. وَبِالْكُفْرِ: إِصْرَارُهُمْ عَلَيْهِ وَقِيلَ: سَمِعَ مِنْهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادُوا قَتْلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَمَّا أَدْرَكَ مِنْهُمْ عِيسَى إرادة قتله التي هي كفر
(١). الثروب: جمع ثرب، وهو شحم رقيق على الكرش والأمعاء.
(٢). مريم: ٩٨.
394
قَالَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ. الْأَنْصَارُ: جَمْعُ نَصِيرٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حالا، أي:
متوجها إلى الله، أو ملتجئا إِلَيْهِ، أَوْ ذَاهِبًا إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِلَى: بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «١» وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَنْ أَنْصَارِي فِي السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ.
وَالْحَوَارِيُّونَ: جَمْعُ حَوَارِيٍّ، وَحَوَارِيُّ الرَّجُلِ: صَفْوَتُهُ وَخُلَاصَتُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ الْبَيَاضُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، حَوَّرْتُ الثِّيَابَ بَيَّضْتُهَا. وَالْحَوَارِيُّ مِنَ الطَّعَامِ: مَا حُوِّرَ: أَيْ بُيِّضَ، وَالْحَوَارِيُّ أَيْضًا: النَّاصِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ» وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ وَقِيلَ: لِخُلُوصِ نِيَّاتِهِمْ وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ خَاصَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَمَعْنَى أَنْصَارِ اللَّهِ: أَنْصَارُ دِينِهِ وَرُسُلِهِ. وَقَوْلُهُ: آمَنَّا بِاللَّهِ اسْتِئْنَافٌ جَارٍ مَجْرَى الْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَبْعَثُ عَلَى النُّصْرَةِ، قَوْلُهُ: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيِ: اشْهَدْ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّا مُخْلِصُونَ لِإِيمَانِنَا مُنْقَادُونَ لِمَا تُرِيدُ مِنَّا. وَمَعْنَى بِما أَنْزَلْتَ: مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كُتُبِهِ. وَالرَّسُولُ: عِيسَى، وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيِ: اتَّبَعْنَاهُ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ، فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِرَسُولِكَ بِالرِّسَالَةِ. أَوِ: اكْتُبْنَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِأُمَمِهِمْ، وَقِيلَ مَعَ أُمَّةِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا أَيِ: الَّذِينَ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَهُمْ كُفَّارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَكْرُ اللَّهِ: اسْتِدْرَاجُهُ لِلْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكْرُ اللَّهِ: مُجَازَاتُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «٢» وَهُوَ خادِعُهُمْ
«٣» وَأَصْلُ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ: الِاغْتِيَالُ وَالْخَدْعُ: حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ هُنَا: إِلْقَاءُ شِبْهِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ، وَرَفْعُ عِيسَى إِلَيْهِ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ: أَقْوَاهُمْ مَكْرًا، وَأَنْفَذُهُمْ كَيْدًا، وَأَقْوَاهُمْ عَلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ بِمَنْ يُرِيدُ إِيصَالَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، قَوْلُهُ: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى الْعَامِلُ فِي إِذْ:
مَكَرُوا، أَوْ: قَوْلُهُ: خَيْرُ الْماكِرِينَ أَوْ: فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: إِنِّي رَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِكَ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: مُتَوَفِّيكَ: قَابِضُكَ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: مُسْتَوْفِي أَجَلَكَ، وَمَعْنَاهُ: إِنِّي عَاصِمُكَ مِنْ أَنْ يَقْتُلَكَ الْكُفَّارُ، وَمُؤَخِّرٌ أَجَلَكَ إِلَى أَجَلٍ كَتَبْتُهُ لَكَ، وَمُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ لَا قَتْلًا بِأَيْدِيهِمْ. وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى تَأْوِيلِ الْوَفَاةِ بِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ وَفَاةٍ، كَمَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نُزُولُهُ وَقَتْلُهُ الدَّجَّالَ، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَوَفَّاهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَفَاةِ هُنَا: النَّوْمُ، وَمِثْلُهُ:
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «٤» أَيْ: يُنِيمُكُمْ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرُونَ. قَوْلُهُ: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من خبث جوارهم بِرَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبُعْدِهِ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: الذي اتَّبَعُوا مَا جِئْتَ بِهِ وَهُمْ خُلَّصُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِي الْغُلُوِّ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَ مِنْ جَعْلِهِ إِلَهًا، وَمِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السلام، ووصفوه بما يستحقه من دون
(١). النساء: ٢.
(٢). البقرة: ١٥.
(٣). النساء: ١٤٢.
(٤). الأنعام: ٦٠. [.....]
395
غُلُوٍّ، فَلَمْ يُفَرِّطُوا فِي وَصْفِهِ، كَمَا فَرَّطَتِ الْيَهُودُ، وَلَا أَفْرَطُوا كَمَا أَفْرَطَتِ النَّصَارَى. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: أَنَّ النَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْيَهُودِ، غَالِبِينَ لَهُمْ، قَاهِرِينَ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُمُ الرُّومُ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ: هُمُ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَغَلَبَةُ النَّصَارَى لِطَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ لِكُلِّ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ بِطَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تُفِيدُهُ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ، بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ ظَاهِرَةٌ عَلَى كُلِّ الْمِلَلِ، قَاهِرَةٌ لَهَا مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَيْهَا.
وَقَدْ أفردت هذه الآية بمؤلف سميته: [وبل الْغَمَامَةِ فِي تَفْسِيرِ- وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] فَمَنْ رَامَ اسْتِيفَاءَ مَا فِي الْمَقَامِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى ذَلِكَ. وَالْفَوْقِيَّةُ هُنَا: هِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْحُجَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَحْكُمُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَيَكُونُ الْمُسْلِمُونَ أَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِذْ ذَاكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى هذه الحال. قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أَيْ: رُجُوعُكُمْ، وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلْقَصْرِ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَئِذٍ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: تَفْسِيرٌ لِلْحُكْمِ. قَوْلُهُ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ، أَمَّا تَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا: فَبِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ: فبعذاب النار. قوله: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أَيْ: نُعْطِيهِمْ إِيَّاهَا كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، قُرِئَ: بِالتَّحْتِيَّةِ وَبِالنُّونِ. وَقَوْلُهُ:
لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ كِنَايَةٌ عَنْ بُغْضِهِمْ، وَهِيَ جُمْلَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَلَفَ مِنْ نَبَأِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ ما بعده، ومِنَ الْآياتِ حَالٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
وَالْحَكِيمُ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحُكْمِ، أَوِ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا خَلَلَ فِيهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ: كَفَرُوا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَذَلِكَ حِينَ اسْتَنْصَرَ قَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ قَالَ: مَعَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَشَهِدُوا لِلرُّسُلِ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ قَالَ: مَعَ الشَّاهِدِينَ مَعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَصَرُوا عِيسَى وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَأْخُذُ صُورَتِي فَيُقْتَلُ وَلَهُ الْجَنَّةُ، فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إِلَى السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَقُولُ: مُمِيتُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مُتَوَفِّيكَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَأَخْرَجَ الْآخَرَانِ عَنْهُ قَالَ: وَفَاةُ الْمَنَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ: أَيْ:
رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ قَالَ: مُتَوَفِّيكَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ
396
بِوَفَاةِ مَوْتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: تَوَفَّى اللَّهُ عِيسَى ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ حَتَّى رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: أَمَاتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَرَفَعَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ قَالَ: تَوَفَّى اللَّهُ عِيسَى سَبْعَ سَاعَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: رُفِعَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ وَهْبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: طَهَّرَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُفَّارِ قَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى فِطْرَتِهِ وَمِلَّتِهِ وَسُنَّتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يُبَالُونَ بِمَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» قَالَ النُّعْمَانُ: مَنْ قَالَ إِنِّي أَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ فَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: النَّصَارَى فَوْقَ الْيَهُودِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بَلَدٌ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا وَهُمْ فَوْقَ الْيَهُودِ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ، هُمْ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا مستذلّون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
تَشْبِيهُ عِيسَى بِآدَمَ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَآدَمَ، وَلَا يَقْدَحُ فِي التَّشْبِيهِ اشْتِمَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى زِيَادَةٍ وَهُوَ كَوْنُهُ لَا أُمَّ لَهُ: كَمَا أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ، فَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِالتَّشْبِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ غَرَابَةً مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَأَعْظَمَ عَجَبًا، وَأَغْرَبَ أُسْلُوبًا. وَقَوْلُهُ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الْمَثَلِ، أَيْ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ، بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ تُرَابٍ. وَفِي ذَلِكَ دَفْعٌ لِإِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ: كُنْ بَشَرًا فَكَانَ بَشَرًا. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ هُوَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ: جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. قَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الْخِطَابُ إِمَّا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: لَا يَكُنْ أَحَدٌ مِنْكُمْ مُمْتَرِيًا، أَوْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ لَهُ لِزِيَادَةِ التَّثْبِيتِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُ شَكٌّ فِي ذَلِكَ، قَوْلُهُ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَالْمُرَادُ بِهِ: الْخَاصُّ، وَهُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ وَفَدُوا إليه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ نَجْرَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ
397
وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ المباهلة منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِكُلِّ مَنْ حَاجَّهُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ، وَضَمِيرُ فِيهِ: لِعِيسَى، وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْعِلْمِ هُنَا: مَجِيءُ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَالْمُحَاجَّةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ. وَقَوْلُهُ: تَعالَوْا أَيْ: هَلُمُّوا، وَأَقْبِلُوا، وَأَصْلُهُ: الطَّلَبُ لِإِقْبَالِ الذَّوَاتِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ حَاضِرًا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ هُوَ حَاضِرٌ عِنْدَكَ: تَعَالَ نَنْظُرْ فِي هَذَا الْأَمْرِ. قَوْلُهُ: نَدْعُ أَبْناءَنا إِلَخْ، اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْبَنِينَ عَنِ الْبَنَاتِ، إِمَّا لِدُخُولِهِنَّ فِي النِّسَاءِ، أَوْ لِكَوْنِهِمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مَوَاقِفَ الْخِصَامِ دُونَهُنَّ وَمَعْنَى الْآيَةِ: لِيَدْعُ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ أَبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ وَنَفْسَهُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْبَنَاتِ يُسَمَّوْنَ: أَبْنَاءً، لكونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَرَادَ بِالْأَبْنَاءِ الْحَسَنَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: نَبْتَهِلْ أَصْلُ الِابْتِهَالِ: الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ بِاللَّعْنِ وَغَيْرِهِ، يُقَالُ: بَهَلَهُ اللَّهُ: أَيْ لَعَنَهُ، وَالْبَهْلُ: اللَّعْنُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْكِسَائِيُّ: نَبْتَهِلْ:
نَلْتَعِنْ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فِي كُهُولٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
أَيْ: فَاجْتَهَدَ فِي هَلَاكِهِمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ دُعَاءٍ يُجْتَهَدُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْتِعَانَا.
قوله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ عَطْفٌ عَلَى نَبْتَهِلْ مُبَيِّنٌ لِمَعْنَاهُ. قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا أَيِ: الَّذِي قَصَّهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ نَبَأِ عِيسَى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الْقَصَصُ: التَّتَابُعُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُصُّ أَثَرَ فُلَانٍ:
أَيْ يَتْبَعُهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلْحَصْرِ، وَدُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَزِيَادَةُ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ إِلهٍ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِالتَّثْلِيثِ مِنَ النَّصَارَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لا نلاعنه، فو الله لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نُفْلِحُ أَبَدًا نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، فَقَالُوا لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ، فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ:
هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِمُ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ، فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ تَذْكُرُ صَاحِبَنَا؟ قَالَ: مَنْ هُوَ؟
قَالُوا: عِيسَى، تَزْعُمُ: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالُوا: فَهَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ عِيسَى وَأُنْبِئْتَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ إِذَا أَتَوْكَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى وُجُوهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ على النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، فَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَا: أَسْلَمْنَا يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ:
كَذَبْتُمَا إِنْ شِئْتُمَا أخبرتكم مَا يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ، قَالَا: فَهَاتِ. قَالَ: حُبُّ الصَّلِيبِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. قَالَ جَابِرٌ: فَدَعَاهُمَا إِلَى الْمُلَاعَنَةِ فَوَاعَدَاهُ عَلَى الْغَدِ، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أَنْ يُجِيبَاهُ وَأَقَرَّا لَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ فَعَلَا لَأَمْطَرَ الْوَادِي عَلَيْهِمَا نَارًا. قَالَ جَابِرٌ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا الْآيَةَ. قَالَ جَابِرٌ: أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ
398
رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ، وَأَبْنَاءَنَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَنِسَاءَنَا فَاطِمَةُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: هَلْ لَكَ أَنْ نُلَاعِنَكَ؟. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: فَقُلْ تَعالَوْا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا الْآيَةَ، قَالَ: فَجَاءَ بِأَبِي بَكْرٍ وَوَلَدِهِ، وَبِعُمَرَ وَوَلَدِهِ، وَبِعُثْمَانَ وَوَلَدِهِ، وَبِعَلِيٍّ وَوَلَدِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ نَبْتَهِلْ نَجْتَهِدْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا الْإِخْلَاصُ، يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَهَذَا الدُّعَاءُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مدّا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
قِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ نَجْرَانَ، بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالْبَعْضِ، لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالسَّوَاءُ: الْعَدْلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ فِي معنى العدل سوى وسوى، فَإِذَا فَتَحْتَ السِّينَ مَدَدْتَ، وَإِذَا ضَمَمْتَ أَوْ كسرت قصرت. قال زهير:
أروني خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِلَى كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَالْمَعْنَى: أَقْبِلُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، وَهِيَ: الْكَلِمَةُ الْعَادِلَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ: كَلِمَةٍ، أَوْ رفع إلى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ أَنْ لَا نَعْبُدَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: أَنْ، مُفَسِّرَةً لَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً تَبْكِيتٌ لِمَنِ اعْتَقَدَ رُبُوبِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ وَبَعْضٌ مِنْهُمْ، وَإِزْرَاءٌ عَلَى مَنْ قَلَّدَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ فَحَلَّلَ مَا حَلَّلُوهُ لَهُ، وَحَرَّمَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ مَنْ قَلَّدَهُ رَبًّا، وَمِنْهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «١» وَقَدْ جَوَّزَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ الْجَزْمَ فِي: وَلا نُشْرِكَ وَلا يَتَّخِذَ عَلَى التَّوَهُّمِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ لِأَحْكَامِهِ، مُرْتَضُونَ بِهِ، مُعْتَرِفُونَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ:
سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، إلى قوله:
(١). التوبة: ٣٤.
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكُفَّارِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا يَهُودَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَجَاهَدَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دَعَا يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكَلِمَةِ السَّوَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ قَالَ: عَدْلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً قَالَ: لَا يُطِيعُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ أَنْ يطيع الناس سادتهم وَقَادَتَهُمْ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً قال: سجود بعضهم لبعض.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
لَمَّا ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَبَانَ بِأَنَّ الْمِلَّةَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْمِلَّةَ النَّصْرَانِيَّةَ إِنَّمَا كَانَتَا مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَبْيَنُ حُجَّةٍ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ نَزَلَا مِنْ بَعْدِهِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا اسْمٌ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدْيَانِ وَاسْمُ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ كِتَابٍ. انْتَهَى، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْإِنْجِيلَ مَشْحُونٌ بِالْآيَاتِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الْيَهُودِ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ فِيهِ فِي مَوَاضِعِ ذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَفِي أَوَائِلِهِ التَّبْشِيرُ بِعِيسَى، ثُمَّ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، يَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَالْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ: كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى أَلْفَا سَنَةٍ. وَكَذَا فِي الْكَشَّافِ. قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ: تَتَفَكَّرُونَ فِي دُحُوضِ حُجَّتِكُمْ وَبُطْلَانِ قَوْلِكُمْ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ الأصل في ها أنتم: أَأَنْتُمْ، أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً، لِأَنَّهَا أُخْتُهَا، كَذَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَالْأَخْفَشُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ: هَانْتُمْ وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيْ: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ الْحَمْقَى حَاجَجْتُمْ، وَفِي هَؤُلَاءِ لُغَتَانِ: الْمَدُّ وَالْقَصْرُ. وَالْمُرَادُ بِمَا لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ: هُوَ مَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ وَإِنْ خَالَفُوا مُقْتَضَاهُ وَجَادَلُوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ هُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ، بَلْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ الْجِدَالِ مِنَ الْمُحِقِّ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَلَوْ مُحِقًّا فَأَنَا ضَمِينُهُ عَلَى اللَّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ». وَقَدْ وَرَدَ تَسْوِيغُ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ
400
أَحْسَنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصُرَ جَوَازُهُ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي فِعْلِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، أَوْ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْمُجَادَلَةُ فِيهَا بِالْمُحَاسَنَةِ لَا بِالْمُخَاشَنَةِ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا حَاجَجُوا بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَنِيفِ. قَوْلُهُ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ أَيْ: أَحَقَّهُمْ بِهِ وَأَخَصَّهُمْ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّتَهُ وَاقْتَدَوْا بِدِينِهِ وَهذَا النَّبِيُّ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيما وتشريفا، وأولويته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِإِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَمِنْ جِهَةِ مُوَافَقَتِهِ لِدِينِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إبراهيم إلا نصرانيا، فنزل فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يَقُولُ: فِيمَا شَهِدْتُمْ وَرَأَيْتُمْ وَعَايَنْتُمْ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يَقُولُ: فِيمَا لَمْ تَشْهَدُوا وَلَمْ تَرَوْا وَلَمْ تُعَايِنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَّا الَّذِي لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَمَا أُمِرُوا بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَشَأْنُ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُعْذَرُ مَنْ حَاجَّ بِعِلْمٍ وَلَا يُعْذَرُ مَنْ حَاجَّ بِالْجَهْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ قَالَ: أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَأَدْحَضَ حُجَّتَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ غَنْمٍ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَذَكَرَ قِصَّتَهُمْ مَعَهُ، وَمَا قَالُوهُ لَهُ لَمَّا قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّهُمْ يَشْتُمُونَ عِيسَى، وَهِيَ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ ثُمَّ قَالَ: فَأُنْزِلَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ خُصُومَتُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي خَلِيلُ رَبِّي ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّبِيِّ الْمُتَّقُونَ، فَكُونُوا أَنْتُمْ سَبِيلَ ذَلِكَ، فَانْظُرُوا أَنْ لَا يَلْقَانِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الْأَعْمَالَ، وَتَلْقَوْنِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا، فَأَصُدُّ عَنْكُمْ بِوَجْهِي، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلِيُّ إِبْرَاهِيمَ مِمَّنْ مَضَى، وممن بقي.
401

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٩ الى ٧٤]

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
الطَّائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ: يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، حِينَ دَعَوْا جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دِينِهِمْ وَسَيَأْتِي، وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَكُونُ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ قَدَمِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ، فَلَا يَعُودُ وَبَالُ مَنْ أَرَادَ فِتْنَتَهُمْ إِلَّا عَلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ: مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ دلائل نبوّة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ مَا فِي كُتُبِكُمْ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ، كَتْمُ كُلِّ الْآيَاتِ عِنَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حَقٌّ. وَلَبْسُ الحق بالباطل: خلطه بما يعتمدونه مِنَ التَّحْرِيفِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَوْلُهُ: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ، قَالُوا لِلسَّفَلَةِ مِنْ قَوْمِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَوَجْهُ النَّهَارِ: أَوَّلُهُ، وَسُمِّيَ: وَجْهًا، لِأَنَّهُ أَحْسَنُهُ، قَالَ:
وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ النَّهَارِ مُنِيرَةً كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِكَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَدَيْهِمْ عِلْمٌ، فَإِذَا كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَقَعَ الرَّيْبُ لِغَيْرِهِمْ، وَاعْتَرَاهُ الشَّكُّ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ ثَبَّتَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَكَّنَ أَقْدَامَهُمْ، فَلَا تُزَلْزِلُهُمْ أَرَاجِيفُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَلَا تُحَرِّكُهُمْ رِيحُ الْمُعَانِدِينَ. قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ لِلسَّفَلَةِ: لَا تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَدْ أَسْلَمَ فَأَظْهَرُوا لَهُمْ ذَلِكَ خِدَاعًا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لِيَفْتَتِنُوا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ عَلَى هَذَا: مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، يَعْنِي: أَنَّ مَا بِكُمْ مِنَ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ دَعَاكُمْ إِلَى أَنْ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ. وَقَوْلُهُ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى: أَنْ يُؤْتَى، أَيْ: لا تؤمنوا إِيمَانًا صَحِيحًا، وَتُقِرُّوا بِمَا فِي صُدُورِكُمْ إِقْرَارًا صادقا لغير من تبع دينكم، إن فعلتم ذلك ودبرتموه فإن الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّوكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا تُؤْمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَتَكْفُرُوا آخِرَهُ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، أَيْ: لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ إِسْلَامَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ غَيْظًا وَأَمَاتَهُمْ حَسْرَةً وَأَسَفًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى عَلَى هَذَا: مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ كَالْأَوَّلِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهَ:
أَنْ يُؤْتى مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُؤْمِنُوا أي: لا تظهروا إيمانكم ب أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَيْ: أَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا لِأَتْبَاعِ دِينِكُمْ
402
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دينكم، آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بالمدّ على الاستفهام، تأكيدا للإنكار الذي قالوه أنه لا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوهُ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا: أَنْ وَمَا بَعْدَهَا: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: تُقِرُّونَ أَنْ يُؤْتَى، وَقَدْ قَرَأَ «آنْ يُؤْتَى» بِالْمَدِّ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالْخَافِضُ مَحْذُوفٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْتَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تُخْبِرُوا بِمَا فِي كِتَابِكُمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِ غَيْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ كَلَامُ الْيَهُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ثم قال الله لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَيْ: إِنَّ الْبَيَانَ الْحَقَّ بَيَانُ اللَّهِ، بَيَّنَ أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، عَلَى تَقْدِيرِ:
لَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «١» أي: لئلا تضلوا، و «أو» فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ بِمَعْنَى: حَتَّى، وَكَذَلِكَ قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَهِيَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ: عَاطِفَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ بَدَلٌ مِنَ الْهُدَى، وَأَنْ يُؤْتَى خَبَرُ إِنَّ، عَلَى مَعْنَى: قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْظَمُ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ إِشْكَالًا وَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يُؤْتِي، بِكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنْ يُؤْتَى، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا النَّافِيَةُ. وَقَوْلُهُ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قِيلَ: هِيَ النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: أَعَمُّ مِنْهَا، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَدَفْعٌ لِمَا قَالُوهُ وَدَبَّرُوهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي آلِ عِمْرَانَ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ فِي النَّصَارَى، وَيَدْفَعُ هَذَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ خِطَابَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى النَّصَارَى أَلْبَتَّةَ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي وَدَّتْ إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الطَّائِفَةُ الْقَائِلَةُ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وهي مِنَ الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قَالَ: تَشْهَدُونَ أَنَّ نَعْتَ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِكُمْ، ثُمَّ تَكْفُرُونَ بِهِ، وَتُنْكِرُونَهُ، وَلَا تُؤْمِنُونَ بِهِ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ لَيْسَ لِلَّهِ دِينٌ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَا عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ يَقُولُ: لَمْ تَخْلِطُونَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ: الْإِسْلَامُ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يَقُولُ: تَكْتُمُونَ شَأْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عبد الله بن الصيف، وعديّ ابن زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غَدْوَةً، وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً، حَتَّى نَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ، فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فأنزل الله فيهم:
(١). النساء: ١٧٦.
