تفسير سورة آل عمران

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

من ذلك؟ قالوا: لا، قال: "ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئًا من ذلك إلا ما عُلِّم"؛ قالوا: لا، قال: "ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث، وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث"؟ قالوا: بلى، فقال رسول الله: "فكيف يكون هذا كما زعمتم" فعرفوا الحق وسكتوا، ثم أبوا إلا الجحود، فأنزل الله تعالى من أول السورة ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...﴾ إلى نيف وثمانين آية.
ووجه الرد عليهم فيها: أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث من أول الأمر، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيًّا قيومًا؛ أي: قامت به السموات والأرض، وهي وجدت قبل عيسى، فكيف تقوم به قبل وجوده؟ ثم ذكر أنه تعالى نزَّل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده، كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتاب على الأنبياء، وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر؛ ليفرقوا بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبًا للعقول، ثم قال: أنه لا يخفى عليه شيء مطلقًا سواء أكان في هذا العالم أم في غيره من العوالم السماوية، وعيسى لم يكن كذلك، ثم بيَّن أن الإله هو الذي يصوِّر في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب؛ إذ الولادة من غير أب ليست دليلًا على الألوهية، فالمخلوق عبدٌ كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدًا في رحم أمه، ثم صرَّح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الم (١)﴾ الله أعلم بمراده به، قال القرطبي في "تفسيره": اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سرٌّ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا نحب أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها وتُمرُّ
كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
قال: وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر، وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله به عزّ وجل.
وذكر سيبويه في "الكتاب" (١): أن فواتح السور التي لم تكن موازنة لمفرد، طريق التلفظ بها: الحكاية فقط، ساكنة الإعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما علم أن مغتفر في باب الوقف فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها، ثم يبدأ بما بعدها كما فعله الحسن والأعمش وغيرهما.
وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط التعديد.. فلا محل لها من الإعراب، وإن جعلت أسماء للسور.. فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر أو اقرأ أو نحوهما، وما بعدها كلام مستأنف. والله أعلم.
٢ - ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود المستحق منكم العبادة أيها العباد هو: الإله الذي ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق في الوجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ ولا ربَّ سواه. ﴿الْحَيُّ﴾؛ أي: المتصف بالحياة الدائمة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء ﴿الْقَيُّومُ﴾؛ أي: القائم بنفسه، المستغني عن غيره، أو القائم بتدبير خلقه ومصالحهم فيما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم. وقرأ جماعة (٢) من الصحابة كعمر وأُبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهم شذوذًا: ﴿القيام﴾، وقال خارجة (٣) رحمه الله تعالى في مصحف عبد الله رضي الله عنه: ﴿القيم﴾ وروي هذا أيضًا عن علقمة وهو شاذ.
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
وقال الرازي رحمه الله تعالى (١): مطلع هذه السورة عجيب؛ لأنهم لما نازعوا كأنه قيل: إما أن تنازعوا في معرفة الله، أو في النبوة، فإن كان في الأول: فهو باطل؛ لأن الأدلة العقلية دلت على أنه حيٌّ قيوم، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد، وإن كان في الثاني: فهو باطل؛ لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هو بعينه قائم هنا، وذلك هو المعجزة. انتهى.
٣ - هو سبحانه وتعالى ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: القرآن بالتدريج بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة، وإنما فسرنا كذلك؛ لأن فعَّل المضعف يدل على التكرير، وأتى (٢) هنا بذكر المنزل عليه وهو قوله: ﴿عَلَيْكَ﴾ ولم يأتِ بذكر المنزل عليه في التوراة، ولا في الإنجيل تخصيصًا له وتشريفًا بالذكر، وجاء بذكر الخطاب؛ لما في الخطاب من المؤانسة، وأتى بلفظة ﴿على﴾ لما فيها من الاستعلاء كأن الكتاب تجلله وتغشاه - ﷺ -.
فإن قلت (٣): إن القرآن وقت نزول هذه الآية لم يتكامل نزوله؟
قلت: إما أن يراد بالكتاب ما نزل منه إذ ذلك، أو يقال: الفعل مستعمل في الماضي والمستقبل.
وقرأ الجمهور: ﴿نَزَّلَ﴾ مشددًا ﴿الْكِتَابَ﴾ بالنصب. وقرأ النخعي والأعمش وابن أبي عبلة رحمهم الله تعالى شذوذًا: ﴿نزلَ﴾ مخففًا و ﴿الكتابُ﴾ بالرفع، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين:
أحدهما: أن تكون منقطعة.
والثاني: أن تكون متصلة بما قبلها؛ أي: نزل الكتاب عليك من عنده.
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الجمل.
حالة كون ذلك الكتاب ملتبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالعدل فيما خصك به من شرف النبوة، وقيل: بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره عن القرون الماضية، وفي وعده ووعيده، وقيل. معنى بالحق: بالبراهين القاطعة والحجج المحققة أنها من عند الله تعالى، أو بالقول الفصل وليس بالهزل ولا بالمعاني الفاسدة المتناقضة.
وحالة كون ذلك الكتاب ﴿مُصَدِّقًا﴾ وموافقًا ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي؛ لما تقدمه من الكتب السالفة في الدعوة إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الله تعالى عما لا يليق بشأنه، وفي الأمر بالعدل والإحسان، وفي أنباء الأنبياء والأمم الخالية، وفي الشرائع التي لا تختلف فيها الأمم، وأما (١) في الشرائع المختلفة فيها فمن حيث أن أحكام كل واردة على حسب ما تقتضيه الحكمة التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفة بها مشتملة على المصالح اللائقة بشأنهم.
وفائدة (٢) تقييد التنزيل بهذه الحال - أعني: ﴿مُصَدِّقًا﴾ - حث أهل الكتاب على الإيمان بالمنزل، وتنبيههم على وجوبه، فإن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه حتمًا.
﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ﴾ جملة على موسى بن عمران ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾ جملة على عيسى بن
٤ - مريم عليهما السلام ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل تنزيل القرآن ﴿هُدًى﴾؛ أي: حال كونهما هاديين من الضلالة ﴿لِلنَّاسِ﴾ في زمانهما يعني بني إسرائيل فهو حال من التوراة والإنجيل، ولم يثنَّ؛ لأنه مصدر، ويصح كونه مفعولًا له، والعامل فيه ﴿أنزل﴾؛ أي: أنزل هذين الكتابين لأجل هداية الناس بهما.
وعبر فيهما بـ ﴿أنزل﴾، وفي القرآن بـ ﴿نَزَّلَ﴾ المقتضي للتكرير؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلاف القرآن، قاله السيوطي رحمه الله تعالى. وقيل هذا التعليل منتقض بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، وبقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
(١) أبو السعود.
(٢) الكرخي.
173
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} وبقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾، وحينئذٍ فالأَولى أن يقال: اختلاف التعبير في الموضعين للتفنن.
﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾؛ أي: وأنزل جميع الكتب الفارقة بين الحق والباطل، وذكره بعد ذكر الكتب الثلاثة أولًا ليعم ما عداها من بقية الكتب المنزلة، فكأنه قال: وأنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل، فيكون من عطف العام على الخاص؛ حيث ذكر أولًا الكتب الثلاثة، ثم عمم الكتب كلها؛ ليختص المذكور أولًا بمزيد شرف، قاله الكرخي رحمه الله تعالى.
وقال ابن عطية رحمه الله تعالى (١): المراد بالفرقان القرآن، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقًا بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيمًا لشأنه، وإظهارًا لفضله.
وقيل الفرقان: كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث، فدخل في هذا التأويل طوفان نوح عليه الصلاة والسلام، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل، وقيل الفرقان: النصر.
وقال الفخر الرازي رحمه الله تعالى (٢): المختار أن المراد بالفرقان: هو المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الثلاثة؛ لأنه لما أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق دعوى الرسل حصلت المفارقة بين دعوى الصادق ودعوى الكاذب، فالفرقان هي المعجزة، وقال ابن جرير: أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزاب وأهل الملل، وقيل غير ذلك.
وقال المراغي رحمه الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾؛ أي: وأنزل العقل الذي يفرق به بين الحق والباطل في العقائد، وغيرها، وقال السدي (٣) رحمه الله
(١) ابن عطية.
(٢) الفخر الرازي.
(٣) الخازن.
174
تعالى: في الآية تقديم وتأخير تقديره: وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا وأنكروا وكذبوا ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل المبشرة بنزول القرآن ومبعث رسول الله - ﷺ -، فكذبوا بالقرآن أولًا، ثم بسائر الكتب تبعًا لذلك وردوها بالباطل كوفد نصارى نجران وغيرهم ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾؛ أي: عظيم أليم بسبب كفرهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالخلود في النار.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه تعالى لما قرر أمر الألوهية وأمر النبوة بذكر الكتب المنزلة.. توعَّد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة وغيرها بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا؛ كالقتل والأسر والغلبة وعذاب الآخرة؛ كالنار. والذين كفروا عامٌّ داخل فيه من نزلت الآية بسببهم، وهم وفد نصارى نجران، وغيرهم.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: منيع الجناب عظيم السلطان غالب لا يغلب ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾؛ أي: ذو عقوبة شديدة لمن كفر بآياته، والانتقام: المبالغة في العقوبة فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلًا للعقاب.
والمعنى (٢): أن الله بقدرته ينفذ سنته، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض.
٥ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَخْفَى﴾ ولا يستتر ﴿عَلَيْهِ﴾ ولا يغيب ولا يعزب عن علمه ﴿شَيْءٌ﴾ من الموجودات ولا أمر من أمور العالم كليًّا كان أو جزئيًّا إيمانًا كان أو كفرًا ﴿في﴾ جميع نواحي ﴿الْأَرْضِ وَلَا﴾ كائن ﴿في﴾ جميع أرجاء ﴿السَّمَاءِ﴾ فهو مطلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، ففيه إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم، فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه ولا حال الكافر ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وفي التعبير بعدم خفاء شيء عليه إشارة إلى أن علمه لا يوازن علم المخلوقين، بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.
وعبر (١) عن الكون بالأرض والسماء؛ إذ الحس لا يتجاوزهما وإنما قدم الأرض ترقيًّا من الأدنى إلى الأعلى؛ ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها، فهو كالدليل على كونه حيًّا.
٦ - و ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ﴾؛ أي: يخلقكم في أرحام أمهاتكم ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ويجعلكم على صور مختلفة متغايرة، وأنتم في الأرحام من النطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح، ومن طول وقصر، ومن سعادة وشقاوة، ومن بياض وسواد، وكمال ونقصان. والمعنى: هو الذي يصوركم في ظلمات الأرحام صورًا مختلفة في الشكل والطبع، وذلك من نطفة، وكل هذا على أتم ما يكون دِقَّة ونظامًا. ومستحيل أن يكون هذا من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق، وهذه الجملة كالدليل على القيومية. وقرىء شذوذًا (٢): "تصوَّركم"، أي: صوَّركم لنفسِه وعبادته، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - ﷺ - وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون
(١) البيضاوي.
(٢) البيضاوي.
176
بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها". متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "وكل الله بالرحم ملكًا، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فكتب له ذلك في بطن أمه". متفق عليه.
وقيل (١): إن هذه الآية واردة في الرد على النصارى، وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى بأمرين: بالعلم، والقدرة. فإن عيسى كان يخبر عن الغيوب، فيقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، ووضعت في دارك كذا، وكان يحيي الموتى، ويبرِىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا، ثم إنه تعالى استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى، وفي التثليث بقوله تعالى: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فالإله يجب أن يكون حيًّا قيومًا، وعيسى لم يكن كذلك، فيلزم القطع بأنه لم يكن إلهًا، ولما قالوا إن عيسى أخبر عن الغيوب.. فوجب أن يكون إلهًا ردَّ عليهم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)﴾ والمعنى: لا يلزم من كونه عالمًا ببعض المغيبات أن يكون إلهًا؛ لاحتمال أنه علم ذلك بتعليم الله تعالى ذلك، ولما قالوا: إن عيسى كان يحيي الموتى فوجب أن يكون إلهًا ردَّ الله عليهم بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ والمعنى: إن حصول الإحياء على وفق قول عيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهًا لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارًا لمعجزته وإكرامًا له.
ولما قالوا: أنتم أيها المسلمون توافقونا على أن عيسى لم يكن له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنًا لله.. أجاب الله تعالى عن ذلك أيضًا بقوله: {هُوَ
(١) المراح.
177
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} فإن هذا التصوير إذا كان من الله تعالى إن شاء صوَّره من نطفة الأب، وإن شاء صوَّره ابتداء من غير أب، ولما قالوا للرسول - ﷺ -: ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته فهذا يدل على أنه ابن الله؟ أجاب الله عن ذلك: بأن هذا اللفظ من باب المتشابهات، فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ فظهر بذلك المذكور أن قوله تعالى: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ إشارة إلى أن عيسى ليس بالإله، ولا بابن الإله، وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ﴾.. فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ﴾ جواب عن تمسكهم بقدرة عيسى على الإحياء ونحوه؛ لأنه لو قدر على الإحياء لقدر على الإماتة، ولو قدر على الإماتة لأمات اليهود الذين قتلوه على زعم النصارى، فثبت أن حصول الإحياء في بعض الصور لا يدل على كونه إلهًا، وهو جواب أيضًا عن تمسكهم بأن من لم يكن له أب من البشر.. وجب أن يكون ابنًا لله، فكأنه تعالى يقول: كيف يكون عيسى ولدًا لله وقد صوَّرهُ في الرحم والمصور لا يكون أبًا للمصور؟.
وأما قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ...﴾ إلى آخر الآيات.. فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن: أن عيسى روح الله وكلمته، ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم.. أعاد كلمة التوحيد زجرًا لسائر النصارى عن قولهم بالتثليث فقال:
﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود موجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ ولا رب سواه منفرد بالألوهية والربوبية ﴿الْعَزِيزُ﴾ في ملكه ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه، فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه، وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة ومن ثَمَّ خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهذا
178
إثبات لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء في بعض الصور لا يكفي في كونه إلهًا فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم.
٧ - ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿أَنْزَلَ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: القرآن العظيم منقسمًا إلى قسمين: قسم ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾؛ أي: واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، أو محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال قطعية الدلالة على المعنى المراد ﴿هُنَّ﴾؛ أي: تلك المحكمات ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾، أي: أصل القرآن الذي يرجع إليه عند الاشتباه، وعمدته التي ترد إليها الآيات المتشابهات، كقوله تعالى في شأن عيسى ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)﴾ وكقوله فيه: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)﴾ وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْق من مخلوقات الله وعبد من عباده ورسول من رسل الله ﴿و﴾ قسم منه آيات ﴿أخر﴾ جمع أخرى ﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾؛ أي: محتملات لمعانٍ متشابهة لا يتضح مقصودها؛ لإجمال أو مخالفة ظاهرة إلا بنظر دقيق وتأمل أنيق.
أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد؛ كقوله تعالى في شأن عيسى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾؛ أي: ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة وخروج عنه إلى الباطل ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾؛ أي: فيتعلقون ويأخذون بالمتشابه من الكتاب الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم. عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: تلا رسول الله - ﷺ -: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ إلى ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾؛ أي: طلب الإضلال لأتباعهم إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو
179
حجة عليهم لا لهم، أو طلب الفتنة في الدين وهي الضلال عنه فإنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفًا لبعض، وذلك يفضي إلى الهرج والتقاتل ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: وطلب تأويل المتشابه على ما ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان وطلب تحريفه على ما يريدون.
وذلك كاحتجاج النصارى على عقيدتهم الفاسدة بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ وبقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه عبد من عباد الله ورسول من رسله.
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾؛ أي: والحال أنه ما يعلم تأويل المتشابه وتفسيره حقيقة ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ وحده، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: تفسير القرآن على أربعة أنحاء: تفسير لا يسع لأحد جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. انتهى.
وقال المراغي قوله (١): ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ معناه: فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءَهم الباطلة، فينكرون المتشابه وينفِّرون الناس منه، ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم، ولا يناله حسهم؛ كالإحياء بعد الموت، وجميع شؤون العالم الأخروي، ويأخذونه على ظاهره بدون نظرٍ إلى الأصل المحكم؛ ليفتنوا الناس بدعوته إلى أهوائهم.. فيقولون: إن الله روح، والمسيح روح مثله، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله: أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بُني عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها، ويصرفونها إلى معانٍ من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس
(١) المراغي.
180
عن دينهم، والقرآن مليء بالرد عليهم من نحو قوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾. انتهى.
﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾؛ أي: والذين رسخوا وثبتوا في العلم وتمكنوا فيه وعضوا فيه بضرس قاطع، وهذا كلام مستأنف عند الجمهور، والوقف عندهم على قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وهو مبتدأ عندهم، والخبر قوله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾؛ أي: بالمتشابه أنه من عند الله، ولا نعلم معناه، وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره ﴿كُلٌّ﴾ من المحكم والمتشابه ﴿مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾؛ أي: من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه.
والراسخ في العلم (١): هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل القطعية اليقينية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، وعرف أنه تعالى لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا رأى شيئًا متشابهًا، ودل الدليل القطعي على أن الظاهر ليس مرادًا لله تعالى.. علم حينئذٍ قطعًا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره، ثم فوض تعيين ذلك المراد إلى علمه تعالى، وقطع بأن ذلك المعنى على أيِّ شيءٍ كان فهو الحق والصواب؛ لأنه علم أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى.
وقيل الراسخ في العلم (٢): من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى فيما بينه وبين الله تعالى، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النفس. ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: وما يتعظ بما في القرآن وما يتيقظ له ويتدبر له إلا أصحاب العقول الكاملة المستنيرة الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائغة، وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر.
٨ - ولما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات
(١) المراح.
(٢) الخازن.
والمتشابهات.. تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم: ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿لَا تُزِغْ﴾ ولا تمل ﴿قُلُوبَنَا﴾ عن الحق والهدى، كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ؛ أي: لا تمل قلوبنا عن دينك. قراءة الجمهور: بضم التاء ونصب القلوب، وقرىء شذوذًا بفتح التاء ورفع القلوب على نسبة الفعل إليها ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾؛ أي: وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك، أو يقال: يا ربنا لا تجعل قلوبنا مائلة إلى الباطل بعد أن تجعلها مائلة إلى الحق ﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾؛ أي: أعطنا من فضلك وكرمك رحمة تثبتنا بها على دينك الحق والإيمان بكتابك، أو المعنى: أعطنا من عندك نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب ونور الطاعة والعبودية والخدمة في الأعضاء، وسهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفافة في الدنيا، وسهولة سكرات الموت عند الموت، وسهولة السؤال والظلمة في القبر، وغفران السيئات وترجيح الحسنات في القيامة. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ يا ربنا ﴿الْوَهَّابُ﴾ الهبة العظيم الخالية عن الأعواض والأغراض، فإن هذا الذي طلبنا منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلينا، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك. والوهاب في أسماء الله: هو الذي يعطي كل أحد على قدر استحقاقه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله - ﷺ -: " اللهم مصرِّف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" أخرجه مسلم.
وهذا الحديث من أحاديث الصفات، يجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تعرض لتأويل ولا تكييف ولا لمعرفة معناه، بل نؤمن به كما جاء وأنه حق، ونكل علمه إلى مراد الله ورسوله - ﷺ -، وهذا القول هو مذهب أهل السنة من سلف الأمة وخلفها من أهل الحديث وغيرهم وهو الأعلم الأسلم الذي نعض
٩ - عليه بالنواجذ ويقولون أيضًا: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ﴾؛ أي؛ يا ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك في وقوعه فجازنا فيه أحسن الجزاء. {إِنَّ اللَّه
182
سبحانه وتعالى ﴿لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾؛ أي: لا يترك وفاء ما وعده لعباده، وهذا من بقية كلام الراسخين في العلم؛ وذلك لأنهم لما طلبوا من ربهم أن يصونهم عن الزيغ، وأن يخصهم بالهداية وأنواع الرحمة.. فكأنهم قالوا: ليس غرضنا من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقرضة، وإنما غرضنا الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة، فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك بالجزاء والحساب والميزان والصراط والجنة والنار لا يكون خلفًا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته الهداية والرحمة بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.
تنبيهات
الأول منها: اختلفت عبارة العلماء في تفسير (١) المحكم والمتشابه على أقوال فقيل: إن المحكم ما عرف تأويله، وفهم معناه وتفسيره. والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا القول: جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري قالوا: وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقيل: المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما يحتمل وجوهًا. فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي.. صار المتشابه محكمًا، وقيل: إن المحكم: ناسخة وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه، والمتشابه: منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به. ورُوي هذا القول عن ابن عباس، وقيل: المحكم: الناسخ. والمتشابه: المنسوخ وبه قال: ابن مسعود وقتادة والربيع والضحاك. وقيل: المحكم: الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له. والمتشابه: ما فيه تصريف وتحريف وتأويل، وبه قال: مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال. وقيل: إن المحكم ما أطلع الله عباده على معناه. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة؛ مثل الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول
(١) الشوكاني.
183
عيسى وطلوع الشمس من مغربها وفناء الدنيا وقيام الساعة، فجميع هذا ما استأثر الله بعلمه.
وبهذا القول اختار القرطبي والطبري، وقيل: إن المحكم: سائر القرآن. والمتشابه: هي الحروف المقطعة في أوائل السور إلى غير ذلك.
والثاني منها: ما قيل (١): إن الله سبحانه وتعالى قد جعل القرآن هنا محكمًا ومتشابهًا، وجعله في موضع آخر كله محكمًا، كقوله في أول سورة هود: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾، وجعله في موضع آخر كله متشابهًا، كقوله في سورة الزمر: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت: حيث جعله كله محكمًا أراد به أنه كله حق وصدق، ليس فيه عبث ولا هزل. وحيث جعله متشابهًا أراد أن بعضه يشبه بعضًا في الحسن والحق والصدق. وحيث جعله هنا بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا فقد اختلفت عبارات العلماء في تفسيرهما آنفًا.
والثالث منها (٢): سؤال يخطر بالبال، وهو: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله، والراسخون في العلم، ولم يكن كله محكمًا يتساوى في فهمه جميع الناس، لأنه نزل لإرشاد العباد هاديًا لهم، والمتشابه يحول دون الهداية؛ لوقوع اللبس في فهمه وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل؟
أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة:
منها: أن في إنزال المتشابه امتحانًا لقلوبنا، في التصديق به؛ إذ لو كان ما جاء في الكتاب معقولًا لا شبهة فيه لأحد.. لما كان في الإيمان به شيء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله.
ومنها: أن في وجود المتشابه في القرآن حافزًا لعقول المؤمنين إلى النظر
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
184
فيه؛ كيلا تضعف وتموت، إذ السهل الجلي لا عمل للعقل فيه، وإذا لم يجد العقل مجالًا للبحث.. مات. والدين أعز شيء على الإنسان فإذا ضعف عقله في فهمه.. ضعف في كل شيء، ومن ثم قال: والراسخون في العلم، ولم يقل: والراسخون في الدين؛ لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته أن جعل في الدين مجالًا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه؛ إذ بحثه يستلزم النظر في الأدلة الكونية والبراهين العقلية ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدي إلى تأويله.
ومنها: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة، وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيقتها، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله والوقوف عند فهم المحكم؛ ليكون لكل نصيبه على قدر استعداده فإطلاق كلمة الله، وروح الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة، ومن ثم فُتن النصارى بمثل هذا التعبير؛ إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾.
ومنها: أن القرآن نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم وكلامهم على ضربين:
الأول: الموجز الذي لا يخفى على سامع وهذا هو الضرب الأول.
والثاني: المجاز والكنايات والإشارات والتلويحات، وهذا الضرب هو المستحسن عندهم، فأنزل القرآن على الضربين ليتحقق عجزهم، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم. ولو نزل كله محكمًا لقالوا؛ هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا.
والرابع منها: اختلف في الوقف في قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ فذهب الجمهور إلى أن الوقف على ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ الواو في قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ للاستئناف، وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير وغيرهم، ويؤيد هذا القول قراءة أبي وابن عباس فيما رواه طاووس عنه شذوذًا: {إلا الله
185
ويقول الراسخون في العلم آمنا به}، وقراءة عبد الله: (ابتغاء تأويله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون) وهي شاذة ومعناه: إن الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه وحينئذٍ فحال الراسخين التصديق به.
وجرى قوم على أن ﴿الراسخون﴾ معطوف على ﴿اللَّهُ﴾، ويقولون حال من الراسخون، فالوقف حينئذٍ على أولو الألباب؛ لتعلق ما قبل ذلك بعضه ببعض، وروي هذا القول: عن ابن عباس أيضًا ومجاهد والربيع بن أنس وغيرهم، والمعنى: إن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم، فالمراد ما للفكر والنظر فيه مجال.
قال البغوي: والقول الأول أقيس بالعربية وأشبه بظاهر الآية، وقال الفخر الرازي: في الثاني لو كان الراسخون في العلم عالمين بتأويله.. لما كان لتخصيصهم بالإيمان وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلائل.. صار الإيمان كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به بخصوصه مزيد مدح.
الإعراب
﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)﴾.
اعلم أن فواتح السور إن جعلت مسرودة على نمط التعديد.. فلا محل لها من الإعراب، وإن جعلت أسماء للسور.. فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام؛ كأذكر أو أقرأ أو نحوهما؛ كعليك والزم كما سبق ذلك كله في مبتدأ تفسير هذه السورة، وقد تقدم الكلام في إعرابه أيضًا في أول البقرة فراجعه. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف جوازًا تقديره: موجود. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع بدل من الضمير المستتر في خبر ﴿لَا﴾ بدل الشيء من الشيء، وجملة ﴿لَا﴾ من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾: خبران آخران
186
للاسم الشريف، أو خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الحي القيوم. وقيل: إنهما صفتان للفظ الجلالة، أو بدلان منه أو من الخبر.
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)﴾.
﴿نَزَّلَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الجلالة ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية إما مستأنفة، أو خبر آخر للفظ الجلالة ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الكتاب تقديره: ملتبسًا بالحق ﴿مُصَدِّقًا﴾: حال ثانية من ﴿الْكِتَابَ﴾ مؤكدة؛ لأنه لا يكون إلا مصدقًا، وبهذا قال الجمهور، وجوز بعضهم كونه منتقلة على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره. قال أبو البقاء: وإن شئت جعلته بدلًا من موضع قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾، وإن شئت جعلته حالًا من الضمير في المجرور. انتهى. ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ اللام حرف جر ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل الجر باللام متعلق بـ ﴿مُصَدِّقًا﴾ ﴿بَيْنَ﴾: منصوب على الظرفية الاعتبارية، وهو مضاف. ﴿يدي﴾: مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنه ملحق بالمثنى نظير: لبيك، وهو مضاف، والهاء: مضاف إليه، والظرف إما صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾: الواو عاطفة. ﴿أنزل﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿نزل﴾، ﴿التَّوْرَاةَ﴾: مفعول به ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾: معطوف عليه.
﴿مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنزل﴾. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ ﴿هُدًى﴾: حال من ﴿التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾، ولم يثنَّ؛ لأنه مصدر كما مر، ولكنه في تأويل المشتق تقديره: حالة كونهما هاديين. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بهدى، أو صفة له. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالًا من ﴿الإنجيل﴾، ودل على حال للتوراة محذوف؛ كما يدل أحد الخبرين على الآخر. ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾؛ الواو عاطفة ﴿أنزل﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿الْفُرْقَانَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿نزل﴾ كالجملة التي قبلها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾.
187
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿شَدِيدٌ﴾: صفة له، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة إن مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾: الواو استئنافية ﴿الله﴾: مبتدأ، ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر أول ﴿ذُو﴾: خبر ثانٍ مرفوع بالواو، وهو مضاف، ﴿انْتِقَامٍ﴾ مضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَخْفَى﴾: فعل مضارع ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿شَيْءٌ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿شَيْءٌ﴾، أو متعلق بـ ﴿يَخْفَى﴾ ﴿وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾: الواو عاطفة ﴿لَا﴾: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله ﴿فِي الْأَرْضِ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾.
﴿هُوَ﴾ مبتدأ ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة ﴿يُصَوِّرُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير لعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿فِي الْأَرْحَامِ﴾: متعلق بـ ﴿يُصَوِّرُكُمْ﴾، أو حال من ضمير المخاطبين؛ أي: يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ، قاله العُكبَري. ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾: ﴿كَيْفَ﴾: اسم (١) شرط غير جازم لعد دخول: ﴿ما﴾ عليه في محل النصب على الحالية بـ ﴿يَشَاءُ﴾ ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعول ﴿يَشَاءُ﴾: محذوف معلوم مما قبله تقديره: كيف يشاء تصويركم، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ فعل شرط ﴿كَيْفَ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط
(١) الجمل.
188
معلوم مما قبله تقديره: كيف يشاء تصويركم يصوركم، وجملة ﴿كَيْفَ﴾ مستأنفة، وإن كانت في المعنى متعلقة بما قبلها نظير قولهم: أنت ظالم إن فعلت، التقدير: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم، وعند من يجيز تقديم الجزاء على الشرط الصريح يجعل: ﴿يُصَوِّرُكُمْ﴾ المتقدم هو الجزاء و ﴿كَيْفَ﴾: منصوب على الحال بالفعل بعده، والمعنى: على أي حال شاء أن يصوركم صوركم، وقال بعضهم (١): ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ في موضع الحال معمول ﴿يُصَوِّرُكُمْ﴾، ومعنى الحال؛ أي: يصوركم في الأرحام قادرًا على تصويركم مالكًا ذلك، وقيل التقدير: في هذه الحال يصوركم على مشيئته؛ أي: مريدًا، فيكون حالًا من ضمير اسم الله، ذكره أبو البقاء، وجوز أن يكون حالًا من المفعول؛ أي: من كاف المخاطبين؛ أي: يصوركم متقلبين على مشيئته، وقال الحوفي: يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة وكما يشاء.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
﴿لَا﴾: نافية ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾: محذوف جوازًا تقديره: موجود، وجملة ﴿لَا﴾ مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾: في محل الرفع بدل من الضمير المستتر في خبر ﴿لَا﴾ بدل الشيء من الشيء ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ خبران لمبتدأ محذوف، أو بدلان من ﴿هُوَ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾.
﴿هُوَ﴾: مبتدأ ﴿الَّذِي﴾: خبره، والجملة مستأنفة ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿آيَاتٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿مُحْكَمَاتٌ﴾: صفة لـ ﴿آيَاتٌ﴾، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ﴿الْكِتَابَ﴾ ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾: مبتدأ وخبر مضاف إليه، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿آيَاتٌ﴾ وقال الشيخ السمين: وأخبر بلفظ المفرد - وهو ﴿أم﴾ - عن
(١) البحر المحيط.
189
الجمع وهو هن، إما لأن المراد أن كل واحدة منهن ﴿أُمُّ﴾، وإما لأن المجموع بمنزلة أم واحدة، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، وقيل: لأنه بمعنى أصل الكتاب، والأصل يوحد ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾: الواو عاطفة ﴿وَأُخَرُ﴾: معطوف على ﴿آيَاتٌ﴾، ولكنه على حذف موصوف تقديره: ومنه آيات أخر ﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾: صفة لـ ﴿أخر﴾.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ الفاء فاء الفصيحة مبنية على الفتح؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت انقسام، الكتاب إلى نوعين، وأردت بيان أقسام من يتبعه.. فأقول لك ﴿أما﴾: حرف شرط، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع مبتدأ. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم ﴿زَيْغٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الجمع ﴿فَيَتَّبِعُونَ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها ﴿يتبعون﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ﴿مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾، والجملة الإسمية جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا ﴿مَا تَشَابَهَ﴾ ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يتبعون﴾. ﴿تَشَابَهَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور حال، من فاعل ﴿تَشَابَهَ﴾ ﴿ابْتِغَاءَ﴾: مفعول لأجله وهو مضاف ﴿تَأْوِيلِهِ﴾: مضاف إليه ﴿وَابْتِغَاءَ﴾: معطوف على ﴿ابْتِغَاءَ﴾ الأول، وهو مضاف ﴿تَأْوِيلِهِ﴾ مضاف إليه، تأويل مضاف، والهاء: مضاف إليه.
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
﴿وَمَا يَعْلَمُ﴾ الواو حالية ﴿ما﴾: نافية ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع ﴿تَأْوِيلَهُ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ فاعل،
190
والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في قوله: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾. ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾: الواو استئنافية ﴿الراسخون﴾: مبتدأ ﴿فِي الْعِلْمِ﴾: متعلق به ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، وإن شئت قلت: الواو عاطفة ﴿الراسخون﴾: معطوف على الجلالة، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾ حال من ﴿الراسخون﴾. ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ ﴿مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾: جار ومجرور ومضافان إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. ﴿وَمَا﴾ الواو استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يَذَّكَّرُ﴾: فعل مضارع. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فاعل ومضاف إليه مرفوع بالواو، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب.
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)﴾.
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ مقول محكى لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول ﴿لَا تُزِغْ﴾: ﴿لَا﴾: دعائية ﴿تُزِغْ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿قُلُوبَنَا﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جوابًا للنداء. ﴿بَعْدَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تُزِغْ﴾ ﴿إِذْ﴾: حرف زائد بين المضاف والمضاف إليه لا معنى له ﴿هَدَيْتَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿بَعْدَ﴾ ﴿وَهَبْ لَنَا﴾ الواو عاطفة، ﴿هب﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَا تُزِغْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿هب﴾، ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾. ﴿مِن﴾ حرف جر، ﴿لدن﴾ ظرف مكان بمعنى: عند في محل الجر بـ ﴿مِن﴾ مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا. ﴿لدن﴾ مضاف، والكاف: مضاف إليه والظرف متعلق بـ ﴿تُزِغْ﴾ ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول به. ﴿إِنَّكَ﴾: إنَّ حرف نصب، والكاف اسمها. ﴿أَنْتَ﴾: ضم
191
فصل أو مؤكد لاسم إن ﴿الْوَهَّابُ﴾: خبر إن، والجملة في محل النصب مقول القول.
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. ﴿إِنَّكَ﴾: حرف نصب واسمها ﴿جَامِعُ النَّاسِ﴾ خبر ﴿إن﴾ ومضاف إليه، وجملة (إن) جواب النداء في محل النصب مقول القول ﴿لِيَوْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَامِعُ﴾، واللام فيه بمعنى: في ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: ﴿لَا﴾ نافية ﴿رَيْبَ﴾ في محل النصب اسمها ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لَا﴾ تقديره: لا ريب موجود فيه وجملة ﴿لَا﴾ من اسمها وخبرها في محل الجر صفة لـ ﴿يوم﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها ﴿لَا يُخْلِفُ﴾: ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُخْلِفُ﴾؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿الْمِيعَادَ﴾: مفعول به وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول القول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾ أو مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
واختلف في: عمران الذي سميت به هذه السورة، فقيل المراد به: أبو موسى وهارون، فآله: هم موسى وهارون، وقيل المراد به: أبو مريم فالمراد بآله: مريم وابنها عيسى، ويرجح هذا القول ذكرُ قصتهما إثر ذكره وبين عمران أبي موسى وهارون، وعمران أبي مريم ألف وثمان مئة عام.
﴿التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾: واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أم لا لكونهما أعجميين؟ فذهب جماعة إلى الأول، فقالوا: التوراة مشتقة من قولهم: وري الزند يري إذا قدح فخرج منه نار، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنار من الظلام إلى النور.. سمي هذا الكتاب بالتوراة. فأصلها (١): وورية فأبدلت الواو
(١) العكبري.
192
الأولى تاء وأبدلت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الفراء: أصلها تورية على وزن تفعلة كتوصية من وري في كلامه تورية، ثم أبدلت من الكسرة الفتحة، فانقلبت الياء ألفًا كما قالوا في ناصية: ناصاة. ويجوز إمالتها؛ لأن أصل ألفها ياء.
﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾: إفعيل من النجل، وهو التوسعة من قولهم نجلت الإهاب إذا شققته ووسعته، ومنه عين نجلاء، أي: واسعة الشق فسمي الإنجيل بذلك؛ لأنَّ فيه توسعة لم تكن في التوراة؛ إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة فيها، والصحيح أنهما ليسا مشتقين بل اسمان عبرانيان، وقرأ الحسن شذوذًا: (الأنجيل) - بفتح الهمزة - ولا يعرف له نظير؛ إذ ليس في الكلام أفعيل إلا أن الحسن ثقة فيجوز أن يكون سمعها.
﴿الْفُرْقَانَ﴾: فعلان من الفرق وهو في الأصل مصدر، فيجوز أن يكون بمعنى الفارق، أو المفروق، ويجوز أن يكون التقدير: ذا الفرقان.
﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ الانتقام: افتعال من النقمة، وهي السطوة والانتصار، وقيل: هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك، ويقال: نقم ونقم إذا أنكر وانتقم إذا عاقبه بسبب ذنب تقدم منه.
﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ﴾ يقال: صوَّره إذا جعل له صورة، والصورة الهيئة التي يكون عليها الشيء بالتأليف وهو بناء مبالغة من صاره إلى كذا يصوره إذا أماله إليه، فالصورة مائلة إلى هيئة وشبه مخصوص، وقال المروزي: التصوير ابتداء مثال من غير أن يسبقه نظير.
و ﴿الأرحام﴾: جمع رحم مشتق من الرحمة؛ لأنه مما يتراحم به.
﴿زَيْغٌ﴾. الزيغ مصدر زاغ يزيغ زيغًا من باب باع، ومعناه: الميل ومنه: زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين.
﴿ابتغاء تأويله﴾ التأويل مصدر أوَّل من باب: فعَّل المضعف، ومعناه آخر
193
الشيء ومآله ﴿الراسخون﴾: جمع راسخ اسم فاعل من رسخ - من باب خضع - يرسخ رسوخًا، والرسوخ: الثبوت.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البلاغة والفصاحة أنواعًا كثيرة (١):
منها: حسن الإبهام؛ وهو فيما افتتحت به لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام.
ومنها: مجاز التشبيه في قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾؛ لأن حقيقة التنزيل طرح جرم من علو إلى أسفل، والقرآن مثبت في اللوح المحفوظ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل، فشبِّه به وأُطلق عليه لفظ التنزيل.
وعبر أيضًا عن القرآن بالكتاب الذي هو اسم جنس إيذانًا بكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية، كأنه الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب.
وفي قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ شبَّه القرآن المصدق لما تقدمه من الكتب بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئًا فشيئًا.
وفي قوله: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمرًا؛ أي: يستره لما فيها من المعاني الغامضة، وشبه الإنجيل لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النبلاء، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد الطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه.
وفي قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾؛ لأنه شبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين.
وفي قوله: ﴿يُصَوِّرُكُمْ﴾ شبه أمره بقوله: كن، أو تعلق إرادته بكونه جاء
(١) البحر المحيط.
194
على غاية من الأحكام والصنع بمصوِّر يمثِّل شيئًا فيضم جرمًا إلى جرم ويصور منه صورة.
وفي قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه، وفي غير ذلك، وقيل: هذه كلها استعارات ولا تشبيه فيها؛ لأنه لم يصرح فيها بذكر أداة التشبيه.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ على تفسير من فسَّره بالزبور، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل؛ لأن أصحاب الكتب، إذ ذاك المؤمنون واليهود والنصارى. وفي قوله: ﴿لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ خصهما بالذكر؛ لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا. وفي قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم وفي قوله: ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾؛ لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز والنظر والاعتبار وفي قوله: ﴿لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ اختص القلوب؛ لأن بها صلاح الجسد وفساده وليس كذلك بقية الأعضاء؛ ولأنها محل الإيمان، إلى غير ذلك ومنها الالتفات في قوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
195
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)﴾.
المناسبة
لما حكى الله تعالى عن المؤمنين دعاءهم أن يثبتهم الله على الإيمان.. حكى عن الكافرين سبب كفرهم وهو: اغترارهم في هذه الحياة الدنيا بكثرة المال والبنين، وبين أنها لن تدفع عنهم عذاب الله كما لم تغنِ عنهم شيئًا في الدنيا. وضرب على ذلك الأمثال بغزوة بدر حيث التقى فيها جند الرحمن بجند الشيطان، وكانت النتيجة اندحار الكافرين مع كثرتهم وانتصار المؤمنين مع قلتهم، فلم تنفعهم الأموال ولا الأولاد، ثم أعقب تعالى ذلك بذكر شهوات الدنيا، ومُتع الحياة التي يتنافس الناس فيها، ثم ختمها بالتذكير بأن ما عند الله خير للأبرار.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...﴾ سبب نزوله (١): ما روى
(١) لباب النقول.
196
أبو داود في "سننه" والبيهقي في "الدلائل" من طريق أبي إسحاق عن محمَّد ابن أبي محمَّد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - ﷺ - لما أصاب قريشًا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال لهم: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشًا فقد عرفتم أني نبي مرسل، فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال - يعني: جهالًا لا علم لهم بالحرب - إنك والله لو قاتلتنا.. لعرفت أنا نحن الرجال، وأنك لم تلقَ مثلنا، فأنزل الله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ الآية إلى قوله: ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
وأخرج ابن جرير (١) عن ابن مسعود في قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ قال هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذٍ ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا، وكان المشركون مثليهم ست مئة وستة وعشرين، فأيد الله المؤمنين.
التفسير وأوجه القراءة
١٠ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا ما قد عرفوه من نبوة محمَّد - ﷺ - سواء كانوا من بني إسرائيل، أم من كفار العرب؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾؛ أي: لن تدفع عنهم ولن تنجيهم، ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾ التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ الذين يتناصرون ويتفاخرون بهم في مهام أمورهم ويعولون عليهم في الخطوب النازلة ﴿مِنَ﴾ عذاب ﴿اللَّهِ شَيْئًا﴾ وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالًا وأولادًا وما نحن بمعذبين، فرد الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ ﴿وَأُولَئِكَ﴾ الكفرة ﴿هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾؛ أي: حطب النار الذي تسجر
(١) الشوكاني.
وتسعر به؛ أي: سيكونون يوم القيامة حطبًا لجهنم التي تُسعَّر بهم.
وقيل: المراد بهؤلاء الكفرة: وفد نجران، وذلك لأن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه كرز: إني لأعلم أن محمدًا رسول الله حقًّا، وهو النبي الذي كنا ننتظره، ولكني إن أظهرت إيماني بمحمد أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال الكثير والجاه، فالله تعالى بين أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة.
وقرأ أبو عبد الرحمن ﴿لن يغني﴾ بالياء على تذكير العلامة، وقرأ علي: (لن تغني) بسكون الياء، وقرأ الحسن ﴿لن يغني﴾ بالياء أولًا وبالياء الساكنة آخرًا وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع، وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة وينبغي أن لا يخص بها إذ كثر ذلك في كلامهم وكل هذه القراءة شاذ عدا قراءة الجمهور ﴿تغنيَ﴾.
وقرأ الجمهور: ﴿وَقُودُ﴾ بفتح الواو بمعنى: الحطب الذي توقد به النار، وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف شذوذًا: ﴿وُقُود﴾ بضم الواو وهو مصدر: وقدت النار تقد وقودًا، ويكون على حذف مضاف؛ أي: أهل وقود النار أو حطب وقود النار، أو جعلهم نفس الحطب مبالغة، وقد قيل في المصدر أيضًا: وَقود بفتح الواو، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو فيحتاج إلى تقدير مضاف؛ أي: هم أهل وقود النار.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن من كفر وكذب بالله، مآله إلى النار، ولن يغني عنه ماله ولا ولده.. ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله - ﷺ - وترتب العذاب على كفرهم كشأن من تقدم من كفار الأمم الماضية وأخذوا بذنوبهم وعذبوا عليها، ونبه على آل فرعون؛ لأن الكلام مع بني إسرائيل، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخرًا إلى النار وظهور بني إسرائيل عليهم وتوريثهم أماكن ملكهم، ففي هذا كله بشارة لرسول الله - ﷺ - ولمن
١١ - آمن به: أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاستئصال، وفي الآخرة إلى النار، كما جرى لآل فرعون؛ أُهلكوا في الدنيا وصاروا إلى النار، فقال: {كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ}؛ أي: شأن هؤلاء الكفرة في تكذيبهم محمدًا - ﷺ - وكفرهم بشريعته وصنيعهم وعادتهم، كدأب آل فرعون، أي: كشأن فرعون وقومه وعادتهم في تكذيبهم موسى وشريعته ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: وكدأب الأمم الذين من قبل قوم فرعون من كفار الأمم الماضية في تكذيبهم أنبياءهم كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم وغيرهم ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: قد كذب آل فرعون ومن قبلهم بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدق رسلنا وأنكروها، ومتى كذبوا بها. فقد كذبوا الأنبياء بلا شك ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: عاقب الله آل فرعون ومن قبلهم ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: أهلكهم بتكذيبهم المعجزات الدالة على صدق الرسل، وإنكارها، ونَصَر الرسل ومن آمن معهم ولم يجدوا من بأس الله محيصًا ولا مهربًا؛ إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات. وجملة ﴿كَذَّبُوا﴾؛ إلى آخرها تفسير لدأبهم مما فعلوا أو فعل بهم.
وإنما استعمل الأخذ في العقاب؛ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأسور المأخوذ الذي لا يقدر على التخلص ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾؛ أي: أليم العذاب شديد البطش، والغرض من الآية أن كفار قريش كفروا كما كفر أولئك المعاندون من آل فرعون ومن سبقهم، فلما لم تنفع أولئك أموالهم ولا أولادهم.. فكذا لن تنفع هؤلاء، وفي هذه الجملة إشارة إلى شدة سطوة الله على من كفر بآياته وكذب
١٢ - بها، ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا والآخرة فقال: ﴿قُل﴾ يا محمَّد ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: ليهود المدينة ومشركي مكة ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾؛ أي: يغلبكم المسلمون عن قريب في الدنيا وقد صدق الله تعالى وعده بقتل بني قريظة، فقد قتل منهم النبي - ﷺ - في يوم واحد ست مئة، جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقهم، وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها، وبإجلاء بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على أهلها وبالأسر على بعض ولله الحمد. ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾؛ أي: تجمعون وتساقون ﴿إلى﴾ نار ﴿جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾؛ أي: قبح المهاد والفراش الذي مهدتموه وفرشتموه لأنفسكم، والمخصوص بالذم نار جهنم، ودلت الآية على حصول البعث في يوم القيامة والنشر والحشر وعلى أن مرد الكافرين النار.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف (١): ﴿سيغلبون ويحشرون﴾ بالياء على الغيبة. وقرأ باقي السبعة: بالتاء خطابًا؛ أي: قل لهم في خطابك إياهم ستغلبون وتحشرون. فتكون الجملتان مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾، وعلى قراءة الياء لا تكون الجملة محكية بـ ﴿قُلْ﴾ بل محكية بقول آخر تقديره: قل لهم قولي: سيغلبون وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة.
والفرق بينهما (٢): أنه على الخطاب يكون الإخبار بمعنى كلام الله تعالى،
١٣ - وعلى الغيبة يكون بلفظه. ثم حذرهم وأنذرهم بأن لا يغتروا بكثرة العَدَد والعُدَّة فلهم مما يشاهدون عبرة فقال: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾. وهذه الجملة جواب قسم محذوف، وهي من تمام القول المأمور به لتقدير مضمون ما قبله، ولم يقل: كانت؛ لأن التأنيث غير حقيقي، وقال الفراء: إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه وبين الاسم بقوله: لكم، وقال ابن جرير: الخطاب فيه لليهود والمعنى: قل يا محمَّد لليهود: واللهِ لقد كانت وحصلت لكم علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم من أنكم ستغلبون ﴿فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾؛ أي في فرقتين اجتمعتا يوم بدر للقتال ﴿فِئَةٌ﴾؛ أي: فرقة منهما ﴿تُقَاتِلُ﴾ وتجاهد ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعة الله؛ لإعلاء كلمته، وهم رسول الله - ﷺ - وأصحابه، وكانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا، سبعة وسبعون رجلًا من المهاجرين، ومئتان وستة وثلاثون رجلًا من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيرًا بين كل أربعة منهم بعير واحد ومن الخيل فرسان للمقداد بن عمرو ولمرثد بن أبي مرثد، وكان معهم من السلاح ستة دروع وثمانية سيوف. وقراءة العامة: ﴿فِئَةٌ﴾ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: إحداهما. وقرأ الحسن ومجاهد وحميد شذوذًا: ﴿فئةٍ﴾ بالجر على البدلية من فئتين. وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا أيضًا: ﴿فئة﴾ بالنصب، فيكون نصب الأولى على المدح، والثاني على الذم، وكأنه قال: أمدح فئة تقاتل
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
200
في سبيل الله، وأذم أخرى كافرة. وقرأ الجمهور: ﴿تُقَاتِلُ﴾ بالتاء على تأنيث الفئة، وقرأ مجاهد ومقاتل شذوذًا: ﴿يقاتل﴾ بالياء على التذكير نظرًا لكون الفئة بمعنى القوم ﴿و﴾ فرقة ﴿أخرى كافرة﴾ كافرة بالله ورسوله وهم مشركوا مكة، وكانوا تسع مئة وخمسين رجلًا من المقاتلة، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وكان رئيسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان فيهم مئة فرس، وكانت معهم من الإبل سبع مئة وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وكان في الرجال دروع سوى ذلك، وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله - ﷺ - بعد الهجرة ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾؛ أي: يرى المشركون المؤمنين بعد ما شرعوا في القتال ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾؛ أي: مثلي عدد المشركين قريبًا من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفًا وعشرين ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾؛ أي: في رأي العين؛ أي: رؤية ظاهرة محققة بالعين لا بالوهم والخيال، وذلك أنه تعالى كَثَّر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا ويجبنوا عن قتالهم ولا يعارض هذا ما قال في سورة الأنفال: ﴿ويقللكم في أعينهم﴾؛ لأنهم قللوا أولًا في أعينهم حتى اجترؤوا على قتالهم، فلما اجتمعوا. كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المجمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى لها: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾، ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية.
وهذا (١) على قراءة الجمهور بالياء التحتانية، وقرأ نافع وأبان عن عاصم من السبعة وسهل ويعقوب ﴿ترونهم﴾ بالتاء على الخطاب، والمعنى: ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة، ومع ذلك غلبهم المؤمنون مع قلتهم جدًّا، فيكون هذا أبلغ في إكرام المؤمنين وعناية الله بهم، وقرأ ابن عباس وطلحة ﴿تُرَونهم﴾ بضم التاء على الخطاب، وقرأ السلمي: بضم الباء على الغيبة.
(١) البحر المحيط.
201
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُؤَيِّدُ﴾ ويقوي ﴿بِنَصْرِهِ﴾ وعونه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ ويريد نصره على عدوه ولو بدون الأسباب العادية ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ النصر لمحمد - ﷺ - وأصحابه يوم بدر مع قلتهم عَدَدًا وعُدَدًا أو رؤية القليل كثيرًا، أو في غلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكي السلاح ﴿لَعِبْرَةً﴾ عظيمة؛ أي: لعظة عظيمة ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة والأفكار السليمة المستقيمة والمعنى: إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظةٌ لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.
ووجه (١) نظم هذه الآية أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ نزلت في شأن اليهود وأن رسول الله - ﷺ - لما دعاهم إلى الإِسلام.. أظهروا التمرد، وقالوا: لسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا، فالله تعالى قال لهم: إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدد والعدة.. فإنكم ستغلبون، ثم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك القول فقال: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾.
