تفسير سورة آل عمران

معاني القرآن للفراء
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب معاني القرآن للفراء المعروف بـمعاني القرآن للفراء .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

ومن سورة آل عِمْرَانَ
ومن سورة آل عِمْرَانَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... (٢)
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الجهم عن الفراء الْحَيُّ الْقَيُّومُ قراءة العامة، وقرأها عُمَر بْن الخطاب وابن مَسْعُود «القيام» وصورة القيوم: الفيعول، والقيام الفيعال، وهما جميعا مدح. وأهل الحجاز أكثر شيء قولا: الفيعال من ذوات الثلاثة. فيقولون للصواغ: الصياغ.
وقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ... (٧)
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني: مبينات للحلال والحرام ولم ينسخن. وهن الثلاث الآيات فِي الأنعام أولها: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «١» والآيتان بعدها.
وقوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ. يقول: هنّ الأصل.
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهن: المص، والر، والمر اشتبهن على اليهود لانهم التمسوا مدة أكل «٢» هذه الأمة من حساب «٣» الجمّل، فلمّا لم يأتهم على ما يريدون قَالُوا: خلط مُحَمَّد- صلى اللَّه عليه وسلم- وكفروا بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم.
(١) آية ١٥١
(٢) يجوز أن يقرأ بفتح الهمزة مصدرا، ويراد به العيش، فإن العيش يلزمه الأكل. ويجوز أن يقرأ بضم الهمزة، وهو الرزق. ويقال للميت: انقطع أكله، فهو رديف الحياة والعيش. وفى ش: «كل» وهو تحريف.
(٣) هو الحساب المبنى على حروف أبجد.
فقال اللَّه: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ يعني تفسير المدة.
ثُمَّ قال: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثم استأنف «وَالرَّاسِخُونَ» فرفعهم «١» ب «يَقُولُونَ» لا بإتباعهم إعراب اللَّه. وفي قراءة أَبِي (ويقول الراسخون) وفي قراءة عَبْد اللَّه «إن تأويله إلا عند اللَّه، والراسخون فِي العلم يقولون».
وقوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... (١)
يقول: كفرت اليهود ككفر آل فرعون وشأنهم.
وقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ... (١٢)
تقرأ بالتاء والياء. فمن جعلها بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وإلى أن الغلبة على المشركين [بعد] «٢» يوم أحد. وَذَلِكَ أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هزم المشركين يوم بدر وهم ثلاثمائة ونيف والمشركون ألف إلا شيئا قَالَت اليهود: هذا الَّذِي لا ترد له راية، فصدقوا. فقال بعضهم: لا تعجلوا بتصديقه حَتَّى تكون وقعة أخرى.
فلما نكب المسلمون يوم أحد كذبوا ورجعوا. فأنزل اللَّه: قل لليهود سيغلب المشركون ويحشرون إلى جهنم. فليس يجوز فِي هذا المعنى إلا الياء.
ومن قرأ بالتاء جعل اليهود والمشركين داخلين فِي الخطاب. فيجوز فِي هذا المعنى سيغلبون وستغلبون كما تقول فِي الكلام: قل لعبد اللَّه إنه قائم، وإنك قائم.
(١) أي أن «الراسخون» مبتدأ خبره جملة «يقولون» وهذه الجملة هى الرافعة للمبتدأ كما أنها ارتفعت به لأن المبتدأ والخبر عندهم يترافعان. وقوله: «لا بإتباعهم إعراب الله» أي لا بالعطف على لفظ الجلالة.
(٢) زيادة اقتضاها السياق.
191
وفي حرف عَبْد اللَّه قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن تَنتَهُوا يُغْفَرْ لَكُم ما قَدْ سَلَفَ «١» وفي قراءتنا « [إِنْ يَنْتَهُوا] يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ» وفي الأنعام «هذا لله بزعمهم وهذا لشركائهم» «٢» وفي قراءتنا «لِشُرَكائِنا».
وقوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا... (١٣)
يعنى النبىّ صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، والمشركين يوم بدر.
فِئَةٌ تُقاتِلُ قرئت بالرفع وهو وجه الكلام على معنى: إحداهما تقاتل فِي سبيل اللَّه وَأُخْرى كافِرَةٌ على الاستئناف كما قَالَ الشَّاعِر «٣» :
فَكُنْتُ كذي رِجْلين رجلٌ صحيحة... ورجل رمى فيها الزّمان فشلت
ولو خفضت لكان جيدا: ترده على الخفض الأول كأنك قلت: كذي رجلين: كذي رجلٍ صحيحةٍ ورجلٍ سقيمةٍ. وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أول الكلام.
ولو قلت: «فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ» كان صوابا على قولك «٤» : التقتا مختلفتين. وقال الشاعر فِي مثل ذلك مما يستأنف:
إذا مت كان الناس نصفين شامت... وآخر مثنٍ بالذي كنت أفعل «٥»
(١) آية ٣٨ سورة الأنفال.
(٢) آية ١٣٦ سورة الأنعام.
(٣) هو كثير عزة.
والبيت من قصيدته التي مطلعها:
خليلىّ هذا ربع عزة فاعقلا... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
(٤) يريد أن انتصابهما على الحالية.
(٥) يروى النحويون هذا البيت بتغيير فى قافيته، فهى عندهم: «أصنع» بدل «أفعل» ويروون:
«صنفان» فى مكان «نصفين» وينسب إلى العجير السلولي من شعراء الدولة الأموية. ورواية النحويين بقافية العين هى الصواب. ومطّلع القصيدة:
ألما على دار لزينب قد أتى... لها باللوى ذى المرخ صيف ومربع
وقولا لها قد طالما لم تكلمى... وراعك بالغيث الفؤاد المروع
وانظر سيبويه ١/ ٣٦
192
ابتدأ الكلام بعد النصفين ففسره. وأراد: بعض شامت وبعض غير شامت.
والنصب فيهما جائز، يردهما على النصفين. وقال الآخر:
حَتَّى إذا ما استقل النجم فِي غلس وغودر البقل ملوى ومحصود «١»
ففسر بعض البقل كذا، وبعضه كذا. والنصب جائز.
وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الَّذِي «٢» ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاتصال بما قبله من ذلك: رَأَيْت القوم قائما وقاعدا، وقائم وقاعد لأنك نويت بالنصب القطع، والاستئناف فِي القطع «٣» حسن.
وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز فتقول: أظن القوم قياما وقعودا، وقيام وقعود، وكان «٤» القوم بتلك المنزلة. وكذلك رَأَيْت القوم فِي الدار قياما وقعودا، وقيام وقعود، وقائما وقاعدا، وقائم وقاعد فتفسره بالواحد والجمع قال الشاعر:
وكتيبةٍ شعواء ذات أشلة فيها الفوارس حاسر ومقنع «٥»
فإذا نصبت على الحال لم يجز أن تفسر الجمع بالاثنين، ولكن تجمع فتقول: فيها القوم قياما وقعودا.
(١) استقل النجم: ارتفع وقد غلب النجم فى الثريا. والغلس: ظلام آخر الليل. والملوي:
اليابس الذابل وإن كان الوارد ألوى، والوصف ملو.
(٢) سيذكر ما خرج بهذا، وهو الحال الذي هو شرط فيجب فيه النصب، نحو أكرم الجيش ظافرا وقاهرا لأعدائه، لأن المعنى على الشرط أي أكرمه إن ظفر وقهر الأعداء، فإذا قلت: رأيت الجيش راكبين وراجلين جاز الرفع والنصب لأن الحال ليس بشرط.
(٣) يريد بالقطع أن الوصف ليس شرطا وقيدا فى الفعل قبله. [.....]
(٤) كذا. وقد يكون الأصل: «أي كان».
(٥) «شعواء» : كثيرة متفرقة، من قولهم: شجرة شعواء: منتشرة الأغصان. و «أشلة» جمع شليل وهو الغلالة تلبس فوق الدرع، أو هو الدرع القصيرة تكون تحت الكبيرة. والحاسر: من لا مغفر له ولا درع. والمقنع هو المغطى بالسلاح.
193
وأما الَّذِي على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله: اضرب أخاك ظالما أو مسيئا، تريد: اضربه فِي ظلمه وفي إساءته. ولا يجوز هاهنا الرفع فى حاليه لانهما متعلقتان بالشرط. وكذلك الجمع تقول: ضربت القوم مجرّدين أو لابسين، ولا يجوز: مجردون ولا لابسون إلا أن تستأنف فتخبر، وليس بشرط للفعل ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم فى هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا فتقول:
اضرب القوم مجردين أو لابسين لأن الشرط فِي الأمر لازم. وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا. فلذلك جاز الوجهان فِي الماضي.
وقوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ زعم بعض من روى عن ابن عَبَّاس أنه قال:
رأى المسلمون المشركين فى الحزر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين، فهذا وجه. وروى قول آخر كأنه أشبه بالصواب: أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلاثمائة وأربعة عشر، فلذلك قال: «قَدْ كانَ لَكُمْ» يعنى اليهود «آيَةٌ» فِي قلة المسلمين وكثرة المشركين.
فإن قلت: فكيف جاز أن يقال «مِثْلَيْهِمْ» يريد ثلاثة أمثالهم؟ قلت:
كما تقول وعندك عَبْد: أحتاج إلى مثله «١»، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، وتقول:
أحتاج إلى مثلى عبدي، فأنت إلى ثلاثة محتاج. ويقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلى مثليه، فهو يحتاج إلى ثلاثة. فَلَمَّا نوى أن يكون الألف داخلا فِي معنى المثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة. ومثله فِي الكلام أن تقول:
أراكم مثلكم، كأنك قلت: أراكم ضعفكم، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم، فهذا على معنى الثلاثة.
(١) فى القرطبي ٤/ ٦ بعد إيراد قول الفرّاء: «وهو بعيد غير معروف فى اللغة. قال الزجاج:
وهذا باب الغلط، فيه غلط فى جميع المقاييس لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين»
.
194
فإن قلت: فقد قال فى سورة الأنفال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «١» فكيف كان هذا هاهنا تقليلا، وفي الآية الأولى تكثيرا؟
قلت: هذه آية المسلمين أخبرهم بها، وتلك الآية لأهل الكفر. مع أنك تقول فِي الكلام: إني لأرى كثيركم قليلا، أي قد هون على، لا أني أرى الثلاثة اثنين.
ومن قرأ (ترونهم) ذهب إلى اليهود لأنه خاطبهم، ومن قال (يَرَوْنَهُمْ) فعلى ذلك كما قال: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «٢» وإن شئت جعلت (يرونهم) للمسلمين دون اليهود.
وقوله: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ... (١٤)
واحد القناطير قنطار. ويقال أنّه ملء مسك ثور ذهبا أو فضّة، ويجوز (القناطير) «٣» فِي الكلام، والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة «٤». كذلك سمعت، وهو المضاعف.
وقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ... (١٥)
ثُمَّ قال لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ فرفع الجنات باللام «٥». ولم يجز ردها على أوّل الكلام لأنك حلت بينهما باللام، فلم يضمر خافض وقد حالت اللام
(١) آية ٤٤
(٢) آية ٢٢ سورة يونس. وتضرب الآية مثلا لما يسمونه الالتفات وهو الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، وما جرى هذا المجرى. وهو من تلوين الخطاب.
(٣) أي بالرفع عطفا على «حُبُّ الشَّهَواتِ» وقوله: «فى الكلام» أي فى غير القرآن إذ لم ترد بهذا القراءة. هذا والأقرب أن الأصل: «ويجوز القناطر فى الكلام» أي أنه يجوز حذف الياء فى الجمع فيقال القناطر. وهذا رأى الكوفيين: يجوز أن يقال فى العصافير العصافر.
(٤) يرى الفرّاء أن معنى «القناطر المقنطرة» : القناطير التي بلغت أضعافها أي بلغت ثلاثة أمثالها.
وأقلّ القناطير ثلاثة، فثلاثة أمثالها تسعة. وفى القرطبي ٤/ ٣١: «وروى عن الفرّاء أنه قال: القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع فيكون تسع قناطير».
(٥) يريد أن «جنات» مبتدأ خبره «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» والمبتدأ والخبر عندهم يترافعان، فرافع المبتدأ هو الخبر.
195
بينهما. وقد يجوز أن تحول باللام ومثلها بين الرافع وما رفع، والناصب وما نصب.
فتقول: رأيت لأخيك مالا، ولابيك إبلا. وترفع باللام إذا لم تعمل الفعل، وفي الرفع: قد كان لاخيك مال ولابيك إبل. ولم يجز أن تقول فِي الخفض: قد أمرت لك بألف ولاخيك ألفين، وأنت تريد (بألفين) لأن إضمار الخفض غير جائز ألا ترى أنك تقول: من ضربت؟ فتقول: زيدا، ومن أتاك؟ فتقول:
زَيْدُ. فيضمر الرافع والناصب. ولو قال: بمن مررت؟ لم تقل: زيدٍ لأن الخافض مع ما خفض بمنزلة الحرف الواحد. فإذا قدمت الَّذِي أخرته بعد اللام جاز فِيهِ الخفض لأنه كالمنسوق على ما قبله إذا لم تحل بينهما بشيء. فلو قدمت الجنات قبل اللام فقيل: (بخير من ذلكم جناتٍ للذين اتقوا) لجاز الخفض والنصب على معنى تكرير الفعل بإسقاط الباء كما قال الشاعر:
أتيت بعبد اللَّه فِي القد موثقا فهلا سعيدا ذا الخيانة والغدر «١» !
كذلك تفعل بالفعل إذا اكتسب الباء ثُمَّ أضمرا جميعا نصب كقولك: أخاك، وأنت تريد أمرر بأخيك. وقال الشاعر «٢» [فِي] استجازة العطف إذا قدمته ولم تحل بينهما بشىء:
ألا يا لقوم كل ما حم واقع وللطير مجرى والجنوب مصارع «٣»
(١) فالأصل: فهلا أتيت بسعيد فلما حذف الخافض انتصب المخفوض. ومقتضى كلامه جواز الخفض، فيقال: فهلا سعيد أي فهلا أتيت بسعيد.
(٢) هو البعيث. وانظر اللسان (حمم)
(٣) حمّ: قدّر. والجنوب جمع الجنب، وهو جنب الإنسان. وانظر شرح شواهد الهمع ٢/ ١٩٢
196
أراد: وللجنوب مصارع، فاستجاز حذف اللام، وبها ترتفع المصارع إذ لم تحل بينهما بشيء. فلو قلت: (ومصارع الجنوب) لم يجز وأنت تريد إضمار اللام.
وقال الآخر «١» :
أوعدني بالسجن والأداهم رجلي ورجلي شثنة المناسم
أراد: أوعد رجلي بالأداهم.
وقوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «٢» والوجه رفع يعقوب.