403
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتْ طائِفَةٌ الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا يَكُونُونَ مَعَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُجَالِسُونَهُمْ، وَيُكَلِّمُونَهُمْ، فَإِذَا أَمْسَوْا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ كَفَرُوا بِهِ وَتَرَكُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قَالَ: هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ حَسَدًا مِنْ يَهُودَ أَنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ فِي غَيْرِهِمْ، وَإِرَادَةُ أَنْ يُتَابَعُوا عَلَى دِينِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ قال:
أمة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يَقُولُ الْيَهُودُ: فَعَلَ اللَّهُ بِنَا كَذَا وَكَذَا مِنَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى أَنْزَلَ عَلَيْنَا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكُمْ أَفْضَلَ فَقُولُوا: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَقُولُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِكُمْ، وَبَعَثَ نَبِيًّا كَنَبِيِّكُمْ حَسَدْتُمُوهُ عَلَى ذَلِكَ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَقُولُ: هَذَا الأمر الذي أنتم عليه مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تُخْبِرُوهُمْ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ لِيُحَاجُّوكُمْ قَالَ: لِيُخَاصِمُوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَتَكُونُ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ قَالَ: الْإِسْلَامُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: النُّبُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَحْمَتُهُ الإسلام يختص بها من يشاء.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ خِيَانَةِ الْيَهُودِ فِي الْمَالِ بَعْدَ بَيَانِ خِيَانَتِهِمْ فِي الدِّينِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ «١» وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِنْطَارِ. وَقَوْلُهُ: تَأْمَنْهُ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: تيمنه بكسر
(١). البقرة: ٨.
404
التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى لُغَةِ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ، وَمِثْلُهُ: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: نِسْتَعِينُ بِكَسْرِ النُّونِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ:
يُؤَدِّهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِي الدُّرْجِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَاتَّفَقَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: عَلَى إِسْكَانِ الْهَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِسْكَانُ الْهَاءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ عِنْدَ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُجِيزُهُ أَلْبَتَّةَ، وَيَرَى أَنَّهُ غَلَطَ مَنْ قَرَأَ بِهِ، وَيُوهِمُ أَنَّ الْجَزْمَ يَقَعُ عَلَى الْهَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَكْسِرُ الْهَاءَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَذْهَبُ بَعْضِ الْعَرَبِ يُسَكِّنُونَ الْهَاءَ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قبلها، فيقولون: ضربته ضَرْبًا شَدِيدًا، كَمَا يُسَكِّنُونَ مِيمَ أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ، وَأَنْشَدَ:
لَمَّا رَأَى أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ مَالَ إِلَى أَرْطَاهْ «١» حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ
وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَّامٌ، وَالزُّهْرِيُّ: يُؤَدِّهُ بِضَمِّ الْهَاءِ بغير واو. وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد: يؤدّ هو بِوَاوٍ فِي الْإِدْرَاجِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَفِيهِمُ الْخَائِنُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً، وَمَنْ كَانَ أَمِينًا فِي الْكَثِيرِ فَهُوَ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ بِالْأَوْلَى، وَمَنْ كَانَ خَائِنًا فِي الْقَلِيلِ فَهُوَ فِي الْكَثِيرِ خَائِنٌ بِالْأَوْلَى. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا مُطَالِبًا لَهُ، مُضَيِّقًا عَلَيْهِ، مُتَقَاضِيًا لِرَدِّهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى تَرْكِ الْأَدَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يُؤَدِّهِ. وَالْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ظُلْمِهِمْ حَرَجٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَنَا فِي دِينِنَا، وَادَّعَوْا- لَعَنَهُمُ اللَّهُ- أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- بَلى أَيْ: بَلَى عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ لِكَذِبِهِمْ، وَاسْتِحْلَالِهِمْ أَمْوَالَ الْعَرَبِ، فَقَوْلُهُ: بَلى إِثْبَاتٌ لِمَا نَفَوْهُ مِنَ السَّبِيلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَمَّ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: بَلى ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ: أَيْ: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَلَيْسَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. أَوْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِعَهْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى: مَنْ، أَوْ إِلَى: اللَّهِ تَعَالَى، وَعُمُومُ الْمُتَّقِينَ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَائِدِ إِلَى: مَنْ، أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَيْ:
يَسْتَبْدِلُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَعَهْدُ اللَّهِ: هُوَ مَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَيْمَانُ:
هِيَ الَّتِي كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: أُولئِكَ أَيِ:
الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ: لَا نَصِيبَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، كَمَا يُفِيدُهُ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مِنَ التَّعْمِيمِ، أَوْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ نَظَرَ رَحْمَةٍ، بَلْ يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ قَالَ: هَذَا مِنَ النَّصَارَى وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ قَالَ: هَذَا مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قَالَ: إِلَّا مَا طَلَبْتَهُ وَاتَّبَعْتَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قتادة في قوله:
(١). الأرطاة: واحدة الأرط، وهو شجر من شجر الرمل، والحقف: بالكسر، ما اعوجّ من الرمل.
405
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ مَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ صَعْصَعَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَقُولُونَ مَاذَا؟ قَالَ: نَقُولُ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: هَذَا كَمَا قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ إِنَّهُمْ إِذَا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم إِلَّا بِطِيبِ نُفُوسِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى يَقُولُ: اتَّقَى الشِّرْكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يَقُولُ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ». وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَحْلِفُ بِالسُّوقِ: لَقَدْ أَعْطَى بسلعته ما لم يعط بها. وأخرجه الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: مُخَاصَمَةٌ كَانَتْ بَيْنَ الْأَشْعَثِ وَامْرِئِ الْقَيْسِ وَرَجُلٍ مِنَ حضرموت. وأخرجه النسائي وغيره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
أَيْ: طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يَلْوُونَ، أَيْ: يُحَرِّفُونَ وَيَعْدِلُونَ بِهِ عَنِ الْقَصْدِ، وَأَصْلُ اللَّيِّ: الْمَيْلُ، يَقُولُ لَوَى بِرَأْسِهِ: إِذَا أَمَالَهُ. وَقُرِئَ: يلوّون بالتشديد، ويلون بِقَلْبِ الْوَاوِ هَمْزَةً، ثُمَّ تَخْفِيفُهَا بِالْحَذْفِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِتَحْسَبُوهُ يَعُودُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ يَلْوُونَ وَهُوَ الْمُحَرَّفُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ. قَوْلُهُ:
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ مُفْتَرُونَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ، كَانُوا يَزِيدُونَ فِي الْكِتَابِ مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يحرّفونه.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]

مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي وَلَا يَسْتَقِيمُ لِبَشَرٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَفِيهِ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ: أَنَّ النَّصَارَى افْتَرَوْا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ. وَالْحُكْمُ:
الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. قَوْلُهُ: وَلكِنْ كُونُوا أَيْ: وَلَكِنْ يَقُولُ النَّبِيُّ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، وَالرَّبَّانِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ: لِحْيَانِيٌّ، وَلِعَظِيمِ الْجَمَّةِ: جَمَّانِيٌّ، وَلِغَلِيظِ الرَّقَبَةِ:
رَقَبَانِيٌّ. قِيلَ: الرَّبَّانِيُّ: الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّبَّانِيُّونَ: أَرْبَابُ الْعِلْمِ، وَاحِدُهُمْ رَبَّانِيٌّ، مِنْ قَوْلِهِ: رَبَّهُ، يُرَبِّهُ، فَهُوَ رَبَّانٍ: إِذَا دَبَّرَهُ وَأَصْلَحَهُ، وَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ، فَمَعْنَى الرَّبَّانِيِّ: الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ، القويّ التمسك بِطَاعَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْعَالِمُ الْحَكِيمُ. قَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ أَيْ: بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عَالِمِينَ، أَيْ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ لِلْإِنْسَانِ وَالدِّرَاسَةِ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُمَا الرَّبَّانِيَّةُ الَّتِي هِيَ التَّعْلِيمُ لِلْعِلْمِ، وَقُوَّةُ التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: «بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ» بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بالتخفيف، واختار القراءة بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: لِأَنَّهَا لِجَمْعِ الْمَعْنَيَيْنِ. قَالَ مَكِّيٌّ: التَّشْدِيدُ أَبْلَغُ لِأَنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا غَيْرَ مُعَلِّمٍ، فَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالتَّخْفِيفُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ فَقَطْ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو حَاتِمٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَتَصْدِيقُهَا: تَدْرُسُونَ بِالتَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ:
أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ لَزِمَهُ أَنْ يَحْمِلَ الرَّبَّانِيَّ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُخْلِصًا أَوْ حَكِيمًا أَوْ حَلِيمًا حَتَّى تَظْهَرَ السَّبَبِيَّةُ وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الرَّبَّانِيَّ عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: كُونُوا مُعَلِّمِينَ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عُلَمَاءَ، وَبِسَبَبِ كَوْنِكُمْ تَدْرُسُونَ الْعِلْمَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ بَاعِثٍ لِمَنْ عَلَّمَ أَنْ يَعْمَلَ، وَإِنَّ مَنْ أَعْظَمِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ تَعْلِيمَهُ، وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى ثُمَّ يَقُولَ وَلا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَأْمُرَ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، بَلْ يَنْتَهِي عَنْهُ، وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى أَنْ يُؤْتِيَهُ، أَيْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِأَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَيْ: وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ. وَالْهَمْزُ فِي قَوْلِهِ: أَيَأْمُرُكُمْ لِإِنْكَارِ مَا نُفِيَ عَنِ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ اسْتِئْذَانُ مَنِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ! أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ:
مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ، وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّانِيِّينَ قَالَ: فُقَهَاءُ، عُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: حُكَمَاءُ، عُلَمَاءُ، حُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: عُلَمَاءُ، فُقَهَاءُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حُكَمَاءُ، عُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي قَوْلِهِ: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ قَالَ: مُذَاكَرَةُ الْفِقْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا قَالَ: ولا يأمرهم النبيّ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِيمَانِ، وَيَأْمُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى النُّصْرَةِ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَحَاصِلُهُ: أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْآخِرُ وَيَنْصُرَهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَتُعَلِّمُنَّ النَّاسَ لَمَا جَاءَكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ قَوْلُهُ: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَمَا فِي قَوْلِهِ: لَما آتَيْتُكُمْ بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ فَقَالَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ: الَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ، وَاللَّامُ لام الابتداء، بهذا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَتَكُونُ: مَا، فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا: مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جاءَكُمْ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مُصَدِّقٌ بِهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَالْكِسَائِيُّ: مَا شَرْطِيَّةٌ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَامُ التَّحْقِيقِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى إِنْ، ولَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جَوَابُ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ، إِذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْلَافِ كَمَا تَقُولُ: أَخَذْتُ مِيثَاقَكَ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، وَهُوَ سَادٌّ مَسَدَّ الْجَزَاءِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْجَزَاءَ قَوْلُهُ:
فَمَنْ تَوَلَّى. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لَما آتَيْتُكُمْ لَامُ التَّوْطِئَةِ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:
لَتُؤْمِنُنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَمَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ المتضمنة لمعنى الشرط، ولتؤمنن سادّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى: لِلَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. انْتَهَى وَقَرَأَ حَمْزَةُ: لَما آتَيْتُكُمْ
بكسر اللام، وما بمعنى الذي، وهي معلقة بِأَخَذَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: آتَيْنَاكُمْ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: آتَيْتُكُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ مَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ اللَّامِ: مَصْدَرِيَّةٌ. وَمَعْنَاهُ:
لِأَجْلِ إِيتَائِي إِيَّاكُمْ بَعْضَ الْكِتَابِ والحكمة، ثم لمجيء رسول الله مُصَدِّقٍ لِمَا مَعَكُمْ، وَاللَّامُ لَامُ التَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. قَوْلُهُ: أَقْرَرْتُمْ
هُوَ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَالْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ:
الثِّقْلُ، سُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْدِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكَ عَهْدِي. قَوْلُهُ: قالُوا أَقْرَرْنا جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: قَالُوا: أَقْرَرْنَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدُهُمُ الْإِصْرَ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَ فَاشْهَدُوا أَيْ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَاشْهَدُوا، أَيْ: لِيَشْهَدْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيْ: وَأَنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ وَشَهَادَةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى أَيْ: أَعْرَضَ عَمَّا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنِ الطَّاعَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَءُونَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وَنَحْنُ نَقْرَأُ:
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ قَالَ:
هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكُتَّابِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ: لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَيَأْمُرُهُ فَيَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ تَلَا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِصْرِي قَالَ: عَهْدِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: قالَ فَاشْهَدُوا يَقُولُ: فَاشْهَدُوا عَلَى أُمَمِكُمْ بِذَلِكَ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ فَمَنْ تَوَلَّى عَنْكَ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ هَذَا الْعَهْدِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ هم العاصون في الكفر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
قَوْلُهُ: أَفَغَيْرَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَتَتَوَلَّوْنَ فَتَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يَبْغُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَتَرْجِعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِي عَامٌّ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بالفوقية
409
فِيهِمَا، وَانْتَصَبَ: طَوْعًا وَكَرْهًا، عَلَى الْحَالِ، أَيْ: طَائِعِينَ وَمُكْرَهِينَ. وَالطَّوْعُ: الِانْقِيَادُ وَالِاتِّبَاعُ بِسُهُولَةٍ، وَالْكُرْهُ: مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْلَمَ مَخَافَةَ الْقَتْلِ، وَإِسْلَامُهُ اسْتِسْلَامٌ مِنْهُ. قَوْلُهُ: آمَنَّا إِخْبَارٌ منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أُمَّتِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَمَا فُرِّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فآمنوا بِبَعْضٍ، وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ مُخْلِصُونَ. قَوْلُهُ: دِيناً مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ، أَيْ: يَبْتَغِ دِينًا حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ: غَيْرَ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْفِعْلِ، وَدِينًا: إِمَّا تَمْيِيزٌ، أَوْ حَالٌ، إِذَا أُوِّلَ بِالْمُشْتَقِّ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ: غَيْرَ. قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إِمَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: مِنَ الْوَاقِعِينَ فِي الْخُسْرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال: أما من في السموات: فَالْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا مَنْ فِي الْأَرْضِ: فَمَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا كُرْهًا: فَمَنْ أُتِيَ بِهِ مِنْ سَبَايَا الْأُمَمِ فِي السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَهُمْ كَارِهُونَ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ: «الْمَلَائِكَةُ أَطَاعُوهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْأَنْصَارُ، وَعَبْدُ الْقَيْسِ أَطَاعُوهُ فِي الْأَرْضِ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ: فَأَسْلَمَ طَائِعًا، فَنَفَعَهُ ذَلِكَ وَقُبِلَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ: فَأَسْلَمَ حِينَ رَأَى بِأْسَ اللَّهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنَ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَالصِّبْيَانِ فاقرؤوا فِي أُذُنِهِ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ:
لَيْسَ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى دَابَّةٍ صَعْبَةٍ فَيَقْرَأُ فِي أُذُنِهَا: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الْآيَةَ، إِلَّا ذَلَّتْ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصَّلَاةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، وَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ:
يَا رَبِّ! أَنَا الصَّدَقَةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، وَيَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: أَنَا الصِّيَامُ، فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ، فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ»
.
410

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٩١]

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
قَوْلُهُ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ: الْجَحْدُ، أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ، وَنَظِيرُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا تَشْمَلِ الشَّامَ «١» غَارَةٌ شَعْوَاءُ
أَيْ: لَا نَوْمَ لِي. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا إِلَى الْحَقِّ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ مَا شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَبَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ يَهْدِي الْمُرْتَدِّينَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَهْدِي مَنْ حَصَلَ مِنْهُمْ مُجَرَّدُ الظُّلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهُمُ الْبَاقُونَ عَلَى الْكُفْرِ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَنْبَ الْمُرْتَدِّ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِ مَنْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ ثُمَّ أَعْرَضَ عِنَادًا وَتَمَرُّدًا. قَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْمِ الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: الْجُمْلَةُ الَّتِي بعده. وقد تقدّم تفسير اللعن. وقوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ مَعْنَاهُ: يُؤَخِّرُونَ وَيُمْهِلُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ، فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الِارْتِدَادِ وَأَصْلَحُوا بِالْإِسْلَامِ مَا كَانَ قَدْ أَفْسَدُوهُ مِنْ دِينِهِمْ بِالرِّدَّةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، مُخْلِصًا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِيمَا أَحْفَظُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً.
قَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ وَصَفَتِهِ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَقِيلَ: ازْدَادُوا كُفْرًا بِالذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَجَعَلَهَا فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ «٢» مع كون التوبة مقبولة فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «٣» غير ذَلِكَ فَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «٤» وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَكْفُرُوا، لِأَنَّ الْكُفْرَ أحبطها، وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا مِنْ كُفْرِهِمْ إِلَى كُفْرٍ آخَرَ، وَالْأَوْلَى: أَنْ يُحْمَلَ عدم قبول توبتهم فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا غَيْرَ تَائِبٍ، فَكَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لَهَا. قَوْلُهُ: مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً الْمِلْءُ بِالْكَسْرِ: مِقْدَارُ مَا يَمْلَأُ الشَّيْءَ، وَالْمَلْءُ بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ مَلَأْتُ الشَّيْءَ، وَذَهَبًا: تَمْيِيزٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وقال الكسائي: نصب
(١). في القرطبي (٤/ ١٢٩) : يشمل القوم.
(٢). آل عمران: ٩٠.
(٣). الشورى: ٢٥.
(٤). النساء: ١٨.
411
عَلَى إِضْمَارِ: مِنْ ذَهَبٍ. كَقَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً «١» أَيْ: مِنْ صِيَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: ذَهَبٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: مَلْءٍ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ قِيلَ: هِيَ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى:
لَوِ افْتَدَى بِهِ وَقِيلَ: فِيهِ حَمْلٌ عَلَى الْغَنِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مَلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوِ افْتَدَى بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: بِمِثْلِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ:
غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، عَرَفُوا مُحَمَّدًا، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عباس: أن قوما أَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا، فَأَرْسَلُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْبَزَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ كَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِذُنُوبٍ أَذْنَبُوهَا، ثُمَّ ذَهَبُوا يَتُوبُونَ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ فِي كُفْرِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ: نَمَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ: مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قَالَ: إِذَا تَابَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال: تابوا مِنَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْأَصْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ قَالَ: هُوَ كُلُّ كَافِرٍ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لو كان مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: لَقَدْ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية.
(١). المائدة: ٩٥.
412

[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَقِبَ ذِكْرِ مَا لَا يَنْفَعُ الْكُفَّارَ. قَوْلُهُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ يُقَالُ:
نَالَنِي مِنْ فُلَانٍ مَعْرُوفٌ يَنَالُنِي، أَيْ: وَصَلَ إِلَيَّ، وَالنَّوَالُ: الْعَطَاءُ، مِنْ قَوْلِكَ: نَوَّلْتُهُ تَنْوِيلًا، أَعْطَيْتُهُ.
وَالْبِرُّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وعمر بْنُ مَيْمُونٍ، وَالسُّدِّيُّ:
هُوَ الْجَنَّةُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَنْ تَنَالُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ أَوِ الْجَنَّةَ، أَيْ: تَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ، وَتَبْلُغُوا إِلَيْهِ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُكُمْ مِنْ أموالكم التي تحبونها، ومن تَبْعِيضِيَّةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَتَّى تُنْفِقُوا بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ وَقِيلَ: بَيَانِيَّةٌ وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَالْمُرَادُ: النَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَقِيلَ الْمُرَادُ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مَا تُنْفِقُوا أَيْ: مَا تُنْفِقُوا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ سَوَاءً كَانَ طَيِّبًا أَوْ خَبِيثًا فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَمَا:
شَرْطِيَّةٌ جَازِمَةٌ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَرْجَانَةَ، جَارِيَةٍ لِي رُومِيَّةٍ، فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَوْ أَنِّي أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ لَنَكَحْتُهَا، فَأَنْكَحْتُهَا نَافِعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولَاءَ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بفرس له يقال لها: سُبُلٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَقَالَ: هِيَ صَدَقَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قَالَ: الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ مثله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
قَوْلُهُ: كُلُّ الطَّعامِ أَيِ: الْمَطْعُومِ، وَالْحِلُّ: مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَهُوَ الْحَلَالُ، وَإِسْرَائِيلُ: هُوَ يَعْقُوبُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ كَانَتْ حَلَالًا لِبَنِي يَعْقُوبَ، لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ،
413
وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ مِنِ اسْمِ كَانَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كانَ حِلًّا أَيْ: أَنَّ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ كَانَتْ حَلَالًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أَيْ: كَانَ مَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى حَلَالًا لَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ لِظُلْمِهِمْ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ لَمَّا أَنْكَرُوا مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ على رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّ سَبَبَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ وَبَغْيُهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «١». الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «٢» إلى قوله: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ «٣» وقالوا:
إنها محرّمة عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَكْذِيبَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى الله عليه وسلّم في كتابه العزيز، ثم أمره سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُحَاجَّهُمْ بِكِتَابِهِمْ، وَيَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حكما ما أنزله عليهم، لا ما أنزل عَلَيْهِ فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ حَتَّى تَعْلَمُوا صِدْقَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْءٌ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِي هَذَا مِنَ الْإِنْصَافِ لِلْخُصُومِ مَا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَلَا يَبْلُغُ مَدَاهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِحْضَارِ التَّوْرَاةِ وَتِلَاوَتِهَا فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
أَيْ: الْمُفَرِّطُونَ فِي الظُّلْمِ الْمُتَبَالِغُونَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِمَّنْ حُوكِمَ إِلَى كِتَابِهِ وَمَا يَعْتَقِدُهُ شَرْعًا صَحِيحًا، ثُمَّ جَادَلَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِهِمْ بَاطِلًا مَدْفُوعًا، وَكَانَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ وَصَدَّقَتْهُ التَّوْرَاةُ صَحِيحًا صَادِقًا، وَكَانَ ثُبُوتُ هَذَا الصِّدْقِ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَصْمُ دَفْعَهُ، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَ بِصِدْقِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبَ، فَقَالَ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أَيْ: مِلَّةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْحَنِيفِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِذَا تَبَيَّنَ لَكُمْ صِدْقِي، وَصِدْقُ مَا جِئْتُ بِهِ، فَادْخُلُوا فِي دِينِي، فإن من جملة ما أنزله اللَّهُ عَلَيَّ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «٤».
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قال: كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النّسا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا تَحْرِيمَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا، فَلِذَلِكَ حَرَمَّهَا، قَالُوا: صَدَقْتَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعِرْقُ أَجِدُهُ عِرْقَ النَّسَاءِ، فَكَانَ يَبِيتُ لَهُ زِقٌّ، يَعْنِي: صِيَاحٌ، فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إِنْ شَفَاهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ لَحْمًا فِيهِ عِرْقٌ، فَحَرَّمَتْهُ الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ سَابِقًا عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ زَائِدَتَا الْكَبِدِ، وَالْكُلْيَتَانِ، وَالشَّحْمَ، إِلَّا مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ بِتَحْرِيمِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ، فقال الله لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وكذبوا ليس في التوراة.
(١). النساء: ١٦٠.
(٢). الأنعام: ١٤٦.
(٣). الأنعام: ١٤٦.
(٤). آل عمران: ٨٥.