١٤ - وروي أنه - ﷺ - لما دعا اليهود إلى الإِسلام بعد غزوة بدر.. أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبين الله تعالى أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة، وأن الآخرة خير وأبقى، فقال: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾؛ أي: حسن لجنس الناس والآدميين. قرأ الجمهور: ﴿زُيِّنَ﴾ بالبناء للمفعول. وقرأ الضحاك: ﴿زَيَّنَ﴾ بالبناء للفاعل، والشهوات: جمع شهوة وهو توقان النفس إلى الشيء المشتهى، وهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول؛ أي: حسن لهم حب المشتهيات المذكورة، سماها شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾، والمزيِّن لها هو الله تعالى عند أهل السنّة لا الشيطان كما قالت المعتزلة؛ لأنه
(١) المراح.
202
تعالى خالق كل شيء ولا شريك له في ملكه، ولعله زينه ابتلاءً، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى، ولأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني. وتزيين الله: عبارة عن جعل القلوب متعلقة بها مائلة إليها، وتزيين الشيطان ووسوسته وتحسينه الميل إليها حالة كون تلك المشتهيات ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾، والإماء داخلة فيها وإنما بدأ بذكر النساء؛ لأن الالتذاذ بهن أكثر، والاستئناس بهن أتم، ولأنهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتتان ﴿و﴾ من ﴿البنين﴾: جمع ابن، وإنما خص البنين بالذكر؛ لأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى؛ لأنه يتكثر به ويعضده، ويقوم مقامه، وقد جعل الله تعالى في قلب الإنسان حب الزوجة والولد لحكمة بالغة، وهي بقاء التوالد. ولولا تلك المحبة لما حصل ذلك ﴿و﴾ من ﴿القناطير﴾؛ أي: ومن الأموال الكثيرة والكنوز الوفيرة ﴿الْمُقَنْطَرَةِ﴾؛ أي: المجموعة أو المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير، وإنما كانا محبوبين؛ لأنهما جعلا ثمن جمع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء، وقوله: ﴿مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ بيان للقناطير، أو حال منه، والواو فيه بمعنى: أو المانعة الخلو فتجوز الجمع. قيل: سُمي الذهب ذهبًا؛ لسرعة ذهابه بالإنفاق، والفضة فضة لأنها تنفض؛ أي: تتفرق بالإنفاق، والفض: التفرق ﴿و﴾ من ﴿الخيل المسومة﴾؛ أي: المرعية في المروج والمسارح، يقال: سامت الدابة إذا سرحت ورعت، والمقصود أنها إذا رعت زاد حسنها، أو المعلمة بعلامة خلقية بأن تكون غرًّا محجلة، أو بعلامة طارئة لتتميز عن غيرها كالكي، وقيل: الحسان المعدة للجهاد ﴿و﴾ من ﴿الأنعام﴾ جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم؛ لأن منها المركب والمطعم والزينة ﴿و﴾ من ﴿الحرث﴾؛ أي: ومن المزروع والمغروس وهو مصدر بمعنى: المحروث الشامل للمغروس؛ لأن فيه تحصيل أقواتهم ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الأصناف السابقة ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: ما يتمتع ويتنعم به مدة الحياة الدنيا، ثم يذهب ولا يبقى ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾؛ أي: المآب الحسن؛ أي؛ المرجع الحسن الدائم الذي لا يفنى في الآخرة وهو الجنة، لمن ترك ذلك. وفيه تزهيد من الدنيا وترغيب في الآخرة، وقيل: فيه إشارة إلى
203
أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة؛ لأنها السعادة القصوى.
إيضاح معنى الآية: معنى تزيين حب الشهوات للناس: أن حبها مستحسن لديهم، لا يرون فيه قبحًا ولا غضاضة، ومن ثمَّ لا يكادون يرجعون عنه، وهذا أقصى مراتب الحب، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحًا أو ضارًّا، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به وقد يحب الإنسان شيئًا وهو يراه شيئًا لا زينًا، وضارًّا لا نافعًا، كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيه منه، ومن أحب شيئًا ولم يزين له يوشك أن يرجع عنه يومًا ما، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.
والمعنى: أن الله تعالى فطر الناس على حب هذه الشهوات الستة المبينة في الآية وغيرها كآلات الملاهي:
فأولها: النساء: وهي موضع الرغبة ومطمح الأنظار، وإليهن تسكن النفوس، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ الآية، وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدهم وجدهم، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن، فإسرافهم في حبهن له الأثر العظيم في شؤون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.
وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهن قد يزول وحب الأولاد لا يزول؛ لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلو والإسراف كحب المرأة، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده، فكثير ممن تزوجوا فوق الواحدة أفرطو في حب واحدة وقلوا أخرى وأهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق، وقد وسعوه على أولاد المحبوبة. وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم، فهو يفعل ذلك للتقرب عندها وابتغاء الزلفى إليها.
وثانيها: البنون: والمراد بهم الأولاد مطلقًا كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
204
وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، وفي الحديث: "الولد مجبنة مبخلة".
والعلة في حب الزوجة والولد واحدة: وهي تسلسل النسل وبقاء النوع، وهي حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.
وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة:
ومنها: أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس.
ومنها: أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليهم لضعف أو كبر.
ومنها؛ أنه يرجي بهم من الشرف ما لا يرجي الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.
ومنها: الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها، وتتصل بعشيرة أخرى.
وثالثها: القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة، كما قالوا: ألوف مؤلفة، وظل ظليل، وليل أليل وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان، والتي تشغل القلب للتمتع بها وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.
ومن ثمَّ كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين المستكبرين عن تلبية دعوتهم وإن أجابوها وآمنوا.. فهم أقل الناس عملًا وأكثرهم بعدًا عن هدي الدين انظر إلى قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾.
وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم، وسر هذا: أنه وسيلة إلى جلب الرغائب وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان
205
غير محدودة، ولذاته لا عد لها ولا حصر، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية في جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها حتى يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن المال وسيلة لا مقصد، فيتفنن في الوصول إليه الفنون المختلفة والطرق التي تعن له، ولا يبالي أمن حلال كسب أم من حرام؟
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله - ﷺ -: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب.. لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" ولقد أعمَّتْ فتنة المال كثيرًا من الناس، فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن، بل عن حقوق من يعاملهم، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم، بل عن أنفسهم، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزري بمروءته، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه، ومنهم من يثلم بشرفه ويفتح ثغره للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل؛ لأجل المال ومن ثم قالوا: المال ميّال.
ورابعها: ﴿الخيل المسومة﴾ التي ترعى في الأودية يقال: سام الدابة: رعاها وأسامها أخرجها إلى المرعى وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة والمعلمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء، من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون حتى لقد يتغالى بعضهم في ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.
وخامسها: ﴿الأنعام﴾: وهي مال أهل البادية، ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم، وقد امتن الله بها على عباده بقوله: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥)﴾ إلى قوله: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وسادسها: ﴿الحرث﴾ وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة، والانتفاع به أتم منها، لكنه أخر عنها لأنه لما عم الارتفاق به.. كانت زينته في القلوب أقلَّ، وقلما يكون الانتفاع به صادرًا عن الاستعداد لأعمال الآخرة، أو مانعًا من نصرة الحق.
وهناك ما هو أعم نفعًا وأعظم فائدة في الحياة وهو: الضوء والهواء، فلا
206
يستغني عنهما حي من الأحياء، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما، ولا يفكر في غبطته بهما.
﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلًا في هذه الحياة الفانية، ويجعلونه وسيلة في معايشهم وسببًا لقضاء شهواتهم، وقد زين لهم حبها في عاجل دنياهم. ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم، فلا ينبغي لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل، وفي هذه الجملة دلالة على أنه ليس فيما عدد عاقبة محمودة، فعلى المؤمن أن لا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال، ووقف عند حدود الله.. سَعِد في الدارين، ووفق لخير الحياتين كما قال: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
١٥ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد للكفار أو للناس عامة، وهو أمر للنبي - ﷺ - بتفصيل ما أجمل أولًا في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾. ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾؛ أي: هل أخبركم أيها الناس بشيء أفضل من ذلكم المذكور من النساء والبنين إلى آخره. وجيء بالكلام على صورة الاستفهام التشبيثي لتوجيه النفوس إلى الجواب، وتشويقها إليه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: ﴿أأنبئكم﴾ - بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية -. والباقون: بالتحقيق فيهما، مع زيادة مد بينهما لبعضهم، وبدون زيادة لبعض آخر فالقراءات ثلاث، وليس في القرآن همزة مضمومة بعد مفتوحة إلا ما هنا، وما في ص: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾، وما في اقتربت: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾. وقوله: ﴿بِخَيْرٍ﴾ يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك؛ إذ هي من أجل النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها، فما مثل المسرف في حب النساء حتى يعطي امرأته حق غيرها، أو يهمل لأجلها تربية أولاده.. إلا مثل من يستعمل عقله في استنباط الحيل ليبتز
207
حقوق الناس ويؤذيهم فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هي في ذاتها شرٌّ، ولا كون حبها شرًّا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة. ثم أجاب عن هذا الاستفهام على نظير قولك: هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة، ويرخص السعر، ويفي بالوعد هو: فلان، فقال: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾ هذه الجملة مستأنفة لبيان ما هو خير؛ أي: للذين اجتنبوا الشرك والمعاصي والشهوات النفسانية، وتبتلوا إلى طاعة الله، وأعرضوا عما سواها.. فلا تشغلهم الزينة عن طاعة الله تعالى، بساتينُ مؤبدة، وحدائق منضدة حالة كونها مدخرة لهم عند ربهم. وقرأ يعقوب: ﴿جناتٍ﴾ بالجر بدلًا من قوله: ﴿بِخَيْرٍ﴾. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾؛ أي: تسيل وتطرد من تحت أشجارها ومساكنها أنهار الخمر والعسل واللبن والماء حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها ﴿و﴾ لهم فيها ﴿أزواج مطهرة﴾؛ أي: زوجات منظفة مهذبة من الحيض والنفاس والبصاق والمني وتشويه الخلقة وسوء العشرة والأخلاق الذميمة وسائر ما يستقذر لا يغوطن ولا يتبولن ولا يحضن ولا ينفسن ولا يعتريهن ما يعتري نساء الدنيا ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: ولهم فيها رضا ربهم أكبر ما فيهم، فيه من النعيم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "إنَّ الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". متفق عليه.
وقيل: إن العبد إذا علم أن الله تعالى قد رضي عنه.. كان أتم لسروره وأعظم لفرحه.
وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
208
أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)}، وقوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ الآية.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن: ﴿رُضوان﴾ بضم الراء ما عدا الثاني في سورة المائدة وهو قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ ففيه عنه خلاف. وقرأ باقي السبعة: بالكسر، وهما لغتان.
وخلاصة المعنى: أن للذين اتقوا وأخبتوا إلى ربهم، وأنابوا إليه نوعين من الجزاء:
أحدهما: جسماني: وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خَلْقًا وخُلُقًا.
وثانيهما: روحاني عقلي: وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط، ولا يعقبه غضب، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.
وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات، كما نرى ذلك في الدنيا، فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى، ولا يكون ذلك باعثًا له على فعل الخير وترك الشر، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جربها في الدنيا ففي مثلها يرغب.
ومنهم من ارتقى إدراكه وعظم قربه من ربه، فيتمنى رضاه، ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.
وقد نبه بهذه الآية على نعمه، فأدناها متاع الدنيا، وأعلاها رضوان الله تعالى؛ لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، وأوسطها الجنة ونعيمها.
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾؛ أي: بصير بأعمالهم مطلع عليها عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فيجازي كلًّا بعمله، فيثيب ويعاقب على قدر
209
الأعمال، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو المجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
وقد ختم سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة؛ ليحاسب الإنسانُ نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعد متقيًا، وإنما
١٦ - المتقي من يعلم منه ربه التقوى، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أن الجنة للمتقين.. ذكر شيئًا من صفاتهم فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى وأساسه فقال: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ بدل من قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين يقولون في الدنيا ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ وصدقنا بك وبرسولك إجابةً لدعوتك ﴿فَاغْفِرْ﴾ اللهم ﴿لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ واسترها وتجاوز عنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾؛ أي: وادفع عنا عذاب النار بفضلك وكرمك إنك أنت الغفور الرحيم، وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة؛ لأن من زحزح عن النار
١٧ - يومئذٍ.. فقد فاز بالنجاة وحسن المآب، ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به عن غيرهم، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال: أمدح ﴿الصَّابِرِينَ﴾ على تكاليف امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وفي البأساء والضراء وحين البأس ﴿وَالصَّادِقِينَ﴾ في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم ﴿وَالْقَانِتِينَ﴾؛ أي: المطيعين لربهم المواظبين على العبادات وقيل هم المصلون. ﴿المنفقين﴾؛ أي: الباذلين أموالهم في وجوه الخير، ويدخل فيه نفقة الرجل على نفسه وعلى أهله وأقاربه وصلة رحمه، والزكاة والنفقة في جميع القربات ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾؛ أي: الطالبين من ربهم مغفرة الذنوب في أواخر الليل؛ لأنها وقت إجابة الدعاء، ووقت الخلوة والفراغ. قال لقمان لابنه: يا بني لا يكن الديكُ أكيس منك ينادي بالأسحار، وقيل: المصلين التهجد: في آخر الليل، وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم، ويشق فيه القيام، وتكون النفس فيه أصفى، والقلب أفرغ من الشواغل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: مَنْ يدعوني.. فأستجيب له، مَنْ يسألني.. فأعطيه، مَنْ يستغفرني.. فأغفر له" متفق
210
عليه. وفي لفظ مسلم: "فيقول: أنا الملك أنا الملك مَنْ ذا الذي يدعوني... " الحديث، وله في رواية أخرى: "فيقول: هل من سائل فيُعطى، هل من داعٍ فيستجابَ له، هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح". وهذا الحديث من أحاديث الصفات، فمذهب السلف فيه الإيمان به وإجراؤه على ظاهره ونفي الكيفية عنه، وهو الأسلم الأعلم، وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم.. أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. رواه ابن أبي حاتم.
وخلاصة الكلام: أن المتقين هم الذين جمعوا هذه الصفات المذكورة التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة، وبها نالوا هذا الوعد وهي خمسة:
إحداها: الصبر، وأكمل أنواعه: الصبر على أداء الطاعات، وترك المحرمات، فإذا هبت أعاصير الشهوات، وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي، فلا سبيل لردعها إلا بالصبر، فهو الذي يثبت الإيمان ويقف بها عند حدود الشرع، وهو الحافظ لشرف الإنسان في الدنيا عند المكاره، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع، وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.
ثانيتها: الصدق، وهو منتهى الكمال، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤)﴾.
وثالثتها: القنوت، وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبُّ العبادة وروحها وبدونه تكون العبادة جسمًا بلا روح وشجرة بلا ثمرة.
ورابعتها: الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة فالإنفاق في وجوه الخير جميعًا مما حث عليه الشارع وندب إليه.
211
وخامستها: الاستغفار بالأسحار؛ أي: التهجد في آخر الليل، وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشق القيام وتكون النفس فيه أصفى والقلب فارغًا والاستغفار المطلوب: هو ما يقرن بالتوبة النصوح والعلم على ميزان الشرع، ولا يكفي الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر، فإن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزىء بربه، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه أو غر في معاملته لربه، ومن ثمَّ أثر عن بعضهم قوله: إنَّ استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)﴾.
﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب اسمها ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿لَن﴾: حرف نصب ونفي. ﴿تُغْنِيَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لَن﴾ ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ معطوف على ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من شيئًا؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ الواو استئنافية أو عاطفة. ﴿أولئك﴾): مبتدأ أول ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ثانٍ، أو ضمير فصل، ﴿وَقُودُ النَّارِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة مقررة لعدم الإغناء، أو معطوفة على خبر (أن) وعلى كلا الاحتمالين ففيها تعيين للعذاب الذي بين أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم منه شيئًا، ذكره أبو السعود.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
﴿كَدَأْبِ آلِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، آل مضاف، ﴿فِرْعَوْنَ﴾: مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: دأبهم كدأب
212
آل فرعون، والجملة مستأنفة ﴿وَالَّذِينَ﴾ في محل الجر معطوف على ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة الموصول.
﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
﴿كَذَّبُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، والجملة الفعلية جملة مفسِّرة لـ (دأب آل فرعون)، أو في محل النصب حال من ﴿آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، ولكنه على تقدير: قد، ويحتمل كون ﴿الذين من قبلهم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿كَذَّبُوا﴾ خبره، والجملة مستأنفة، ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ الفاء عاطفة سببية (أخذهم الله): فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَذَّبُوا﴾ ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ (أخذهم). ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مفيدة لتعليل ما قبلها، والإضافة فيه من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها والأصل: والله شديد عقابه.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)﴾.
﴿قُل﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾: جار ومجرور وصلة الموصول متعلق بـ ﴿قُل﴾ ﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُل﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾: فعل مغير الصيغة، ونائب فاعله، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ جملة فعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ ﴿إِلَى جَهَنَّمَ﴾: ﴿إِلَى﴾: حرف جر ﴿جَهَنَّمَ﴾: مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى: الطبقة، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿تحشرون﴾. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾: الواو عاطفة، أو استئنافية. ﴿بئس﴾: فعل ماضٍ، وهو من أفعال الذم ﴿الْمِهَادُ﴾: فاعل، والجملة في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف هو المخصوص بالذم تقديره: بئس المهاد جهنم، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُل﴾، أو جملة مستأنفة.
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾.
213
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، أو تام ﴿آيَةٌ﴾ اسمها مؤخر، أو فاعل ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبرها مقدم على اسمها أو متعلق بـ ﴿كَانَ﴾. ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آيَةٌ﴾، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: في قصة فئتين، أو متعلق بـ ﴿كَانَ﴾، والتقدير على كونها ناقصة: قد كانت آية حاصلة في قصة فئتين كائنة لكم، وعلى كونها تامة: قد كان وحصل لكم في فئتين آية دالة على صدق ما أقول لكم من قول: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ من اسمها وخبرها، أو من الفعل والفاعل: جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾، والتقدير: قل لهم يا محمَّد: واللهِ قد كان لكم آية في فئتين... إلى آخر الآية. ﴿الْتَقَتَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿فِئَتَيْنِ﴾ تقديره: فئتين ملتقيتين.
﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾.
﴿فِئَةٌ﴾: مبتدأ، سوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل، ﴿تُقَاتِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِئَةٌ﴾ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تُقَاتِلُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: فئة مقاتلة في سبيل الله، والجملة الإسمية في محل الجر بدل من ﴿فِئَتَيْنِ﴾ بدل تفصيل من مُجمل، وأما على قراءة الجر فبدل من ﴿فِئَتَيْنِ﴾، وعلى قراءة النصب فمنصوب على المدح بفعل محذوف. ﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾: الواو عاطفة ﴿أخرى﴾: مبتدأ، ولكنه على حذف موصوف تقديره: وفئة أخرى. ﴿كَافِرَةٌ﴾: خبره، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ على كونها بدلًا من ﴿فِئَتَيْنِ﴾.
﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾.
﴿يَرَوْنَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى بصرية. ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾: حال من مفعول (يرون) منصوب بالياء، والضمير مضاف إليه، ولكنه على تأويله بمشتق
214
تقديره: حالة كون الفرقة المسلمة مماثلين للفرقة الكافرة، وجملة (يرون) (١) من الفعل والفاعل خبر ثانٍ لقوله: ﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ أو صفة له، أو نعت لقوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهذه الاحتمالات على قراءة الياء التحتية، وأما على قراءة التاء الفوقية، فتكون الجملة مستقلة ومستأنفة راجعة لقوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾، وأيًّا ما كان. فالقصد من هذا الوصف تقرير الآية التي في الفئتين وفي التقائهما واجتماعهما. تأملْ ذكره في "الفتوحات الإلهية". ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾: مصدر مؤكد لعامله منصوب على المفعولية المطلقة بـ (يرون) و ﴿الْعَيْنِ﴾ مضاف إليه.
﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿يُؤَيِّدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿قَدْ كَانَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُل﴾، ﴿بِنَصْرِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُؤَيِّدُ﴾ ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾: ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يُؤَيِّدُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿مَن﴾، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: يشاؤه، وهو العائد على ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾ مقدم على اسمها. ﴿لَعِبْرَةً﴾ اللام حرف ابتداء، عبرةً: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة ﴿لَعِبْرَةً﴾ تقديره: إن عبرة كائنة لأولي الأبصار لكائنة في ذلك المذكور.
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾.
﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق
(١) الجمل.
215
بـ ﴿زُيِّنَ﴾ ﴿حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الشَّهَوَاتِ﴾ ﴿وَالْبَنِينَ﴾: معطوف على ﴿النِّسَاءِ﴾ ﴿وَالْقَنَاطِيرِ﴾: معطوف على النساء أيضًا، ﴿الْمُقَنْطَرَةِ﴾ صفة لـ ﴿قناطير﴾ ﴿مِنَ الذَّهَبِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿القناطير﴾ ﴿وَالْفِضَّةِ﴾: معطوف عليه. ﴿وَالْخَيْلِ﴾: معطوف على ﴿النِّسَاءِ﴾ ﴿الْمُسَوَّمَةِ﴾: صفة للخيل ﴿وَالْأَنْعَامِ﴾: معطوف على ﴿النِّسَاءِ﴾، وكذا قوله: ﴿وَالْحَرْثِ﴾: معطوف عليه جريًا على القاعدة المشهورة عند النحاة: أن المعطوفات إذا كثرت، وكان العطف بغير مرتب.. يكون العطف على الأول لا غير. كما ذكرته في "الباكورة الجنية على متن الآجرومية".
﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ﴾: خبر ومضاف إليه ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الحياة﴾، والجملة مستأنفة، ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية ﴿الله﴾: مبتدأ أول ﴿حُسْنُ الْمَآبِ﴾ مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه. ﴿عِنْدَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ الثاني تقدير الكلام: والله حسن المآب كائن عنده، والجملة مستأنفة.
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإنْ شئت قلتَ: ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾: الهمزة للاستفهام التقريري مبنية على الفتح، ولكن ليس (١) المراد هنا بالتقرير: طلب الإقرار والاعتراف من المخاطبين، كما هو معنى الاستفهام التقريري في الأصل، بل المراد به هنا: التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين؛ أي: تحقيق خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، (أنبئكم): فعل
(١) الجمل.
216
مضارع ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿بِخَيْرٍ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿نبأ﴾، ونبأ هنا (١) تعدَّتْ إلى مفعولين: أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف الجر، قاله أبو حيان في "النهر" ﴿مِنْ ذَلِكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بِخَيْرٍ﴾ ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر - أعني قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ - ويجوز أن يكون الظرف حالًا من ﴿جَنَّاتٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فتنصب حالًا ﴿جَنَّاتٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية جواب للاستفهام السابق في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
ويقرأ شذوذًا (٢): ﴿جناتٍ﴾ بكسر التاء، وفيه حينئذٍ وجهان:
أحدهما: هو مجرور بدلًا من (خير)، فيكون: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ على هذا صفة لـ (خير).
والثاني: أن يكون منصوبًا على إضمار: أعني، أو بدلًا من موضع ﴿بِخَيْرٍ﴾، ويجوز أن يكون الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو جنات.
﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الآتي، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿جَنَّاتٌ﴾ ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾ أو حال من فاعل ﴿تَجْرِي﴾؛ أي: تجري الأنهار حالة كونها كائنة تحتها. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من ﴿الذين اتقوا﴾، والعامل فيها الاستقرار المحذوف. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿وَأَزْوَاجٌ﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٌ﴾. ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾: صفة لـ ﴿أزواج﴾، وكذا قوله؛ ﴿وَرِضْوَانٌ﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٌ﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رضوان﴾. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾: الواو استئنافية ﴿اللَّهِ﴾: مبتدأ. ﴿بَصِيرٌ﴾: خبره، والجملة مستأنفة، ﴿بِالْعِبَادِ﴾ متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾.
(١) النهر.
(٢) العكبري.
217
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: في محل الجر بدل من (الذين اتقوا)، أو نعت له ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، وإن شئتَ قلتَ: ﴿رب﴾: منادى مضاف و ﴿نا﴾ مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿إِنَّنَا﴾: (إنَّ) حرف نصب، ونا اسمها، ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول القول. ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾: الفاء عاطفة. ﴿اغفر﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا﴾. قال الكرخي: وفي ترتيب هذا السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كافٍ في استحقاق المغفرة، وفيه ردٌّ على أهل الاعتزال؛ لأنهم يقولون: إن استحقاق المغفرة لا يكون بمجرد الإيمان. انتهى. ﴿ذُنُوبَنَا﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَقِنَا﴾: الواو عاطفة ﴿قِ﴾: فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها؛ لأنه من وقى يقي، وفاعله ضمير يعود على الله و ﴿نا﴾: مفعول أول ﴿عَذَابَ﴾: مفعول ثانٍ ﴿النَّارِ﴾: مضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾.
﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)﴾.
﴿الصَّابِرِينَ﴾: نعت ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾، أو لـ ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ مجرور بالياء، وقوله: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ﴾ كلها معطوفات على ﴿الصَّابِرِينَ﴾. ﴿بِالْأَسْحَارِ﴾: متعلق بـ ﴿المستغفرين﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾: من أغنى الرباعي يغني إغناءً، والإغناء: الدفع والنفع، وفلان عظيم الغنى؛ أي: الدفع والنفع. ﴿وَقُودُ﴾: الوقود؛ بفتح الواو على قراءة الجمهور اسم لما توقد به النار من الحطب، وبضمها مصدر: وقدت
218
النار تَقدُ وقودًا إذا اتقدت.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾: والدأب: الاجتهاد، وهو مصدر: دأب الرجل في عمله يدأب - من بابي: قطع وخضع - دأبًا ودؤبًا، إذا جدَّ واجتهد وتعب فيه، وغلب استعماله في العادة والشأن والحال، والمراد به هنا: كعادة آل فرعون وشأنهم وحالهم.
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾: تثنية: فئة، والفئة: الجماعة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها: فئات، وقد تجمع بالواو والنون جبرًا لما نقص، وسميت الجماعة من الناس فئة؛ لأنها يفاء إليها عند الشدة؛ أي: يرجع إليها في وقت الشدة.
﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾: هو مصدر مؤكد ورأى هنا بصرية. ﴿يُؤَيِّدُ﴾؛ أي: يقوي، مضارع أيده تأييدًا إذا نصره وأعانه. ﴿لَعِبْرَةً﴾: العبرة: الاتعاظ، وهو اسم مصدر لاعتبر اعتبارًا، والاعتبار: الانتقال من حالة الجهل إلى حالة العلم، واشتقاقها من العبور، وهي مجاوزة الشيء إلى الشيء ومنه: عبور النهر، وفي "الخازن": العبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدية إلى العلم، وأصلها من العبور كالجلسة من الجلوس، كأنه طريق يعبرونه، فيوصلهم إلى مرادهم، وقيل: العبرة: هي التي يعبر عنها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم. انتهى.
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾: والتزيين: تحسين الشيء وتجميله في أعين الناس، والشهوات: جمع شهوة: اسم مصدر من اشتهى اشتهاءً، والشهوة: ثوران النفس وميلها إلى الشيء المشتهى، فالمصدر هنا بمعنى: اسم المفعول، عبر به عنه مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبًا فيها كأنها نفس الشهوات.
﴿القناطير﴾: جمع قنطار: وهو في الأصل عقد الشيء وإحكامه، يقال: قنطرتُ الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة؛ أي: المحكمة الطاق، وفي نونه قولان:
أحدهما: وهو قول جماعة أصلية، فوزنه فعلال كقرطاس.
219
الثاني: أنها زائدة فوزنه: فنعال، والمراد به هنا: المال الكثير، واختلفوا فيه هل هو محدود أم لا؟ على قولين، وعلى الأول اختلفوا في حده، فقيل: هو مئة رطل، وقيل: ألف ومئتا أوقية، وقيل: أننا عشر ألف أوقية، وقيل: ألف ومئتا دينار، وكل هذه الأقوال رويت عن النبي - ﷺ -، وعلى الثاني قال أبو عبيدة: القنطار وزن لا يحد، وقال ابن عطية: القنطار معيار يوزن به كما أن الرطل معيار.
﴿وَالْخَيْلِ﴾: والخيل فيه قولان:
أحدهما: أنه جمع لا واحد له من لفظه، بل مفرده: فرس، فهو نظير قوم ورهط ونساء.
والثاني: أن مفرده: خائل، فهو نظير ركب وراكب وتاجر وتجر وطائر وطير، وفي اشتقاقها وجهان:
أحدهما: من الاختيال، وهو العجب سميت بذلك لاختيالها في مشيتها بطول أذنابها.
والثاني: من التخيل، قيل: لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها.
﴿وَالْأَنْعَامِ﴾: جمع نعم، والنعم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهو يذكر ويؤنَّث، ويطلق على الإبل والبقر والغنم، وجمعه على: أنعام باعتبار أنواعه الثلاثة ﴿وَالْحَرْثِ﴾: مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: المحروث، والمراد به المزروع سواء كان جوباص أم بقلًا أم ثمرًا، ولم يجمع كما جمعت أخواته نظرًا لأصله وهو المصدر يقال: حرث الرجل حرثًا إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والزرع، وقال ابن الإعرابي: الحرث: التفتيش.
﴿حُسْنُ الْمَآبِ﴾: المآب (١): فعَل - بفتح العين - من آب يؤوب من باب: قال؛ أي: رجع، والأصل: المَأْوَب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة
(١) الفتوحات الإلهية.
220
قبلها، فقلبت الواو ألفًا وهو هنا اسم مصدر بمعنى الرجوع، وقد يستعمل اسم مكان أو زمان تقول: آب يؤوب أوبًا وإيابًا، فالأوب والإياب مصدرين، والمآب اسم لهما، ذكره السمين.
﴿وَرِضْوَانٌ﴾ بكسر الراء وضمها مصدران لـ (رضي) فهما بمعنى واحد، وإن كان الثاني سماعيًّا، والأول قياسيًّا، ونظير الكسر كالإتيان والقربان ونظير الضم كالشكران والكفران، فالكسر لغة أهل الحجاز والضم لغة تميم وبكر وقيس وغيلان وقيل الكسر للاسم ومنه: رضوان خازن الجنة، والضم للمصدر.
﴿بِالْأَسْحَارِ﴾: جمع سَحَر بفتح الحاء وسكونها، وقال قوم منهم الزجاج: السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر، ومنه يقال: سحر إذا أكل في ذلك الوقت، واستسحر إذا سار فيه.
البلاغة
﴿مِنَ اللَّهِ﴾: فيه مجازٌ بالحذف، والأصل من عذاب الله. ﴿شَيْئًا﴾: التنكير فيه للتقليل؛ أي: لن تنفعهم نفعًا ما ولو قليلًا. ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾؛ أي: أتى بالجملة الإسمية للدلالة على ثبوت الأمر وتحققه، وفيها التشبيه؛ لأنه شبههم بالحطب الذي لا ينتفع به إلا في الوقود، وفيها التأكيد؛ لأنه أكدها بلفظة ﴿هُمْ﴾.
﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ فيه التفات عن الحاضر إلى الغيبة، والأصل: فأخذناهم.
﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾: فيه ذكر العام وإرادة الخاص على قول عامة المفسرين: إن المراد بهم اليهود، وهذا من تكوين الخطاب.
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ الأصل: آية لكم وقدم للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والتنكير في آية للتفخيم والتهويل؛ أي: آية عظيمة.
﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ في هذا الكلام من المحسنات البديعية شبه احتباك، وهو أن يحذف من أحد متقابلين نظير ما اشتبه
221
في الآخر، والأصل (١): فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وفئة أخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، فحذف من الأولى ما أثبت مقابله في الثانية، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى، فذكر في الأولى لازم الإيمان وهو: القتال في سبيل الله، وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان: وهو الكفر.
﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾: فيه من المحسنات البديعية: التجنيس المغاير والاحتراس في ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ قالوا: لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب، فهو من باب الحزر وغلبة الظن ومن ضروب البلاغة: الإبهام في قوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾، وفي إيقاع التزيين على حب مسامحة، لأجل المبالغة. والمزين حقيقة: هو المشتهيات، قال الزمخشري: عبَّر بالشهوات مبالغة، كأنها نفس الشهوات وتبنيها على خستها؛ لأن الشهوة رذيلة عند الحكماء وفي قوله: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾، من المحسنات: التجنيس المماثل.
﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ إبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق لمعرفته ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ قال أبو السعود: التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم. ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾: التنكير فيه للتفخيم. ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ﴾ إدخال الواو في مثل هذه الصفات للتفخيم؛ لأنه يؤذن بأن كل صفة مستقلة يمدح الموصوف بها، وللدلالة على كماله في كل واحدة منها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
222
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)﴾.
المناسبة
لما مدح الله تعالى المؤمنين، وأثنى عليهم بقوله: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾.. أردفه ببيان أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية فقال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ ثم بيَّن أن الإِسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وأمر الرسول بأن يعلن باستسلامه لله، وانقياده لدين الله، وأعقبه بذكر ضلالات أهل الكتاب، واختلافهم في أمر الدين اختلافًا كبيرًا، وإعراضهم عن قبول حكم الله.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...﴾ سبب نزول هذه الآية: أن حبرين (١) من أحبار الشام قدما على النبي - ﷺ -، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي - ﷺ -.. عرفاه بالصفة فقالا له: أنت محمَّد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم، قالا: فإنا نسألك عن شيء فإن أنت أخبرتنا به.. آمنا
(١) خازن وقرطبي.
223
بك وصدقناك، قال: اسألاني، قالا: فأخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عزّ وجلّ، فأنزل الله هذه الآية، فأسلم الحبران.
وقيل (١): إن هذه الآية نزل في نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ...﴾ سبب نزولها: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية.. ردَّ الله عليهم فقال: إن الدين عند الله الإِسلام، وقال الكلبي: قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا﴾ نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ...﴾ الآية، أخرج (٢) ابن أبي حاتم وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (دخل رسول الله - ﷺ - بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دينٍ أنت يا محمَّد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه، قالا: إن إبراهيم كان يهوديًّا، فقال رسول الله - ﷺ -: هلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: ﴿يَفْتَرُونَ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾؛ أي: أخبر الله سبحانه وتعالى، وأعلم وبيّن لعباده بالدلائل السمعية والآيات العقلية ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أن الشأن والحال ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق في الوجود موجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿و﴾ شهدت ﴿الملائكة﴾ كلهم وأقرَّت بتوحيد الله تعالى بما عاينوا من عظيم قدرته تعالى
(١) الخازن والقرطبي.
(٢) لباب النقول.
224
﴿و﴾ شهد ﴿أولو العلم﴾؛ أي: أقر أصحاب العلم بذلك التوحيد، وهم الذين عرفوا وحدانية الله تعالى بالدلائل القاطعة؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقرونًا بالعلم، والمراد بهم المؤمنون كلهم، فمعنى شهادة الله لتوحيده: أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم هي: إقرارهم بتوحيده تعالى وهذه الآية تدل على أن الدرجة العالية، والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء لقَرنه الله تعالى باسمه واسم ملائكته، كما قرن اسم العلماء ويكفي في شرف العلم قوله لنبيه - ﷺ -: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ وقوله - ﷺ -: "أن العلماء ورثة الأنبياء"، ولقد أجاد من قال في بيان فضل العلم:
عِلْمُ الْعَلِيْمِ وَعَقْلُ الْعَاقِلِ اخْتَلَفَا... مَنْ ذَا الَّذِيْ مِنْهُمَا قَدْ أَحْرَزَ الشَّرَفَا
فَالْعِلْمُ قَالَ: أَنَا أَحْرَزْتُ غَايَتَهُ... وَالْعَقْلُ قَالَ: أَنَا الرَّحْمنُ بِي عُرِفَا
فَأَفْصَحَ الْعِلْمُ إِفْصَاحًا وَقَالَ لَهُ:... بِأَيِّنَا اللهُ في فُرْقَانِهِ اتَّصَفَا
فَبَانَ لِلْعَقْلِ أَنَّ الْعِلْمَ سَيِّدُهُ... فَقَبَّلَ الْعَقْلُ رَأْسَ الْعِلْمِ وَانْصَرَفَا
وقوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ حال لازمة من لفظ الجلالة، والعامل فيه معنى جملة: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: تفرد سبحانه وتعالى حالة كونه قائمًا ومتصفًا بالقسط والعدل في تدبير أمور خلقه من الأرزاق والآجال والإحياء والإماتة والرفع والخفض والثواب والعقاب، وهذا بيان لكماله تعالى في أفعاله بعد بيان كماله في ذاته، وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: لا معبود بحق في الوجود إلا هو سبحانه وتعالى، كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد، وقيل: إن الأول: وصف وتوحيد والثاني: رسم تعليم؛ أي: قولوا لا إله إلا هو، وقيل: فائدة تكرارها الإعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه، ففيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها.. فقد اشتغل بأفضل العبادات. ﴿الْعَزِيزُ﴾ في ملكه الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره، فالعزة تلائم الوحدانية، والحكمة تلائم القيام
225
بالقسط، فأتى بهما لتقرير الأمرين على ترتيب ذكرهما.
وفي "المدارك" (١): "من قرأ هذه الآية عند منامه وقال بعدها: أشهد بما شهد الله به، واستودع الله هذه الشهادة وهي عنده وديعة، يقول الله يوم القيامة: إن لعبدي هذا عندي عهدًا، وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة".
وعن عبد الله بن مسعود (٢): قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عَزَّ وَجَلَّ عبدي عهد إليَّ، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة".
وقرأ أبو الشعثاء (٣): ﴿شُهِد﴾ بضم الشين مبنيًّا للمفعول، فيكون: ﴿أَنَّهُ﴾ في موضع البدل؛ أي: شهد وحدانية الله وألوهيته. وارتفاع الملائكة على هذه على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والملائكة وأولو العلم يشهدون، وحذف الخبر لدلالة المعنى عليه.
وقرأ أبو المهلب عم محارب بن دثار: ﴿شهداءَ الله﴾ على وزن فعلاء جمعًا منصوبًا على الحال من الضمير في المستغفرين، وهو إما جمع شهيد، كظرفاء وظريف، أو جمع شاهد، كعلماء وعالم.
وروي عنه وعن أبي نهيك: ﴿شهداءُ الله﴾ بالرفع؛ أي: هم شهداء الله، وفي هاتين القراءتين: شهداء مضاف إلى لفظ الجلالة.
وذكر الزمخشري أنه قرأ: ﴿شهداءُ لله﴾ برفع الهمزة ونصبها وبلام الجر داخلة على اسم الله، فوجه النصب على الحال من المذكورين والرفع على إضمارهم، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفًا على الضمير المستكن في شهداء، وجاز ذلك لوقوع الفاصل بينهما.
وروي عن أبي المهلب: ﴿شُهُدًا﴾ بضم الشين والهاء جمع شهيد، كنذير
(١) المراح.
(٢) ابن كثير.
(٣) البحر المحيط.
226
ونذر، وهو منصوب على الحال، واسم الله منصوب.
وذكر النقَّاش: أنه قرئ كذلك بضم الدال وبفتحها مضافًا لاسم الله في القراءتين.
وقراءة الجمهور: ﴿شَهِدَ اللهُ﴾ على أنه فعل وفاعل فجملة القراءات في: ﴿شهد﴾ تسعة مع قراءة الجمهور، وكلها شاذة عدا قراءة الجمهور.
وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه بإدغام واو ﴿هُوَ﴾ في واو ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾.
وذكر ابن جرير (١) أن ابن عباس قرأ: ﴿شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم أن الدين عند الله الإِسلام﴾ بكسر: إنه، وفتح: أن الدين الإِسلام؛ أي: شهد هو والملائكة وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإِسلام، وتكون جملة قوله: أنه لا إله إلا هو جملةٌ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهي. قراءة شاذة والجمهور قرؤوها بكسر همزة: إن الدين، وفتح همزة: أنه، وكلا المعنيين صحيح، ولكن المعنى على قراءة الجمهور أظهر والله أعلم.
وقرأ أبو حنيفة: ﴿قَيِّمًا بالقسط﴾ وقرأ ابن مسعود: ﴿القائم﴾ على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم بالقسط، وكلا القراءتين شاذتان.
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾؛ أي: إن الشرع المرضي المقبول عند الله تعالى هو الإِسلام والانقياد لأمر الله ونهيه، واعتقاد ما جاءت به الرسل من صفات الله تعالى والبعث والجزاء، فلا دين مرضيًّا لله تعالى سوى الإِسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة التي عليها الرسل عليهم السلام.
وتقدم لك قريبًا أن الجمهور قرؤوا بكسر همزة: أن، على أن الجملة مستأنفة، وقال الكسائي (٢): أنا أفتحهما جميعًا يعني قوله: ﴿شهد الله أنه﴾،
(١) ابن كثير.
(٢) الشوكاني.
227
١٩ - وقوله: ﴿أن الدين الإِسلام﴾ بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الدين الإِسلام. قال ابن كيسان: أن الثانية بدل من الأولى، وهذه رواية شاذة عن الكسائي رحمه الله تعالى.
وخلاصة معنى هذه الجملة (١): أن جميع الملل والشرائع التي جاءت بها الأنبياء والرسل روحها الإِسلام، والانقياد والخضوع. وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال، وبه كان الأنبياء يوصون، فالمسلم الحقيقي مَنْ كان خالصًا من شوائب الشرك مخلصًا في أعماله مع الإيمان من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد، وهذا هو المراد بقوله جلَّ ذكره: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾.
وذلك أن الله شرع الدين لأمرين:
أحدهما: تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات، بها تستطيع التصرف في الكائنات؛ لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.
وثانيهما: إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله.
وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي؛ ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: الإِسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله وهو: دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءَه، لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به.
وخطب علي رضي الله عنه قال: الإِسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه، إن المؤمن
(١) المراغي.
228
يعرف إيمانه في عمله، والكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينَكُم دينَكُم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره؛ إن السيئة فيه تغفر وأن الحسنة في غيره لا تقبل.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ﴾ وتفرق ﴿الَّذِينَ أُوتُوا﴾ وأعطوا ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى في دين الإِسلام، وأنكروا نبوة محمَّد - ﷺ -، وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ﴾ وحصل لهم ﴿الْعِلْمُ﴾ والمعرفة بصدق محمَّد - ﷺ - بما عرفوه في كتبهم من نعته ووصفه قبل بعثته. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: ما خالفوه وأنكروه إلا لأجل الحسد الكائن منهم وطلب الرياسة لا لشُبهةٍ وخفاءٍ في أمره.
وقال الأخفش (١): في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيًا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو: خلافهم في كون نبينا - ﷺ - نبيًّا أم لا، وقيل: اختلافهم في دين الإِسلام، فقال قوم؛ إنه حق، وقال قوم: إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقًا، وقيل: اختلافهم في التوحيد، فثلثت النصارى، وقالت اليهود: عزير ابن الله. وقيل: اختلافهم في نبوة عيسى وقيل: اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهودُ على شيء.
وقيل معنى الآية (٢): وما خرج أهل الكتاب من الإِسلام الذي جاء به أنبياؤهم وصاروا مذاهب وشيعًا يقتتلون في الدين، والدين واحد، لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحد من الرؤساء، ولولا بغيهم ونصرهم مذهبًا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأي والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه.. لما حدث هذا الاختلاف، والقصد من إخبار هذا الاختلاف أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب، كما فعل مَن قبلنا،
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
229
ولكن واأسفًا وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددًا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نَزَال نَئِنَّ منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ويمدنا بروح من عنده، فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق حتى يعود المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي - ﷺ - وخلفائه الراشدين ومن تبعهم بإحسان.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾، أي: ومن ينكر بالآيات الدالة على أن الدين المرضي عند الله هو الإِسلام بأن لم يعمل بمقتضاها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ أي: المجازاة له على كفره؛ أي: فإنه يحاسبه على كفره ويجازيه عليه قريبًا، ولا يخفى ما فيه من الوعيد والتهديد.
وخلاصة هذا الكلام: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ويترك الإذعان لها.. فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات، والله سريع الحساب. والمراد بآيات الله هنا: هي آياته التكوينية في الأنفس والآفاق، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفُها عن وجهها؛ لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد. وآياتهُ التشريعية التي أنزلها على رسله. والله أعلم.
٢٠ - ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ﴾؛ أي: خاصمك يا محمَّد أهل الكتاب اليهود والنصارى أو غيرهم في أن الدين عند الله هو الإِسلام بعد قيام الحجة عليهم ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾؛ أي: أسلمت ذاتي من إطلاق الجزء وإرادة الكل، أو أخلصت عملي وعبادتي ﴿لِلِّهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده لا أشرك به في ذلك غيره ﴿و﴾ أسلم ﴿من اتبعنِ﴾ وجوهُهم لله تعالى، فهو معطوف على التاء في ﴿أَسْلَمْتُ﴾، وجاز ذلك لوجود الفصل بالمفعول، والمعنى: أنه - ﷺ - أسلم وجهه لله، وهم أسلموا وجوههم لله تعالى. وأثبت (١) الياء في: ﴿اتَّبَعَنِ﴾ نافع وأبو عمرو وصلًا، وحذفاها وقفًا، وأثبتها يعقوب وصلًا ووقفًا، والباقون حذفوها وقفًا ووصلًا
(١) الجمل.
230
موافقة للرسم، وحسَّن ذلك أيضًا كونها فاصلة ورأس آية نحو: ﴿أكرمن﴾ و ﴿أهانن﴾ وقال بعضهم: حذف هذه مع نون الوقاية خاصة فإن لم تكن نون.. فالكثير إثباتها، ومعنى الكلام: فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم - وقد كان النبي - ﷺ - يدعوا اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم، وتعودوه من التحريف والتأويل، والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله، والإخلاص له بعد أن أقيمت عليهم البراهين والبينات - وجئتهم بالحق، فقل لهم: أقبلت بعبادتي على ربي مخلصًا له معرضًا عما سواه أنا ومن اتبعني من المؤمنين.
والخلاصة: أنه لا فائدة في الجدل مع مثل هؤلاء؛ لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة وبطلت شبهات الضالين، فهو مكابرة وعناد، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.
﴿وَقُلْ﴾ يا محمَّد ﴿لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾؛ أي: لليهود والنصارى ﴿وَالْأُمِّيِّينَ﴾؛ أي: مشركي العرب الذين لا كتاب لهم، وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة؛ لأنهم هم الذين خوطبوا أولًا بالدعوة ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾؛ أي: أتسلمون بعد أن أتاكم من البينات ما يوجب الإِسلام كما أسلمت أنا ومن اتبعني، أم تصرون على كفركم وعنادكم. وهذه الجملة صورته استفهام تقريري، ومعناه: أمر؛ أي: أسلموا، كذا قاله ابن جرير وغيره وقال الزجاج: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ تهديد، والمعنى: أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإِسلام فهل علمتم بموجب ذلك أم لا تبكيتًا لهم وتصغيرًا لشأنهم في الإنصاف وقبول الحق، وتعييرًا لهم بالبلادة وجمود القريحة ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا﴾ كما أسلمتم.. ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ للفوز والنجاة في الآخرة؛ أي: ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر، وفازوا بخيري الدنيا والآخرة. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾، أي: أعرضوا عن الإِسلام وقبول الحق والاتباع لدينك.. فلن يضروك شيئًا. ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾؛ أي: ما عليك إلا إبلاغ ما أنزل إليك إليهم، وقد أدَّيته على أتم وجه وأكمله، ولست عليهم بمسيطر، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وهذا قبل الأمر بالقتال، فهو منسوخ بآية السيف. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾؛ أي: عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن، فيجازي كلًّا منهم بعمله؛ أي:
231
فهو تعالى أعلم بمن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة فوقع اليأس من اهتدائه، وبمن يُرجى له الهداية والتوفيق بعد البلاغ.
روي (١) أن رسول الله - ﷺ -: لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا، فقال - ﷺ - لليهود: "أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده، ورسوله"، فقالوا: معاذ الله، وقال - ﷺ - للنصارى: "أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله"، فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبدًا، وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾.
٢١ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: بالقرآن، وبما جاء به محمَّد - ﷺ - من اليهود والنصارى وغيرهم. فالآية وإن كانت قد نزلت في فريق من اليهود والنصارى إلا أنها عامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾؛ أي: بغير جرم ولا شبهة لديهم، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام. وقرأ الحسن شذوذًا: (ويقتّلون النّبيين) بالتشديد، والتشديد فيه للتكثير وقوله: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ (٢) حال مؤكدة؛ لأن قتل الأنبياء لا يكون حقًّا. ﴿وَيَقْتُلُونَ﴾ الدعاة ﴿الَّذِينَ يَأْمُرُونَ﴾ الناس ﴿بِالْقِسْطِ﴾ والعدل وينهونهم عن ارتكاب المعاصي والمنكر حال كون أولئك الدعاة ﴿مِنَ﴾ بعض ﴿النَّاسِ﴾. وقرأ حمزة (٣) وجماعة من غير السبعة: ﴿ويقاتلون الذين يأمرون بالقسط﴾ بالألف. وقرأها الأعمش شذوذًا: (وقاتلوا الذين يأمرون بالقسط). وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبي شذوذًا أيضًا: ﴿يقتلون النبيين والذين يأمرون بالقسط﴾.
ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وإبراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع؛ لأن كل جملة مستقلة بنفسها، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة لمن وقع عليه الفعل، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالقسط من غير الأنبياء، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان، وقيل غير ذلك.
(١) أبو السعود.
(٢) النسفي.
(٣) البحر المحيط.
روي أن اليهود قتلوا ثلاثة وأربعين نبيًّا في أول النهار، فقام مئة رجل من عباد بني إسرائيل من أتباع الأنبياء فنصحوهم وذكروهم، فقتلوهم من آخر النهار جميعًا، ففيهم نزلت هذه الآية: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾؛ أي: أخبرهم يا محمَّد وأعلمهم ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: بعذاب مؤلم موجع مهين.
وعن (١) أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أيُّ الناس أشد عذابًا يوم القيامة، قال: "رجل قتل نبيًّا، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله - ﷺ -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مئة وسبعون رجلًا من بني إسرائيل، فأمروا مَنْ قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعًا في آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم الله عَزَّ وَجَلَّ".
٢٢ - ﴿أُولَئِكَ﴾ المتصفون بالصفات المذكورة القبيحة هم ﴿الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بطلت محاسن أعمالهم في الدارين. أمَّا بطلانها في الدنيا فبإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وبما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ المال منهم غنيمةً والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم. وأما بطلانها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب، وقيل: بطلان العمل هو أن لا يقبل في الدنيا؛ ولا يجازى عليه في الآخرة. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ من عذاب الله في إحدى الدارين؛ أي: ليس لهم من ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه.
٢٣ - ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ استفهام تعجيب للنبي، أو لكل من تتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وسوء صنيعهم، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقيقته؛ أي: ألم تنظر يا محمَّد إلى سوء صنيع الذين أوتوا وأعطوا نصيبًا في الكتاب؛ أي: حظًّا عظيمًا من علم التوراة،
(١) ابن كثير.