ومن نصب «٣» نوى به النصب، ولم يجز الخفض إلا بإعادة الباء: ومن وراء إِسْحَاق بيعقوب.
وكل شيئين اجتمعا قد تقدم [أحدهما] «٤» قبل المخفوض الَّذِي ترى أن الإضمار فِيهِ يجوز على هذا. ولا تبال أن تفرق بينهما بفاعل أو مفعول به أو بصفة. فَمَنْ ذلك أن تقول: مررت بزيد وبعمرو ومحمد [أو] «٥» وعمرو ومحمد. ولا يجوز مررت بزيد وعمرو وفي الدار محمدٍ، حَتَّى تقول: بمحمد. وكذلك: أمرت لاخيك بالعبيد ولابيك بالورق. ولا يجوز: لابيك الورق. وكذلك: مر بعبد اللَّه موثقا ومطلقا زيدٍ، وأنت تريد: ومطلقا بزيد. وإن قلت: وزيدٍ مطلقا جاز ذلك على شبيه بالنسق إذا لم تحل بينهما بشىء.
(١) هو العديل بن الفرخ العجلىّ. كان الحجاج قد توعده ففرّ إلى قيصر ملك الروم. والأداهم جمع الأدهم وهو القيد، وشثنة أي غليظة خشنة. والمناسم جمع المنسم، وهو فى الأصل طرف خف البعير، استعاره لأسفل رجله. وانظر شرح شواهد الهمع ٢/ ١٦٤
(٢) آية ٧١ سورة هود.
(٣) يريد أن من فتح «يعقوب» فهو منصوب لا مخفوض بالفتحة لامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة. ونصبه على تقدير ناصب يوحى به المعنى، أي وهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. وانظر اللسان فى عقب. [.....]
(٤، ٥) زيادة اقتضاها الساق.
197
وقوله: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «١» فيها ثلاثة أوجه أجودها الرفع، والنصب من جهتين: من وعدها إذ لم تكن النار مبتدأة، والنصب الآخر بإيقاع الأنباء عليها بسقوط الخفض. والخفض جائز لأنك لم تحل بينهما بمانع. والرفع على الابتداء.
فإن قلت: فما تقول فِي قول الشاعر:
الآن بعد لجاجتي تلحونني... هلا التقدم والقلوب صحاح
بم رفع التقدم؟ قلت: بمعنى «٢» الواو فِي قوله: (والقلوب صحاح) كأنه قال: العظة والقلوب فارغة، والرطب والحر شديد، ثُمَّ أدخلت عليها هلا وهي على ما رفعتها، ولو نصبت التقدم بنية فعل كما تقول: أتيتنا بأحاديث لا نعرفها فهلا أحاديث معروفة «٣».
ولو جعلت اللام فِي قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ من صلة الأنباء جاز خفض الجنات والأزواج والرضوان.
وقوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ... (١٦)
إن شئت جعلته خفضا نعتا للذين اتقوا، وإن شئت استأنفتها فرفعتها إذ كانت آية وما هِيَ نعت له آية قبلها. ومثله قول الله تبارك وتعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «٤» فلمّا انقضت الآية قال (التّائبون العابدون)، وهي في قراءة عبد الله «التائبين العابدين».
(١) آية ٧٢ سورة الحج.
(٢) يريد أن خبر المبتدأ فى مثل هذا- وهو الذي بعده واو هى نص فى المعية- هو معنى الاقتران والصحبة، فإذا قلت: كل رجل وصنعته. فكأنك قلت: كل رجل مع صنعته. وبذلك يستغنى عن تقدير الخبر الذي يقول به البصريون. وما ذكره هو مذهب الكوفيين.
وترى أنه يرى أن (هلا) تدخل على الجملة الاسمية.
(٣) جواب لو محذوف: أي لجاز.
(٤) آية ١١١ سورة التوبة.
198
وكذلك: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ... (١٧)
موضعها خفض، ولو كانت رفعا لكان صوابا. وقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ المصلون بالأسحار، ويقول: الصلاة بالسحر أفضل مواقيت الصلاة. أخبرنا محمد ابن الجهم قال حدثنا الفراء قال حَدَّثَنِي شريك «١» عن السدي «٢» فِي قوله «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» «٣» قال: أخرهم إلى السحر.
وقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ... (١٨)
قد فتحت القرّاء الألف من (أنه) ومن قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «٤».
وإن شئت جعلت (أنه) على الشرط «٥» وجعلت الشهادة واقعة على قوله: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ»، وتكون (أن) الأولى يصلح فيها الخفض كقولك: شهد اللَّه بتوحيده أن الدين عنده الإسْلام.
(١) هو شريك بن عبد الله النخعىّ الكوفي. توفى سنة ١٧٧.
(٢) هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة الكوفىّ، مولى قريش. روى عن أنس وابن عباس. وهو منسوب إلى سدّة مسجد الكوفة، كان يبيع بها المقانع. وسدّة المسجد بابه أو ما حوله من الرواق. وكانت وفاته سنة ١٢٧.
(٣) آية ٩٨ سورة يوسف.
(٤) على أن الواو تراد فى قوله «إِنَّ الدِّينَ» كأنه قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وأن الدين عند الله الإسلام. وهذا توجيه الكسائي. قال: «أنصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا وأن الدين عند الله كذا». وهذا التخريج فيه ضعف، فإن حذف العاطف فى الكلام ليس بالقويّ. وخير من هذا أن يخرج «إِنَّ الدِّينَ... » على البدل من «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» كما هو رأى ابن كيسان. وذلك أن الإسلام تفسير التوحيد الذي هو مضمون الكلام السابق، وانظر القرطبي ٤/ ٤٣.
(٥) يريد بالشرط العلة والسبب، فلا يكون الفعل واقعا عليه إذ يكون التقدير: لأنه أو بأنه لا إله إلا هو.
199
وإن شئت استأنفت (إن الدين) بكسرتها، وأوقعت الشهادة على «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ». وكذلك قرأها حمزة. وهو أحب الوجهين إلى. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ». وكان الكسائي يفتحهما كلتيهما.
وقرأ ابن عَبَّاس بكسر الأول وفتح (أن الدين عند اللَّه الإسْلام)، وهو وجه جيد جعل (إنه لا إله إلا هُوَ) مستأنفة معترضة- كأن الفاء تراد فيها- وأوقع الشهادة على (أن الدين عند الله). ومثله فِي الكلام قولك للرجل: أشهد- إني أعلم الناس بهذا- أنك عالم، كأنك قلت: أشهد- إني «١» أعلم بهذا من غيري- أنك عالم. وإذا جئت بأنّ قد وقع عليها «٢» العلم أو الشهادة أو الظن وما أشبه ذلك كسرت إحداهما ونصبت الّتي يقع عليها الظن أو العلم وما أشبه ذلك نقول للرجل:
لا تحسبن أنك عاقل إنك جاهل، لأنك تريد فإنك جاهل، وإن صلحت الفاء فِي إن السابقة كسرتها وفتحت الثانية. يقاس على هذه ما ورد.
وقوله وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ منصوب «٣» على القطع لأنه نكرة نعت به معرفة. وهو فِي قراءة عَبْد اللَّه «القائم بالقسط» رفع لأنه معرفة نعت لمعرفة.
وقوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (٢٠) (ومن اتبعن) للعرب فِي الياءات التي فِي أواخر الحروف- مثل اتبعن، وأكرمن، وأهانن، ومثل قوله «دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «٤» - وَقَدْ هَدانِ» «٥» - أن يحذفوا الياء مرة ويثبتوها مرة. فمن حذفها اكتفى بالكسرة التي قبلها دليلا عليها. وذلك
(١) فى تفسير الطبري: «فإنى» وهو أنسب.
(٢) أي على مثلها أي أن أخرى.
(٣) أي (قائما).
(٤) آية ١٨٦ سورة البقرة. [.....]
(٥) آية ٨٠ سورة الأنعام.
200
أنها كالصلة إذ سكنت وهي فِي آخر الحروف «١» واستثقلت فحذفت. ومن أتمها فهو البناء والأصل. ويفعلون ذلك فِي الياء وإن لم يكن قبلها نون فيقولون هذا غلامي قد جاء، وغلام قد جاء قال اللَّه تبارك وتعالى «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ» «٢» فِي غير نداء بحذف الياء. وأكثر ما تحذف بالإضافة فِي النداء لأن النداء مستعمل كثير فِي الكلام فحذف فِي غير نداء. وقال إبراهيم «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» «٣» بغير ياء، وقال فى سورة الملك «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» «٤» و «٥» «نَذِيرِ» وذلك أنهن رءوس الآيات، لم يكن فِي الآيات قبلهن ياء ثانية فأجرين على ما قبلهن إذا كان ذلك من كلام العرب.
ويفعلون ذلك فِي الياء الاصلية فيقولون: هذا قاض ورام وداع بغير ياء، لا يثبتون الياء فِي شيء من فاعل. فإذا أدخلوا فِيه الألف واللام قَالُوا بالوجهين فأثبتوا الياء وحذفوها. وقال الله «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» «٦» فِي كل القرآن بغير ياء.
وقال فِي الأعراف «فَهُوَ الْمُهْتَدِي» «٧» وكذلك قال «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» «٨» و «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» «٩». وأحب ذلك إلى أن أثبت الياء فِي الألف واللام لأن طرحها في قاض ومفترٍ وما أشبهه بما أتاها من مقارنة نون «١٠» الإعراب وهي ساكنة والياء ساكنة، فلم يستقم جمع بين ساكنين، فحذفت الياء لسكونها. فإذا أدخلت الألف واللام لم يجز إدخال النون، فلذلك أحببت إثبات الياء. ومن حذفها فهو يرى هذه العلة: قال: وجدت الحرف بغير ياء قبل أن تكون فِيهِ الألف واللام، فكرهت إذ دخلت أن أزيد فيه ما لم يكن. وكلّ صواب.
(١) كذا فى ش. وفى ح: «الحرف».
(٢) آية ١٧ سورة الزمر.
(٣) آية ٤٠ سورة إبراهيم.
(٤) آية ١٨.
(٥) آية ١٧.
(٦) آية ٩٧ سورة الإسراء، وفيها:
ومن يهد بالواو، آية ١٧ سورة الكهف.
(٧) آية ١٧٨.
(٨) آية ٤١ سورة ق.
(٩) آية ١٨٦ سورة البقرة.
(١٠) يريد التنوين، وجعله نون الإعراب لأنه يدخل فى المعرب وينكب عن المبنىّ.
201
وقوله وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ وهو استفهام ومعناه أمر. ومثله قول اللَّه «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» «١» استفهام وتأويله: انتهوا. وكذلك قوله «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» «٢» وهل تستطيع ربّك «٣» إنما [هو] «٤» مسألة. أو لا ترى أنك تقول للرجل: هَلْ أنت كاف عنا؟ معناه: اكفف، تقول للرجل: أَيْنَ أَيْنَ؟:
أقم ولا تبرح. فلذلك جوزى فِي الاستفهام كما جوزى فِي الأمر. وفي قراءة عَبْد اللَّه «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أليم. آمنوا» «٥» ففسّر (هل أدلكم) بالأمر.
وفي قراءتنا على الخبر. فالمجازاة فِي قراءتنا على قوله (هل أدلكم) والمجازاة فِي قراءة عَبْد اللَّه على الأمر لأنه هُوَ التفسير.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ (٢١) تقرأ: ويقتلون «٦»، وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه وقاتلوا فلذلك قرأها من قرأها (يقاتلون)، وقد قرأ بها الكسائي دهرًا يقاتلون ثُمَّ رجع، وأحسبه رآها فِي بعض مصاحف عَبْد اللَّه وقتلوا بغير الألف فتركها ورجع إلى قراءة العامة إذ وافق الكتاب فِي معنى قراءة العامة.
وقوله: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ (٢٥) قيلت باللام. و (فى) قد تصلح فِي موضعها تقول فِي الكلام: جمعوا ليوم الخميس. وكأن اللام لفعل مضمر فِي الخميس كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس.
(١) آية ٩١ سورة المائدة.
(٢) آية ١١٢ سورة المائدة.
(٣) هذه قراءة الكسائي، بنصب «ربك» أي هل تستطيع سؤال ربك. [.....]
(٤) زيادة اقتضاها السياق، وهى فى تفسير الطبري.
(٥) آيتا ١٠، ١١ سورة الصف.
(٦) أي الثانية فى الآية.
202
وإذا قلت: جمعوا فِي يوم الخميس لم تضمر فعلا. وفي قوله: جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي للحساب والجزاء.
وقوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ (٢٦) اللَّهُمَّ كلمة تنصبها العرب. وقد قال بعض «١» النحويين: إنما نصبت إذ زيدت فيها الميمان لأنها لا تنادى بيا كما تقول: يا زَيْدُ، ويا عَبْد اللَّه، فجعلت الميم فيها خلفا من يا. وقد أنشدني «٢» بعضهم:
وما عليك أن تقولي كلما صليت أو سبحت يا اللهم ما
أردد علينا شيخنا مسلما «٣» ولم نجد العرب زادت مثل هذه الميم فِي نواقص الاسماء إلا مخففة مثل الفم وابنم وهم «٤»، ونرى أنها كانت كلمة ضم إليها أم، تريد: يا اللَّه أمنا بخير، فكثرت فِي الكلام فاختلطت «٥». فالرفعة التي فِي الهاء من همزة أم لما تركت «٦» انتقلت إلى ما قبلها.
ونرى أن قول العرب: (هلم إلينا) مثلها إنما كانت (هَلْ) فضم إليها أم فتركت على نصبها. ومن العرب من يقول إذا طرح الميم: يا الله اغفر لى، ويا الله
(١) هو الخليل. وانظر سيبويه ١/ ٣١٠
(٢) يريد الردّ على الرأى السابق. وذلك أن الميم المشدّدة لو كانت خلفا من حرف النداء لما جمع بينهما فى هذا الرجز. ويجعل أصحاب هذا الرأى الرجز من الشاذ الذي لا يعوّل عليه.
(٣) «يا اللهم ما» زيدت (ما) بعد اللهم. وقد ذكر ذلك الرضى فى شرح الكافية فى مبحث المنادى. والشيخ هنا الأب أو الزوج. وانظر الخزانة ١/ ٣٥٨
(٤) كأنه يريد هم الضمير، وأصلها هوم إذ هى جمع هو فحذفت الواو وزيدت الميم للجمعية وإن كان هذا الرأى يعزى إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية فى مبحث الضمائر.
(٥) أي امتزجت بما قبلها، وهو لفظ الجلالة. وفى الطبري: «فاختلطت به».
(٦) أي الهمزة، يريد حذفها للتخفيف بعد نقل حركتها إلى ما قبلها.