414

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ شَيْءٍ آخَرَ مِمَّا جَادَلَتْ فِيهِ الْيَهُودُ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ، لِكَوْنِهِ: مُهَاجَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ: وُضِعَ صِفَةٌ لِبَيْتٍ، وَخَبَرُ إِنَّ: قَوْلُهُ: لَلَّذِي بِبَكَّةَ فَنَبَّهَ تَعَالَى بِكَوْنِهِ: أَوَّلَ مُتَعَبِّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غيره، وقد اختلف في الباني فِي الِابْتِدَاءِ: فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: آدَمُ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ: بِأَوَّلِ مَنْ بَنَاهُ الملائكة، جَدَّدَهُ آدَمُ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ. وَبَكَّةُ: عَلَمٌ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَكَذَا مَكَّةُ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَكَّةَ: اسْمٌ لِمَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَمَكَّةُ: اسْمٌ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ وَقِيلَ: بَكَّةُ:
لِلْمَسْجِدِ، وَمَكَّةُ: لِلْحَرَمِ كُلِّهِ قِيلَ: سُمِّيَتْ بَكَّةُ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِي الطَّوَافِ، يُقَالُ: بَكَّ الْقَوْمُ: ازْدَحَمُوا وَقِيلَ: الْبَكُّ: دَقُّ الْعُنُقِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَدُقُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا: بِمَكَّةَ، فَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لقلة ما بها وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَمُكُّ الْمُخَّ مِنَ الْعَظْمِ، بِمَا يَنَالُ سَاكِنَهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْهُ مَكَكْتُ الْعَظْمَ:
إذا أخرجت ما فيه، وأمكته: إِذَا امْتَصَّهُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لِأَنَّهَا تَمُكُّ مِنْ ظَلَمَ فِيهَا، أَيْ: تُهْلِكُهُ. قَوْلُهُ:
مُبارَكاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وُضِعَ، أَوْ مِنْ مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَلَّذِي اسْتَقَرَّ بِبَكَّةَ مُبَارَكًا، وَالْبَرَكَةُ: كَثْرَةُ الْخَيْرِ الْحَاصِلِ لِمَنْ يَسْتَقِرُّ فِيهِ أَوْ يَقْصِدُهُ، أَيِ: الثَّوَابُ الْمُتَضَاعِفُ. وَالْآيَاتُ البينات:
الواضحات، مِنْهَا: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَمِنْهَا: أَثَرُ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَيْثَ إِذَا كَانَ بِنَاحِيَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ كَانَ الْخِصْبُ فِي الْيَمَنِ، وَإِنْ كَانَ بِنَاحِيَةِ الشَّامِيِّ كَانَ الْخِصْبُ بِالشَّامِ، وَإِذَا عَمَّ الْبَيْتَ كَانَ الْخِصْبُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَمِنْهَا: انْحِرَافُ الطُّيُورِ عَنْ أَنْ تَمُرَّ عَلَى هَوَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَمِنْهَا: هَلَاكُ مَنْ يَقْصِدُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ بَدَلٌ مِنْ آيَاتٌ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بَيَانَ الْآيَاتِ- وَهِيَ جَمْعٌ-: بِالْمَقَامِ- وَهُوَ فَرْدٌ- وَأَجَابَ: بِأَنَّ الْمَقَامَ جُعِلَ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ آيَاتٍ، لِقُوَّةِ شَأْنِهِ، أَوْ: بِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمْنُ مَنْ دَخْلَهُ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِبَيَانِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَرَمِ، وَهُوَ: أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ كَقَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ «١» أَيْ: لَا تَرْفُثُوا، وَلَا تَفْسُقُوا، وَلَا تُجَادِلُوا. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: لَامُ الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، ثُمَّ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى تَأْكِيدًا حَرْفُ عَلَى، فَإِنَّهُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ على الوجوب
(١). البقرة: ١٩٧. [.....]
415
عِنْدَ الْعَرَبِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِأَبْلَغِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَهَذَا الْخِطَابُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ، كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ. وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ.
وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِحِجٍّ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَقِيلَ:
إِنَّ: مَنْ، حَرْفُ شَرْطٍ، وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَاذَا هِيَ؟ فَقِيلَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَثِقَ بِقُوَّتِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، إِذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ كَانَ شَابًّا قَوِيًّا صَحِيحًا وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا: أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ إِلَى الْحَجِّ آمِنَةً، بِحَيْثُ يَأْمَنُ الْحَاجُّ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ الَّذِي لَا يَجِدُ زَادًا غَيْرَهُ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ آمِنَةٍ فَلَا اسْتِطَاعَةَ، لَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَهَذَا الْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الظَّلَمَةِ من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْطِي حَبَّةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ، وَخَالَفَهُ آخَرُونَ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَكَانَتِ الطَّرِيقُ آمِنَةً، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُرُورِهَا، وَلَوْ بِمُصَانَعَةِ بَعْضِ الظَّلَمَةِ لِدَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، يتمكن منه الْحَاجُّ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ زَادِهِ وَلَا يُجْحِفُ بِهِ، فَالْحَجُّ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَطَاعَ السَّبِيلَ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ هَذَا الْمَالُ الْمَدْفُوعُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِاسْتِطَاعَةُ، فَلَوْ وَجَدَ الرَّجُلُ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَجِدْ مَا يَدْفَعُهُ لِمَنْ يَأْخُذُ الْمَكْسَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الِاسْتِطَاعَةِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْمُرُورُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لِمَنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ إِلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُونَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ سَقَطَ الْحَجُّ: أَنَّ أَخْذَ هَذَا الْمَكْسِ مُنْكَرٌ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَدْخُلَ فِي مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ: أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ صَحِيحَ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ الرُّكُوبُ، فَلَوْ كَانَ زَمِنًا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَلَا عَلَى الرُّكُوبِ، فَهَذَا وَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ والراحلة فهو لم يستطيع السَّبِيلَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قِيلَ: إِنَّهُ عَبَّرَ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ، تَأْكِيدًا لِوُجُوبِهِ، وَتَشْدِيدًا عَلَى تَارِكِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ وَلَمْ يَرَهُ وَاجِبًا، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَقْتِ تَارِكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَخِذْلَانِهِ، وَبُعْدِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مَا يَتَعَاظَمُهُ سَامِعُهُ، وَيَرْجُفُ لَهُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا شَرَعَ لِعِبَادِهِ هَذِهِ الشَّرَائِعَ لِنَفْعِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَهُوَ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَتَقَدَّسَ سُلْطَانُهُ، غَنِيٌّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ طَاعَاتُ عِبَادِهِ بِأَسْرِهَا بِنَفْعٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ الْآيَةَ، قَالَ:
416
كَانَتِ الْبُيُوتُ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً»
. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ زُبْدَةً بَيْضَاءَ، وَكَانَتِ الأرض تحته كأنّها حشفة دحيت الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ». وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغْنَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَعْظَمُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
إِنَّمَا سُمِّيَتْ: بَكَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حُجَّاجًا. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ: بَكَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا، أَيْ: يَزْدَحِمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: مُبارَكاً قَالَ: جُعِلَ فِيهِ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ: وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يَعْنِي: بِالْهُدَى قِبْلَتَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ فَمِنْهُنَّ:
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَشْعَرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ قَالَ:
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَالَ: كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُطْلَبْ، فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَنْ سَرَقَ فِيهِ قُطِعَ، وَمَنْ زَنَى فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَمَنْ قَتَلَ فِيهِ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ الْخَطَّابِ مَا مَسِسْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَالَ: مَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ أَعَاذَهُ الْبَيْتُ، وَلَكِنْ لَا يُؤْوَى، وَلَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، فَإِذَا خَرَجَ أُخِذَ بِذَنْبِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ لَمْ أَعْرِضْ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: قَامَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يُعْضَدَ بِهَا شَجَرَةٌ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً من نهار ثم عادت حرمتها كَحُرْمَتِهَا أَمْسِ». وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَقِيلَ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ».
417
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ؟ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا السَّبِيلُ إِلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ». وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَضُرُّهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي الْآيَةِ:
«أَنَّهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَجِدُ ظَهْرَ بَعِيرٍ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: السَّبِيلُ: أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحِفَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ:
سَبِيلًا مَنْ وَجَدَ إِلَيْهِ سَعَةً، وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: الِاسْتِطَاعَةُ: الْقُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لِلْمَرْأَةِ مِنَ السَّبِيلِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّهْيُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ.
وَاخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ فَفِي لَفْظٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي لَفْظٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَفِي لَفْظٍ بَرِيدٌ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي تَشْدِيدِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ. فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فَلَا عَلَيْهِ بِأَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
وَفِي إِسْنَادِهِ هِلَالُ الْخُرَاسَانِيُّ، أو هَاشِمٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ مَجْهُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ:
هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا».
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ:
بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، فَلْيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمِ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عنه يقول:
«من أطاق الحجّ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ إِسْنَادَهُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَلَمْ يَحُجَّ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ مكتوب كافر».
418
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ «مَنْ وَجَدَ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا سَنَةً ثُمَّ سَنَةً ثُمَّ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَا يُدْرَى مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا». وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ تَرَكَ النَّاسُ الْحَجَّ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:
لَمَّا نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ، فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا، وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا، قَالَ اللَّهُ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ، جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْمِلَلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ فَقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ، وَكَفَرَتْ بِهِ خَمْسُ مِلَلٍ، قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نُصَلِّي إِلَيْهِ، وَلَا نَسْتَقْبِلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عن أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ قَالَ:
«قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ تَرَكَهُ كَفَرَ؟ فَقَالَ: مَنْ تَرَكَهُ لَا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ حَجَّ لَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فَهُوَ ذَاكَ»
. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قول الله: مَنْ كَفَرَ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَرَأَ:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: سَبِيلًا ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَمْ يُؤْمِنْ به: فهو الكافر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ١٠٣]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
419
قوله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَكْفُرُونَ:
لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، وَهَكَذَا الْمَجِيءُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي: شَهِيدٍ، يُفِيدُ مَزِيدَ التَّشْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَصُدُّونَ يُفِيدُ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَصُدُّونَ مِنْ أَصُدُّ، وَهُمَا لُغَتَانِ: مِثْلُ: صَدَّ اللَّحْمُ، وَأَصَدَّ:
إِذَا تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَسَبِيلُ اللَّهِ: دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَالْعِوَجُ: الْمَيْلُ وَالزَّيْغُ، يُقَالُ:
عِوَجٌ بِالْكَسْرِ: إِذَا كَانَ فِي الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَبِالْفَتْحِ: فِي الْأَجْسَامِ كَالْجِدَارِ وَنَحْوِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَغَيْرِهِ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: تَبْغُونَها عِوَجاً النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: تَطْلُبُونَ لَهَا اعْوِجَاجًا، وَمَيْلًا عَنِ الْقَصْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ، بِإِبْهَامِكُمْ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهَا كَذَلِكَ، تَثْقِيفًا لِتَحْرِيفِكُمْ، وَتَقْوِيمًا لِدَعَاوِيكُمُ الْبَاطِلَةِ: وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ تَطْلُبُونَ ذَلِكَ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غيره كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم؟ قيل: إن في التوراة: أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وَأَنَّ فِيهِ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أَيْ: عُقَلَاءُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ، مَقْبُولُونَ عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ تَأْتُونَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يُخَالِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ؟ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ثُمَّ خَاطَبَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ مُحَذِّرًا لَهُمْ عَنْ طَاعَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّ تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كَافِرِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: مِنْ أَيْنَ يَأْتِيكُمْ ذَلِكَ وَلَدَيْكُمْ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَيَقْطَعُ أَثَرَهُ، وَهُوَ تِلَاوَةُ آيَاتِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَكَوْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ، لِيَحْصُلَ لَهُمْ بِذَلِكَ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَفِي وَصْفِ الصِّرَاطِ بِالْاسْتِقَامَةِ رَدٌّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْعِوَجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الخطاب لأصحاب محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ آثَارَهُ وَعَلَامَتَهُ وَالْقُرْآنَ الَّذِي أُوتِيَهُ فِينَا، فَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا وإن لم نشاهد. انْتَهَى. وَمَعْنَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ: التَّمَسُّكُ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ، وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ، يُقَالُ: اعْتَصَمَ بِهِ وَاسْتَعْصَمَ وَتَمَسَّكَ وَاسْتَمْسَكَ: إِذَا امْتَنَعَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَصَمَهُ الطَّعَامُ: مُنِعَ الْجُوعُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أَيِ: التَّقْوَى الَّتِي تَحِقُّ لَهُ، وَهِيَ: أَنْ لَا يَتْرُكَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِمَّا يلزمه فعله، ولا يفعل شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ، وَيَبْذُلُ فِي ذَلِكَ جُهْدَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا؟ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَابْنِ زَيْدٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَيْسَ فِي آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ شَيْءٌ إِلَّا هَذَا. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ مُبَيَّنٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «١» وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ. قَالَ: وَهَذَا أَصْوَبُ، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ، فَهُوَ أَوْلَى. قَوْلُهُ: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ: لَا تكونن على حال
(١). التغابن: ١٦.
420
سِوَى حَالِ الْإِسْلَامِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ: وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وقد تقدم تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً الْحَبْلُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: السَّبَبُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَهُوَ إِمَّا تَمْثِيلٌ، أَوِ اسْتِعَارَةٌ. أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ النَّاشِئِ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءَ مختلفين يقتل بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَصْبَحُوا بِسَبَبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِخْوَانًا، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَأَنْقَذَهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحُفْرَةِ بِالْإِسْلَامِ. وَمَعْنَى قوله: فَأَصْبَحْتُمْ صِرْتُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ:
مَعْنَاهُ الْأَصْلِيَّ، وَهُوَ: الدُّخُولُ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، وَشَفَا كُلِّ شَيْءٍ: حَرْفُهُ، وَكَذَلِكَ شَفِيرُهُ، وَأَشْفَى عَلَى الشَّيْءِ: أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ الْبَلِيغِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إِرْشَادٌ لَهُمْ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْهُدَى وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ:
مَرَّ شَاسُ بن قيس- وكان شيخا قد عسا «١» فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ، شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ- عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ، قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ. فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ، وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ «٢» بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مَعَهُ مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ، وَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشَدَهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا يَتَقَاوَلُونَ فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَتَنَازَعُوا، وَتَفَاخَرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ: أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَجُبَارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةَ، وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، واستقذكم بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أنها نزغة من
(١). عسا الشيخ عسيّا: كبر وولّى.
(٢). قيلة: بطن من الأزد، من كهلان، من القحطانية، وهم أبناء الأوس والخزرج.
421
الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَبَكَوْا، وَعَانَقَ الرِّجَالُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللَّهِ شَاسٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَأَنْزَلَ فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ، وَجُبَارِ بْنِ صَخْرٍ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صنعوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُخْتَصَرَةً وَمُطَوَّلَةً مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا إِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدٌ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا؟
قَالُوا: لَا، قَالَ: فَصَدُّوا النَّاسَ عَنْهُ، وَبَغَوْا مُحَمَّدًا، عِوَجًا: هَلَاكًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ نَبِيِّ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ فيما تقرؤون مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَجْزِي إِلَّا بِهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ قَالَ: يُؤْمِنْ بِهِ. وَأَخْرَجُوا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الِاعْتِصَامُ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِدُونِ قَوْلِهِ: وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: أن يطاع فلا يعصى، فلم يستطيعوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «١» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَقَّ تُقاتِهِ قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ حَقَّ تُقَاتِهِ: أَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ قَالَ: حَبْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ: بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِطَاعَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بِعَهْدِهِ وَأَمْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ:
بِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ فَأَطْفَأَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ يَقُولُ: كُنْتُمْ عَلَى طَرَفِ النَّارِ، مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ وَقَعَ فِي النَّارِ، فَبَعَثَ اللَّهُ محمدا صلّى الله عليه وسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة.
(١). التغابن: ١٦.
422

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٩]

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
قَوْلُهُ: وَلْتَكُنْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَقُرِئَ: بِكَسْرِ اللَّامِ، عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ:
مِنْكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ: بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ كَوْنَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ: مَعْرُوفًا، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ: مُنْكَرًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ عَيَّنَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ «١» الْآيَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَلَامٌ مِنْ كَلَامِهِ، غَلَطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاقِلِينَ، فَأَلْحَقَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عُثْمَانَ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكْتُبْهَا فِي مُصْحَفِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَوُجُوبُهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِهَا، وَرُكْنٌ مُشَيَّدٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَبِهِ يَكْمُلُ نِظَامُهَا وَيَرْتَفِعُ سَنَامُهَا.
وَقَوْلُهُ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، إِظْهَارًا لِشَرَفِهِمَا، وَأَنَّهُمَا الْفَرْدَانِ الْكَامِلَانِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، كَمَا قِيلَ فِي عَطْفِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَحَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ: أَيْ: يَدْعُونَ، وَيَأْمُرُونَ، وَيَنْهَوْنَ: لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ: كُلُّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمَّةِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهَا بِمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْمُخْتَصُّونَ بِالْفَلَاحِ، وَتَعْرِيفُ الْمُفْلِحِينَ: لِلْعَهْدِ، أَوْ: لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ. قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ: هُمُ الْمُبْتَدِعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقِيلَ: الْحَرُّورِيَّةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَالْبَيِّنَاتُ: الْآيَاتُ الْوَاضِحَةُ، الْمُبَيِّنَةُ لِلْحَقِّ، الْمُوجِبَةُ لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ. قِيلَ: وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ يَخْتَصُّ بِالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ فَالِاخْتِلَافُ فِيهَا جَائِزٌ، وَمَا زَالَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مَا زَالَ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الْمُنْكِرُ لِلِاخْتِلَافِ مَوْجُودًا، وَتَخْصِيصُ بَعْضِ مَسَائِلِ الدِّينِ بِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الْأَقْدَامِ فِي انْتِسَابِهَا إِلَى الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيِ: اذْكُرْ وقيل: بما يدل عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ: اسْتَقَرَّ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ، أي: يوم القيامة، حين يبعثون
(١). الحج: ٤١.
423
مِنْ قُبُورِهِمْ، تَكُونُ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ مُبْيَضَّةً وَوُجُوهُ الْكَافِرِينَ مُسْوَدَّةً. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، إِذَا قَرَأَ الْمُؤْمِنُ كِتَابَهُ رَأَى حَسَنَاتِهِ فَاسْتَبْشَرَ وَابْيَضَّ وَجْهُهُ، وَإِذَا قَرَأَ الْكَافِرُ كِتَابَهُ رَأَى سَيِّئَاتِهِ فَحَزِنَ وَاسْوَدَّ وَجْهُهُ، وَالتَّنْكِيرُ فِي وُجُوهٍ: لِلتَّكْثِيرِ، أَيْ: وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: تَبْيَضُّ وَتَسْوَدُّ: بِكَسْرِ التَّاءَيْنِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تَبْيَاضُّ وَتَسْوَادُّ. قَوْلُهُ: أَكَفَرْتُمْ أَيْ: فَيُقَالُ لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجب مِنْ حَالِهِمْ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَقَدَّمَ بَيَانَ حَالِ الْكَافِرِينَ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ قِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وقيل: المرتدون وقيل: المنافقون وقيل: المبتدعون. قوله: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أَيْ: فِي جَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدُخُولِ صَاحِبِهِ الْجَنَّةَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ:
هُمْ فِيها خالِدُونَ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. وَتِلْكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْذِيبِ الْكَافِرِينَ، وَتَنْعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُتَلَبِّسَةٌ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْعَدْلُ. وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ جُمْلَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَفِي تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْإِرَادَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى النَّكِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الظُّلْمِ الْوَاقِعَةِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ: مَخْلُوقَاتُهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لَهُ ذَلِكَ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَعَلَى مَا يريد، وعبر بما تغليبا لغير الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَتِهِمْ، أَوْ لِتَنْزِيلِ الْعُقَلَاءِ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِمْ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ، وَصَلَهُ بِذِكْرِ اتِّسَاعِ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ عَنِ الظُّلْمِ، لِكَوْنِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي قَبْضَتِهِ وَقِيلَ: هُوَ ابتداء كلام يتضمن البيان بأن جميع ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أَيْ: لَا إِلَى غَيْرِهِ، لَا شَرِكَةً وَلَا اسْتِقْلَالًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ قَالَ: الْخَيْرُ: اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِي». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُلُّ آيَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ: فَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: فَهُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَالشَّيْطَانِ. انْتَهَى.
وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، فَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أَيِ: الْإِسْلَامِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ: بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ: عَنْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ:
هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَهُمُ الرُّوَاةُ. انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ، فَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَالْخِطَابِ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَكَلَّفَهُمْ بِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ». وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ
424
عن عبد الله بن عمر مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا، وَزَادَ «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا الْوَاحِدَةُ؟
قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»
. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا نحوه، فيه: «فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ». وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْكَوْنِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ قَالَ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن أبي كَعْبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: صَارُوا فِرْقَتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لِمَنِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ فَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ حَيْثُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ: فَهُمُ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ، فَبَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رِضْوَانِهِ وَجَنَّتَهُ. وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
قَوْلُهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ حَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَ، قِيلَ: هِيَ التَّامَّةُ، أَيْ: وُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمِثْلُهُ مَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ:
وَجِيرَانٌ لَنَا كَانُوا كِرَامُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «١» وقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ «٢».
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُرِيدُ: أَهْلَ أُمَّةٍ، أَيْ: خَيْرَ أَهْلِ دِينٍ، وَأَنْشَدَ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُنْذُ آمَنْتُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وأن هذه الخيرية مُشْتَرَكَةٌ مَا بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةً فِي ذَاتِ بَيْنِهَا. كَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ: أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَيْ:
أُظْهِرَتْ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ إِلَخْ، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَعَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ مَا أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّصَفُوا بِهِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ،
(١). مريم: ٢٩.
(٢). الأعراف: ٨٦.
425
زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي، أَنْ يَكُونَ:
تَأْمُرُونَ وَمَا بَعْدَهُ، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ حَالَ كَوْنِكُمْ آمِرِينَ، نَاهِينَ، مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَبِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَمَا شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أَيِ: الْيَهُودُ، إِيمَانًا كَإِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، بَلْ قَالُوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، الْمُتَمَرِّدُونَ فِي بَاطِلِهِمُ، المكذبون لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا التَّفْصِيلُ على هذا كلاما مستأنفا، جوابا عن سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَاسْتَحَقَّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ؟ قَوْلُهُ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أَيْ:
لَنْ يَضُرُّوكُمْ بِنَوْعٍ من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى، وهو الكذب، والتحريف، والبهت، لا يَقْدِرُونَ عَلَى الضَّرَرِ الَّذِي هُوَ الضَّرَرُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْحَرْبِ وَالنَّهْبِ وَنَحْوِهِمَا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَغْلِبُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَالْمَعْنَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ أَلْبَتَّةَ، لَكِنْ يُؤْذُونَكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا نَفَاهُ مِنَ الضَّرَرِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أَيْ:
يَنْهَزِمُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَتِكُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَضُرُّوكُمْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ: ثُمَّ لَا يُوجَدُ لَهُمْ نَصْرٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ غَلَبٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلْ شَأْنُهُمُ الْخِذْلَانُ مَا دَامُوا.
وَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا سُبْحَانَهُ حَقًّا، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ تَخْفِقْ لَهُمْ رَايَةُ نَصْرٍ، وَلَا اجْتَمَعَ لَهُمْ جَيْشٌ غَلَبَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ «١». قَوْلُهُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَالْمَعْنَى: صَارَتِ الذِّلَّةُ مُحِيطَةٌ بِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَيْنَما ثُقِفُوا فِي أَيِّ مَكَانٍ وُجِدُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: أَيْ: بِذِمَّةِ اللَّهِ أَوْ بِكِتَابِهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِذِمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم وَباؤُ أَيْ: رَجَعُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَقِيلَ: احْتَمَلُوا، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ وَالِاسْتِحْقَاقُ، أَيْ: لَزِمَهُمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهُ. وَمَعْنَى ضَرْبِ الْمَسْكَنَةِ: إِحَاطَتُهَا بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَهَكَذَا حَالُ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ تَحْتَ الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ، وَالْمَسْكَنَةِ الشَّدِيدَةِ إِلَّا النَّادِرَ الشَّاذَّ مِنْهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْغَضَبِ، أَيْ: وَقَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى الْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ لِلَّهِ وَاعْتِدَائِهِمْ لِحُدُودِهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ وَالْبَوَاءَ بِالْغَضَبِ مِنْهُ لِكَوْنِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُ، بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ.
(١). إن ما حصل من قيام دولة لليهود على أرض فلسطين العربية المسلمة هو بسبب ما آل إليه حال المسلمين من الفرقة والبعد عن دين الله وعدم تحقيق شروط الخيرية فيهم المشار إليها بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ....
426
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَالَ: أَنْتُمْ، فَكُنَّا كُلَّنَا، وَلَكِنْ قَالَ: كُنْتُمْ، فِي خَاصَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ومن صنع مِثْلَ صُنْعِهِمْ، كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَكُونُ لِأَوَّلِنَا، وَلَا يَكُونُ لِآخِرِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ يَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عن مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ كَوْنِهَا خَيْرَ الْأُمَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً قَالَ: تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ، يَدْعُونَكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: إِشْرَاكُهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَعِيسَى وَالصَّلِيبِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَالَا: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ: بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ الناس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٧]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
قَوْلُهُ: لَيْسُوا سَواءً أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ مُسْتَوِينَ، بَلْ مُخْتَلِفِينَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، سِيقَتْ لِبَيَانِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: أُمَّةٌ قائِمَةٌ هُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ الْجِهَةِ الَّتِي تَفَاوَتُوا فِيهَا، مِنْ كَوْنِ بَعْضِهِمْ أُمَّةً قَائِمَةً إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذُو أُمَّةٍ،
427
أَيْ: ذُو طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَأَنْشَدَ:
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ، فَتَرَكَ الْأُخْرَى اكْتِفَاءً بِالْأُولَى، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
عَصَيْتُ «١» إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا؟
أَرَادَ أَرُشْدٌ أَمْ غَيٌّ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: أُمَّةٌ: رُفِعَ بِسَوَاءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ يَسْتَوِي أُمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْفَعُ أُمَّةً بِسَوَاءٍ فَلَا يَعُودُ عَلَى اسْمِ لَيْسَ شَيْءٌ، وَيَرْفَعُ بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْلِ، وَيُضْمِرُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرَةِ، فَلَيْسَ لِإِضْمَارِ هَذَا وَجْهٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَذَهَبُوا أَصْحَابُكَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَأَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ. انْتَهَى.