وهم أحبار اليهود. والمراد بذلك النصيب: ما بُيِّن لهم في التوراة من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي - ﷺ - وحقيقة الإِسلام. والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقًّا من حقوقهم التي تجب مراعاتها والعمل بموجبها حال كونهم ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ﴾؛ أي: التوراة ﴿لِيَحْكُمَ﴾ ذلك الكتاب ﴿بَيْنَهُمْ﴾ والداعي لهم هو محمَّد - ﷺ -، وقرىء شذوذًا: (ليُحكَم) بالبناء للمفعول. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: ثم يُدبر جماعة منهم عن مجلس النبي - ﷺ - ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم معرضون بقلوبهم عن قبول حكم ذلك الكتاب مكذبون له، وذلك أنهم أنكروا آية الرجم من التوراة، وسألوا النبي - ﷺ - عن حد المحْصَنَين إذا زنيا، فحكم بالرجم، فقالوا: جُرت يا محمَّد، فقال: بيني وبينكم التوراة، ثم أتوا بابن صوريا، فقرأ التوراة، فلما أتى على آية الرجم سترها بكفه عنها، وقرأها على رسول الله - ﷺ - وعلى اليهود فإذا فيها: "إن المحصن والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البينة.. رُجما، وإن كانت المرأة حبلى.. تتربص حتى تضع ما في بطنها". فأمر رسول الله - ﷺ - باليهوديين، فرُجما، فغضبت اليهود لذلك وانصرفوا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ...﴾ إلخ. والقصة مذكورة في "صحيح البخاري" في كتاب التفسير.
٢٤ - ﴿ذَلِكَ﴾ التولي والإعراض ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾؛ أي؛ لن تصيبنا النار في الآخرة ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾؛ أي: أيامًا قلائل ومدة يسيرة - أربعين يومًا مدة عبادتهم العجل - ثم يخرجون منها ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ﴾؛ أي: في ثباتهم على دينهم اليهودية ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي؛ يختلقون من الكذب من قولهم: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات، وإن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنه تعالى وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.
وخلاصة ذلك: أنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالًا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادًا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كافٍ في نجاتهم. ومن استخف بوعيد الله زعمًا منه أنه غير نازل حتمًا بمن يستحقه.. تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك
حرمات الدين، ويتهاون في أداء الطاعات. وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراع السيئات. وقد ظهر ذلك في اليهود والنصارى، ثم في المسلمين، فإن كثيرًا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب للكبائر والإثم والفواحش؛ إما أن تدركه الشفاعات، أو تنجيه الكفارات؛ وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانًا من الله وفضلًا، فإن فاته ذلك.. عُذِّب على قدر خطيئته، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم.
والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح، والخُلُق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته.
أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم.. فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
٢٥ - ﴿فَكَيْفَ﴾ حالهم ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾؛ أي: جمعنا الخلائق للمجازاة ﴿لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ﴾؛ أي: في يوم لا شك في مجيئه ووقوع ما فيه وهو يوم القيامة ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ﴾؛ أي: وتوفى وتنال فيه ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ بَرَّةٍ، أو فاجرةٍ جزاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾؛ أي: عملت من خير أو شر. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم لا يظلمون في المجازاة بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم، فلا ينقص أحد من ثواب الطاعات، ولا يزاد على عقاب السيئات. والضمير عائد لكل نفس على المعنى؛ لأنه في معنى كل إنسان.
وهناك العدل الكامل والقضاء الفاصل: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)﴾.
الإعراب
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
235
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)}.
﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أن: حرف نصب ومصدر، والهاء ضمير الشأن في محل النصب اسمها. ﴿لَا﴾ نافية تعمل عمل إن ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف جوازًا تقديره موجود. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر (لا)، وجملة (لا) من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لشهد تقديره: شهد الله وبين عدم وجود معبود بحق سواه. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾: معطوف على لفظ الجلالة ﴿وَأُولُو﴾: معطوف أيضًا على الجلالة، وهو مضاف. ﴿الْعِلْمِ﴾: مضاف إليه. ﴿قَائِمًا﴾: حال من الضمير الواقع بعد ﴿إِلَّا﴾ أو من لفظ الجلالة ﴿بِالْقِسْطِ﴾ متعلق بـ ﴿قَائِمًا﴾. وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ بدل من جملة قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ الأولى بدلُ كلٍّ من كل كرره تأكيدًا. ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ في إعرابه (١) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من ﴿هُوَ﴾.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف.
الثالث: أنه نعت لـ ﴿هُوَ﴾، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي، فإنه يرى وصف الضمير الغائب.
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿الدِّينَ﴾: اسمها. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الدين ﴿الْإِسْلَامُ﴾ خبر ﴿إنَّ﴾، والجملة مستأنفة.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾.
(١) الجمل.
236
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ﴾ الواو استئنافية. ﴿ما﴾: نافية، ﴿اخْتَلَفَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿أُوتُوا﴾: فعل ماضٍ مغير، والواو نائب فاعل وهو المفعول الأول؛ لأن آتى بمعنى: أعطى ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثانٍ، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخْتَلَفَ﴾، ﴿ما﴾: مصدرية ﴿جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿بَعْدِ﴾، ﴿بَغْيًا﴾: مفعول لأجله، والعامل فيه ﴿اخْتَلَفَ﴾، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿بَغْيًا﴾.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو استئنافية، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، وفي خبره (١) الأقوال الثلاثة أعني: فعل الشرط وحده، أو الجواب وحده، أو كليهما، وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر؛ أي: سريع الحساب له. والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة، ﴿يَكْفُرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَكْفُرْ﴾، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب، ﴿الله﴾ اسمها، ﴿سَرِيعُ﴾: خبرها. ﴿الْحِسَابِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿إنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وفي الحقيقة: هذه الجملة قائمة (٢) مقام الجواب علة، وتقدير الجواب: فإن الله يجازيه ويعاقبه عن قرب فإنه سريع الحساب.
﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ الفاء فاء الفصيحة مبنية على الفتح؛ لأنها أفصحت عن جواب
(١) السمين.
(٢) أبو السعود.
237
شرط مقدر تقديره؛ إذا عرفت أن الدين المرضي عند الله الإِسلام، وأردت بيان ما تقول لمن حاجك فيه.. فأقول لك ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿حَاجُّوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه فعل شرط لإنْ. ﴿فَقُلْ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت، يعود على محمد، وجملة (إنْ) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا الشرطية المقدرة، وجملة إذا الشرطية مستأنفة. ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾: مقول محكي لـ ﴿قل﴾ منصوب بفتحة مقدرة، وإن شئت قلتَ: ﴿أَسْلَمْتُ﴾: فعل وفاعل، ﴿وَجْهِيَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَسْلَمْتُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾، ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾: الواو عاطفة ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع على الفاعلية معطوف على تاء ﴿أَسْلَمْتُ﴾، ﴿اتبع﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة تشبيهًا لهذه الكلمة برؤوس الآي: كـ ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾، ﴿أهانن﴾ - في محل النصب مفعول به.
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾.
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قل﴾. ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: فعل ماضٍ مغير، ونائب فاعل، ومفعول ثان؛ لأن أتى بمعنى: أعطى، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. ﴿وَالْأُمِّيِّينَ﴾: معطوف على الموصول. ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾: مقول محكى لـ ﴿قل﴾، وإنْ شئت قلت: الهمزة للاستفهام التقريري، ولكن فيه معنى الأمر كما مرَّ ﴿أسلمتم﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قل﴾.
﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا امتثلت أمرنا بالقول لهم، وأردت بيان ما يترتب على ذلك القول.. فأقول لك
238
﴿إن أسلموا﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿أَسْلَمُوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿فَقَدِ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿اهْتَدَوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: الواو عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه شرطًا لها. ﴿فَإِنَّمَا﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، ﴿إنما﴾: أداة حصر بمعنى: ما النافية وإلا المثبتة. ﴿عَلَيْكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدَّم ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية ﴿الله﴾: مبتدأ ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر ﴿بِالْعِبَادِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها. ﴿يَكْفُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَكْفُرُونَ﴾، ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَكْفُرُونَ﴾ ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿يقتلون﴾؛ أي: حال كونهم ملتبسين بغير حق. ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَكْفُرُونَ﴾ ﴿يَأْمُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿بِالْقِسْطِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَأْمُرُونَ﴾. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَأْمُرُونَ﴾ تقديره: حالة كونهم كائنين من بعض الناس، فهي حال مؤكدة؛ لأن من المعلوم أنهم من جملة الناس. ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾: الفاء رابطة لخبر ﴿إن﴾ باسمها
239
جوازًا؛ لما في الموصول من العموم. وعبارة السمين: ولما ضُمّن هذا الموصول معنى الشرط في العموم.. دخلت الفاء في خبره، وهو قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾. وخالف الأخفش فمنع دخولها، والسماع حجة عليه كهذه الآية. ﴿بشر﴾: فعل أمر ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: جار ومجرور وصفة، متعلق بـ ﴿بشرهم﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢)﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الجمع ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾: جار ومجرور ومعطوف، متعلق بـ ﴿حَبِطَتْ﴾، ﴿وَمَا لَهُمْ﴾: الواو عاطفة ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿ما﴾ أو لمبتدأ مؤخر، ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿نَاصِرِينَ﴾: اسم ﴿ما﴾ مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على جملة حبطت على كونها صلة الموصول.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ﴾.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تر﴾، ورأى هنا علمية مضمنة معنى الانتهاء لتصح التعدية بإلى، والمعنى: ألم تعلم يا محمَّد منتهيًا علمك إلى قصة الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، ذكره السمين. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿أُوتُوا﴾: فعل مغير ونائب فاعل. ﴿نَصِيبًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نَصِيبًا﴾. ﴿يُدْعَوْنَ﴾ فعل مضارع مغير، ونائب فاعل، والجملة في محل النصب حال من ﴿الَّذِينَ﴾. ﴿إِلَى كِتَابِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُدْعَوْنَ﴾.
﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.
240
﴿لِيَحْكُمَ﴾: اللام حرف جر وتعليل. (يحكم): منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام (كي)، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْكِتَابِ﴾، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يحكم﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: لحكمه، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُدْعَوْنَ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿يَتَوَلَّى فَرِيقٌ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿فَرِيقٌ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُدْعَوْنَ﴾، ﴿وَهُم﴾: الواو واو الحال ﴿هم معرضون﴾: مبتدأ وخبر، والجملة حال من ﴿فَرِيقٌ﴾، وصح مجيء الحال منه لوصفه بالجار والمجرور.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: الباء حرف جر، ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر، والهاء: اسمها. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، وجملة ﴿قَالُوا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ تقديره: بأنهم قائلون، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالياء تقديره: ذلك بقولهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك التولي والإعراض كائن بسبب قولهم، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة. ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾: مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿لَن﴾: حرف نفي ونصب. ﴿تَمَسَّنَا النَّارُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، منصوب بـ ﴿لَن﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَيَّامًا﴾: منصوب على الظرفية، ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾: صفة لأيامًا، والظرف متعلق بـ ﴿تَمَسَّنَا﴾، ﴿وَغَرَّهُمْ﴾: الواو عاطفة. ﴿غر﴾: فعل ماضٍ، الهاء: مفعول به. ﴿فِي دِينِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿غرهم﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿يَفْتَرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر ﴿كان﴾ تقديره: ما كانوا مفترين، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يفترونه، وجملة (غرهم) في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿قَالُوا﴾ على كونها خبر ﴿أَنَّ﴾.
241
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)﴾.
﴿فَكَيْفَ﴾: الفاء بمعنى الواو الاستئنافية. (كيف): اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم لمبتدأ محذوف تقديره: فكيف حالهم، مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، حالهم: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف مجرد عن الشرط، والظرف متعلق بالمبتدأ المحذوف. ﴿جَمَعْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذا، ﴿لِيَوْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَمَعْنَاهُمْ﴾. ﴿لا﴾: نافية، ﴿رَيْبَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿يوم﴾. وفي "الفتوحات" (١): قوله: ﴿فَكَيْفَ﴾ ردٌّ لقولهم المذكور، وإبطال لما غرهم باستعظام ما سيقع لهم، وتهويل لما يحيق بهم من الأهوال. و ﴿كيف﴾: خبر مبتدأ محذوف قدَّره بقوله: حالهم. وعبارة السمين: ويجوز أن يكون ﴿كيف﴾ خبرًا مقدمًا، والمبتدأ محذوف تقديره: فكيف حالهم؟ وقوله: ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه هو العامل في ﴿كيف﴾ إن قلنا: إنها منصوبة بفعل، وإن قلنا: إنها خبر لمبتدأ مضمر، وهي منصوبة انتصاب الظرف.. كان العامل في إذا: الاستقرار العامل في ﴿كيف﴾؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا: إنها اسم غير ظرف بل لمجرد السؤال.. كان العامل فيها نفس المبتدأ الذي قدرناه؛ أي: كيف حالهم في وقت جمعهم، وقوله: ﴿ليوم﴾ متعلق بـ ﴿جَمَعْنَاهُمْ﴾؛ أي: لقضاء يوم أو لجزاء يوم و ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: صفة للظرف. انتهى. ﴿وَوُفِّيَتْ﴾: الواو عاطفة. ﴿وُفي﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، التاء علامة التأنيث؛ لاكتساب الفاعل التأنيث من المضاف إليه. ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿لَا رَيْبَ﴾ على كونها صفة لـ ﴿يوم﴾، والرابط محذوف تقديره: وتوفى فيه كل نفس. ﴿مَا كَسَبَتْ﴾: ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثانٍ
(١) الجمل.
242
لـ ﴿وفيت﴾. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: كسبته ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾: الواو حالية ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حل من قوله: ﴿كل نفس﴾.
وذكر (١) ضمير ﴿هم﴾ وجمعه باعتبار معنى كل نفس؛ لأنه في معنى كل الناس، كما اعتبر المعنى في قولهم: ثلاثة أنفس، بتأويل الأناس.
التصريف ومفردات اللغة
﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾: يقال: شهد الشيء يشهد شهادةً من باب: علم، إذا بين وأعلم وأخبر. قال الزجاج: الشاهد: هو الذي يعلم الشيء ويبيِّنه، فقد دلَّنا الله على وحدانيته بما خلق وبيَّن.
﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾: القسط: العدل يُجمع على أقساط، يقال: قسط قسطًا من باب: ضرب ونصر، وقسط الوالي وأقسط إذا عدل في حكمه.
﴿الْحَكِيمُ﴾ وعدل (٢) عن صيغة الحاكم إلى الحكيم؛ لأجل المبالغة، ولمناسبة العزيز. ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع أن الدين عند الله هو الإِسلام؛ إذ حكم في كل شريعة بذلك.
﴿الدِّينَ﴾: الجزاء، ويطلق على الملة وهو المراد هنا، وسُمّي الدِّين دِينًا؛ لأن الشخص يدان به.
﴿الْإِسْلَامُ﴾: الاستسلام والانقياد التام، ويقال: أسلم زيد إذا تدين بدين الإِسلام، وأخلص عمله لله. فالإِسلام إخلاص العمل والعقيدة لله تعالى.
﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ﴾؛ أي: جادلوك ونازعوك، يقال: حاجَّه حجاجًا ومحاجَّةً إذا خاصمه.. فحَجَّه وغلبه، ويقال: تحاجَّا إذا تخاصما.
(١) الكرخي.
(٢) النهر.
243
﴿غرهم﴾ فتنهم، يقال: غر يغر غرورًا إذا خدع، فهو من المضاعف المعدَّى، والغِرُّ: الصغير، والغريرة: الصغيرة، سميا بذلك؛ لأنهما ينخدعان بالعجلة، والغرة منه يقال: أخذه على غرة؛ أي: تغفل وخداع.
البلاغة
﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ قال الزمخشري (١): شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آيته الناطقة بالتوحيد، كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، بشهادة الشاهد في البيان والكشف على طريق الاستعارة التصريحية، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك، واحتجاجهم عليه. انتهى.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: كرر التهليل للتوكيد، أو لأن (٢) الأول: قول الله، والثاني: حكاية قول الملائكة وأولي العلم، أو لأن الأول جرى مجرى الشهادة، والثاني جرى مجرى الحكم بصحة ما شهد به الشهود. ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ الجملة معرفة الطرفين، فتفيد الحصر؛ أي: لا دين إلا الإسلام.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ في التعبير (٣) عن اليهود والنصارى بقوله: ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ زيادة تقبيح لهم وتشنيع عليهم، فإن الاختلاف بعد إيتاء الكتاب أقبح، وقوله: ﴿إلا من بعد﴾ الخ زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد العلم أزيدُ في القباحة، وقوله: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ زيادة ثالثة؛ لأنه في حيز الحصر، فكأنه قال: وما اختلفوا إلا بغيًا؛ أي: لا لشبهة ولا لدليل، فيكون أزيد في القباحة ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ﴾ إظهار الاسم الجليل مع كون المقام للإضمار؛ لتربية المهابة، وإدخال الروعة في النفس.
(١) البحر المحيط.
(٢) الكرخي.
(٣) الجمل.
244
﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾: فيه إطلاق الجزء وإرادة الكل، ففيه مجاز مرسل علاقته الكلية، وإنما خص الوجه؛ لشرفه ولاشتماله على معظم القوى والمشاعر، ولأنه معظم ما تقع به العبادة من السجود والقراءة، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء.
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: وضع (١) الموصول موضع الضمير؛ لرعاية التقابل بين وصفي المتعاطفين؛ لأن الأميين يقابلون بالذين أوتو الكتاب.
﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: الأصل في البشرة أن تكون في الخير، واستعمالها في الشر؛ للتهكم، ويسمَّى هذا: الأسلوب التهكمي؛ حيث نزل الإنذار منزلة البشارة السارة، كقوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨)﴾، وهو أسلوب مشهور.
قال أبو حيان (٢): ومن ضروب البلاغة في هذه الآيات:
منها: الاستفهام الذي يرد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾.
ومنها: الطباق المقدَّر في قوله: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ ووجهه أن الإِسلام: الانقياد إلى الإِسلام والإقبال عليه، والتولي ضد الإقبال، والتقدير: وإن تولوا.. فقد ضلوا، والضلالة ضد الهداية.
ومنها: الحشو الحسن في قوله: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ فإنه لم يقتل قطٌّ نبي بحق، وإنما أتى بهذه الحشوة؛ ليتأكد قبح قتل الأنبياء ويعظم أمره في قلب العازم عليه.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ﴾ تأكيدًا لقبح ذلك الفعل.
ومنها: الزيادة في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ زاد الفاء إيذانًا بأن الموصول ضمن معنى الشرط.
(١) أبو السعود.
(٢) البحر المحيط.
245
ومنها: الاستفهام الذي أريد به التعجيب من حالهم والاستعظام لمقالتهم في قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾، وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب، وكذا أكثر استفهامات القرآن؛ لأنها من عالم الشهادة، وإنما استفهامه تعالى تقريع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
246
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)﴾.
المناسبة
لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة دلائل التوحيد والنبوة، وصحة دين الإِسلام، وحال النبي - ﷺ - مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم على الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل.. أردف بذكر هذه الآيات الآتية تسليةً للنبي - ﷺ - في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرًا له بقدرته تعالى على نصره وإعلاء دينه، وكأنه يقول له: إذا توَلَّى هؤلاء الجاحدون عنك، ولم يقنعهم البرهان؛ فظل المشركون على جهلهم، وأهل الكتاب في غرورهم.. فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء.
قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها.. ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة
247
الخلق، وكانت الآيات السابقة في الكفار، فنهوا عن موالاتهم، وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه؛ إذ هو تعالى مالك الملك.
أسباب النزول
٢٦ - قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ...﴾ روى (١) الواحد عن ابن عباس وأنس بن مالك - رضي الله عنهما -: أنه لما افتتح رسول الله - ﷺ - مكة.. وعد أمته مُلك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمدٍ ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدًا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله - ﷺ -: سأل ربه عز وجلّ أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله هذه الآية، وقيل: إن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلًا جاء بنقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم فنزلت هذه الآية.
وروي (٢) أنه - ﷺ -: لما خط الخندق في عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعًا، وأخذوا يحفرون.. خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم، لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي - ﷺ - ليخبره، فذهب إليه، فجاء رسول الله، وأخذ المعول من سلمان، فلما ضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها؛ أي: المدينة، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر وكبّر المسلمون، وقال - ﷺ -: "أضاء لي منها قصور الحيرة، كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي منها قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة على كلها، فأبشروا"، فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما
(١) المراغي.
(٢) المراح.
248
تحفرون من الخوف، فنزلت هذه الآية.
وروي أنها نزلت في شأن قريش لقولهم لرسول الله - ﷺ -: كسرى ينام على فرش الديباج، فإن كنت نبيًّا فأين ملكك؟
قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ...﴾ سبب نزولها (١): ما روى ابن عباس رضي الله عنهما: كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد يبطنون بنفرٍ من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية.
وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كان يظهر المودة لكفار مكة.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أُبي وأصحابه، كانوا يتولون المشركين واليهود، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.
وقيل: إن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله، إن معي خمس مئة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...﴾ قيل: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى؛ حيث قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فنزلت هذه، فعرضها رسول الله - ﷺ - عليهم، فلم يقبلوها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وقف رسول الله - ﷺ - على قريش، وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف، وهم يسجدون
(١) الخازن.
249
لها، فقال: يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، فقالت قريش: إنما نعبدها حبًّا لله؛ لتقربنا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية.
وقيل: إنَّ نصارى نجران قالوا: إنما نقول هذا القول في عيسى حبًّا لله وتعظيمًا له، فأنزل: قل يا محمَّد إن كنتم تحبون الله.
التفسير وأوجه القراءة
﴿قُلْ﴾ يا محمَّد معظمًا لربك وشاكرًا له ومفوضًا إليه ومتوكلًا عليه ﴿اللَّهُمَّ﴾؛ أي: يا إلهي ويا معبودي ويا ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ ويا صاحب السلطنة والغلبة العامة لجميع الكائنات، وقيل: يا مالك الخلق من العرش إلى الفرش، ومدبرهم ومصرفهم، وقيل: يا مالك الدنيا والآخرة أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى، والتصرف التام في تدبير الأمور، وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات، فأنت ﴿تُؤْتِي﴾ وتعطي ﴿الْمُلْكِ﴾ الخاص والسلطنة والغلبة ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ وتريد إيتاءه وإعطاءه له من خلقك، فتملكه وتسلطه على من تشاء، أو تعطي النبوة من تشاء، كمحمد - ﷺ -؛ لأنها أعظم مراتب الملك؛ وذلك لأن النبي - ﷺ - له الأمر على الخلائق من جهة مالك الملوك، لا بالسياسة والأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ﴾؛ أي: تسلب الملك ﴿مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أن تسلبه منه؛ إما بالموت، أو إزالة العقل، أو إزالة القوى والحواس، أو بورود التلف على الأموال، أو بانحراف الناس عن الطريق السوي الحافظ للملك؛ من العدل، وحسن السياسة، وإعداد القوة بقدر المستطاع؛ كما نزعه من بني إسرائيل وغيرهم؛ بظلمهم وفسادهم، أو تنزع النبوة ممن تشاء، وتؤتيها من تشاء. ومعنى: نَزْعِها: نقلها من قومٍ إلى قومٍ؛ كما نقلها من بني إسرائيل إلى العرب، فأعطاها محمدًا - ﷺ - فإنه لا نبي بعده، ولم يشركه في نبوته ورسالته أحد. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ إعزازه بإعطائه الملك والسلطنة، وتنصره على عدوه، أو بالإيمان والحق وبالأموال الكثيرة من الناطق والصامت، وبإلقاء الهيبة في قلوب الناس، أو بالنبوة والرسالة، كمحمد - ﷺ - ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ إذلاله بسلب ملكه، وتسليط عدوه عليه، أو بالكفر والباطل، أو بنزع النبوة منهم وضرب الجزية عليهم؛ كاليهود، فأنت
250
المعطي (١) وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله محمَّد - ﷺ -، وعلى هذه الأمة؛ لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن مَن كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيًّا من الأنبياء ولا رسولًا من الرسل، في العلم بالله، وشريعته، وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع. فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار.
واعلم: أن للعزة آثارًا وللذل مثلها؛ فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكًا للقلوب بجاهه أو علمه، النافع للناس مع بسطة في الرزق، وإحسان إلى الخلق.
والذليل يرضى بالضيم والمهانة، ويضعف عن حماية الحريم، ومقاومة العدو المهاجم، ولا عز أعظم من الاجتماع والاتفاق والتعاون على نشر دعوة الحق، ومقاومة الباطل، إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده، فأعدوا لكل أمر عدته، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة، فقد كان المشركون في مكة، واليهود ومنافقوا العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي - ﷺ - والمؤمنين، ولكن لم يغنِ ذلك عنهم شيئًا كما قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ الآية.
والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا، انظر إلى الشعوب الأرمية في شرق إفريقيا، على كثرة عدد كل شعب منها كيف استأمرها، وتحكم فيها ملوك الحبشة، على قلة عددهم. وما ذلك إلا لفشو الجهل، وتفرق الكلمة، والتخاذل في مقاومة الغاصب، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته،
(١) ابن كثير.
251
والسعي في إزالة طغيانه وتحكمه في الرقاب والبلاد، هذه مصيبة ما أعظمها. فإنا لله وإنا إليه راجعون، فنسأل الله أن ينصر المسلمين على أعدائهم، ويردَّ إليهم أراضيهم بتوفيقهم كلمة الحق. آمين.
﴿بِيَدِكَ﴾ يا إلهي لا بيد غيرك ﴿الْخَيْرُ﴾ كله من الإعزاز والنصرة والغنيمة، وكذا بيدك الشر من الإذلال والخذلان والهزيمة، فهو من باب الاكتفاء. إلا أنه خص الخير بالذكر؛ لأنه المنتفع به والمرغوب فيه، ولأنه المناسب للمقام، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي، وضعف أتباعه، وقلة عددهم، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز والنصر، وأن يذكره بأن الخير كله بيده فلا يعجزه أن يعطي نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطنة ما وعدهم، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم، كما قال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥)﴾.
واليد صفة ثابتة له تعالى نؤمن بها ولا نكيفها ولا نمثلها، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ كما هو المذهب الأعلم الأسلم الذي عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ﴿إِنَّكَ﴾ يا إلهي ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ تريده من إيتاء الملك لمن تشاء ونزعه منه، وإعزاز من تشاء وإذلال من تشاء ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر عليه ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك.
٢٧ - ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ﴾؛ أي: إنك يا إلهي بقدرتك تدخل بعض ساعات الليل ﴿فِي النَّهَارِ﴾ فيكون النهار أطول بقدر ما نقص من الليل حتى يكون النهار خمسة عشر ساعة، وذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات، وذلك غاية قصر الليل؛ كما يكون في زمن الصيف ﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ﴾؛ أي: وتدخل بعض ساعات النهار ﴿فِي اللَّيْلِ﴾ فيكون الليل أطول بقدر ما نقص من النهار حتى يكون الليل خمسة عشر ساعة، وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات، وذلك غاية قصره؛ كما يكون في زمن الشتاء.
252
وقيل (١): المراد أنه تعالى يأتي بسواد الليل عقيب ضوء النهار، ويأتي بضوء النهار بعد ظلمة الليل. والقول الأول أصح وأقرب إلى معنى الآية؛ لأنه إذا نقص الليل كان ذلك القدر زيادة في النهار، وبالعكس وهو معنى: الولوج.
والخلاصة: أنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الملوين الليل والنهار ما يكون سببًا في نقص الآخر، فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتي النبوة والملك من تشاء؛ كمحمد وأمته من العرب، وتنزعهما ممن تشاء؛ كبني إسرائيل، فما مثل تصرفك في شؤون الناس إلا مثل تصرفك في الليل والنهار.
﴿و﴾ إنك يا إلهي ﴿تخرج الحي﴾ حياة معنوية ﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾ موتًا معنويًّا؛ كالعالم من الجاهل، والمؤمن من الكافر؛ كعكرمة من أبي جهل؛ لأن المؤمن حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد، أو حياة وموتًا حسيين؛ كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة.
﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ﴾ موتًا معنويًّا أو حسيًّا ﴿مِنَ الْحَيِّ﴾ حياة معنوية أو حسية؛ كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن؛ ككنعان من سيدنا نوح عليه السلام، وكالنطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر، وكذلك سائر الحيوان.
﴿و﴾ إنك يا إلهي ﴿ترزق﴾ وتعطي ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ وتريد رزقه رزقًا كثيرًا ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ومقدار لا يعرف الخلق عدده، ومقداره لكثرته وإن كان معلومًا عنده تعالى يعني من غير تضييق ولا تقتير، بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه.
والخلاصة: أن من قدر على تلك الأفعال العجيبة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب.. فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم، ويذلهم، ويؤتيه العرب، ويعزهم فإن الأمر كله بيده، وفي بعض الكتب السالفة: أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني.. جعلتهم
(١) الخازن.
253
عليهم رحمة، وإنْ العباد عصوني.. جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشغلوا بسب الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم. وهو معنى قوله عليه السلام: "كما تكونوا يولى، عليكم" وقيل معنى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: يرزقه بلا تكلف ولا تعب ولا ضيق؛ أي: ومن غير توقف على عمل منا، وإلا فلو توقف رزقه على عمل منا.. لما أعطانا شيئًا أبدًا، فسبحان الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.
وقال أبو العباس المقري (١): ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى: التعب، كما في هذه الآية، وبمعنى: العدد، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وبمعنى: المطالبة؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وشدد حفص ونافع وحمزة والكسائي (٢): ﴿الْمَيِّتِ﴾ في هذه الآية. وفي الأنعام والأعراف ويونس والروم وفاطر زاد نافع تشديد الياء في قوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ في الأنعام، ﴿والأرض الميتة﴾ في يونس، و ﴿لحم أخيه ميتًا﴾ في الحجرات، وقرأ الباقون بتخفيف ذلك، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال؛ كما نقول: لَيْن ولَيِّن وهيْن وهيّن، ومن زعم أن المخفف لما قد مات، والمشدد لما لم يمت.. فيحتاج إلى دليل.
٢٨ - ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لا يجعل المؤمنون ﴿الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: أصدقاءً وأنصارًا وأعوانًا ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: من غير المؤمنين وسواهم؛ أي (٣): لا يوال المؤمنون الكافرين لا استقلالًا ولا اشتراكًا مع المؤمنين، وإنما الجائز لهم قصر الموالاة والمحبة على المؤمنين بأن يوالي بعضهم بعضًا فقط، فقوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال من الفاعل؛ أي: حال كون المؤمنين متجاوزين بموالاتهم المؤمنين؛ أي: تاركين قصر الولاية عليهم، وذلك الترك يصدق
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
254
بصورتين كونها مشتركة بين الكفار والمؤمنين، وكونها مخصصة بالكفار؛ أي: لا يصطف (١) المؤمنون الكافرين، فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشؤون الدينية، ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين؛ إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان.
وخلاصة هذا: نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار، أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإِسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب. ومن ثَمَّ تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين.
فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المؤمنين.. فلا مانع منها، فقد حالف النبي - ﷺ - خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا.
واعلم أن كون المؤمن مواليًا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون راضيًا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع؛ لأن الرضا بالكفر كفر.
وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع.
وثالثها: الركون إلى الكفار والمعونة لهم والنصرة، إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهيٌّ عنه؛ لأن المُوالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان دينه والرضا بطريقته، وذلك يخرجه عن الإِسلام، فهذا هو الذي هَدَّد الله فيه بقوله الآتي: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾، وقرأ الضبي شذوذًا: لا يتخذُ برفع الذال على النفي، والمراد به: النهي، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي وذلك شذوذًا كما سبق بيانه، قال أبو حيان (٢): وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلا ما فسح
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
255
لنا فيه من اتخاذهم عبيدًا، والاستعانة بهم استعانة العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم، فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه، ولسنا ممنوعين منه، فالنهي ليس على عمومه. انتهى.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾؛ أي: اتخاذ الكافرين أولياء بالاستقلال، أو بالاشتراك مع المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين؛ بنقل الأخبار إليهم وإظهار عورة المسلمين لهم، أو يودهم ويحبهم ﴿فَلَيْسَ﴾ ذلك الموالي ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من ولاية الله ودينه ﴿فِي شَيْءٍ﴾ قليل ولا كثير؛ أي: فليس بمطيع لله ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في آية أخرى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، وهذا أمر معقول من أن ولاية المولى معاداة أعدائه، وموالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾؛ أي: إلا أن تخافوا أيها المؤمنون من الكفار مخافة وضررًا؛ أي: إلا أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه والاحتراز منه؛ بأن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك، أو مالك، فحينئذٍ يجوز إظهار الموالاة وإبطان المعاداة؛ أي: لا تتخذوا الكفار أولياء ظاهرًا أو باطنًا في حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم وخوفكم من جهتهم اتقاءً ومخافةً.
والمعنى: نهى (١) الله سبحانه وتعالى المؤمنين من موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا ومالًا حرامًا، أو غير ذلك من المحرمات، ومن غير أن يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع صحة النية.
وخلاصة الكلام (٢): أن ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شي تتقونه منهم، فلكم حينئذٍ أن تتقوهم بقدر ما يُتقى ذلك الشيء؛ إذ القاعدة الشرعية أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح،
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
256
وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر، فأولى أن تجوز لمصلحة المؤمنين، وإذًا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع خطر، أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولا تخص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.
وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية؛ بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق؛ لأجل توقي ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال.
فمن نطق بكلمة الكفر مكرهًا وقايةً لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان.. لا يكون كافرًا، بل يُعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر.. فوافقها مكرهًا وقلبه مليء بالإيمان، وفيه نزلت الآية: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)﴾.
وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم، حين أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - ﷺ -، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه، ودعا الآخر فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصمُّ ثلاثًا، فقدمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله - ﷺ - فقال: "أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئًا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تَبِعة عليه". وهي من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائمًا، ومن ثمَّ وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان أن لا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، قال: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾.
وكان النبي - ﷺ - وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين، ويصبرون عليه.
257
ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم، وبذل المال لهم؛ لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله - ﷺ -: "ما وقى به المؤمن عرضه، فهو صدقة".
وعن عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله - ﷺ - وأنا عنده، فقال رسول الله - ﷺ -: "بئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة، ثم أذن له، فألان له القول"، فلما خرج.. قلت: يا رسول الله قلت ما قلت، ثم ألنتَ له القول، فقال: "يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه" رواه البخاري وروى قوله - ﷺ - "إنا لنبَشُّ - نبتسم - في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتقليهم - تبغضهم" - وقرأ الجمهور: ﴿تُقَاةً﴾، وأمال الكسائي: ﴿تُقَاةً﴾ و ﴿حق تقاته﴾، ووافقه حمزة هنا. وقرأ ورش بين اللفظين، وفتح الباقون وقرىء: ﴿تقية﴾.
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: يخوفكم الله ﴿نَفْسَهُ﴾؛ أي: غضبه وسخطه عليكم؛ بأن ترتكبوا المنهي، أو تخالفوا المأمور، أو توالوا الكفار، فتستحقوا غضبه وعقابه على ذلك كله، فالكلام على حذف مضاف، وفائدة ذكر: ﴿نَفْسَهُ﴾ الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى، وهو القادر على إنفاذه، ولا يعجزه شيء عنه.
وفي ذلك وعيد شديد، وتهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه؛ لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقِب وقدرته. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ لا إلى غيره ﴿الْمَصِيرُ﴾ والمرجع؛ أي: رجوع جميع الخلائق بالبعث من القبور إلى الله، فيجازي كلًّا على عمله إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، والمعنى: فاحذروه، ولا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه، وموالاة أعدائه، وهو وعيد آخر أيضًا.
٢٩ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾؛ أي: تسروا وتستروا ما في قلوبكم من موالاة الكفار ومودتهم، أو من البغض والعداوة لمحمد - ﷺ - إن قلنا: إن الآية نزلت في حق المنافقين واليهود، وإنما ذكر الصدر؛ لأنه وعاء القلب. ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾؛ أي: أو تظهروا ما في قلوبكم من مودة الكفار قولًا وفعلًا، أو تظهروا ما في قلوبكم من بغض محمَّد وعداوته بالشتم له والطعن والمحاربة له
﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾؛ أي: يحفظه الله عليكم، فيجازيكم به ﴿و﴾ هو سبحانه وتعالى ﴿يعلم﴾ جميع ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الخير والشر والسر والعلانية، وهذه الجملة مستأنفة وليست بمعطوفة على جواب الشرط، وهي من إتمام التحذير، يعني: أنه تعالى إذا كان لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض.. فكيف يخفى عليه حالكم، وموالاتُكم الكفار، وميلكم إليهم بقلوبكم؟.
والمعنى: أنه تعالى يعلم ما تنطوي عليه قلوبكم إذ توالون الكفار، أو توادونهم، أو تتقون منهم ما تتقون. فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر.. جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان.. غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين، ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض؛ لأنه الخالق لها، كما قال: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أهل السموات والأرض وثوابهم وعقابهم ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر، فهو يقدر على عقوبتهم، فلا تجترئوا على عصيانه وموالاة أعدائه؛ إذ ما من معصية خفيةً كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها، قادر على عقاب فاعلها، وقدرته نافذة في جميع ذلك، وهذا (١) تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته؛ لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظر مَن أنظر منهم، فإنه يمهل، ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا:
٣٠ - ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾؛ أي: اذكروا واحذروا عقوبته ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾، وتصيب كل نفس فيه جزاء ما عملته وكسبته من خير؛ وهو يوم القيامة حال كونه محضرًا؛ أي: مكتوبًا في ديوانها لم ينقص منه شيء، وتسر به. وقرأ الجمهور: ﴿مُحْضَرًا﴾ - بفتح الضاد - اسم مفعول، وقرأ عبيد بن عمير شذوذًا: (محضِرًا) - بكسر الضاد - اسم فاعل؛ أي: محضرًا للجنة، أو محضرًا مسرعًا به إلى الجنة من قولهم: أحضر الفرس إذا جرى وأسرع. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ مبتدأ، خبره جملة قوله:
(١) ابن كثير.
259
﴿تَوَدُّ﴾؛ أي: والذي عملته وكسبته نفس من سوء وعصيان حالة كونه محضرًا ومكتوبًا في ديوانها تود وتتمنى وتحب ﴿لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾؛ أي: تتمنى كون مسافة بعيدة طويلة بينها وبين ذلك السوء خوفًا من جزائه وعقوبته، قيل: كما بين المشرق والمغرب.
فما رأى (١) من عمله حسنًا.. سرَّه ذلك، وأفرحه، وما رأى من قبيحٍ.. ساءَه وغصه وود لو أنه تبرأ منه، وكان بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان قرينًا به في الدنيا، وهو الذي جرأه على فعل السوء: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾، ثم قال تعالى مؤكدًا ومهددًا ومتوعدًا: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾؛ أي: يخوفكم عقابه، والعني: احذروا من سخط الله؛ بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء. ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وكرر هذه الجملة؛ إما للتأكيد، والأحسن ما قاله سعد الدين التفتازاني: إن ذكره أولًا للمنع من موالاة الكافرين، وثانيًا للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر، ثم قال جل جلاله مرجيًا لعباده؛ لئلا ييئسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾؛ أي: شديد الرحمة بهم؛ حيث قطع عذرهم ببيان ذلك في زمن يسع التوبة والرجوع إليه فيه، ومن جملة رأفته بهم: كثرة التكرار والتأكيد في الكلام؛ لعله يصل إلى قلوب السامعين، فيعملوا بمقتضاه.
قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته؛ لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة.. دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. انتهى.
ومن رأفته أيضًا أن جعل الفطرة الإنسانية ميَّالةً بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشرِّ في النفس قابلًا للمحو بالتوبة والعمل الصالح.
(١) ابن كثير.
260
٣١ - ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾: مناسبة الآية لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى جلال سلطانه، وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه، وأكد ذلك بالوعيد الشديد.. ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله، وامتثال أوامره التي جاء بها، واجتناب ما نهى عنه، وبذلك يكون المرء أهلًا لمحبته، مستحقًا لغفران ذنوبه.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾؛ أي: تريدون محبة الله وطاعته، وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبًا للثواب فيما عنده ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾؛ أي: فاقتدوا بي بامتثال ما نزل به الوحي منه إليَّ ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: يرضى الله عنكم أعمالكم ويثبكم عليها ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾؛ أي؛ ويتجاوز لكم عما فرط منكم من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة، فيقربكم من جنات عزِّه، ويبوئكم في جوار قدسه؛ إذ في هذا الاتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل، ويمحوان منها ظلمة الباطل، وأثر ذلك: المغفرة ورضوان الله.
وهذا حجة على من يدعي محبة الله في كل زمان، وأعماله تكذب ما يقول؛ إذ كيف يجتمع الحب مع الجهل بالمحبوب، وعدم العناية بأوامره ونواهيه؟ فهو كما قال الورَّاق:
تَعْصِي الإِلهَ وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هَذَا لَعَمْرِي في الْقِيَاسِ بَدِيعٌ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحبُّ مَطِيعُ
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لمن تحبب إليه بطاعته ﴿رَحِيمٌ﴾ بمن تقرب إليه باتباع نبيه في الدنيا والآخرة؛ إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل، فيغفر لها ما فرط من زلاتها، ويتجاوز عن سيئاتها.
فائدة: والمحبة (١) ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقربها - أي: النفس - إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا
(١) الكرخي.
لله عَزَّ وَجلَّ، وأن كل ما يراه كمالًا من نفسه، أو من غيره، فهو من الله وبالله وإلى الله.. لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول - ﷺ - في عبادته والحرص على مطاوعته، قاله القاضي.
وقال بعضهم: إن محبة العبد لله عبارة عن: إعظامه وإجلاله وإيثار طاعته واتباع أمره ومجانبة نهيه، ومحبة الله للعبد عبارة عن: ثنائه عليه ورضاه عنه وثوابه له وعفوه عنه، فذلك قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾، وقيل (١): محبة الله: معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به بذكره ودوام الأنس به. وقيل: علامة المحبة أن يكون دائم التفكر، كثير الخلوة، دائم الصمت، لا يبصر إذا نظر، ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أُصيب، ولا يصرخ إذا أصاب، ولا يخشى أحدًا، ولا يرجوه. وروي أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ الآية قال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين لأصحابه: إن محمدًا يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه؛ كما أحبت النصارى عيسى بن مريم. فأنزل الله عزّ
٣٢ - وجلّ أمرًا لكل أحد من خاص وعام ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾؛ أي: قل لهم يا محمَّد: أطيعوا الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله باتباع سنّته، والاهتداء بهديه.
وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته؛ لأنه رسوله، لا كما تقول النصارى في عيسى.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورًا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم على ملة إبراهيم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله، فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به، المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
(١) النسفي.
262
الْكَافِرِينَ} فيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: لا يحبهم ولا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني.. دخل الجنة، ومن عصاني.. فقد أبى" أخرجه البخاري في "صحيحه".
وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من أطاعني.. فقد أطاع الله، ومن عصاني.. فقد عصى الله، ومن يطع الأمير.. فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير.. فقد عصاني" متفق عليه.
وروى مسلم في "صحيحه" عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "إن الله إذا أحبَّ عبدًا.. دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا، فأحبَّه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا، فأحبُّوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا.. دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانًا، فأبغضْه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء؛ إن الله يبغض فلانًا، فأبغِضُوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تُحبون﴾ و ﴿يحببكم﴾ - بضم التاء والياء - من: أحبَّ الرباعي، وقرأ أبو رجاء العطاردي شذوذًا: ﴿تَحبون ويَحببكم﴾ - بفتح التاء والياء - من: حبَّ الثلاثي، وهما لغتان، وذكر الزمخشري: أنه قرئ: ﴿يحبكم﴾ - بفتح الياء، والإدغام - وهو شاذ أيضًا وقرأ الزهري شذوذًا: ﴿فاتبعوني﴾ - بتشديد النون - أَلحق بفعل الأمر نون التوكيد، وأدغمها في نون الوقاية، ولم يحذف الواو؛ شبهًا بـ ﴿تحاجوني﴾، وهذا توجيه شذوذ، وروي عن أبي عمرو إدغام راء ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ في لام ﴿لَكُمْ﴾. وذكر ابن عطية عن الزجاج: أن ذلك خطأ وغلط، ولكن رؤساء الكوفة كأبي جعفر الرؤاسي والكسائي والفراء رووا ذلك عن العرب، ورأسان من أهل البصرة - وهما أبو
(١) البحر المحيط.
263
عمرو ويعقوب - قرآ بذلك وروياه، فلا التفات لمن خالف في ذلك.
الإعراب
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ إلى قوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلِ﴾، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُمَّ﴾: منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني على الضم؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والميم المشددة عوض عن حرف النداء، ولذلك لا يجتمعان، وهذا التعويض خاص بالاسم الجليل؛ كما اختص بجواز الجمع فيه بين (يا) و (أل) وبقطع همزته ودخول تاء القسم عليه. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء تقديره: يا مالك الملك، وجملة النداء في النصب جزء المقول، وفي "الفتوحات": قوله: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ فيه (١) أربعة أوجه: أحدهما: أنه بدل من ﴿اللَّهُمَّ﴾. الثاني: أنه عطف بيان. الثالث: أنه منادى ثانٍ حذف منه حرف النداء، أي؛ يا مالك الملك، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابع. الرابع: أنه نعت لقوله: ﴿اللَّهُمَّ﴾ على الموضع؛ فلذلك نُصب. انتهى باختصار. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾: فعل ومفعول ثانٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ولكنها الآن في محل النصب جزء المقول. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول، ﴿تَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تشاؤه. ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ﴾: الواو عاطفة (تنزع الملك): فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾. ﴿مِمَّنْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تنزع﴾، وجملة ﴿تَشَاءُ﴾ صلة ﴿مَن﴾ الموصولة.
﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
(١) الجمل.
264
﴿وَتُعِزُّ﴾ الواو عاطفة. ﴿تعز﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿تَشَاءُ﴾ صلة لها، والعائد محذوف تقديره: من تشاء إعزازه. ﴿وَتُذِلُّ﴾: الواو عاطفة. (تذل): فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿تُؤْتِي﴾، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿تَشَاءُ﴾ صلته. ﴿بِيَدِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر مقدم. ﴿الْخَيْرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿تُؤْتِي﴾، ﴿إِنَّكَ﴾: إنَّ حرف نصب، الكاف اسمها. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بقوله: ﴿قَدِيرٌ﴾، وهو خبر ﴿إن﴾، والجملة مستأنفة.
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧)﴾.
﴿تُولِجُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿تُؤْتِي﴾ ﴿فِي النَّهَارِ﴾: متعلق بـ ﴿تُولِجُ﴾. ﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾: إعرابها مثل ما قبلها. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾: الواو عاطفة. ﴿تخرج﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾. ﴿الْحَيَّ﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾: متعلق بـ ﴿تخرج﴾. ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ هذه الجملة مثل ما قبلها إعرابًا. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ﴾: الواو عاطفة. ﴿ترزق﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿تَشَاءُ﴾ صلته. ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، يجوز (١) أن يكون حالًا من المفعول المحذوف تقديره: ترزق من تشاؤه غير محاسب، وأن يكون حالًا من ضمير الفاعل تقديره: غير محاسب له، أو غير مُضيِّق له، ويجوز أن يكون نعتًا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف تقديره: رزقًا غير قليل.
(١) العكبري.
265
﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿لَا﴾: ناهية جازمة، أو نافية، ﴿يَتَّخِذِ﴾: مرفوع والمعنى: لا ينبغي أن يتخذوهم أولياء ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: فاعل ﴿الْكَافِرِينَ﴾: مفعول أول، والجملة مستأنفة، ﴿أَوْلِيَاءَ﴾: مفعول ثانٍ. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال (١) من الفاعل؛ أي: حال كون المؤمنين متجاوزين للمؤمنين؛ أي: متجاوزين الاستقلال بموالاة المؤمنين؛ أي؛ تاركين قصر الموالاة على المؤمنين، وقال (٢) أبو البقاء: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في موضع نصب صفة لأولياء.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ﴾ الواو استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر؛ إما جملة الشرط، وهو الراجح، أو جملة الجواب، أو هما كما مرَّ مِرارًا. ﴿يَفْعَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ (من)، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿ذَلِكَ﴾: مفعول به. ﴿فَلَيْسَ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿مِنَ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿ليس﴾؛ فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مِنَ﴾ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿شَيْءٍ﴾ الآن؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فيعرب حالًا. ﴿في شَيءٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿ليس﴾، وجملة ﴿ليس﴾ في محل الجزم بـ ﴿مِنَ﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مِنَ﴾ الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾.
﴿إلّا﴾: أداة استثناء مفرغ من المفعول لأجله، والعامل فيه ﴿لَا يَتَّخِذِ﴾، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿تَتَّقُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَتَّقُوا﴾ ﴿تُقَاةً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بقوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، والتقدير: لا
(١) الجمل.
(٢) العكبري.
266
يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لشيء من الأشياء، ولا لغرض من الأغراض إلا لأجل اتقائكم منهم تقاة. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ﴾: الواو استئنافية. ﴿يحذركم الله﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، ﴿نَفْسَهُ﴾: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. وفي "السمين": قوله: ﴿نَفْسَهُ﴾ مفعول ثانٍ لـ ﴿يحذر﴾؛ لأنه في الأصل متعدٍ بنفسه إلى مفعول واحد، فازداد بالتضعيف آخر. انتهى، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية، أو مستأنفة.
﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿تُخْفُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به ﴿فِي صُدُورِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل ﴿تُبْدُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿تُخْفُوا﴾ مجزوم على كونه فعل الشرط. ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، مجزوم بـ ﴿إِن﴾ على كونه جواب الشرط لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿وَيَعْلَمُ﴾ الواو استئنافية، ﴿يعلم﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾: أو صفة لها. ﴿وَمَا﴾: الواو عاطفة ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوفة على ﴿مَا﴾ الأولى. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية أو عاطفة. ﴿الله﴾: مبتدأ، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾، وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة أو معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها.
267
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره: اذكروا يوم، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ ﴿تَجِدُ﴾؛ لأن وجد هنا بمعنى: أصاب فيتعدَّى إلى مفعول واحد. ﴿عَمِلَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عملته. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَمِلَتْ﴾، أو حال من ضمير المفعول المحذوف. ﴿مُحْضَرًا﴾ حال من ﴿مَا﴾ الموصولة.
﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
﴿وَمَا عَمِلَتْ﴾ الواو استئنافية ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ. ﴿عَمِلَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿مِنْ سُوءٍ﴾: جار ومجرور حال من ضمير المفعول المحذوف ﴿تَوَدُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿لَوْ﴾: زائدة. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿بَيْنَهَا﴾: ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر ﴿أَنَّ﴾ مقدَّم على اسمها. ﴿وَبَيْنَهُ﴾: معطوف عليه ﴿أَمَدًا﴾ اسم ﴿أَنَّ﴾ مؤخر ﴿بَعِيدًا﴾ صفة لـ ﴿أمدًا﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لـ ﴿تَوَدُّ﴾ تقديره: وما عملته من سوء تود كون أمد بعيد بينها وبينه. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ تقدم إعرابها قريبًا، فلا عود ولا إعادة فراجعه. ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿بِالْعِبَادِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿رَءُوفٌ﴾.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)﴾.
268
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِن﴾: حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كان﴾ تقديره: محبين الله ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إِن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. ﴿اتبعوني﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به ونون وقاية، مبني على حذف النون، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل، مجزوم بالطلب السابق، والجملة في محل النصب مقول القول لـ ﴿قُل﴾. ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾: الواو عاطفة ﴿يغفر﴾: معطوف على ﴿يُحْبِبْكُمُ﴾ مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يغفر﴾ ﴿ذُنُوبَكُمْ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، لكنها في محل النصب مقول القول. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثانٍ.