203
اغفر لي، فيهمزون ألفها ويحذفونها. فمن حذفها فهو على السبيل لأنها ألف ولام مثل الحارث من الاسماء. ومن همزها توهم أنها من الحرف إذ كانت لا تسقط منه أنشدني بعضهم:
مبارك هُوَ ومن سماه... على اسمك اللهم يا أللَّه
وقد كثرت (اللهم) فِي الكلام حَتَّى خففت ميمها فِي بعض اللغات أنشدني بعضهم:
كحلفةٍ من أَبِي رياح... يسمعها اللهم الكبار «١»
وإنشاد العامة: لاهه الكبار. وأنشدني الكسائي:
يسمعها اللَّه والله كبار وقوله تبارك وتعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ. (إذا «٢» رَأَيْت من تشاء مع من تريد من تشاء أن تنزعه منه). والعرب تكتفي بما ظهر فِي أول الكلام مما ينبغي أن يظهر بعد شئت. فيقولون: خذ ما شئت، وكن فيما شئت. ومعناه فيما شئت أن تكون فِيهِ. فيحذف الفعل بعدها قال تعالى: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» «٣» وقال تبارك وتعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ «٤» والمعنى- والله أعلم-: فِي أي صورة شاء أن
(١) هذا من قصيدة للأعشى أوّلها:
ألم تروا إرما وعادا... أودى بها الليل والنهار
وقبل البيت:
أقسمتم حلفا جهارا... أن نحن ما عندنا عرار
وأبو رياح رجل من بنى ضبيعة قتل رجلا فسألوه أن يحلف أو يدفع الدية فحلف ثم قتل فضربته العرب مثلا لما لا يغنى من الحلف. وانظر الخزانة ١/ ٣٤٥، والصبح المنير ١٩٣. وقوله: والله كبار يقرأ لفظ الجلالة باختلاس فتحة اللام وسكون الهاء، وكبار مبالغة الكبير.
(٢) كذا فى ش ج. ولم يستقم وجه المعنى فيه. وكأن الأصل: أن تؤتيه إياه. (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أن تنزعه منه.
(٣) آية ٤٠ سورة فصلت.
(٤) آية ٨ سورة الانفطار.
204
يركبك ركبك. ومنه قوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ «١» وكذلك الجزاء كله إن شئت فقم، وإن شئت فلا تقم المعنى: إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت ألا تقوم فلا تقم. وقال اللَّه فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «٢» فهذا بين أن المشيئة واقعة على الإيمَان والكفر، وهما متروكان. ولذلك قَالَت العرب: (أيها شئت فلك) فرفعوا أيا لانهم أرادوا أيها شئت أن يكون لك فهو لك. وقالوا (بأيهم شئت فمر) وهم يريدون: بأيهم شئت أن تمر فمر.
وقوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ... (٢٧)
جاء التفسير أنه نقصان الليل يولج فِي النهار، وكذلك النهار يولج «٣» فِي الليل، حَتَّى يتناهى طول هذا وقصر هذا.
وقوله وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ذكر عن ابن عَبَّاس أنها البيضة: ميتة يخرج منها الفرخ حيا، والنطفة: ميتة يخرج منها الولد.
وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ... (٢٨)
نهى، ويجزم فِي ذلك. ولو رفع على الخبر «٤» كما قرأ من قرأ: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «٥».
وقوله إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً هى أكثر كلام العرب، وقرأه القرّاء. وذكر عن الْحَسَن ومجاهد أنهما قرءا «تقية» وكلّ صواب.
(١) آية ٣٩ سورة الكهف. [.....]
(٢) آية ٢٩ سورة الكهف.
(٣) فى ج: «فيه» والوجه ما أثبت.
(٤) والمعنى: لا ينبغى أن يكون ذلك. وجواب لو محذوف، أي لجاز.
(٥) آية ٢٣٣ سورة البقرة.
205
وقوله: يَعْلَمْهُ اللَّهُ... (٢٩)
جزم على الجزاء. وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ رفع على الاستئناف كما قال اللَّه فِي سورة براءة قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ «١» فجزم الأفاعيل، ثُمَّ قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ رفعا على الائتناف «٢». وكذلك قوله فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «٣» ثم قال وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ ويمح فِي نية رفع مستأنفه وإن لم تكن فيها واو حذفت منها الواو كما حذفت فى قوله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «٤». وإذا عطفت على جواب الجزاء جاز الرفع والنصب والجزم. وأما قوله وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «٥» وتقرأ جزما على العطف ومسكنه تشبه الجزم وهي فِي نية رفع تدغم الراء من يغفر عند اللام، والباء من يعذب عند الميم كما يقال أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ «٦» وكما قرأ الْحَسَن شَهْرُ رَمَضانَ «٧».
وقوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً... (٣٠)
ما فِي مذهب الَّذِي. ولا يكون جزاء لأن (تجد) قد وقعت على ما.
وقوله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ فإنك تردّه أيضا على (ما) فتجعل (عملت) صلة لها فِي مذهب رفع لقوله (تودّ لو أنّ بينها) ولو استأنفتها فلم توقع عليها (تجد) جاز الجزاء تجعل (عملت) مجزومة. «٨» ويقول فِي تود: تود بالنصب وتود. ولو كان التضعيف
(١) آية ١٤ سورة التوبة.
(٢) يقال: ائتنف الشيء واستأنفه، ومعناهما واحد.
(٣) آية ٢٤ سورة الشورى.
(٤) آية ١٨ سورة العلق.
(٥) آية ٢٨٤ سورة البقرة.
(٦) آية ١ سورة الماعون.
(٧) آية ١٨٥ سورة البقرة.
(٨) أي على أن ما جازمة يكون تودّ بالفتح، حرك بذلك للتخلص من الساكنين، وأوثر الفتح للخفة، ويجوز الكسر على أصل التخلص. وهذا على لغة الإدغام، ويجوز الفك فيقال: تودد، كما هو معروف.
206
ظاهرا لجاز تودد. وهى فى قراءة عَبْد اللَّه وما عملت من سوء ودت فهذا دليل «١» على الجزم، ولم أسمع أحدا من القراء قرأها جزما.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ... (٣٣)
يقال اصطفى دينهم على جميع الأديان لانهم كانوا مسلمين، ومثله مما أضمر فِيهِ شيء فألقى قوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها «٢».
ثم قال ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فنصب الذرية على جهتين إحداهما أن تجعل الذرية قطعا من الاسماء قبلها لانهن معرفة. وإن شئت نصبت على التكرير، اصطفى ذرية بعضها من بعض، ولو استأنفت فرفعت كان صوابا.
وقوله: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً... (٣٥)
لبيت المقدس: لا أشغله بغيره.
وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ... (٣٦)
قد يكون من إخبار مريم فيكون وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ يسكن العين، وقرأ بها «٣» بعض القراء، ويكون من قول اللَّه تبارك وتعالى، فتجزم التاء لأنه خبر عن أنثى غائبة.
(١) وجه الدلالة أن جعل ما شرطية يصرف الماضي عن المضىّ الذي لا يستقيم هنا.
(٢) آية ٨٢ سورة يوسف. [.....]
(٣) هى قراءة أبى بكر وابن عامر كما فى القرطبي.
207
وقوله: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا... (٣٧)
من شدد جعل زكرياء فِي موضع نصب كقولك: ضمنها زكرياء، ومن خفف الفاء جعل زكرياء فِي موضع رفع. وفي زكريا ثلاث لغات: القصر فى ألفه، فلا يستبين فيها رفع ولا نصب ولا خفض، وتمد ألفه فتنصب وترفع بلا نون لأنه لا يجرى «١»، وكثير من كلام العرب أن تحذف المدة والياء «٢» الساكنة فيقال: هذا زكرى قد حاء فيجرى لأنه يشبه المنسوب من أسماء العرب.
وقوله: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً... (٣٨)
الذرية جمع، وقد تكون فِي معنى واحد. فهذا من ذلك لأنه قد قال:
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا «٣» ولم يقل أولياء. وإنما قيل «طيبة» ولم يقل طيبا لأن الطيبة أخرجت على لفظ الذرّية فأنث لتأنيثها، ولو قيل ذرية طيبا كان صوابا.
ومثله من كلام العرب قول الشاعر:
أَبُوك خليفة ولدته أخرى... وأنت خليفة ذاك الكمال
فقال (أخرى) لتأنيث اسم الخليفة، والوجه أن تقول: ولده آخر. وقال آخر.
فما تزدرى من حية جبلية... سكاتٍ إذا ما عضّ ليس بأدردا «٤»
(١) الإجراء فى اصطلاح الكوفيين الصرف.
(٢) لم تحذف الياء الساكنة فى الصورة التي أثبتها وفيها ياء مشدّدة تشبه ياء النسب. وقد اشتبه عليه الأمر بلغة رابعة، وهى تخفيف الياء فيكون منقوصا، ويقال: هذا زكر بتنوين الراء مكسورة.
وانظر اللسان.
(٣) آية ٥ سورة مريم.
(٤) «جبلية» يقال للحية ابنة الجبل، فلذلك قال: جبلية. و «سكات» : لا يشعر به الملسوع حتى يلسعه. وأدرد: صفة من الدرد، وهو ذهاب الأسنان، ومؤنثه درداء. وانظر اللسان فى (سكت).
208
فقال: جبليّة، فأنّث لتأنيث اسم الحية، ثُمَّ ذكر إذ قال: إذا ما عض ولم يقل:
عضت. فذهب إلى تذكير المعنى. وقال الآخر «١» :
تجوب بنا الفلاة إلى سعيدٍ إذا ما الشاة فِي الأرطاة قالا
ولا يجوز هذا النحو إلا فِي الاسم الَّذِي لا يقع عليه فلان مثل «٢» الدابة والذرية والخليفة فإذا سميت رجلا بشيء من ذلك فكان فِي معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعته. فتقول فِي ذلك: حَدَّثَنَا المغيرة الضبي، ولا يجوز الضبية. ولا يجوز أن تقول: حدثتنا لأنه فِي معنى فلان وليس فِي معنى فلانة. وأما قوله «٣» :
وعنترة الفلحاء جاء ملامًا كأنه فند من عماية أسود
فإنه قال: الفلحاء «٤» فنعته بشفته. قال: وسمعت أبا ثروان يقول لرجل من ضبة وكان عظيم العينين: هذا عينان قد جاء، جعله كالنعت له. وقال بعض الأعراب لرجل أقصم «٥» الثنية: قد جاءتكم القصماء، ذهب إلى سنّه.
(١) هو الفرزدق. والشاة هنا الثور الوحشىّ. والأرطاة شجرة عظيمة. وقال من القيلولة. وانظر اللسان (شوه).
(٢) فى ج: «من».
(٣) هو شريح بن بجير الثعلبىّ، كان وقع بينه وبين بنى فزارة وعبس حرب فأعانه قومه. وقبل البيت:
ولو أن قومى قوم سوء أذلة لأخرجنى عوف بن عمرو وعصيد
وعوف وعصيد من فزارة، وعنترة من عبس. و «ملأما» : لابسا اللأمة وهى الدرع. والفند:
القطعة العظيمة الشخص من الجبل. وعماية: جبل عظيم بنجد. وقوله (كأنه) يقرأ باختلاس ضم الهاء.
وفى ج، ش: «كأنك» فإن صح هذا كان من باب الالتفات من الغيبة إلى الحطاب. وانظر اللسان (فلح).
(٤) هو وصف المؤنث من الفلح، وهو الشق فى الشفة السفلى، فأما الشق فى الشفة العليا فهو العلم.
(٥) هو وصف من القصم، وهو تكسر الثنية من النصف.
209
وقوله: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ... (٣٩)
يقرأ بالتذكير والتأنيث «١». وكذلك فعل الملائكة وما أشبههم من الجمع: يؤنث ويذكر. وقرأت القراء يعرج الملائكة «٢»، وتَعْرُجُ و «تَتَوَفَّاهُمُ «٣» - ويتوفاهم الملائكة» وكل صواب. فمن ذكر ذهب إلى معنى التذكير، ومن أنث فلتأنيث الاسم، وأن الجماعة من الرجال والنساء وغيرهم يقع عليه «٤» التأنيث. والملائكة فِي هذا الموضع جبريل صلى اللَّه عليه وسلم وحده. وذلك جائز فِي العربية: أن يخبر عن الواحد بمذهب الجمع كما تقول فِي الكلام: خرج فلان فِي السفن، وإنما خرج فِي سفينة واحدة، وخرج على البغال، وإنما ركب بغلا واحدا. وتقول: ممن سمعت هذا الخبر؟
فيقول: من الناس، وإنما سمعه من رَجُل واحد. وقد قال اللَّه تبارك وتعالى:
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ «٥»، وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ «٦» ومعناهما والله أعلم واحد:
وذلك جائز فِيما لم يقصد فِيهِ قصد واحدٍ بعينه.
وقوله وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ تقرأ بالكسر. والنصب فيها أجود فِي العربية. فمن فتح (أن) أوقع النداء عليها كأنه قال: نادوه بذلك أن اللَّه يبشرك. ومن كسر قال: النداء «٧» فِي مذهب القول، والقول حكاية. فاكسر إن بمعنى الحكاية. وفي قراءة عَبْد اللَّه فناداه الملائكة وهو قائم يصلي فِي المحراب يا زكريا إن اللَّه يبشرك فإذا أوقع النداء على منادى ظاهر مثل (يا زَكَرِيَّا) وأشباهه كسرت (إن) لأن الحكاية تخلص، إذا كان ما فِيهِ (يا) ينادي بها، لا يخلص إليها رفع ولا نصب ألا ترى أنك تقول: يا زَيْدُ إنك قائم، ولا يجوز يا زَيْدُ أنك قائم. وإذا قلت:
(١) قرأ العامة: «فنادته الملائكة»، بالتأنيث، وقرأ حمزة والكسائي: «فناداه الملائكة».
(٢) آية ٤ سورة المعارج.
(٣) آية ٢٨ سورة النحل.
(٤) الضمير يعود على الجماعة، بتأويلها بالجمع. وهذا إن لم يكن الأصل: «عليها». [.....]
(٥) آية ٣٣ سورة الروم.
(٦) آية ٨ سورة الزمر.
(٧) فى ج، ش: «فى النداء» والوجه ما أثبت.
210
ناديت زيدا أنه قائم فنصبت (زيدا) بالنداء جاز أن توقع النداء على (أن) كما أوقعته على زَيْد. ولم يجز أن تجعل إن مفتوحة إذا قلت يا زَيْدُ لأن زيدا لم يقع عليه نصب معروف. وقال فِي طه: «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» «١» فكسرت (إني). ولو فتحت كان صوابا من الوجهين أحدهما أن تجعل النداء واقعا على (إن) خاصة لا إضمار «٢» فيها، فتكون (أن) فِي موضع رفع. وإن شئت جعلت فِي (نودي) اسم مُوسَى مضمرا، وكانت (أن) فِي موضع نصب تريد: بأني أَنَا ربك. فإذا خلعت الباء نصبته. فلو قيل فِي الكلام: نودي أن يا زَيْدُ فجعلت (أن يا زيد) [هو المرفوع بالنداء] «٣» كان صوابا كما قال الله تبارك وتعالى: «وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» «٤».