وَعِنْدِي: أَنَّ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ قَوِيٌّ قَوِيمٌ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي أُمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَأْنُهَا كَذَا وَأُمَّةٌ أُخْرَى شَأْنُهَا كَذَا، وَلَيْسَ تَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ مِنْ بَابِ تَقْدِيرِ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّحَّاسُ، فَإِنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ الْكَافِرَةِ لَا يُفِيدُ مَفَادَ تَقْدِيرِ ذِكْرِهَا هُنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى اسْمِ لَيْسَ شَيْءٌ، فَيَرُدُّهُ:
أَنَّ تَقْدِيرَ الْعَائِدِ شَائِعٌ مُشْتَهِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفَنِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَرْفَعُ بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْلِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَالْقَائِمَةُ: الْمُسْتَقِيمَةُ الْعَادِلَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقَمْتُ الْعُودَ فَقَامَ، أَيِ: استقام. وقوله: يَتْلُونَ: في محل رفع أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأُمَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ آناءَ اللَّيْلِ سَاعَاتِهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ ظَاهِرُهُ: أَنَّ التِّلَاوَةَ كَائِنَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالِ السُّجُودِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْآيَةِ: هُمْ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي السُّجُودِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الظَّاهِرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ:
وَهُمْ يُصَلُّونَ، كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنْ مَجْمُوعِ الصَّلَاةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ.
وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهُمْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ فِي صَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ بِصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا:
الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وقيل: صلاة الليل مطلقا. وقوله: وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ صِفَةٌ أُخْرَى لِأُمَّةٍ، أَيْ:
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَرَأْسُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ صِفَتَانِ أَيْضًا لِأُمَّةٍ، أَيْ: أَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ وَصَفَتِهِمْ. وَظَاهِرُهُ يُفِيدُ: أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْعُمُومِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ هُنَا: أَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: نَهْيُهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ: مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ أيضا، أي: يبادرون
(١). في ديوان أبي ذؤيب، والقرطبي (٤/ ١٧٦) :
عصاني إليها القلب إنّي لأمره
428
بِهَا غَيْرَ مُتَثَاقِلِينَ عَنْ تَأْدِيَتِهَا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِقَدْرِ ثَوَابِهَا. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقِيلَ:
مِنْ: بِمَعْنَى: مَعَ، أَيْ: مَعَ الصَّالِحِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ صَالِحٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ. قَوْلُهُ: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أَيَّ خَيْرٍ كَانَ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أَيْ: لَنْ تَعْدِمُوا ثَوَابَهُ، وَعَدَّاهُ إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ وَهُوَ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ لِأَنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنَى الْحِرْمَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُحْرَمُوهُ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:
بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فوق، فيهما، وكان أبو عمرة يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا. وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ: كُلُّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ صِفَةُ التَّقْوَى وَقِيلَ: الْمُرَادُ: مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُمُ الْأُمَّةُ الْمَوْصُوفَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مَدْحًا لَهُمْ، وَرَفْعًا مِنْ شَأْنِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ذَكَرَ كُفَّارَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ.
وَمَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ: لَنْ تَدْفَعَ، وَخَصَّ الْأَوْلَادَ أنهم أَحَبُّ الْقَرَابَةِ وَأَرْجَاهُمْ لِدَفْعِ مَا يَنُوبُهُ. وَقَوْلُهُ: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ
بَيَانٌ لِعَدَمِ إِغْنَاءِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُعَوِّلُونَ عَلَيْهَا. وَالصِّرُّ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ، أَصْلُهُ: مِنَ الصَّرِيرِ الَّذِي هُوَ: الصَّوْتُ، فَهُوَ صَوْتُ الرِّيحِ الشَّدِيدِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: صَوْتُ لَهَبِ النَّارِ الَّتِي فِي تِلْكَ الرِّيحِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَثَلُ نَفَقَةِ الْكَافِرِينَ فِي بُطْلَانِهَا، وَذَهَابِهَا، وَعَدَمِ مَنْفَعَتِهَا، كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ، أَوْ نَارٌ، فَأَحْرَقَتْهُ، أَوْ أَهْلَكَتْهُ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ أَصْحَابُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى طَمَعٍ مِنْ نَفْعِهِ وَفَائِدَتِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَيُقَالُ: كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَتْهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ، أَوْ: مَثَلُ إِهْلَاكِ مَا يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ إِهْلَاكِ رِيحٍ فِيهَا صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
أي: المنفقين من الكافرين لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بِالْكُفْرِ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِ النَّفَقَةِ الَّتِي أَنْفَقُوهَا، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ لَا لِلتَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْفَاعِلِ، لَا بِالْمَفْعُولِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام، وثعلبة، وأسيد ابن سَعِيدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا، وَصَدَّقُوا، وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَتَبِعَهُ إِلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا خِيَارَنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسُوا سَواءً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَقُولُ: مُهْتَدِيَةٌ، قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَمْ تَنْزِعْ عَنْهُ، ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وخرج عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: أُمَّةٌ قائِمَةٌ عَادِلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آناءَ اللَّيْلِ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: سَاعَاتِ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: لَيْسُوا سَواءً قَالَ: لَا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلّى الله عليه وسلم يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ
429
قَالَ: صَلَاةُ الْعَتَمَةِ هُمْ يُصَلُّونَهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُصَلُّونَهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ لَيْلَةً، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ» وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسُوا سَواءً وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَنْصُورٍ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَالَ: لَنْ يَضِلَّ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَالَ: لَنْ تَظْلِمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ يقول: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ
أَيِ: الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، كَمَثَلِ هَذَا الزَّرْعِ إِذَا زَرَعَهُ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ فَأَصَابَهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ فَأَهْلَكَتْهُ، فَكَذَلِكَ أَنْفَقُوا فَأَهْلَكَهُمْ شِرْكُهُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس: يها صِرٌّ
قال: برد شديد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
الْبِطَانَةُ: مَصْدَرٌ، يُسَمَّى بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ: خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ، وَأَصْلُهُ:
الْبَطْنُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الظَّهْرِ، وَبَطْنُ فُلَانٍ بِفُلَانٍ، يُبْطِنُ بُطُونًا وبطانة: إذا كان خاصا بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَهُمْ خُلَصَائِي «١» كُلُّهُمْ وَبِطَانَتِي وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
قَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ أَيْ: مِنْ سِوَاكُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَيْ: مِنْ دُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ، أَيْ:
بِطَانَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ دُونِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا وَقَوْلُهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا: في محل نصب صفة لبطانة، يُقَالُ: لَا أَلُوكَ جَهْدًا: أَيْ لَا أُقَصِّرُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حَشَاشَةُ نَفْسِهِ بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ
(١). في القرطبي (٤/ ١٧٨) : أولئك خلصائي نعم وبطانتي...
430
وَالْمُرَادُ: لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: لِكَوْنِهِ مُضَمِّنًا مَعْنَى المنع، أي:
لا يمنعونكم خَبَالًا، وَالْخَبَالُ وَالْخَبَلُ: الْفَسَادُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَبْدَانِ وَالْعُقُولِ. قَالَ أَوْسُ:
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ إِلَّا يَدًا مَخْبُولَةَ الْعَضُدِ
أَيْ: فَاسِدَةَ الْعَضُدِ. قَوْلُهُ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ مَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: وَدُّوا عَنَتَكُمْ، وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَشِدَّةُ الضَّرَرِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّهْيِ. قَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ هِيَ شِدَّةُ الْبُغْضِ، كَالضَّرَّاءِ: لِشِدَّةِ الضُّرِّ. وَالْأَفْوَاهُ: جَمْعُ فَمٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا قَدْ ظَهَرَتِ الْبَغْضَاءُ فِي كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَامَرَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبُغْضِ وَالْحَسَدِ أَظْهَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَتَرَكُوا التَّقِيَّةَ، وَصَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ. أَمَّا الْيَهُودُ:
فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَكَانَ يَظْهَرُ مِنْ فَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ مَا يَكْشِفُ عَنْ خُبْثِ طويتهم. وهذه الجملة لِبَيَانِ حَالِهِمْ: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لِأَنَّ فلتات اللسان أقل مما تكنه الصُّدُورُ، بَلْ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي الصُّدُورِ قَلِيلَةٌ جِدًّا. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُدْرِكَةِ لِذَلِكَ الْبَيَانِ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ جُمْلَةٌ مُصَدَّرَةٌ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، أَيْ:
أَنْتُمْ أُولَاءِ الْخَاطِئُونَ فِي مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ خَطَأَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَالَاةِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّذْيِيلِيَّةِ. فَقَالَ: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: تُحِبُّونَهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّ أُولَاءِ: مَوْصُولٌ، وَتُحِبُّونَهُمْ: صِلَتُهُ، أَيْ: تُحِبُّونَهُمْ لِمَا أَظْهَرُوا لَكُمُ الْإِيمَانَ، أَوْ لِمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لِمَا قَدِ اسْتَحْكَمَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحَسَدِ. قَوْلُهُ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أَيْ: بِجِنْسِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يُحِبُّونَكُمْ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ بِكُتُبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كِتَابُهُمْ، فَمَا بَالُكُمْ تُحِبُّونَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ. وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْحَقُّ أَحَقُّ بِالصَّلَابَةِ وَالشِّدَّةِ مِمَّنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نِفَاقًا وَتَقِيَّةً. وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ
تَأَسُّفًا وَتَحَسُّرًا، حَيْثُ عَجَزُوا عَنِ الِانْتِقَامِ مِنْكُمْ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الْمُغْتَاظَ وَالنَّادِمَ بِعَضِّ الْأَنَامِلِ وَالْبَنَانِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ اسْتِمْرَارَ غَيْظِهِمْ ماداموا فِي الْحَيَاةِ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَصُدُورِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِذَاتِ الصُّدُورِ: الْخَوَاطِرُ الْقَائِمَةُ بِهَا، وَهُوَ كَلَامٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ:
قُلْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ. قَوْلُهُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَنَاهِي عَدَاوَتِهِمْ، وَحَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ: يَعُمَّانِ كُلَّ مَا يُحْسِنُ وَمَا يَسُوءُ. وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ فِي الْحَسَنَةِ، وَبِالْإِصَابَةِ فِي السَّيِّئَةِ، لِلدَّلَالَةِ: عَلَى أَنَّ مُجَرَّدِ مَسِّ الْحَسَنَةِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَسَاءَةُ، وَلَا يَفْرَحُونَ إِلَّا بِإِصَابَةِ السَّيِّئَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَسَّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَتُهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ أَوْ عَلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَتَتَّقُوا مُوَالَاتِهِمْ، أو ما حرّمه الله عليكم ولا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، يُقَالُ: ضَارَّهُ يَضُورُهُ وَيَضِيرُهُ ضَيْرًا وَضُيُورًا، بِمَعْنَى: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ، فَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَةِ
431
الْأَوْلَى: مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: مَرْفُوعٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، أَيْ: لَا يَضُرُّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَشَيْئًا: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنَ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ لِخَوْفِ الفتنة عليهم منهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أَيْ: بِكِتَابِكُمْ وَبِكِتَابِهِمْ وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ يَعْنِي: النَّصْرَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالرِّزْقَ، وَالْخَيْرَ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَعْنِي: الْقَتْلَ، وَالْهَزِيمَةَ، والجهد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٩]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
الْعَامِلُ فِي «إِذْ» فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ مَنْزِلِ أَهْلِكَ، أَيْ: مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُكَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. قَوْلُهُ: تُبَوِّئُ أَيْ: تَتَّخِذُ لَهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وَأَصْلُ التَّبَوُّءِ:
اتِّخَاذُ الْمَنْزِلِ، يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا: إِذَا أَسْكَنْتَهُ إِيَّاهُ، وَالْفِعْلُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاذْكُرْ إِذْ خَرَجْتَ مِنْ مَنْزِلِ أَهْلِكَ تَتَّخِذُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، أَيْ: أَمَاكِنَ يَقْعُدُونَ فِيهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْغُدُوِّ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ غَدْوَةً، مع كونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَرَجَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ كَمَا سَيَأْتِي، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَبِّرُ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ عَنِ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَصْلِ مَعْنَاهُمَا، كَمَا يُقَالُ: أَضْحَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ الضحى. قوله:
432
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا هُوَ بَدَلٌ مِنْ إِذْ غَدَوْتَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُبَوِّئُ، أَوْ بِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ يَوْمَ أُحُدٍ وَالْفَشَلُ: الْجُبْنُ وَالْهَمُّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، لَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَحَفِظَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، سِيقَتْ لِتَصْبِيرِهِمْ، بِتَذْكِيرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الصَّبْرِ مِنَ النَّصْرِ. وَبَدْرٌ: اسْمٌ لِمَاءٍ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْمَوْضِعِ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُ قِصَّةِ بَدْرٍ فِي الْأَنْفَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَذِلَّةٌ: جَمْعُ قِلَّةٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا بِسَبَبِ قِلَّتِهِمْ أَذِلَّةً، وَهُوَ: جَمْعُ ذَلِيلٍ، اسْتُعِيرَ لِلْقِلَّةِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّةً، بَلْ كَانُوا أَعِزَّةً، وَالنَّصْرُ: الْعَوْنُ. وَقَدْ شَرَحَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِأَتَمِّ شَرْحٍ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي سِيَاقِ ذَلِكَ هَاهُنَا. قَوْلُهُ: إِذْ تَقُولُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نَصَرَكُمُ وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ لِلْإِنْكَارِ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وسلّم عليهم عَدَمَ اكْتِفَائِهِمْ بِذَلِكَ الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ: سَدُّ الْخَلَّةِ وَالْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَالْإِمْدَادُ فِي الْأَصْلِ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَالْمَجِيءُ بِلَنْ: لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَأَصْلُ الْفَوْرِ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِجِدٍّ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَتِ الْقِدْرُ، تَفُورُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا، إِذَا غَلَتْ، وَالْفَوْرُ: الْغَلَيَانُ، وَفَارَ غَضَبُهُ: إِذَا جَاشَ، وَفَعَلَهُ مِنْ فَوْرِهِ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ، وَالْفَوَّارَةُ مَا يَفُورُ مِنَ الْقِدْرِ، اسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ، أَيْ: إِنْ يَأْتُوكُمْ مِنْ سَاعَتِهِمْ هَذِهِ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ فِي حَالِ إِتْيَانِهِمْ، لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: مُسَوِّمِينَ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، أي: معلمين بعلامات، وقرأ أبو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ: مُسَوِّمِينَ بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيْ: مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِعَلَامَةٍ. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَالتَّسْوِيمُ: إِظْهَارُ سِيمَا الشَّيْءِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ:
مُسَوِّمِينَ أَيْ: مُرْسِلِينَ خَيْلَهُمْ فِي الْغَارَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ اعْتَمَّتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ وَقِيلَ: حُمْرٍ، وَقِيلَ: خُضْرٌ وقيل: صفر، فهذه الْعَلَامَةُ الَّتِي عَلَّمُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَقِيلَ: كَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ لِلْإِمْدَادِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، أَوْ لِلتَّسْوِيمِ، أَوْ لِلْإِنْزَالِ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ الزَّجَّاجُ، وَصَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا بُشْرى اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَالْبُشْرَى: اسْمٌ مِنَ الْبِشَارَةِ، أَيْ: إِلَّا لِتُبَشَّرُوا بِأَنَّكُمْ تُنْصَرُونَ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، أَيْ: بِالْإِمْدَادِ، وَاللَّامُ لَامُ كَيْ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِمْدَادَ بُشْرَى بِالنَّصْرِ وَطُمَأْنِينَةً لِلْقُلُوبِ، وَفِي قَصْرِ الْإِمْدَادِ عَلَيْهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ مُبَاشَرَةِ الْمَلَائِكَةِ لِلْقِتَالِ يَوْمَئِذٍ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، فَلَا تَنْفَعُ كَثْرَةُ الْمُقَاتَلَةِ وَوُجُودُ الْعُدَّةِ. قَوْلُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُمْدِدْكُمْ وَالطَّرَفُ: الطَّائِفَةُ، وَالْمَعْنَى: نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ لِيَقْطَعَ طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَقْطَعَ تِلْكَ الطَّائِفَةَ، أَوْ يُمْدِدْكُمْ لِيَقْطَعَ. وَمَعْنَى يَكْبِتَهُمْ: يُحْزِنَهُمْ، وَالْمَكْبُوتُ: الْمَحْزُونُ. وَقَالَ بَعْضُ أهل اللغة: معناه: يكبدهم،
433
أَيْ: يُصِيبُهُمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَيْظِ فِي أَكْبَادِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ مَعْنَى كَبَتَ: أَحْزَنَ وَأَغَاظَ وَأَذَلَّ، وَمَعْنَى كَبَدَ أَصَابَ الْكَبِدَ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أَيْ: غَيْرُ ظَافِرِينَ بِمَطْلَبِهِمْ. قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْإِهْلَاكِ، أَوِ الْهَزِيمَةِ، أَوِ التَّوْبَةِ إِنْ أَسْلَمُوا، أَوِ الْعَذَابِ، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ يَكْبِتَهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ: أَوْ: بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ، بِمَعْنَى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فَتَفْرَحُ بِذَلِكَ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَتُشْفَى بِهِمْ. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ سَعَةِ مُلْكِهِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ، ويحكم ما يريد لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «١» وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَتَبْشِيرٌ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَمَا أوقع هذا التذييل الْجَلِيلَ وَأَحَبَّهُ إِلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ التَّنْزِيلِ!.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ مُعَاذٍ قَالُوا: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَقَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ، وَيَوْمَ أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ. وَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ، فِيهَا صِفَةُ مَا كَانَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَمُعَاتَبَةُ مَنْ عَاتَبَ مِنْهُمْ يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الْآيَةَ قَالَ:
يَوْمَ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: تُوَطِّنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْآيَةَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ كَيْفِيَّةُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَشُورَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَمِنْ قَائِلٍ نَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ قَائِلٍ نَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشِيرِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ رَأْيُهُ الْبَقَاءَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمُقَاتَلَةَ فِيهَا، ثُمَّ لَمَّا خُولِفَ فِي رَأْيِهِ انْخَزَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المنافقين، وهم الثُّلُثِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ فِي بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي سَلَمَةَ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مجاهد وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ إلى بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ يَقُولُ: وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يَمُدُّ الْمُشْرِكِينَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ قَالَ: فَبَلَغَتْ كُرْزًا
(١). الأنبياء: ٢٣.
434
فَلَمْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُمِدَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَمْسَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَعْنِي: كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فَبَلَغَ كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ الْهَزِيمَةَ، فَلَمْ يُمِدَّهُمْ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْخَمْسَةُ، وَأُمِدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ فَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أُمِدُّوا بِأَلْفٍ، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ، فَلَمْ يَصْبِرُوا، وَلَمْ يَتَّقُوا، فَلَمْ يُمَدُّوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَوْ أُمِدُّوا لَمْ يَنْهَزِمُوا يَوْمَئِذٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَقُولُ:
مِنْ سَفَرِهِمْ هَذَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ فَوْرِهِمْ قَالَ: مِنْ وَجْهِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ فَوْرِهِمْ قَالَ: مِنْ غَضَبِهِمْ. وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ قَالَ: مُعَلِّمِينَ، وَكَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ سَوْدَاءَ، وَيَوْمَ أُحُدٍ عَمَائِمَ حَمْرَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ مُعْتَجِرًا بِهَا، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ: عَمَائِمَ بَيْضَاءَ، قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ: عَمَائِمَ حَمْرَاءَ، وَلَمْ تَضْرِبِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانُوا يُكَوِّنُونَ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ. وَفِي بَيَانِ التَّسْوِيمِ عَنِ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: قَطَعَ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ طَرَفًا مِنَ الْكُفَّارِ، وقتل صناديدهم ورؤوسهم وَقَادَتَهُمْ فِي الشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ، قَطَعَ اللَّهُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَالَ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً «١». وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ قَالَ: يُحْزِنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ». وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(١). آل عمران: ١٦٩.
435
صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. يَجْهَرُ بِذَلِكَ. وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا» لِأَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَفِي لَفْظٍ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ لَحْيَانَ وَرَعْلًا وَذَكْوَانَ وَعَصِيَّةَ، عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِلتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا ذُكِرَ وَقِيلَ: هُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَثْنَاءِ قِصَّةِ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ الَّتِي يَعْتَادُونَهَا فِي الرِّبَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرْبُونَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ زَادُوا فِي الْمَالِ مِقْدَارًا يَتَرَاضَوْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزِيدُونَ فِي أَجَلِ الدَّيْنِ، فَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَأْخُذَ الْمُرْبِي أَضْعَافَ دَيْنِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَأَضْعَافًا: حَالٌ، وَمُضَاعَفَةً: نَعْتٌ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْرَارِ التَّضْعِيفِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُفِيدُ تَأْكِيدَ التَّوْبِيخِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى تَجَنُّبِ مَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَفِيهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ مَنِ اسْتَحَلَّ الرِّبَا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اتَّقَوُا الرِّبَا الَّذِي يَنْزِعُ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ، فَتَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ. وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّهُ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْحَرْبِ مِنْهُ لِفَاعِلِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيْ: فِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ: رَاجِينَ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ: وَسارِعُوا عَطْفٌ عَلَى أَطِيعُوا، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: سارِعُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْوَاوِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كِلَا الْأَمْرَيْنِ سَائِغٌ مُسْتَقِيمٌ، وَالْمُسَارَعَةُ:
الْمُبَادَرَةُ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، أَيْ: سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَقَوْلُهُ: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي: عرضها كعرض السموات وَالْأَرْضِ، وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ
436
وَالْأَرْضِ
«١» وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إلى أنها تقرن السموات وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا تُبْسَطُ الثِّيَابُ وَيُوَصَلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَذَلِكَ عَرْضُ الْجَنَّةِ، وَنَبَّهَ بِالْعَرْضِ عَلَى الطُّولِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الطُّولَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْعَرْضِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَاءَ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها لمّا كَانَتِ الْجَنَّةُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالِانْفِسَاحِ فِي غَايَةٍ قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السموات وَالْأَرْضِ مُبَالَغَةً، لِأَنَّهُمَا أَوْسَعُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَعْلَمُهُ عِبَادُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ التَّحْدِيدَ. وَالسَّرَّاءُ: الْيُسْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الْعُسْرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرَهُمَا. وَقِيلَ: السَّرَّاءُ: الرَّخَاءُ، وَالضَّرَّاءُ: الشِّدَّةُ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: السَّرَّاءُ فِي الْحَيَاةِ، وَالضَّرَّاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يُقَالُ: كَظَمَ غَيْظَهُ: أَيْ:
سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ، وَمِنْهُ كَظَمْتُ السِّقَاءَ: أَيْ: مَلَأْتُهُ. وَالْكِظَامَةُ: مَا يَسُدُّ بِهِ مَجْرَى الْمَاءِ، وَكَظَمَ الْبَعِيرُ جَرَّتَهُ «٢» : إِذَا رَدَّهَا فِي جَوْفِهِ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أَيِ: التَّارِكِينَ عُقُوبَةَ مَنْ أَذْنَبَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَحَقَّ الْمُؤَاخَذَةَ، وَذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ ضُرُوبِ الْخَيْرِ. وَظَاهِرُهُ الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْمَمَالِيكِ أَمْ لَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهِمُ: الْمَمَالِيكُ. وَاللَّامُ فِي الْمُحْسِنِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مُحْسِنٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، فَيَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السِّيَاقِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مُسَمَّى الْإِحْسَانِ، أَيَّ إِحْسَانٍ كَانَ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً هَذَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أُولئِكَ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهَؤُلَاءِ هُمْ صِنْفٌ دُونَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مُلْحَقِينَ بِهِمْ، وَهُمُ التَّوَّابُونَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَالْفَاحِشَةُ: وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِعْلَةٌ فَاحِشَةٌ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَقَدْ كَثُرَ اخْتِصَاصُهَا بِالزِّنَا. وَقَوْلُهُ: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: بِاقْتِرَافِ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَقِيلَ: أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ذَكَرُوا اللَّهَ أَيْ:
بِأَلْسِنَتِهِمْ، أَوْ أَخْطَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ ذَكَرُوا وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أَيْ: طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لَهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَفْسِيرُهُ: بِالتَّوْبَةِ، خِلَافُ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْإِنْكَارِ- مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدَّلَالَةِ- عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ: لَا يَغْفِرُ جِنْسَ الذُّنُوبِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَتَنْشِيطٌ لِلْمُذْنِبِينَ أَنْ يَقِفُوا فِي مَوَاقِفِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا عَطْفٌ عَلَى: فَاسْتَغْفَرُوا، أَيْ: لَمْ يُقِيمُوا عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِصْرَارِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: لَمْ يُصِرُّوا عَلَى فِعْلِهِمْ عَالِمِينَ بِقُبْحِهِ. قَوْلُهُ: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً. وَقَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنِ اسم الإشارة. وقوله: مَغْفِرَةٌ خبر ومِنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لِمَغْفِرَةٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص
(١). الجرّة: ما يخرجه البعير ونحوه من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.