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ إلى آخر الآية أو إلى قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتَ: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول. ﴿وَالرَّسُولَ﴾: معطوف على لفظ الجلالة. ﴿فَإِنْ﴾: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا أمرتهم بطاعة الله والرسول، وأردت بيان حكم ما إذا تولوا عن طاعة الله.. فأقول لك، ﴿إن تولوا﴾: (إن): حرف شرط جازم. (تولوا): يحتمل أن يكون من تمام مقول القول، فيكون مضارعًا حذفت منه إحدى التاءين؛ أي: تتولوا، فيكون مجزومًا بحذف النون، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، فيكون ماضيًا في محل الجزم على كونه فعل الشرط لـ (إنْ)، والواو فاعل، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: الفاء رابطة
269
لجواب (إن) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية (إنَّ): حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُحِبُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿الْكَافِرِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة: ﴿إن﴾) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب جزء المقول، أو مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تنزع﴾: يقال: نزع الله عنه الشر، أو الملك ينزع - من باب ضرب - إذا أزاله عنه، وسلبه منه. ونزع الشيء من مكانه: إذا قلعه منه.
﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾: من مزيد عَزَّ يعز عزًّا بكسر العين فيهما إذا قوي بعد ذله أو غلب، ومنه: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾.
﴿وَتُذِلُّ﴾: من مزيد ذلَّ يذل - بالكسر - ذلًّا وذلةً إذا غلب وقهر. ﴿تُولِجُ﴾: يقال: ولج يلج - من باب: وعد - ولوجًا ولِجَة كعِدَة، والولوج: الدخول، والإيلاج الإدخال.
﴿تُقَاةً﴾: مصدر على وزن فعلة؛ لأنه مصدر تقَيته - بفتح القاف - كرميته رمية، وأصله: وقية؛ لأنه من الوقاية، فأبدلت الواو تاء، والياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفي "المختار": تقى يتقي كقضى يقضي، والتقوى والتقى واحد، والتقاة: التقية يقال: اتقى تقية وتقاة، وفي "القاموس": وتقيت الشيء أتقيه من باب ضرب اهـ.
﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ جمع: صَدْر، كفَلْس وفُلُوس، والصَّدْر معروف. ﴿أَمَدًا﴾: الأمد: غاية الشيء ومنتهاه، يجمع على آماد، والفرق بين الأمد والأبد: أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول، والفرق بين الأمد والزمان: أن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية.
270
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة، وضروبًا من البلاغة (١):
منها: التكرار للتفخيم والتعظيم في قوله: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ﴾ وتكرار: ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿تُؤْتِي﴾، ﴿وَتَنْزِعُ﴾، ﴿وَتُعِزُّ﴾ ﴿وَتُذِلُّ﴾، وفي قوله: ﴿اللَّيْلَ﴾ و ﴿النَّهَارِ﴾، وفي قوله: ﴿الْحَيَّ﴾ و ﴿الْمَيِّتِ﴾، وفي قوله: ﴿تُبْدُوهُ﴾ و ﴿تُخْفُوا﴾، وفي: ﴿خَيْرٍ﴾ و ﴿سُوءٍ﴾ و ﴿مُحْضَرًا﴾ و ﴿بَعِيدًا﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿تُحِبُّونَ﴾ و ﴿يُحْبِبْكُمُ﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله ﴿تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ وفي قوله: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾، و ﴿غَفُورٌ﴾.
ومنها: التعبير بالمحل عن الشيء في قوله: ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ عبر بها عن القلوب قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ الآية.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ الآية، أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها: التأنيس بعد الإيحاش في قوله: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
ومنها: الحذف في عدة مواضع قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾؛ أي: من تشاء إيتاءَه، ومثله و ﴿تنزع﴾. و ﴿تعز﴾ و ﴿تذل﴾.
ومنها: الخطاب العام الذي سببه خاص في قوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
(١) البحر المحيط.
271
الْكَافِرِينَ}.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وفي قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ﴾ وفي قوله: ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلَى﴾، وفي قوله: ﴿مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ﴾، وفي قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ﴾، وفي قوله: ﴿تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ و ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ و ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ وفي قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ﴾، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾، وهو عبارة عن إدخال هذا على هذا، وهذا على هذا، فما ينقصه من الليل.. يزيده في النهار، والعكس، ولفظ الإيلاج أبلغ؛ لأنه يفيد إدخال كل منهما في الآخر بلطيف الممازجة، وشديد الملابسة.
ومنها: ذكر العام بعد الخاص تأكيدًا له وتقريرًا في قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ بعد قوله: ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، ولو جرى على سنن الكلام الأول.. لجاء بالكلام غيبة.
فائدة: وروي في الحديث (١): "أن من أراد قضاء دينه، قرأ كل يوم: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ إلى ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، ويقول: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت تعطي منهما من تشاء، فاقضِ عني دَيْني، فلو كان ملء الأرض ذهبًا.. لأدَّاه الله عنه".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
272
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى أن الدين الحق هو دين الإِسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول - ﷺ - وطاعته.. ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم، ورفع درجاتهم، وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي: الإيمان به مع طاعته، والعمل بما يرضيه، فبدأ بآدم أولهم، وهو أبو البشر، اصطفاه واجتباه؛ كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢)﴾، وثنَّى بنوحٍ وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم، فانقرض من السلاسل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته، وانتشرت في البلاد، وفشت فيهم الوثنية، ثم ثلَّث بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله - ﷺ -؛ لأنه من ولد إسماعيل، ثم ربَّع بآل عمران، فاندرج فيهم عيسى عليه السلام، وأعقب ذلك
273
بذكر ثلاث قصص: قصة ولادة مريم، وقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى.
وكلها خوارق للعادة تدل على قدرة العلي القدير.
وقال أبو حيان (١): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما قدم قبل ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، وأردفه بقوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾، وختمها بأنه لا يحب الكافرين.. ذكر المصطفين الذين يجب اتباعهم، فبدأ أولًا بأولهم وجودًا وأصلهم، وثنى بنوح عليه السلام؛ إذ هو آدم الأصغر، ليس أحد على وجه الأرض إلا من نسله، ثم أتى ثالثًا بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله - ﷺ - المأمور باتباعه وطاعته، وموسى عليه السلام، ثم أتى رابعًا بآل عمران، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام، ونص على إبراهيم لخصوصية اليهود بهم، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم، فذكر تعالى جعل هؤلاء صفوة؛ أي: مختارين نَقاوة (٢)، والمعنى: أنه نَقَّاهم من الكَدَر، وهذا من تمثيل المعقول بالمحسوس.
أسباب النزول
قال ابن عباس رضي الله عنهما (٣): قالت اليهود: نحن من أبناء إبراهيم إسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم، فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: إن الله اصطفى هؤلاء بالإِسلام، وأنتم يا معشر اليهود على غير دين الإِسلام.
وقيل (٤): نزلت في نصارى نجران لما غلوا في عيسى، وجعلوه ابن الله تعالى واتخذوه إلهًا.. نزلت ردًّا عليهم وإعلامًا أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه، ثم إلى ولادته هو.
(١) البحر المحيط.
(٢) نقاوة الشيء - بضم النون -: خياره ومختاره.
(٣) الخازن.
(٤) البحر المحيط.
274
التفسير وأوجه القراءة
٣٣ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اصْطَفَى﴾ واختار ﴿آدَمَ﴾ أبا البشر عليه السلام بالإِسلام والنبوة، وعاش آدم في الأرض تسع مئة وستين سنة، وأما مدة إقامته في الجنة، فلا تحسب ﴿و﴾ اختار ﴿نوحًا﴾ الأصل الثاني للبشر، بالتوحيد والنبوة والرسالة، وجعله من أولي العزم، ولقب بنوح؛ لكثرة نوحه بالدعوة إلى الله تعالى. قيل: اسمه عبد الغفار، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام، وعُمِّر ألف سنة إلا خمسين عامًا.
وقيل: اصطفاء آدم عليه السلام بوجوه منها: خلقه أول هذا الجنس الشريف، وجعله خليفة في الأرض، وإسجاد الملائكة له، وإسكانه جنته، إلى غير ذلك مما شرفه الله به.
واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء منها: أنه أول رسول بُعث إلى أهل الأرض بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر المحارم، وأنه أبو الناس بعد آدم، إلى غير ذلك.
واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام: بأن جعل فيهم النبوة والكتاب.
﴿و﴾ اصطفى ﴿آل إبراهيم﴾؛ أي: عشيرته وأقاربه، والمراد بهم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط والأنبياء من أولادهم، ومن جملتهم خاتم المرسلين سيدنا محمَّد - ﷺ -، وقيل: المراد بـ ﴿آل إبراهيم﴾: نفسه، فلفظ (آل) مُقحم؛ يعني: اختاره بالنبوة والرسالة والخلة، وعُمِّر إبراهيم مئة وسبعين سنة. ﴿و﴾ اصطفى ﴿آل عمران﴾؛ أي: أهله، قيل: المراد بعمران هذا: هو عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وهو أبو مريم البتول أمِّ عيسى عليه السلام، والمراد بآله: عيسى، وأمه مريم، وقيل: عمران بن يصهر أبو موسى وهارون، والمراد بآله: موسى وهارون، ولكن الأرجح القولُ الأول بقرينة السياق، وبين العمرانين ألف وثمان مئة سنة، وقرأ عبد الله شذوذًا: ﴿وآل محمَّد﴾. ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: على عالمي زمانهم. قال القرطبي: وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء؛ لأن الأنبياء والرسل جميعًا من نسلهم، والمعنى: اختارهم واصطفاهم
على العالمين؛ بما خصهم من النبوة والرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقوَ عليه غيرهم.
٣٤ - ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾؛ أي: اصطفى الآلين حالة كونهم ذرية بعضها، متناسلون من بعض في النسب، وقيل: بعضها من بعض من التناصر والتعاضد، وقيل: متجانسين في الدين والتقى والصلاح، فكما أن الأصول أنبياء ورسل، وكذلك الذريةَ بل في بعضها ما يفوق الأصول جميعًا كمحمد - ﷺ -. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعٌ﴾ لأقوال العباد ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتهم وضمائرهم وأفعالهم، وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولًا وفعلًا، وقيل: معناه: والله سميع لمقالة اليهود: نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران، فنحن أبناء الله وأحباؤه، وعلى دينه، ولمقالة النصارى: المسيح ابن الله، عليم بعقوبتهم.
٣٥ - واذكر لهم يا محمَّد قصة ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ حنة بنت فاقوذ، أم مريم حين شاخت، وكانت يومًا في ظل شجرة، فرأت طائرًا يطعم فرخًا له ويسقيه، فعطفت، واشتاقت للولد من أجل رؤية ذلك الطائر، فدعت ربها أن يرزقها ولدًا، ونذرت أن تهبه لبيت المقدس يخدمه، وكان ما من رجل من أشراف بيت المقدس إلا وله ولد منذور لخدمته، فاستجاب الله دعاءَها، فحملت بمريم، فلما أحسَّت بالحمل.. جددت النذر ثانيًا، فقالت: يا ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾؛ أي: أوجبت على نفسي أن أجعل ما في بطني من الحمل محررًا لك، عتيقًا من أمر الدنيا لطاعتك، ومخلصًا لعبادتك وخادمًا لمن يدرس الكتاب ويعلم في بيت المقدس ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾؛ أي: خذ منى ما نذرته لك على وجه الرضا ﴿إِنَّكَ﴾ يا إلهي ﴿أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لتضرعي ودعائي وندائي ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في ضميري وقلبي ونيتي، وكان على أولادهم فرضًا أن يطيعوهم في نذرهم، فتصدقت بولدها على بيت المقدس، فلامها زوجها على ذلك؛ حيث أطلقت في نذرها، ولم تقيد بالذكر، فبقيت في حيرة وكرب إلى أن وضعت ومات زوجها
٣٦ - ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾؛ أي: ولدت المنذورة التي في بطنها ﴿قَالَتْ﴾ على وجه التحسر والاعتذار ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا﴾؛ أي: ولدت المنذورة التي في بطني حالة كونها ﴿أُنْثَى﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما قالت هذا؛ لأنه لم يكن يُقبل في النذر إلا الذكور، قال
276
الله تعالى تعظيمًا لولدها وتجهيلًا لها بقدر ذلك الولد: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ بقدر ﴿بِمَا وَضَعَتْ﴾؛ أي عالم بأن الذي ولدته وإن كان أنثى أحسنُ وأفضل من الذكر، وهي غافلة عن ذلك، فلذلك تحسرت، وكانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهن، وهذا المعنى على قراءة من قرأ بسكون التاء، وهي قراءة الجمهور، فيكون من كلام الله تعالى على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه والتجليل لها؛ حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين، وعبرة للمعتبرين، ويخصها بما لم يخص به أحدًا.
وقرأ أبو بكر شعبة وابن عامر ويعقوب: ﴿وضعتُ﴾ - بضم التاء - فيكون من جملة كلامها، ويكون متصلًا بما قبله، وفيه معنى التسليم لله، والخضوع والتنزيه له من أن يخفى عليه شيء، فإنها خافت من قولها: إني وضعتها أنثى أن يظن بذلك القول أنها تخبر الله تعالى.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في رواية شاذة: ﴿بما وضعتِ﴾ بكسر التاء على أنه خطاب من الله تعالى لها؛ أي: إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتتضافر عندها العقول من العجائب والآيات. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾؛ أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإنَّ غاية ما أرادتْ من كونه ذكرًا أن يكون نذرًا خادمًا للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، وهذه الجملة معترضة بين المعطوف الذي هو قوله: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ وبين المعطوف عليه الذي هو قوله: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا﴾ مبيِّنة لما في الجملة الأولى - أعني قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ - من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: وليس الأنثى كالذكر، والمراد منه تفضيل هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت: كان الذكر مطلوبي لخدمة البيت، وهذه الأنثى هي موهبة لله تعالى، وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها كما مر آنفًا، واللام في الذكر والأنثى للعهد.
هذا على قراءة الجمهور وعلى قراءة ابن عباس، وأما على قراءة أبي بكر
277
وابن عامر فيكون قوله: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ من جملة كلامها، ومن تمام تحسرها وتحزنها؛ أي: ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادمًا صالحًا للنذر، كالأنثى التي لا تصلح للنذر، والمراد منه: تفضيل الذكر على الأنثى؛ لأن الذكر يصلح لخدمة الكنيسة، ولا تصلح الأنثى لذلك؛ لضعفها وما يعرض لها من الحيض والنفاس؛ ولأنها عورة ولا يجوز لها الحضور مع الرجال، وكأنها أعذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت، وقوله: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ معطوف على قوله: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ ومقصودها من هذا: الإخبار بالتسمية للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يكون فعلها مطابقًا لمعنى اسمها، فإن معنى مريم: خادم الرب بلغتهم، فهي وإن كانت غير صالحة لخدمة الكنيسة، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات، وكأنها أرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا؛ لأن المعنى: وإني سميت هذه البنت المولودة لي عابدة الرب.
﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا﴾ أي: وإني يا إلهي أجيرها وأحفظها وأولادها بحفظك وعصمتك ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾؛ أي: من ضرر إبليس اللعين المطرود عن رحمتك، ووسوسته، وهذه الجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا﴾ ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾.
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "ما من مولود يولد من بني آدم إلا نخسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من نخسه إياه، إلا مريم وابنها"، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إنْ شئتم: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾.
وروى البخاري عنه رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله - ﷺ -: "كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب ليطعن، فطعن في الحجاب".
والمراد: أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم
278
وابنها، فإن الله سبحانه وتعالى عصمها ببركة هذه الاستعاذة.
وفي المقام إشكال قوي لم أرَ من نبَّه عليه من المفسرين، وحاصله: أن قوله: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾ معطوف على ما قبه، الواقع حيزًا لما وضعتها، فيقتضي أن طلب هذه الاستعاذة إنما وقع بعد الوضع، فلا يترتب عليه حفظ مريم من طعن الشيطان وقت نزولها وخروجها من بطن أمها، فلا يتلاقى الحديث مع الآية، بل مقتضى ظاهر الآية: أن إعاذتها من الشيطان الرجيم إنما كان بعد وضعها، وهذا لا ينافي تسلُّط الشيطان عليها بطعنها ونخسها وقت ولادتها الذي هو عادته، فإن عادته طعن المولود وقت خروجه من بطن أمه، تأمل.
قلتُ: الجواب أنه استعمل المضارع بمعنى الماضي بقرينة السياق، فكأنه قال: وإني أعذتها بك وذريتها، والله أعلم.
وفي "القرطبي": قال علماؤنا في هذا الحديث: إن الله استجاب دعاءَ أم مريم، وإن الشيطان ينخس جميع بني آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها، قال قتادة: كل مولود يطعنه الشيطان في جنبه حين يولد، غير عيسى وأمه، فإنه جعل بينهما حجاب هو المشيمة التي يكون فيها الولد، فأصابت الطعنة الحجاب، ولم ينفذ لهما منه شيء. وطعن الشيطان للأنبياء غير عيسى ليس فيه نقص لهم، ولا ينافي عصمتهم منه؛ لأنهم معصومون من وسوسته وإغوائه. والطعن من قبيل الأمراض والآلام المتعلقة بظاهر البدن، والأنبياء غير معصومين من مثل هذا، تأمل. انتهى.
٣٧ - ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾؛ أي: تقبل الله سبحانه وتعالى مريم من أمها قبولًا حسنًا، ورضي أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾؛ أي: رباها الله سبحانه وتعالى، ونماها بما يصلح أحوالها؛ كما يربي النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي، وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي، وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية، فقد نمَّى جسدَها، فكانت خير لذاتها جسمًا وقوة، كما نَمَّاها صلاحًا وعفةً وسداد رأيٍ. قيل: معنى
279
أنبتها نباتًا حسنًا؛ أي: جعل ثمرتها مثل عيسى، وقيل: القبول الحسن: تربيتها على نعت العِصْمة حتى قالت: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾، والنبات الحسن: الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات.
﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾؛ أي: جعل الله سبحانه وتعالى زكريا مربيًا لها، وضامنًا لمصالحها، وقائمًا بشؤونها؛ أي: كَفَّلها، لا بالوحي، بل بمقتضى القرعة، كما ذكره أبو السعود. قال أهل الأخبار: أن حنة حين وضعت مريم لفتها في خرقة، وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم يلون يومئذٍ من بيت المقدس ما تلى الحجبة من الكعبة، وقالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالت الأحبار: لا تقل ذلك، فإنها لو تركت لأحق الناس بها.. لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنا نقترع عليها، فانطلقوا، وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر جار في حلب يقال له: قرمق، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها على أن كل من ارتفع قلمه فوق الماء، وثبت، فهو أولى بها من غيره، وعلى كل قلم اسم صاحبه، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات، ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريا، ولما أخذها.. بنى لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطا لا يرقى إليه إلا بالسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها.
وقرأ الكوفيون (١): ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ - بتشديد الفاء - على إسناد الفعل إلى الله تعالى. وباقي السبعة ﴿وكفَلها﴾ بتخفيفها على إسناد الفعل إلى زكريا بمعنى: ضمها إليه، وقرأ أُبي: ﴿وأكفلها﴾ وهو بمعنى التشديد، وقرأ عبد الله المزني شذوذًا: ﴿وكفِلها﴾ بالتخفيف وكسر الفاء، وهي لغة، يقال: كفل يكفل كنصر ينصر، وكفل يكفل كعلم يعلم، والفعل مسند إلى زكريا، ففيه أربع قراءات ثنتان
(١) البحر المحيط.
280
منها سبعية.
وقرأ مجاهد (١): ﴿فتقبلْها﴾ بإسكان اللام على صيغة الأمر والدعاء، ونصب ﴿ربَّها﴾ على أنَّه منادى مضاف، وقرأ أيضًا: ﴿وأنبتْها﴾ بإسكان التاء، ﴿وكفِّلْها﴾ بتشديد الفاء المكسورة، وإسكان اللام، ونصب ﴿زكرياء﴾ مع المد وذلك كله شذوذًا. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: ﴿زَكَرِيَّا﴾ بغير مدِّ، ومده الباقون مع الهمز هكذا ﴿زكرياء﴾.
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ وهو من ذرية سليمان بن داود؛ أي: في أي وقت دخل عليها زكريا المحراب والغرفة التي بنى لها في المسجد ﴿وَجَدَ عَندَهَا﴾؛ أي: رأى عند مريم ﴿رِزْقًا﴾؛ أي: نوعًا من أنواع الطعام غير الذي رآه في المرة الأولى، أو فاكهة في غير وقتها المعتاد. روي أنه كان لا يدخل عليها غيره، وإذا خرج.. أغلق عليها سبعة أبواب، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف؛ مثل القصب، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ مثل العنب، ولم ترضع ثديًا قط، بل يأتيها رزقها من الجنة.
وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.
﴿قَالَ﴾ زكريا ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ الرزق؛ أي: من أين لك هذا الرزق الآتي في غير حينه، الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة عليك؟ ﴿قَالَتْ﴾ مريم ﴿هُوَ﴾؛ أي: هذا الرزق ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى الذي يرزق الناس جميعًا، أتاني به جبريل من الجنة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: بغير تقدير لكثرته، أو من غير استحقاف تفضلًا منه، أو من غير مسألة في حينه وفي غير حينه، وهذا يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم، أو ابتداء كلام من الله عز وجلّ: فلما رأى زكريا ما أوتيت مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.. قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها وحينها من غير سبب لقادرٌ على أن يصلح زوجي، ويهب
(١) الشوكاني.
281
لي ولدًا في غير حينه مع الكبر، وطمع في الولد، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد كبر وشاخ، وأيس من الولد، فذلك قوله عزّ وجلّ:
٣٨ - ﴿هُنَالِكَ﴾؛ أي: في ذلك المكان الذي كان قاعدًا فيه عند مريم، وشاهد تلك الكرامات، أو في ذلك الوقت الذي رأى فيه خوارق العادات عندها ﴿دَعَا﴾ وسأل ﴿زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾، سبحانه وتعالى جوف الليل و ﴿قَالَ﴾ في مناجاته يا ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾؛ أي: أعطني من عندك وبمحض قدرتك من غير سبب معتاد ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾؛ أي: ولدًا مباركًا تقيًّا صالحًا رضيًّا، كما وهبت لحنة العجوز العاقر مريم، وكان شيخًا كبيرًا، وامرأته عجوزًا عاقرًا، فإنه لما رأى حسن حال مريم ومعرفتها باللهِ.. تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلًا من عنده، فرؤية الأولاد النجباء مما تشوق نفوس الناظرين إليهم، وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم، والذرية تطلق على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، والمراد بها هنا: الواحد، وإنما قال: ﴿طَيِّبَةً﴾ لتأنيث لفظ الذرية ﴿إِنَّكَ﴾ يا إلهي ﴿سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، سماع قبول؛ أي: سامع دعاء من دعاه ومجيبه، وهذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباط؛ لأن فضل بعض الأقارب يدل على فضل الآخر، وهو حكمة قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءَه، وبعث إليه الملائكة مبشرين له
٣٩ - ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)﴾ [آل عمران: ٣٩] ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: نادى زكريا جبريل، كما قال به جمهور من المفسرين؛ كابن جرير عن السدي، وإنما أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيمًا لشأنه، ولأنه رئيس الملائكة، وقلَّ أن يبعث إلا ومعه جمع من الملائكة، أو نادته جماعة من الملائكة؛ كما يروى عن ابن جرير مع جماعة آخرين، إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا القول قال قتادة وعكرمة ومجاهد، قيل: نادته بعد مضي أربعين سنة من دعوته.
وقرأ حمزة والكسائي: ﴿فناداه﴾ بالإمالة والتذكير، وبذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود، وقرأ الباقون: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾. ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أن زكريا ﴿قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾؛ أي: قائم في الموضع العالي الشريف من المسجد مصليًّا، والمحراب موقف الإِمام من المسجد، والظاهر أن المحراب هو
282
المحراب المذكور في قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾، وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم، وقيل: المراد بالصلاة هنا: الدعاء، وفيه أيضًا دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات، وفيه إجابة الدعوات وقضاء الحاجات، وقال ابن عطاء: ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر، وإخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب. ﴿أنَّ اللَّهَ﴾ تعالى ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ بولادة ولد يسمى ﴿بِيَحْيَى﴾ منك ومن امرأتك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تَسمَّى يحيى؛ لأن الله أحيا به عقر أمه، وقيل: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، وقيل: لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يهتم بمعصية قط. روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون، فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خُلقت.
وقرأ ابن عامر وحمزة: ﴿إنَّ﴾ بكسر الهمزة على تأويل النداء بالقول، وقرأ الباقون: ﴿أن﴾ بفتح الهمزة على تقدير: بأن، وقرأ الجمهور: ﴿يُبَشِركَ﴾ بالتشديد وقرأ حمزة والكسائي ﴿يَبْشُرك﴾، وفي "المختار": بَشَره بالتخفيف من البشرى، وبابه نصر ودخل. وقرأ حميد بن قيس المكي شذوذًا: ﴿يُبشِرك﴾ بكسر الشين مع ضم حرف المضارعة، قال الأخفش: هي ثلاثة لغات بمعنى واحد، وقرأ عبد الله بن مسعود في رواية شاذة: ﴿يا زكريا إن الله﴾.
حالة كون يحيى ﴿مُصَدِّقًا﴾ ومؤمنا بعيسى ابن مريم المخلوق بلا واسطة أب، بل ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ كن الواقعة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا بالسنة العامة في توالد البشر، وهي أن يكون الولد من أب وأم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن يحيى كان أكبر سنًّا من عيسى بستة أشهر، وقيل: بثلاث سنين، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة لله، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى بمدة يسيرة. ﴿و﴾ حالة كون يحيى ﴿سيدًا﴾؛ أي: رئيسًا يسود ويفوق قومه، والناس جميعًا في الشرف والصلاح وعمل الخير، وفي العلم والحلم والورع، وقال ابن عباس: أي: حليمًا عن الجهل. وقال مجاهد: كريمًا على الله ﴿و﴾ حالة كونه ﴿حصورًا﴾؛ أي: مانعًا نفسه من النساء للعفة والزهد، لا للعجز عنها ﴿و﴾ حالة كونه ﴿نبيًّا﴾ مرسلًا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوة، وحالة كونه ناشئًا ﴿مِّنَ﴾
283
أصلاب القوم ﴿الصَّالِحِينَ﴾ والمرسلين؛ لكونه من نسل الأنبياء أو كائنًا من جملة الصالحين، ولا غرو أنه من جملة الصالحين، وأنه من أصلاب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
٤٠ - ﴿قَالَ﴾ زكريا لجبريل حين بشره بالولد ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾؛ أي: يا سيدي: على أي حال يكون لي ذلك الغلام أتردني وامرأتي إلى حال الشباب أم مع حال الكبر؟ ﴿قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾؛ أي: أدركني كبر السن ﴿امْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾؛ أي: عقيم لا تلد. قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن مئة وعشرين سنة، وكانت امرأته أيشاع بنت فاقوذ بنت ثمان وتسعين سنة.
والظاهر (١): أن هذا الخطاب منه لله سبحانه، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملد، وذلك لمزيد التضرع والجد في طلب الجواب عن سؤاله، وقيل: إنه أراد بالرب جبريل؛ أي: يا سيدي كما فسرنا، كذلك قيل: وفي معنى هذا الاستفهام وجهان:
أحدهما: أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر أو من غيرها؟
والثاني: قيل: معناه بأي سبب استوجب هذا، وأنا وامرأتي على هذه الحال؟ وإنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طيبة ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم استعظامًا لقدرة الله سبحانه وتعالى، لا لمحض الاستبعاد، وقيل: إنه قد مرَّ بعد دعائه إلى وقت يشاء ربه أربعون سنة، وقيل: عشرون سنة، فكان الاستبعاد من هذه الحيثية. والله أعلم
وفي "المراغي" (٢): أن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم، من كمال إيمانها، وحسن حالها، واعتقادها أن المسخر لها والرازق لما عندها هو من يرزق من يشاء بغير حساب.. أخذ عن نفسه، وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستفرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابًا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.
ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه، واستجابة دعائه.. سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله:
﴿قَالَ﴾ جبريل ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: الأمر كما قلت لك من خلق ولد منكما، وأنتما على حالكما من الكبر. ﴿اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ من الأفاعيل الخارقة للعادة، فمتى شاء أمرًا.. أوجد له سببه، أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شيء، ففوض الأمر إليه، ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك إلى الوصول بمعرفتها، وإنما قال في حق زكريا: ﴿يَفعَلُ﴾، وفي حق مريم: ﴿يخلق﴾ مع اشتراكهما في بشارتهما بولد؛ لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمر خارق، بل نادر بعيد، فحسن التعبير بـ ﴿يَفعَلُ﴾، واستبعاد مريم لأمر خارق، أي: لأغربيته؛ لأنه اختراع بلا مادة؛ أي: من غير إحالة على سبب ظاهر، فكان ذكر الخلق أنسب.
٤١ - ﴿قَالَ﴾ زكريا ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾؛ أي: علامة في حبل امرأتي ﴿قَالَ﴾ الله تعالى ﴿ءَايَتُكَ﴾؛ أي: علامتك في حبل امرأتك ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾؛ أي: أن لا تقدر على تكليم الناس من غير خرسٍ، لا على غيره من الأذكار وقرأ ابن أبي عبلة؛ ﴿أن﴾ لا تكلمُ برفع الميم على أنَّ: ﴿أن﴾ هي المخففة من الثقيلة. ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ متوالية بلياليها ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾؛ أي؛ إلا إيماءً وإشارة بالشفتين والحاجبين والعينين واليدين. وقرأ علقمة بن قيس ويحيى بن وثاب شذوذًا: (رُمُزًا) - بضم الراء واليم -، وخُرِّج على أنه جمع: رموز؛ كرسل ورسول وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فُعْل، وأتبعت العين الفاء؛ كاليسر والعسر. وقرأ الأعمش شذوذًا أيضًا: (رمزًا) بفتح الراء واليم، وخُرِّج على أنه جمع رامزٍ كخادم وخدم وانتصابه إذا كان جمعًا على الحال من الفاعل، وهو الضمير في ﴿تكلم﴾، أو من المفعول، وهو: ﴿الناس﴾؛ أي: مسترًا مزينًا؛ كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه، ووجه جعل حبس لسانه عن كلام الناس تلك
285
المدة آيةً له لتخلصَ تلك الأيام لذكر الله تعالى شكرًا على ما أنعم به عليه؛ قضاء لحق الشكر؛ كما قال: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ باللسان والقلب في مدة الحبسة عن كلام الدنيا مع الخلق شكرًا لله تعالى على هذه النعمة ﴿كَثِيرًا﴾؛ أي: ذكرًا كثيرًا على كل حال ﴿وَسَبِّحْ﴾ أي: صلِّ ﴿بِالْعَشِيِّ﴾؛ أي: آخر النهار ﴿وَالْإِبْكَارِ﴾؛ أي: أوله؛ أي: صلِّ عشيًّا وبكرة كما كنت تصلي. والعشي هو من زوال الشمس إلى الغروب، وقيل: من العصر إلى نصف الليل. والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وقريء شاذًا: (والأبكار) - بفتح الهمزة - جمع: بَكَر بفتح الفاء والعين، والعامة على الإبكار بالكسر اسم مفرد، وخص هذين الوقتين لفرضية الصلاة عليه فيهما، وقيل: المراد بالتسبيح التنزيه له تعالى بالصيغة المعروفة، فعَطْفه على ما قبله من عطف الخاص على العام.
الإعراب
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣)﴾.
﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها. ﴿اصْطَفَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿آدمَ﴾: مفعول به. ﴿وَنُوحًا﴾: معطوف عليه، وصرِّف مع كونه أعجميًّا؛ لخفته بسكون الوسط. ﴿وَءَالَ﴾: معطوف على ﴿آدَمَ﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. ﴿وَءَالَ﴾: معطوف أيضًا ﴿عِمْرَانَ﴾: مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اصْطَفَى﴾.
﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿ذُرِّيَّةً﴾: منصوب على البدلية من نوحٍ وما عطف عليه، كما قاله أبو البقاء، أو بدل من الآلين، كما قاله الزمخشري، أو منصوب على الحال منهم أيضًا، والعامل فيها ﴿اصْطَفَى﴾ تقديره: حال كونهم متشعبًا. ﴿بَعْضُهَا﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾: جار ومجرور خبر، والجملة في محل النصب صفة
286
لـ ﴿ذُرِّيَّةً﴾، ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمَّد لأمتك قصة إذ. ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾: إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالَتِ﴾، وإنْ شئت قلتَ ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب جزء المقول. ﴿إِنِّي﴾ إنَّ: حرف نصب وتوكيد، وياء المتكلم في محل النصب اسمها. ﴿نَذَرْتُ﴾: فعل وفاعل ﴿لَكَ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿نَذَرْتُ﴾ ﴿فِي بَطْنِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها. ﴿مُحَرَّرًا﴾: حال من ﴿مَا﴾، والعامل فيه ﴿نَذَرْتُ﴾، أو مفعول ثانٍ لـ (نذر) إن جعلناه بمعنى: جعلت، وجملة ﴿نَذَرْتُ﴾ من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول القول، ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾: الفاء عاطفة ﴿تقبل﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الرب ﴿مِنِّي﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مقول القول، ﴿إِنَّكَ﴾: إنَّ حرف نصب، والكاف اسمها ﴿أَنتَ﴾: ضمير فصل أو مؤكد للضمير المنصوب ﴿السَّمِيعُ﴾: خبر أول لـ ﴿إنْ﴾، ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة في محل النصب مقول القول.
﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦)﴾.
﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ﴾: الفاء عاطفة على محذوف تقديره: ووضعتها جارية ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم ﴿وضع﴾: فعل ماضٍ، التاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير يعود على المرأة، والهاء مفعول به عائد على ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾؛ لأنه بمعنى الجارية، ﴿قَالَتِ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على
287
المرأة، وجملة ﴿قَالَتْ﴾ جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة (لما) من فعل شرطها وجوابها معطوفة على الجملة المحذوفة. وقوله: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَتْ﴾، وإن شئتَ قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب جزء المقول ﴿إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد، وياء المتكلم اسمها. ﴿وَضَعَتْهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿أُنْثَى﴾: حال من الهاء مؤكدة؛ لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير، فجاءت أنثى مؤكدة، أو بدل منها، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة (إنّ) في محل النصب مقول القول. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾: ﴿وَضَعَتْ﴾ فعل ماضٍ والتاء علامة التأنيث، وفاعله ضمير يعود على أم مريم، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما وضعته. ﴿وَلَيْسَ﴾: الواو عاطفة (ليس): فعل ماضٍ ناقص. ﴿الذَّكَرُ﴾: اسمها. ﴿كَالْأُنْثَى﴾: جار ومجرور خبر (ليس)، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾ على كونها معترضة إن قلنا: إنها من كلام الله تعالى، ويحتمل أنها من كلامها، فتكون حينئذٍ من مقول القول. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إنَّ﴾: حر نصب والياء اسمها. ﴿سَمَّيْتُهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿مَرْيَمَ﴾: مفعول ثانٍ، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إني وضعتها﴾ على كونها مقول القول ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا﴾: الواو عاطفة ﴿إن﴾: حرف نصب، والياء اسمها. ﴿أعيذ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على أم مريم، والهاء مفعول به. ﴿بِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أعيذ﴾ ﴿وَذُريتَهَا﴾: معطوف على ضمير المفعول، والهاء مضاف إليه ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أعيذ﴾ ﴿الرَّجِيمِ﴾: صفة الشيطان، وجملة ﴿أُعَيذُهَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: إني وضعتها على كونها مقول القول.
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾.
288
﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾ الفاء عاطفة تفريعية. ﴿تَقَبَّلَهَا﴾: فعل ومفعول، ﴿رَبُّهَا﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا﴾ ﴿بِقَبُولٍ﴾: الباء زائدة، ﴿قَبولٍ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿حَسَنٍ﴾: صفة له. ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾: الواو عاطفة. ﴿أَنْبَتَهَا﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿تقبل﴾ ﴿نَبَاتًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة ﴿حَسَنًا﴾ صفة له. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾: الواو عاطفة ﴿كفلها﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿زَكَرِيَّا﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾.
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾.
﴿كُلَّمَا﴾: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿دَخَلَ﴾: فعل ماضٍ، ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق به. ﴿زَكَرِيَّا﴾: فاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿كُلَّمَا﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿الْمِحْرَابَ﴾ مفعول ﴿دَخَلَ﴾. وحق ﴿دَخَلَ﴾ أن يتعدى بفي أو بإلى لكنه اتسع فيه، فأوصل بنفسه إلى المفعول، فهو كقولهم: دخلت الدار، وسكنت الشام كما ذكره أبو البقاء. ﴿وَجَدَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿وَجَدَ﴾، ﴿رِزْقًا﴾: مفعول به لـ ﴿وَجَدَ﴾؛ لأنه متعد إلى واحد، وجملة ﴿وَجَدَ﴾ جواب ﴿كُلَّمَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿كُلَّمَا﴾ مستأنفة.
﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كانه قيل: فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذه الآية؟ فقيل: قال: يا مريم أنى لك هذا؟. وفي "الفتوحات": والذي (١) يظهر أن جملة قوله: ﴿وَجَدَ﴾
(١) الجمل.
289
في محل نصب على الحال من فاعل ﴿دَخَلَ﴾، ويكون جواب ﴿كُلَّمَا﴾ هو نفس ﴿قَالَ﴾، والتقدير: كلما دخل عليها زكريا المحراب واجدًا عندها الرزق.. قال، وهذا واضح جدًّا. انتهى ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء ﴿مريم﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنَّى﴾: اسم استفام بمعنى: أين، في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم ﴿هَذَا﴾: مبتدأ مؤخر ﴿لَكِ﴾: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، ومن المبتدإِ على رأي سيبويه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿قَالَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَرْيَمُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهِ﴾: اسمها، وجملة ﴿يَرْزُقُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَرْزُقُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء رزقه، ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَرْزُقُ﴾.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨)﴾.
﴿هُنَالِكَ﴾: اسم إشارة للمكان البعيد نظرًا إلى أصله، وأما في هذا المقام فهي مستعملة في الزمان تجوزًا، والظرف متعلق بدعا الآتي ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم كما مرّ، ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾، والجملة مفسرة لجملة ﴿دَعَا﴾، ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإنْ شئتَ قلتَ: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول ﴿هَبْ﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب النداء في محل
290
النصب مقول القول ﴿لِي﴾ متعلق بـ ﴿هَبْ﴾، ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿هَبْ﴾ ﴿ذُرِّيَّةً﴾: مفعول ﴿هَبْ﴾، ﴿طَيِّبَةً﴾: صفة لـ ﴿ذُرِّيَّةً﴾ ﴿إِنَّكَ﴾: إنَّ: حرف نصب، والكاف: اسمها. ﴿سَمِيعُ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ ﴿الدُّعَاءِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة بحسب الأصل، ومقول القول هنا.
﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
﴿فَنَادَتْهُ﴾: الفاء عاطفة تفريعية، ﴿نادته الملائكة﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿هُنَالِكَ دَعَا﴾، ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير المفعول. ﴿يُصَلِّي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾، ﴿فِي الْمِحْرَابِ﴾: متعلق بـ ﴿يُصَلِّي﴾، أو بـ ﴿قَائِمٌ﴾، والجملة في محل النصب حال ثانية من مفعول النداء، أو خبر ثانٍ لـ ﴿هُوَ﴾. وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ جملة حالية من مفعول النداء، و ﴿يُصَلِّي﴾ يحتمل أوجهًا:
أحدها: أن يكون خبرًا ثانيًا عند من يرى تعدده مطلقًا نحو: زيد شاعر فقيه.
الثاني: أنه حال ثانية من مفعول النداء، وذلك أيضًا عند من يُجوِّز تعدد الحال.
الثالث: أنه حال من الضمير المستتر في ﴿قَائِمٌ﴾؛ فيكون حالًا من حال.
الرابع: أن يكون صفة لـ ﴿قَائِمٌ﴾. "سمين"، انتهى.
﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ﴿إنْ﴾: - بكسر الهمزة في قراءة الكسر -: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها. ﴿يُبَشِّرُكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿بِيَحْيَى﴾: متعلق بـ ﴿يُبَشِرُكَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر
(١) الجمل.
291
﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: حال كون الملائكة قائلين له: إن الله يبشرك، ﴿مُصَدِّقًا﴾: حال من ﴿يحيى﴾، ﴿بِكَلِمَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُصَدَقَا﴾، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كلمة﴾، ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا﴾: معطوفات على مصدقًا على كونها حالًا من ﴿يحيى﴾ ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نبيًّا﴾.
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على زكريا، والجملة مستأنفة، ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ إلى قوله: ﴿عَاقِرٌ﴾: مقول محكي، وإنْ شئت قلتَ: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء جزء المقول، ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام بمعنى: كيف، في محل النصب خبر ﴿يَكُونُ﴾ مقدم عليه، ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص، ﴿لِي﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿غُلَامٌ﴾: اسم ﴿يَكُونُ﴾، وجملة ﴿يَكُونُ﴾ في محل النصب مقول القول. وفي "الفتوحات"، قوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ يجوز في كان أن تكون هي الناقصة، وفي خبرها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنى؛ لأنا بمعنى: كيف، أو بمعنى: من أين، ولي على هذا تبيين.
والثاني: أن الخبر الجار، وأنى: في محل النصب على الظرفية، ويجوز أن تكون تامة، فيكون الظرف والجار والمجرور كلاهما متعلقين بمحذوف على أنه حال من غلام؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له. انتهى.
﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾: الواو حالية ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾: فعل ومفعول، ونون وقاية، وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الياء في ﴿لِي﴾ ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾: الواو حالية، ﴿وَامْرَأَتِي﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿عَاقِرٌ﴾ خبر، والجملة حال؛ إما من الياء في (لي) بناءً على جواز تعدد الحال، وإما من الياء في ﴿بَلَغَنِىَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على جبريل، والجملة مستأنفة ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئتَ قلت:
292
﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف منصوب بـ ﴿يَفْعَلُ﴾ الآتي، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَفْعَلُ﴾ خبره، ﴿مَا يَشَاءُ﴾: مفعول ﴿يَفْعَلُ﴾، والتقدير: الله يفعل ما يشاء فعلًا كائنًا كذلك، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيةً﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾ والجملة مستأنفة ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿اجْعَلْ لِي آيَةً﴾: مقول محكي، وإنْ شئتَ قلت: ﴿اجْعَلْ﴾: فعل أمر بمعنى صيِّر يتعدى لمفعولين، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿آيَةً﴾: مفعول أول، ﴿لِي﴾: مفعول ثانٍ، كما ذكر أبو البقاء، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿ءَايَتُكَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لا﴾: نافية ﴿تُكَلِّمَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾. ﴿النَّاسَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة (أن) المصدرية، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية تقديره: آيتك عدم تكليم الناس، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تُكَلِّمَ﴾ ﴿إلّا﴾: أداة استثناء، ﴿رَمْزًا﴾: منصوب على الاستثناء، وهو منقطع؛ إذ الرمز لا يدخل تحت التكليم، ومن أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير، فلا يبعد أن يكون هذا استثناءً متصلًا على مذهبه.
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ الواو عاطفة، ﴿اذكر﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على
293
﴿زَكَرِيَّا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على الجملة الإسمية على كونها مقول القول، ﴿رَبَّكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿كَثِيرًا﴾: صفة مصدر محذوف تقديره: ذكرًا كثيرًا ﴿وَسَبِّحْ﴾ الواو عاطفة، ﴿سبح﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على زكريا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ذكر﴾. ﴿بِالْعَشِيِّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اذكر﴾، ﴿وَالْإِبْكَارِ﴾: معطوف على ﴿الْعَشِيِّ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿اصْطَفَى﴾: من الصفوة أصله: اصتفى من باب افتعل قلبت تاء الافتعال طاءً؛ لوقوعها إثر مُطْبَق.
﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿اصْطَفَى﴾ ضمنَّه معنى فضل، فعداه بـ ﴿عَلَى﴾، ولو لم يضمنه معنى فضل لعُدِّي بـ ﴿من﴾.
﴿ذُرِّيَّةً﴾: قيل: مشتق من الذرء، وهو الخلق، فعلى هذا يطلق على الأصول حتى على آدم، كما يطلق على الفروع، وقيل: منسوب إلى الذَّرّ؛ لأن الله أخرجهم من ظهر آدم كالذَّرّ؛ أي: صغار النمل، ويكون هذا من النسب السماعي؛ إذ كان القياس فتح الذال.
﴿نَذَرْتُ لَكَ﴾: يقال نذر الشيء؛ إذا التزمه، والنذر لغةً الالتزام، وشرعًا: التزام قربة ليست لازمة في أصل الشرع. ﴿مُحَرَّرًا﴾: اسم مفعول من حَرَّر الرباعي معناه: عتيقًا من كل شغل من أشغال الدنيا، فهو مأخوذ من الحرية.
﴿أُعِيذُهَا﴾: مضارع عاذ بكذا إذا اعتصم به عوذًا وعياذًا ومعاذًا ومعاذةً، ومعناه: التجأ واعتصم، وقيل: اشتقاقه من العَوذ، وهو عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح.
﴿الرَّجِيمِ﴾: فقيل: من رجم إذا رمى وقذف، ومنه: رجمًا بالغيب؛ أي: رميًا به من غير تيقن، والرجيم: يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل؛ أي: أنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم، ويحتمل أن يكون بمعنى:
294
مرجوم؛ أي: يرجم بالشهب أو يبعدْ ويطردْ.
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾؛ أي: قبلها ورضيها مكان الذكر المنذور، فصيغة التفعل ليست هنا للتكلف ولا للمطاوعة، بل بمعنى أصل الفعل؛ كتعجب من كذا بمعنى: عجيب وتبرأ من كذا بمعنى برىء منه.
﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ قال الزجاج: الأصل؛ فتقبلها بتقبُّل حسن؛ لأن قبولًا مصدر لـ ﴿قبل﴾ الثلاثي، يقال: قبل الشيء قبولًا إذا رضيه، والقياس فيه: الضم، كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، فالقبول هنا من المصادر التي حذفت زوائده؛ إذ لو جاء على تقبل لقيل: تقبلًا حسنًا.
﴿نَبَاتًا حَسَنًا﴾: النبات اسم مصدر لأنبت الرباعي، فهو بمعنى إنباتًا حسنًا ﴿وَكَفَّلَهَا﴾: الكفالة الضمان، يقال: كفل يكفل من بابي نصر وعلم، فهو كافل وكفيل، وهذا أصله، ثم يستعار للضم والقيام على الشيء ﴿زَكَرِيَّا﴾: هو اسم أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة، فهو ممدود ومقصور، ولذلك يمتنع صرفه نكرة، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز.
﴿يحيى﴾ فيه قولان:
أحدهما: وهو المشهور عند المفسرين: أنه منقول من الفعل المضارع، وقد سموا بالأفعال كثيرًا نحو: يعيش ويعمِّر، وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل؛ كيزيد ويشكر وتغلب.
والثاني: أنه أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة الشخصية، ويقال في جمعه على كِلا القولين: يحيون رفعًا، ويحين نصبًا وجرًّا على حد قوله:
وَحْذِفْ مِنَ الْمَقْصُوْرِ فِيْ جَمْعٍ عَلَى حَدِّ الْمُثَنَّى مَا بِهِ تَكَمَّلاَ
ويقال في تثنيته: يحييان رفعًا، ويحيين نصبًا وجرًّا على حد قوله:
آخِرَ مَقْصُوْرٍ تُثَنِّ اجْعَلْهُ يَا إِنْ كَانَ عَنْ ثَلاَثَةٍ مُرْتَقِيَا
ويقال في النسب إليه: يحيي بحذف الألف، ويحيوي بقلبها واوًا،
295
ويحياوي بزيادة ألف قبل الواو المنقلبة عن الألف الأصلية على حد قوله:
وإِنْ تَكُنْ تَرْبَعُ ذَا ثَانٍ سَكَنْ فَقَلْبُهَا وَاوًا وَحَذْفُهَا حَسَنْ
ويقال في تصغيره: يحيِّي بوزن فعيعل على حد قوله:
فُعَيْعِلٌ مَعَ فُعَيْعِيْلَ لِمَا فَاقَ كَجَعْلِ دِرْهَمٍ دُرَيْهِمَا
﴿وَحَصُورًا﴾: الحصور: فعول محول عن فاعل للمبالغة؛ كضروب محول من ضارب، وهو الذي لا يأتي النساء، إما لطبعه على ذلك، وإما لمبالغة نفسه، وفي "القاموس": الحصور: من لا يأتي النساء، وهو قادر على ذلك، والممنوع منهن، أو: من لا يشتهيهن ولا يقربهن.
﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾: والعاقر من لا يولد له، رجلًا كان أو امرأةً، مشتق من العقر، وهو: القطع، لقطعه النسل، وفي "المصباح": عقرت الناقة عقرًا من باب ضرب، وفي لغة من باب قرب، انقطع حملها فهي عاقر.
﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ - بكسر الهمزة - مصدر لـ ﴿أبكر﴾ الرباعي بمعنى: بكر، ثم استعمل اسمًا للوقت الذي هو البكرة، هكذا يؤخذ من "المختار"، وبفتح الهمزة جمع بَكَر بفتحتين بمعنى البكرة.
البلاغة
وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة والبلاغة:
منها: العموم الذي يراد به الخصوص في قوله: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ لما تعذر عليها الاطلاع على ما في بطنها.. أتت بلفظ ﴿مَا﴾ الذي يصدق على الذكر والأنثى والتأكيد في قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
ومنها: الخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها: ﴿وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ في قراءة من سكَّن التاء أو كسرها.
296
ومنها: تلوين الخطاب ومعدوله في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ في قراءة من كسر التاء، خرج من خطاب الغيبة في قولها: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ إلى خطاب المواجهة في قوله: ﴿بِمَا وَضَعَت﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَإِنِّي﴾، ﴿وَإِنِّي﴾، وفي قوله: ﴿زَكَرِيَّا﴾ و ﴿زَكَرِيَّا﴾، وفي قوله: ﴿مِنْ عَندِ اَللهِ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾.
ومنها: الدلالة على الاستمرار والتجدد في قوله: ﴿وَإِنّي أُعِيذُهَا﴾؛ حيث أتى بخبر ﴿إن﴾ فعلًا مضارعًا دلالة على طلب استمرار الاستعاذة دون انقطاعها.
ومنها: الدلالة على الانقطاع، حيث أتى بالخبرين فعلين ماضيين في قوله: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا﴾، ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾.
ومنها: المجاز المرسل أو بالاستعارة في قوله: ﴿وَأنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾؛ لأنه مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها بطريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم، أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية؛ إذ الزارع لم يزل يتعهد زرعه بسقيه، وإزالة الآفات عنه.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا﴾، وفي: ﴿رِزْقًا﴾ و ﴿يَرْزُقُ﴾.
ومنها: التعظيم والتفخيم في قوله: ﴿رِزْقًا﴾؛ حيث أتى به منكرًا مشيرًا إلى أنه ليس من جنس واحد، بل من أجناس كثيرة؛ لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة.