فهذا ما فى النداء إذا أوقعت (إن) قيل يا زَيْد، كأنك قلت: نودي بهذا النداء إذا أوقعته على اسم بالفعل فتحت أن وكسرتها. وَإِذَا ضممت إِلَى النداء الَّذِي قد أصابه الفعل اسما منادى فلك أن تحدث (أن) معه فتقول ناديت أن يا زَيْدُ، فلك أن تحذفها من (يا زَيْدُ) فتجعلها فِي الفعل بعده ثُمَّ تنصبها.
ويجوز الكسر على الحكاية.
ومما يقوى مذهب من أجاز «إِنَّ الله يبشرك» بالكسر على الحكاية قوله:
«وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» «٥» ولم يقل: أن ليقض علينا ربك. فهذا مذهب الحكاية. وقال فِي موضع أخر «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا» «٦» ولم يقل: أفيضوا، وهذا أمر وذلك أمر لتعلم أن الوجهين صواب.
(١) آيتا ١١، ١٢
(٢) أي أن كلمة «نودى» ليس فيها مضمر مرفوع هو نائب الفاعل، وإنما المرفوع بها هو أنى....
(٣) زيادة يقتضيها السياق.
(٤) آيتا ١٠٤- ١٠٥ سورة والصافات.
(٥) آية ٧٧ سورة الزخرف.
(٦) آية ٥٠ سورة الأعراف.
211
و «يبشرك» قرأها [بالتخفيف] «١» أصحاب عَبْد اللَّه فِي خمسة مواضع من القرآن: فِي آل عِمْرَانَ حرفان «٢»، وفي بني «٣» إسرائيل، وفي الكهف «٤»، وَفِي مريم «٥». والتخفيف والتشديد صواب. وكأن المشدد على بشارات البشراء، وكأن التخفيف من وجهة الأفراح والسرور. وهذا شيء كان المشيخة يقولونه. وأنشدني بعض العرب:
بشرت عيالى إذ رأيت صحيفةً أتتك من الحجاج يتلى كتابها
وقد قَالَ بعضهم: أبشرت، ولعلها لغة حجازية. وسمعت سُفْيَان بْن عيينة يذكرها يبشر «٦». وبشرت لغة سمعتها من عكل، ورواها الكسائي عن غيرهم. وقال أَبُو ثروان:
بشرني بوجه حسن. وأنشدني الكسائي:
وإذا رَأَيْت الباهشين إلى العلى غبرا أكفهم بقاع ممحل «٧»
فأعنهم وابشر بما بشروا به وإذا هُمْ نزلوا بضنك فانزل
وسائر القرآن يشدد فِي قول أصحاب عَبْد الله وغيرهم.
وقوله: يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً نصبت (مصدقا) لأنه نكرة، ويحيى معرفة.
وقوله: بِكَلِمَةٍ يعنى مصدّقا بعيسى.
(١) زيادة يقتضيها السياق. يريد بالتخفيف قراءة الفعل (يبشر) على وزن ينصر.
(٢) هما فى آيتي ٣٩، ٤٥.
(٣) فى آية ٩.
(٤) فى آية ٢.
(٥) فى آية ٩٧. [.....]
(٦) فى اللسان: «فليبشر».
(٧) هذا الشعر من قصيدة مفضلية لعبد قيس بن خفاف البرجمىّ، يوصى فيها ابنه جبيلا. والباهش هو الفرح، كما قال الضبىّ، أو هو المتناول. وقوله: «وابشر بما بشروا به» فى رواية المفضليات:
«وأيسر بما يسروا به»، أي ادخل معهم فى الميسر ولا تكن بر ما تنكب عنهم فإن الدخول فى الميسر من شيمة الكرماء عندهم إذ كان ما يخرج منه يصرف لذوى الحاجات. وانظر شرح المفضليات لابن الأنبارى ص ٧٥٣.
212
وقوله: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مردودات على قوله: مصدقا.
ويقال: إن الحصور: الَّذِي لا يأتي النساء.
وقوله: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ إذا أردت الاستقبال المحض نصبت (تكلم) وجعلت (لا) على غير معنى ليس. وإذا أردت: آيتك أنك على هَذِهِ الحال ثلاثة أيّام رفعت، فقلت: أن لا تكلّم الناس ألا ترى أنه يحسن أن تَقُولَ: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين. وأكثره فِي الشفتين. كل ذلك رمز.
وقوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ... (٤٥)
مما ذكرت «١» لك فِي قوله ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً قيل فيها (اسمه) بالتذكير للمعنى، ولو أنث كما قال ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كان صوابا.
وقوله: (وجيها) قطعا «٢» من عِيسَى، ولو خفضت على أن تكون نعتا للكلمة لأنها هِيَ عِيسَى كان صوابا.
وقوله: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا... (٤٦)
والكهل «٣» مردود على الوجيه. (ويكلّم الناس) ولو كان فِي موضع (ويكلم) ومكلما كان نصبا، والعرب تجعل يفعل وفاعل إذا كانا فِي عطوف مجتمعين فِي الكلام، قال الشاعر:
بتّ أعشّيها بعضب باتر... يقصد فى أسوقها وجائر «٤»
(١) انظر ص ٢٠٨ من هذا الجزء.
(٢) أي نصب على القطع. يريد أنه حال.
(٣) يريد أن «كهلا» معطوف على قوله: «وجيها» فى الآية السابقة.
(٤) الضمير فى «أعشيها» للإبل، يريد أنه ينحرها للضيفان. ويروى:
بات يعشيها: يقصد...
وانظر الخزانة ٢/ ٣٤٥
وقال آخر:
من الذريحيات جعدا آركا... يقصر يمشى ويطول باركا «١»
كأنه قال: يقصر ماشيا فيطول باركا. فكذلك (فعل) إذا كانت فِي موضع صلة لنكرة أتبعها (فاعل) وأتبعته. تقول فِي الكلام: مررت بفتى ابن عشرين أو قد قارب ذلك، ومررت بغلام قد احتلم أو محتلمٍ قال الشاعر:
يا ليتني علقت غير خارج... قبل الصباح ذات خلقٍ بارج
أم الصبي قد حبا أو دارج «٢»
وقوله: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ... (٤٩)
يذهب إلى الطين «٣»، وفي المائدة (فَتَنْفُخُ فِيها) «٤» ذهب إلي الهيئة، فأنث لتأنيثها، وفي إحدى القراءتين (فأنفخها) وفي قراءة عَبْد اللَّه (فأنفخها) بغير فِي، وهو مما تقوله «٥» العرب: رب ليلة قد بتّ فيها وبتّها.
(١) قبله:
أرسلت فيها قطما لكالكا يقول: أرسل فى إبله فحلا قطما، وهو الصئول الهائج. والكالك: بضم اللام: الصلب الضخم.
والذريحيات: الحمر، يقال: أحمر ذريحىّ: شديد الحمرة. وآرك: يرعى الأراك أو يلزمه. وقوله:
يقصر يمشى... أي يقصر إذا مشى لانخفاض بطنه وتقاربه من الأرض، فإذا برك رأيته طويلا لارتفاع سنامه، أي أنه عظيم البطن، فإذا قام قصر وإذا برك طال. وانظر اللسان (لكك).
(٢) «خارج» كذا بالخاء المعجمة هنا، وفى اللسان (درج). والأقرب أنه (حارج) بالحاء المهملة أي آثم. و «بارج» أي ظاهر فى حسن. وقوله: «أم الصبى» المعروف فى الرواية «أم صبى».
وعلقت: هويت وأحببت. ويقال: درج الصبى: مشى مشيا ضعيفا.
(٣) فى الطبري: «الطير» وكل صحيح.
(٤) آية ١١٠
(٥) من ذلك قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ومن ليلة قد بتها غير آثم... بساجية الحجلين ريانة القلب
الحجل: الخلخال، والقلب: السوار. وانظر السمط ٦٩٢
214
ويقال فِي الفعل أيضا:
ولقد أبيت على الطوى وأظله «١»
تلقى الصفات وإن اختلفت فِي الأسماء والأفاعيل. وقال الشاعر:
إذا قَالَتْ حَذَامِ فأنصتُوها فإنّ القول ما قَالَتْ حذام «٢»
وقَالَ اللَّه تبارك وَتعالى وَهو أصدق قيلا: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «٣» يريد: كالوا لهم، وقال الشاعر:
ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند أسلاب «٤»
وقوله: (وَما تَدَّخِرُونَ) هِيَ تفتعلون من ذخرت، وتقرأ «٥» (وَمَا تَدخِرُونَ) خفيفة على تفعلون، وبعض العرب يقول: تدخرون فيجعل الدال والذال يعتقبان فِي تفتعلون من ذخرت، وظلمت «٦» تقول: مظلم ومطلم، ومذكر ومدكر، وسمعت بعض بني أسد يقول: قد اتغر «٧»، وهذه اللغة كثيرة فيهم خاصة. وغيرهم: قد اثّغر.
فأمّا الذين يقولون: يدّخر ويدّكر ومدّكر فإنهم وجدوا التاء إذا سكنت واستقبلتها ذال دخلت التاء فِي الذال فصارت ذالا، فكرهوا أن تصير التاء ذالا فلا يعرف الافتعال من ذلك، فنظروا إلى حرف يكون «٨» عدلا بينهما فِي المقاربة، فجعلوه مكان التاء ومكان الذال.
(١) هذا شطر بيت لعنترة. وعجزه:
حتى أنال به كريم المأكل
(٢) فقوله: أنصتوها أي أنصتوا إليها. والمشهور فى الرواية: فصدّقوها.
(٣) آية ٣ سورة المطففين. [.....]
(٤) فقوله: قامتك أي قامت عليك.
(٥) قرأ بهذا الزهري ومجاهد وأيوب السختياني.
(٦) كذا، والتعاقب فيهما ليس بين الدال والذال، كما هو واضح بل بين الظاء والطاء.
(٧) أي سقطت أسنانه الرواضع.
(٨) وهو الدال، ففيها شبه بالتاء والذال.
215
وأما الذين غلبوا الذال فأمضوا القياس، ولم يلتفتوا إلى أنه حرف واحد، فأدغموا تاء الافتعال عند الذال والتاء والطاء.
ولا تنكرن اختيارهم الحرف بين الحرفين فقد قَالُوا: ازدجر ومعناها: ازتجر، فجعلوا الدال عدلا بين التاء والزاي. ولقد قال بعضهم: مزجر، فغلب الزاي كما غلب التاء. وسمعت بعض بني عقيل يقول: عليك بأبوال الظباء فاصعطها فإنها شفاء للطحل «١»، فغلب الصاد على التاء، وتاء الافتعال تصير مع الصاد والضاد طاء، كذلك الفصيح من الكلام كما قال اللَّه عز وجل: (فمن اضطرّ فى مخمصة) «٢» ومعناها افتعل من الضرر. وقال اللَّه تبارك وتعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) «٣» فجعلوا التاء طاء فِي الافتعال.
وقوله: وَمُصَدِّقاً (٥٠) نصبت (مصدقا) على فعل (جئت)، كأنه قال: وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة، وليس نصبه بتابع لقوله (وجيها) لأنه لو كان كذلك لكان (ومصدّقا لما بين يديه).
وقوله: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ الواو فيها بمنزلة قوله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «٤».
وقوله: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ (٥٢) يقول: وجد عِيسَى. والإحساس: الوجود، تقول فِي الكلام: هَلْ أحسست أحدا.
وكذلك قوله هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ «٥».
(١) هو عظم الطحال. وهو مرض. وقوله: اصعطها: هو افتعال من الصعوط وهو لغة فى السعوط بإبدال السين صادا: وهو ما يستنشق فى الأنف.
(٢) آية ٣ سورة المائدة.
(٣) آية ١٣٢ سورة طه.
(٤) آية ٧٥ سورة الأنعام.
(٥) آية ٩٨ سورة مريم.
216
فإذا قلت: حسست، بغير ألف فهي فِي معنى الإفناء والقتل. من ذلك قول اللَّه عز وجل إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ «١» والحس أيضا: العطف والرقة كقول الكُميت:
هَلْ من بكى الدار راجٍ أن تحس له أو يبكى الدار ماء العبرة الخضل «٢»
وسمعت بعض «٣» العرب يقول: ما رَأَيْت عقيليا إلا حسست له، وحسست لغة.
والعرب تقول: من أَيْنَ حسيت هذا الخبر؟ يريدون: من أَيْنَ تخبرته؟ [وربما «٤» قَالُوا حسيت بالخبر وأحسيت به، يبدلون من السين ياء] كقول أبي زبيد.
حسين به فهن إليه شوس «٥» وقد تقول العرب ما أحست بهم أحدا، فيحذفون «٦» السين الأولى، وكذلك فِي وددت، ومسست وهممت، قال: أنشدني بعضهم:
هَلْ ينفعنك اليوم إن همت بهمّ كثرة ما تأتى وتعقاد الرتم «٧»
(١) آية ١٥٢ سورة آل عمران.
(٢) جاء فى اللسان (حسس).
(٣) هو أبو الجراح، كما فى اللسان.
(٤) زيادة من اللسان. [.....]
(٥) هذا عجز بيت صدره:
خلا أن العتاق من المطايا
وهو من أبيات يصف فيها الأسد. وصف ركبا يسيرون والأسد يتبعهم فلم يشعر به إلا المطايا. والشوس واحده أشوس وشوسا، من الشوس وهو النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا.
(٦) أي بعد إلقاء حركتها على الحاء.
(٧) ترى أن الفرّاء روى (همت) بسكون الميم وتاء المخاطبة. وأصله: هممت. والمعروف فى الرواية (همت) بتشديد الميم مفتوحة وتاء التأنيث الساكنة، والحديث على هذه الرواية عن الزوجة، وكان الرجل إذا أراد سفرا عقد غصنين، فإذا عاد من سفره وألفى الغصنين معقودين وثق بامرأته وإلا اعتقد أنها خانته فى غيبته. والرتم جمع رتمة، وهو خيط يعقد على الإصبع والخاتم للتذكر أو علامة على شىء، واستعمله فى عقد الغصنين إذ كان علامة على أمر نواه. وانظر اللسان فى رتم. وفيه «توصى» بدل «تأتى».
217
وقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ المفسّرون يقولون: من أنصارى مع اللَّه، وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل (إلى) موضع (مع) إذا ضممت الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه كقول العرب: إن الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا. فإذا كان الشيء مع الشيء لم تصلح مكان مع إلى، ألا ترى أنك تقول: قدم فلان ومعه مال كثير، ولا تقول فِي هذا الموضع: قدم فلان وإليه مال كثير. وكذلك تقول: قدم فلان إلى أهله، ولا تقول: مع أهله، ومنه قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «١» معناه: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم.