(٢). الحديد: ٢١. [.....]
437
بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَجْرُهُمْ، أَوْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجَنَّاتِ وَكَيْفِيَّةُ جَرْيِ الْأَنْهَارِ من تحتها.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ إِلَى الْأَجَلِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ زَادُوا عليهم وزادوا في الأجل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ تَدِينُ بَنِي المغيرة لأجل فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ اتَّقُوا لَا أُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فِي النَّارِ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لِلْكَافِرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَبَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا؟ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةً فِي عَتَبَةِ بَابِهِ اجْدَعْ أَنْفَكَ اجْدَعْ أُذُنَكَ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: وَسارِعُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ وَسارِعُوا قَالَ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَابِقًا عَنِ الْجُمْهُورِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يَقُولُ: فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يَقُولُ: كَاظِمِينَ عَلَى الْغَيْظِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: فِي ثَوَابِ مَنْ كَظَمَ الْغَيْظَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ النَّخَعِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الظُّلْمُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَالْفَاحِشَةُ مِنَ الظُّلْمِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَتَيْنِ مَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَرَأَهُمَا فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ لَهُ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
«١» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا صَاحَ إِبْلِيسُ بِجُنُودِهِ، وَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، وَدَعَا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، حَتَّى جَاءَتْهُ جُنُودُهُ مِنْ كل برّ وبحر، فقالوا: مالك يَا سَيِّدَنَا؟ قَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا يَضُرُّ بَعْدَهَا أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ ذَنْبٌ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، قَالُوا: نَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الْأَهْوَاءِ فَلَا يَتُوبُونَ، وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَرَضِيَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ، وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ، إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ».
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَرَازٍ من الأرض فصلى. وأخرج
(١). النساء: ١١٠.
438
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يُصِرُّوا فَيَسْكُتُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ قَالَ: أَجْرُ الْعَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ الجنة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٤٨]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى وَصْفِ بَاقِي الْقِصَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالسُّنَنِ: مَا سَنَّهُ اللَّهُ فِي الْأُمَمِ مِنْ وَقَائِعِهِ، أَيْ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِ زَمَانِكُمْ وَقَائِعُ سَنَّهَا اللَّهُ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَأَصْلُ السُّنَنِ: جَمْعُ سُنَّةٍ، وَهِيَ: الطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وَالسُّنَّةُ: الْإِمَامُ الْمُتَّبَعُ الْمُؤْتَمُّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلِكُلِّ قوم سنّة وإمامها
وَالسُّنَّةُ: الْأُمَّةُ، وَالسُّنَنُ: الْأُمَمُ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَهْلُ سُنَنٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسِيرُوا سَبَبِيَّةٌ وَقِيلَ: شَرْطِيَّةٌ، أَيْ: إِنْ شَكَكْتُمْ فَسِيرُوا.
وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الْأَمْرِ. وَالْمَعْنَى: سِيرُوا فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا رُسُلَهُمْ بِالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ دُنْيَاهُمُ الَّتِي آثَرُوهَا أَثَرٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْمَطْلُوبُ مِنْ هَذَا السَّيْرِ
439
الْمَأْمُورِ بِهِ: هُوَ حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ حَصَلَتْ بِدُونِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ لِمُشَاهَدَةِ الْآثَارِ زِيَادَةٌ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِمَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ وَقَالَ الْحَسَنُ:
إِلَى الْقُرْآنِ بَيانٌ لِلنَّاسِ أَيْ: تَبْيِينٌ لَهُمْ، وَتَعْرِيفُ النَّاسِ لِلْعَهْدِ، وَهُمُ: الْمُكَذِّبُونَ، أَوْ لِلْجِنْسِ، أَيْ:
لِلْمُكَذِّبِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى النَّظَرِ فِي سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَمَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ. قَوْلُهُ: وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ أَيْ: هَذَا النَّظَرُ مَعَ كَوْنِهِ بَيَانًا فِيهِ هُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَطْفُ الْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى الْبَيَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ اللَّامَ فِي النَّاسِ إِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ: فَالْبَيَانُ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ: فَالْبَيَانُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَحْدَهُمْ. قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا عَزَّاهُمْ وَسَلَّاهُمْ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْعَجْزِ وَالْفَشَلِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَى عَدُوِّهِمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ ظَفَرَ بِعَدُوِّهِ فِي جَمِيعِ وَقَعَاتِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَصَابُوا مِنْكُمُ الْيَوْمَ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا، أَوْ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. وَالْقَرْحُ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: الْجُرْحُ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
هُوَ بِالْفَتْحِ: الْجُرْحُ، وَبِالضَّمِّ: ألمه. وقرأ محمد بن السميقع «قَرَحٌ» بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ: عَلَى الْمَصْدَرِ.
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: إِنْ نَالُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ نِلْتُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَا تَهِنُوا لِمَا أَصَابَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَهِنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالصَّبْرِ مِنْهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، ثُمَّ انْتَصَرَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أَيِ: الْكَائِنَةُ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي حُرُوبِهَا، وَالْآتِيَةُ فِيمَا بَعْدُ، كَالْأَيَّامِ الْكَائِنَةِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ تَارَةً تَغْلِبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، وَتَارَةً تَغْلِبُ الْأُخْرَى، كَمَا وَقَعَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ مُبْتَدَأٌ، وَالْأَيَّامُ: صِفَتُهُ، وَالْخَبَرُ: نُدَاوِلُهَا، وَأَصْلُ الْمُدَاوَلَةِ: الْمُعَاوَرَةُ، دَاوَلْتُهُ بَيْنَهُمْ: عَاوَرْتُهُ. وَالدَّوْلَةُ: الْكُرَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: الْأَيَّامُ: خَبَرًا وَنُدَاوِلُهَا: حَالًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَظْهَرَ أَمْرُكُمْ وَلِيُعْلَمَ، أَوْ يَكُونُ الْمُعَلَّلُ مَحْذُوفًا، أَيْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فِعْلَنَا ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ: أَيْ: فِعْلُنَا فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا، أَوْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الذين آمنوا بصبره علما يقع عليه الجزاء، كما علمه أَزَلِيًّا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أَيْ: يُكْرِمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ. وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِكَوْنِهِ مَشْهُودًا لَهُ بِالْجَنَّةِ، أَوْ جَمْعُ شَاهِدٍ: لِكَوْنِهِ كَالْمُشَاهِدِ لِلْجَنَّةِ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ، وَهُمْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
440
مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَلِ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَالتَّمْحِيصُ: الِاخْتِبَارُ وَقِيلَ: التَّطْهِيرُ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: لِيُمَحِّصَ ذُنُوبَ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَقِيلَ: يُمَحِّصُ: يُخْلِصُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالزَّجَّاجُ، أَيْ: لِيُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَيْ: يَسْتَأْصِلَهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَأَصْلُ التَّمْحِيقِ: مَحْوُ الْآثَارِ، وَالْمُحِقُّ: نَقْصُهَا. قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَأَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: بَلْ أَحَسِبْتُمْ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ واو الحال. والجملة حالية، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ كَالْأَوَّلِ، أَوْ عِلْمٌ يَقَعُ عَلَيْهِ الجزاء. وقوله: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَاوُ بِمَعْنَى: حَتَّى، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: «وَيَعْلَمِ الصَّابِرِينَ» بِالْجَزْمِ، عَطْفًا عَلَى: وَلَمَّا يَعْلَمِ وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ، عَلَى الْقَطْعِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا يَعْلَمِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْجِهَادُ. وَالْمَعْنَى: أَمْ حَسَبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ وَالصَّبْرُ، أَيِ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَمَعْنَى: لَمَّا مَعْنَى: «لَمْ» عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ لَمْ: لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَلَمَّا: لِنَفِيَ الْمَاضِي وَالْمُتَوَقَّعِ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يَتَمَنَّى الْقِتَالَ وَالشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ يَوْمًا يَكُونُ فِيهِ قِتَالٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمُوا مَعَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَلَحُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ، وَلَمْ يَصْبِرْ مِنْهُمْ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، مِثْلُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ عَمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أَيِ: الْقِتَالُ أَوِ الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَوْتِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلَاقُوهُ» وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ هُنَا عَلَى الشَّهَادَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَتَمَنَّيِ الْمَوْتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَرْجِعُ إِلَى تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ لَا إِلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ، وَلَا يَجُوزُ إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ سُؤَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ، فَيَسْأَلُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْجِهَادِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ. قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيِ:
الْقِتَالُ أَوْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَقَيْدُ الرُّؤْيَةِ بِالنَّظَرِ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُمَا: لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: قَدْ رَأَيْتُمُوهُ مُعَايِنِينَ لَهُ حِينَ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ التَّكْرِيرَ بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «١» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: بُصَرَاءُ لَيْسَ فِي أَعْيُنِكُمْ عِلَلٌ وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ مَا سَيَأْتِي: مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُصِيبَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ صَاحَ الشَّيْطَانُ قَائِلًا: قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَفَشِلَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أُصِيبَ مُحَمَّدٌ فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَقَالَ آخَرُ: لَوْ كَانَ رَسُولًا مَا قُتِلَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُمْ: بِأَنَّهُ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَسَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا، فَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ. وَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ، كَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا هَلَاكَهُ فَأَثْبَتُوا لَهُ صِفَتَيْنِ: الرِّسَالَةُ، وَكَوْنُهُ لَا يَهْلَكُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى صِفَةِ عَدَمِ الْهَلَاكِ وَقِيلَ: هُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ رُسُلٌ» ثُمَّ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أَيْ: كَيْفَ تَرْتَدُّونَ وَتَتْرُكُونَ دِينَهُ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ مَعَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الرسل تخلو،
(١). الأنعام: ٣٨.
441
وَيَتَمَسَّكُ أَتْبَاعُهُمْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ فُقِدُوا بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ. وَقِيلَ: الْإِنْكَارُ لِجَعْلِهِمْ خُلُوَّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ سَبَبًا لِانْقِلَابِهِمْ بِمَوْتِهِ أَوْ قَتْلِهِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْقَتْلُ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ: لِكَوْنِهِ مُجَوَّزًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أَيْ: بِإِدْبَارِهِ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ بِارْتِدَادِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً مِنَ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أَيِ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَقَاتَلُوا وَاسْتَشْهَدُوا، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ. وَمَنِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ شَكَرَ النِّعْمَةَ التي أنعم الله بها عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ الْحَثَّ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَمَعْنَى: بِإِذْنِ اللَّهِ: بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ فَشَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ: أَنَّ الْمَوْتَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ مَنُوطٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى النَّفْسِ مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُخْتَارَةٍ لَهُ: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: كِتاباً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: كَتَبَ اللَّهُ الْمَوْتَ كِتَابًا، وَالْمُؤَجَّلُ: الْمُؤَقَّتُ الَّذِي لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى أَجَلِهِ ولا يتأخر. قوله:
وَمَنْ يُرِدْ أي: بعمله ثَوابَ الدُّنْيا كَالْغَنِيمَةِ وَنَحْوِهَا، وَاللَّفْظُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى ثَوَابُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا نُؤْتِهِ مِنْها أَيْ: مِنْ ثَوَابِهَا، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَمَنْ يُرِدْ بِعَمَلِهِ ثَوابَ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، نُؤْتِهِ مِنْ ثَوَابِهَا، وَنُضَاعِفْ لَهُ الْحَسَنَاتِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ كَالْقِتَالِ، وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْهُ كَالْفِرَارِ وَقَبُولِ الْإِرْجَافِ. وَقَوْلُهُ: وَكَأَيِّنْ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: هِيَ: أَيُّ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَثَبَتَتْ مَعَهَا، فَصَارَتْ بَعْدَ التَّرْكِيبِ بِمَعْنَى: كَمْ، وَصُوِّرَتْ فِي الْمُصْحَفِ نُونًا، لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ نُقِلَتْ عَنْ أَصْلِهَا فَغُيِّرَ لَفْظُهَا لِتَغْيِيرِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فَتَصَرَّفَتْ فِيهَا الْعَرَبُ بِالْقَلْبِ وَالْحَذْفِ، فَصَارَ فِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهَا: أَحَدُهَا: كَائِنٌ، مِثْلُ: كَاعِنٍ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشاعر:
وكائن بالأباطح من صديق يراني لَوْ أُصِبْتَ هُوَ الْمُصَابَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَكَائِنْ رددنا عنكم من مدجّج يجيء أَمَامَ الرَّكْبِ يُرْدِي مُقَنَّعَا «١»
وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَكَائِنْ تَرَى مِنْ مُعْجِبٍ لَكَ شَخْصُهُ زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
وَكَأَيِّنْ: بِالتَّشْدِيدِ، مَثَلَ: كَعَيِّنْ، وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَالثَّالِثَةُ: كَأَيْنٍ، مِثْلَ: كَعَيْنٍ مُخَفَّفًا.
وَالرَّابِعَةُ: كَيَئِنْ، بِيَاءٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ نُونٍ، فقال: كأي، لأنه تنوين، ووقف
(١). يردى: يمشي الرّديان، وهو ضرب من المشي فيه تبختر.
والمقنّع: الذي تقنّع بالسّلاح كالبيضة والمغفر.
442
الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. وَالْمَعْنَى: كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، قُتِلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ: جُمْلَةً حَالِيَّةً، كَمَا يُقَالُ: قُتِلَ الْأَمِيرُ مَعَهُ جَيْشٌ، أَيْ: وَمَعَهُ جَيْشٌ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ وَاقِعًا عَلَى رِبِّيُّونَ، فَلَا يَكُونُ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُمُ الرِّبِّيُّونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: «قَاتَلَ»، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ، وَإِذَا حمد من قتل لم يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتَلَ أَعَمُّ وَأَمْدَحُ، وَيُرَجِّحْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثاني من القراءة الأولى: مَا قُتِلَ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ قَطُّ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالرِّبِّيُّونَ: بِكَسْرِ الرَّاءِ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ:
بِضَمِّهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِفَتْحِهَا، وَوَاحِدُهُ: رَبِّيٌّ بِالْفَتْحِ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، وَالرِّبِّيُّ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، مَنْسُوبٌ إِلَى الرِّبَّةِ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَلِهَذَا فَسَرَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِالْجَمَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ وَقِيلَ هُمُ الْأَتْبَاعُ وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبِّيُّ الْوَاحِدُ مِنَ الْعِبَادِ الَّذِينَ صَبَرُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ نُسِبُوا إِلَى التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرُّبِّيُّونَ بِالضَّمِّ الْجَمَاعَاتُ. قَوْلُهُ: فَما وَهَنُوا عَطْفٌ عَلَى قَاتَلَ، أَوْ قُتِلَ. وَالْوَهْنُ انْكِسَارُ الْجِدِّ بِالْخَوْفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «وَهِنُوا» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: لُغَتَانِ، وَهَنَ الشَّيْءُ يَهِنُ وَهْنًا: ضَعُفَ، أَيْ: مَا وَهَنُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ أَوْ لِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَما ضَعُفُوا أَيْ: عَنْ عَدُوِّهِمْ وَمَا اسْتَكانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ. وَالِاسْتِكَانَةُ: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ وَقُرِئَ: «وَمَا وَهَنُوا وَمَا ضَعُفُوا» بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالْعَيْنِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: ضَعَفُوا، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِمَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلَّ وَاسْتَكَانَ وَضَعُفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ الْوَاقِعِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَصْنَعْ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ مَنْ خَلَا مَنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ أَيْ: قَوْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلَهُمْ: مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا: بِرَفْعِ قَوْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: مَا كَانَ قَوْلَهُمْ عِنْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ رَبَّانِيُّونَ، أَوْ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا قِيلَ: هِيَ الصَّغَائِرُ. وَقَوْلُهُ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا قِيلَ: هِيَ الْكَبَائِرُ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الذُّنُوبَ تَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى ذَنْبًا مِنْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ. وَالْإِسْرَافُ: مَا فِيهِ مُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، قَالُوا ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِمْ رَبَّانِيِّينَ: هَضْمًا لِأَنْفُسِهِمْ وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ فَآتاهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثَوابَ الدُّنْيا مِنَ النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْعِزَّةِ وَنَحْوِهَا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ: ثَوَابَ الْآخِرَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ قَالَ: تَدَاوَلَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ ثُمَّ أُنْزِلَ بَقِيَّتُهَا يَوْمَ أحد. وأخرج
443
ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَيانٌ يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا يَعْلُونَ عَلَيْنَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا: مَا فعل النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَنَعَى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وتحدّثوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، فَكَانُوا فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، عَلَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَهُمْ عَلَى الْجَبَلِ. وَكَانُوا عَلَى أَحَدِ مُجَنَّبَتَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَسْفَلَ مِنَ الشِّعْبِ، فَلَمَّا رَأَوُا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَرِحُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ بِهَذَا الْبَلَدِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَلَا تُهْلِكْهُمْ» وَثَابَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُمَاةٌ فَصَعِدُوا فَرَمَوْا خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَعَلَا الْمُسْلِمُونَ الْجَبَلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ قَالَ: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قَالَ: جِرَاحٌ وَقَتْلٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قَالَ: إِنْ يُقْتَلْ مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ الْآيَةَ، قَالَ: أَدَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عَدَدَ الْأُسَارَى الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ عَدَدُ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً وسبعين رجلا. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَرِنَا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ نُقَاتِلُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ وَنُبْلِيكَ فِيهِ خَيْرًا، وَنَلْتَمِسُ فِيهِ الشَّهَادَةَ، فَلَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَاتَّخَذَ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: يَبْتَلِيَهُمْ وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ قَالَ: يَنْقُصَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْتَنَا نُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ أَصْحَابُ بَدْرٍ وَنَسْتَشْهِدُ، أَوْ لَيْتَ لَنَا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ نُقَاتِلُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ، وَنُبْلَى فِيهِ خَيْرًا، وَنَلْتَمِسُ الشَّهَادَةَ وَالْجَنَّةَ وَالْحَيَاةَ وَالرِّزْقَ، فَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ أُحُدًا، فَلَمْ يَثْبُتُوا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ.
فَقَالَ اللَّهُ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كُلَيْبٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: آلَ عِمْرَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا أُحُدِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّقْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَصَعِدْتُ الْجَبَلَ فَسَمِعَتْ يَهُودِيًّا يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَقُولُ قُتِلَ مُحَمَّدٌ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَنَظَرْتُ فإذا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَرَاجَعُونَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوَا إِلَى دِينِكُمُ الْأَوَّلِ، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. أخرج أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ
444
عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قَالَ: الثَّابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ أَبَا بَكْرٍ وَأَصْحَابَهُ، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ:
كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمِيرَ الشَّاكِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَاللَّهِ لَا نَنْقَلِبُ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ، لَأُقَاتِلَنَّ عَلَى مَا قُتِلَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمُوتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: رِبِّيُّونَ قَالَ: أُلُوفٌ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الرِّبَّةُ الْوَاحِدَةُ أَلْفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رِبِّيُّونَ قَالَ: جُمُوعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: عُلَمَاءُ كَثِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اسْتَكانُوا قَالَ: تَخَشَّعُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا قَالَ: خَطَايَانَا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَنْصَارِ الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركوا الْعَرَبِ وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ ارْجِعُوا إِلَى دِينِ آبائكم. وقوله:
يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي: يخرجونكم مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أَيْ: تَرْجِعُوا مَغْبُونِينَ. وَقَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ إِضْرَابٌ عَنْ مَفْهُومِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيْ: إِنْ تُطِيعُوا الْكَافِرِينَ يَخْذُلُوكُمْ، وَلَا يَنْصُرُوكُمْ، بَلِ اللَّهُ نَاصِرُكُمْ، لَا غَيْرُهُ وَقُرِئَ: «بَلِ اللَّهَ» بِالنَّصْبِ، عَلَى تَقْدِيرِ: بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ. قَوْلُهُ: سَنُلْقِي قَرَأَ السَّخْتِيَانِيُّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ:
الرُّعْبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالسُّكُونِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: رَعَبْتُهُ رُعْبًا وَرُعُبًا فَهُوَ مَرْعُوبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالرُّعُبُ بِالضَّمِّ: الِاسْمُ، وَأَصْلُهُ: الْمَلْءُ، يُقَالُ: سَيْلٌ رَاعِبٌ، أَيْ: يَمْلَأُ الْوَادِيَ، وَرَعَبْتُ الْحَوْضَ: مَلَأْتُهُ، فَالْمَعْنَى: سَنَمْلَأُ قُلُوبَ الْكَافِرِينَ رُعْبًا، أَيْ: خَوْفًا وَفَزَعًا، وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الْأَجْسَامِ، وَمَجَازًا فِي غَيْرِهَا كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ نَدِمُوا أَنْ لَا يَكُونُوا اسْتَأْصَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: بِئْسَمَا صَنَعْنَا قَتَلْنَاهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ تَرَكْنَاهُمْ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ،
445
فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:
سَنُلْقِي وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ: مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِجَعْلِهِ شَرِيكًا لَهُ حُجَّةً وَبَيَانًا وَبُرْهَانًا، وَالنَّفْيُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ، أَيْ: لَا حُجَّةَ وَلَا إِنْزَالَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمِلَلِ. وَالْمَثْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، يُقَالُ: ثَوَى، يَثْوِي، ثَوَاءً. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الظَّفَرُ لَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ، حَتَّى قَتَلُوا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَتِسْعَةَ نَفَرٍ بَعْدَهُ فَلَمَّا اشْتَغَلُوا بِالْغَنِيمَةِ وَتَرَكَ الرُّمَاةُ مَرْكَزَهُمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ. وَالْحِسُّ: الِاسْتِئْصَالُ بِالْقَتْلِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. يُقَالُ:
جَرَادٌ مَحْسُوسٌ: إِذَا قَتَلَهُ البرد، وَسَنَةٌ حَسُوسٌ، أَيْ: جَدْبَةٌ تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ، فَمَعْنَى حِسِّهِ: أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ، وَتَحُسُّونَهُمْ: تَقْتُلُونَهُمْ وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حِسًّا فَأَصْبَحَتْ بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجم الحصيد
بِإِذْنِهِ أي: بعلمه، أو بقضائه حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أَيْ: جَبُنْتُمْ وَضَعُفْتُمْ، قِيلَ: جَوَابُ حَتَّى مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: امْتُحِنْتُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ حَتَّى: قَوْلُهُ: وَتَنازَعْتُمْ وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، كقوله: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ «١» وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ فَشِلْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ: عَصَيْتُمْ، وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ. وَقَدْ جَوَّزَ الْأَخْفَشُ مِثْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ «٢» وَقِيلَ:
حَتَّى: بِمَعْنَى إِلَى، وَحِينَئِذٍ لَا جَوَابَ لَهَا، وَالتَّنَازُعُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الرُّمَاةِ حِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَلْحَقُ الْغَنَائِمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَثْبُتُ فِي مَكَانِنَا كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ فِي الِابْتِدَاءِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يَعْنِي: الْغَنِيمَةَ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أَيِ: الْأَجْرُ بِالْبَقَاءِ فِي مَرَاكِزِهِمُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ: رَدَّكُمُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ لِيَمْتَحِنَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لَمَّا عَلِمَ مِنْ نَدَمِكُمْ، فَلَمْ يَسْتَأْصِلْكُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُنْهَزِمِينَ، وَقِيلَ: لِلرُّمَاةِ فَقَطْ. قَوْلُهُ: إِذْ تُصْعِدُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: صَرَفَكُمْ أَوْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أَوْ بِقَوْلِهِ: لِيَبْتَلِيَكُمْ وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَقُنْبُلٌ: «يصعدون» بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَصْعَدْتُ: إِذَا مَضَيْتَ حِيَالَ وَجْهِكَ، وَصَعِدْتُ: إِذَا ارْتَقَيْتَ فِي جَبَلٍ، فَالْإِصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوى الْأَرْضِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَالصُّعُودُ: الِارْتِفَاعُ عَلَى الْجِبَالِ وَالسُّطُوحِ وَالسَّلَالِمِ وَالدَّرَجِ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل
(١). الصافات: ١٠٣.