ومنها: الطباق بين كلمتي: ﴿العشي﴾ و ﴿الإبكار﴾.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
297
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)﴾
المناسبة
لما فرغ (١) الله سبحانه وتعالى عن قصة ولادة يحيى بن زكريا من عجوز عاقر وشيخ كبير قد بلغ من الكبر عتيًّا، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها.. رجع إلى قصة مريم، وذكر فيها ما هو أبلغ وأروع في خرق العادات، فذكر قصة ولادة عيسى المسيح من غير أب، وهي شيء أعجب من الأول، وهكذا عادة أساليب العرب، متى ذكروا شيئًا.. استطردوا منه إلى غيره، ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه، والغرض من ذكر هذه القصة تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود، والردُّ على النصارى الذين ادعوا ألوهية عيسى، فذكر ولادته من مريم البتول؛ ليدل على بشريته، وأعقبه بذكر ما أيده به من المعجزات؛ ليشير إلى
(١) البحر المحيط.
298
رسالته، وأنه أحد الرسل الكرام الذين أظهر الله على أيديهم خوارق العادات، وليس له شيء من أوصاف الربوبية.
التفسير وأوجه القراءة
٤٢ - ﴿و﴾ اذكر يا محمَّد لأمتك قصة ﴿إذ قالت الملائكة﴾؛ أي: جبريل - ومن معه من الملائكة؛ لأنه نقل أنه لا ينزل لأمر إلا ومعه جماعة من الملائكة - لمريم ابنة عمران مشافهة.
وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمرو شذوذًا: ﴿وإذ قال الملائكة﴾. ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اصْطَفَاكِ﴾ واختارك أولًا حيث قبلك من أمك، وقبل تحريرك، ولم يسبق ذلك لغيرك من الإناث، وربَّاك في حجر زكريا، ورزقك من الجنة، وقيل: بتفرغك لعبادته وتخصيصك بأنواع اللطف والهداية والعصمة والكفاية في أمر المعيشة، وسماع كلام جبريل شفاهًا ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من المعصية ومسيس الرجال، ومن الأفعال الذميمة، ومن مقالة اليهود وتهمتهم، وقيل: أنجاك من القتل، وقيل: من الحيض والنفاس، فكانت لا تحيض؛ أي: خلقك مطهرة مما للنساء ﴿اصْطَفَاكِ﴾؛ أي: اختارك آخرًا بولادة عيسى من غير أب ونطفة حال انفصاله من مريم حتى شهد ببراءتها عن التهمة. ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: عالمَي زمانها، وقيل: على جميع نساء العالمين، والمعتمد (١) أن مريم أفضل النساء على الإطلاق، كما هو ظاهر الآية، وقد نظم بعضهم ترتيب الأفضلية بينها وبين غيرها فقال:
فُضْلَى النِّسَا بِنْتُ عِمْرَانَ فَفَاطِمَهْ خَدِيْجَةٌ ثُمَّ مَنْ قَدْ بَرَّأ اللهْ
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد". متفق عليه.
قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض، قيل: أراد وكيع بهذه
(١) الجمل.
الإشارة تفسير الضمير في قوله: خير نسائها، ومعناه أنهما خير كل النساء بين السماء والأرض، قال النووي: والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام"، متفق عليه. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية؛ لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية امرأة فرعون" أخرجه الترمذي.
٤٣ - ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾؛ أي: قالت الملائكة لها شفاهًا يا مريم دومي على طاعة ربك بأنواع العبادات شكرًا لذلك الاصطفاء، وقيل: أطيلي القيام في الصلاة شكرًا لربك.
وروى مجاهد (١): أنها لما خوطبت بهذا.. قامت حتى ورمت قدماها، وقال الأوزاعي: قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جمادًا؛ لسكونها في طول قيامها. ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾؛ أي: ائتي بالسجود والركوع ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾؛ أي: مع المصلين، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ أي: صلي مع المصلين جماعة في بيت المقدس، فإنِّ اقتداء النساء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء، وإنما قدم السجود (٢) على الركوع؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب إنما هي للجمع، كأنه قيل لها: افعلي الركوع والسجود، وقيل: إنما قدم السجود على الركوع؛ لأنه كان
(١) البحر المحيط.
(٢) أبو السعود.
كذلك في شريعتهم، أو لكون السجود أفضل الأركان، أو ليقترن ﴿اركعي﴾ بـ ﴿الرَّاكِعِينَ﴾، وإنما قال: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، ولم يقل: مع الراكعات؛ لأن لفظ الراكعين أعم، فيدخل فيه الرجال والنساء، والصلاة مع الرجال أفضل وأنتم كما مر آنفًا. وقيل: معناه افعلي كفعل الراكعين.
٤٤ - ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من خبر حنة ومريم وزكريا ويحيى ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾؛ أي: من أخبار ما غاب عنك يا محمَّد ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾؛ أي: نلقي ذلك الغيب إليك يا محمَّد بواسطة جبريل الأمين، ونرسله إليك ليعلمكه، والمعنى: هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب، ولا علمكها معلم، بل هي وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين؛ لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزامًا لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.
والوحي في القرآن لأحد معانٍ أربعة (١):
الأول: لكلام جبريل للأنبياء، كما قال تعالى: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾.
والثاني: للإلهام، كما قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾.
والثالث: لإلقاء المعنى المراد في النفس، كما قال تعالى: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (٥)﴾.
والرابع: للإشارة، كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾.
فالوحي: تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كناية أو غيرهما.
﴿وَمَا كُنتَ﴾ يا محمَّد ﴿لَدَيْهِمْ﴾؛ أي: حاضرًا عند الذين تنازعوا في تربية مريم ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾؛ أي: حين يرمون في نهر الأردن أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، اختاروها للقرعة تبركًا بها؛ ليعلموا جواب ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾؛ أي: ليعلموا جواب استفهام؛ أي: أحدهم يربي مريم ويقوم بمصالحها.
(١) المراغي.
﴿وَمَا كُنتَ﴾ يا محمَّد شاهدًا ﴿لَدَيْهِمْ﴾؛ أي: حاضرًا عند المتنازعين ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: حين يتنازعون تنافسًا في كفالتها؛ أي: وما كنت عندهم إذ يتقارعون على تربية مريم، وإذ يختصمون بسببها، فتخبر قومك عن مشاهدة. ولا كنت قارئًا فتخبرهم عن دراسة، فلزم كون ذلك بطريق الوحي الدال على نبوتك.
وذلك أن حنة لما ولدت مريم.. أتت بها سدنة بيت المقدس، وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافس فيها الأحبار؛ لكونها بنت إمامهم ورئيسهم، أو لكونها حررت لعبادة الله وخدمة المسجد، فاقترعوا عليها، فخرجت القرعة لزكريا؛ أخذها ورباها كما سبق. قال ابن كثير: وإنما قدر الله كون زكريا كافلًا لها؛ لسعادتها، ولتقتبس منه علمًا جمًّا وعملًا صالحًا.
وفي "الفتوحات الإلهية" (١): واعلم أن هذا الكلام ونحوه كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾ وإن كان معلومًا انتفاؤه جارٍ مجرى التهكم بمنكر الوحي يعني: أنه إذا علم أنك لم تعاصر أولئك ولم تدارس أحدًا في العلم.. فلم يبقَ اطلاعك عليه إلا من جهة الوحي. انتهى.
٤٥ - واذكر يا محمَّد لأمتك قصة ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: جبريل لمريم وقرأ ابن مسعود وابن عمرو: ﴿إذ قال الملائكة﴾. ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ﴾: سبحانه وتعالى ﴿يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾؛ أي: بولد مخلوق بكلمة واقعة من الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة: كن؛ أي: من غير واسطة الأسباب العادية، فإن غير عيسى من كل مخلوق، وإن وجد بكلمة: كن، لكنه بواسطة أب، وقوله: ﴿مِنْهُ﴾ نعت لـ ﴿كلمة﴾ و ﴿من﴾ للابتداء؛ أي: كلمة كائنة من الله؛ أي: مبتدأة وناشئة منه تعالى.
واعلم (٢): أن أول المبشر به قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ﴾، وآخره قوله: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وقوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ إلى قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ اعتراض في خلال المبشر به، فالمبشر به نحو خمسة عشر شيئًا: كونه ولدًا، وكون اسمه كذا، وكونه وجيهًا،
(١) الجمل.
(٢) الجمل.
وكونه من المقربين، وكونه يكلم الناس في المهد، وكونه من الصالحين، وكونه يعلم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وكونه رسولًا إلى بني إسرائيل، فهذا كله قاله لها الملك قبل وجود عيسى. تأمل ﴿اسْمُهُ﴾؛ أي: اسم ذلك الولد ﴿الْمَسِيحُ﴾ قدم اللقب على الاسم لشهرته به، وإنما سُمي بالمسيح؛ لأنه يسيح في البلدان، أو لأنه ما مسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه، فهو فعيل بمعنى: فاعل، أو لأنه ممسوح القدمين، فليس فيهما خمص، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرِّجْل، وكان عيسى أمسح القدم لا خمص له، أو لمسحه بالبركة، أو لمسحه بالدهن الذي يمسح به الأنبياء حين خرج من بطن أمه، أو لمسح الجمال إياه، وهو ظهوره عليه، أو لمسحه من الأقذار التي تنال المولودين؛ لأن أمه كانت لا تحيض، ولم تدنس بدم نفاس، فعلى هذه الأقوال، فهو فعيل بمعنى: مفعول، وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية مشيخًا، فغير، فعلى هذا يكون اسمًا مرتجلًا ليس هو مشتقًا من المسح، ولا من السياحة، فمشيخا معناه: المبارك ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وعيسى معرب: أيشوع، مشتق من العيس، وهو بياض يعلوه حمرة. فإن قلت: لِمَ قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وهذه ثلاثة أشياء الاسم والكنية واللقب؟.
قلتُ: المراد اسمه الذي يتميز به عن غيره، وهو لا يتميز إلا بمجموع الثلاثة، وبهذا تعلم أن الخبر عن اسمه إنما هو مجموع الثلاثة من حيث المعنى، لا كل واحد منها على حياله، فهذا على حد الرُّمان حلو حامض، وإنما نسبه الله تعالى إلى الأم إعلامًا لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببًا لزيادة فضله وعلو درجته، وإنما لم بقل: ابنك كما هو الظاهر إشارةً إلى أنه يكنى بهذه الكنية المشتملة على الإضافة للظاهر. ﴿وَجِيهًا﴾ حال مقدرة من ﴿كلمة﴾، وكذا قوله: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾،
٤٦ - وقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾، وقوله: ﴿من الصالحين﴾ فهذه أربعة أحوال من ﴿كلمة﴾، والتذكير باعتبار معناها، وهي وإن كانت نكرة، لكنها موصوفة، أي: حالة كونه شريفًا رفيعًا ذا جاء وقدر. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ بالنبوة وبإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بسبب دعائه. ﴿و﴾ في ﴿الْآخِرَةِ﴾ بجعله شفيع أمته، وبقبول شفاعته فيهم، وبعلو درجته عند الله تعالى ﴿و﴾ حالة كونه كائنًا
﴿من المقربين﴾ إلى الله في جنة عدن، وهذا الوصف كالتنبيه على أن عيسى سيرفع إلى السماء، وتصاحبه الملائكة ﴿و﴾ حالة كونه ﴿يكلم الناس في﴾ زمن ﴿الْمَهْدِ﴾ والطفولة، وهو في حجر أمه إظهارًا لبراءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة على نبوته؛ حيث قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾، كما سيأتي في سورة "مريم"، وبعد ما تكلم بهذا الكلام.. سكت ولم يتكلم حتى بلغ أوان النطق عادة ﴿و﴾ يكلمهم حالة كونه ﴿كهلا﴾؛ أي: بالغًا كبيرًا بكلام الأنبياء، والدعوة إلى الله، فهو إشارة إلى نبوته. وزمن الكهولة من الثلاثين سنة إلى الأربعين، وفي وصفه بهذه الصفات المتغايرة إشارة إلى أنه بمعزل عن الألوهية، ففيه ردٌّ على النصارى، كانه قال: لو كان إلهًا كما زعمتم.. ما اعتراه هذا التغير من كونه صبيًّا وكهلًا وغير ذلك.
﴿و﴾ حالة كونه كائنًا من العباد ﴿الصَّالِحِينَ﴾ ومعدودًا منهم، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، الذين تعرف مريم سيرتهم؛ مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، وغيرهم من الأنبياء.
وإنما ختم (١) أوصاف عيسى عليه السلام بكونه من الصالحين، بعدما وصفه بالأوصاف العظيمة؛ لأن الصلاح من أعظم المراتب وأشرف المقامات؛ لأنه لا يسمى المرء صالحًا حتى يكون مواظبًا على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أقواله وأفعاله، فلما وصفه الله تعالى بكونه وجيهًا في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، وأنه يكلم الناس في المهد وكهلًا.. أردفه بقوله: ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ ليكمل له أعلى الدرجات وأشرف المقامات.
٤٧ - ﴿قَالَتْ﴾ مريم لجبريل لما بشرها بالولد، وقيل: تقوله لله عَزَّ وَجَلَّ - ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾؛ أي: يا سيدي من أين يكون لي ولد ﴿و﴾ الحال أني ﴿لم يمسسني بشر﴾؛ أي: لم يصبني رجل بالحلال ولا بالحرام؟؛ لأن المحررة لا تتزوج أبدًا كالذكر المحرر.
أي قالت: كيف يكون لي ولد وليس لي زوج؟ وقد يكون مرادها: أيحدث
(١) الخازن.
304
ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها: التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه. وفي "الفتوحات": والاستفهام هنا استفهام حقيقي عن كيفية خلقه منها، هل يكون وهي بهذه الحالة عزباء، أو بعد أن تتزوج؟ فأجابها: بأنه يخلقه منها، وهي على هذه الحالة، كما يدل عليه قولنا الآتي من خلق ولدٍ منك بلا أب. انتهى.
﴿قَالَ﴾ جبريل الأمر ﴿كَذَلِكِ﴾؛ أي: كما قلت لكِ من خلق ولد منك بلا أب ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ كيف شاء بسبب، وبلا سبب.
أو المعنى (١): مثل هذا الخلق العجيب، والإحداث البديع - وهو خلق الولد بغير أبٍ - يخلق الله ما يشاء، فالكاف صفة لمصدر محذوف على هذا المعنى.
فإن قلت (٢): لِمَ عبَّر هنا بالخلق، وفي قصة يحيى بالفعل؟
قلت: لأن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر، أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير، فكأن الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل كما سبق.
أي: هكذا يخلق الله منك ولدًا من غير أن يمسك بشر، فيجعله آية للناس وعبرة، فإنه ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾؛ أي: إذا أراد خلق شيء من الكائنات ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ﴾؛ أي: لذلك الأمر ﴿كُن﴾ لا غير، أي: أحدث وأخرج من العدم ﴿فـ﴾ هو ﴿يكون﴾؛ أي: فذلك الأمر يوجد بسرعة من غير تباطؤ، فنفخ جبريل في جيب درعها، فوصل نَفَسه إلى فرجها فدخل رحمها، فحملت منه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجًا بأسباب ومواد.. يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك، وهذا تمثيل لكمال قدرته، ونفوذ مشيئته وتصوير لسرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع يفعل ما يطلب منه
(١) المراغي.
(٢) الجمل.
305
على الفور.
وهذا الأمر يسمى أمر تكوين، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف، يعرف بوحي الله لأنبيائه، والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب وقوفًا عند العادة، وذهولًا عن كيفية بدء العالم، ولكن ليس لهم دليل عقلي ينبيء بالاستحالة، وإنا نشاهد كل يوم حدوث شيء في الكون لم يكن معتادًا من قبل، بعضه له أسباب معروفة، فيسمونه: استكشافًا أو اختراعًا، وبعضه ليس بمعروف له سببٌ، ويسمونه: فلتات الطبيعة.
والمؤمنون يقولون: إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدي الحاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبًا عقليًّا مطردًا.
وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون.. لعدوه سحرًا، أو خرافة، أو أضافوه إلى الجن، ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابًا، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان، إذًا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقربُ إلى العقول، وأدنى إلى الإمكان.
٤٨ - ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ قرأ نافع وعاصم: ﴿يعلمه﴾ بالياء ويكون معطوفًا على الحال، أعني: قوله: وجيهًا، فكأن جبريل قال: حالة كونه وجيهًا ومعلمًا الكتاب، وما بعده بفتح اللام، أو على: ﴿يُبَشِرُكِ﴾، وقرأ الباقون: ﴿ونعلمه﴾ - بالنون - فيكون معمولًا لقول محذوف من كلام الملك تقديره: ويقول الله نعلمه إلخ، ويكون في المعنى معطوفًا على الحال أيضًا تقديره: وجيهًا ومقولًا فيه نعلمه، أو على ﴿يُبَشِّرُكَ﴾؛ أي: إن الله يبشرك بعيسى، ويقول: نعلمه الكتاب، ويصح كونه مستأنفًا سيق تطييبًا لقلبها، وإزاحة لما أَهَمَّها من خوف الملامة حين علمت أنها تلد من غير زوج.
أي: ويعلمه الكتاب؛ أي: الكتابة والخط باليد، وكان أحسن الناس خطًّا في زمانه، وقيل: يعلمه كتب الأنبياء ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾؛ أي: العلم المقترن بالعمل، وتهذيب الأخلاق ﴿وَالتَّوْرَاةَ﴾ التي أنزلت على موسى ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾ الذي أنزل عليه،
وإنما أفردهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة؛ لزيادة فضلهما على غيرهما، فكان يحفظهما على ظهر قلبه.
وهذا إخبار من الله تعالى لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به، من الكرامة وعلو المنزلة.
٤٩ - ﴿و﴾ حالة كونه ﴿رسولًا إلى بني إسرائيل﴾ كلهم، وتخصيص (١) بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم.
وقرأ اليزيدي شذوذًا: ﴿ورسولِ﴾ - بالجر - وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾، وهي قراءة شاذة في القياس؛ لطول البعد بين المعطوف والمعطوف عليه.
والمعتمد عند الجمهور (٢): أن عيسى إنما نبىء على رأس الأربعين، وأنه عاش في الأرض قبل رفعه مئة وعشرين سنة، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل كما أن أولهم يوسف بن يعقوب، وسيأتي بسط ذلك عند قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ إن شاء الله تعالى.
﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ - بفتح الهمزة - على قراءة الجمهور، فيكون مجرورًا بباء الملابسة المقدرة المتعلقة بمحذوف حال من رسول المقدر؛ لما فيه من معنى النطق، والتقدير: فلما جاءهم.. قال: إني رسول الله إليكم حالة كوني ملتبسًا بمجيئي إياكم بآية وعلامة تدل على صدق رسالتي، وتلك الآية: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير إلخ، وهذا التقدير أحسن (٣)؛ لأن قصة البشارة قد تمت، وهذا شروع في قصة ما وقع له بعد وجوده في الخارج.
وقريء بكسر همزة ﴿إني﴾ وهي شاذة، فيكون مفعولًا لقول محذوف تقديره: فلما جاءهم.. قال لهم: إني قد جئتكم بآية. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: بعلامة دالة على صدقي كائنة من ربكم، وإنما قال: ﴿بِآيَةٍ﴾، وقد جاء بآيات
(١) البيضاوي.
(٢) الجمل والمراح.
(٣) الجمل.
307
كثيرة؛ لأن الكل دال على شيء واحد، وهو صدقه في الرسالة. قرأ الجمهور: ﴿بِآيَةٍ﴾ بالإفراد، وفي مصحف عبد الله شذوذًا: (بآيات) بالجمع في الموضعين، فلما قال ذلك عيسى لبني إسرائيل.. قالوا: ما تلك الآية؟ قال هي ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ وأصور وأقدر ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: لأجل هدايتكم وتصديقكم بي ﴿مِنَ الطِّينِ﴾؛ أي: من التراب الرطب ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾؛ أي: شيئًا مثل صورة الطير.
قرأ الجمهور: ﴿أَنِّي﴾ - بفتح الهمزة - على كونه خبر مبتدأ محذوف كما قدرنا، أو على كونه بدلًا من آية، فيكون في محل جر. وقرأ نافع ﴿إنيَ﴾ بالكسر على الاستئناف، أو على إضمار القول. وقرأ الجمهور ﴿كَهَيْئَةِ﴾ بفتحتين بينهما ياء ساكنة. وقرأ الزهري شذوذًا: (كهِيَّة) بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث. وقرأ الجمهور: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع في المتواتر: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾.
﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾؛ أي: في فم ذلك الشيء المماثل للطير، فالضمير للكاف. وقرأ بعض القراء شذوذًا؛ (فأنفخ فيها) بالتأنيث كما هو كذلك في المائدة، فالضمير للهيئة. ﴿فَيَكُونُ﴾؛ أي: فيصير ذلك المماثل الذي أنفخ فيه ﴿طَيْرًا﴾ حيًّا يطير بين السماء والأرض ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأمر الله وتكوينه وتخليقه، وفيه إشارة إلى أن إحياءَه من الله تعالى، لا منه، وهذه هي المعجزة الأولى. وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة: ﴿طائرًا﴾، وقرأ الباقون: ﴿طيرا﴾.
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخَفَّاش، وإنما طالبوه بخلق الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقًا، وأبلغ دلالة على القدرة؛ لأن له نابًا وأسنانًا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، إنما يرى في ساعتين: ساعة بعد المغرب، وساعة بعد طلوع الفجر، والأنثى منه لها ثدي وتحيض وتطهر وتلد.
وخلاصة الكلام: أن من علامات نبوتي - إن كنتم فيه تمترون - أني أقتطع من الطين جزءًا مصورًا بصورة طير من الطيور التي تريدون، ثم أنفخ فيه، فيصير
308
طيرًا حيًّا يحلق في جو السماء، كما تفعل بقية الطيور.
وقد روي أنه عليه السلام لما أعلن النبوة، وأظهر المعجزات.. طالبوه بخلق خَفَّاش، فأخذ طينًا، وصوره، ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم.. سقط ميتًا؛ ليتميز عن خلق الله تعالى.
وقد جرت سنّة الله أن تجرى الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها، وجعل الإيمان موقوفًا عليها، فإن كانوا سألوه شيئًا من ذلك.. فقد فعل، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير؛ إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنّة يعينه، فنقف حينئذٍ عند لفظ الآية.
فلما صور لهم خفاشًا.. قالوا: هذا سحر، فهل عندك غيره؟ قال: نعم. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾؛ أي: وأشفي الذي ولد أعمى، أو الممسوح العينين، وأصححه من عماه ﴿و﴾ أشفي ﴿الأبرص﴾ وأصححه من مرضه؛ وهو الذي في جلده بياض شديد، وهذه هي المعجزة الثانية، ولم يقل في هذه المعجزة، وفي المعجزة الرابعة: بإذن الله؛ لأنهما ليس فيهما كبير غرابة بالنسبة إلى الآخرين، فتوهم الألوهية فيهما بعيد، فلا يحتاج للتنبيه على نفيه خصوصًا وكان فيهم أطباء كثيرون، وإنما خُصَّا بالذكر؛ لأن مداواتهما أعيت الأطباء، وقد كان الطب متقدمًا جدًّا في زمن عيسى، فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس، وقد جرت السنّة الإلهية أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في زمنه؛ فأعطى موسى العصا، وابتلعت ما كانوا يأفكون؛ لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر؛ وأعطى عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره؛ وأعطى محمدًا - ﷺ - معجزة القرآن؛ لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان.
فلما فعل ذلك قالوا: هذا سحر، فهل عندك غيره؟ قال: نعم. ﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: وأحيي بعض الأموات بإرادة الله ودعائه، وكان يدعو لإحيائهم باسم الله الأعظم، وهو يا حي يا قيوم، وهذه هي المعجزة الثالثة.
309
وإنما كرر (١): بإذن الله هنا وفيما مرَّ؛ لنفي توهم الألوهية في عيسى، فهو رد على النصارى؛ لأن الإحياء والخلق ليس من جنس الأفعال البشرية، وأما إبراء الأكمه والأبرص، فهو من جنس أفعالهم، فلذا لم يذكر بإذن الله بعده، وذكر في المائدة أربعًا بلفظ: إذني؛ لأنه هنا من كلام عيسى، وثم من كلام الله تعالى، وأتى بهذه الأربع بلفظ المضارع دلالة على تجدد ذلك كل وقت طلب منه.
روي أنه أحيا أربعة أنفس: أحيا عازَر بوزن هاجر بعد موته بثلاثة أيام حتى عاش، وولد له، وأحيا ابن العجوز وهو ميت محمول على السرير، فنزل عن سريره حيًّا، ورجع إلى أهله، وعاش وولد له، وأحيا بنت العاشر؛ أي: الذي يأخذ العشور من الناس بعد يوم من موتها، فعاشت، وولد لها، فقالوا لعيسى: إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت، فلعلهم لم يموتوا حقيقة، بل أصابهم سكتة، فأحي لنا سام بن نوح، وهو قد مضى من موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقام على قبره، فدعا الله باسمه الأعظم، فقام من قبره، وقال للقوم: صدقوه فإنه نبي الله، ومات في الحال، فآمن به بعضهم، وكذبه آخرون، فقالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال: نعم. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾؛ أي؛ وأخبركم بما تطعمون وتشربون غدوة وعشية ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾؛ أي: وأخبركم ما ترفعون وتخبئون في بيوتكم من غداء لعشاء، ومن عشاء لغداء لتأكلوه فيما بعد ذلك. قيل: كان عيسى عليه السلام يخبر الرجل بما أكل البارحة، وبما يأكله اليوم، وبما يدخره للعشاء، وقال قتادة: إنما كان هذا في نزول المائدة، وكان خوانًا ينزل عليهم أينما كانوا، فيه من طعام الجنة، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغدٍ، فخانوا وادخروا، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بما أكلوا من المائدة، وما ادخروا منها، فمسخهم الله خنازير، وهذه هي المعجزة الرابعة، وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة له، وهي: إخباره عن المغيبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات من: إبراء الأكمه
(١) الجمل.
310
والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله تعالى، وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه ذلك، وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر إليه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور الذي قلته لكم من خلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار عن المغيبات ﴿لَأَيَة﴾؛ أي: لمعجزة قوية دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة ﴿لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ومصدقين للحق غير معاندين انتفعتم بهذه الآيات. وقرأ الجمهور: ﴿تَدَّخِرُونَ﴾ بذال مشددة. وقرأ مجاهد والزهري وأيوب السختياني: ﴿تذخرون﴾ بذال ساكنة وخاء مفتوحة. وقرأ أبو شعيب السوسي: ﴿وما تذدخرون﴾ بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام، وهذا الفك جائز، وقراءة الجمهور بالإدغام أجود، وما عداه شاذ.
وتقدم أن في مصحف عبد الله بن مسعود: ﴿لآيات﴾ بالجمع، فمن أفرد أراد الجنس، وهو صالح للقليل والكثير.
٥٠ - ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ عطف ومصدقًا على قوله: بآية؛ إذ الباء فيه للحال، ولا تكون للتعدية؛ لفساد المعنى، فالمعنى: وجئتكم مصحوبًا بآية من ربكم، ومصدقًا ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾؛ أي: لما قبلي ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ ومؤيدًا لها، ومعنى تصديقه للتوراة: الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالفها في أشياء، وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسع مئة سنة وخمس وسبعون سنة.
والخلاصة: أي وجئتكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة، لا ناسخًا لها، ولا مخالفًا شيئًا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددًا عليهم فيها، وهو الذي ذكره بقوله ﴿و﴾ جئتكم ﴿لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم﴾؛ أي: ولأحل لكم بعض الطيبات التي حرمت عليكم في شريعة موسى بسبب ظلمكم، وكثرة سؤالكم؛ كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ من الشحوم والشروب، وهي شحم الكرش والأمعاء رقيق للبقر والغنم ولحوم الإبل، ومما لا صيصية له؛ أي: شوكة يؤذي بها من السمك والطير، ومن العمل في يوم السبت، وهذا لا يقدح في كونه مصدقًا للتوراة؛ لأن النسخ تخصيص في الأزمان.
قرأ الجمهور: ﴿حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ بالبناء للمفعول مع التشديد، وقرأ عكرمة شذوذًا: (حَرّم عليكم) بالتشديد مبنيًّا للفاعل، والفاعل ضمير يعود على ﴿ما﴾ في قوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾، أو يعود على الله منزل التوراة، أو على موسى صاحب التوراة، والظاهر الأول؛ لأنه مذكور، وقرأ إبراهيم النخعي شذوذًا أيضًا: (حَرُم) بوزن: كَرُم. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم دالة على صدق مقالتي، وشاهدة على صحة رسالتي مما ذكرت لم: من خلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، والإحياء والإنباء بالمغيبات إلى نحو ذلك (١)، وقرىء شذوذًا: ﴿بآيات﴾ بلفظ الجمع، وكرر هذا ليرتب عليه الأمر الذي ذكره بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقاب الله يا بني إسرائيل في عدم قبولها ﴿وَأَطِيعُونِ﴾؛ أي: امتثلوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه عن الله تعالى، ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد، والاعتراف بالعبودية، فقال:
٥١ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾؛ أي: خالقي وخالقكم، ومالكي ومالككم، وتكرار: ﴿رَبِّي﴾ ﴿وَرَبُّكُمْ﴾ أبلغ في التزام العبودية من قوله: ربنا، وأدل على التبري من الربوبية، وأقر بالعبودية لئلا يتقولوا عليه الباطل، فيقولوا: إنه إله وابن إله؛ لأن إقراره بالعبودية لله يمنعُ مما تدعيه جهال النصارى عليه ﴿فَاعْبُدُوه﴾؛ أي: وحدوه ولازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر، والانتهاء عن المناهي ﴿هَذَا﴾؛ أي: الجمع بين التوحيد والعبادة ﴿صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾؛ أي: دين قويم يرضاه الله تعالى، وهو الإِسلام الموصل إلى خيري الدنيا والآخرة.
الإعراب
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢)﴾.
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾: الواو استئنافية ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان. ﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾،
(١) قوله إلى نحو ذلك: كولادتي من غير أب، وكلامي في المهد اهـ.
312
والظرف متعلق بمحذوف تقديره: واذكر وقت قول الملائكة لمريم، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ إلى قوله: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَتِ﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿يَا مَرْيَمُ﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿مريم﴾ منادى مفرد علم، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ ﴿قال﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾ اسمها، ﴿اصْطَفَاكِ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إِنِّ﴾ في محل النصب مقول (قال)، وجملة قوله: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾، وكذا قوله: ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾ الثاني. ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾.
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)﴾.
﴿يَا مَرْيَمُ﴾: منادى مفرد العلم، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿اقْنُتِي﴾: فعل وفاعل ﴿لِرَبِّكِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اقْنُتِي﴾، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿وَاسْجُدِي﴾: فعل وفاعل، وكذا قوله: ﴿وَارْكَعِي﴾، والجملتان في محل النصب معطوفتان على جملة ﴿اقْنُتِي﴾. ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿اركعي﴾.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)﴾.
﴿ذلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿نُوحِيهِ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة (١) الفعلية مستأنفة، والضمير في ﴿نُوحِيهِ﴾ عائد على ﴿الْغَيْبِ﴾؛ أي: الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب، ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾: الواو استئنافية ﴿ما﴾:
(١) الجمل.
313
نافية ﴿كُنتَ﴾: فعل ناقص، واسمه. ﴿لَدَيْهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بخبر ﴿كان﴾، والجملة مستأنفة. ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى. ﴿يُلْقُونَ﴾ فعل وفاعل، ﴿أَقْلَامَهُمْ﴾ مفعول ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿كان﴾، أو بالاستقرار الذي وقع خبرًا لـ ﴿كان﴾، والتقدير: وما كنت لديهم وقت إلقائهم أقلامهم. ﴿أَيُّهُمْ﴾ اسم استفهام مبتدأ مرفوع. ﴿يَكْفُلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿أي﴾. ﴿مَريَمَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: أيهم كافل مريم، والجملة الإسمية في محل النصب معمول لمحذوف، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: إذ يلقون أقلامهم ليعلموا جواب أيهم يكفل مريم. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ إعرابه مثل إعراب قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾.
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى، ﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَة﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمَّد قصة وقت قول الملائكة ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَتِ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا مَرْيَمُ﴾ منادى مفرد العلم، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: حرف نصب، واسمها ﴿يُبَشِّرُكِ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول القول ﴿بِكَلِمَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كلمة﴾. ﴿اسْمُهُ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿الْمَسِيحُ﴾ خبره ﴿عِيسَى﴾ بدل منه، أو عطف بيان. ﴿ابنُ مَرْيَمَ﴾ بدل ثانٍ، أو عطف، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ ﴿كلمة﴾، والرابط ضمير اسمه، وقال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون ﴿عِيسَى﴾ خبرًا آخر؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ، والمبتدأ هنا مفرد، وهو قوله: ﴿اسْمُهُ﴾، ولو كان ﴿عِيسَى﴾ خبرًا آخر لكان التقدير: أسماؤه، وأجاز أيضًا أن يكون ﴿ابْنُ مَريَمَ﴾ خبر
314
مبتدأ محذوف؛ أي: هو ابن مريم ﴿وَجِيهًا﴾: حال من ﴿كلمة﴾، والتذكير باعتبار معناها؛ لأنها بمعنى: مولود، وجاز مجيء الحال منها مع كونها نكرة لوصفها بالجار والمجرور بعدها ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَجِيهًا﴾ ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾: جار ومجرور معطوف على ﴿وَجِيهًا﴾ على كونه حالًا من ﴿كلمة﴾.
﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)﴾.
﴿وَيُكَلِّمُ﴾ الواو عاطفة ﴿يكلم الناس﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿كلمة﴾؛ لأنها بمعنى: مولود ﴿فِي الْمَهْدِ﴾: متعلق بـ ﴿يكلم﴾، أو حال من الضمير في ﴿يكلم﴾؛ أي: يكلمهم صغيرًا. ﴿وَكَهْلًا﴾: يجوز أن يكون حالًا معطونة على ﴿وَجِيهًا﴾، وأن يكون معطوفًا على موضع ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ إذا جعلناه حالًا، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على ﴿وَجِيهًا﴾ على كونها حالًا من ﴿كلمة﴾. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾: جار ومجرور، ومعطوف على ﴿وَجِيهًا﴾ على كونه حالًا من ﴿كلمة﴾.
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾.
﴿قَالَتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مريم﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ إلى قوله: ﴿بَشَرٌ﴾: مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: مناد مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام بمعنى: من أين في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿يَكُونُ﴾. ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص ﴿لِي﴾: جار ومجرور خبرها، ﴿وَلَدٌ﴾ اسمها، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾، وتقدم مثل هذا الكلام في قصة زكريا، فراجعه ﴿وَلَمْ﴾: الواو حالية ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، ونون وقاية، والجملة في محل النصب حال من ياء المتكلم في قوله: ﴿لِي﴾. ﴿قالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على جبريل، والجملة مستأنفة ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكيٌّ، وإن شئت قلتَ: ﴿كَذلِكِ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك،
315
والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿يَخلُقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿يَخْلُقُ﴾ ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يشاؤه.
﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مضمنة معنى الشرط ﴿قَضَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به، والجملة في محل الخفض فعل شرط لإذا، والعامل (١) في ﴿إِذَا﴾ محذوف يدل عليه الجواب من قوله: ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ﴾، والتقدير: إذا قضى أمرًا.. يكون ويحصل، فلفظ: يكون المقدر، هو العامل في ﴿إِذَا﴾ ﴿فَإِنَّمَا﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إذَا﴾ جوازًا، ﴿إنما﴾: أداة حصر. ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية دالة على جواب ﴿إذَا﴾ ﴿كُن﴾: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿كُن﴾: فعل أمر بمعنى: أُحدث من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَمْرًا﴾، ﴿فَيَكوُنُ﴾: الفاء عاطفة ﴿يكون﴾: فعل مضارع بمعنى يحصل من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على أمرًا، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَقُولُ﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول ﴿قال﴾. وفي "الفتوحات": قوله: ﴿فَيَكوُنُ﴾ الجمهور (٢) على رفعه فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مستأنفًا؛ أي: خبرأ لمبتدأ محذوف؛ أي: فهو يكون، ويعزى لسيبويه.
(١) الجمل ج ١ ص ٩٩.
(٢) الجمل ج ١ ص ٩٩.
316
الثاني: أن يكون معطوفًا على ﴿كُن﴾ من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وقرأ ابن عامر بالنصب هنا، وفي البقرة. انتهى.
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)﴾.
﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ الواو عاطفة ﴿يعلمه﴾: فعل مضارع ومفعول أول ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثانٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على ﴿وَجِيهًا﴾ على كونها حالًا من ﴿كلمة﴾ على قراءة الياء، وأما على قراءة النون، فالجملة مستأنفة. وقال أبو البقاء (١): ﴿ونعلمه﴾ يقرأ بالنون حملًا على قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ ويقرأ بالياء حملًا على ﴿يُبَشِّرُكِ﴾، وموضعه حال معطوفة على ﴿وَجِيهًا﴾ انتهى. ﴿وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾: معطوفات على ﴿الْكِتَابَ﴾.
﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
﴿وَرَسُولًا﴾: حال معطوف على ﴿وَجِيهًا﴾. ﴿إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿رسولًا﴾؛ لأنه بمعنى مرسلًا. ﴿أَنِّي﴾: أن: حرف نصب ومصدر، والياء اسمها ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿جِئْتُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿بِآيَةٍ﴾: متعلق به، أو في موضع الحال؛ أي: محتجًّا بآية، ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: متعلق بمحذوف صفة لآية، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (أن)، وجملة ﴿أَن﴾ في تأويل مصدر مجرور بباء الملابسة المقدرة، المتعلقة بمحذوف حال من رسول المقدر تقديره: فلما جاءهم.. قال: إني رسول الله إليكم حالة كوني ملتبسًا بمجيئي إياكم بآية من ربكم، وعلى قراءة الكسر: تكون مقولًا لقول محذوف تقديره: فلما جاءهم.. قال لهم: إني قد جئتكم بآية من ربكم، كما مرت الإشارة إلى ذلك كله في مقام التفسير وأوجه القراءة.
﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾.
(١) العكبري.
317
﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، والياء اسمها، ﴿أَخْلُقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على عيسى ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، وكذا ﴿مِنَ الطِّينِ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف تقديره: وهي؛ أي: تلك الآية خلقي لكم من الطين، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وقال أبو البقاء (١): ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ يقرأ بفتح الهمزة، وفي موضعه حينئذٍ ثلاثة أوجه:
أحدها: الجر بدلًا من ﴿آية﴾.
والثاني: الرفع؛ أي: هي أني.
والثالث: أن يكون بدلًا من ﴿أَنِّي﴾ الأولى. ويقرأ بكسر الهمزة على الاستئناف، أو على إضمار القول. انتهى. ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لمحذوف تقديره: أني أخلق لكم من الطين هيئةً كائنة كهيئة الطير؛ أي: صورة كصورة الطير.
﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
﴿فَأَنْفُخُ﴾: الفاء عاطفة ﴿أنفخ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على عيسى. ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَخْلُقُ﴾. ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾: الفاء عاطفة ﴿يكون﴾: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على الشيء المصوَّر ﴿طَيْرًا﴾ خبرها، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أنفخ﴾. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يكون﴾. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾: فعل ومفعول. ﴿وَالْأَبْرَصَ﴾: معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على عيسى، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَخْلُقُ﴾ ﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى﴾: فعل ومفعول. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: متعلق به، وفاعله
(١) العكبري.
318
ضمير يعود على عيسى، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَخْلُقُ﴾.
﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَأُنَبِّئُكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على عيسى. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور في موضع المفعول الثاني. ﴿تَأْكُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تأكلونه، وجملة ﴿أنبئكم﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَخْلُقُ﴾ ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾: معطوف على قوله: ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾. ﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَدَّخِرُونَ﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿في ذلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لإنَّ ﴿لَآيَةً﴾: اسمها مؤخر، واللام فيه لام الابتداء، ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور صفة ﴿لَآيَةً﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿مُؤْمِنِينَ﴾: خبر كان، وجواب ﴿إن﴾ محذوف تقديره: انتفعتم بهذه الآيات، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)﴾.
﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ الواو عاطفة ﴿مصدقًا﴾: حال معطوفة على قوله: ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: وجئتكم حال كوني محتجًا بآية من ربكم، وحالة كوني مصدقًا لما بين يدي ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مصدقًا﴾ ﴿بَيْنَ يَدَيَّ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف؛ إما صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾: جار ومجرور في موضع نصب (١) على الحال من الضمير المستتر في الظرف، وهو ﴿بَيْنَ﴾، والعامل فيها الاستقرار، أو نفس الظرف، ويجوز أن يكون حالًا
(١) العكبري.
319
من ﴿ما﴾، فيكون العامل فيه ﴿مصدقًا﴾. ﴿وَلِأُحِلَّ﴾: الواو عاطفة. ﴿لأحل﴾: اللام حرف جر وتعليل، (أحل): فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على عيسى. ﴿لَكُم﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿بَعْضَ﴾: مفعول به وهو مضاف ﴿الَّذِي﴾ مضاف إليه، ﴿حُرِّمَ﴾ ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائبه ضمير يعود على الموصول ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿حُرِّمَ﴾، وجملة ﴿حُرِّمَ﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿أحل﴾ صلة إن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وجئتكم لإحلالي لكم بعض الذي حرم عليكم، وهذا المحذوف معطوف في المعنى على قوله: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾. ﴿جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾: الواو عاطفة ﴿جئتكم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله السابق؛ ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، فهذه مؤكدة للسابقة لاتحادهما لفظًا ومعنى. ﴿بِآيَةٍ﴾: متعلق بمحذوف حال من تاء الفاعل تقديره: وجئتكم حالة كوني ملتبسًا بآية، ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آية﴾. ﴿فَاتقُواْ اَللهَ وَأَطِيعُونِ﴾: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مجيئي لكم بآية من ربكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فأقول لكم: اتقوا الله. ﴿اتقوا﴾: فعل وفاعل، ولفظ الجلالة مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: الواو عاطفة ﴿أطيعون﴾: فعل وفاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة، أو استغناء عنها بكسر نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿رَبِّي﴾: خبرها ومضاف إليه، وكذلك قوله: ﴿وَرَبُّكُمْ﴾ معطوف عليه، وجملة ﴿إِنَّ﴾. مستأنفة ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا غرفتم كون معبودي ومعبودكم واحدًا، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم.. فأقول
320
لكم فاعبدوه. (عبدوه): فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ ﴿صِرَاطٌ﴾: خبره ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿صِرَاطٌ﴾، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالعبادة. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾: الأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر الهام، وهو اسم مصدر لأنبأ ينبىء إنباءً إذا أخبر بالخبر الذي يعتنى به. ﴿نوُحِيهِ﴾: الوحي: إلقاء المعنى في النفس في خفاء، فقد يكون بالمَلَك للرسل، وبالإلهام كما في النحل، والإشارة كما في زكريا وهو في المحراب، وهو اسم مصدر لأوحى يوحي إيحاءً ووحيًا إذا ألهم وأعلم.
﴿أَقلَامَهُمْ﴾: جمع قلم، والقلم معروف، وهو الذي يكتب به، ويُطلق على السهم يقترع به، وهو فعل بمعنى مفعول؛ لأنه يقلم، أي: يبرى ويسوى، وقيل: هو مشتق من القلامة، وهي نبت ضعيف لترقيقه.
﴿فِي الْمَهْدِ﴾: المهد: ما يمهد للصبي ويوطأ له لينام فيه، والكلام على حذف المضاف؛ أي: في زمان المهد.
﴿وَكَهْلًا﴾: الكهل: اسم من اكتهل النبات إذا قوي وعلا، ومنه: الكاهل، وقال ابن فارس: اكتهل الرجل إذا خطه الشيب، من قولهم: اكتهلت الروضة إذا عمها النور، ويقال للرجل: كهل، وللمرأة: كهلة، والكهل: هو الذي بلغ سن الكهولة، وآخرها ستون، وقيل: خمسون، وقيل: اثنان وخمسون، ثم يدخل سن الشيخوخة، واختلف في أول سن الكهولة، فقيل: ثلاثون، وقيل: اثنان وثلاثون، وقيل: ثلاثة وثلاثون، وقيل: خمسة وثلاثون، وقيل: أربعون عامًا.
فائدة: ونقل عن (١) الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله، أنه في
(١) البحر المحيط.
321
الرحم جنين، فإذا ولد فوليد، فإذا لم يستتم الأسبوع فصديع، وإذا دام يرضع فرضيع، وإذا فطم ففطيم، وإذا لم يرضع فجحوش، فإذا دبَّ ونما فدارج، فإذا سقطت رواضعه فمثغور، فإذا نبتت بعد السقوط فمتغر بالتاء والثاء، فإذا كان يجاوز العشر فمترعرع وناشىء، فإذا كان يبلغ الحلم فيافع ومراهق، فإذا احتلم فمحزور، وهو في جميع هذه الأحوال غلام، فإذا اخضر شاربه وسال عذاره فباقل، فإذا صار ذاقنًا ففتى وشارخ، فإذا أكملت لحيته فمجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل إلى أن يستوفي الستين. هذا هو المشهور عند أهل اللغة.
﴿اَلطِّينِ﴾: معروف، يقال: طانه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميمًا، إذا جبله وخلقه على كذا، ومطينٌ لقبٌ لمحدِّث معروف.
﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾: الهيئة: الشَّكْل والصورة، وأصله مصدر، يقال: هاء الشيء يهاء - من باب هاب - هيئًا وهيئةً إذا ترتب واستقر على حال ما، وتعدِّيه بالتضعيف، فتقول: هيَّأته. قال تعالى: ﴿وَيُهَيِّئْ لَكُمْ﴾.
﴿الطَّيْرِ﴾: اسم جمع والطائر مفرده.
﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾: الإبراء: إزالة العلَّة والمرض، وفي "المصباح" برأ من المرض يبرأ من بابي نفع وتعب، وبروء برءًا من باب: قرب لغة فيه، وفيه أيضًا: كمه كمهًا من باب تعب فهو أكمه، والمرأة كمهاء مثل أحمر وحمراء، وهو العمى يولد عليه الإنسان، وربما كان عارضًا.
وفيه أيضًا: برص الجسم من باب تعب فالذكر أبرص، والأنثى برصاء، والجمع برص مثل: أحمر وحمراء وحمر، وفي "السمين": والبرص: داء معروف، وهو بياض يظهر على الجلد، ولم تكن العرب تنفر من شيء نُفْرتَها منه.
﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾: يقال: ذخر الشيء يذخره إذا خبأه، والذُّخر: المذخور،
322
ويقال؛ إذ تخر من الذخر، أبدلت التاء دالًا، فصار: إذ دخر، ثم أدغمت الذال في الدال فقيل: ادّخر كما قيل: ادّكر في: اذدكر، فأصل تدخرون: تذدخرون؛ لأنه من باب افتعل كما مر في مقام التفسير.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البلاغة:
منها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ إذا أريد بالملائكة جبريل، فهو من باب تسمية الخاص باسم العام تعظيمًا له، فهو مجاز مرسل علاقته العموم.
ومنها: التكرار المسمى بالإطناب في قوله: ﴿اصْطَفَاكِ﴾، وفي ﴿يَا مَرْيَمُ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾.
ومنها: التقديم والتأخير في ﴿وَاسْجُدِي﴾ ﴿وَارْكَعِي﴾ على بعض الأقوال.
وقال "أبو السعود" (١): وتكرير النداء في قوله: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ للإيذان بأن المقصود بهذا الخطاب ما يرد بعده، وأن الخطاب الأول من تذكير النعمة تمهيدًا لهذا التكليف وترغيبًا في العمل به. انتهى. وقال أيضًا: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ﴾ لا يخفى ما فيه من التهكم؛ إذ هو تقرير لكون ما ذكر وحيًا على طريقة التهكم بمنكريه، فإن طريق هذه الأمور الغريبة؛ إما المشاهدة، وإما السماع، وعدمه محقق عندهم، فبقي احتمال المعاينة المستحيلة باعترافهم، فنفيت تهكمًا بهم. انتهى.
﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ﴾: التكرير فيه مع تحقيق المقصود بعطف ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ على؛ ﴿إِذْ يُلْقُونَ﴾ للدلالة على أن كل واحد من عدم حضوره إلقاء الأقلام، وعدم حضوره عند الاختصام، مستقل بالشهادة على بنوته.
(١) الجمل.
323
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾؛ لأنه سمى الولد كلمة؛ لوجوده بكلمة: كن، فهو من باب إطلاق السبب على المسبَّب.
ومنها: العموم (١) الذي أريد به الخصوص في قوله: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾.
ومنها: الاستعارة عند من قال: القنوت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة.
ومنها: الإشارة بـ ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿أَقْلَامَهُمْ﴾ إذا قلنا: إنه أراد القداح؛ أي: السهام.
ومنها: إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ﴾؛ إذ هم المشافهون بالبشارة، والله الآمر بها، ومثله: نادى السلطان في البلد بكذا.
ومنها: الاحتراس في قوله: ﴿وَكَهْلًا﴾ من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة.. لا يعيش.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ كنَّت بالمس عن الوطء، ما كني عنه بالحدث واللباس والمباشر.
ومنها: السؤال والجواب في قوله: ﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾، وفي قوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ وفي قوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ وفي قوله: ﴿الطَّيْرِ﴾، وفي قوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿رَبِي وَرَبُّكُم﴾، ﴿ما﴾ وفي قوله: ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾.
ومنها: التعبير عن الجمع بالمفرد في الآية: ﴿الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾، وفي قوله: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى﴾، وفي قوله: ﴿لأحل﴾ و ﴿حُرِّمَ﴾.
(١) البحر المحيط.
324
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿ونعلمه﴾ عند من قرأ بالنون.
ومنها: التفسير بعد الإبهام فيمن قال: الكتاب مبهم غير مُبين، والتوراة والإنجيل تفسير له.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
325
قال الله سبحانه جل وعلا:
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)﴾.
المناسبة
لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة، وإرساله رسولًا إلى بني إسرائيل، وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.. ذكر هنا خبره مع قومه، وما لاقاه منهم من الصد والإعراض، ومقاساة الأهوال، وهمهم بقتله، وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به، وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدًا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاءً بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى.
326
أسباب النزول
قوله تعالى (١): ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ...﴾ أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: "أتى رسول الله - ﷺ - راهبان من نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله - ﷺ - لا يعجل حتى يؤامر ربه، فنزل عليه: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)﴾ إلى ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.
وأخرج (٢) ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رهطًا من أهل نجران قدموا على النبي - ﷺ -، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، وأنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل، فقال: قل لهم إذا أتوك: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ إلى آخر الآية، وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من التابعين.
وقد أخرج (٣) البخاري ومسلم وغيرهما من حديث حذيفة رضي الله عنه: أن العاقب والسيد أتيا رسول الله - ﷺ -، فأراد أن يلاعنهما، فقال: أحدهما لصاحبه: لا نلاعنه، فوالله لئن كان نبيًّا فلاعننا لا نفلح أبدًا نحن ولا عقبنا من بعدنا، فقالوا له: نعطيك ما سألت فأبعث معنا رجلًا أمينًا، فقال: قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة.
وأخرج (٤) البيهقي في "الدلائل" من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: أن رسول الله - ﷺ - كتب إلى أهل نجران - قبل أن ينزل عليه طس سليمان باسم إله إبراهيم إسحاق ويعقوب - "من محمَّد النبي... " الحديث، وفيه: بعثوا إليه شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبارًا الحرثي، فانطلقوا، فأتوه، فسألهم وسألوه، فلم يزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ قال: ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم،
(١) لباب النقول.
(٢) الشوكاني.
(٣) الشوكاني.
(٤) لباب النقول.
327
فأصبح الغد، وقد أنزل الله هذه الآيات: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.