والحواريون كانوا خاصة عِيسَى. وكذلك خاصة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقع عليهم الحواريون. وكان الزبير يقال له حواري رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وربما جاء فِي الحديث لابي بَكْر وعمر وأشباههما حواري. وجاء فِي التفسير أنهم سموا حواريين لبياض ثيابهم «٢».
ومعنى قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ (٥٤) نزل هذا فِي شأن عِيسَى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فِيهِ كوة «٣» وقد أيده اللَّه تبارك وتعالى بجبريل صلى اللَّه عليه وسلم، فرفعه إلى السماء من الكوة، ودخل عليه رَجُل منهم ليقتله، فألقى اللَّه على ذلك الرجل شبه عِيسَى بْن مريم. فلما دخل البيت فلم يجد فِيهِ عِيسَى خرج إليهم وهو يقول: ما فِي البيت أحد، فقتلوه وهم يرون أنه عِيسَى.
فذلك قوله وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ والمكر من الله استدراج، لا على مكر المخلوقين.
(١) آية ٢ سورة النساء.
(٢) من التحوير أي التبييض. ويقال لمن يغسل الثياب: يحوّرها إذ كان يزيل درنها ويعيدها إلى البياض.
(٣) بضم الكاف وفتحها، وهى الثقب فى الحائط.
وقوله: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ (٥٥) يقال: إن هذا مقدم ومؤخر. والمعنى فِيهِ: إني رافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك فِي الدنيا. فهذا وجه.
وقد يكون الكلام غير مقدم ولا مؤخر فيكون معنى متوفيك: قابضك كما تقول: توفيت مالي من فلان: قبضته من فلان. فيكون التوفي على أخذه ورفعه إليه من غير موت.
وقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (٥٩) هذا لقول «١» النصارى إنه ابنه إذ لم يكن أب، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى علوا
كبيرا إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ لا أَبَ له ولا أم، فهو أعجب أمرا من عِيسَى، ثُمَّ قال: خَلَقَهُ لا أن قوله «خَلَقَهُ» صلة لآدم إنما تكون الصلات للنكرات كقولك: رَجُل خلقه من تراب، وإنما فسّر أمر آدم حين ضرب به المثل فقال «خَلَقَهُ» على الانقطاع والتفسير، ومثله قوله مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ «٢» ثم قال يَحْمِلُ أَسْفاراً والأسفار: كتب العلم يحملها ولا يدري ما فيها. وإن شئت جعلت «يَحْمِلُ» صلة للحمار، كأنك قلت:
كمثل حمار يحمل أسفارا لأن ما فِيهِ الألف واللام قد يوصل فيقال «٣» : لا أمر إلا بالرجل يقول ذلك، كقولك بالذي يقول ذلك. ولا يجوز فِي زَيْدُ ولا عمرو أن يوصل كما يوصل الحرف فيه الألف واللام.
(١) أي ردّ لقولهم.
(٢) آية ٥ سورة الجمعة.
(٣) هذا على رأى الكوفيين. والبصريون يجعلون الجملة فى مثل هذا إذا أريد الجنس صفة، لا صلة.
وقوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ (٦٠) رفعته بإضمار (هُوَ) ومثله فِي البقرة الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ «١» أي هُوَ الْحَق، أو ذلك الحق فلا تمتر.
وقوله: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ (٦٤) وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه إلى كلمة عدل بيننا وبينكم وقد يقال فِي معنى عدل سوى وسوى، قال اللَّه تبارك وتعالى فى سورة طه (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) «٢» وسوى يراد به عدل ونصف بيننا وبينك.
ثم قال أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ فأن فِي موضع «٣» خفض على معنى: تعالوا إلى ألا نعبد إلا اللَّه. ولو أنك رفعت (ما نعبد) «٤» مع العطوف عليها على نية تعالوا نتعاقد لا «٥» نعبد إلا اللَّه لأن معنى الكلمة القول، كأنك حكيت تعالوا نقول لا نعبد إلا اللَّه. ولو جزمت العطوف لصلح على التوهم لأن الكلام مجزوم لو لم تكن فِيهِ أن كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيرا.
ومثله مما يرد على التأويل قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ «٦» فصيّر (ولا تكونن) نهيا فِي موضع جزم، والأول منصوب، ومثله وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ «٧» فرد أن على لام كي لأن (أن) تصلح فى موقع
(١) آية ١٤٧.
(٢) آية ٥٨.
(٣) أي على أن المصدر بدل من «كلمة».
(٤) يريد (لا نعبد). وإنما وضع فى التفسير (ما) موضع (لا) الواردة فى التلاوة ليحقق رفع الفعل، فإنه لا ينتصب بعد ما.
(٥) فى الأصلين: «ألا» والوجه ما أثبت. [.....]
(٦) آية ١٤ سورة الأنعام.
(٧) آيتا ٧١- ٧٢ سورة الأنعام.
اللام. فرد أن على أن مثلها يصلح فِي موقع اللام ألا ترى أنه قال فى موضع يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «١» وفى موضع يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا «٢».
وقوله: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ (٦٥) فإن أهل نجران قَالُوا: كان إِبْرَاهِيم نصرانيا على ديننا، وقالت اليهود: كان يهوديا على ديننا، فأكذبهم اللَّه فقال وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد إِبْرَاهِيم بدهر طويل، ثُمَّ عيرهم أيضا.
فقال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ (٦٦) إِلَى آخر الآية. ثُمَّ بين ذلك.
فقال: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً (٦٧) إلى آخر الآية.
وقوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يقول: تشهدون أن مُحَمَّدا صلى اللَّه عليه وسلم بصفاته فِي كتابكم. فذلك قوله:
(تشهدون).
وقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ (٧١) لو أنك قلت فِي الكلام: لم تقوم وتقعد يا رَجُل؟ على الصرف «٣» لجاز، فلو نصبت (وتكتموا) كان صوابا.
(١) آية ٨ سورة الصف.
(٢) آية ٣٢ سورة التوبة.
(٣) الصرف هنا ألا يقصد الثاني بالاستفهام، فإنه إن قصد ذلك كان العطف، وكان حكم الثاني حكم الأوّل، ولم ينصب. والنصب عند البصريين بأن مضمرة بعد واو المعية. وانظر ص ٣٤ من هذا الجزء.
221
وقوله: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ (٧٢) يعنى صلاة الصبح وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعني صلاة الظهر. هذا قالته اليهود لما صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة فقالت اليهود: صلوا مع مُحَمَّد- صلى اللَّه عليه وسلم- الصبح، فإذا كانت الظهر فصلوا إلى قبلتكم لتشككوا أصحاب مُحَمَّد فِي قبلتهم لانكم عندهم أعلم منهم فيرجعوا إلى قبلتكم.
فأما قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ (٧٣) فإنه يقال: إنها من قول اليهود. يقول: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم.
واللام بمنزلة قوله: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ «١» المعنى: ردِفكم.
وقوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ (٧٣) يقول: لا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. أوقعت تُؤْمِنُوا على أَنْ يُؤْتى كأنه قال: ولا تؤمنوا أن يعطى أحد مثل ما أعطيتم، فهذا وجه.
ويقال: قد انقطع كلام اليهود عند قوله وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ثُمَّ صار الكلام من قوله قل يا مُحَمَّد إن الهدى هدى اللَّه أن يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسْلام، وجاءت (أن) لأن فِي قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى مثل قوله: إن البيان بيان اللَّه، فقد بين أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام. وصلحت (أحد)
(١) آية ٧٢ سورة النمل.
222
لأن معنى أن معنى لا كما قال تبارك وتعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «١» معناه:
لا تضلون. وقال تبارك وتعالى كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ «٢» أن تصلح فِي موضع لا.
وقوله أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي معنى حَتَّى وفي معنى إلا كما تقول فِي الكلام: تعلق به أبدا أو يعطيك حقك، فتصلح حَتَّى وإلا فِي موضع أو.
وقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (٧٥) كان الاعمش وعاصم يجزمان الهاء فِي يؤده، و «نُوَلِّهِ «٣» ما تَوَلَّى»، و «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» «٤»، و «خَيْراً يَرَهُ»، و «شَرًّا «٥» يَرَهُ». وفيه لهما مذهبان أما أحدهما فإن القوم ظنوا أن الجزم فِي الهاء، وإنما هُوَ فيما قبل الهاء. فهذا وإن كان توهما، خطأ. وأما الآخر فإن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقول ضربته ضربا شديدا، أو يترك الهاء إذ سكنها وأصلها الرفع بمنزلة رأيتهم وأنتم ألا ترى أن الميم سكنت وأصلها الرفع. ومن العرب من يحرك الهاء حركة بلا واو، فيقول ضربته (بلا واو) ضربا شديدا. والوجه الأكثر أن توصل بواو فيقال كلمتهو كلاما، على هذا البناء، وقد قال الشاعر فِي حذف الواو:
أَنَا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن قناعه مغطيّا فإنّى لمجتلى «٦»
(١) آخر آية فى سورة النساء.
(٢) آيتا ٢٠٠، ٢٠١ سورة الشعراء.
(٣) آية ١١٥ سورة النساء.
(٤) آية ١١١ سورة الأعراف.
(٥) آيتا ٧، ٨ سورة الزلزلة.
(٦) فى ج: «معطيا» وهو تصحيف عما أثبتناه.
والبيت فى اللسان (غطى). ومغطيا: مستورا من قولهم: غطى الشيء: ستره وعلاه.
وأما إذا سكن ما قبل الهاء فإنهم يختارون حذف الواو من الهاء فيقولون: دعه يذهب، ومنه، وعنه. ولا يكادون يقولون: منهو ولا عنهو، فيصلون بواو إذا سكن ما قبلها وذلك أنهم لا يقدرون على تسكين الهاء وقبلها حرف ساكن، فلما صارت متحركة لا يجوز تسكينها اكتفوا بحركتها من الواو.
وقوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً يقول: ما دمت له متقاضيا. والتفسير فِي ذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا بايعهم أهل الإسْلام أدى بعضهم الأمانة، وقال بعضهم: ليس للاميين- وهم العرب- حرمة كحرمة أهل ديننا، فأخبر اللَّه- تبارك وتعالى- أن فيهم أمانة وخيانة فقال تبارك وتعالى «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» فِي استحلالهم الذهاب بحقوق المسلمين.
وقوله: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) تقرأ: تعلّمون و «١» تعلمون، وجاء فِي التفسير: بقراءتكم الكتب وعلمكم بها.
فكان الوجه (تعلمون) وقرأ الكسائي وحمزة (تعلمون) لأن العالم يقع عليه يعلم ويعلم.
وقوله: وَلا يَأْمُرَكُمْ... (٨٠)
أكثر القراء على نصبها يردونها على (أَنْ يُؤْتِيَهُ الله) : ولا أن يأمركم. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه (ولن يأمركم) فهذا دليل على انقطاعها من النسق وأنها مستأنفة، فلما وقعت (لا) فِي موقع (لن) رفعت كما قال تبارك وتعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً
(١) فالتشديد قراءة ابن عامر وأهل الكوفة. والتخفيف قراءة أبى عمرو وأهل المدينة. وانظر القرطبى ٤/ ١٢٣
وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ «١» الْجَحِيمِ) وهى فى قراءة عَبْد اللَّه (ولن تسأل) وَفِي قراءة أبىّ (وما تسأل عن أصحاب الجحيم).
وقوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ (٨١) ولما آتيتكم، قرأها يحيى بْن وثاب بكسر اللام يريد أخذ الميثاق للذين آتاهم، ثُمَّ جعل قوله (لتؤمنن به) من الأخذ «٢» كما تقول: أخذت ميثاقك لتعملن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. ومن نصب اللام فِي (لما) جعل اللام لا ما زائدة إذ أوقعت على جزاء «٣» صير على جهة فعل وصير جواب الجزاء باللام وبإن وبلا وبما، فكأن اللام يمين إذ صارت تلقى بجواب اليمين. وهو وجه الكلام.
وقوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً (٨٣) أسلم أهل السَّمَوَاتِ طوعا. وأما أهل الأرض فإنهم لما كانت السنة فيهم أن يقاتلوا إن لم يسلموا أسلموا طوعا وكرها.
وقوله: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً (٩١) نصبت الذهب لأنه مفسر لا يأتي مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك:
عندي عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا. ومثله قوله (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) «٤»
(١) آية ١١٩ سورة البقرة. [.....]
(٢) يريد أنه جواب القسم الذي تضمنه قوله: أخذ الله ميثاق النبيين إذ كان ذلك فى معنى القسم.
(٣) يريد أن (ما) فى (لما) على هذا شرطية، واللام موطئة للقسم، ولذلك أجيبت بما يجاب به القسم فى قوله: لتؤمنن به.
(٤) آية ٩٥ سورة المائدة.
وإنما ينصب على خروجه من المقدار الَّذِي تراه قد ذكر قبله، مثل ملء الأرض، أو عدل ذلك، فالعدل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شيء له قدر كقولك: عندى قدر قفيز «١» دقيقا، وقدر حملةٍ تبنا، وقدر رطلين عسلا، فهذه مقادير معروفة يخرج الَّذِي بعدها مفسرا لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدل على جنس المقدار من أي شيء هُوَ كما أنك إذا قلت: عندي عشرون فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تم خبره، وجهل جنسه وبقي تفسيره، فصار هذا مفسرا عَنْهُ، فلذلك نصب.
ولو رفعته على الائتناف لجاز كما تقول: عندي عشرون، ثُمَّ تقول بعد: رجال، كذلك لو قلت: ملء الأرض، ثُمَّ قلت: ذهب، تخبر على غير اتصال.
وقوله: وَلَوِ افْتَدى بِهِ الواو هاهنا قد يستغنى عَنْهَا، فلو قيل ملء الأرض ذهبا لو افتدى به كان صوابا. وهو بمنزلة قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) «٢» فالواو هاهنا كأن لها فعلا مضمرا «٣» بعدها.
وقوله: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ... (٩٣)
يذكر فِي التفسير أنه أصابه عرق النسا فجعل على نفسه إن برأ أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه، فلما برأ حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، وكان «٤» أحب الطعام والشراب إليه.
(١) القفيز: مكيال للحبوب.
(٢) آية ٧٥ سورة الأنعام.
(٣) أي كأنّ الأصل: ولو افتدى به فلن يقبل منه فحذف الجواب للدليل عليه من الكلام السابق.
وكذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ: فالتقدير وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السموات والأرض.
(٤) كذا فى ش، ج. يريد: كان كل منهما. وقد يكون الأصل: «كانا».
وقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ... (٩٦)
يقول: إن أول مسجد وضع للناس (لَلَّذِي ببكّة) وإنما سميت بكة لازدحام الناس بها يقال: بك الناس بعضهم بعضًا: إذا ازدحموا.
وقوله: هُدىً موضع نصب متبعة للمبارك. ويقال إنما قيل: مباركا لأنه مغفرة للذنوب.
وقوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ... (٩٧)
يُقَالُ: الآيات المقام والحجر والحطيم، وقرا ابن عَبَّاس «فِيهِ آية بينة» جعل المقام هُوَ الآية لا غير.
وقوله: وَمَنْ كَفَرَ يقول: من قَالَ ليس علي حج فَإِنَّمَا يجحد بالكفر فرضه لا يتركه «١».
وقوله: مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً... (٩٩)
يريد السبيل فأنثها، والمعنى تبغون لها. وكذلك (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) »
: يبغون لكم الفتنة. والعرب يقولون: ابغني خادما فارها، يريدون: ابتغه لي، فإذا أرادوا:
ابتغ معي «٣» وأعني على طلبه قَالُوا أبغني (ففتحوا الألف الأولى من بغيت، والثانية من أبغيت) «٤» وكذلك يقولون: المسني «٥» نارا وألمسني، واحلبني وأحلبني، وأحملني «٦» واحملني،
(١) كذا فى ش، ج. وكأنّ فى الكلام سقطا، والأصل: إذ لو آمن به لا يتركه.
(٢) آية ٤٧ سورة التوبة.
(٣) فى ح: «معنى» وفى ش: «معنا» والأنسب ما أثبت.
(٤) كذا ترى ما بين القوسين فى ش ج. ولم يستقم لنا وجه هذه العبارة. وقد يكون الأصل:
فكسروا الألف من ابغني الأولى وفتحوها من أبغنى الثانية.
(٥) كذا، والظاهر أن ما هنا تحريف عن: اقبسنى نارا، وأقبسنى.
(٦) فاحلبنى معناها: احلب لى، وأحلبنى: أعنّى على الحلب. وانظر اللسان (عكم).
واعكمنى وأعكمنى «١» فقوله: احلبني يريد: احلب لي أي اكفنى الحلب، وأحلبنى:
أعنّى عليه، وبقيته على مثل هذا.
وقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً... (١٠٣)
الكلام العربىّ هكذا بالباء، وربما طرحت العرب الباء فقالوا: اعتصمت بك واعتصمتك قال بعضهم:
إذا أنت جازيت الإخاء بِمِثْلِهِ... وآسيتني ثُمَّ اعتصمت حباليا
فألقى الباء. وهو كقولك: تعلقت زيدا، وتعلقت بزيد. وأنشد بعضهم:
تعلقت هندا ناشئا ذات مئزرٍ... وأنت وقد قارفت «٢» لم تدر ما الحلم
وقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... (١٠٦)
لم يذكر الفعل أحد من القراء كما قيل (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) «٣» وقوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) «٤» وإنما سهل التذكير فِي هذين لأن معهما جحدا، والمعنى فِيهِ: لا يحل لك أحد من النساء، ولن ينال اللَّه شيء من لحومها، فذهب بالتذكير إلى المعنى، والوجوه ليس ذلك فيها، ولو ذكر فعل الوجوه كما تقول:
قام القوم لجاز ذلك.
وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ يقال: (أمّا) لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هِيَ؟ فيقال: إنها كانت مع قولٍ مضمر، فلما سقط القول سقطت الفاء معه، والمعنى- والله أعلم- فأما الذين اسودّت وجوههم فيقال: أكفرتم،
(١) العكم: شدّ المتاع بثوب. فمعنى اعكمنى: شدّ لى المتاع، ومعنى أعكمنى: أعنّى على العكم. [.....]
(٢) «ناشئا» هو حال من «هندا» وتراه من غير علم التأنيث. والناشئ: الذي جاوز حدّ الصغر. وقوله: «وقد قارفت» حال مقدّمة، والأصل: وأنت لم تدر ما الحلم وقد قارفت أي قاربت الحلم. يقال: قارف الشيء: قاربه.
(٣) آية ٣٧ سورة الحج.
(٤) آية ٥٢ سورة الأحزاب.
فسقطت الفاء مع (فيقال). والقول قد يضمر. ومنه فِي كتاب اللَّه شيء كثير من ذلك قوله (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) «١» وقوله (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) «٢» وفي قراءة عَبْد اللَّه «ويقولان ربنا».
وقوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ... (١٠٨)
يريد «٣» : هذه آيات اللَّه. وقد فسر شأنها فِي أول البقرة.
وقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ... (١١٠)
فِي التأويل: فِي اللوح المحفوظ. ومعناه أنتم خير أمة كقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) «٤»، و (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) «٥» فإضمار كان فِي مثل هذا وإظهارها سواء.
وقوله: يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ... (١١١)
مجزوم لأنه جواب للجزاء ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ مرفوع على الائتناف، ولأن رءوس الآيات بالنون، فذلك مما يقوى الرفع كما قال (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) «٦» فرفع، وقال تبارك وتعالى (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) «٧».
(١) آية ١٢ سورة السجدة.
(٢) آية ١٢٧ سورة البقرة.
(٣) يريد أنه وضع إشارة البعيد فى مكان إشارة القريب. والمسوّغ لهذا أن المشار إليه كلام، يجوز أن يراعى فيه انقضاؤه فيكون بعيدا. وانظر ص ١٠ من هذا الجزء.
(٤) آية ٨٦ سورة الأعراف.
(٥) آية ٢٦ سورة الأنفال.
(٦) آية ٣٦ سورة المرسلات.
(٧) آية ٣٦ سورة فاطر.
229
وقوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ... (١١٢)
يقول: إلا أن يعتصموا بحبل من اللَّه فأضمر ذلك، وقال الشاعر «١» :
رأتني بحبليها فصَدَّت مخافةً... وَفِي الحبل روعاء الفؤاد فروق
أراد: أقبلت بحبليها، وقال الآخر «٢» :
حنتني حانيات الدهر حَتَّى... كأني خاتلٍ أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني... ولست مقيدا أنى بقيد
يريد: مقيدا بقيد.
وقوله: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ... (١١٣)
ذكر أمة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى يراد لأن سواء لا بد لها من اثنين فما زاد.
ورفع الأمة على وجهين أحدهما أنك تكره على سواء كأنك قلت:
لا تستوي أمة صالحة وأخرى كافرة منها أمة كذا وأمة كذا، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان فِي الكلام دليل عليه، قال الشاعر «٣» :
عصيت إليها القلب إنى لأمرها... سميع فما أدرى أرشد طلابها
(١) هو حميد بن ثور. والبيت من قصيدة له فى ديوانه المطبوع فى الدار ص ٣٥. وهو فى وصف ناقته. يقال ناقة روعاء الفؤاد: حديدته ذكيته. وفروق: خائفة: كأنه يريد أنه جاء بالحبال التي يشد بها عليها الرحل للسفر فارتاعت لما هى بسبيله من عناء السير.
(٢) هو أبو الطمحان القينى حنظلة بن الشرقىّ، وكان من المعمرين. و «حابل» أي ينصب الحبالة للصيد. وهى آلة الصيد. والرواية المشهورة «خاتل» من الختل وهو المخادعة. وانظر اللسان (ختل) وكتاب المعمرين لأبى حاتم ٤٧.
(٣) هو أبو ذؤيب الهذلىّ. والرواية المعروفة: «عصانى إليها القلب». وانظر ديوان الهذليين (الدار) ١/ ٧٢.
230
ولم يقل: أم غىّ، ولا: أم لا لأن الكلام معروف المعنى. وقال الآخر:
أراك فلا أدرى أهم هممته وذو الهم قدمًا خاشع متضائل
وقال الآخر «١» :
وما أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ وجهًا أريدُ الخيرَ أيُّهما يليني
أألخير الَّذِي أنا أبتغيه أم الشر الذي لا يأتليني
ومنه قول اللَّه تبارك وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «٢» ولم يذكر الَّذِي هُوَ ضده لأن قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «٣» دليل على ما أضمر من ذلك.
وقوله: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ السجود فِي هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود لأن التلاوة لا تكون فِي السجود ولا فِي الركوع.
وقوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ (١١٨) وفي قراءة عَبْد اللَّه «وقد بدا البغضاء من أفواههم» ذكر لأن البغضاء مصدر، والمصدر إذا كان مؤنثا جاز تذكير فعله إذا تقدّم مثل وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «٤» وفَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «٥» وأشباه ذلك.
وقوله: ها أَنْتُمْ أُولاءِ (١١٩) العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا وهاذان وهؤلاء فرقوا بين (ها) وبين (ذا) وجعلوا المكنى بينهما، وذلك فِي جهة التقريب «٦» لا فى غيرها،
(١) هو المثقب العبدىّ. وانظر الخزانة ٤/ ٤٢٩، وشرح ابن الأنبارى للمفضليات ٥٧٤. [.....]
(٢) آية ٩ سورة الزمر.
(٣) الآية السابقة.
(٤) آية ٦٧ سورة هود.
(٥) آية ١٥٧ سورة الأنعام.
(٦) يراد بالتقريب أن يكون محط الخبر هو مفيد الحدث من فعل أو وصف. ففى قولك هأنت ذا تغضب تقريب. والتقريب عندهم مما يكون فيه رفع ونصب ككان الناقصة. وانظر ص ١٢ من هذا الجزء.
231
فيقولون: أَيْنَ أنت؟ فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أَنَا، وكذلك التثنية والجمع، ومنه ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال اللَّه تبارك وتعالى فِي النساء: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
«١».
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفى كل واحد بصاحبه بلا فعل، والتقريب لا بد فِيهِ من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح.
وقوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً (١٢٠) إن شئت جعلت جزما وإن كانت مرفوعة، تكون كقولك للرجل: مد يا هذا، ولو نصبتها أو خفضتها كان صوابا لأن من العرب من يقول مد يا هذا، والنصب فِي العربية أهيؤها «٢»، وإن شئت جعلته رفعا وجعلت (لا) على مذهب ليس فرفعت وأنت مضمر للفاء كما قال الشاعر «٣» :
فإن كان لا يرضيك حَتَّى تردني إلى قطري لا إخالك راضيا
وقد قرأ بعض القراء «لا يضركم» تجعله من الضير، وزعم الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك وما يضورني، فلو قرئت «لا يضركم» على هذه اللغة كان صوابا.
(١) آية ١٠٩
(٢) أي أحسنها، وهو اسم تفضيل لقولهم: هيىء للحسن فى كل شىء.
وأصله حسن الهيئة.
(٣) هو سوّار بن المضرب السعدي التميمىّ. وكان هرب من الحجاج لما عزم عليه فى محاربة الخوارج وزعيمهم قطرىّ بن الفجاءة. وموطن الشاهد: «لا إخالك» إذ جاء مرفوعا مع وقوعه فى جواب إن.
232
وقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ (١٢١) وفي قراءة عَبْد اللَّه «تبوي للمؤمنين مقاعد للقتال» والعرب تفعل ذلك، فيقولون:
ردفك وردف لك. قال الفراء قال الكسائي: سمعت بعض العرب يقول: نقدت لها مائة، يريدون نقدتها مائة، لامرأة تزوجها. وأنشدني الكسائي:
أستغفرُ اللَّه ذنبًا لستُ مُحْصِيهُ رَبّ الْعِبَادِ إليه الوجه والعمل
والكلام باللام كما قَالَ اللَّه تبارك وتعالى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ «١» وفَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ «٢» وأنشدني:
أستغفر اللَّه من جدى ومن لعبي وزري وكل امرئٍ لا بد متزر «٣»
يريد لوزري. ووزري حين ألقيت اللام فِي موضع نصب، وأنشدني الكسائي:
إن أجز علقمة بْن سعدٍ سعيه لا تلقني أجزي بسعي واحد
لأحبني حب الصبي وضمني ضم الهدى «٤» إلى الكريم الماجد
وإنما قال (لاحبني) لأنه جعل جواب إن إذ كانت جزاء كجواب لو.
وقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما (١٢٢) وفي قراءة عَبْد اللَّه «والله وليهم» رجع بهما إلى الجمع كما قال اللَّه عز وجل:
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «٥» وكما قال: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «٦».
(١) آية ٢٩ سورة يوسف.
(٢) آية ١٣٥ سورة آل عمران.
(٣) متزر من اتزر: ارتكب الوزر وهو الإثم. وقوله من جدى ومن لعبى: الأشبه: فى جدى وفى لعبى.
(٤) الهدىّ: العروس تزف الى زوجها.
(٥) آية ١٩ سورة الحج.
(٦) آية ٩ سورة الحجرات. [.....]
233
وقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ (١٢٨)
فى نصيبه وجهان إن شئت جعلته معطوفا على قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حَتَّى كما تقول: لا أزال ملازمك أو تعطيني، أو إلا أن تعطيني حقي.
وقوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ... (١٣٥)
يقال [ما قبل «١» إلا] معرفة، وإنما يرفع ما بعد إلا بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد كقولك: ما عندي أحد إلا أبوك، فإن معنى قوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ما يغفر الذنوب أحد إلا اللَّه، فجعل على المعنى. وهو فِي القرآن فِي غير موضع.
وقوله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ... (١٤٠)
وقرح. وأكثر القراء على فتح القاف. وقد قرأ أصحاب عَبْد اللَّه: قرح، وكأن القرح ألم الجراحات، وكأن القرح الجراح بأعيانها. وهو فِي ذاته مثل قوله:
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ «٢» ووجدكم وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ «٣» وجهدهم، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «٤» [ووسعها].
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعلم المؤمن من غيره، والصابر من غيره.
وهذا فِي مذهب أي ومن كما قال: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى «٥» فإذا جعلت
(١) زيادة يقتضيها السياق. وهذا ذكر اعتراض على رفع المستثنى، جوابه قوله بعد: «فإن معنى قوله... ».
(٢) آية ٦ سورة الطلاق. والضمّ قراءة الجمهور، والفتح قراءة الحسن والأعرج، كما فى البحر.
(٣) آية ٧٩ سورة التوبة.
(٤) آية ٢٨٦ سورة البقرة.
(٥) آية ١٢ سورة الكهف.
234
مكان أىّ من الَّذِي أو ألفا ولا ما نصبت بما يقع عليه كما قال اللَّه تبارك:
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «١» وجاز ذلك لأن فِي «الَّذِي» وفي الألف واللام تأويل من وأي إذ كانا فِي معنى انفصال من الفعل.