(٢). التوبة: ١١٨.
446
بَعْدَ إِصْعَادِهِمْ فِي الْوَادِي، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى القراءتين. وقال القتبي: أَصْعَدَ: إِذَا أَبْعَدَ فِي الذَّهَابِ وَأَمْعَنَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أَصْعَدَتْ فَإِنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِصْعَادُ: الِابْتِدَاءُ فِي السَّفَرِ، وَالِانْحِدَارُ: الرُّجُوعُ مِنْهُ، يُقَالُ: أَصْعَدْنَا مِنْ بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَإِلَى خُرَاسَانَ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ: إِذَا خَرَجْنَا إِلَيْهَا وَأَخَذْنَا فِي السَّفَرِ، وَانْحَدَرْنَا: إِذَا رَجَعْنَا. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: صَعِدَ وَأَصْعَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَعْنَى: تَلْوُونَ: تَعْرُجُونَ وَتُقِيمُونَ، أَيْ: لَا يَلْتَفِتُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ هَرَبًا، فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ إِلَى الشَّيْءِ يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقَهُ أَوْ عُنُقَ دَابَّتِهِ عَلى أَحَدٍ أَيْ: عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ مَعَكُمْ وَقِيلَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «تَلُونَ» بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ.
قَوْلُهُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أَيْ: فِي الطَّائِفَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْكُمْ، يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ فِي آخِرِ النَّاسِ، وَآخِرَةِ النَّاسِ، وَأُخْرَى النَّاسِ، وَأُخْرَيَاتِ النَّاسِ. وَكَانَ دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا». قَوْلُهُ:
فَأَثابَكُمْ عَطْفٌ عَلَى صَرَفَكُمْ، أَيْ: فَجَازَاكُمُ اللَّهُ غَمًّا حِينَ صَرَفَكُمْ عَنْهُ بِسَبَبِ غَمٍّ أَذَقْتُمُوهُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِعِصْيَانِكُمْ، أَوْ غَمًّا مَوْصُولًا بِغَمٍّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ وَالْجُرْحِ وَالْقَتْلِ وَظَفَرِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْغَمُّ فِي الْأَصْلِ: التَّغْطِيَةُ، غَمَّيْتُ الشَّيْءَ: غَطَّيْتُهُ، وَيَوْمٌ غَمٌّ، وَلَيْلَةٌ غَمَّةٌ: إِذَا كَانَا مُظْلِمَيْنِ، وَمِنْهُ: غَمُّ الْهِلَالِ وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: الْهَزِيمَةُ، وَالثَّانِي: إشراف أبي سفيان وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَبَلِ. قَوْلُهُ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ أَيْ: هَذَا الْغَمُّ بَعْدَ الْغَمِّ، لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ، تَمْرِينًا لَكُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَتَدْرِيبًا لِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى لِكَيْلا تَحْزَنُوا لِكَيْ تَحْزَنُوا، وَلَا زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أَيْ: أَنْ تَسْجُدَ، وَقَوْلُهُ:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَيْ: لِيَعْلَمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا قال: لا تنتصحوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى دِينِكُمْ، وَلَا تَصْدُقُوهُمْ بِشَيْءٍ فِي دِينِكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ يَقُولُ: إِنْ تُطِيعُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ يَرُدُّكُمْ كُفَّارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَعَدَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى:
أَنْ يَمُدَّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَكَانَ قَدْ فَعَلَ، فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَكُوا مَصَافَّهُمْ، وَتَرَكَتِ الرُّمَاةُ عَهْدَ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَنَازِلَهُمْ، وَأَرَادُوا الدُّنْيَا رُفِعَ عَنْهُمْ مَدَدُ الْمَلَائِكَةِ.
وَقِصَّةُ أُحُدٍ مُسْتَوْفَاةٌ فِي السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطَالَةِ الشَّرْحِ هُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ قَالَ: الْحَسُّ: الْقَتْلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ. قَالَ: الْفَشَلُ: الْجُبْنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ قَالَ: الْغَنَائِمُ وَهَزِيمَةُ الْقَوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:
447
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ أَنْ لَا أَكُونَ اسْتَأْصَلْتُكُمْ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ تُصْعِدُونَ قَالَ: أَصْعَدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ قَالَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ، وَالثَّانِي: حِينَ قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنَ الْهَزِيمَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ قَالَ: فِرَةٌ بَعْدَ الْفِرَةِ، الْأُولَى: حِينَ سَمِعُوا الصَّوْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. [والثانية حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين حتى قتلوا منهم سبعين رجلا] «١». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ، وَالْغَمُّ الْآخَرُ: حِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الربيع مثله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٥]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
الْأَمَنَةُ وَالْأَمْنُ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: الْأَمَنَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ أَسْبَابِ الْخَوْفِ، وَالْأَمْنُ مَعَ عَدَمِهِ، وَهِيَ: مَنْصُوبَةٌ بِأَنْزَلَ. وَنُعَاسًا: بَدَلٌ مِنْهَا، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَمَنَةً: حَالٌ مِنْ نُعَاسًا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، فَبَعِيدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: «أَمْنَةً» بِسُكُونِ الْمِيمِ. قَوْلُهُ:
يَغْشى قُرِئَ: بِالتَّحْتِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنُّعَاسِ، وبالفوقية، على أن الضمير لأمنة، والطائفة: تطلق على الواحد والجماعة، والطائفة الأولى: هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلبا للأجر، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى:
هُمْ مُعَتَّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانُوا خَرَجُوا طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، وَجَعَلُوا يُنَاشِدُونَ عَلَى الْحُضُورِ، وَيَقُولُونَ الْأَقَاوِيلَ. وَمَعْنَى: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمِّ، أَهَمَّنِي الْأَمْرُ: أَقْلَقَنِي، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ:
وَطائِفَةٌ لِلْحَالِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِاعْتِمَادِهَا عَلَى وَاوِ الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ صَارَتْ هَمَّهُمْ، لَا هَمَّ لَهُمْ غَيْرُهَا يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ:
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ، وَظَنُّ الْجَاهِلِيَّةِ: بَدَلٌ مِنْهُ. وَهُوَ الظَّنُّ الْمُخْتَصُّ بِمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ: أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ لَا يُنْصَرُ وَلَا يَتِمُّ ما دعا إليه من دين الحق.
(١). ما بين حاصرتين من تفسير ابن جرير الطبري [٤/ ٨٨].
448
وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ بَدَلٌ مِنْ «يَظُنُّونَ»، أَيْ: يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: هَلْ لَنَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نَصِيبٌ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ: الْجَحْدُ، أَيْ: مَا لَنَا شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَهُوَ النَّصْرُ وَالِاسْتِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ وَقِيلَ: هُوَ الْخُرُوجُ، أَيْ: إِنَّمَا خَرَجْنَا مُكْرَهِينَ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِعَدُوِّكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالنَّصْرُ بِيَدِهِ وَالظُّفْرُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يُضْمِرُونَ فِي أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَلَا يُبْدُونَ لَكَ ذَلِكَ، بَلْ يَسْأَلُونَكَ سُؤَالَ الْمُسْتَرْشِدِينَ.
وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ؟ فَقِيلَ: يَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا أَيْ:
مَا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ قَاعِدِينَ فِي بُيُوتِكُمْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ خُرُوجِ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى هذه المصارع الي صَرَعُوا فِيهَا، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لَا يُرَدُّ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ عِلَّةٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا، مَعْطُوفَةٌ عَلَى عِلَلٍ لَهُ أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعل مَا فُعِلَ لِمَصَالِحَ جَمَّةٍ وَلِيَبْتَلِيَ إِلَخْ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَطْوِيَّةٍ لِبَرَزَ، وَالْمَعْنَى: لِيَمْتَحِنَ مَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أَيِ: انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ اسْتَدْعَى زَلَلَهُمْ بِسَبَبِ بَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي مِنْهَا مُخَالَفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لِتَوْبَتِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمِنَهُمُ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ بِنُعَاسٍ غَشَّاهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْعَسُ مَنْ يَأْمَنُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِينَا وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي، وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ، وَآخُذُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته مِنَ النُّعَاسِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَكَانَ سَيِّدَ الْمُنَافِقِينَ: قُتِلَ الْيَوْمَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: وَهَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قَالَ: ظَنَّ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُعَتَّبٌ هُوَ الَّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاثْنَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ وَرَافِعِ بْنِ الْمُعَلَّى وخارجة ابن زَيْدٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَعْيِينِ «مِنْ» فِي الآية روايات كثيرة.
449

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٦٤]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
قَوْلُهُ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.
قَوْلُهُ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ فِي النِّفَاقِ أَوْ فِي النَّسَبِ، أَيْ: قَالُوا لِأَجْلِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ إِذَا سَارُوا فِيهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا قِيلَ: إِنَّ إِذَا هُنَا الْمُفِيدَةَ لِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ: بِمَعْنَى إِذِ الْمُفِيدَةِ لِمَعْنَى الْمُضِيِّ وَقِيلَ:
هِيَ عَلَى مَعْنَاهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا هُنَا تنوب عن ما مَضَى مِنَ الزَّمَانِ وَمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْ كانُوا غُزًّى جَمْعُ غَازٍ، كَرَاكِعٍ وَرُكَّعٍ، وَغَائِبٍ وَغُيَّبٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْ لِلْقَوَافِلِ وَالْغُزَّى إِذَا غَزَوْا «١»
.......
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: قالُوا أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ لِيَكُونَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ صَارَ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْرُجُوا مَا قُتِلُوا حَسْرَةً، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا أَيْ: لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي اعْتِقَادِ ذَلِكَ، لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ فَقَطْ دُونَ قُلُوبِكُمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ عَدَمَ الْتِفَاتِكُمْ إِلَيْهِمْ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَصْنَعُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَيُحْيِي مَنْ يُرِيدُ، وَيُمِيتُ مَنْ يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلسَّفَرِ أَوِ الْغَزْوِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ مُوَطِّئَةٌ. وَقَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ جَوَابُ الْقَسَمِ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّ السَّفَرَ وَالْغَزْوَ لَيْسَا مِمَّا يَجْلِبُ الْمَوْتَ، وَلَئِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فبأمر اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أَيِ: الْكَفَرَةُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا مُدَّةَ أَعْمَارِهِمْ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بالياء التحتية، أو خير
(١). هو صدر بيت لزياد الأعجم، وعجزه: والباكرين وللمجدّ الرّامح.
450
مِمَّا تَجْمَعُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ: بَيَانُ مَزِيَّةِ الْقَتْلِ أَوِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَزِيَادَةِ تَأْثِيرِهِمَا فِي اسْتِجْلَابِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. قَوْلُهُ: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ، حَسَبَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى: أَيْ: إِلَى الرَّبِّ الْوَاسِعِ الْمَغْفِرَةِ تُحْشَرُونَ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى الْفِعْلِ، مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالذِّكْرِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ اللُّطْفِ وَالْقَهْرِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قال سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْبَاءِ، وَرَحْمَةٍ: بَدَلٌ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِثْلُهُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِنْتَ لَهُمْ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَتَنْوِينُ رَحْمَةٍ لِلتَّعْظِيمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِينَهُ لَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِسَبَبِ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْهُ وَقِيلَ: إِنَّ: مَا، اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ؟ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُذِفَ الْأَلْفُ مِنْ مَا وَقِيلَ: فَبِمَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَالْفَظُّ: الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَظُّ هُوَ الْكَرِيهُ الْخُلُقِ، وَأَصْلُهُ: فَظِظَ، كَحَذِرَ. وَغِلَظُ الْقَلْبِ: قَسَاوَتُهُ، وَقِلَّةُ إِشْفَاقِهِ، وَعَدَمُ انْفِعَالِهِ لِلْخَيْرِ. وَالِانْفِضَاضُ:
التَّفَرُّقُ، يُقَالُ: فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا، أَيْ: فَرَقْتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا، وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَا تَرْفُقُ بِهِمْ لَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِكَ، هَيْبَةً لَكَ، وَاحْتِشَامًا مِنْكَ، بِسَبَبِ مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ فَاعْفُ عَنْهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكَ مِنَ الْحُقُوقِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَيِ: الَّذِي يَرِدُ عَلَيْكَ، أَيَّ أَمْرٍ كَانَ مِمَّا يُشَاوَرُ فِي مِثْلِهِ، أَوْ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ خَاصَّةً، كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَطْيِيبِ خَوَاطِرِهِمْ وَاسْتِجْلَابِ مَوَدَّتِهِمْ، وَلِتَعْرِيفِ الْأُمَّةِ بِمَشْرُوعِيَّةٍ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَأْنَفَ مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدَكَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمُشَاوَرَةُ فِي غَيْرِ الْأُمُورِ الَّتِي يَرِدُ الشَّرْعُ بِهَا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاسْتِشَارَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا: إِذَا عَلِمْتَ خَبَرَهَا وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ الْعَسَلَ: إِذَا أَخَذْتَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمُشَاوَرَةِ وُجُوهِ الْجَيْشِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ عَزْلِ مَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. قَوْلُهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ: إِذَا عَزَمْتَ عَقِبَ الْمُشَاوَرَةِ عَلَى شَيْءٍ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُكَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، أَيِ: اعْتَمِدْ عَلَيْهِ وَفَوِّضْ إِلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى الْمُشَاوَرَةِ. وَالْعَزْمُ فِي الْأَصْلِ:
قَصْدُ الْإِمْضَاءِ أَيْ: فَإِذَا قَصَدْتَ إِمْضَاءَ أَمْرٍ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: «فَإِذَا عَزَمْتُ» : بِضَمِّ التَّاءِ، بِنِسْبَةِ الْعَزْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فَإِذَا عَزَمْتُ لَكَ عَلَى شَيْءٍ، وَأَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِتَأْكِيدِ التَّوَكُّلِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ.
وَالْخِذْلَانُ: تَرْكُ الْعَوْنِ، أَيْ: وَإِنْ يَتْرُكِ اللَّهُ عَوْنَكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ:
451
إِنْكَارِيٌّ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْخِذْلَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أَوْ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ مَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ لَا غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لَا نَاصِرَ لَهُ، فَوَّضَ أُمُورَهُ إِلَيْهِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: لِإِفَادَةِ قَصْرِهِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ مَا صَحَّ لَهُ ذَلِكَ لِتَنَافِي الْغُلُولِ وَالنُّبُوَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغُلُولُ: مِنَ الْمَغْنَمِ خَاصَّةً، وَلَا نَرَاهُ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَا مِنَ الْحِقْدِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يَغُلُّ، وَمِنَ الْحِقْدِ: غَلَّ يَغِلُّ بِالْكَسْرِ، وَمِنَ الْغُلُولِ: غَلَّ يَغُلُّ بِالضَّمِّ يُقَالُ: غَلَّ الْمَغْنَمُ غُلُولًا، أَيْ: خان بأن يأخذ لنفسه شيئا يستره عَلَى أَصْحَابِهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: مَا صَحَّ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَغْنَمِ، فَيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِ أَصْحَابِهِ. وَفِيهِ تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْغُلُولِ. وَمَعْنَاهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: مَا صَحَّ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ:
يَخُونُهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: نَهْيٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْغُلُولِ فِي الْمَغَانِمِ وَإِنَّمَا خَصَّ خِيَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِ خِيَانَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ حَرَامًا، لِأَنَّ خِيَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ ذَنْبًا وَأَعْظَمُ وِزْرًا وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: يَأْتِ بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا صَحَّ ذلك عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيَفْضَحُهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهُ، بِأَنَّهُ ذَنْبٌ يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الْأَشْهَادِ، يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ مَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا غَلَّهُ حَامِلًا لَهُ، قَبْلَ أن يحاسب عليه يعاقب عليه. قوله: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي: تعطي جزاء ما كسبت وَافِيًا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَسَبَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْغَالُّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، لِكَوْنِ السِّيَاقِ فِيهِ. قَوْلُهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَيْسَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَعَمِلَ بِأَمْرِهِ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ كَمَنْ بَاءَ، أَيْ: رَجَعَ بِسَخَطٍ عَظِيمٍ كَائِنٍ مِنَ اللَّهِ، بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ، مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ بِتَرْكِ الْغُلُولِ وَاجْتِنَابِهِ، وَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْغُلُولِ. ثُمَّ أَوْضَحَ مَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ فَقَالَ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ وَالْمَعْنَى: هُمْ ذَوُو دَرَجَاتٍ، أَوْ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ، فَدَرَجَاتُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَدَرَجَاتِ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ فِي أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ. وَالْآخَرِينَ فِي أَسْفَلِهَا. قَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِكَوْنِهِمُ الْمُنْتَفِعِينَ بِبَعْثَتِهِ. وَمَعْنَى: مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِثْلُهُمْ وَقِيلَ: بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَوَجْهُ الْمِنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ عَنْهُ، وَيَفْهَمُونَ كَلَامَهُ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تُرْجُمَانٍ. وَمَعْنَاهَا عَلَى الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَأْنَسُونَ بِهِ بِجَامِعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا لَمْ يَحْصُلْ كَمَالُ الْأُنْسِ بِهِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّةِ، وَقُرِئَ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ: مِنْ أَشْرَفِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَفْضَلُ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ أَفْضَلُ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِامْتِنَانِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَشْرَفِهِمْ كَانُوا أَطْوَعَ لَهُ وَأَقْرَبَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعَرَبِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التخصيص،
452
وَكَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِفَتْحِ الْفَاءِ، لَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ هُمْ أَنْفَسُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي شَرَفِ الْأَصْلِ وكرم النجاد وَرِفَاعَةِ الْمَحْتِدِ. وَيَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ وقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ هَذِهِ مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ: يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ وَيُزَكِّيهِمْ أَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنْ نَجَاسَةِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهُمَا: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ صِفَةٍ لِرَسُولٍ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: الْقُرْآنُ. وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ ذَلِكَ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ، أَوْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ:
وَاضِحٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَاللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، فَهِيَ تَدْخُلُ فِي خَبَرِ الْمُخَفَّفَةِ لَا النَّافِيَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ وَقِيلَ: إِنَّهَا النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى: إِلَّا، أَيْ: وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْلُ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: يُحْزِنُهُمْ قَوْلُهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ شَيْئًا. وَأَخْرَجُوا عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ قَالَ: لَانْصَرَفُوا عَنْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا رَحْمَةً لِأُمَّتِي، فَمَنِ اسْتَشَارَ مِنْهُمْ لَمْ يَعْدَمْ رُشْدًا، وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَعْدَمْ غَيًّا». وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَزْمِ، فَقَالَ: «مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ افْتُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَتَّهِمَهُ أَصْحَابُهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْغُلُولِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَقُولُ: بِأَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ، قَالَتْ: هذه للعرب خاصة.
453

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]

أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
قَوْلُهُ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الْأَلِفُ لِلِاسْتِفْهَامِ بِقَصْدِ التَّقْرِيعِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ. وَالْمُصِيبَةُ: الْغَلَبَةُ وَالْقَتْلُ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ. وَقَدْ كَانُوا قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسِرُوا سَبْعِينَ، فَكَانَ مَجْمُوعُ الْقَتْلَى وَالْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَيِ الْقَتْلَى من المسلمين يوم أحد والمعنى: أحين أَصَابَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نِصْفُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ جَزِعْتُمْ وَقُلْتُمْ مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا؟ وَقَدْ وُعِدْنَا بِالنَّصْرِ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى هَذَا أَيْ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا الِانْهِزَامُ وَالْقَتْلُ وَنَحْنُ نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، أي: هذا الذي سألتم عنه، وهو مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ الرُّمَاةِ لِمَا أمرهم به النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْ لُزُومِ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُمْ، وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ خُرُوجُهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَيَرُدُّهُ أَنَّ الْوَعْدَ بِالنَّصْرِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقِيلَ: هُوَ اخْتِيَارُهُمُ الفداء يوم بدر على القتل، ويَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ: مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْهَزِيمَةِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ فَبِعِلْمِهِ، وَقِيلَ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَقِيلَ بِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَالْفَاءُ: دَخَلَتْ فِي جَوَابِ الْمَوْصُولِ لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الشَّرْطَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ عَطْفُ سَبَبٍ عَلَى سَبَبٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، قِيلَ: أَعَادَ الْفِعْلَ لِقَصْدِ تَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْمُنَافِقِينَ وَاحِدًا، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا: التَّمْيِيزُ وَالْإِظْهَارُ، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى ثَابِتٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ. قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: نافَقُوا أَيْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ نَافَقُوا وَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَوِ ادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَبَوْا جَمِيعَ ذَلِكَ وَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ وَقَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا قِتَالَ هُنَالِكَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَنُحْسِنُهُ لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ولا نحسنه. وعبر عن نفي القدر عَلَى الْقِتَالِ: بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، لِكَوْنِهَا مُسْتَلْزِمَةً لَهُ، وَفِيهِ بُعْدٌ لَا مُلْجِئَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَوْ نَعْلَمُ مَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِنْ مَا أَنْتُمْ بِصَدَدِهِ لَيْسَ بِقِتَالٍ، وَلَكِنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَلَى دَفْعِ مَا وَرَدَ مِنَ الْجَيْشِ بِالْبُرُوزِ إِلَيْهِمْ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وهذا أيضا فيه بعد دون مَا قَبْلَهُ وَقِيلَ: مَعْنَى الدَّفْعِ هُنَا:
454
تَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: رَابِطُوا، وَالْقَائِلُ لِلْمُنَافِقِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أَيْ: هُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي انْخَذَلُوا فِيهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ بَيَّنُوا حَالَهُمْ، وَهَتَكُوا أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفُوا عَنْ نِفَاقِهِمْ إِذْ ذَاكَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ نُصْرَةً مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَهَا، أَيْ: أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ، وَذِكْرُ الأفواه للتأكيد، مثل قوله:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «١». قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِلَخْ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ: وَاوِ يكتمون، أو منصوبا على الذمّ، أو وصف لِلَّذِينَ نَافَقُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أَيْ: قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ قَدْ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ لَوْ أَطاعُونا بِتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا قُتِلُوا، فَرَدَّ الله ذلك عليهم بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ، أَيْ: لَا يَنْفَعُ الْحَذَرُ مِنَ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْمَقْتُولَ يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الْآيَةَ. يَقُولُ:
إِنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَيْ مَا أَصَابُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا عِكْرِمَةُ. فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمَّا رَأَوْا مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا مِنْ أَيْنَ هَذَا؟
مَا كَانَ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَقْتُلُوا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: هُمْ بِالْأَسْرَى الَّذِينَ أَخَذْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَعَجَّلَ لَهُمْ عُقُوبَةَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لِيَسْلَمُوا مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْأُسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَدَّمُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يقتل مِنْهُمْ عِدَّتَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا، لَا، بَلْ نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ فَنَقْوَى بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عِدَّتُهُمْ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا نَكْرَهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رِجْلًا عِدَّةُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ هُوَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ. وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عبيدة، عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَإِسْنَادُ ابْنِ جَرِيرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ سُنَيْدٌ: وَهُوَ حُسَيْنٌ، وَحَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، حدثنا قراد ابن نُوحٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عمر بن الخطاب
(١). الأنعام: ٣٨.