وأخرج (١) ابن سعد في "الطبقات" عن الأزرق بن قيس قال: قدم على النبي - ﷺ - أسقفُّ نجران والعاقب، فعرض عليهما الإسلام، فقالا: إنا كنا مسلمين قبلك، قال: كذبتما، إنه منع منكما الإِسلام ثلاث: قولكما اتخذ الله ولدًا، وأكلكما لحم الخنزير، وسجودكما للصنم، قالا: فمن أبو عيسى؟ فما درى رسول الله - ﷺ - ما يرد عليهم حتى أنزل الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فدعاهما إلى الملاعنة فأبيا، وأقرا بالجزية، ورجعا.
التفسير وأوجه القراءة
٥٢ - ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾؛ أي: فلما علم عيسى من قومه بني إسرائيل التصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال والعناد، وقصد الإيذاء، فقد صح أنه لقي من اليهود شدائد كثيرة، فقد كانوا يجتمعون عليه، ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في بيته لغد، فيخبرهم فيسخرون منه، حتى طال ذلك به وبهم، وطلبوا قتله؛ لأنهم كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم، فخافهم واختفى عنهم، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض.
وفي هذا عبرةٌ وتسلية للنبي - ﷺ -، وبيان بأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضي إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول، ومن الداعي حسن بيان.
فلما رأى منهم ذلك ﴿قَالَ﴾ وعيسى للحواريين: - كما تدل عليه آية الصف ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ - ﴿مَنْ أَنْصَارِي﴾ حالة كوني ملتجئًا ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ ومتوجهًا إليه، أو ذاهبًا إليه أو في الدعوة إلى الله {قَالَ
(١) لباب النقول.
328
الْحَوَارِيُّونَ}؛ أي: قال الأصفياء من أتباعه وخواصهم ﴿نَحْنُ أَنصارُ اللهِ﴾؛ أي: نحن أنصار دين الله والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك، والآخذون بتعاليمك، والمنصرفون عن التقاليد السالفة، وهذا النصر لا يستلزم القتال، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه.
﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: صدقنا بوحدانية الله، وبما جئتنا به، وهذا جارٍ مجرى بيان السبب في نصر دينه، والمعنى: يجب علينا أن نكون من أنصار الله لأجل أننا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذبَّ عن أولياء الله، والمحاربة لأعدائه ﴿وَاشْهَدْ﴾ لنا يا عيسى يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي مخلصون منقادون لأوامره، وفي هذا دليل على أن الإِسلام دين الله على لسان كل نبي، وإن اختلفت الأنبياء في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله، وإنما طلبوا شهادته؛ لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة، وإنما قال هنا: ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، وفي المائدة: ﴿بأننا﴾؛ لأن ما فيها أول كلام الحواريين، فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى، فناسب فيه التخفيف؛ لأن كلًّا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى، وإنما طلبوا منه عليه السلام الشهادة بذلك يوم القيامة إيذانًا بأن غرضهم السعادة الأخروية.
والحواريون: جمع حواري، وحواريُّ الرجل: صفوته وخلاصته، والحواري أيضًا: الناصر، ومنه قوله - ﷺ -: "لكل نبي حواري، وحواريي الزبير" أخرجه الشيخان. وهذا المعنى هو الصحيح، قاله ابن كثير. وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك، فقيل: لبياض ثيابهم، وقيل: لخلوص نياتهم، وقيل: لأنهم خاصة الأنبياء، وكانوا اثني عشر رجلًا، وقيل: تسعة وعشرين رجلًا آمنوا بعيسى عليه السلام واتبعوه، وكانوا إذا جاعوا.. قالوا: جعنا يا روح الله، فيضرب بيده الأرض ليخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا.. قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرض، فيخرج منها الماء، فيشربون، فقالوا: من أفضل منا، نأكل من حيث شئنا، قال عليه السلام: أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب للناس بالأجرة، فسموا حواريين.
329
٥٣ - فلما أشهدوا عيسى على إيمانهم وإسلامهم.. تضرعوا إلى الله تعالى، وقالوا مبالغة في إظهار أمرهم يا ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿آمَنَّا﴾ وصدقنا ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ على عيسى من كتابك الإنجيل ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾؛ أي: وامتثلنا أمر رسولك عيسى فيما أتانا به من عندك ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾؛ أي: فاكتبنا في جملة من شهد لك بالوحدانية، ولرسلك بالرسالة بتصديقهم واتباعهم؛ أي: فثبِّت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما فاكتبنا في زمرة الأنبياء؛ لأن كل نبي شاهد لقومه، أو فاكتبنا مع محمَّد وأمته؛ لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة يوم القيامة، فإنهم يشهدون للرسل بالبلاغ، وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين الذين سأل الحواريون أن يكونوا معهم مزيد فضل عليهم.
٥٤ - ﴿وَمَكَرُوا﴾؛ أي: ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى - عليه السلام - كفرهم من اليهود، واحتالوا في قتله بأن وكلوا به من يقتله غيلة ﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾؛ أي: أبطل الله مكرهم، فلم ينجحوا فيه، ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾؛ أي: أقواهم مكرًا، وأنفذهم كيدًا، وأقدرهم على إيصال التفسير إليهم من حيث لا يحتسبون؛ حيث جعل تدميرهم في تدبيرهم، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه، وإتمام حكمته، وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.
واعلم: أن مكر الله استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون، قاله الفراء وغيره، وقال الزجاج: مكر الله: مجازاتهم على مكرهم فمعنى: ﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾؛ أي: جازاهم على مكرهم، فحيث أضمروا على أخذ عيسى من حيث لا يحتسب.. جازاهم على ذلك وأخذهم من حيث لم يحتسبوا؛ حيث ألقى شبه عيسى عليه السلام على قاصد قتله فقتل، ورفع عيسى فسُمي الجزاء باسم الابتداء، كقوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾. ﴿وَهُوَ خَدِعُهُمْ﴾ وأصل المكر: الاغتيال والخدع، حكاه ابن فارس، وهو إيصال الضرر إلى الغير بطريق خفي، وعلى هذا فلا يطلق
على الله إلا على طريق المشاكلة، فمعنى المشاكلة؛ الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى؛ إذ لا يجوز أن يوسف الله تعالى بالمكر إلا لأجل ما ذكر معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به، هكذا قيل. وقد جاء إسناد المكر إلى الله تعالى من غير مقابلة في قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾. وفي الحديث: "اللهم أمكر لي ولا تمكر عليّ". قال أبو حيان: سأل رجل الجنيد، فقال: كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر، وقد عاب به غيره؛ فقال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان الظهراني شعرًا:
وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدِيْ فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا
ثم قال: قد أجبتُك إن كنت تعقل. والمذهب الأسلم الذي عليه سلف الأمة إثبات المكر لله سبحانه وتعالى، فإذًا فالمكر صفة ثابتة لله تعالى نؤمن بها ونعتقدها ونثبتها من غير تمثيل ولا تعطيل، وهذا هو الذي نلقى الله عليه.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ملك بني إسرائيل اسمه: يهوذا، لما قصد قتل عيسى عليه السلام.. أمره جبريل أن يدخل بيتًا فيه روزنة - والروزنة: فرجة في سقف البيت - فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء، فقال الملك لرجل خبيث منهم يقال له تطيانوس: أدخل عليه فاقتله، فدخل البيت فلم يرَ عيسى، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام عليه، فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتال عظيم.
٥٥ - وقوله: ﴿إذ قالَ اَللهُ﴾ ظرف لمكر الله؛ أي: مكر الله سبحانه وتعالى بهم حين قال لنبيه ورسوله عيسى عليه السلام: ﴿يَعِيسى﴾ ابن مريم ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾؛ أي: مستوفي أجلك المسمى، ومؤخرك إلى تمامه، وعاصمك من أن يقتلك الكفار، أو (١) قابضك من الأرض من توفيت مالي، أو متوفيك نائمًا؛ إذ رُوي أنه
(١) البيضاوي.
331
رفع نائمًا، أو مميتك عن الشهوات العاتقة عن العروج إلى عالم الملكوت، وقيل: أماته الله سبع ساعات، ثم رفعه إلى السماء، وإليه ذهبت النصارى، والله أعلم بحقيقة الحال. ﴿وَرَافِعُكَ﴾ من الأرض ﴿إلَيَّ﴾؛ أي: إلى سمائي ومحل كرامتي، ومقر ملائكتي. ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: مخرجك من بينهم، ومنجيك منهم؛ أي: مما كانوا يريدونه بك من الشر، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح، ونسبة السوء إليه، وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم، واستيفاء أجله، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدونه بمكرهم وخبثهم.
وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان (١):
الأول: أن فيها تقديمًا وتأخيرًا، والأصل إني رافعك إليّ ومتوفيك؛ أي؛ إني رافعك الآن، ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك، وعلى هذا فهو رفع حيًّا بجسمه وروحه، وأنه سينزل آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا، ثم يتوفاه الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"، زاد في رواية: "حتى تكون السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "ليس بيني وبينه - يعني: عيسى - نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه، فاعرفوه؛ فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين - أي: ثوبين مصبوغين بالممصرة، الممصرة: تراب أحمر يصبغ به - كأن رأسه يقطر ماءً، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الملل في زمانه كلها إلا الإِسلام، ويهلك المسيح الدجالَ، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة،
(١) المراغي.
332
ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون" أخرجه أبو داود.
والقول الثاني: أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح، ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان؛ لأن روحه هي هي.
والمعنى: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، كما قال تعالى في إدريس عليه السلام: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)﴾، وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديثه آحاد، يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما.
أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض: غلبة رُوحه، وسرد رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها.
﴿وَجَاعِل اَلَذِينَ أتَّبَعُوكَ﴾؛ أي: وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، والذين صدَّقوا بنبوتك وادعوا محبتك كالنصارى ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ومكروا بك، وهم اليهود بالحجة والسيف والقهر والسلطان والاستعلاء والنصرة ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: إن هذه الفوقية مستمرة لهم ما دامت السموات والأرض، وبعدئذٍ يفعل بهم ما يشاء، وهذه الفوقية؛ إما فوقية دينية روحانية، وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق؛ والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية، وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم، وفي هذا إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة، وقد تحقق ذلك؛ فإن مُلك اليهود قد ذهب، لم تبق لهم قلعة ولا سلطان ولا شوكة في جميع الأرض، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم، بل يكونون مقهورين أين ما كانوا بالذلة والمسكنة، وملك النصارى باقٍ قائم إلى قريب من قيام الساعة، فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.
333
وقيل: إن الخطاب في قوله: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ لنبينا محمَّد - ﷺ -، فيكون الوقف على قوله من الذين كفروا تامًّا، والابتداء بما بعده، وجاز هذا لدلالة الحال عليه؛ أي: جاعلهم قاهرين لهم إلى يوم القيامة يعني: أنهم ظاهرون على اليهود وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا؛ فأما يوم القيامة.. فيحكم الله بينهم، فيدخل الطائع الجنة، والعاصي النار، وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا وانقضائها؛ لأن لهم استعلاء آخر غير هذا الاستعلاء.
﴿ثُمَّ﴾ بعد انقضاء الدنيا، وقيام الساعة ﴿إِليَّ﴾ لا إلى غيري ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: رجوعكم ومصيركم إليَّ بالموت والبعث، والخطاب لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به، وغلب المخاطبين على الغائبين. ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ يومئذٍ ﴿فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾؛ أي: فيما اختلفتم فيه من أمور الدين.
٥٦ - ثم بيَّن جزاء المحق والمبطل وكيفيته فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وكذبوك، وهم اليهود ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ بإذلالهم بالقتل والأسر والجزية وتسليط الأمم عليهم ﴿و﴾ في ﴿الآخرة﴾ بالنار، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾؛ أي: مانعين من عذاب الله في الدنيا والآخرة.
٥٧ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ والكتاب، وبنبوة عيسى، وبنبوة محمَّد - ﷺ - ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فيما بينهم وبين ربهم؛ بأن امتثلوا الأوامر، واجتنبوا النواهي ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾؛ أي: يعطيهم الله تعالى أجور أعمالهم وثوابها في الجنة موفرًا كاملًا غير منقوص.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: لا يريد إيصال الخير إلى المشركين، أو المعنى: والله لا يحب من ظلم غيره حقًّا له، أو وضع شيئًا في غير موضعه، فكيف بظلم عباده له؟ فهو يجازيه بما يستحق، وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، وفي هذه (١) الآية قال: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ﴾ بالياء على قراءة حفص ورويس وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم
(١) البحر المحيط.
إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة. وقرأ الجمهور: ﴿فنوفيهم﴾؛ أي: نعطيهم أجورهم كاملة موفرة - بالنون الدالة على المتكلم المعظم نفسه -، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية؛ ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر، وبالمؤمن؛ كما خالف في الفعل؛ ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة.
٥٨ - ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور الذي ذكرته لك من خبر عيسى، وأمه مريم، وأمها، وزكريا، وابنه يحيى، ومن خبر الحواريين واليهود. ﴿نَتلُوُه﴾؛ أي: نقرأه ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد على لسان جبريل الأمين، وإنما أضاف ما يتلوه جبريل إلى نفسه سبحانه وتعالى؛ لأنه من عنده وبأمره من غير تفاوت أصلًا، فأضافه إليه حالة كونه ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾؛ أي: من العلامات الدالة على نبوتك يا محمَّد؛ لأنها إخبار لا يعلمها إلا من يقرأ ويكتب، أو نبي يُوحى إليه، وأنت أميٌّ لا تقرأ ولا تكتب، فثبت أن ذلك من الوحي السماوي الذي أنزل عليك ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾؛ أي: القرآن المحكم الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)﴾.
وقد روى - كما مر لك -: أنه حضر وفد نصارى نجران على رسول الله - ﷺ -، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا ونسبه؟ فقال: مَنْ هو؟ قالوا: عيسى، قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إنه عبد، قال: أجل هو عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانًا قط من غير أب؟ ومن لا أب له فهو ابن الله، ثم خرجوا من عنده - ﷺ -، فجاءه جبريل فقال: قل لهم إذا أتوك:
٥٩ - ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى﴾؛ أي: إن شأن عيسى وصفته في خلق الله تعالى إياه على غير مثال سابق؛ أي: من غير أب ﴿كَمَثَلِءَادَمَ﴾ أبي البشر؛ أي: كشأن آدم وصفته، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال: ﴿خَلَقَهُ﴾؛ أي: خلق آدم وأوجده وكوَّن جسمه ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾ ميت؛ حيث أصابه الماء، فكان طينًا لازبًا لزجًا؛ أي: خلقه بلا أب وأم ﴿ثُمَّ﴾ بعد ما كوَّن جسمه من التراب ﴿قَالَ﴾ الله ﴿لَهُ﴾؛ أي: لآدم ﴿كُن﴾ بشرًا حساسًا بنفخ الروح فيه ﴿فَيَكُونُ﴾؛ أي: فكان بشرًا حساسًا ناطقًا ضاحكًا، والتعبير بالمضارع على حكاية الحال الماضية، أو
للفاصلة، وكذلك قال له: كن من غير أب.. فكان ولدًا بلا أب، فإذا كان آدم كذلك، ولم يكن ابنًا لله.. فكذلك عيسى، فمن لم يقرَّ بأن الله خلق عيسى من غير أب مع إقراره بخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو خارج عن طور العقلاء، وأيضًا: إذا جاز أن يخلق الله آدم من التراب.. فيجوز خلق الله تعالى عيسى من دم مريم من باب أولى، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقربُ إلى العقل من تولده من التراب اليابس.
ثم أكد الله سبحانه وتعالى صدق هذا القصص، فقال:
٦٠ - ﴿الحق من ربك﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الحق؛ أي: ما قصصنا عليك يا محمَّد في شأن عيسى وأمه مريم، هو الخبر الحق، والقول الصدق، والأمر الثابت الذي لا شك فيه حالة كونه موحى إليك من ربك، لا ما تعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، أو ابن الله، ولا ما تزعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النجار. ﴿فَلَا تَكنُ﴾ يا محمَّد ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾؛ أي: من الشاكين فيما بينت لك في شأن عيسى وأمه، وهو كونه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم؛ أي: فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به، وهذا الخطاب للنبي - ﷺ -، ولكن المقصود به نهي غيره لعصمته عن مثل ذلك الامتراء.
وفي النهي للنبي - ﷺ - مع استحالة وقوع الامتراء منه فائدة من وجهين:
الأول: إذا سمع - ﷺ - مثل هذا الخطاب.. ازداد رغبة في الثبات على اليقين، واطمئنان النفس.
والثاني: إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء؛ إذ أنه - ﷺ - على جلالة قدره خوطب بمثل هذا، فما بالك بغيره.
وخلاصة ذلك: دم على يقينك يا محمَّد، وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه.
٦١ - ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ وخاصمك وجادلك ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في شأن عيسى، وهم النصارى الذين وفدوا إلى رسول الله - ﷺ - من نجران، كما مر في مقام أسباب النزول. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ﴾؛ أي: بعد الذي جاءك وأوحي إليك ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾؛ أي: من الآيات البينات التي تفيد العلم واليقين، بأن
336
عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم.
﴿فَقُلْ﴾ لهم يا محمَّد: ﴿تَعَالَوْا﴾؛ أي: هلموا وأقبلوا إليّ. قرأ الجمهور: ﴿تَعَالَوْا﴾ بفتح اللام وهم الأصل والقياس. وقرأ الحسن وأبو واقد وأبو السِّمال شذوذًا بضم اللام على أن أصله: تعاليوا، فنقلت الضمة إلى اللام، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وهذا تعليل شاذ. ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾؛ أي: نخرج أبناءنا ﴿وَأَبْنَاءَكُمْ﴾؛ أي: أخرجوا أنتم أبناءكم ﴿وَنِسَاءَنَا﴾؛ أي: نخرج نساءنا ﴿وَنِسَاءَكُمْ﴾؛ أي: وأخرجوا أنتم نساءكم ﴿وَأنفُسَنَا﴾؛ أي: نخرج بأنفسنا ﴿وَأَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: اخرجوا أنتم بأنفسكم. ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾؛ أي: نتضرع ونجتهد ونبالغ في الدعاء ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ﴾ وغضبه فيما بيننا ﴿عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ منا ومنكم في شأن عيسى؛ أي: فقل لهم أقبلوا، وليدعُ كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة، وليقل: لعنة الله على الكاذبين منا ومنكم، أو اللهم العنْ الكاذب منا في شأن عيسى.
وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم إيذانٌ بكمال أمته - ﷺ -، وتمام ثقته بأمره، وقوة يقينه بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه، وهذه الآية تسمى: آية المباهلة.
وروى أن النبي - ﷺ -: اختار للمباهلة عليًّا، وفاطمة، وولديهما رضي الله عنهم، وخرج بهم، وقال: إن أنا دعوت.. فأمنوا أنتم.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه: أنه لما نزلت هذه الآية.. جاء بأبي بكر وولده، وبعمر وولده، وبعثمان وولده، ولا شك أن الذي يفهم من الآية أن النبي - ﷺ - أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالًا ونساءً وأطفالًا، ويجمع هو المؤمنين رجالًا ونساءً وأطفالًا، ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.
وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول، كما يدل امتناع من دُعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بيّنة فيما يعتقدون.
337
وفي الآية عبرة لمن ادَّكر؛ لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية، وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل، حتى في الأمور العامة، إلا في بعض مسائل؛ ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها، وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم، في جهلهن بأمور الدين، وعدم مشاركتهن للرجال في عمل من الأعمال الدينية، أو الشؤون الاجتماعية، ولا هَمَّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة، والتنوق (١) في المطاعم والمشارب والملابس، والتفرج بآلات الملاهي المحرمة، والأغاني الخبيثة، وإضاعة الأوقات فيها، كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالأُتن الحاملة، والبقر العاملة، وكان من جزاء هذا أن صغُرتْ نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعمَّ الأُسَر والعشائر والشعوب والقبائل.
وقد قام في هذا العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإِسلامية يطالبون بتحرير المرأة، ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشؤون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانًا صاغية، فبدأ المسلمون يعلِّمون بناتهم، ولكن ينبغي أن يصحب هذا التعليم شيء كثير من التربية الدينية، والإصلاح في الأخلاق والعادات.
وقد كان هذا عاملًا من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي لا ندري ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإِسلامية، ولا ما سينتج منه من نفع للإسلام والمسلمين، أو تتبع للنصارى والمشركين.
فائدة: وأتى (٢) بـ ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ تنبيهًا لهم على خطئهم في
(١) التنوق: يقال تنوق في المطعم والمشرب إذا أخذ أجوده وأحسنه اهـ.
(٢) الجمل.
338
مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأَنَّوا؛ لعله أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي.
قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ﴾ هذه (١)، والتي في النور في قوله: ﴿والخامسة أن لعنت الله عليه﴾، يكتبان بالتاء المبسوطة، وما عداهما بالهاء على الأصل.
٦٢ - ﴿إنَّ هَذَا﴾ المذكور الذي ذكرته لك يا محمَّد من الدلائل التي دلت على أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولم يكن إلهًا، ولا ولده، ولا شريكه، ومن الدعاء إلى المباهلة مع وفد نجران ﴿لَهُوَ اَلقَصَصُ الْحَقُّ﴾؛ أي: لهو الخبر الصدق، والقول الحق الذي لا شك فيه دون أكاذيب النصارى، وافتراء اليهود ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ﴾ بلا شريك، ولا ولد، ولا زوجة ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يُمنع، القادر على جميع المقدورات ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: العالم بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمور، فذكر العزيز الحكيم ها هنا إشارة إلى الجواب عن النصارى في الشبهتين لعيسى: القدرة على الإحياء ونحوه، وإخبار الغيوب؛ أي: لا أحد سواه يساويه في القدرة التامة، والحكمة البالغة، ليشاركه في الإلهية.
٦٣ - ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة.. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عليم بـ﴾ حال ﴿المفسدين﴾ في الدين، ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم وسيىء أعمالهم.
وخلاصة المعنى: فإن أبوا عن قبول الحق، وأعرضوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عالمًا قادرًا على جميع المقدورات، عالمًا بالنهايات، محيطًا بالمعلومات، مع اعترافهم بأن عيسى لم يكن كذلك، ومع قولهم: إن اليهود قتلوه.. فاعلم أن إباءهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد، فاقطع كلامك عنهم، وفوض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين،
(١) الجمل.
339
مطلِّع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم.
الإعراب
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾.
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾ الفاء استئنافية (لما): حرف شرط غير جازم ﴿أَحَسَّ عِيسَى﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْهُمُ﴾: متعلق بـ ﴿أَحَسَّ﴾، أو حال من ﴿الكُفرَ﴾ تقديره: أحسَّ الكفر حال كونه صادرًا منهم، كما قاله أبو البقاء. ﴿الْكُفْرَ﴾: مفعول به لأحس، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿عِيسَى﴾، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ مستأنفة، ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام مبتدأ، ﴿أَنْصَارِي﴾: خبر ومضاف إليه ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من ياء المتكلم متعلق بمحذوف تقديره: حالة كوني ملتجئًا إلى الله، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ إلى قوله ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿ءَامَنَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾: الواو عاطفة ﴿اشهد﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿عِيسَى﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿بِأَنَّا﴾: الباء حرف جر، أن: حرف نصب ومصدر، ونا: ضمير المتكلمين اسمها. ﴿مُسْلِمُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء المتعلقة بـ ﴿أشهد﴾ تقديره؛ وأشهد بكوننا مسلمين.
340
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿بِمَاَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾، ﴿أَنْزَلْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أنزلته. ﴿وَاتَّبَعْنَا﴾: الواو عاطفة، (اتبعنا) فعل وفاعل. ﴿الرَّسُولَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا﴾ على كونها مقول القول. ﴿فَاكْتُبْنَا﴾: الفاء عاطفة تفريعية، ﴿اكتبنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا﴾، ﴿مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اكتبنا﴾، أو حال من ضمير المفعول.
﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤)﴾.
﴿وَمَكَرُوا﴾ الواو استئنافية، ﴿مكروا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستئانفة ﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿مكروا﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية، ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾.
﴿إذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان ﴿قَالَ اَللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، والظرف متعلق بـ ﴿مكر الله﴾؛ أي: مكرهم الله وقت قوله لعيسى: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلتَ ﴿يَا عِيسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِنِّي﴾: إنَّ: حرف نصب وتوكيد، والياء اسمها، ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾: خبرها ومضاف إليه ﴿وَرَافِعُكَ﴾: معطوف على ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ ﴿إلَيَّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿رافعك﴾، وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَمُطَهِّرُكَ﴾: معطوف على ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾:
341
متعلق بـ ﴿مطهرك﴾ ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَجَاعِلُ﴾: معطوف على ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾، وهو مضاف ﴿الَّذِينَ﴾ مضاف إليه ﴿اتَّبَعُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿فَوْقَ الَّذِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف مفعول ثانٍ لـ ﴿جاعل﴾ تقديره: ظاهرين فوقهم. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿جاعل﴾ يعني: أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم، ويجوز أن يتعلق بما تعلق به الظرف؛ أعني: فوق الذين كفروا.
﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتب وتراخٍ، ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لإفادة الحصر. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَحْكُمُ﴾: الفاء: حرف عطف وتعقيب، ﴿أحكم﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، فالجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ على كونها مقول القول، ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿أحكم﴾، ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أحكم﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمها ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَخْتَلِفُونَ﴾ وجملة ﴿تَخْتَلِفُونَ﴾: خبر كان، وجملة كان صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير فيه، والتقدير: فأحكم بينكم فيما كنتم مختلفين فيه.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦)﴾.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت رجوعكم إليّ وحكمي بينكم، وأردت بيان كيفية ذلك الحكم.. فأقول لك ﴿ما﴾: حرف شرط وتفصيل. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ﴾: الفاء
342
رابطة لجواب ﴿أما﴾ ﴿أعذبهم﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَذَابًا﴾: مفعول مطلق. ﴿شَدِيدًا﴾ صفة ﴿عَذَابًا﴾. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ (أعذبهم) ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿الدُّنْيَا﴾، وجملة (أعذبهم) في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنها خبر سيِّىءٌ تقديره: فأما الذين كفروا.. فمعذب أنا إياهم، والجملة الإسمية جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة (أما) من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿وَمَا لَهُمْ﴾: الواو عاطفة، (ما): حجازية أو تميمية (لهم): جار ومجرور خبر (ما) الحجازية، أو خبر المبتدأ المؤخر. ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿نَاصِرِينَ﴾: اسم (ما) الحجازية، أو مبتدأ مؤخر تقديره: وما ناصرون كائنين أو كائنون لهم، والجملة معطوفة على جملة ﴿ما﴾) على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)﴾.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ﴾ الواو عاطفة ﴿ما﴾): حرف شرط ﴿الذين﴾: مبتدأ ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾، ﴿فَيُوَفِّيهِمْ﴾: الفاء رابطة لجواب (أما) (يوفيهم): فعل مضارع ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿أُجُورَهُمْ﴾: مفعول ثانٍ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سيِّئ، والجملة الإسمية جواب (أما) لا محل لها من الإعراب، وجملة (أما) في محل النصب معطوفة على جملة (أما) الأولى ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو عاطفة (الله): مبتدأ ﴿لَا﴾: نافية ﴿يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة (أما).
﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ﴿نَتلُوُهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾،
343
والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلقان بـ ﴿نتلوه﴾ ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾: جار ومجرور حال من ضمير ﴿نَتلُوُه﴾ ﴿وَالذكِرِ﴾: معطوف على ﴿الْآيَاتِ﴾ ﴿الْحَكِيمِ﴾؛ صفة لـ ﴿ذكر﴾.
﴿إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿مَثَلَ﴾: اسمها، ﴿عِيسَى﴾: مضاف إليه ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إِنَّ﴾ الآتي، وقال أبو حيان (١): والعامل في ﴿عِندَ﴾ العاملُ في كاف التشبيه. ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة ﴿خَلَقَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ (خلق)، والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ ﴿مثل آدم﴾ لا محل لها من الإعراب، وقيل: حال من ﴿آدَمَ﴾ على تقديره: قد، قال أبو حيان (٢): وهذه الجملة تفسيرية لـ ﴿مثل آدم﴾، فلا موضع لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال، وقد مع ﴿خَلَقَهُ﴾ مقدرةٌ، والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية؛ ولا يجوز أن يكون ﴿خَلَقَهُ﴾ صفة لآدم، ولا حالًا منه إذ الماضي لا يكون حالًا أنت فيها، بل هو كلام مقطوع منه، مُضَمَّنه تفسير المثل. انتهى كلامه، وفيه نظر اهـ.
﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قالَ﴾، وجملة ﴿قَالَ﴾ معطوفة على جملة ﴿خَلَقَهُ﴾، ﴿كُن﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿كُن﴾: فعل أمر من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على ﴿آدَمَ﴾، والجملة معطوفة على جملة
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
344
﴿قَالَ﴾ ﴿فَيَكُونُ﴾ الفاء استئنافية ﴿يكون﴾ فعل مضارع تام مرفوع بالضمة والفاعل هو والجملة مستأنفة.
﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)﴾.
﴿الْحَقُّ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا هو الحق، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿الْحَقُّ﴾ تقديره: حال كونه كائنًا من ربك. ﴿فَلَا تَكُنْ﴾: الفاء عاطفة تفريعية ﴿لا﴾: ناهية جازمة ﴿تَكُنْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد. ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿تكن﴾ تقديره: فلا تكن كائنًا من الممترين، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾.
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا﴾.
﴿فَمَنْ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن هذا المذكور في شأن عيسى هو الحق من ربك، وأردت بيان كيفية المعارضة مع من حاجك فيه.. فأقول لك ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما، أو موصولة بمعنى الذي في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة قوله: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾، ودخلت الفاء في خبره لشبه الموصول بالشرط في العموم ﴿حَاجَّكَ﴾: فعل ماضٍ ومفعول في محل الجزم بـ (مَنْ) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على (من) ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَاجَّكَ﴾، ﴿من بعد ما﴾؛ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿حَاجَّكَ﴾. ﴿جَاَءَكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿جَاَءَكَ﴾ تقديره: حال كونه كائنًا من العلم. ﴿فَقُلْ﴾: الفاء رابطة لجواب (من) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية (قل): فعل أمر في محل الجزم بـ (من) الشرطية على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا الشرطية، وجملة إذا الشرطية مستأنفة. ﴿تَعَالَوْا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت
345
قلتَ: ﴿تَعَالَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قل﴾.
﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.
﴿نَدْعُ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه من النصارى، والجملة في محل النصب مقول ﴿قل﴾ ﴿أَبْنَاءَنَا﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿وَأَبْنَاءَكُمْ﴾: معطوف على ﴿أَبْنَاءَنَا﴾، وكذلك معطوف عليه قوله: ﴿وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخٍ. ﴿نَبْتَهِلْ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿نَدْعُ﴾ على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه من النصارى ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ﴾ فعل مضارع ومفعول أول ومضاف إليه، معطوف على ﴿نَدْعُ﴾ على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه ﴿عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿نجعل﴾.
﴿إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿هَذَا﴾: اسمها ﴿لَهُوَ﴾: اللام حرف ابتداء ﴿هو﴾: ضمير فصل ﴿اَلقَصَصُ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ ﴿الْحَقُّ﴾: صفة لـ ﴿قصص﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾: الواو عاطفة أو استئنافية ﴿ما﴾: نافية، ﴿من﴾: زائدة زيدت لإفادة الاستغراق والعموم ﴿إِلَهٍ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم النافي عليه ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿اللَّهُ﴾: خبر المبتدأ، والجملة عاطفة على جملة ﴿إِنَّ﴾، أو مستأنفة. وفي "الفتوحات الإلهية" قوله (١): ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾: مبتدأ، و ﴿مِنْ﴾ مزيدة فيه، وإلا الله خبره تقديره: ما إله إلا الله، وزيدت ﴿مِنْ﴾ للاستغراق والعموم.
(١) الجمل.
346
الثاني: أن يكون الخبر مضمرًا تقديره: وما من إله لنا إلا الله و ﴿إلّا اللَّهُ﴾: بدل من موضع ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾؛ لأن موضعه رفع بالابتداء اهـ. "سمين". انتهى. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: الواو عاطفة أو استئنافية (إن): حرف نصب ﴿اللهَ﴾: اسمها ﴿لَهُوَ﴾: اللام حرف ابتداء ﴿هو﴾: ضمير فصل ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر أول لـ ﴿إنَّ﴾ ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثانٍ لها، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ الأولى.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)﴾.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت كيفية المحاجة معهم، وأردت بيان حكم ما إذا تولوا عن قبول الحق بعد المحاجة.. فأقول لك. ﴿إنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل ماضٍ، وفاعل، في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعل شرط لها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: الفاء رابطةٍ لجواب (إن) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية (إن): حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها ﴿عَلِيمٌ﴾؛ خبرها. ﴿بِالْمُفْسِدِينَ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، وجملة (إنَّ) في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة (إنْ) الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾: الإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس، وهي: الذوق والشم واللمس والسمع والبصر، يقال: أحسست الشيء وبالشيء وحسست به، ويقال: حسيت به بإبدال سينه الثانية ياءً، وأحست بحذف سينه الأولى، وقال سيبويه: وما شذَّ من المضاعف - يعني: في الحذف - فشبيه بباب أقمت، وذلك قولهم: أحست وأحسن، يريدون أحسست وأحسسن، والمراد بالإحساس هنا: الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة.
﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾: والأنصار جمع: نصير، نحو شريف وأشراف.
347
﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾: جمع حواري، وهو الناصر، وهو مصروف وإن ماثل المفاعل؛ لأن ياء النسب فيه عارضة، وهو مشتق من الحور، وفعله من باب طَرِب يقال: حورت العين إذا صفا بياض بياضا وسواد سوادها، فسموا حواريين لخلوص بياض ألوانهم ونياتهم وسرائرهم، فعلى هذا القول الحَوَر وهو البياض قائمٌ بذواتهم وقلوبهم، وقيل: مأخوذ من التحوير وهو: التبييض؛ لأنهم يحورون الثياب، ويقصرونا؛ أي: يبيضونها. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ والمكر (١): الخداع والخبث، وأصله: الستر، يقال: مكر الليل وأمكر إذا أظلم، واشتقاقه من: المكر، وهو: شجر ملتف، فكأن المذكور به يلتف به المكر ويشتمل عليه ويقال: امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق، والمكر أيضًا ضرب من النبات، وفسره بعضم بأنه: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان:
محمود: وهو أن يتحرى به فعلَ جميلَ، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
ومذموم: وهو أن يتحرى به فعل قبيحٍ؛ نحو: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾. اهـ. "سمين".
﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾: العامة على فتح اللام؛ لأنه أمر من: تعالى يتعالى؛ كترامى يترامى، وأصل ألفه ياء، وأص هذه الياء واو؛ وذلك لأنه مشتق من العلو وهو: الارتفاع، والواو متى وقعت رابعة فصاعدًا قلبت ياءً، فصار تعالى فتحرك حرف العلة - وهو الياء -، وانفتح ما قبله، فقُلب ألفًا، فصار: تعالى كترامى، فإذا أمرتَ منه الواحد.. قلت: تعالَ يا زيد؛ بحذف الألف؛ لبناء الأمر على حذفها، وكذا إذا أمرت الجمع المذكر.. قلت: تعالَو!؛ لأنك لما حذفت الألف لأجل الأمر.. أبقيتَ الفتحة مشعرة بها، وإنْ شئت قلت: الأصل: تعاليوا، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم -، ثم استثقلت الصفة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين، وتركت الفتحة على حالها، وإنْ
(١) الجمل.
348
شئت قلت: لما كان الأصل: تعاليوا.. تحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله - وهو الياء -، فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالة عليها.
والفرق بين هذا وبين الوجه الأول: أن الألف في الوجه الأول حذفت لأجل الأمر، وإن لم يتصل به وأو ضمير، وفي هذا حُذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وكذلك إذا أمرت الواحدة.. تقولُ لها: تعالي، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريف فيه كما تقدم في أمر جماعة المذكور، فتأتي هنا الوجوه الثلاثة، فيقال: حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع ياء المخاطبة، وبقيت الفتحة دالة عليها، أو يقال: استثقلت الكسرة على الياء التي هي من أصل الكلمة، فحذفت، فالتقى ساكنان، وهما الياءَان فحذفت الأولى، أو يقال: تحركت الياء الأولى وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وأما إذا أمرت المثنى.. فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعاليا، ويا هندان تعاليا أيضًا؛ يستوي فيه المذكران والمؤنثان، وكذلك أمر جماعة الإناث، تثبت فيه الياء فتقول: يا نسوة تعالَين، قال تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾؛ إذ لا مقتضى للحذف، ولا للقلب، وهو ظاهر بما تمهد من القواعد الصرفية.
وقرأ الحسن شاذًا: ﴿تعالُوا﴾ بضم اللام، والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسوا الحرف المحذوف، حتى كأنهم توهموا أن الكلمة بُنيت على ذلك، وأن اللام هي الآخر في الحقيقة، فلذلك عوملت معاملة الآخر حقيقة، فضمت قبل واو الضمير، وكسرت قبل يائه. وتعال: فعل أمر صريح، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة به.
﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾: والابتهال: افتعال من البهلة - بفتح الباء وضمها - وهي: اللعنة، هذا أصله، ثم استعمل في كل دعاء مجتهد فيه، وإن لم يكن التعانًا، وفي "القاموس": والبهل: اللعن، والترك، والاجتهاد في الدعاء، وإخلاصه، وفي "المصباح": بهله بهلًا من باب نفع إذا لعنه، واسم الفاعل باهل، والأنثى: باهله، وبها سميت قبيلة، والاسم البُهْلة بالضم وزان: الغرفة، وباهله مباهلةً من
349

باب قاتل إذا لَعَن كل واحد منهما الآخر، وابتهل إلى الله إذا تضرع إليه. اهـ.


﴿لَهُوَ الْقَصَصُ﴾: والقصَص: مصدر قولهم: قصَّ فلانٌ الحديثَ، يقصه قصًّا قصصًا، وأصله: تتبع الأثر، يقال: فلان خرج يقص أثر فلان؛ أي: يتبعه ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾؛ أي: اتبعي أثره، وكذلك القاص في الكلام؛ لأنه يتتبع خبرًا بعد خبر.
البلاغة
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾: فيه استعارة تصريحية تبعية؛ إذ لا يحس إلا ما كان متجسدًا، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويفطن به، ولا يدرك بالحس، إلا إذا كان أحس بمعنى: رأى أو سمع منهم كلمة الكفر، فيكون أَحسَّ لا استعارة فيه؛ إذ يكون المعنى: أدرك ذلك منهم بحاسة البصر، أو بحاسة الأذن.
ومن ضروب البلاغة أيضًا في هذه الآيات:
منها: السؤال والجواب في قوله: ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ و ﴿الْمَاكِرِينَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظ ﴿مكروا﴾ و ﴿الْمَاكِرِينَ﴾.
ومنها: إسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى﴾، والله لم يشافهه بذلك، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾، وفي قوله: ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: التفصيل لِمَا أجمل في قوله: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ بقوله: ﴿فَأَمَّا﴾، ﴿وأما﴾.
ومنها: مقابلة الجمع بالجمع في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ﴾، {وَأَمَّا
350
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ على قراءة الياء من ضمير المتكلم، وفي قوله: ﴿فَأُعُذبُهُمْ﴾ إلى ضمير الغيبة.
ومنها: التعبير بالمضارع عن الماضي في قوله: ﴿نَتلُوهُ﴾، وفي قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾.
ومنها: تشبيه الغريب بالأغرب في قوله: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾؛ لأن فاقد الأبوين أغرب من فاقد الأب، فكان أشد خرقًا للعادة من الموجود من غير أب، وأقطع الخصم، وأحسم لمادة شبهته، والجامع: كون كل منهما من غير أب.
ومنها: الإلهاب والتهييج في قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾. إلى غير ذلك من ضروب البلاغة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
351
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾.
المناسبة
لما (١) بين الله سبحانه وتعالى فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام، وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته - ﷺ - الناس إلى التوحيد والإِسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودلَّ ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.. دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين، وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعًا، وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف،
(١) المراغي.
352
وهو عبادة الله وَحْده لا شريك له، فلما أعرضوا.. أمر بأن يقول لهم: ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
ولما بين أيضًا أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد ما تبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل ولا البرهان، فدعوتهم إلى دين الإِسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده، لا تجد منهم أذنًا صاغية، ولا قلوبًا واعية.. ذكر شأنًا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصًا على إضلال المؤمنين، فلا يَدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغًا أشده بين الفريقين، فإذا تمسكنا نحن وأنتم بها، وصدَّقناها.. كنا على السواء والاستقامة، وفي قراءةٍ شاذةٍ لابن مسعود: ﴿إلى كلمة عدل بيننا وبينكم﴾.
ثم فسر الكلمة بقوله هي: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾؛ أي تلك الكلمة: عدم عبادتنا سوى الله سبحانه وتعالى ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾؛ أي: وعدم إشراكنا به سبحانه وتعالى شيئًا من المخلوقات في العبادة ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: وعدم اتخاذ وجعل بعض منا بعضًا آخرنا ربًّا ومعبودًا ومطاعًا من دون الله سبحانه وتعالى؛ أي لا يطع أحد منا أحدًا من الرؤساء في معصية الله، وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل، ولا نقول عُزيرٌ ابنُ الله ولا المسيح ابن الله؛ لأنهما بشران مثلنا، ولا نطيع الأحبار والرهبان فيما أحلوا أو حرموا.
روي أنه لما نزلت هذه الآية.. قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، فقال - ﷺ -: "أما كانوا يحلون لكم، ويحرمون عليكم، فتأخذون بقولهم"؟ قال: نعم، فقال النبي - ﷺ -: "هو ذاك".
وتفسير الكلمة بهذه الجمل؛ لأن العرب تسمي كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر: كلمة.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن أعرضوا عن التوحيد، ورفضوا قبول تلك الكلمة العادلة، وأَبَو إلا الإصرار على الشرك.. ﴿فَقُولُوا﴾ أنتم؛ أيها النبي والمؤمنون
353
لأهل الكتاب ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: اعترفوا لنا يا معشر أهل الكتاب بأنَّنا منقادون لأوامر الله، مُقِرُّون لله بالوحدانية، مخلصون لهُ بالعبادة دُونكم، فقد لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك، وبأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وفي قوله (١): ﴿بَعْضُنَا بَعْضًا﴾ إشارة لطيفة وهي أنَّ البعضية تنافي الإلهية؛ إذ هي تماثل في البشرية، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهًا لك، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوة في قولهم: ﴿إنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا أشد استبعادًا فيه، وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى، يؤكد بعضها بعضًا؛ إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك، ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام.
والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة: عبدوا عيسى، وأشركوا بقولهم: ثالث ثلاثة، واتخذوا أحبارهم أربابًا في الطاعة في تحليل وتحريم، وفي السجود لهم.
وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله - ﷺ - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهو بإلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعا بكتاب رسول الله - ﷺ - الذي بعث به مع دِحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا غرابة في ذلك فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب، ومن المشركين.
أما أهل الكتاب: فلأن فيه هدمًا لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون؛ فلأن للإلف والعادة سلطانًا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات
(١) البحر المحيط.
354
التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل، كما حكى الله - تعالى - عنهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ...﴾ قيل (١): نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران كما قاله ابن عباس، وقيل: نزلت في شأن الفريقين اليهود والنصارى، وذلك أنه لما قَدِم وفد نجران المدينة، والتقوا مع اليهود.. اختصموا في دين إبراهيم، فزعمت النصارى أنه كان نصرانيًّا، وأنهم على دينه، وأولى الناس به، وقالت اليهود: بل كان يهوديًّا، ونحن على دينه، وأولى الناس به، فقال النبي - ﷺ -: "كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه، بل كان إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وأنا على دينه، فاتبعوا دينه الإِسلام"، فقالت اليهود: يا محمَّد، ما تريد إلا أن نتخذك ربًّا كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: يا محمَّد، ما تريد إلا أن نقول فيك كما قالت اليهود في عزير، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ..﴾ الآية (٢)، روى ابن إسحاق بسنده المتصل إلى ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار اليهود عند رسول الله - ﷺ -، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ﴾. الآية أخرجه البيهقي في "الدلائل".
قوله: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآية، روى ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمَّد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع،
(١) المراح.
(٢) لباب النقول.
355
فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله فيهم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ إلى قوله: ﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي عن أبي مالك قال: كانت اليهود تقول أحبارهم للذين من دونهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأنزل الله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٦٤ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى ﴿تَعَالَوْا﴾؛ أي: أقبلو وهلموا ﴿إِلَى كَلِمَةٍ﴾ بفتح الكاف وكسر اللام في قراءة العامة، وقرأ أبو السمال: (كَلْمة) كضَربة، و (كِلْمة) كسِدْرة وكلتاهما شاذتان؛ أي: أقبلوا إلى كلمة ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾؛ أي: إلى كلمة مستوية بيننا وبينكم، وحكم حق لا تختلف فيه الأنبياء والرسل، ولا يختلف فيه التوراة والإنجيل والقرآن.
"من محمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم.. تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت.. فإنما عليك إثم الأريسين، و ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ هذا لفظ إِحدى روايات البخاري، وقد أخرجه بأطول من هذا، وفيه زيادة، وفي رواية: الأريسين، والأريس: الأكار: وهو الزراع والفلاح.
٦٥ - ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: لِمَ تجادلون وتنازعون في إبراهيبم، وتزعمون أنه على دينكم ﴿و﴾ الحال أنه ﴿ما أنزلت التوراة﴾ على موسى ﴿وَالْإِنْجِيلُ﴾ على عيسى ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: إلا من بعد إبراهيم بزمن طويل، أي: والحال أنه ما حدثت هذه الأديان إلا من بعده بقرون كثيرة، فكيف يكون من أهلها؟.
والمعنى (١) أن اليهودية والنصرانية حدثتنا بنزول التوراة والإنجيل على موسى وعيسى عليهما السلام، وكان إبراهيم قبل موسى بألف سنة، وعيسى بألفين، فكيف يكون عليهما؟ ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؛ أي: أتدَّعون أن إبراهيم منكم، وعلى دينكم، فلا تعقلون بطلان قولكم، وفساد دعواكم يا معشر اليهود والنصارى حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال؟
وأورد (٢) على هذا التأويل أن الإِسلام أيضًا إنما حدث بعد إبراهيم، وموسى، وعيسى بزمان طويل، وكذلك إنزال القرآن، إنما نزل بعد التوراة والإنجيل، فكيف يصح ما ادعيتم في إبراهيم أنه كان حنيفًا مسلمًا؟ وأجيب عنه: بأن الله عزّ وجلّ أخبر في القرآن بأن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، فصح وثبت ما ادعاه المسلمون، وبطل ما ادعاه اليهود والنصارى.
٦٦ - ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يقرأ إما بألف وبعدها همزة إما محققة أو مسهلة، أو بدون ألف، والهمزة إما محققة أو مسهلة، أو بألف فقط بدون همزة أصلًا، فالقراءات خمسٌ، وكلها سبعية متواترة، أي: انتبهوا أنتم يا معشر اليهود والنصارى. ﴿حَاجَجْتُمْ﴾ وخاصمتم ﴿فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: فيما وجدتم في كتبكم، وأنزل عليكم بيانه في أمر موسى وعيسى، وادعيتم أنكم على دينهما، وقد أنزلت التوراة. والإنجيل عليكم. ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ﴾ وتخاصمون ﴿فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: فيما ليس في كتابكم من أن إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما كان عليه إبراهيم من الدين ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، ثم صرَّح بما فهم من قبل تلويحًا، فقال:
٦٧ - ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾؛ أي: ما كان إبراهيم على دين اليهودية، ولا على دين النصرانية، فإن اليهودية ملة محرفة عن شرع موسى، وكذلك النصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى. ﴿وَلَكِنْ كَانَ﴾ إبراهيم ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة كلها إلى الدين الحق القويم ﴿مُسْلِمًا﴾؛ أي: منقادًا
(١) البيضاوي.
(٢) الخازن.
لأوامر الله التي ألزم بها في شريعته، لا على ملة الإِسلام الحادثة ﴿وَمَا كَانَ﴾ إبراهيم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بالله؛ أي: لم يكن مشركًا، وفي هذا تعريض بأنهم كانوا مشركين في قولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وردَّ على المشركين في ادعائهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام.
٦٨ - ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾؛ أي: أقربهم وأحقهم ﴿بِإِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: بالانتساب إلى إبراهيم ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾؛ أي: لأتباعه الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده؛ كإسماعيل وإسحق ويعقوب وأولادهم، ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ محمَّد - ﷺ -؛ لموافقته له في أكثر شرعه ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد - ﷺ -، فهم الذين يليق بهم أن يقولوا: نحن على دينه؛ لأن غالب شرع محمد - ﷺ - موافق لشرع إبراهيم؛ أي: في الأصول، أو في الفروع من حيث السهولة، فإن شريعة محمَّد - ﷺ - سهلةٌ نهلةٌ كشريعة إبراهيم، لا كشريعة موسى فإنها صعبة التكاليف بسبب عناد بني إسرائيل.
والحاصل: أن أحق الناس بدين إبراهيم فريقان:
أحدهما: من اتبعه من أمته.
وثانيهما: النبي وسائر المؤمنين من أصحابه - ﷺ -.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن لكل نبي ولاةً من النبيين، وإن وَليي: أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم قرأ: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)﴾ (١) أخرجه الترمذي.
والخلاصة: أنَّ أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته والانتساب إليه هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره، فوحدوا الله مخلصين له الدين، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين، وهذا النبي محمَّد - ﷺ -، والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء.
وهذا هو روح الإِسلام، والمقصود من الإيمان، ومن فاته ذلك.. فقد فاته الدين كله، ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم، فالله ناصرهم فقال: {وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ} أي: ناصرهم وحافظهم ومكرمهم، فهو يتولى أمورهم بالنصرة والتأييد، والتوفيق والتسديد، ويصلح شؤونهم، ويثيبهم بحسب تأثير الإِسلام في قلوبهم، ويجازيهم بالحسنى.
ونبَّه على الوصف الذي يكون به الله وليًّا لعباده، وهو الإيمان فقال: ﴿وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل: وليهم، وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا، وبالفوز بالآخرة، وهذا كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وقرىء شاذًّا (١): ﴿وهذا النبي﴾ - بالنصب - عطفًا على الهاء في: ﴿اتَّبَعُوُه﴾، فيكون مُتَّبْعًا لا مُتَّبِعًا؛ أي: أحق الناس بإبراهيم من اتبعه هو، ومحمدًا - ﷺ -، ويكون ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ عطف على خبر ﴿إنَّ﴾ فهو في موضع رفع، وقرىء: ﴿وهذا النبيِّ﴾ بالجر، ووُجِّه على أنه عطف على إبراهيم؛ أي: إنَّ أولى الناس بإبراهيم، وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم. قالوا: والنبي بدل من ﴿هذا﴾، أو نعت، أو عطف بيان منه.