فإذا وضعت مكانهما اسما لا فعل فِيهِ لم يحتمل هذا المعنى. فلا يجوز أن تقول: قد سَأَلت فعلمت عَبْد اللَّه، إلا أن تريد علمت ما هُوَ. ولو جعلت مع عَبْد اللَّه اسما فِيهِ دلالة على أي جاز ذلك كقولك: إنما سَأَلت لأعلم عَبْد اللَّه من زَيْدُ، أي لاعرف ذا من ذا. وقول الله تبارك وتعالى: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «٢» يكون: لم تعلموا مكانهم، ويكون لم تعلموا ما هُمْ أكفار أم مسلمون. والله أعلم بتأويله.
وقوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا... (١٤١)
يريد: يمحص اللَّه الذنوب عن الذين آمنوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ: ينقصهم ويفنيهم.
وقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) خفض الْحَسَن «ويعلم الصابرين» يريد الجزم. والقراء بعد تنصبه. وهو الَّذِي يسميه النحويون الصرف كقولك: «لم آته وأكرمه إلا استخف بي» والصرف أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثُمَّ أو الفاء أو أو، وفي أوله جحد أو استفهام، ثُمَّ ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يكر فِي العطف، فذلك الصرف. ويجوز فِيهِ الاتباع لأنه نسق فِي اللفظ وينصب إذ كان ممتنعا أن يحدث فيهما ما أحدث
(١) آية ٣ سورة العنكبوت.
(٢) آية ٤٥ سورة الفتح.
235
فِي أوله ألا ترى أنك تقول: لست لابي إن لم اقتلك أو إن لم تسبقني فِي الأرض.
وكذلك يقولون: لا يسعني شيء ويضيق عنك، ولا تكر (لا) فِي يضيق. فهذا تفسير «١» الصرف.
وقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) معناه: رأيتم أسباب الموت. وهذا يوم أحد يعني السيف وأشباهه من السلاح.
وقوله: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ... (١٤٤)
كل استفهام دخل على جزاء «٢» فمعناه أن يكون فِي جوابه خبر يقوم «٣» بنفسه، والجزاء شرط لذلك الخبر، فهو على هذا، وإنما جزمته ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء كقول الشاعر «٤» :
حلفت له إن تدلج الليل لا يزل... أمامك بيت من بيوتى سائر
ف (لا يزل) فِي موضع رفع إلا أنه جزم لمجيئه بعد الجزاء وصار كالجواب. فلو كان «أفإن مات أو قتل تنقلبون» جاز فِيهِ الجزم والرفع. ومثله أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «٥» المعنى: أنهم الخالدون إن مت. وقوله: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً «٦» لو تأخرت فقلت فِي الكلام: (فكيف إن كفرتم تتقون) جاز الرفع والجزم فِي تتقون.
(١) انظر ص ٣٤ من هذا الجزء.
(٢) يريد بالجزاء أداة الشرط.
(٣) كذا فى ج. وفى ش: «تقوم».
(٤) انظر ص ٦٩ من هذا الجزء.
(٥) آية ٣٤ سورة الأنبياء.
(٦) آية ١٧ سورة المزمل.
236
وقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ... (١٤٦)
والربيون الألوف.
تقرأ: قُتِلَ وقاتل. فمن أراد قتل جعل قوله: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ للباقين، ومن قال: قاتل جعل الوهن للمقاتلين. وإنما ذكر هذا لانهم قَالُوا يوم أحد: قتل مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم، ففشلوا، ونافق بعضهم، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وأنزل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ.
ومعنى وكأين: وكم.
وقد قال بعض المفسرين: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ» يريد «١» : و «معه ربيون» والفعل واقع على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، يقول: فلم يرجعوا عن دينهم ولم يهنوا بعد قتله. وهو وجه حسن.
وقوله: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا... (١٤٧)
نصبت القول بكان، وجعلت أن فِي موضع رفع. ومثله فى القرآن كثير.
والوجه أن تجعل (أن) فِي موضع الرفع ولو رفع «٢» القول وأشباهه وجعل النصب فى «أن» كان صوابا.
وقوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ... (١٥٠)
رفع على الخبر، ولو نصبته «٣» :(بل أطيعوا الله مولاكم) كان وجها حسنا.
(١) يريد أن نائب الفاعل لقتل هو ضمير النبىّ. وجملة «معه ربيون كثير» حالية. [.....]
(٢) بل قرأ بذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، كما فى البحر ٣/ ٧٥.
(٣) نسبت هذه القراءة إلى الحسن البصري، كما فى البحر ٣/ ٧٦.
وقوله: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ... (١٥٢)
يقال: إنه مقدم ومؤخر معناه: «حَتَّى إذا تنازعتم فى الأمر فشلتم». فهذه الواو معناها السقوط: كما يقال: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ «١» معناه:
ناديناه. وهو فى «حَتَّى إِذا» و «فلمّا أن» «٢» مقول، لم يأت فِي غير هذين. قَالَ اللَّه تبارك وتعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «٣» ثم قال: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «٤» معناه: اقترب، وقال تبارك وتعالى:
حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «٥» وفي موضع آخر: فُتِحَتْ «٦» وقال الشاعر:
حَتَّى إذا قملت بطونكم... ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا... إن اللئيم العاجز الخب «٧»
الخب «٨» : الغدار، والخب: الغدر. وأما قوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ «٩» وقوله: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ «١٠» فإنه كلام واحد جوابه فيما بعده، كأنه يقول: «فيومئذ يلاقى حسابه». وقد قال بعض من روى عن قَتَادَة من البصريين إِذَا السّماء انشقّت. أذنت لربها وحقّت ولست أشتهى ذلك لأنها فِي مذهب «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» «١١» و «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» «١٢» فجواب هذا بعده «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ» «١٣» و «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» «١٤».
(١) آيتا ١٠٣، ١٠٤ من الصافات.
(٢) فى الطبري «فلما» وهذا أولى لأن الآية السابقة ليس فيها (أن). ولكنه يريد تعيين لما الحينية التي يأتى بعدها أن، احترازا من لما الجازمة أو التي بمعنى إلا.
(٣) آية ٩٦ سورة الأنبياء.
(٤) آية ٩٧ سورة الأنبياء.
(٥) آية ٧٣ سورة الزمر.
(٦) آية ٧١ سورة الزمر.
(٧) انظر فى البيتين ص ١٠٧ من هذا الجزء.
(٨) وقد ورد فى الوصف الكسر.
(٩) آيتا ١، ٢ سورة الانشقاق.
(١٠) آية ٣ من السورة السابقة.
(١١) أول سورة التكوير. ويريد بمذهب سورتى التكوير والانفطار ورود الجملة الثانية بعد (إذا) مقرونة بواو العطف.
(١٢) أول سورة الانفطار. [.....]
(١٣) آية ١٤ سورة التكوير.
(١٤) آية ٥ سورة الانفطار.
238
وقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ... (١٥٣)
الإصعاد فِي ابتداء الأسفار والمخارج. تقول: أصعدنا من مكة ومن بغداد إلى خراسان، وشبيه ذلك. فإذا صعدت على السلم أو الدرجة ونحوهما قلت:
صعدت، ولم تقل أصعدت. وقرأ الحسن البصرىّ: «إذ تصعدون ولا تلوون» جعل الصعود فِي الجبل كالصعود فِي السلم.
وقوله: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ومن العرب من يقول: أخراتكم، ولا يجوز فِي القرآن لزيادة التاء فيها على كتاب المصاحف وقال الشاعر:
ويتقى السيف بأخراته... من دون كف الجار والمعصم «١»
وقوله: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ الإثابة هاهنا [فِي] معنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر «٢» :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه... أداهم سودًا أو محدرجة سمرا
وقد يقول الرجل الَّذِي قد اجترم إليك: لئن أتيتني لأثيبنك ثوابك، معناه: لأعاقبنك، وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية. وقد قال اللَّه تبارك وتعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٣» والبشارة إنما تكون فِي الخير، فقد قيل ذاك فى الشرّ.
(١) ورد فى اللسان (أخر) دون عزو.
(٢) هو الفرزدق. وزياد هو ابن أبيه، كان توعد الفرزدق ثم أظهر الرضا عنه وأنه سيحبوه إن قصده، فلم يركن لذلك الفرزدق. والأداهم جمع أدهم وهو القيد. والمحدرجة: السياط، وهو وصف من حدرجه إذا أحكم فتله. وسوط محدرج: مغار محكم الفتل.
(٣) آية ٢١ سورة آل عمران، ٣٤ سورة التوبة.
239
ومعنى قوله (غمّا بغمّ) ما أصابهم يوم أحد من الهزيمة والقتل، ثُمَّ أشرف عليهم خَالِد بْن الوليد «١» بخيله فخافوه، وغمهم ذلك.
وقوله: وَلا مَا أَصابَكُمْ (ما) فِي موضع خفض على «مَا فاتَكُمْ» أي ولا على ما أصابكم.
وقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ... (١٥٤)
تقرأ بالتاء «٢» فتكون للأمنة وبالياء فيكون للنعاس، مثل قوله يَغْلِي فِي الْبُطُونِ «٣» وتغلي، إذا كانت (تغلي) فهي الشجرة، وإذا كانت (يغلي) فهو للمهل.
وقوله: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ترفع الطائفة بقوله (أهمتهم) بما «٤» رجع من ذكرها، وإن شئت رفعتها «٥» بقوله يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ولو كانت نصبا لكان صوابا مثل قوله فِي الأعراف: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ «٦».
وإذا رَأَيْت «٧» اسما فِي أوله كلام وفي آخره فعل قد وقع على راجع ذكره جاز فِي الاسم الرفع والنصب. فمن ذلك قوله: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ «٨» وقوله:
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ «٩» يكون نصبا ورفعا. فمن نصب جعل الواو
(١) أي وأبو سفيان كما فى القرطبي. وعند الطبري أن ذلك كان من إشراف أبى سفيان وعلوّه الجبل.
(٢) أي تغشى.
(٣) آية ٤٥ سورة الدخان.
(٤) يريد أن «طائفة» مبتدأ خبره جملة «أهمتهم» ورافع المبتدأ عندهم فى مثل هذا ما يعود على المبتدإ من الضمير.
(٥) يريد على هذا الوجه أن تكون جملة «أهمتهم أنفسهم» صفة «طائفة» فأما الخبر فهو جملة: «يظنون».
(٦) آية ٣٠.
(٧) يريد ما يعرف فى النحو بحدّ الاشتغال.
(٨) آية ٤٧ سورة الذاريات.
(٩) آية ٤٨ من السورة السابقة. [.....]
240
كأنها ظرف للفعل متصلة بالفعل، ومن رفع جعل الواو للاسم، ورفعه بعائد ذكره كما قال الشاعر:
إن لم اشف النفوس من حي بكرٍ وعدى تطاه جرب الجمال «١»
فلا تكاد العرب تنصب مثل (عدى) فِي معناه لأن الواو لا يصلح نقلها إلى الفعل ألا ترى أنك لا تقول «٢» : وتطأ عديا جرب الجمال. فإذا رَأَيْت الواو تحسن فِي الاسم جعلت الرفع وجه الكلام. وَإِذَا رَأَيْت الواو يحسن فِي الفعل جعلت النصب وجه الكلام. وإذا رَأَيْت ما قبل الفعل يحسن للفعل والاسم جعلت الرفع والنصب سواء، ولم يغلب واحد على صاحبه مثل قول الشاعر «٣» :
إذا ابن أبى مُوسَى بلالا أتيته فقام بفأس بين وصليك جازر
فالرفع «٤» والنصب فِي هذا سواء.
وأما قول اللَّه عز وجل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «٥» فوجه الكلام فِيهِ الرفع لأن أما تحسن فى الاسم ولا تكون مع الفعل.
(١) قبله:
ثكلتنى عند الثنية أمي وأتاها نعىّ عمىّ وخالى
ويريد بعدىّ المهلهل. والشعر فى الأغانى طبع الدار ٥/ ٥٨.
(٢) وذلك أن هذه جملة حالية، وإذا كان صدرها مضارعا لا تدخل عليها الواو.
(٣) هو ذو الرمة. وهذا من قصيدة فى مدح بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرىّ أمير البصرة وقاضيها. وقبل البيت الشاهد:
أقول لها إذ شمر السير واستوت بها البيد واستنت عليها الحرائر
وهو يخاطب ناقته. وتشمير السير الارتفاع به والسير فيه، والحرائر جمع الحرور وهى ريح السموم، يدعو على ناقته أن تذبح إذا بلغته الممدوح لأنه يغنيه عنها بحبائه. وانظر ديوان ذى الرمة ٢٥٣ والخزانة ١/ ٤٥٠.
(٤) من البين أنه على الرفع يقرأ «بلال». وهو ما فى الديوان. ويقول صاحب الخزانة: «وقد رأيته مرفوعا فى نسختين صحيحتين من إيضاح الشعر لأبى علىّ الفارسىّ إحداهما بخط أبى الفتح عثمان ابن جنىّ».
(٥) آية ١٧ سورة فصلت.
241
وأمّا قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «١» فوجه الكلام فِيهِ الرفع لأنه غير موقت فرفع كما يرفع الجزاء، كقولك: من سرق فاقطعوا يده. وكذلك قوله وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ «٢» معناهُ والله أعلم من (قَالَ الشعر) «٣» اتّبعه الغاوون.
ولو نصبت قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالفعل كان صوابا.
وقوله وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «٤» العرب فِي (كل) تختار الرفع، وقع الفعل على راجع الذكر أو لم يقع. وسمعت العرب تقول وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ بالرفع وقد رجع ذكره. وأنشدوني «٥» فيما لم يقع الفعل على راجع ذكره:
فقالوا تعرفها المنازل من منى وما كل من يغشى منى أَنَا عارف «٦»
ألفنا ديارا لم تكن من ديارنا ومن يتألف بالكرامة يألف
فلم يقع (عارف) على كلّ وذلك أن فِي (كل) تأويل: وما من أحد يغشى مني أَنَا عارف، ولو نصبت لكان صوابا، وما سمعته إلا رفعا. وقال الآخر:
قد عَلِقت أمُّ الْخِيَار تَدَّعِي عليَّ ذَنْبا كله لم أصنع «٧»
رفعا، وأنشدنيه بعض بني أسد نصبا.
(١) آية ٣٨ سورة المائدة.
(٢) آية ٢٢٤ سورة الشعراء.
(٣) كذا فى ج. وفى ش: «قرأ الشعراء» والشعراء محرفة عن الشعر.
(٤) آية ١٣ سورة الإسراء.
(٥) كذا فى ج. وفى ش: «أنشدنى».
(٦) انظر ص ١٣٩ من هذا الجزء.
(٧) انظر ص ١٤٠ من هذا الجزء.
242
وقوله قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فمن رفع جعل (كل) اسما فرفعه باللام فِي لله كقوله «١» وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «٢» ومن نصب (كله) جعله من نعت «٣» الأمر.