455
قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَفَرَّ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزّ وجلّ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية. وأخرج الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ وَهُوَ قُرَادُ بْنُ نُوحٍ، بِهِ، وَلَكِنْ بِأَطْوَلَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى حَدِيثِ التَّخْيِيرِ السَّابِقِ: مَا نَزَلَ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ أَخَذَ الْفِدَاءَ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «١» وَمَا رُوِيَ مِنْ بُكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ نَدَمًا عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَلَوْ كَانَ أَخْذُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعَاتِبْهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا حَصَلَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّدَمِ وَالْحُزْنِ، وَلَا صوب النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ رَأْيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَيْثُ أَشَارَ بِقَتْلِ الْأَسْرَى وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: لَوْ نَزَلَتْ عُقُوبَةٌ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا عُمَرُ، وَالْجَمِيعُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ نُقَاتِلُ غَضَبًا لِلَّهِ وَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ. فَقَالَ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ عُقُوبَةٌ لكم بمعصيتكم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: لَا تَتْبَعُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَوِ ادْفَعُوا قَالَ: كَثِّرُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَوْنِ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَوِ ادْفَعُوا قَالَ: رَابِطُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْمَدِينَةِ انْخَزَلَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، وَاللَّهِ مَا ندري على ما نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا؟
فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ! أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَنْ تَخْذُلُوا نبيكم وقومكم عند ما حَضَرَهُمْ عَدُّوهُمْ، قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، والحسن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: أنهم لما استعصوا عليه وأبو إِلَّا الِانْصِرَافَ قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ قَالَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّا وَاجِدُونَ مَعَكُمْ مَكَانَ قِتَالٍ لَاتَّبَعْنَاكُمْ.
(١). الأنفال: ٦٧.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٥]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
456
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا جَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا لِيَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَالْكَاذِبُ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ وَقُتِلَ فَلَهُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالنِّعْمَةُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، لَا مِمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ، كَمَا قَالُوا مَنْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا وقالوا: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقُرِئَ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الشُّهَدَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَقِيلَ:
فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ، وَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ حَيَاةً مُحَقَّقَةً. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَيَتَنَعَّمُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَيْ: يَجِدُونَ رِيحَهَا وَلَيْسُوا فِيهَا، وَذَهَبَ مَنْ عَدَا الْجُمْهُورِ: إِلَى أَنَّهَا حَيَاةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مستحقون للتنعم فِي الْجَنَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا مُوجِبَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَمَتَّعُونَ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ قُتِلُوا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ.
وَالْحَاسِبُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ كُلُّ أَحَدٍ كَمَا سَبَقَ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ هُوَ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمْوَاتًا، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ: بَلْ أَحْسَبُهُمْ أَحْيَاءً. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِمَّا خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ صِفَةٌ لِأَحْيَاءٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْكَرَامَةِ، لَا عِنْدِيَّةُ الْقُرْبِ. وَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ يَحْتَمِلُ فِي إِعْرَابِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ هُنَا: هُوَ الرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ فِي العادات على ما ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَلَفَ، وَعِنْدَ مَنْ عَدَا الجمهور المراد: الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَلَا وَجْهَ يَقْتَضِي تَحْرِيفَ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَمْلَهَا عَلَى مَجَازَاتٍ بَعِيدَةٍ، لَا لِسَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ حال من الضمير في يرزقون، وبما آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابن السميقع: «فَارِحِينَ» وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، وَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ.
وَالْمُرَادُ: بِما آتاهُمُ اللَّهُ مَا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ بِالشَّهَادَةِ، وَمَا صَارُوا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا إِذْ ذَاكَ. فَالْمُرَادُ بِاللُّحُوقِ هُنَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْقَتْلِ وَالشَّهَادَةِ، بَلْ سَيَلْحَقُونَ بِهِمْ من بعد، وقيل:
المراد: يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ فَضْلٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ: فِي وَيَسْتَبْشِرُونَ، عَاطِفَةٌ عَلَى يُرْزَقُونَ أَيْ: يُرْزَقُونَ وَيَسْتَبْشِرُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِخْوَانِهِمْ هُنَا: جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ الشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ثَوَابَ اللَّهِ وَحَصَلَ لَهُمُ الْيَقِينُ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الذين
457
هُمْ أَحْيَاءٌ لَمْ يَمُوتُوا، وَهَذَا أَقْوَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَوْسَعُ، وَفَائِدَتُهُ أَكْثَرُ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ فُورَكٍ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بَدَلٌ مِنَ: الَّذِينَ، أَيْ يَسْتَبْشِرُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حُزْنٌ، وَأَنْ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا: ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمَحْذُوفُ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: يَسْتَبْشِرُونَ لِتَأْكِيدِ الْأَوَّلِ وَلِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، بَلْ بِهِ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. وَالنِّعْمَةُ: مَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ. وَالْفَضْلُ: مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ: الثَّوَابُ. وَالْفَضْلُ: الزَّائِدُ وَقِيلَ: النِّعْمَةُ: الْجَنَّةُ، وَالْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ، ذُكِرَ بَعْدَهَا لِتَأْكِيدِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِبْشَارَ الْأَوَّلَ: مُتَعَلِّقٌ بِحَالِ إِخْوَانِهِمْ، وَالِاسْتِبْشَارَ الثَّانِيَ: بِحَالِ أَنْفُسِهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ: أَنَّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: هُوَ مُسْتَأْنَفُ اعْتِرَاضٍ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى فَضْلٍ، دَاخِلَةٌ فِي جُمْلَةِ مَا يَسْتَبْشِرُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ، أَوْ: مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، أَوْ: هُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ بِجُمْلَتِهِ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقَرْحِ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَجَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ عَلَيْهِ: لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: رَكْبُ عَبْدِ الْقَيْسِ الَّذِينَ مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَزادَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، بَقَالَ، أَوْ إِلَى الْمَقُولِ، وَهُوَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ أَوْ إِلَى الْقَائِلِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَفْشَلُوا لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ وَلَا الْتَفَتُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ، وَازْدَادُوا طُمَأْنِينَةً وَيَقِينًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَوْلُهُ: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حَسْبُ: مَصْدَرُ حَسَبَهُ، أَيْ: كَفَاهُ، وَهُوَ بمعنى الفاعل، أي: محسب: بمعنى كافي.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُحْسِبِ: أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ حَسْبُكَ، فَتَصِفُ بِهِ النَّكِرَةَ، لِأَنَّ إِضَافَتَهُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ. انْتَهَى. وَالْوَكِيلُ: هُوَ مَنْ تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، أَيْ: نِعْمَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ أَمْرُنَا، أَوِ الْكَافِي، أَوِ الْكَافِلُ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: نِعْمَ الْوَكِيلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: فَانْقَلَبُوا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا.
وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: رَجَعُوا مُتَلَبِّسِينَ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنْ عَدُوِّهُمْ وَعَافِيَةٍ وَفَضْلٍ أَيْ: أَجْرٍ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: رِبْحٌ فِي التِّجَارَةِ وَقِيلَ: النِّعْمَةُ خَاصَّةً بِمَنَافِعِ الدنيا، والفضل بمنافع الآخرة، وقد تقدّم تفسيرهما قَرِيبًا بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَقَامَ، لِكَوْنِ الْكَلَامِ فِيهِ مَعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْكَلَامُ هُنَا مَعَ الْأَحْيَاءِ. قَوْلُهُ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ:
سَالِمِينَ عَنْ سُوءٍ، لَمْ يُصِبْهُمْ قَتْلٌ، وَلَا جَرْحٌ، وَلَا مَا يَخَافُونَهُ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ فِي مَا يَأْتُونَ وَيَذْرُوَنَ، وَمِنْ ذَلِكَ: خُرُوجُهُمْ لِهَذِهِ الْغَزْوَةِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ وَلَا يَبْلُغُ مَدَاهُ، وَمِنْ تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ:
458
تَثْبِيتُهُمْ، وَخُرُوجُهُمْ لِلِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ جَالِبَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَدَافِعَةٌ لِكُلِّ شَرٍّ. قَوْلُهُ: إِنَّما ذلِكُمُ أَيِ: الْمُثَبِّطُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الشَّيْطانُ هُوَ خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ:
يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، أَوْ حَالِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا: الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ، بِاعْتِبَارِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الوسوسة المقتضية للتثبيط وقيل: المراد به: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا قَالَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَقِيلَ: أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا صَدَرَ مِنْهُ الْوَعِيدُ لَهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ:
أَوْلِياءَهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بِأَنَّ التَّخْوِيفَ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ وَمَنْ مَعَهُ: يَكُونُ مَفْعُولُ يُخَوِّفُ مَحْذُوفًا، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا، وَالثَّانِي مَذْكُورًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَلَا حَذْفَ. قَوْلُهُ: فَلا تَخافُوهُمْ أَيْ: أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ يُخَوِّفُكُمْ بِهِمُ الشَّيْطَانُ، أَوْ: فَلَا تَخَافُوا النَّاسَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَخَافُوهُمْ، فَيَجْبُنُوا عَنِ اللِّقَاءِ، وَيَفْشَلُوا عَنِ الْخُرُوجِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخَافُوهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَخافُونِ فَافْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَاتْرُكُوا مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، لِأَنِّي الْحَقِيقُ بِالْخَوْفِ مِنِّي، وَالْمُرَاقَبَةِ لِأَمْرِي وَنَهْيِي، لِكَوْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِيَدِي، وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَحَمْزَةُ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا»، وَفِي لَفْظٍ: «قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنَكِلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا». وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَبَاهُ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ وَرَاءَهُ مَا هُوَ فِيهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهُوَ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَتْلَى أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَتْلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْآيَةُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا كُلُّ شَهِيدٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَثَبَتَ فِي فَضْلِ الشُّهَدَاءِ مَا يَطُولُ تَعْدَادُهُ، وَيَكْثُرُ إِيرَادُهُ، مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ
459
مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، بِئْسَ مَا صَنَعْتُمُ، ارْجِعُوا، فَسَمِعَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَنَدَبَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْتَدَبُوا حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، أَوْ بِئْرَ أَبِي عُتْبَةَ، شَكَّ سُفْيَانُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَرْجِعُ مِنْ قَابِلٍ، فَرَجَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ تُعَدُّ غَزْوَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ، الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ نَبِيَّ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ انْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: مَنْ يَرْجِعُ فِي أَثَرِهِمْ؟ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لحمراء الْأَسَدِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِالرَّجْعَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَقَالُوا: رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، لَنَكُرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُهُمْ، فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، وَمَرَّ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ: بَلِّغُوا مُحَمَّدًا أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الرَّجْعَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ فَلَمَّا مَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ أَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مُغَازِيهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ بَدْرًا. فَاحْتَمَلَ الشَّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ، فَمَشَوْا فِي النَّاسِ يُخَوِّفُونَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أُخْبِرَنَا: أَنْ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ اللَّيْلِ، يَرْجُونَ أَنْ يُوَاقِعُوكُمْ. وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْقَرْحُ: الْجِرَاحَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ لَقُوا أَعْرَابِيًّا، فَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا عَلَى أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا لَهُمْ، فَأَخْبَرَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي الْأَعْرَابِيِّ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ مِنْ خُزَاعَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَعْنِي: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، أَحَادِيثُ مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَقَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، أَمَانُ كُلِّ خَائِفٍ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الذِّكْرِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَدَّ غَمُّهُ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَ:
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»
. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لما أدبر:
460
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلُ، فَقَالَ: مَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ:
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ؟ ثُمَّ أَمَرَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَقُولُوا:
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا»
وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قَالَ: النِّعْمَةُ: أَنَّهُمْ سَلِمُوا، وَالْفَضْلُ: أَنَّ عِيرًا مَرَّتْ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَرَبِحَ مَالًا، فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْفَضْلُ: مَا أَصَابُوا مِنَ التِّجَارَةِ وَالْأَجْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَمَّا النِّعْمَةُ: فَهِيَ الْعَافِيَةُ، وَأَمَّا الْفَضْلُ: فَالتِّجَارَةُ، وَالسُّوءُ: الْقَتْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ قَالَ: لَمْ يُؤْذِهِمْ أَحَدٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ قَالَ: أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ قَالَ: يَقُولُ: الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ بِأَوْلِيَائِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: يُعَظِّمُ أَوْلِيَاءَهُ فِي أَعْيُنِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفَ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَخَافُ الشَّيْطَانَ إِلَّا وليّ الشيطان.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٦ الى ١٨٠]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
قَوْلُهُ: وَلا يَحْزُنْكَ: قَرَأَ نَافِعٌ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالزَّايِ «١»، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، يقال: حزنني الأمر وأحزنني، والأول أفصح. وقرأ طلحة: يُسارِعُونَ قِيلَ: هُمْ قَوْمٌ ارْتَدُّوا، فَاغْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، فَسَلَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ: بِأَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شيئا، وإنما ضروا أنفسهم، بأن لاحظ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَقِيلَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَقِيلَ: هو عام في جميع الكفار. قال
(١). قال محقق تفسير القرطبي [٤/ ٢٨٤] : الصواب بضم الياء وكسر الزاي. قلنا: وهذا يوافق قراءة نافع.
461
الْقُشَيْرِيُّ: وَالْحُزْنُ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ طَاعَةٌ، وَلَكِنَّ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُفْرِطُ فِي الْحُزْنِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «١» فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «٢» وعدى يسارعون بِفِي دُونَ إِلَى، لِلدَّلَالَةِ: عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهِ مُدِيمُونَ لِمُلَابَسَتِهِ، وَمِثْلُهُ: يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُفْرَهُمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شَيْئًا وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاءَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: لَنْ يَضُرُّوا دِينَهُ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَشَيْئًا: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِشَيْءٍ. وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: رَجُلٌ حَظِيظٌ، إِذَا كَانَ ذَا حَظٍّ مِنَ الرِّزْقِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ نَصِيبًا مِنَ الثَّوَابِ، وَصِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ: للدالة عَلَى دَوَامِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ، فَكَانَ ضَرَرُ كُفْرِهِمْ عَائِدًا عَلَيْهِمْ، جَالِبًا لَهُمْ عَدَمَ الْحَظِّ فِي الْآخِرَةِ، وَمَصِيرَهُمْ فِي الْعَذَابِ الْعَظِيمِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أَيِ: اسْتَبْدَلُوا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً مَعْنَاهُ:
كَالْأَوَّلِ، وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَوَّلَ: خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالثَّانِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَغَيْرُهُمَا:
يَحْسَبَنَّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأُولَى: لَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُونَ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ بِطُولِ الْعُمْرِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ، أَوْ بِمَا أَصَابُوا مِنَ الظَّفَرِ يَوْمَ أُحُدٍ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ:
إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ! أَنَّ الْإِمْلَاءَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِمَا ذُكِرَ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ، وَنَازِلٌ بِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمْلَاءَ الَّذِي نُمْلِيهِ لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. فَالْمَوْصُولُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَأَنَّمَا نُمْلِي وَمَا بَعْدَهُ: سَادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ الْحُسْبَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَوْ سَادٌّ مَسَدَّ أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْأَخْفَشِ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: فَقَالَ الزَّجَّاجُ:
إِنَّ الْمَوْصُولَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّمَا وَمَا بَعْدَهَا: بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ، سَادٌّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَنَّمَا وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ: خَيْرًا، بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَحْسَبَنَّ إِمْلَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّهُ يُقَدَّرُ تَكْرِيرُ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ، فَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ الْبَدَلِ وَلَمْ يُذْكَرْ إِلَّا أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِفِعْلِ الْحُسْبَانِ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمُنَحَّى، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ جَعَلْتَ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَعَ امْتِنَاعِ سُكُوتِكَ عَلَى مَتَاعِكَ. انْتَهَى. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: أَنَّما نُمْلِي بِكَسْرِ إِنَّ فِيهِمَا، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ الْإِمْلَاءِ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ: لِأَنَّهُ سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار
(١). فاطر: ٨.
(٢). الكهف: ٦.
462
الْكُفَّارِ، وَيَجْعَلُ عَيْشَهُمْ رَغْدًا لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ الْأَخْفَشَ يَذْكُرُ كَسْرَ أَنَّما نُمْلِي الْأُولَى وَفَتْحَ الثَّانِيَةِ، وَيَحْتَجُّ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ عِلَّةٌ، وما كل علة بعرض، ألا ترك تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الْغَزْوِ لِلْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَعْرِضُ لَكَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ. قَوْلُهُ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ.
وَالْخِطَابُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتْرُكَكُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ حَتَّى يَمِيزَ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ! عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيزَ بَيْنَكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ. وَقُرِئَ يَمِيزَ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُخَفَّفِ، مِنْ: مَازَ الشَّيْءَ، يَمِيزُهُ، مَيْزًا «١» : إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاءَ قِيلَ: مَيَّزَهُ تَمْيِيزًا وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حَتَّى تُمَيِّزُوا بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ، فَإِنَّهُ الْمُسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، يَجْتَبِيهِ فَيُطْلِعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْبِهِ، فَيُمَيِّزَ بَيْنَكُمْ، كَمَا وَقَعَ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ تَعْيِينِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ لَهُ، لَا بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّبُوَّةَ، حَتَّى يَكُونَ الْوَحْيُ بِاخْتِيَارِكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أَيْ: يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. قَوْلُهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيِ: افْعَلُوا الْإِيمَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْكُمْ، وَدَعُوا الِاشْتِغَالَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكُمْ مِنَ التَّطَلُّعِ لِعِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا بِمَا ذُكِرَ وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ كُنْهُهُ. قَوْلُهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الْفِعْلِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ. قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا:
وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
أَيْ: جَرَى إِلَى السَّفَهِ، فَالسَّفِيهُ دَلَّ عَلَى السَّفَهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ: فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ! بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهُمْ. قال الزجاج: هو مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وَالضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ:
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ سِينُ الْوَعِيدِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ قِيلَ: وَمَعْنَى
(١). هذا التصريف هو للفعل المخفف يميز.
463
التَّطْوِيقِ هُنَا: أَنَّهُ يَكُونُ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنَ الْمَالِ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ فَهُوَ مِنَ الطَّاقَةِ وَلَيْسَ مِنَ التَّطْوِيقِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَلْزَمُ الطَّوْقُ الْعُنُقَ، يُقَالُ: طَوَّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْقَ الْحَمَامَةِ، أَيْ: أُلْزِمَ جَزَاءَ عَمَلِهِ وَقِيلَ: إِنَّ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ مِنَ الْمَالِ يُمَثَّلُ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقِهِ. كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْبُخْلُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَمْنَعَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ الْوَاجِبَ، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَهُ وَحْدَهُ لَا لِغَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهُ مَا فِيهِمَا مِمَّا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُهَا فَمَا بَالُهُمْ يَبْخَلُونَ بِذَلِكَ وَلَا يُنْفِقُونَهُ وَهُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا لَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ عَارِيَةً مُسْتَرَدَّةً وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «١» وقوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «٢»، وَالْمِيرَاثُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ مَالِكٍ إِلَى آخَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الْآخَرِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ، وَمَعْلُومٌ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ بِالْحَقِيقَةِ لِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا مِنَ الْحَيَاةِ إِنْ كَانَ بَرًّا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ «٣» وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، فَقَدْ قَالَ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَلْيُخْبِرْنَا بِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَّا وَمَنْ يَكْفُرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَمِيزُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَمِيزُ بَيْنَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ قَالَ:
وَلَا يُطْلَعُ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا رَسُولٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حاتم عن مُجَاهِدٍ:
وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي قَالَ: يَخْتَصُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَسْتَخْلِصُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بَخِلُوا أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ يَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَخِلُوا أَنْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: لَمْ يُؤَدُّوا زَكَاتَهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مثل له يوم القيامة شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني:
شدقيه- فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ»
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْفَعُونَهَا.
(١). مريم: ٤٠. [.....]
(٢). الحديد: ٧.
(٣). آل عمران: ١٩٨.
464

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨١ الى ١٨٤]

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «١» قال قوم من اليهود: [إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا، وإنما قالوا] «٢» هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ لَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَلْ أَرَادُوا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ صَحَّ مَا طَلَبَهُ مِنَّا مِنَ الْقَرْضِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ فَقِيرٌ، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام. وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا سَنَكْتُبُهُ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ سَنَحْفَظُهُ، أَوْ سَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ: الْوَعِيدُ لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَفُوتُ عَلَى اللَّهِ، بَلْ هُوَ مُعَدٌّ لَهُمْ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ. وَجُمْلَةُ سَنَكْتُبُ عَلَى هَذَا: مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا صَنَعَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمِعَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ الشَّنِيعَ؟ فَقَالَ: قَالَ لَهُمْ: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: «سَيُكْتَبُ» بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ: بِرَفْعِ اللَّامِ مِنْ «قَتْلُهُمْ»، «وَيَقُولُ» :
بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ. قَوْلُهُ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَالُوا، أَيْ: وَنَكْتُبُ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ: أَيْ: قَتْلَ أَسْلَافِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ رَضُوا بِهِ، جَعَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ قَرِينًا لِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، تَنْبِيهًا: عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعِظَمِ وَالشَّنَاعَةِ بِمَكَانٍ يَعْدِلُ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ. قَوْلُهُ: وَنَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنَكْتُبُ أَيْ: نَنْتَقِمُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْكِتَابَةِ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي نَقُولُهُ لَهُمْ فِي النَّارِ، أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عِنْدَ الْحِسَابِ. وَالْحَرِيقُ: اسْمٌ لِلنَّارِ الْمُلْتَهِبَةِ، وَإِطْلَاقُ الذَّوْقِ عَلَى إِحْسَاسِ الْعَذَابِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُقَالُ ذُوقُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَأَشَارَ إِلَى الْقَرِيبِ بِالصِّيغَةِ الَّتِي يُشَارُ بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته فِي الْفَظَاعَةِ، وَذِكْرِ الْأَيْدِي لِكَوْنِهَا الْمُبَاشِرَةَ لِغَالِبِ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ معطوف على بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَوُجِّهَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَذَّبَهُمْ بِمَا أَصَابُوا مِنَ الذَّنْبِ، وَجَازَاهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا، أَوْ بِمَعْنَى: أَنَّهُ مَالِكُ الْمُلْكِ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَيْسَ بِظَالِمٍ لِمَنْ عَذَّبَهُ بِذَنْبِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَدْلِ الْمُقْتَضِي لِإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ وَمُعَاقَبَةِ الْمُسِيءِ، وَرَدَّ:
بِأَنَّ تَرْكَ التَّعْذِيبِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، لَيْسَ بِظُلْمٍ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَقِيلَ: إِنَّ جُمْلَةَ قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَالْأَمْرُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَالتَّعْبِيرُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْيِ الظُّلْمِ مَعَ أَنَّ تَعْذِيبَهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ لَيْسَ بِظُلْمٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا بَالِغًا: لِبَيَانِ تَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَنَفْيُ ظَلَّامٍ الْمُشْعِرِ بِالْكَثْرَةِ: يُفِيدُ ثُبُوتَ أَصْلِ الظُّلْمِ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الَّذِي تَوَعَّدَ بأن
(١). البقرة: ٢٤٥.
(٢). ما بين الحاصرتين مستدرك من القرطبي [٤/ ٢٩٤].
465
يَفْعَلَهُ بِهِمْ لَوْ كَانَ ظُلْمًا لَكَانَ عَظِيمًا، فَنَفَاهُ عَلَى حَدِّ عِظَمِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا. قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَقِيلَ: نَعْتٌ لِلْعَبِيدِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ جَرِّ بَدَلٍ مِنْ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ هَؤُلَاءِ: هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا الْمَقُولُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِالْقُرْبَانِ، هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَعَاوِيهِمُ الْبَاطِلَةِ. وَقَدْ كَانَ دَأْبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَرِّبُونَ الْقُرْبَانَ، فَيَقُومُ النَّبِيُّ فَيَدْعُو، فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَحْرِقُهُ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهُ بِذَلِكَ كُلَّ أَنْبِيَائِهِ، وَلَا جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ مِنَ الْقُرْبَانِ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ كَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَشِعْيَاءَ، وَسَائِرِ مَنْ قُتِلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ نَسِيكَةٍ وَصَدَقَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ فُعْلَانٌ مِنَ الْقُرْبَةِ.