٦٩ - ولما دعت اليهود معاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر من دين الإِسلام إلى دين اليهودية.. نزلت هذه الآية: ﴿وَدَّت﴾؛ أي: أحبَّت وتمنَّت ﴿طَائِفَةٌ﴾؛ أي: جماعة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهم أحبارهم ورؤساؤهم كعب بن الأشرف وأصحابه ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾؛ أي: وَدَّوا أن يضلوكم عن دينكم الإِسلام ويوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم، وتردكم إلى ما كنتم عليه أولًا من الكفر. ﴿و﴾ الحال أنهم ﴿ما يضلون﴾ عن دين الإِسلام ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، أو أمثالهم، وما يعودُ وبالُ الإضلال إلا عليهم؛ لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، فالمؤمنون لا يقبلون قولهم، فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين، وهم صاروا خائبين عن مرادهم؛ حيث اعتقدوا شيئًا، وظهر لهم أن الأمر بخلاف ما قصدوه. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: ما يعلمون أن هذا التمني يضرهم ولا يضر المؤمنين؛ لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم،
(١) البحر المحيط.
وتمني إضلال المسلمين، وفي نفي الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.
٧٠ - ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: لأيِّ سبب تنكرون وتجحدون بآيات الله الورادة في التوراة والإنجيل، من البشارة بمحمد - ﷺ -، والإخبار بأن الدين هو الإِسلام، وبأن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا ﴿وَأَنْتُمْ﴾؛ أي: والحال أنكم ﴿تَشْهَدُونَ﴾ وتعترفون صحتها إذا خلا بعضكم ببعض، وتنكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوة محمَّد - ﷺ - عند حضور عوامكم، وعند حضور المسلمين.
أو المعنى: لِمَ تكفرون بالقران، فإنكم تنكرون عند العوام كونه معجزًا، وأنتم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزًا؟
٧١ - ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ وتخلطون ﴿الْحَقَّ﴾ المنزل في التوراة من نعت محمَّد - ﷺ - ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ المحرف من عندكم، كما نقل عن الحسن وابن سيرين، أو لِمَ تشككون الناس بإظهار الإِسلام بالتواضع أولَ النهار، ثم الرجوع عنه في آخره؟ كما نقل عن ابن عباس وقتادة. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ الموجود في التوراة من نبوة محمَّد - ﷺ - ونعته، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أنكم تعلمون أنه رسول من عند الله، وأن دينه حق، وإنما كتمتم الحق عنادًا وحسدًا، وأنتم تعلمون ما تستحقون على ذلك الكتمان من العقاب.
وقرأ يحيى بن وثاب شاذًا: ﴿تَلبَسون﴾ - بفتح الباء - مضارعُ لَبِس الثوب، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه، والباء في ﴿بالباطل﴾ على هذه القراءة للحال؛ أي: مصحوبًا بالباطل، وقرأ أبو مجلز شذوذًا: ﴿تُلبِسون﴾ - بضم التاء وكسر الباء المشددة - والتشديد هنا للتكثير، وقرأ عبيد بن عمير شذوذًا أيضًا: ﴿لم تلبسوا﴾ و ﴿تكتموا﴾ بحذف النون فيهما للجزم، قالوا: ولا وجه له إلا ما ذهب إليه من شَذّ من النحاة في إلحاق ﴿لِمَ﴾ بلَمْ في عمل الجزم، والثابت في "لسان العرب": أن لِمَ لا ينجزم ما بعدها، ولم أرَ أحدًا من النحويين ذكر أن: لِمَ تجري مجرى ﴿لَمْ﴾ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الوفع في لغة بعض العرب، كما في قول الراجز:
أبِيْتُ أسْرِيْ وَتَبِيْتِيْ تُدَلِّكِي شَعْرَكِ بالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي
ثم ذكر نوعًا آخر من تلبيسات اليهود، فقال:
٧٢ - ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: جماعة منهم، وهم اثنا عشر حبرًا من أحبار يهود خيبر، منهم: عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكعب بن الأشرف، وأصحابه من الرؤساء؛ أي: قال بعضهم فيما بينهم: ﴿آمِنُوا﴾ وصدِّقوا ظاهرًا ﴿بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: بالقرآن الذي أنزل عليهم، وامتثلوا بما أمر به محمَّد - ﷺ -، وصلُّوا معهم إلى قبلتهم الكعبة ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ وأوله وهو صلاة الفجر ﴿وَاكْفُرُوا﴾ به وارجعوا عنه ﴿آخِرَهُ﴾؛ أي: في آخر النهار، وهو صلاة الظهر، وصلُّوا إلى بيت المقدس ﴿لَعَلَّهُمْ﴾؛ أي: لعل العوام من أصحابه ﴿يَرْجِعُونَ﴾ ويرتدون عن دينه وقبلته معكم.
وقيل: هذا في شأن القبلة، وذلك أنه لما صرفت إلى الكعبة.. شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالذي أُنزل على محمَّد في أمر الكعبة، وصلوا إليها أول النهار، ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار؛ لعلهم يرجعون، فيقولون هؤلاء أهل كتاب، وهم أعلم، فيرجعون إلى قبلتنا، فأطلع الله رسوله - ﷺ - على سرهم، وأنزل هذه الآية حتى لا تُؤَثِّر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين؛ ولأنهم إذا افتضحوا فيها.. لا يقدمون على أمثالها، ويكون هذا وَازِعًا لهم، وفي هذا إنباء بالغيب، فيكون معجزةً لمحمد - ﷺ -.
٧٣ - ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُم﴾: معطوف على قوله ﴿آمِنُوا﴾؛ أي؛ وقالت طائفة من أهل الكتاب: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ جملة معترضة من كلام الله سبحانه، وقوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ معمول لتؤمنوا؛ أي: وقالت جماعة من أهل الكتاب في تلبيساتهم على المؤمنين؛ أي: قال بعضهم لبعض: لا تظهروا إيمانكم واعترافكم؛ بأن يؤتى ويعطى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، أو يحاججكم أحد ويغالبكم عند ربكم يوم القيامة، إلا لمن وافى دينكم، بل أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، وبأنهم يحاجونكم
361
عند ربكم يوم القيامة، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وجماعتكم وحدهم دون المسلمين؛ لئلا يزيدهم ذلك ثباتًا على دينهم، ودون المشركين؛ لئلا يدعوهم ذلك إلى الإِسلام. قل لهم يا محمَّد: ليست الهداية بأيديكم، وإنما الهدى هدى الله، يهدي من يشاء إلى الإيمان، ويثبته عليه، كما هدى المؤمنين.
وهذا التفسير على كون اللام في قوله: ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ أصلية متعلقة بـ ﴿تُؤْمِنُوا﴾، ويحتمل كونها زائدة، و ﴿من تبع دينكم﴾: استثناء مقدَّم و ﴿أَحَدٌ﴾ في قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ مستثنى منه مؤخر، والمعنى على هذا: وقالت طائفة من أهل الكتاب لا تؤمنوا ولا تصدقوا أن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم من النبوة والكتاب، أو يغالبكم عند ربكم يوم القيامة إلا من تبع دينكم؛ أي: إلا إن كان ذلك الأحد من أهل دينكم.. قل لهم يا محمَّد: إن الهدى بيد الله، يؤتيه من يشاء، وليس مخصوصًا بكم؛ أي: ليس الهدى مقصورًا على شعب معين، أو واحد بذاته، بل الله سبحانه يهدي من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه، ومن يهد الله فلا مضل له، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير، بل يحبط تدبيرهم له.
وقيل: في الكلام تقدير مضاف منصوب على كونه مفعولًا لأجله، والمعنى: قالت طائفة من أهل الكتاب بعضهم لبعض: لا تصدقوا كل من يدعي النبوة حتى تنظروا في أمره، فإن كان متبعًا لدينكم.. فصدقوه، وإلا فكذبوه، ولا تقروا ولا تعترفوا لأحد بالنبوة إلا إذا كان على دينكم؛ خشية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وخشية أن يحاجوكم به عند ربكم، فإذا أقررتم بنبوة محمَّد، ولم تدخلوا في دينه.. تكون له الحجة عليكم يوم القيامة، وغرضهم نفي النبوة عن رسول الله - ﷺ -.
وعبارة "الخازن": قوله عز وجل: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هو كلام متصل بالأول، وهو من قول اليهود، يقول بعضهم لبعض: ولا تؤمنوا؛ أي: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم؛ أي: وأفتى ملتكم التي أنتم عليها، وهي: اليهودية، واللام في ﴿لِمَن﴾: زائدة، كقوله تعالى: ﴿ردف لكم﴾؛ أي ردفكم. {قُلْ إِنَّ
362
الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}؛ أي: إن الدين دين الله، والبيان بيانه، وهذا خبر من الله تعالى، ثم اختلفوا فيه فمنهم من قال: هذا كلام معترض بين كلامين، وما بعده متصل بالكلام الأول، وهو إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض، ومعنى الآية: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات، من فلق البحر، وإنزال المن والسلوى عليكم، وغير ذلك من الكرامات، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم؛ لأنكم أصح دينًا منهم، فلما أخبر الله تعالى ذلك عن اليهود.. قال في أثناء ذلك ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾.
والمعنى: إن الذي أنتم عليه إنما صار دينًا بحكم الله وأمره، فإذا أمر بدين آخر.. وجب اتباعه والانقياد لحكمه؛ لأنه هو الذي هدى إليه وأمر به.
وقيل: إن المعنى: قل لهم يا محمَّد: إن الهدى هدى الله، وقد جئتكم به، ولن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف.
وقرأ الحسن والأعمش شذوذًا: ﴿إن يؤتي﴾ - بكسر الألف - فيكون قول اليهود تامًّا عند قوله: إلا لمن تبع دينكم، وما بعده من قول الله تعالى.
والمعنى: قل يا محمَّد: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾، وتكون ﴿أنْ﴾ بمعنى الجحد والنفي؛ أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا محمَّد من الدين والهدى، و ﴿أَوْ﴾ في قوله: ﴿أوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ بمعنى: إلا؛ أي: إلا أن يحاجوكم؛ أي: اليهود بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم عند ربكم؛ أي: عند فعل ربكم وجزائه، وقيل: ﴿أَو﴾ في قوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ بمعنى: حتى، ومعنى الآية: ما أعطى الله أَحدًا مثلَ ما أعطيتم يا أمة محمَّد من الدين والحجة، حتى يحاجوكم عند ربكم.
وقرأ ابن كثير: ﴿أأَنْ يُؤْتَى﴾ بهمزتين: الأولى محققة والثانية مسهلة، وذلك على الاستفهام التوبيخي، وحينئذٍ يكون في الكلام اختصار تقديره: إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة.. تحسدونه ولا تؤمنون به. هذا قول قتادة والربيع، قالا هذا من قول الله تعالى يقول:
363
قل لهم يا محمَّد: إن الهدى هدى الله إلا إن أنزل الله كتابًا مثل كتابكم، وبعث نبيًّا مثل نبيكم حسدتموه وكفرتم به ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، وقوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين، وتكون ﴿أَوْ﴾ بمعنى إنْ الشرطية؛ لأنهما حرفا شرط وجزاء، يوضع أحدهما موضع الآخر.
والمعنى: وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم.. فقل يا محمَّد: إن الهدى هدى الله، ونحن عليه، ويحتمل أن يكون الجميع خطابًا للمؤمنين، ويكون نظم الآية.
﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾؛ أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين، فإن حسدوكم.. فقل: إن الفضل بيد الله، وإن حاجوكم.. فقل: إن الهدى هدى الله.
ويحتمل أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ من كلام الله تعالى، ثبَّت به قلوب المؤمنين؛ لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم. يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم من الدين والفضل، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم، أو يقدروا على ذلك، فإن الهدى هدى الله، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله واسع، فكون الآية كلها خطابًا للمؤمنين عند تلبيس اليهود؛ لئلا يرتابوا ولا يشكُّوا. انتهت.
وقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن ذلك في الآخرة.
والثاني: عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفًا، وكأن المعنى: أو يحاجوكم عند الحق، ذكره أبو حيان.
وقال الشوكاني: وقد قيل: إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالًا، وذلك صحيح. ﴿قُلْ إنَّ اَلفَضلَ﴾ بالرسالة والنبوة والإسلام وقبلة إبراهيم مثلًا
364
﴿بِيَدِ اللَّهِ﴾ فإنه مالك له ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ من عباده؛ أي: يعطيه محمدًا وأصحابه.
والله تعالى حكى عن اليهود أمرين:
أحدهما: أنهم آمنوا وجه النهار وكفروا آخره؛ ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإِسلام، فأجاب الله عن ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾؛ أي: إن مع كمال هداية الله وقوة بيانه، لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر.
وثانيهما: أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة، فأجاب الله عن ذلك بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾. ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ الفضل وكامل القدرة، فيقدر أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ﴿عَلِيمٌ﴾؛ أي: كامل العلم، فلا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب.
٧٤ - ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾، أي: يخص برحمته من النبوة والرسالة والدين، أي: برحمته التي بلغت في الشرف وعلو المرتبة إلى أن تكون أعلى وأجل من أن تقاس، أي: يجعل رحمته مقصورة على ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾: من عباده؛ أي: محمدًا وأصحابه. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ والمنّ الجسيم، فلا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده، والله أعلم بمعنى كلامه، وهو ولي التوفيق لأقوم العبارة والتحقيق، وهذا من المواضع التي تشاك فيها الأقدام، وتكل فيها الأقلام، وارتابت فيها الأفهام، وارتبكت فيها الأعلام إلا من مُنح بمنح العالم العلَّام. قال الواحدي: وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرًا وإعرابًا، ولقد تدبرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية، فلم أجد قولًا يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى، وصحة النظم.
الإعراب
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾ إلى قوله: ﴿فَإن تَوَلَّوا﴾ مقول محكي، وإنْ شئت قلت
365
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول ﴿تَعَالَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿إِلَى كَلِمَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿تَعَالَوْا﴾ ﴿سَوَاءٍ﴾: صفة لـ ﴿كَلِمَةٍ﴾؛ لأنه في تأويل مستوية، ﴿بَيْنَنَا﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿سَوَاءٍ﴾. ﴿وَبَيْنَكُمْ﴾: معطوف عليه. ﴿ألَّا﴾: ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لا﴾ نافية. ﴿نَعْبُدَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ (أن)، وفاعله ضمير يعود على النبي ومن معه من أهل الكتاب ﴿إِلَّا اللَّهَ﴾: منصوب على الاستثناء، والمستثنى منه محذوف تقديره: أحدًا إلا الله، والجملة الفعلية صلة (أنْ)، (أنْ) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بدل من ﴿كَلِمَةٍ﴾، أو مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي عدم عبادتنا غير الله.
﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿نُشْرِكَ﴾: معطوف على ﴿نَعْبُدَ﴾، منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على النبي ومن معه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿نُشْرِكَ﴾ ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَعْبُدَ﴾ على كونها في تأويل مصدر مجرور أو مرفوع ﴿وَلَا﴾: الواو عاطفة ﴿لا﴾: نافية ﴿يَتَّخِذَ﴾: معطوف على ﴿نَعْبُدَ﴾، ﴿بَعْضُنَا﴾: فاعل ومضاف إليه ﴿بَعْضًا﴾: مفعول أول ﴿أَرْبَابًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَعْبُدَ﴾ على كونها في تأويل مصدر مجرور أو مرفوع ﴿من دون الله﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿أربابًا﴾.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
﴿فَإن﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا قلت لهم ما أمرتك به، وأردت بيان حكم ما إذا أعرضوا.. فأقول لك ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿أن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَقُولُوا﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾) وجوبًا. ﴿قولوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه جوابًا لها، وجملة (إن) الشرطية في محل
366
النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قولوا﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿اشْهَدُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قولوا﴾. ﴿بِأَنَّا﴾: الباء حرف جر (أنا): حرف نصب، واسمها. ﴿مُسْلِمُونَ﴾: خبرها، وجملة (أن) في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بكوننا مسلمين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿اشْهَدُوا﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥)﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة، أو في محل النصب معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الأولى. ﴿لِمَ﴾: اللام حرف جر ﴿م﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري التوبيخي أو التعجبي في محل الجر وباللام مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين (ما) الموصولة - الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُحَاجُّونَ﴾ المذكور بعده. ﴿تُحَاجُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب مقول القول على كونها معطوفة ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾: متعلق بـ ﴿تُحَاجُّونَ﴾. ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ﴾: الواو حالية ﴿ما﴾: نافية، ﴿أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ﴾: فعل ونائب فاعل ﴿وَالْإِنْجِيلُ﴾: معطوف على ﴿التَّوْرَاةُ﴾. ﴿إلا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿من بعده﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أُنْزِلَتِ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من إبراهيم تقديره: لم تحاجون في إبراهيم، والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على مقدَّر هو المعطوف عليه بهذا العاطف المذكور - أعني: الفاء - تقديره: ألا تتفكرون. ﴿فلا تعقلون﴾: الفاء عاطفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿تَعْقِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ألا تتفكرون المقدرة على كونها جملة استفهامية لا محل لها من الإعراب.
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ
367
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)}.
﴿ها﴾ حرف تنبيه ﴿أنتم هؤلاء﴾: أنتم: مبتدأ، ها: حرف تنبيه، أولاء؛ اسم إشارة للجمع المذكر في محل النصب منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، مبني بضم مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة البناء الأصلي، وجملة النداء معترضة لاعتراضها بين المبتدأ والخبر ﴿حَاجَجْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَاجَجْتُمْ﴾. ﴿لَكُم﴾: خبر مقدم ﴿عِلمٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿بِهِ﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿عِلْمٌ﴾؛ إذ لو تأخر.. لصح جعله نعتًا، ولا يجوز أن يتعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾؛ لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدم معموله عليه، والجملة الإسمية صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾ ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ﴾: الفاء عاطفة، اللام: حرف جر، (م): اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُحَاجُّونَ﴾ المذكور بعده، ﴿تُحَاجُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿حَاجَجْتُمْ﴾، ﴿فِيمَا﴾، جار ومجرور متعلق بـ ﴿تحاجون﴾. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماضٍ ناقص. ﴿لَكُم﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿بِهِ﴾: حال من علم؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليه. ﴿عِلْمٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو استئنافية (الله): مبتدأ، ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة.. ﴿وَأَنْتُمْ﴾: الواو عاطفة ﴿أنتم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾.
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)﴾.
﴿مَا﴾: نافية، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماضٍ ناقص ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾: اسمها، ﴿يَهُودِيًّا﴾: خبرها، ﴿وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾: الواو اعتراضية ﴿لكن﴾: حرف استدراك ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ ناقص،
368
واسمها ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، ﴿حَنِيفًا﴾: خبر أول لها، ﴿مُسْلِمًا﴾ خبر ثانٍ، وجملة ﴿كاَنَ﴾ جملة استدراكية معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: الواو عاطفة، (ما) نافية، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماضٍ، واسمها ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿كاَنَ﴾ الأولى.
﴿إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿أَوْلَى النَّاسِ﴾: اسمها ومضاف إليه ﴿بِإِبْرَاهِيمَ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾، ﴿لَلَّذِينَ﴾: اللام حرف ابتداء (الذين): اسم موصول في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿اتَّبَعُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿وَهَذَا﴾ في محل الرفع معطوف على الموصول. ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لاسم الإشارة، أو بدل، أو عطف بيان منه ﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على الموصول الأول ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو عاطفة (الله): مبتدأ ﴿وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩)﴾.
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿طَائِفَةٌ﴾، ﴿لَوْ﴾: حرف مصدر ﴿يُضِلُّونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة ﴿لَوْ﴾ المصدرية ﴿لَوْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وَدَّتْ طائفة من أهل الكتاب إضلالهم إياكم ﴿وَمَا يُضِلُّونَ﴾: الواو حالية (ما): نافية ﴿يُضِلُّونَ﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة حال من فاعل ﴿لو يضلون﴾، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾: الواو عاطفة ﴿ما﴾: نافية ﴿يَشْعُرُونَ﴾:
369
فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة ﴿لِمَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَكْفُرُونَ﴾. ﴿تَكْفُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَكْفُرُونَ﴾. ﴿وَأَنتُمْ﴾: الواو حالية، ﴿أنتم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تَشْهَدُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿تَكْفُرُونَ﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء معطوفة على جملة النداء الأولى ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ﴾: ﴿لِمَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَلْبِسُونَ﴾، ﴿تَلْبِسُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. ﴿الْحَقَّ﴾: مفعول به ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ متعلق بـ ﴿تَلْبِسُونَ﴾: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿تَلْبِسُونَ﴾. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: الواو حالية ﴿أنتم﴾: مبتدأ، ﴿تَعْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تكتمون﴾.
﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)﴾.
﴿وَقَالَتْ﴾ الواو استئنافية، ﴿قالت طائفة﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿طَائِفَةٌ﴾. ﴿آمِنُوا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿آمِنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿بِالَّذِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمِنُوا﴾. ﴿أُنزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنزِلَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، الجملة صلة الموصول ﴿وجْه اَلنَهَارِ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بقوله ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾. ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾: الواو عاطفة ﴿اكفروا﴾: فعل وفاعل ﴿آخِرَهُ﴾:
370
ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿اكْفُرُوا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترجٍ وتعليل، والهاء اسمها، وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بـ ﴿اكفروا﴾.
﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾.
٧٣ - ﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾: ناهية ﴿تُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قالت﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿لِمَن﴾: اللام زائدة (من): اسم موصول في محل النصب على الاستثناء مقدَّم على المستثنى منه ﴿تَبِعَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على (من)، والجملة صلة الموصول ﴿دِينَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معترضة؛ لاعتراضها بين العامل والمعمول. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿الْهُدَى﴾ اسمها ﴿هُدَى اللَّهِ﴾: خبرها ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يُؤْتَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ ﴿أَن﴾ ﴿أَحَدٌ﴾: نائب فاعل، وهو المفعول الأول لـ (أتى)؛ لأنه بمعنى: أعطى، وهو المستثنى منه ﴿مِثْلَ مَا﴾: مفعول ثانٍ ومضاف إليه ﴿أُوتِيتُمْ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: أوتيتموه، وهو العائد على (ما)، وجملة ﴿أُوتِيتُمْ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة ﴿يُؤْتَى﴾ صلة ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿أن﴾: مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لقوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ تقديره: ولا تؤمنوا إيتاء أحد من الناس مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم، أي: إلا إيتاءه. ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾: أو: حرف عطف، ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يُؤْتَى﴾، ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾.
371
﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿إنَّ اَلفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ إلى آخر الآية التالية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اَلفَضْلَ﴾: اسمها. ﴿بِيَدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿يُؤْتِيهِ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلته، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إيتاءه، وجملة ﴿يُؤْتِيهِ﴾ في محل الرفع خبر ثانٍ لـ ﴿إنَّ﴾، ويجوز أن تكون مستأنفة، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو يؤتيه. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿وَاسِعٌ﴾: خبر أول ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة ﴿يَخْتَصُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على (الله)، والجملة مستأنفة ﴿بِرَحْمَتِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَخْتَصُّ﴾. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَخْتَصُّ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿مَن﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿ذُو الْفَضْلِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿الْعَظِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الْفَضْلِ﴾. والله سبحانه وتعالى أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾: أصل تعالوا: تعاليوا، فقلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع الواو - كما مر -، وسواء: اسم مصدر بمعنى؛ الاستواء، ويوصف به على أنه بمعنى: مستو، فيحتمل حينئذٍ ضميرًا، ويرفع الظاهر، ومنه قولهم: مررت برجل سواء والعدم - برفع العدم -، على أنه معطوف عى الضمير المستكن في سواء، ولا يثنى، ولا يجمع، إما لكونه في الأصل مصدرًا وإما للاستغناء عن تثنيته بتثنية نظيره، وهو سيّ بمعنى مثل، تقول: هما سِيَّان؛ أي: مثلان، وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولهم: قاموا سواء زيد وإن شاركه لفظًا.
﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾: وأولى: اسم تفضيل من ولى يلي، وألفه منقلبة عن
372
ياء؛ لأن فاءه واو، فلا تكون لامه واوًا؛ إذ ليس لنا في كلام العرب ما فاؤه ولامه واو إلا واو التهجي، فمعنى ﴿أَوْلَى النَّاسِ﴾: أخصهم به وأقربهم منه؛ لأنه من الوَلي بمعنى: القرب.
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ﴾: يقال: وددتُ لو تفعل كذا - من فَعِل المكسور المضاعف - يَوَد بفتح العين على القياس وُدًا بضم أوله وفتحه ووِدادًا ووَدادة بالفتح فيهما؛ أي: تمنيت ووددت لو أنك تفعل كذا مثله، وودِدت الرجل بالكسر وُدًا بضم أوله: أحببته، والود - بضم الواو وفتحها وكسرها -: المودة ذكره في "المختار" ﴿والطائفة﴾ من الشيء: القطعة منه وقوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الواحد فما فوقه. انتهى. "مختار".
﴿تَلْبِسُونَ الْحَقَّ﴾: اللبس الخلط، يقال: لبس الأمر عليه إذا اشتبه واختلط عليه يلبِس من باب: ضَرَب.
﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، وناصبة ﴿آمَنُوا﴾ - كما مر، ومعناه أوَّلَ (١) النهار. شُبِّه بوجه الإنسان؛ لأنه أول ما يواجه من النهار، وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي:
مَنْ كانَ مَسْرُورًا بمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾: يقال: اختصه بكذا إذا خصه به، وهو من باب: افتعل فبناؤه لمبالغة الثلاثي، والله أعلم.
البلاغة
وقد جمعت هذه الآية من ضروب البلاغة أنواعًا كثيرة (٢):
فمنها: المجاز في قوله: ﴿إِلَى كَلِمَةٍ﴾؛ حيث أطلق اسم الواحد على الجمع.
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
373
ومنها: التكرار في قوله: ﴿إلا الله﴾ ﴿وإن الله﴾، وفي قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ﴾، وفي قوله: ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ و ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ﴾ و ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿أَرْبَابًا﴾ لما أطاعوهم في التحليل والتحريم، وأذعنوا إليهم.. أطلق عليهم أربابًا تشبيهًا لهم بالرب المستحق للعبادة والربوبية.
ومنها: الإجمال في الخطاب في قوله: ﴿تَعَالَوْا﴾، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ﴾؛ كقول إبراهيم. ﴿يا أبت﴾، ﴿يا أبت﴾، وكقول الشاعر:
مَهْلًا بَنِيْ عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِيْنَا لاَ تَنْبُشُوْا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُوْنَا
وقول الآخر:
بَنِيْ عَمِّنَا لاَ تَنْبُشُوْا اَلشَرَّ بَيْنَنَا فَكَمْ مِنْ رَمَادٍ صَارَ مِنْهُ لَهِيْبُ
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿أَوْلَى﴾ و ﴿وَلِيُّ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾.
ومنها: الطباق المعنوي في قوله: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾، ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾؛ لأن الشهادة إقرار وإظهار، والكفر ستر.
ومنها: الجناس التام في قوله: ﴿يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ﴾.
ومنها: التجنيس المماثل والتكرار في قوله: ﴿آمِنُوا﴾ و ﴿آمَنُوا﴾، وفي ﴿الْهُدَى﴾ و ﴿هُدَى اَللهِ﴾، وقوله: ﴿يُؤْتَى﴾ و ﴿أوتِيُتمْ﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّ اَلفَضْلَ﴾ و ﴿ذُو الْفَضْلِ﴾.
ومنها: التكرار أيضًا في اسم الله في أربعة مواضع.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿آمِنُوا﴾ ﴿وَاكْفُرُوا﴾ وفي قوله: ﴿وَجْهَ اَلنَهَارِ﴾ و ﴿آخِرَهُ﴾.
374
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾؛ لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم و ﴿آخِرَهُ﴾؛ لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار والحذف في مواضع.
وفي قوله: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تبكيت (١) لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله، فحلل ما حللوه له، وحَرَّم ما حرموه عليه، فإنَّ من فعل ذلك.. فقد اتخذ من قلده ربًّا، ومنه: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الشوكاني.
375
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)﴾.
المناسبة
لمَّا بين الله سبحانه وتعالى خيانة أهل الكتاب في الدين وقبائحهم وكيدهم للمسلمين ليرجعوا عن دينهم، وصدهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعمًا أنَّهم شعب الله المختار، وأنَّ الدين الحق خاص بهم، لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى.. أردف ذلك بذكر أوصاف طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحل أكل أموال الناس بالباطل، تأويلًا للكتاب وغرورًا في الدين، وهم اليهود خاصة، فهم خائنون من جهة الدين والمال فقد خانوا الله والناس بتحريفهم كلام الله عن معناه، واستحلالهم أكل أموال الناس بالباطل.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن شقيق، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي - ﷺ - قال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ هو عليها فاجر.. لقي الله وهو
376
عليه غضبان"، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الآية، فجاء الأشعث فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن، فيَّ أنزلت هذه الآية؟ كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، فقال لي: شهودك؟ قلت: ما لي شهود، قال: فيمينه، قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف، فذكر النبي - ﷺ - هذا الحديث، فأنزل الله ذلك تصديقًا له.
وأخرج البخاري أيضًا من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف فيها: لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا...﴾ الآية.
قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري"، ولا منافاة بين الحديثين، بل يحمل على أنَّ النزول كان بالسببين معًا، ولفظ الآية أعم.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة (١): أنَّ الآية نزلت في حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة، وبدّلوه، وحلفوا أنَّه من عند الله، قال الحافظ ابن حجر: الآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في "الصحيح".
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ...﴾ الآية، أخرج (٢) ابن إسحاق والبيهقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أبو رافع القرظي - حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - ﷺ -، ودعاهم إلى الإِسلام -: أتريد يا محمَّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ قال - ﷺ -: "معاذ الله". فأنزل الله في ذلك: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ إلى قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" عن الحسن قال: بلغني أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: "لا، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله؛ فإنَّه لا ينبغي أنْ يُسجَد لأحد من دون الله"، فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ إلى قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
377
التفسير وأوجه القراءة
٧٥ - ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ شروع في بيان خيانتهم في الأموال بعد بيان خيانتهم في الدين، وفي "الخازن"؛ نزلت هذه الآية في اليهود، أخبر الله عزّ وجلّ أنَّ فيهم أمانة وخيانة، وقسمهم قسمين، فقال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: ومن اليهود ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾؛ أي: مَنْ إذا جعلته أمينًا على مال كثير، وأودعته عنده ﴿يُؤَدِّهِ﴾؛ أي: يدفع ذلك القنطار ويرده ﴿إِلَيْكَ﴾ بلا خيانة فيه ولا تعب، لشدة أمانته، وكمال وثوقه؛ كعبد الله بن سلام، استودعه رجل من قريش ألفًا ومئتي أوقية من ذهب، فأداه إليه ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي: ومن اليهود ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ﴾؛ أي: من إذا جعلته أمينًا على مال قليل، فضلًا عن كثير ﴿لَا يُؤَدِّهِ﴾؛ أي: لا يدفع ذلك الدينار، ولا يرده ﴿إِلَيْكَ﴾ بل يستحله ويخون فيه؛ كفنحاص بن عازوراء، استودعه رجل من قريش دينارًا، فجحده وخانه ﴿إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾؛ أي: لا يرده إليك في جميع المُدَدَ والأزمنة، إلا مدة دوامك يا صاحب الحق قائمًا على رأسه، ملازمًا له، مبالغًا في مطالبته بالتقاضي والترافع، وإقامة البنية عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد: تقوم عليه، وتطالبه بالإلحاح والخصومة والملازمة. وقيل: أراد أنَّه إنْ أودعته شيئًا، ثُمَّ استرجعته منه في الحال، وأنت قائم على رأسه لم تفارقه.. رده عليك، وإنْ أخرت استرجاع ما أودعته". أنكره ولم يرده عليك.
وقيل: أهل الأمانة هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود؛ لأنَّ مذهبهم: أنْ يحل قَتل من خالفهم في الدين، وأخذ ماله بأي طريق كان ﴿تَأْمَنْهُ﴾ هذه (١) قراءة الجمهور، وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي شذوذًا: (تيمنه) بكسر التاء الفوقية على لغة بكر وتميم، ومثله قراءة من قرأ شذوذًا: ﴿نِستعين﴾ بكسر النون.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُؤَدِّهِ﴾ بكسر الهاء ووصلها بياء، وقرأ قالون باختلاس الحركة، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والأعمش: بالسكون، وقال الفراء:
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
378
مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون: ضربته ضربًا شديدًا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم، وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط، ليس بشيء؛ إذ هي قراءة في السبعة، وهي متواترة.
وقرأ أبو المنذر سلام والزهري شذوذًا (١): ﴿يؤده﴾ بضم الهاء بغير واو، وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد شذوذًا أيضًا: بواو في الإدراج.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (٢)، ويحيى بن وثاب، والأعمش وابن أبي ليلى، والفياض بن غزوان، وطلحة وغيرهم شذوذًا: (دِمت) بكسر الدال، وهي لغة تميم.
وخلاصة الكلام: أنّ أهل الكتاب طائفتان:
الأولى: طائفة تُؤَمَّن على الكثير والقليل، ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه، استودعه قرشي ألفًا ومائتي أوقية من ذهب، فأداها إليه كما مرَّ.
والثانية: طائفة أخرى تخون الأمانة، فلو استودعتها القليل جحدته، ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها، ملحًا في المطالبة، أو لاجئًا إلى التقاضي والمحاكمة، ومن هؤلاء: كعب بن الأشرف، استودعه قريش دينارًا فجحده.
ثمَّ بيَّن السبب في فعلهم هذا فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الخيانة وترك أداء الأمانة، واستحلال أموال الناس، مستحق لهم ﴿بـ﴾ ـسبب ﴿أنَّهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل﴾؛ أي: بسبب أنهم يقولون: ليس علينا فيما أخذنا من أموال المشركين من العرب سبيل؛ أي: مؤاخذة، وتبعة، وإثم عند الله تعالى؛ لأن أموال العرب حلال لنا؛ لأنهم ليسوا على ديننا، ولا حرمة لهم في كتابنا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم، أو المعنى: ليس علينا فيما أصبنا
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
379
من أموال العرب سبيل؛ أي: قدرة على المطالبة والإلزام؛ فإنَّهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا، وقيل: إنهم قالوا: أنَّ الأموال كلها كانت لنا، فما في يد العرب فهو لنا، وإنَّما هم ظلمونا وغصبوها منا، فلا سبيل علينا في أخذها منهم بأي طريق كان.
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾؛ أي: يفترون على الله الكذب بادعائهم أنَّ ذلك في كتابهم. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّهم كاذبون في ذلك؛ أي: أنَّهم قالوا: إنَّ جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة، وكانوا كاذبين في ذلك، وعالمين بكونهم كاذبين فيه، ومَنْ كان كذلك.. كانت خيانته أعظم، وجرمه أفحش.
لكنهم لمَّا لم يكتفوا بالكتاب، ولجؤوا إلى التقليد، وعدّوا كلام أحبارهم دينًا، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأي والهوى، وحرّفوا الكلم عن مواضعه، ليؤيدوا آرائهم.. وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدَّعون.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قال النبي - ﷺ -: "كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة؛ فإنّها مؤداة إلى البَّرِّ والفاجر".
٧٦ - ﴿بَلَى﴾: حرف يجاب به النفي، فيصير إثباتًا لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين؛ أي: بلى على اليهود في العرب سبيل، فعلى هذا يَحسن الوقف عليها، ثم يبتدىء بما بعده، وقوله: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ جملة مستأنفة مقرر للجملة التي سدت ﴿بَلى﴾ مسدها، والضمير في ﴿بِعَهْدِهِ﴾ يرجع إلى الله تعالى؛ أي: ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة، من الإيمان بمحمد - ﷺ -، وبالقرآن الذي أنزل عليه، أو بأداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وقيل: الهاء في قوله: ﴿بِعَهْدِهِ﴾ عائد إلى الموفي؛ أي: بيعده فيما بينه وبين الله، أو فيما بينه وبين الناس.
﴿وَاتَّقَى﴾؛ أي: خاف عقاب الله بالكفر والخيانة، ونقض العهد ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين يتقون الشرك والخيانة؛ أي: يثيبهم على
380
تقواهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى ﴿مَنْ﴾؛ أي: فإنَّ الله يحبه، أخبر تعالى: بأن من أوفى بالعهد، واتقى الله في نقضه.. فهو محبوب عند الله.
وهذه الآية (١) دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد، وذلك لأنَّ الطاعات محصورة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معًا؛ لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق، فهو شفقة على خلق الله، وذلك أمر الله، فالوفاء بالعهد تعظيم لأمر الله، ثم الوفاء كما يكون في حق الغير، يكون في حق النفس، فالوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات، والتارك للمحرمات.
وخلاصة المعنى: بلى عليكم يا معشر اليهود في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالًا إلى أجل، أو باعك بثمنٍ مؤجل، أو ائتمنك على شيء.. وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له في حينه، دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب، أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة، وحتمت الشريعة، وفي هذا إيماء إلى أنَّ اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقًّا واجبًا لذاته، بل العبرة عندهم المعاهِد، فإن كان إسرائيليًّا.. وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره.
والعهد ضربان:
الأول: عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.
والثاني: عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه، من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله. واليهود لم يفوا بشيء منهما، إذ لو وفوا بعهد الله.. لآمنوا بالنبي - ﷺ -، واتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى عليه السلام.
(١) المرح.
381
وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد، المتقين بالإخلاف والغدر، محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا إيماء إلى أنَّ الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها، وفي سائر المعاصي والخطايا، هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلًا لمحبته، أما الانتساب إلى شعب بعينه، والافتخار والترفع به على غيره، كما كثر في عصرنا هذا والعياذ باللهِ، فلا قيمة له عند الله تعالى.
وفي هذا أيضًا تعريض بأنَّ أصحاب هذا الرأي من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهي الدعامة الأساسية في كل دين قويم، رزقنا الله إياها وجميع المسلمين.
وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وفي رواية "إذا حدث كذب، وإذ وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
٧٧ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ الباء فيه داخلة على المتروك؛ أي: إنَّ الذين يأخذن بنقض عهد الله عليهم من الإيمان بالرسول - ﷺ -، والأداء بالأمانات ﴿وبـ﴾ ـحنث ﴿أيمانهم﴾ وحلفهم من قولهم: والله لنؤمنن به ولننصرنه ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا، والمراد بالثمن القليل متاع الدنيا من الرشا والتراؤس ونحو ذلك ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات القبيحة ﴿لَا خَلَاقَ﴾؛ أي: لا نصيب ﴿لَهُمْ فِي﴾ خير ﴿الْآخِرَةِ﴾ ونعيمها ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ يوم القيامة أي: يشتد غضب الله عليهم ﴿وَلَا يَنظُرُ﴾ الله ﴿إِلَيْهِمْ﴾ بالإحسان والرحمة ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾، أي: لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.
والمعنى: إنَّ الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة، بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ويتقوه في جميع الأمور، وبما حلفوا
382
عليه من قولهم: لنؤمنن به ولننصرنه، أي: يأخذون بدل وفاء عهدهم وبَرِّ أيمانهم ثمنًا قليلًا هو العوض أو الرشا أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها، ويغضب عليهم ربهم، ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم، هو الغاية في الألم.
قال القفال: هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم؛ لأن من منع غيره كلامه في الدنيا.. فإنَّما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول؛ لا أكلمك ولا أرى وجهك، وإذا جرى ذكره.. لم يذكره بالجميل اهـ.
وخلاصة القول: إنَّ الله توعد الناكثين للعهد، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم، وبالعذاب الأليم، وبأنَّهم يكونون في غضب الله، بحيث لا ترجى لهم رحمة، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة، ولم يتوعد الله تعالى مرتكبي الكبائر من الزناة وشاربي الخمر، ولاعبي الميسر، وعاقي الوالدين، بما توعد به ناكثي العهود، وخائني الأمانات؛ لأنَّ مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد، التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.
فالوفاء بهما آية الدين البينة، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس في عهودهم.. زالت ثقة بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات، وأساس النظام.
والإيمان باللهِ لا يجتمع مع الخيانة، والنكث بالعهد، ألا ترى أن النبي - ﷺ - جعله علامة النفاق فقال: "آية النفاق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" كما مر آنفًا.
وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله - ﷺ - إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
فما بال كثير من المسلمين - حتى المتدينين منهم - استهانوا بالعهود، وأصبحوا لا يحفظون الأيمان، ويرون ذلك شيئًا صغيرًا، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد، ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف
383
والعادة فقط، مع أنَّها دون ذلك عند الله، كما تدل عليه هذه الآية.
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - ﷺ - أنَّه قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، رجل حلف على سلعة: لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلي ما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله - ﷺ - ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنَّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
وروى مسلم أيضًا عن أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ رسول - ﷺ - قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه.. حرم الله علية الجنة، وأوجب له النار، فقالوا: يا رسول الله وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: وإنْ كان قضيبًا من أراك".
٧٨ - ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾؛ أي: وإنَّ من اليهود ﴿لَفَرِيقًا﴾؛ أي: لطائفة ﴿يَلْوُونَ﴾؛ أي: يفتلون ويعطفون ﴿أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾؛ أي: بقراءة الكتاب، فيميلونها عن المنزل إلى المحرف، ويبدلون المحرف عن المنزل، كتحريفهم حركات الإعراب في آية الرجم، واللفظة الدالة على نبوة - ﷺ -، تحريفًا يتغير به المعنى ﴿لتحسبوه﴾؛ أي: لتظنوا أيها المسلمون أنَّ ذلك المحرف ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: من كلام الله وتنزيله، يعني من التوراة ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: والحال أنَّ ذلك المحرف ليس من التوراة المنزل من عند الله، ولكنه من عند أنفسهم.
والمعنى (١): يلوون ألسنتهم ويعطفونها عن اللفظ المنزل إلى المحرَّف؛ لكي يظن السفلة أو المسلمون أنَّ المحرف من التوراة، وما هو من الكتاب؛ أي: والحال أن المحرف ليس من التوراة في نفس الأمر، وفي اعتقادهم {وَيَقُولُونَ
(١) المراح.
384
هُوَ}؛ أي: المحرف ﴿منْ عِندِ اَللهِ﴾، أي: موجود في كتب سائر الأنبياء، مثل شعياء وأرخياء وحيفوف ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ فالأغمار الجاهلون بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنَّه من التوراة، والأذكياء زعموا أنَّه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى عليهم السلام، وعلم من هذا التفسير المغايرة بين اللفظين، فإنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله، فإنَّ الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب، وتارة بالسنّة، وتارة بالإجماع وتارة بالقياس، والكل من عند الله.
وفي "الخازن" قوله: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ وإنَّما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى.. لأجل التأكيد؛ أي: إنَّهم (١) كاذبون فيما يقولون، وفي هذا تشنيع عليهم، بأن الجرأة قد بلغت بهم حدًّا عظيمًا، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية، بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبًا، لعدم خوفهم منه، واعتقادهم أنَّه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب؛ لأنَّهم من أهل ذلك الدين.
وليس ذلك بالغريب عليهم، فإنَّا نرى كثيرًا من المسلمين اليوم يعتقدون أنَّ المسلم من أهل الجنة حتمًا، مهما أصاب من الذنوب؛ لأنَّه إنْ لم تدركه الشفاعة. أدركته المغفرة، ويجلِّي اعتقادهم ذلك قولهم: أمة محمَّد بخير.
فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإِسلام دينًا، وإنْ لم يعمل بما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله - ﷺ -، من صفات المسلمين الصادقين، بل ولو فعل فِعْل الكافرين والمنافقين.
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّهم كاذبون؛ أي: يتعمدون ذلك الكذب مع العلم، وهذا تأكيد وتسجيل عليهم بأنَّ ما افتروه على الله.. كان عن عمد لا عن خطأ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما (٢): هم اليهود الذين قدموا على كعب بن
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
385
الأشرف، وغيروا التوراة، وكتبوا كتابًا بدلوا فيه صفة رسول الله - ﷺ -، ثم أخذت قريظة ما كتبوا، فخلطوه بالكتاب الذي عندهم، وقد جاء في كتب السيرة والحديث: أنَّ اليهود كانوا إذا سلَّموا على النبي - ﷺ - يمضغون كلمة السلام، فيخفون اللام ويقولون: السام عليكم غير مفصحين بالكلمة؛ لأنَّهم يريدون معنى السام وهو الموت، وجاء في سورة النساء قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ فهؤلاء وضعوا ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ مكان "لا أسمعت مكروها" التي تقال عادة عند الدعاء و ﴿راعنا﴾ مكان انظرنا التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته، وإنَّما قالوا: ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ لأنَّها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب، بمعنى لا سمعت، وقالوا: ﴿راعنا﴾ لأنَّ هذه الكلمة عبرانية أو سريانية، كانوا يَتَسابون بها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَلْوُونَ﴾ مضارع لوى الثلاثي، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، وأبو حاتم عن نافع شذوذًا: ﴿يَلْوُونَ﴾ بالتشديد، مضارع لوّي مشددًا، ونسبها الزمخشري إلى أهل المدينة، والتضعيف للمبالغة والتكثير، لا للتعدية، وقرأ حميد شاذًّا: (يلوُن) بضم اللام، ونسبها الزمخشري إلى أنَّها رواية عن مجاهد وابن كثير، ووجهت على أنَّ الأصل يلوون، ثمَّ أبدلت الواو همزة، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبله، وحذفت هي.
وقرأ الجمهور: ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ والمخاطب المسلمون وقرىء شاذًا: ﴿ليحسبوه﴾ بالياء وهو يعود على المسلمين أيضًا، كما هم المراد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسب المسلمون أنَّ المحرف من التوراة.
ولمَّا بيَّن الله سبحانه وتعالى فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب، ونسبتهم إليه ما لم يقله.. أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله وسلامه علهيم أجمعين فقال:
(١) البحر المحيط.
386
٧٩ - ﴿مَا كاَنَ لشًرٍ﴾، أي: لا ينبغي ولا يليق لأحد من البشر، ولا لأحد من الأنبياء، كعيسى وموسى ومحمد عليهم السلام ﴿أَن يُؤتِيَهُ اللهُ﴾؛ أي: لا يعطيه الله ﴿الْكِتَابِ﴾؛ أي: التوراة أو الإنجيل أو القرآن ﴿وَالْحُكْمَ﴾؛ أي: الفهم لذلك الكتاب ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾؛ أي: الرسالة ﴿ثُمَ يَقُولَ﴾ ذلك البشر المشرف بالصفات الثلاثة ﴿لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا﴾ كائنين ﴿لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين لله، أشراكًا أو أفرادًا والنفي في مثل هذه الصيغة ﴿مَا كاَنَ﴾ إنَّما يؤتى به للنفي العام الذي لا يجوز عقلًا ثبوته، والغرض أنَّه لا يصح أصلًا، ولا يتصور عقلًا صدور دعوى الألوهية من نبي قط، أعطاه الله النبوة والشريعة، فضلًا على أنْ يحصل ذلك بالفعل؛ لأنَّ الرسول سفير بين الله وخلقه، ليرشد الناس على عبادة الله، فكيف يدعوهم إلى عبادة نفسه؟!
والمعنى: أي لا ينبغي لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه ويعلمه فقه دينه، ومعرفة أسراره، ويعطيه النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله؛ لأنَّ من أتاه الله ذلك؛ فإنِّما يدعوهم إلى العلم به، ويحثهم على شرائع دينه، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته، ومعلمي الناس الكتاب.
ومعنى قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين ما يجب من إفراده؛ فإنَّ العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده، ولم تشبها شائبة، من التوجه إلى غيره ما قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤)﴾ ومن دعا إلى عبادة نفسه.. فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله، وإنْ لم ينههم عن عبادة الله، بل وإنْ أمرهم بعبادة الله، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء.
وقال - ﷺ -: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري.. تركته وشركه" وفي رواية "فأنا منه بريء، هو للذي عمله" رواه مسلم وغيره.
وقال - ﷺ -:"وإذا جمع الله الناس يوم القيامة.. نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدًا.. فيطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإنَّ الله أغنى الشركاء عن
387
الشرك" رواه أحمد.
وقرأ الجمهور ﴿ثُمَّ يَقُولَ﴾ بالنصب عطفًا على ﴿أَن يُؤتِيَهُ﴾ وقرأ شبل عن ابن كثير ومحبوب، عن أبي عمرو: بالرفع على القطع؛ أي: ثم هو يقول، وقرأ الجمهور عبادًا لي بتسكين ياء المتكلم، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها ﴿وَلَكِنْ﴾ يقول ذلك البشر المشرف بالكتاب والحكم والنبوة للناس ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾، أي: علماء عالمين ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾؛ أي: بسبب كونكم معلمين الناس الكتاب ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾، أي: وبسبب كونكم دارسين قارئين الكتاب؛ فإنَّ فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير، للاعتقاد والعمل به فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيًّا، فمن اشتغل بالعلم والتعليم لا لهذا المقصود.. ضاع علمه، وخاب سعيه، وقال ابن عباس معنى: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾؛ أي: حكماء علماء حلماء.
والمعنى: لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادًا لي، ولكن أدعوكم إلى أنْ تكونوا علماء فقهاء، مطيعين لله بتعليمكم الناس الكتاب، ودراستكم إياه.
قرأ عبد الله وابن كثير وأبو عمرو ونافع (١): ﴿تعلمون﴾ بفتح التاء وسكون العين والباقون ﴿تُعَلِّمُونَ﴾ بضم التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة، وقرأ مجاهد والحسن شذوذًا ﴿تَعَلِّمُونَ﴾ بفتح التاء والعين واللام المشددة، وهو مضارع حذفت منه التاء والأصل: (تتعلمون).
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَدْرُسُونَ﴾ من درس، من باب نصر، وقرأ أبو حيوة شاذًا (تدرِسون) بكسر الراء وروى عنه ﴿تَدْرُسُونَ﴾ بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة؛ أي: تدرسون غيركم العلم، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية، وقرىء: (تدرسون) من أدرس بمعنى درس، نحو: أكرم وكرم، وأنزل ونزل، ويحتمل أنْ تكون القراءة المشهورة بهذا المعنى على تقدير: وبما كنتم تدرسونه على الناس.
(١) البحر المحيط ومراح.
(٢) البحر المحيط.
388
وخلاصة المعنى: ولكن يأمرهم هذا البشر، والنبي الذي أوتي الكتاب والحكم والنبوة، بأنْ يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة، وإنَّما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك، وهي تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب، وتعليمه، والعمل به، يكون الإنسان ربانيًّا مرضيًّا عند الله، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علمًا صحيحًا، ومن ثمَّ استغنى بذكره عن التصريح بالعمل، فالعلم بسبب للعمل، فقبيح على العالم تركه العمل، وأقبح منه أن يرشد الناس ويهديهم مع كونه هو غير مهتد في نفسه، فمثل العالم الذي يعلم الناس - وهو غير عامل - كشمعة موقودة تضيء للناس وتحرق نفسها، وفي هذا المعنى قال بعضهم:
أَتَنْهَى النَّاسَ وَلاَ تَنْتَهِي مَتَى تُلْحَقُ الْقَوْمَ يَا أَكْوَعُ
فَيَا حَجَرَ السَّنِّ حَتَّى مَتَى تَسُنُّ الْحَدِيْدَ وَلاَ تَقْطَعُ
وكفى به (١) دليلًا على خيبة سعي من جهد نفسه، وكد روحه في جمع العلم، ثمَّ لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنقه بمنظرها، ولا تنفعه بثمرها.