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ... (١٥٦)
كان ينبغي فِي العربية أن يقال: وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا فِي الأرض لأنه ماض كما تقول: ضربتك إذ قمت، ولا تقول ضربتك إذا قمت. وذلك جائز، والذي فِي كتاب اللَّه عربي حسن لأن القول وإن كان ماضيا فِي اللفظ فهو فِي معنى الاستقبال لأن (الذين) يذهب «٤» بها إلى معنى الجزاء من من وما. فأنت تقول للرجل: أحبب من أحبك، وأحبب كل رَجُل أحبك، فيكون «٥» الفعل ماضيا وهو يصلح للمستقبل إذ كان أصحابه غير موقّتين، فلو وقّته لم يجز. من ذلك أن تقول:
لاضربن هذا الَّذِي ضربك إذ سلمت عليك، لأنك قد وقته فسقط عَنْهُ مذهب الجزاء. وتقول: لا تضرب إلا الذي ضربك إذ سلمت عليه، فتقول (إذا) لأنك لم توقته. وكذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «٦» فقال
(١) يريد أن رفع «كله» فى الآية على أنه مبتدأ خبره ما بعده يشبه ما فى الآية التالية إذ رفع (وجوههم) على أنه مبتدأ خبره (مسودة). ويصح فى العربية نصب (وجوههم) على أنه بدل من الموصول.
(٢) آية ٦٠ سورة الزمر. [.....]
(٣) يجعله البصريون توكيدا، كما هو معروف.
(٤) يريد أن اسم الموصول إذا كانت صلته عامة أشبه الجزاء إذ كان يشترك فى الموصولية مع من وما: يأتيان موصولين كالذى، ويكونان للجزاء، والماضي فى حيز الجزاء للمستقبل، فإذا جاءت إذ فى حيز الذي كان للاستقبال.
(٥) كذا فى ج. وفى ش: «فيقول».
(٦) آية ٢٥ سورة الحج.
وَيَصُدُّونَ فردها على (كفروا) لأنها غير موقتة، وكذلك قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ «١» المعنى: إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم.
والله أعلم. وكذلك قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً»
معناه: إلا من يتوب ويعمل صالحا. وقال الشاعر:
فإني لاتيكم تشكر ما مضى... من الأمر واستيجاب ما كان فِي غد «٣»
يريد به المستقبل: لذلك قال (كان فِي غد) ولو كان ماضيا لقال: ما كان فِي أمس، ولم يجز ما كان فِي غد. وأمّا قول الكميت:
ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
فمن ذلك إنما أراد: لم يذقها فيما مضى ولن يذوقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق.
وتقول: ما هلك امرؤ عرف قدره، فلو أدخلت فِي هذا (إذا) كانت أجود من (إذ) لأنك لم تخبر بذلك عن واحد فيكون بإذا، وإنما جعلته كالدأب فجرى الماضي والمستقبل. ومن ذلك أن يقول الرجل للرجل: كنت صابرا إذا ضربتك لأن المعنى: كنت كلما ضربت تصبر. فإذا قلت: كنت صابرا إذ ضربت، فإنما أخبرت عن صبره فِي ضربٍ واحد.
وقوله: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ... (١٥٩)
العرب تجعل (ما) صلة فِي المعرفة والنكرة واحدا.
قال الله فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «٤» والمعنى فبنقضهم، وعَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «٥» والمعنى: عن قليل. والله أعلم. وربما جعلوه اسما وهى فى مذهب
(١) آية ٣٤ سورة المائدة.
(٢) آية ٦٠ سورة مريم.
(٣) انظر ص ١٨٠ من هذا الجزء.
(٤) آية ١٥٥ سورة النساء، ١٣ سورة المائدة.
(٥) آية ٤٠ سورة المؤمنين.
244
الصلة فيجوز فيما بعدها الرفع على أنه صلة، والخفض على إتباع الصلة لما قبلها كقول الشاعر:
فَكَفَى بِنا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنا حُبُّ النَّبِيّ محمدٍ إيانا «١»
وترفع (غير) إذا جعلت صلة بإضمار (هُوَ)، وتخفض على الاتباع لمن، وقال الفرزدق:
إني وإياك إن بلغن أرحلنا كمن بواديه بعد المحل ممطور «٢»
فهذا مع النكرات، فإذا كانت الصلة معرفة آثروا الرفع، من ذلك فَبِما نَقْضِهِمْ لم يقرأه أحد برفع ولم نسمعه. ولو قيل جاز. وأنشدونا بيت عدي «٣» :
لم أر مثل الفتيان فى غير ال أيام ينسون ما عواقبها
والمعنى: ينسون عواقبها صلة لما. وهو مما أكرهه لأن قائله يلزمه أن يقول:
«أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ» «٤» فأكرهه لذلك ولا أرده. وقد جاء، وقد وجهه بعض النحويين إلى: ينسون أي شيء «٥» عواقبها، وهو جائز، والوجه الأول أحب إلى.
والقراء لا تقرأ بكل ما يجوز فِي العربية، فلا يقبحن عندك تشنيع مشنع مما لم يقرأه القرّاء مما يجوز.
(١) انظر ص ٢١ من هذا الجزء.
(٢) من قصيدة له يمدح فيها يزيد بن عبد الملك ابن مروان. فقوله «وإياك» خطاب ليزيد. أي إن بلغتك الإبل أرحلنا وأوصلتنا إليك عمنا الخير وفارقنا البؤس كمن مطر واديه بعد المحل. وانظر كتاب سيبويه ١/ ٢٦٩.
(٣) أي عدى بن زيد. وبعد البيت الشاهد:
يرون إخوانهم ومصرعهم وكيف تعتاقهم مخالبها
وغير الأيام صروفها وحوادثها المتغيرة. وانظر الخزانة ٢/ ٢١، وأمالى ابن الشجري ١/ ٧٤.
(٤) آية ٢٨ سورة القصص.
(٥) يريد أن بعض النحويين جعل (ما) فى بيت عدىّ استفهامية لا موصولا، فعواقبها خبر (ما) وليست صلة. وهو غير ما أسلفه. [.....]
245
وقوله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ... (١٦١)
يقرأ بعض أهل المدينة أن يغل يريدون «١» أن يخان. وقرأه أصحاب عَبْد اللَّه كذلك: أن يغل يريدون «٢» أن يسرق أو يخون. وذلك جائز وإن لم يقل: يغلل فيكون مثل «٣» قوله: فَإِنَّهُمْ لا يكذّبونك- ويُكَذِّبُونَكَ «٤» وقرأ ابن عَبَّاس وأبو عَبْد الرَّحْمَن السلمي «أن يغل»، وذلك أنهم ظنوا يوم أحد أن لن تقسم لهم الغنائم كما فعل يوم بدر. ومعناه: أن يتهم ويقال قد غل.
وقوله: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ... (١٦٣)
يقول: هُمْ فِي الفضل مختلفون: بعضهم أرفع من بعض.
وقوله: وَيُزَكِّيهِمْ... (١٦٤)
: يأخذ منهم الزكاة كما قال تبارك وتعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» «٥».
وقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ... (١٦٥)
يقول: تركتم ما أمرتم به وطلبتم الغنيمة، وتركتم مراكزكم، فمن قبلكم جاءكم الشر.
وقوله: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا (١٦٧) يقول: كثروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم بكثرتكم.
(١) فهو مجهول غله أي خانه.
(٢) فيغل على هذا مجهول أغله أي نسبه إلى الغلول وهو الخيانة أو السرقة، فيغل: يسرق أي ينسب إلى السرقة، أو يخوّن أي ينسب إلى الخيانة.
(٣) يريد أن أغل وغلل فى تواردهما على معنى النسبة إلى الغلول مثل كذب وأكذب فى التوارد على معنى النسبة إلى الكذب كما جاءت القراءتان بهما فى الآية.
(٤) آية ٣٢ سورة الأنعام.
(٥) آية ١٠٣ سورة التوبة.
وقوله: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) وقوله: فَرِحِينَ... (١٧٠)
[لو كانت رفعا على «بل أحياء فرحون» لجاز. ونصبها على الانقطاع من الهاء فِي «ربهم». وإن شئت يرزقون فرحين] «١» «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» من أخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة للذي رأوا من ثواب اللَّه فهم يستبشرون بهم.
وقوله: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم «ولا حزن» «٢».
وقوله: وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) تقرأ بالفتح والكسر. من فتحها جعلها خفضا متبعة للنعمة. ومن كسرها استأنف. وهي قراءة عَبْد اللَّه «والله لا يضيع» فهذه حجة لمن كسر.
وقوله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ... (١٧٣)
و (الناس) فِي هذا الموضع واحد، وهو نعيم بْن مَسْعُود الأشجعي. بعثه أَبُو سُفْيَان وأصحابه فقالوا: شبّط محمدا- صلى اللَّه عليه وسلم- أو خوفه حَتَّى لا يلقانا ببدر الصغرى، وكانت ميعادا بينهم «٣» يوم أحد. فأتاهم نعيم فقال: قد أتوكم فِي بلدتكم فصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا وردتم عليهم فِي بلدتهم وهم أكثر وأنتم أقل؟
فأنزل اللَّه تبارك وتعالى:
(١) سقط فى ش.
(٢) كذا فى ش. وفى ج: «ولا يحزنون».
(٣) كذا فى ج، وفى ش: «يومهم».
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ... (١٧٥)
يقول: يخوّفكم بأوليائه «فلا تخافوهم» ومثل ذلك قوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «١» معناه: لينذركم يوم التلاق. وقوله: «لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً» «٢» المعنى: لينذركم بأسا شديدا البأس لا ينذر، وإنما ينذر به.
وقوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ... (١٧٨)
ومن قرأ «ولا تحسبن» قال «إنما» وقد قرأها بعضهم «ولا تحسبن الذين كفرا أنما» بالتاء والفتح على التكرير: لا تحسبنهم لا تحسبن أنما نملي لهم، وهو كقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ «٣» على التكرير: هَلْ ينظرون إلا أن تأتيهم.
وقوله: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ... (١٧٩)
قال المشركون للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: مالك تزعم أن الرجل منا فِي النار، فإذا صبأ إليك وأسلم قلت: هُوَ فِي الجنة، فأعلمنا من ذا يأتيك منا قبل أن يأتيك حَتَّى نعرفهم، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا تقولون أيها المشركون «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» ثُمَّ قال: لم يكن اللَّه ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه.
وقوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ... (١٨٠)
[يقال «٤» : إنما «هُوَ» هاهنا عماد، فأين اسم هذا العماد؟ قيل: هُوَ مضمر، معناه: فلا يحسبن الباخلون البخل هُوَ خيرا لهم] فاكتفى بذكر يبخلون من البخل
(١) آية ١٥ سورة غافر.
(٢) آية ٢ سورة الكهف.
(٣) آية ١٨ سورة محمد.
(٤) سقط فى ش.
كما تقول فِي الكلام: قدم فلان فسررت به، وأنت تريد: سررت بقدومه، وقال الشاعر:
إذا نهى السفيه جرى إليه... وخالف، والسفيه إلى خلاف «١»
يريد: إلى السفه. وهو كثير فِي الكلام.
وقوله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ. يقال: هِيَ الزكاة، يأتي الَّذِي منعها يوم القيامة قد طوق شجاعا أقرع بفيه زبيبتان «٢» يلدع خديه، يقول: أَنَا الزكاة التي منعتني.
وقوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. المعنى: يميت اللَّه أهل السَّمَوَاتِ وأهل الأرض ويبقى وحده، فذلك ميراثه تبارك وتعالى: أنه يبقى ويفنى كل شيء.
وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا... (١٨١)
وقرىء «سيكتب ما قَالُوا» قرأها حمزة اعتبارا لأنها فِي مصحف عَبْد اللَّه.
وقوله: حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ... (١٨٣)
كان هذا. والقربان نار لها حفيف وصوت شديد كانت تنزل على بعض الأنبياء.
فلما قَالُوا ذلك للنبي صلى اللَّه عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى «قُلْ» يا محمد «قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ» وبالقربان الَّذِي قلتم «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
(١) انظر ص ١٠٤ من هذا الجزء.
(٢) هما النكتتان السوداوان فوق عين الحية وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. والشجاع: الحية الذكر أو الذي يقوم على ذنبه ويواثب الراجل والفارس.
والأقرع: هو الذي تمرّط جلد رأسه لطول عمره وكثرة سمه. [.....]
وقوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا... (١٨٨)
يقول: بما فعلوا كما قال: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا «١» وكقوله: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» «٢» وفي قراءة عَبْد اللَّه «فمن «٣» أتى فاحشة فعله». وقوله: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا قَالُوا: نَحْنُ أهل العلم الأول والصلاة الأولى، فيقولون ذلك ولا يقرون بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم، فذلك قوله: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا.
وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ. يقول: ببعيد من العذاب.
(قال «٤» قال الفراء: من زعم أن أو في هذه الآية على غير معنى بل فقد افترى على اللَّه لأن اللَّه تبارك وتعالى لا يشك، ومنه قول اللَّه تبارك وتعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.)
وقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ يقول القائل:
كيف عطف بعلي على الاسماء؟ فيقال: إنها فِي معنى الاسماء ألا ترى أن قوله:
وَعَلى جُنُوبِهِمْ: ونياما، وكذلك عطف الاسماء على مثلها فِي موضع آخر، فقال: «دعانا لجنبه»، يقول: مضطجعا «أو قاعدا أو قائما» فلجنبه، وعلى جنبه سواء.
وقوله: يُنادِي لِلْإِيمانِ. كما قال: «الَّذِي هَدانا لِهذا» «٥» و «أَوْحى لَها» «٦» يريد إليها، وهدانا إلى هذا.
(١) آية ٢٧ سورة مريم.
(٢) آية ١٦ سورة النساء.
(٣) كذا فى الأصول.
ولم يتبين لنا موطن هذه القراءة.
(٤) ثبت ما بين القوسين فى الأصول. ولأوجه له هنا.
(٥) آية ٤٣ سورة الأعراف.
(٦) آية ٥ سورة الزلزلة.
وقوله: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) كانت اليهود تضرب فِي الأرض فتصيب الأموال، فقال الله عزّ وجلّ:
لا يغرّنك ذلك.
وقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ... (١٩٧)
فِي الدنيا.
وقوله: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ... (١٩٨)
و (ثوابا) «١» خارجان من المعنى: لهم ذلك نزلا وثوابا، مفسرا كما تقول: هُوَ لك هبةً وبيعا وصدقة.
وقوله: خاشِعِينَ لِلَّهِ... (١٩٩)
معناه: يؤمنون به خاشعين «٢».
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا... (٢٠٠)
مع نبيكم على الجهاد (وصابروا) عدوّكم فلا يكوننّ أصبر منكم.
(١) أي فى قوله تعالى «ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» فى الآية ١٩٥ من هذه السورة.
(٢) أي إنه حال من فاعل «يؤمن».
Icon