ثُمَّ سلى الله رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ. وَالزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ: الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْمُضِيءِ، يُقَالُ: نَارَ الشَّيْءَ، وَأَنَارَ، وَنَوَّرَهُ، وَاسْتَنَارَهُ، بِمَعْنًى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ أبو بكر بيت المدارس فَوَجَدَ يَهُودَ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحَكَ يَا فِنْحَاصُ! اتَّقِ الله وأسلم، فو الله إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالَ فِنْحَاصُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَقْرٍ وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا وَيُعْطِينَا، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصٍ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ:
لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! انْظُرْ مَا صَنَعَ صَاحِبُكَ بِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، يَزْعُمُ: أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ فِنْحَاصُ فَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ تَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا الْآيَةَ، وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «١» الآية. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَخْصَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «٢» فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَفَقِيرٌ رَبُّكَ يَسْأَلُ عِبَادَهُ الْقَرْضَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْقَائِلَ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وهم لم يدركوا
(١). آل عمران: ١٨٦.
(٢). البقرة: ٢٤٥.
466
ذَلِكَ، قَالَ: بِمُوَالَاتِهِمْ مَنْ قَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ قَالَ: مَا أَنَا بِمُعَذِّبٍ مَنْ لَمْ يَجْتَرِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قَالَ: يَتَصَدَّقُ الرَّجُلُ مِنَّا، فَإِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا قَالَ: كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ قَالَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالزُّبُرِ قَالَ: كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ قال: هو القرآن.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٩]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
قَوْلُهُ: ذائِقَةُ مِنَ الذَّوْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً «١» يَمُتْ هَرِمًا الْمَوْتُ كَأْسٌ وَالْمَرْءُ ذَائِقُهَا
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ لِلْمُصَدِّقِ وَالْمُكَذِّبِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنِ الْبَاخِلِينَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: ذائِقَةُ الْمَوْتِ بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ الْمَوْتِ. وقرأ الجهور بالإضافة. قوله: إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَجْرُ الْمُؤْمِنِ: الثَّوَابُ، وَأَجْرُ الْكَافِرِ: الْعِقَابُ، أَيْ: أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ وَتَكْمِيلَهَا إِنَّمَا تَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْأُجُورِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ فَإِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْأُجُورِ. وَالزَّحْزَحَةُ: التَّنْحِيَةُ، وَالْإِبْعَادُ: تَكْرِيرُ الزَّحِّ وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَيْ: فَمَنْ بَعُدَ عَنِ النَّارِ يَوْمَئِذٍ وَنُحِّيَ فَقَدْ فَازَ، أَيْ ظَفَرَ بِمَا يُرِيدُ وَنَجَا مِمَّا يَخَافُ، وَهَذَا هُوَ الْفَوْزُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا فَوْزَ يُقَارِبُهُ، فَإِنَّ كُلَّ فَوْزٍ وَإِنْ كَانَ بِجَمِيعِ الْمَطَالِبِ دُونَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. اللَّهُمَّ لَا فَوْزَ إِلَّا فَوْزُ الْآخِرَةِ، وَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُهَا، وَلَا نَعِيمَ إِلَّا نَعِيمُهَا، فَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَارْضَ عَنَّا رِضًا لَا سُخْطَ بَعْدَهُ، وَاجْمَعْ لَنَا بَيْنَ الرِّضَا مِنْكَ عَلَيْنَا وَالْجَنَّةِ. وَالْمَتَاعُ: مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَزُولُ وَلَا يَبْقَى، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. الْغُرُورُ: الشَّيْطَانُ يغرّ الناس بالأماني الباطلة
(١). «مات عبطة» : أي شابا صحيحا.
467
وَالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ، شَبَّهَ سُبْحَانَهُ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُهُ، وَلَهُ ظَاهِرٌ مَحْبُوبٌ وَبَاطِنٌ مَكْرُوهٌ.
قَوْلُهُ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ تَسْلِيَةً لَهُمْ عَمَّا سَيَلْقَوْنَهُ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ، لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ. وَالِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَالْمَعْنَى:
لَتُمْتَحَنُنَّ، وَلَتُخْتَبَرُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ بِالْمَصَائِبِ، وَالْإِنْفَاقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْوَالِ.
وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ: بِالْمَوْتِ وَالْأَمْرَاضِ، وَفَقْدِ الْأَحْبَابِ، وَالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُوطِئَةُ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَهُمْ سَائِرُ الطَّوَائِفِ الْكُفْرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَذىً كَثِيراً مِنَ الطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ وَأَعْرَاضِكُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ ذلِكَ إلى الصبر والتقوى المدلول عليها بِالْفِعْلَيْنِ. وَعَزْمُ الْأُمُورِ: مَعْزُومَاتُهَا، أَيْ: مِمَّا يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْزِمُوا عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَ بِهَا، يُقَالُ: عَزَمَ الْأَمْرَ: أَيْ شَدَّهُ وَأَصْلَحَهُ. قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَوِ الْيَهُودُ فَقَطْ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ- وَالظَّاهِرُ:
أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: كُلُّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمَ شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ، أَيِّ كِتَابٍ كَانَ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّعْرِيفُ الْجِنْسِيُّ فِي الْكِتَابِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ عَالِمٍ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَتُبَيِّنُنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنْ يُبَيِّنُوا نُبُوَّتَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُوهَا فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: «لَيُبَيِّنُنَّهُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَإِذْ أخذ الله ميثاق النبيّين ليبيّننّه وَيُشْكِلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ: فَنَبَذُوهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَهُ النَّاسُ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَتُبَيِّنُونَهُ». وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَراءَ ظُهُورِهِمْ مُبَالَغَةٌ فِي النَّبْذِ وَالطَّرْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُمِرُوا بِبَيَانِهِ وَنُهُوا عَنْ كِتْمَانِهِ. وَقَوْلُهُ: ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ: حَقِيرًا يَسِيرًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَأَعْرَاضِهَا، قَوْلُهُ: فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ مَا: نَكِرَةٌ مَنْصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفَاعِلِ بِئْسَ، وَيَشْتَرُونَ: صِفَةٌ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِئْسَ شَيْئًا يَشْتَرُونَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ. قَوْلُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَقَوْلُهُ: بِما أَتَوْا أَيْ: بِمَا فَعَلُوا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِكُلِّ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، فَمَنْ فَرِحَ بِمَا فَعَلَ، وَأَحَبَّ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، فَلَا تَحْسَبَنَّهُ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: «لَا يَحْسَبَنَّ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الْفَارِحُونَ فَرَحَهُمْ مُنْجِيًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ فَرَحُهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ،
468
وَالْمَفَازَةُ: الْمَنْجَاةُ، مَفْعَلَةٌ، مِنْ: فَازَ، يَفُوزُ، إِذَا نَجَا، أَيْ: لَيْسُوا بِفَائِزِينَ، سُمِّيَ مَوْضِعُ الْخَوْفِ مَفَازَةً عَلَى جِهَةِ التَّفَاؤُلِ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَفْوِيزٍ وَمَظِنَّةُ هَلَاكٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فَوْزُ الرَّجُلِ: إِذَا مَاتَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: حَكَيْتُ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَوْلَ الْأَصْمَعِيِّ فَقَالَ: أَخْطَأَ. قَالَ لِي أَبُو الْمَكَارِمِ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَفَازَةً لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَلْ لِأَنَّهُ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا أَصَابَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمَكْرُوهِ. وَقَرَأَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَالْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: «آتَوْا» بِالْمَدِّ، أَيْ: يَفْرَحُونَ بِمَا أَعْطَوْا. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ: «أَتَوْا» بِالْقَصْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٌ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي شِعْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْمَعُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «١»، ومن النصارى قولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «٢» وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قَالَ: مِنَ الْقُوَّةِ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: فِنْحَاصُ، وَأَشْيَعُ، وَأَشْبَاهُهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي افْتَرَضَهُ عَلَى عِبَادِهِ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَنَبَذُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ علما فليعلمه الناس، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ هَلَكَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَوْلَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِكَثِيرٍ مِمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكَمَ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
سألهم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سألهم عنه
(١). التوبة: ٣٠.
(٢). التوبة: ٣٠.
469
وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغزو، وتخلفوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَزْوِ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ وَأَشْيَعَ وَأَشْبَاهِهِمَا. وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ:
«يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: قَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ، وَنَهَانَا عَنِ الْخُيَلَاءِ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَنَهَانَا أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِكَ، وَأَنَا رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» فَعَاشَ حَمِيدًا، وَقُتِلَ شَهِيدَا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: بِمَفازَةٍ قَالَ:
بِمَنْجَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ اخْتِصَاصِهِ سُبْحَانَهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِيهَا. والمراد:
ذات السموات والأرض وصفاتهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَيْ: تَعَاقُبِهِمَا، وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ، وَكَوْنِ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا فِي نُقْصَانِ الْآخَرِ، وَتَفَاوُتِهِمَا طُولًا وَقِصَرًا، وَحَرًّا وَبَرْدًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ لَآياتٍ أَيْ: دَلَالَاتٍ وَاضِحَةٍ، وَبَرَاهِينَ بَيِّنَةٍ، تَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَعْضِ مَا هُنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَكْفِي الْعَاقِلَ، وَيُوصِلُهُ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا تُزَلْزِلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَدْفَعُهُ التَّشْكِيكَاتُ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْمَوْصُولُ: نَعْتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ- وَقِيلَ: هُوَ مَفْصُولٌ عَنْهُ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا: ذِكْرُهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ: لَا يُضَيِّعُونَهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُصَلُّونَهَا قِيَامًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مَعَ الْعُذْرِ. قَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ، أَعْنِي: قِياماً وَقُعُوداً وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي بَدِيعِ صنعهما، واتقانهما، مع عظم أجرامهما، فَإِنَّ هَذَا الْفِكْرَ إِذَا كَانَ صَادِقًا أَوْصَلَهُمْ إلى الإيمان
470
بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ مَا خَلَقْتَ هَذَا عَبَثًا وَلَهْوًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى حِكْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ «١»
.......
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ:
هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَخَلَقَ: بِمَعْنَى جَعَلَ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، والإشارة بقوله: هذا إلى السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ إِلَى الْخَلْقِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ خَلْقُكَ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الدعاء على ما قبله. وقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنِ اسْتِدْعَاءِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَبَيَانٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ دَعَاهُ عِبَادُهُ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ: أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: أَهْلَكْتَهُ، وَأَنْشَدَ:
أَخْزَى الْإِلَهُ بَنِي الصَّلِيبِ عُنَيْزَةً «٢» وَاللَّابِسِينَ مَلَابِسَ الرُّهْبَانِ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَضَحْتَهُ وَأَبْعَدْتَهُ، يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ: أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ، وَالِاسْمُ: الْخِزْيُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
خَزَى، يَخْزِي، خِزْيًا: إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ الْمُنَادِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَوْقَعَ السَّمَاعَ عَلَى الْمُنَادِي مَعَ كَوْنِ الْمَسْمُوعِ هُوَ النِّدَاءُ:
لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْمُنَادِيَ بِمَا يُسْمَعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ «يُنَادِي» هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَذَكَرَ يُنَادِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مُنادِياً لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِ هَذَا الْمُنَادَى بِهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْإِيمانِ: بِمَعْنَى إِلَى وَقِيلَ: إِنَّ يُنَادِي يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَبِإِلَى، يُقَالُ يُنَادِي لِكَذَا وَيُنَادِي إِلَى كَذَا، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا هِيَ:
إِمَّا تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا: بِأَنْ آمِنُوا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ. قَوْلُهُ: فَآمَنَّا أَيِ: امْتَثَلْنَا مَا يَأْمُرُ بِهِ هَذَا الْمُنَادِي مِنَ الْإِيمَانِ فَآمَنَّا، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لِإِظْهَارِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ قِيلَ:
الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ هُنَا: الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ. وَالظَّاهِرُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْآخَرِ بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَاحِدًا، وَالتَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْغَفْرِ وَالْكُفْرِ: السَّتْرُ. وَالْأَبْرَارُ: جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَارَّ مُتَّسِعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَتُهُ، قِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ هَذَا دُعَاءٌ آخَرُ وَالنُّكْتَةُ فِي تَكْرِيرِ النِّدَاءِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَوْعُودُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ هُوَ الثَّوَابُ الَّذِي وعد الله به
(١). وعجزه: وكلّ نعيم لا محالة زائل.
(٢). في القرطبي (٤/ ٣١٦) : أخرى الإله من الصّليب عبيده...
471
أَهْلَ طَاعَتِهِ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ لَفْظُ الألسن، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١» وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ التَّصْدِيقُ، أَيْ: مَا وَعَدْتَنَا عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ وَقِيلَ: مَا وَعَدْتَنَا مُنَزَّلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى رُسُلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَصُدُورُ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْهُمْ- مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ-، إِمَّا لِقَصْدِ التَّعْجِيلِ، أَوْ: لِلْخُضُوعِ بِالدُّعَاءِ، لِكَوْنِهِ مُخَّ الْعِبَادَةِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا خُلْفَ الْوَعْدِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ قَالُوا عَصَاهُ وَيَدُهُ بَيْضَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى فِيكُمْ؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ، وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النوم عن وجهه بيده، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ فِي الصَّلَاةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى جَنْبِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَتْ بِي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». وَثَبَتَ فِيهِ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عن صلاة الرجل وهو قاعد قال: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ حَالَاتُكَ كُلُّهَا يَا ابْنَ آدَمَ، اذْكُرِ اللَّهَ وَأَنْتَ قَائِمٌ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاذْكُرْهُ جالسا، فإن لم تستطع فَاذْكُرْهُ وَأَنْتَ عَلَى جَنْبِكَ، يُسْرٌ مِنَ اللَّهِ وَتَخْفِيفٌ.
وَأَقُولُ: هَذَا التَّقْيِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ تَعْمِيمِ الذِّكْرِ لَا وَجْهَ لَهُ، لَا مِنَ الْآيَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذِّكْرُ مِنْ قُعُودٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الذِّكْرِ مِنْ قِيَامٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى جَنْبٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ مِنْ قُعُودٍ. وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا التَّقْيِيدُ لِمَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا الصَّلَاةَ، كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّفَكُّرِ عَنْ سُفْيَانَ رَفَعَهُ: «مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا وَيْلَهُ، فَعَدَّ أَصَابِعَهُ عَشْرًا». قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا غَايَةُ التَّفَكُّرِ فِيهِنَّ؟ قَالَ: يَقْرَؤُهُنَّ وَهُوَ يَعْقِلُهُنَّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّفَكُّرِ مُطْلَقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال: من
(١). يوسف: ٨٢.
472
تُخَلِّدْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الْآيَةِ قَالَ:
هَذِهِ خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي عُمْرَةٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ أَنَا وَعَطَاءٌ فَقُلْتُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُمُ الْكُفَّارُ، قُلْتُ لِجَابِرٍ: فَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قَالَ: وَمَا أَخْزَاهُ حِينَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ خِزْيًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلَّ أَحَدٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ قَالَ: يستجزون مَوْعِدَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ قال: لا تفضحنا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٥]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
قَوْلُهُ: فَاسْتَجابَ الِاسْتِجَابَةُ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ وَقِيلَ: الإجابة عامة، والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول، وَهَذَا الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ، يُقَالُ: اسْتَجَابَهُ، وَاسْتَجَابَ لَهُ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ وَقِيلَ: عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: دَعَوْا بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ وَقِيلَ: عَلَى قَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الِاسْتِجَابَةَ وَمَا بَعْدَهَا فِي جُمْلَةِ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ: لِأَنَّهَا مِنْهُ، إِذْ مَنْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فَقَدْ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ.
قَوْلُهُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أَيْ: بِأَنِّي، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: بِثُبُوتِ الْبَاءِ، وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِضَاعَةِ: تَرْكُ الْإِثَابَةِ. قَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى مِنْ: بَيَانِيَّةٌ، وَمُؤَكِّدَةٌ لِمَا تَقْتَضِيهِ النَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنَ الْعُمُومِ. قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: رِجَالُكُمْ مِثْلُ نِسَائِكُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَنِسَاؤُكُمْ مِثْلُ رِجَالِكُمْ فِيهَا، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، لِبَيَانِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ تَشَعُّبِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا الْآيَةَ، هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ أَيْ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ أَوْطَانِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقاتَلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَقُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: وَقُتِلُوا عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَقَتَلُوا وَقَاتَلُوا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَرْ أَيْ: قَدْ عَلَاهُ الْكِبَرُ، وَأَصْلُ الْوَاوِ: لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِلَا تَرْتِيبٍ، كَمَا قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ
قَاتَلُوا وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَالسَّبِيلُ: الدِّينُ الْحَقُّ. وَالْمُرَادُ هُنَا: مَا نَالَهُمْ مِنَ الْأَذِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَوْلُهُ: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ عِنْدَ البصريين، لأن معنى قوله: لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا، أَيْ: إِثَابَةً أَوْ تَثْوِيبًا كَائِنًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ عَلَى التَّفْسِيرِ: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أَيْ:
حُسْنُ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ جَزَاءِ عَمَلِهِ، مِنْ: ثَابَ، يَثُوبُ: إِذَا رَجَعَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِلَّا نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ» فَذُكِرَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْهِجْرَةِ أَحَادِيثُ كثيرة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ٢٠٠]
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
قَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ: تَثْبِيتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، [والمراد الأمة] «١» كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أو: خطاب لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِقُبْحِ حَالِ الْكُفَّارِ بَعْدَ ذِكْرِ حُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى: لَا يَغُرَّنَّكَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ بِالْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ الَّتِي يَتَوَسَّعُونَ بِهَا فِي مَعَاشِهِمْ، فَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ثُمَّ مَصِيرُهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَقَوْلُهُ: مَتاعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ لَا اعْتِدَادَ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثواب الله سبحانه: ثُمَّ مَأْواهُمْ أَيْ: مَا يَأْوُونَ إِلَيْهِ. وَالتَّقَلُّبُ فِي الْبِلَادِ:
الِاضْطِرَابُ فِي الْأَسْفَارِ إِلَى الْأَمْكِنَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ «٢» والمتاع: ما يعجل
(١). ما بين الحاصرتين مستدرك من تفسير القرطبي [٤/ ٣١٩].
(٢). غافر: ٤. [.....]
474
الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَسَمَّاهُ: قَلِيلًا، لِأَنَّهُ فَانٍ، وَكُلُّ فَانٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمِهادُ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي جَهَنَّمَ بِكُفْرِهِمْ، أَوْ: مَا مَهَّدَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ: وَهُوَ هَذَا الْمُقَدَّرُ. قَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ هُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، لأن معناه النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ كَثِيرُ انْتِفَاعٍ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا لَهُمُ الِانْتِفَاعُ الْكَثِيرُ، وَالْخُلْدُ الدَّائِمُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ ابن الْقَعْقَاعِ: لَكِنَّ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ. قَوْلُهُ: نُزُلًا مَصْدَرٌ مؤكد عن الْبَصْرِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ثَواباً وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ مِثْلَ مَا قَالَا فِي: ثَوَابًا، وَالنُّزُلُ: مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، وَالْجَمْعُ أَنَزَالٌ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا أَعَدَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ مِنَ الرِّبْحِ فِي الْأَسْفَارِ، فَإِنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، عَنْ قَرِيبٍ يَزُولُ. قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الدِّينِ، وَلَيْسُوا كَسَائِرِهِمْ فِي فَضَائِحِهِمُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَفِيمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ هَذَا الْبَعْضَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ: خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ أَيْ: يَسْتَبْدِلُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، كَمَا يَفْعَلُهُ سَائِرُهُمْ، بَلْ يَحْكُونَ كُتُبَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا هِيَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لَهُمْ أَجْرُهُمْ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال. قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ خَتَمَ بِهَا هَذِهِ السُّورَةَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي جَمَعَتْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَحَضَّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالصَّبْرُ: الْحَبْسُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ. وَالْمُصَابَرَةُ مُصَابَرَةُ الْأَعْدَاءِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَيْ: غَالِبُوهُمْ فِي الصَّبْرِ على شدائد الحرب، وَخَصَّ الْمُصَابَرَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الصَّبْرَ: لِكَوْنِهَا أَشَدَّ مِنْهُ وَأَشَقَّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى صَابِرُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ: صَابِرُوا الْأَنْفُسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا وقيل: صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا وَلَا كَافَحُوا مِثْلَ الَّذِينَ نُكَافِحُ
أَيْ: صَابَرُوا الْعَدُوَّ فِي الْحَرْبِ. قَوْلُهُ: وَرابِطُوا أَيْ: أَقِيمُوا فِي الثُّغُورِ رَابِطِينَ خَيْلَكُمْ فِيهَا، كَمَا يَرْبُطُهَا أعداؤكم، هذا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ هَذَا، وَالرِّبَاطُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ، ولا ينافيه تسميته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِغَيْرِهِ رِبَاطًا كَمَا سَيَأْتِي. وَيُمْكِنُ إِطْلَاقُ الرِّبَاطِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى انْتِظَارِ الصَّلَاةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبَاطُ مُلَازَمَةُ الثُّغُورِ وَمُوَاظَبَةُ الصَّلَاةِ، هَكَذَا قَالَ: وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ: مَاءٌ مُتَرَابِطٌ: دَائِمٌ لَا يَبْرَحُ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَعْدِيَةَ الرِّبَاطِ إِلَى غَيْرِ ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ فِي الثُّغُورِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فَلَا تُخَالِفُوا مَا شَرَعَهُ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ:
475
تَكُونُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَائِزِينَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَقَلُّبُ لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَبِئْسَ الْمِهَادُ: أَيْ: بِئْسَ الْمَنْزِلُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي في قوله: تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ قَالَ: ضَرْبُهُمْ فِي الْبِلَادِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ أَبْرَارًا: لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، كَمَا أَنَّ لِوَالِدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، كَذَلِكَ لولدك عليك حقا. وأخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ لِمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ قال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! نصلي على عبد حبشي؟
فأنزل الله وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: انْظُرُوا إِلَى هَذَا، يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ نَصْرَانِيٍّ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ اتبعوا محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابِطُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يَعْمُرُونَ الْمَسَاجِدَ، يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدْتُكُمْ، وَرَابِطُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَفَاسِيرِ السَّلَفِ غَيْرُ هَذَا فِي سِرِّ الصَّبْرِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَالْمُصَابَرَةِ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ، وَلَا تَقُومُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الرِّبَاطِ، وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ الرِّبَاطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يَرُدُّ مَا قَالَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَدَبَ إِلَى الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ الْجِهَادُ فَيُحْمَلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّى حِرَاسَةَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ رِبَاطًا، وأخرج الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَجْرِ الْمُرَابِطِ فَقَالَ: «مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً حَارِسًا مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ خَلْفَهُ مِمَّنْ صَامَ وَصَلَّى».
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الَّتِي في آخر السُّورَةِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سورة آل
476
عِمْرَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ». وَفِي إِسْنَادِهِ مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْعَشْرَ الْآيَاتِ لَمَّا اسْتَيْقَظَ. وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي ليلة كتب له قيام ليلة».
477
سورة النّساء
هِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ: فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الْحَجْبِيِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ النَّقَّاشُ: وَقِيلَ:
نَزَلَتْ عِنْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ حَيْثُمَا وَقَعَ، فَإِنَّهُ مَكِّيٌّ يُلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صدر هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيًّا، وَبِهِ قَالَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: قَدْ بَنَى بِهَا. وَلَا خِلَافَ بين العلماء أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَنَى بِعَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَنْ تَبَيَّنَ أَحْكَامَهَا عَلِمَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا. قَالَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَكِّيٌّ حَيْثُ وَقَعَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْبَقَرَةَ مَدَنِيَّةٌ وَفِيهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي مَوْضِعَيْنِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِهِ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَذَا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله ابن الزُّبَيْرِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ: مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لَخَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية، وإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِنْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَمْسُ آيَاتٍ مِنَ النِّسَاءِ هُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةَ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها الْآيَةِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَمَانُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وزاد: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ الآية، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ الآية، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ الآية. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، والبيهقي عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَخْذَ السَّبْعَ فَهُوَ حَبْرٌ». وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل» «١». وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحاكم،
(١). في المطبوع: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطِّوَالَ، وَالْمِئِينُ: كُلُّ سُورَةٍ بَلَغَتْ مِائَةً فَصَاعِدًا، وَالْمَثَانِي: كُلُّ سُورَةٍ دون المئين، وفوق المفصل».
478
Icon