٨٠ - ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ قرأ (٢) عاصم وحمزة وابن عامر ويعقوب وخلف العاشر ﴿يأمركم﴾ بفتح الراء عطفًا على يقول، والفاعل ضمير يعود على البشر، و ﴿لا﴾ مزيدة لتأكيد معنى النفي؛ أي: ما كان لبشر أن يجعله الله نبيًّا، ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا، وقرأ الباقون برفع الراء على سبيل الاستئناف، كما يدل على ذلك ما روي شاذًا عن ابن مسعود أنه قرأ؛ ﴿ولن يأمركم﴾ والفاعل حينئذٍ ضمير يعود على الله، كما قاله الزجَّاج، أو على محمَّد، كما قاله ابن جريج، أو إلى عيسى، أو إلى كل نبي من الأنبياء، كما قيل بكل؛ أي: ولا يأمركم محمَّد يا معشر قريش، أو موسى يا معشر اليهود، أو عيسى يا معشر النصارى مثلًا، بأنْ تتخذوا الملائكة والنبيين
(١) النسفي.
(٢) المراح.
389
أربابًا، كما اتخذت الصابئة وقريش الملائكة، واليهود عزيرًا، والنصارى المسيح ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾؛ أي: كيف يأمركم ذلك البشر أو الله بالكفر ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: لا يأمركم، بل يأمركم بالإِسلام، والهمزة فيه للاستفهام التعجبي؛ لأنه خطاب للمؤمنين على طريق التعجب من حال غيرهم.
وإنَّما خص (١) الملائكة والنبيين بالذكر؛ لأنَّ الذين وصفوا بعبادة غير الله عَزَّ وَجَلَّ من أهل الكتاب، لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة، وعبادة المسيح، وعزير، فلهذا المعنى خصهم بالذكر.
والمعنى: أيأمركم بعبادة الملائكة، والسجود للأنبياء بعد توحيدكم لله، والإخلاص له إذ لو فعل ذلك لكفر، ونزعت منه النبوة والإيمان، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس باللهِ، فإنَّ الله لا يؤتي وحيه إلا نفوسًا طاهرة، وأرواحًا طيبة، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله.
وأُثِرَ عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك؛ لأنَّ العالم ينفِّر الناس عن العلم بتهتكه، والجاهل يرغب الناس في الجهل بتنسكه، وقال رسول الله - ﷺ -: "نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع".
الإعراب
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾.
﴿وَمِنْ﴾ الواو استئنافية ﴿من أهل الكتاب﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم من اسم موصول، أو: نكرة موصوفة، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿تأْمَنْهُ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على المخاطب. ﴿بِقِنْطَارٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تأمن﴾
(١) الخازن.
390
والباء فيه بمعنى على، ﴿يُؤَدِّهِ﴾ فعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تؤده﴾، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، أو في محل الرفع صفة لـ (مَنْ}، إن قلنا إنَّها نكرة موصوفة تقديره: ومن أهل الكتاب شخص مؤد أمانته إنْ تأمنه على قنطار.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ الواو عاطفة، ﴿منهم﴾: خبر مقدم، ﴿مَنْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿تَأْمَنْهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب ﴿بِدِينَارٍ﴾: متعلق بـ ﴿تَأْمَنَهُ﴾ ﴿يُؤَدِّهِ﴾ ﴿لَا﴾: نافية ﴿يُؤَدِّهِ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية. صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، أو صفة لها ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ من الظرف العام، إذ التقدير: لا يؤده إليك في جميع المدد والأزمنة إلا في مدة دوامك قائمًا عليه، ﴿مَا﴾: مصدرية ظرفية ﴿دُمْتَ﴾: فعل ناقص، واسمه ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿قَائِمًا﴾، و ﴿قَائِمًا﴾: خبر دام، وجملة دام من اسمها وخبرها صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باضافة الظرف المقدر إليه تقديره: إلا مدة دوامك قائمًا عليه.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: الباء حرف جر، أنَّ: حرف نصب ومصدر والهاء اسمها، وجملة ﴿قَالُوا﴾ خبرها، وجملة أنَّ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء، المتعلقة بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك الاستحلال مستحق بقولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ مقول محكى لـ ﴿قَالُوا﴾ وإنْ شئت قلت ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماضٍ ناقص، ﴿عَلَيْنَا﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم على اسمها ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار. والمجرور قبله، أو
391
صفة لسبيل، قدمت عليه فصارت حالًا، وذهب قوم إلى عمل ليس في الحال، فيجوز على هذا أنْ يتعلق بها، ذكره أبو البقاء، ﴿سَبِيلٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر عن خبرها، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ الواو استئنافية ﴿يقولونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يقولون﴾: لأنَّه بمعنى يفترون ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول به، ﴿وَهُمْ﴾: الواو حالية ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: خبره، ومفعول العلم محذوف تقديره: أنَّه كاذبون، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَقُولُونَ﴾.
﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)﴾.
﴿بَلَى﴾ حرف جواب يجاب بها النفي فيصير إثباتًا، داخلة على جملة محذوفة تقديرها: بلى عليهم سبيل في الأميين ﴿مَنْ﴾: موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أو شرطية في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله ﴿أَوْفَى﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾: الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ ﴿بِعَهْدِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَوْفَى﴾، ﴿وَاتَّقَى﴾: معطوف على ﴿أَوْفَى﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: الفاء رابطة لجوابـ ﴿من﴾ الشرطية، أو رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها ﴿يُحِبُّ اَلمُتقِينَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة (إنَّ): في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة مقررة للجملة المحذوفة بعد ﴿بَلَى﴾. وفي "الفتوحات" والربط من الجملة الجزائية أو الخبرية هو العموم في ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول، ذلك هنا، وقيل: الجزاء أو الخبر محذوف تقديره: يحبه الله، ودل على هذ المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
392
الْمُتَّقِينَ}. اهـ "سمين".
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾.
﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها ﴿يَشْتَرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَشْتَرُونَ﴾، ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾: معطوف على ﴿عهد الله﴾ ومضاف إلى الضمير ﴿ثَمَنًا﴾ مفعول به ﴿قَلِيلًا﴾: صفة له، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ﴿لَا﴾: نافية، ﴿خَلَاقَ﴾: اسمها ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾ ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾: متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾: نافية، ﴿يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع، معطوف على جملة قوله: ﴿لَا خَلَاقَ﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الواو عاطفة (لا): نافية ﴿يَنظُرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿إِلَيْهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَنظُرُ﴾ ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَنظُرُ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا خَلَاقَ﴾ على كونها خبر المبتدأ، وكذلك جملة قوله: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ معطوفة على جملة ﴿لَا خَلَاقَ﴾ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الواو عاطفة ﴿لهم﴾ جار ومجرور خبز مقدم ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة له والجملة الإسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ على كونها خبر المبتدأ.
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾.
393
﴿وَإِنَّ﴾ الواو استئنافية ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿لأنَّ﴾ على اسمها، ﴿لَفَرِيقًا﴾: اللام لام الابتداء ﴿فَرِيقًا﴾ اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر ﴿يَلْوُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿أَلْسِنَتَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿بِالْكِتَابِ﴾: متعلق بمحذوف حال من الألسنة تقديره: ملتبسة بالكتاب، أو ناطقة بالكتاب، وجملة ﴿يَلْوُونَ﴾: في محل النصب صفة ﴿لَفَرِيقًا﴾ وجمع الضمير نظرًا إلى المعنى؛ لأنَّه اسم جمع كالرهط والقوم، وجملة ﴿إنّ﴾: من اسمها وخبرها مستأنفة ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾: اللام حرف جر وتعليل، (تحسبوا): فعل مضارع منصوب بأنْ مضمرة جوازًا بعد لام كي، والواو فاعل، والهاء مفعول أول ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: متعلق بـ (تحسبوه) وهو في موضع المفعول الثاني، والجملة الفعلية صلة أنْ المضمرة، أنْ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لحسبانهم إياه ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَلْوُونَ﴾ ﴿وَمَا هُوَ﴾: الواو حالية ﴿ما﴾ نافية هُوَ: مبتدأ ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من الهاء في ﴿تحسبوه﴾.
﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ الواو عاطفة ﴿يقولون﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿يَلْوُونَ﴾ ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿هُوَ﴾: مبتدأ ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول ﴿وَمَا هُوَ﴾: الواو حالية، ﴿ما﴾: نافية ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في الخبر، أعني قوله: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾. ﴿وَيَقُولُونَ﴾: الواو عاطفة ﴿يقولون﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَلْوُونَ﴾ أيضًا ﴿عَلَى اَللهَ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْكَذِبَ﴾ أو متعلق بـ ﴿يقولون﴾؛ لأنَّه بمعنى يفترون، ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول لـ (يقولون) ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل (يقولون) كما مر نظيره.
394
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾.
﴿مَا﴾: نافية ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ ناقص ﴿لِبَشَرٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ﴾: حرف ناصب، وفعل ومفعول أول وفاعل ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثانٍ ﴿وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ معطوفان على ﴿الْكِتَابَ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية ﴿أَنْ﴾، مع صلتها في تاويل مصدر مرفوع على كونه اسمًا لكان تقديره: ما كان إيتاء الله بشرًا الكتاب والحكم والنبوة، ثم قوله للناس كونوا عبادًا لي لائقًا لبشر، وممكنًا منه. وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة.
﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿يَقُولَ﴾: معطوف على ﴿يؤتي﴾ منصوب بأنْ المصدرية، وفاعلة ضمير يعود على ﴿بشر﴾ ﴿لِلنَّاسِ﴾ جار ومجرور متعلقان لـ ﴿يقول﴾ ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ مقول محكي وإنْ شئت قلت: ﴿كُونُوا﴾ فعل أمر ناقص واسمه ﴿عِبَادًا﴾: خبره ﴿لِي﴾: صفة لـ ﴿عِبَادًا﴾ وجملة ﴿كوُنُوا﴾: في محل النصب مقول ليقول ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضماف إليه متعلق (١) بمحذوف حال من الواو في ﴿كوُنُوا﴾ تقديره: كونوا عبادًا لي حال كونكم متجاوزين الله، إشراكًا أو إفرادًا.
﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾.
﴿وَلَكِنْ﴾ الواو اعتراضية ﴿لكن﴾: حرف استدراك ﴿كوُنُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾: خبر ﴿كُونُوا﴾ وجملة ﴿كُونُوا﴾: في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ولكن يقول كونوا ربانيين، والجملة جملة استدراكية معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾: الباء حرف جر (ما) مصدرية، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول ثانٍ، والأول محذوف تقديره: غيركم، وجملة ﴿تُعَلِّمُونَ﴾ خبر (كان)، وجملة (كان) صلة (ما) المصدرية (ما): مع صلتها في تأويل مصدر
(١) الصاوي.
395
مجرور بالياء تقديره: بسبب كونكم معلمين غيركم الكتاب، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿كُونُوا﴾ أو بـ ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾ ﴿وَبِمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الباء﴾ حرف جر، ﴿ما﴾ مصدرية، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿تَدْرُسُونَ﴾: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف تقديره: الكتاب، وجملة ﴿تَدْرُسُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾: صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾: مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: وبسبب كونكم دارسين الكتاب، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبه.
﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)﴾.
﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾: زائدة زيدت لتأكيد معنى النفي في قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ ﴿يَأْمُرَكُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَقُولَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿بشر﴾ ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول منصوب بأنْ ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾: معطوف على ﴿الْمَلَائِكَةَ﴾ ﴿أَرْبَابًا﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿تَتَّخِذُوا﴾، وجملة ﴿تَتَّخِذُوا﴾: صلة أنْ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿يأمركم﴾ تقديره: ولا يأمركم اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا، وجملة ﴿يأمركم﴾: في تأويل مصدر معطوف على مصدر ﴿يَقُولَ﴾ والتقدير؛ ما كان إيتاء الله البشر الكتاب والحكم والنبوة، ثم قوله للناس: كونوا عبادًا لي من دون الله، وأمره الناس باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا لائقًا به ﴿أَيَأْمُرُكُمْ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري ﴿يأمركم﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿البشر﴾، أو على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿بِالْكُفْرِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة، أي: لا يأمركم بالكفر ﴿بَعْدَ﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يَأْمُرَكُمْ﴾ أو ﴿باَلْكُفْرِ﴾ ﴿بَعْدَ﴾: مضاف، ﴿إذْ﴾ مضاف إليه، ولا يضاف ﴿إذْ﴾ إلا إلى ظرف زمان، و ﴿إذْ﴾: مضاف وجملة ﴿أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مضاف إليه؛ أي: لا يأمركم بالكفر بعد إسلامكم، ولا قبله، سواء كان الآمر الله، أم الذي استنبأه الله والله أعلم.
396
التصريف ومفردات اللغة
﴿بِدِينَارٍ﴾ والدينار أصله دننار بنونين، فاستثقل توالى مثلين، فأبدلوا أولهما حرف علة تخفيفًا لكثرة دورانه على ألسنتهم، ويدل على ذلك رده إلى النونين تكسيرًا وتصغيرًا في قولهم؛ دنانير ودنينير، ومثله قيراط، أصله قراط، بدليل قولهم: قراريط وقريريط، والدينار معرب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصلًا وهو أربعة وعشرون قيراطًا، كل قيراط، ثلاث شعيرات معتدلة، فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة.
﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ ﴿دُمْتَ﴾ بضم الدال، من دام يدوم، من باب قال يقول، قال الفراء: هذه لغة الحجاز وتميم، تقول: دمت بكسر الدال، قال: ويجتمعون في المضارع يقولون: يدوم، وأصل هذه المادة الدلالة على الثبوت والسكون، يقال: دام الماء إذا سكن وفي الحديث "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم"؛ أي: الذي لا يجري ﴿قَائِمًا﴾ والمراد بالقيام هنا الملازمة؛ لأنَّ الأغلب أنَّ المطالب يقوم على رأس المطالب، ثمَّ جعل عبارة عن الملازمة، وإنْ لم يكن ثَمَّ قيام.
﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ جمع أمي، وأصل الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب، والمراد بهم العرب؛ لأنَّهم كانوا كذلك ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ يقال: لوى الحبل والتوى إذا فتله، ثم استعمل في الإزاغة في الحجج والخصومات، ومنه ليان الغريم، وهو دفعه ومطله، ومنه خصم ألوى؛ أي: شديد الخصومة، شبهت المعاني بالأجرام، والمراد أنَّهم يفتلون ألسنتهم ليميلوها عن الآيات المنزلة إلى العبارات المحرفة.
﴿أَلْسِنَتَهُمْ﴾ جمع لسان، واللسان الجارحة المعروفة، قال أبو عمرو: اللسان يذكَّر ويؤنث، فمن ذكَّر جمعه على ألسنة، ومن أنَّث جمعه على ألسن، كذراع وأذرع، وكراع وأكرع وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرًا. انتهى. ويعبر باللسان عن الكلام، وهو أيضًا يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك.
﴿رَبَّانِيِّينَ﴾ جمع رباني، والرباني إما منسوب إلى الرب، والألف والنون فيه
397
زائدتان في النسب دلالة على المبالغة، كما قالوا: رقباني وشعراني ولحياني، للغليظ الرقبة، والكثير الشعر، والطويل اللحية، ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب، أمَّا إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا: رقبي وشعري ولحوي، هذا معنى كلام سيبويه، وإمَّا منسوب إلى الربان، والربان هو المعلم للخير، ومن يسوس الناس ويعرفهم أمر دينهم، فالألف والنون دالان على زيادة الوصف، كهي في عطشان وريان وجوعان، وتكون النسبة على هذا للمبالغة في الوصف كما قالوا: أحمري، في أحمر، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه.
واختلف في معناه فقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلوم وكبارها، وقيل: هو العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل هو العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، وقيل: هو الذي جمع بين علم البصيرة، والعلم بسياسة الناس.
ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما قال محمَّد ابن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة، وقيل: الربانيون هم ولاة الأمر والعلماء، وهما الفريقان اللذان يطاعان، ومعنى الآية على هذا التأويل: لا أدعوكم إلى أنْ تكونوا عبادًا لي، ولكن أدعوكم إلى أنْ تكونوا ملوكًا، وعلماء، ومعلمين الناس الخير، ومواظبين على طاعة الله وعبادته، وقال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست عربية، وإنَّما هي عبرانية أو سريانية، وسواء كانت عربية أو عبرانية، فهي تدل على الذي علم وعمل بما علم، وعلَّم الناس طريق الخير ﴿تَدْرُسُونَ﴾ يقال: درس الكتاب يدرسه أدمن قراءته وكرره، ودرس المنزل، إذا عفا، وطلل دارس عاف.
البلاغة
وذكروا في هذه الآيات أنواعًا من البلاغة (١):
منها: الطباق في قوله: ﴿بِقِنْطَارٍ﴾ و ﴿بِدِينَارٍ﴾: إذا أريد بهما معنى القليل والكثير وفي قوله: ﴿يُؤَدِّهِ﴾ و ﴿لَا يُؤَدِّهِ﴾؛ لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع، وهما ضدان، وفي قوله: ﴿بِالْكُفْرِ﴾ و ﴿مُسْلِمُونَ﴾.
(١) البحر المحيط.
398
ومنها: الإشارة بالبعيد في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ إيذانًا بكمال غلوهم في الشر والفساد.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾؛ أي: ليس علينا في أكل أموال الأميين سبيل.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾؛ فقد استعار لفظ الشراء للاستبدال.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿اتقى﴾ و ﴿الْمُتَّقِينَ﴾.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾؛ لأنَّ الأصل: فإنَّ الله يحبهم اعتناء بشأن المتقين، وإشارة إلى عمومه لكل تَقي.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ و ﴿أَيَأْمُرُكُمْ﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وفي قوله: ﴿يَوْمَ اَلقِيامَةِ﴾ اختصه بالذكر لأنَّه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يُؤَدَهِ﴾ و ﴿لا يؤده﴾ وفي اسم: ﴿اللَّهِ﴾ في مواضع، وفي: ﴿الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿بِقِنْطَارٍ﴾ وقوله: ﴿بِدِينَارٍ﴾؛ لأنَّ القنطار كناية عن المال الكثير، والدينار كناية عن المال القليل كما مر.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا﴾ أكدت الجملة بإنَّ، واللام إشارة إلى أنَّ ذلك محقق منهم.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾؛ لأنَّه مجاز عن شدة غضبه وسخطه تعالى عليهم، وكذلك في الآتي بعدها: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ قال الزمخشري: مجاز عن الاستهانة بهم، والسخط عليهم؛ لأنَّ من اعتد بإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
399
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنَّه تعالى لما حكى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالم، وكان مما ذكر أخيرًا اشتراءهم بآيات الله ثمنًا قليلًا، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة، وإنَّ منهم مَنْ بَدل في كتابه، وغير وصف رسول الله - ﷺ - المذكور في كتبهم حتى لا يؤمنوا به، ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره، بل تفرد تعالى بالعبادة.. أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوته ودينه، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم، بالإيمان برسول الله - ﷺ -، والتصديق له، وبأن يكونوا من أتباعه
(١) البحر المحيط.
400
وأنصاره إنْ أدركوا زمنه، وذكر إقرارهم بذلك، وشهادتهم على أنفسهم، وشهادته تعالى عليهم بذلك، وهذا العهد مذكور في كتبهم، وشاهد بذلك أنبياؤهم، فإذا كان الأنبياء قد أخذ عليهم العهد: أنْ يؤمنوا به ويبشروا بمبعثه.. فكيف يصح من أتباعهم التكذيب برسالته - ﷺ -، ثم ذكر تعالى أن الإيمان بجميع الرسل شرط لصحة الإيمان، وبيَّن أنَّ الإِسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله دينًا سواه، فالغرض من هذه الآيات: إثبات نبوة محمد - ﷺ -، بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعًا لعذرهم، وإظهارًا لعنادهم، ودحضًا لمزاعمهم، وإزالةً لشبهات من أنكر منهم بعثة نبي من العرب.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ...﴾ قيل سبب نزولها: أنَّ (١) أهل الكتاب اختلفوا، فادعى كل فريق منهم أنَّه على دين إبراهيم عليه السلام، فاختصموا إلى النبي - ﷺ -، فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا: لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ﴾.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سبب نزولها (٢): ما رواه النسائي وابن جرير وابن حبَّان والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما كان رجلٌ من الأنصار أسلم ثم ارتدَّ ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله - ﷺ -: هل لي من توبة؟ قال: فنزلت ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الحديث رجاله رجال الصحيح.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)﴾ سبب نزولها (٣): ما رواه ابن كثير في تفسيره، عن
(١) الخازن.
(٢) لباب النقول.
(٣) المسند الصحيح.
401
عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ قومًا أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم؟ فذكروا ذلك لرسول الله - ﷺ -، فنزلت هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ هكذا رواه، وإسناده جيد.
التفسير وأوجه القراءة
٨١ - ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ قرأ جمهور السبعة: ﴿لَمَا﴾ بفتح اللام وتخفيف الميم، وعلى هذه القراءة يُقرأ: ﴿أتيناكم﴾ بنون العظمة، وهي قراءة نافع وجعفر، ويُقرأ ﴿أتيتكم﴾ بالإفراد، وهو الموافق لما قبله وما بعده؛ لأنَّه تقدم قبله ﴿إذ أخذ الله﴾ وجاء بعده: ﴿إصْرِي﴾؛ وهي قراءة الباقين من العشرة، وعلى هذه القراءة، أعني قراءة الجمهور بفتح اللام وتخفيف الميم، فاللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، و ﴿ما﴾ شرطية منصوبة على المفعولية بالفعل المذكور بعدها، ﴿وأتيتكم﴾: فعل شرط لها، وقوله: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ معطوف على فعل الشرط وقوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾: جواب القسم ودال على جواب الشرط.
والمعنى على هذه القراءة: واذكر يا محمَّد لأهل الكتاب قصة إذ جعل الله سبحانه وتعالى العهد المؤكد باليمين على جميع النبيين المرسلين في عالم الذرة، أوفى كتبهم بقوله لمهما أعطيتكم به من كتاب منزل، أو حكمة وعلم نافع ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ من عندي، وهو محمَّد - ﷺ - ﴿مُصَدِّقٌ﴾؛ أي: موافق وصفه ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾؛ أي: لوصفه المذكور في الكتاب الذي معكم من التوراة والإنجيل ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾؛ أي: لتصدقن أنتم وأممكم برسالته ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ على أعدائه، قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث الله محمدًا وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته.
وقيل: إنَّ ﴿ما﴾ موصولة مبتدأ، وصلتها ﴿آتَيْتُكُمْ﴾، والعائد محذوف تقديره أتيتكموه، و ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ معطوف على الصلة، فهو صلة العائد منه قيل: مقدر؛ أي: جاءكم به، وقيل: الربط حاصل بإعادة الموصول بمعناه في
402
قول ما معكم.
وقوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ جواب قسم مقدر، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر المبتدأ الذي هو ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ والهاء في ﴿بِهِ﴾ تعود على المبتدأ، ولا تعود على ﴿رَسُولٌ﴾ لئلا يلزم خلو الجملة الواقعة خبرًا من رابط يربطها بالمبتدأ، وقيل: إنَّ ﴿لَمَا﴾ مخفف لما، والتقدير: حين آتيتكم، ويأتي توجيه قراءة التشديد.
وقرأ حمزة: بكسر اللام مع تخفيف الميم في ﴿لما﴾ وعلى هذه القراءة يقرأ ﴿آتيتكم﴾ بالتاء فقط، فاللام في هذه القراءة للتعليل، متعلقة بـ ﴿أَخَذَ﴾ و ﴿ما﴾ موصولة و ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ صلته والعائد محذوف، و ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ معطوف على الصلة، والرابط لها بالموصول إمَّا ضمير محذوف، وإمَّا هذا الظاهر الذي هو بمعنى الموصول، أعني قوله: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾ كما مر آنفًا.
والمعنى على هذه القراءة: واذكر يا محمَّد لأهل الكتاب، قصة إذ أخذ الله ميثاق النبيين لرعاية الذي آتيتكم من الكتاب والحكمة. الخ، ففي هذه القراءة تقدير مضاف بعد لام التعليل.
وأجاز الزمخشري (١) في قراءة حمزة أنْ تكون (ما) مصدرية، وقال: معنى الكلام حينئذٍ لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لِمَا معكم لتؤمنن به، قالوا: فهو مخالف لظاهر الآية؛ لأنَّ ظاهر الآية يقتضى أنْ تكون تعليلًا لأخْذِ الميثاق، لا لمتعلقه، وهو الإيمان، فاللام متعلقة بـ ﴿أَخَذْ﴾، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلق بقوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم، لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقال النسفي: والمعنى على كونها مصدريّة: أي أخذ الله ميثاقكم لتؤمنن بالرسول، ولتنصرنه، لأجل أنِّي آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي آمركم بالايمان به ونصرته، موافق لكم غير مخالف. انتهى.
(١) البحر المحيط.
403
وقرأ سعيد بن جبير والحسن شذوذًا: ﴿لمَّا﴾ بتشديد الميم، على أنَّها ظرف بمعنى حين، متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُنَّ﴾، والمعنى: اذكر يا محمد لأهل الكتاب، قصة إذ جعل الله العهد المؤكد باليمين علي النبيين في عالم الأرواح بقوله: حين أعطيتكم الكتاب والحكمة في عالم الأشباح، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، لتؤمنن به ولتنصرنه.
وقرأ أبي وعبد الله شذوذًا: ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب﴾ بدل النبيين، وكذا هو في مصحفيهما، وقرأ عبد الله شذوذًا: ﴿رسول مصدقًا﴾ بالنصب على الحال من النكرة المتقدمة، وهو جائز، وإن كان قليلًا، وقد ذكروا أن سيبويه قاسه، ويحسن هذه القراءة أنَّه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى؛ لأن المعني: به محمَّد - ﷺ - على قول الجمهور.
والمقصود من الآية (١): أنَّ الله تعالى، أخذ الميثاق من النبيين خاصة، قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده: أنْ يصدق بعضهم بعضًا، وأخذ العهد على كل نبي: أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه، وإنْ لم يدركه: أن يأمر قومه بنصرته إنْ أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد - ﷺ -، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاووس.
وقيل: إنَّما أخذ الله الميثاق من النبيين في أمر محمَّد - ﷺ - بأن يبين بعضهم لبعض صفة محمَّد وفضله، وهو قول علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي، وقال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيًّا، آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد - ﷺ -، وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه.
وقيل: إن المراد من الآية أنَّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق على أممهم، بأنَّه إذا بعث محمد - ﷺ - يؤمنون به وينصرونه، وهذا قول كثير من المفسرين، والمراد من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ هو محمَّد - ﷺ -، والمراد بكونه مصدقًا لما معهم: أن صفاته ونعوته وأحواله مذكورة في
(١) المراح.
404
التوراة والإنجيل، فلمَّا ظهر على نعوت وأحوال مطابقة لما كان مذكورًا في تلك الكتب.. كان نفس مجيئه تصديقًا لما كان معهم.
وصفوة القول: إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمَّد - ﷺ -، والتصديق بشريعته، بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى عليه السلام، أنَّه إذا جاء نبي بعده، وصدق بما معه، يؤمن به، وينصره.
وإيمانكم بموسى أو عيسى عليه السلام يقتضي التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.
﴿قَالَ﴾ الله سبحانه وتعالى للنبيين ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ بتحقيق الهمزتين، مع إدخال ألف بينهما وتركه، وبتسهيل الثانية مع إدخال ألف بينهما، وبين الأولى المحققة وتركه، وبإبدال الثانية ألفًا ممدودة، فالقراءات خمسٌ كما في "الخطيب"؛ أي: هل اعترفتم بالإيمان به والنصرة له ﴿وَأَخَذْتُم﴾؛ أي: قبلتم ﴿عَلَى ذَلِكُمْ﴾ المذكور من الإيمان به والنصر له ﴿إِصْرِي﴾؛ أي: عهدي، وسمي العهد إصرًا؛ لأنَّه مما يؤصر؛ أي: يشد ويعقد والإصر في الأصل الحمل الثقيل، وقرىء شاذًا بضم الهمزة (أُصري) وهي مروية عن أبي بكر، عن عاصم شذوذًا، ويحتمل أن يكون لغة فيه، ويحتمل أن يكون جمعًا لأصار، كإزار وأزر ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال النبيون جوابًا للرب جل جلاله ﴿أَقْرَرْنَا﴾؛ أي: اعترفنا بذلك العهد وقبلناه، ﴿قَالَ﴾ الله تعالى للنبيين ﴿فَاشْهَدُوا﴾؛ أي: على أنفسكم وعلى أتباعكم؛ أي: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، وقبول العهد ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾؛ أي: وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضًا، من الشاهدين معكم، لا يعزب عن علمي شيء.
وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده، على طريق التمثيل، وليست الآية نصًّا في أنَّ هذه المحاورة وقعت، وهذه الأقوال قيلت، وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.
٨٢ - ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾؛ أي: فمن أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ونصرته
بعد قبول الميثاق والعهد ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المعرضون ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: الخارجون عن طاعة الله وميثاقه.
وخلاصة المعنى: فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه، ولم ينصره.. فأولئك الجاحدون هم الفاسقون، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد - ﷺ - خارجون عن ميثاق الله، ناقضون لعهده، وليسوا من الدين الحق في شيء.
وبعد أنْ بين الله سبحانه وتعالى أنَّ دين الله واحد، وأنَّ رسله متفقون فيه، ذكر حال منكري نبوة محمد - ﷺ - فقال:
٨٣ - ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري، والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض، وهي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، والتقدير: أيتولون ويعرضون عن الحق بعد ما تبين لهم، ويطلبون غير دين الله وهو، الإِسلام، والإخلاص له في العبادة في السر والعلن ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: والحال أنَّه قد خضع له تعالى، وإنقاذ لحكمه أهل السموات والأرض حالة كونهم ﴿طَوْعًا﴾؛ أي؛ طائعين راضين، يعني: الملائكة والمسلمين ﴿و﴾ حالة كونهم ﴿كرهًا﴾؛ أي: كارهين، يعني الكفار في حالة البأس، ورؤية العذاب.
فالطَّوْع (١): الانقياد والاتباع بسهولة، والكره: ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس، واختلفوا في معنى قوله: ﴿طوعًا أو كرهًا﴾، فقيل: أسلم أهل السموات طوعًا، وأسلم بعض أهل الأرض طوعًا، وبعضهم كرهًا من خوف القتل والنبي، وقيل: أسلم المؤمن طوعًا، وانقاد الكفار كرهًا، وقيل: هذا في يوم أخذ الميثاق حين قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بلى﴾ فمن سبقت له السعادة.. قال ذلك طوعًا، ومن سبقت له الشقاوة. قال ذلك كرهًا، وقيل: أسلم المؤمن
(١) الخازن.
406
طوعًا، فنفعه إسلامه يوم القيامة، والكافر يسلم كرهًا عند الموت في وقت اليأس، فلم ينفعه ذلك في القيامة، وقيل: أنَّه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على الله في مراده، فأمَّا المسلم فينقاد لله، فينفذ أمره أو نهاه طوعًا، وأمَّا الكافر فينقاد لله كرهًا في جميع ما يقضى عليه، ولا يمكنه دفع قضائه وقدره عنه.
وحاصل معنى الآية (١): أنَّ هذا الميثاق لمَّا كان مذكورًا في كتبهم، وهم كانوا عارفين بذلك، فقد كانوا عالمين بذكر محمد - ﷺ - في النبوة، فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد، فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله أنَّهم متى كانوا كذلك.. كانوا طالبين دينًا غير دين الله، ومعبودًا سوى الله تعالى، ثمَّ بين أنَّ الإعراض عن حكم الله تعالى مما لا يليق بالعقلاء، فقال: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: لجلال الله تعالى لا لغيره انقاد في طرفي وجوده وعدمه؛ لأنَّ كل ما سوى الله تعالى ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاده، ولا يعدم إلا بإعدامه، سواء كان عقلًا، أو نفسًا، أو روحًا، أو جسمًا، أو جوهرًا، أو عرضًا، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعًا فيما يتعلق بالدين، وينقادون له كرهًا فيما يخالف طباعهم، من الفقر، والمرض، والموت، وما أشبه ذلك، أمَّا الكافرون.. فهم مناقدون لله تعالى كرهًا على كل حال؛ لأنَّهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين، ويخضعون له تعالى في غير ذلك كرهًا؛ لأنَّه لا يمكنهم دفع قضائه تعالى، وقدره أيضًا، كل الخلق منقادون لإلهيته تعالى ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ومنقادون لتكاليفه، وإيجاده للآلام كرهًا.
﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى لا إلى غيره ﴿يُرْجَعُونَ﴾؛ أي: يرجع الخلائق كلهم للمجازاة يوم القيامة، ففيه وعيد شديد لمن خالفه في الدنيا؛ أي: أيبتغون غير
(١) المراح.
407
دين الله، مع أن مرجعهم إليه تعالى.
وقرأ أبو عمرو وحفص وعياش ويعقوب وسهل (١): ﴿يبغون﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ الباقون ﴿تبغون﴾ بالتاء على الخطاب، فالياء على نسق ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرأ الأعمش شاذًا: (كُرهًا): بضم الكاف والجمهور بفتحها.
وقرأ حفص وعياش ويعقوب وسهل ﴿يرجعون﴾ بالياء على الغيبة، فيحتمل أن يكون عائدًا على ﴿من أسلم﴾، ويحتمل أن يكون عائدًا على ضمير ﴿يَبْغُونَ﴾، فيكون على سبيل الالتفات على قراءة من قرأ: ﴿تبغون﴾ بالتاء، إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة، وقرأ الباقون بالتاء، فإن كان الضمير عائدًا على ﴿من أسلم﴾.. كان التفاتًا، أو على ضمير ﴿تبغون﴾ كان التفاتًا على قراءة من قرأ: ﴿يَبْغُونَ﴾ بالياء، إذ يكون قد انتقل من غيبة إلى خطاب.
ولمَّا ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة، أنَّه إنَّما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقًا لما معهم.. بين الله تعالى من صفة محمد - ﷺ -، كونه مصدقًا لما معهم فقال تعالى:
٨٤ - ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ وإنَّما وحد الضمير في قوله: ﴿قُلْ﴾ وجمع في قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ إشعارًا بأنَّه لا يبلغ هذا التكليف من الله تعالى إلى الخلق إلا هو، فلذلك وحد الفعل في قوله: ﴿قُلْ﴾ وتنبيهًا على أنه وافقه حين قال هذا القول أصحابه فلذا حسنًا الجمع في قوله: ﴿آمَنَّا﴾.
ومعنى الآية: قل يا محمد ﴿ءَآمَنَّا﴾؛ أي: صدقت أنا ومن معي ﴿بِاللَّهِ﴾؛ أي: بوجود الله ووحدانيته، وتصرفه في الأكوان كلها، وأنَّه ربنا وإلهنا، لا إله لنا غيره، ولا رب سواه، والمراد؛ آمنا بالله وحده، لا كما آمن أهل الكتاب به على وجه التثليث؛ وإنَّما قدم الإيمان بالله على غيره لأنَّه الأصل ﴿و﴾ قل يا محمد
(١) البحر المحيط.
408
أيضًا صدقنا بـ ﴿ما أنزل علينا﴾ من وحيه وتنزيله؛ وإنَّما قدم ذكر القرآن لأنَّه أشرف الكتب المنزلة؛ لأنَّ المعيار عليه؛ ولأنَّه لم يحرف ولم يبدل، وغيره حرف وبدل؛ أي: آمنا بالقرآن المنزل عليه - ﷺ - أولًا، وعلى أمته بتبليغه إليهم.
وإنَّما عدي الإنزال هنا بعلى، وفي البقرة بإلى؛ لأنَّه يصح تعديته بكل منهما، فله جهة علو باعتبار إبتدائه، وجهة انتهاء باعبتار آخره، وهو باعتبار ابتدائه متعلق بالنبي، وباعتبار انتهائه متعلق بالمكلفين، ولمَّا خص الخطاب هنا بالنبي.. ناسب الاستعلاء، ولما عمم هناك جميع المؤمنين.. ناسبه الانتهاء ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾؛ أي: وقيل يا محمد أيضًا: صدقنا بأنَّ الله أنزل على هؤلاء وحيًا لهداية أقوامهم، وأنَّه موافق في أصوله لما أنزل علينا؛ أي: آمنا بما أنزل على هؤلاء من الصحف والوحى، والأسباط هم بطون بني إسرائيل، المتشعبة من أولاد يعقوب، وإنَّما خص هؤلاء بالذكر؛ لأنَّ أهل الكتاب يعترفون بفضلهم وبنبوتهم، ولم يختلفوا فيهم ﴿و﴾ صدقنا بـ ﴿ما أوتي﴾ وأعطي ﴿مُوسَى وَعِيسَى﴾ من التوراة والإنجيل، وسائر المعجزات الظاهرة على أيديهم، كما ينبىء عنه إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب، وإنَّما أفرد هذين النبيين بالذكر؛ لأنَّ الكلام مع اليهود والنصارى، ثم جمع جميع الأنبياء فقال: ﴿وَالنَّبِيُّونَ﴾؛ أي: وما أعطى النبيون ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ كداود، وسليمان، وأيوب، وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ تعالى بالتصديق والتكذيب، فنصدق بالبعض، ونكفر بالبعض، كما فعل اليهود والنصارى، بل نؤمن بالكل.
فما مثل الأنبياء إلا كمثل الأمراء الأمناء الصادقين، يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشؤون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض القوانين السابقة، بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم، من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدينة وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها، وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم.
409
﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: منقادون له بالطاعة، مخلصون له في العبادة، مقرون بالألوهية والربوبية، لا نشرك به أحدًا أبدًا، ولا نبتغي بذلك إلا التقرب إليه، لإصلاح نفوسنا، وتزكية أرواحنا وتطهيرها من أدران الذنوب والخطايا.
وقد افتتحت الآية بالإيمان واختتمت بالإِسلام والخضوع، وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبي.
٨٥ - ثم أخبر تعالى: بأنَّ كل دين غير الإِسلام باطل ومرفوض فقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾؛ أي: ومن يطلب دينًا غير التوحيد والانقياد لحكم الله ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾؛ أي من سلك شريعة غير شريعة الإِسلام بعد بعثة محمد - ﷺ -، وتدين بها، لن يقبل الله منه؛ يعني: إنَّ الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وإن كل دين سواه غير مقبول عنده؛ لأنَّ الدين الصحيح ما يأمر الله به، ويرضى عن فاعله، ويثيبه عليه ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: ذلك المبتغي ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾؛ أي: من الواقعين في الخسران، كما قال النبي - ﷺ - في الحديث الصحيح: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا.. فهو رد". والمعنى: أنَّ المعرض عن الإسلام، والطالب لغيره، فاقد للنفع، واقع في الخسران، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، محروم من الثواب، واقع في العقاب، متأسف على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح، وعلى ما تحمله من التعب في الدنيا، في تقرير الدين الباطل.
فائدة: قوله: ﴿يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ﴾ العامة (١) على إظهار هذين المثلين؛ لأنَّ بينهما فاصلًا، فلم يلتقيا في الحقيقة، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجازم، وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان: الإظهار على الأصل ولمراعاة الفاصل الأصلي، والإدغام لمراعاة اللفظ، إذ يصدق أنَّهما التقيا في الجملة؛ لأن ذلك الفاصل مستحق الحذف لعامل الجزم، وليس هذا مخصوصًا بهذه الآية، بل كلما التقى فيه مثلان بسبب حذف حرف العلة اقتضت ذلك، يجرى فيه الوجهان،
(١) الجمل.
نحو ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾، وإن يأت كاذبًا، وقد استشكل على هذا نحو ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ﴾ ﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾، فأنَّه لم يرد من أبي عمرو خلاف في إدغامهما، وكان القياس يقتضى جواز الوجهين؛ لأنَّ ياء المتكلم فاصلة تقديرًا. اهـ "سمين".
ولفظ ﴿دِينًا﴾ إما مفعول و ﴿غَيْرَ الْإِسْلَامِ﴾ حال منه مقدم عليه، أو تمييز، أو بدل من غير، كما سيأتي ذلك في مباحث الإعراب.
٨٦ - ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ نزلت (١) في إثني عشر رجلًا ارتدوا عن الإِسلام، وخرجوا من المدينة، وأتوا مكة كفارًا، منهم الحارث بن سويد الأنصاري، وطعمة بن أبيرق، وحجوج بن الأسلت، كما أخرجه عن عكرمة ابن عساكر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في اليهود والنصارى، وذلك أنَّ اليهود كانوا قبل مبعث النبي - ﷺ - يستفتحون به على الكفار، ويقرون به ويقولون: قد أظل زمان نبي مبعوث، فلما بعث محمد - ﷺ -.. كفروا به بغيًا وحسدًا.
والاستفهام هنا (٢) للإنكار، ويجوز أن يكون للتعجب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان، أو للاستبعاد والتوبيخ؛ فإنَّ الجاحد عن الحق بعد ما وضح له.. منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد، فليس للإنكار، حتى يستدل به على عدم توبة المرتد، وإنْ كان إنكارًا فالاستشهاد يمنعه.
ومعنى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ﴾ كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان ﴿قَوْمًا كَفَرُوا﴾؛ أي: جحدوا نبوة محمد - ﷺ - ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾؛ أي: تصديقهم إياه بالقلب، وإذعانهم به، وبما جاء به من عند ربه ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾؛ أي: وبعد أنْ شهدوا وأقروا بلسانهم أنَّ محمدًا رسول الله إلى خلقه، وأنَّه حق وصدق ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾؛ أي: والحال أنَّه قد جاءهم الحجج والبراهين، والمعجزات
(١) الخازن.
(٢) الجمل.
الدالة على صحة نبوته، وصدقه - ﷺ -؛ أي: لا يوفق القوم الكافرين الأصليين والمرتدين طريق الهدى والرشاد، لما سبق في علمه تعالى أنَّهم ظالمون، وقيل: لا يهديهم في الآخرة إلى الجنة والثواب، فإنْ قلت (١): كيف قال الذي أول الآية: ﴿كَيْفَ يَهْدِي﴾ وفي آخر الآية: ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وهذا تكرار؟
قلتُ: ليس فيه تكرار؛ لأن قوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا﴾ إنَّما هو مختص بأولئك المرتدين عن الإسلام، ثمَّ إنَّه تعالى عمم ذلك الحكم في آخر الآية فقال: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ يعني جميع الكفار، المرتدين عن الإسلام والكافر الأصلي، وإنَّما سمى الكافر ظالمًا لأنَّه وضع العبادة في غير موضعها.
٨٧ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين كفروا بعد إيمانهم ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ على كفرهم ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ﴾ أي: سخطه وغضبه، وإبعاده لهم عن رحمته ﴿و﴾ أنَّ عليهم لعنة ﴿الملائكة والناس أجمعين﴾؛ أي: يستحقون غضب الله وسخطه، وسخط الملائكة والناس كلهم، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم؛ لأنَّها مجلبة للَّعن بطبعها لكل من عرفها.
وهذا يدل (٢) بمنطوقه على جواز لعنهم، وبمفهومه ينفي جواز لعن غيره، ولعل الفرق أنَّهم مطبوعون على الكفر، ممنوعون عن الهدى، آيسون عن الرحمة رأسًا، بخلاف غيرهم، والمراد بالناس المؤمنون، أو العموم؛ فإنَّ الكافر أيضًا يلعن منكر الحق، والمرتد عنه، ولكن لا يعرف الحق بعينه حالة كونهم
٨٨ - ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقدرين الخلود في اللعنة أو العقوبة، أو النار، وإنْ لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾، أي: لا ينقصون من العذاب شيئًا ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾؛ أي: ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها؛ لأنَّ سببه ماران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد، وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا، ثمَّ استثنى سبحانه وتعالى فقال:
٨٩ - ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ ورجعوا
(١) الخازن.
(٢) البيضاوي.
412
من الكفر إلى الإيمان ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من بعد ارتدادهم وكفرهم، وذلك أن الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك، فأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله - ﷺ - هل لي من توبة؟ ففعلوا، فأنزل الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ الآية. فبعث إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبًا، وقبل رسول الله - ﷺ - توبته، وحسن إسلامه ﴿وَأَصْلَحُوا﴾؛ أي: عملوا الأعمال الصالحة، وقيل: معناه وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لقبائحهم في الدنيا بالستر لها ﴿رَحِيمٌ﴾ في الآخرة بالعفو عنها، وقيل: غفور بإزالة العذاب، رحيم بإعطاء الثواب، وفي هذا الاستثناء وما بعده إشارة إلى أنَّ الكفار تنقسم ثلاثة أقسام:
قسم: تاب توبة صادقة فنفعته، وإليهم الإشارة بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾.
وقسم: تاب توبة فاسدة فلم تنفعه، وإليهم الإشارة بقوله: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾.
وقسم: لم يتب أصلًا ومات على الكفر، وإليهم الإشارة بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾.
وخلاصة المعنى: أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم، وتابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر، الذي دنسوا به أنفسهم، نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذي الإيمان، وتمحو من صفحة القلب ما كان قدْ ران عليها، من ذميم الأخلاق والصفات. وفي هذا إيماء إلى أنَّ التوبة التي لا أثر لها في العمل، لا يعتد بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم، والاستغفار، والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أنْ يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات؛ لأنَّ التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم، ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شؤونهم، وتقويم المعوج من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك.. نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول
413
جنته، والفوز برحمته.
٩٠ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بعيسى والإنجيل ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِم﴾ بموسى والتوراة، وهم اليهود ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمد - ﷺ - والقرآن ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ إذا غرغروا أو ماتوا كفارًا، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى جميعًا، وذلك أنَّهم آمنوا بمحمد - ﷺ - قبل مبعثه، وشهدوا أنَّه حق لما رأوا في كتبهم من نعته ووصفه، ثم كفروا به بعد بعثته، ثم ازدادوا كفرًا بالإصرار والعناد، والصد عن سبيل الله، وبالحرب، فهؤلاء لا تقبل توبتهم ما أقاموا على ذلك؛ لأنَّ نفوسهم قد توغل فيها الشرك، وتمكن فيها الكفر، وأحاطت بها خطيئتها، وضلت على علم، وقرأ عكرمة شاذًا: ﴿لن نقبل﴾: بالنون ﴿توبتَهم﴾: بالنصب.
﴿وَأُولَئِكَ﴾ الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا ﴿هُمُ الضَّالُّونَ﴾؛ أي: المتناهون في الضلال، الذين ضلوا عن سبيل الحق، وأخطأوا منهاجه.
وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض، تصيبه بعض الأوساخ، فيبادر صاحبه إلى غسله، فينظف، ويزَولُ أثر ذلك الدنس، ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة، حتى تخللت جميع خيوطه وتمكنت منها.. تعذر تنظيفه، وإعادته إلى حاله الأولى، وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة.
وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨)﴾.
٩١ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ باللهِ وبمحمد - ﷺ - ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ بهما ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ﴾؛ أي: مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها ﴿ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى﴾ نفسه ﴿بِهِ﴾؛ أي: بذلك الملء، قال الزجاج: إن الواو للعطف والتقدير: لو تقرب إلى الله في الدنيا بملء الأرض ذهبًا.. لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهبًا.. لم يقبل منه، أو المراد بالواو التعميم في الأحوال، كأنَّه قيل: لن يقبل من الكفار الفداء في جميع
414
الأحوال، ولو في حال افتدائه نفسه في الآخرة، وقيل: هي زائدة، كما قرئ شاذًا بإسقاطها، ومفعول افتدى محذوف؛ أي: ولو افتدى نفسه. وقرأ عكرمة شاذًا ﴿فلنْ نقبل﴾: بالنون، و ﴿وملء﴾: بالنصب، وقرىء شاذًا: ﴿فلن يَقبل﴾ بالياء مبنيًّا للفاعل؛ أي: فلن يقبل الله و ﴿ملء﴾ بالنصب، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال شذوذًا: ﴿مل الأرض﴾ بدون همز، ورويت عن نافع، ووجهه أنَّه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل - وهو اللام - وحذفت الهمزة، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا، وقرأ الأعمش شذوذًا أيضًا: ﴿ذهبٌ﴾: بالرفع، وحمل على أنَّه بدل من (ملء)، وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا أيضًا: ﴿لو افتدى به﴾: بدون واو.
فإن قلت (١): الكافر لا يملك شيئًا في الآخرة فما وجه قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾؟.
قلتُ: الكلام ورد على سبيل الفرض والتقدير، والمعنى: لو أنَّ للكافر قدر ملء الأرض ذهبًا يوم القيامة.. لبذله في تخليص نفسه من العذاب، ولكن لا يقدر على شيء من ذلك.
وقيل معناه: لو أنَّ الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهبًا، ثم مات على كفره.. لم ينفعه ذلك؛ لأنَّ الطاعة مع الكفر غير مقبولة؛ لأنَّ الكفر يحبط أعماله، ويمحو كل حسناته، فمن لم تزك نفسه في الدنيا، وتسمُ عما يكدرها من ظلمات الكفر، وأوضار الشرك.. فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإنْ جَلَّ، ولا فضيلة وإن عظمت، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرحيم.
﴿أُولَئِكَ﴾ الكفار الذين ماتوا على الكفر ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾؛ أي: مانعين يدفعون عذاب الله
(١) الخازن.
415
عنهم، أو يخففونه عنهم، كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم، أو إيقاع المكروه بهم. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - ﷺ - قال: "يقول الله - عزّ وجلّ -: لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة، لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت تفتدى به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم، أنْ لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا الشرك". متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم.
الإعراب
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: أذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿أَخَذَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لي ﴿إذ﴾ ﴿لَمَا﴾ اللام: حرف زائد لتوطئة معنى القسم الآتي ﴿ما﴾: شرطية في محل النصب على كونه مفعولًا ثانيًا لآتي ﴿آتَيْتُكُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول أول في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لاسم الشرط، أو حال منه ﴿وَحِكْمَةٍ﴾: معطوف على ﴿كِتَابٍ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم معطوف على ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ ﴿مُصَدِّقٌ﴾ صفة لي ﴿رَسُولٌ﴾. ﴿لِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُصَدِّقٌ﴾، ﴿مَعَكُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة ﴿لِمَا﴾. أو صفة لها ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ اللام موطئة للقسم ﴿تؤمنن﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، لعدم مباشرة نون التوكيد، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل
416
الجزم جواب لما الشرطية، وجملة الشرط مع جوابه في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بقوله: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾. ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، اللام: موطئة للقسم ﴿تنصرن﴾: فعل مضارع مرفوع لتوالي الأمثال لعدم مباشرة نون التوكيد، والواو المحذوفة فاعل، والهاء مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، كما أشرنا إليها في مقام التفسير، لا نطيل الكلام بذكرها؛ لأنَّها تحتاج إلى أوراق كثيرة، تكون رسالة نفردها بالتأليف إنْ شاء الله تعالى.
﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة مستأنفة ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾: إلى ﴿قَالُوا﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإنْ شئت قلت الهمزة: للاستفهام التقريري ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿وَأَخَذْتُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أخذتم﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَى ذَلِكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أخذتم﴾ ﴿إِصْرِي﴾: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿أَقْرَرْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾ فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿فَاشْهَدُوا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ الفاء عاطفة (١) على محذوف تقديره: قال: أأقررتم فاشهدوا، فالفاء دخلت للعطف، ونظير ذلك قولك: ألقيت زيدًا؟ قال: لقيت، قلت فأحسن إليه، التقدير: لقيت زيدًا فأحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء، ذكره أبو حيان ﴿أشهدوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب، معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾. {وَأَنَا
(١) البحر المحيط.
417
مَعَكُمْ} ﴿الواو﴾: استئنافية أو حالية ﴿أنا﴾: مبتدأ. ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿الشَّاهِدِينَ﴾، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾: جار ومجرور، خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿اشهدوا﴾ ولكنها سببية.
﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢)﴾.
﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكر من إقراركم، وشهادتكم، وشهادتي معكم، وأردتم بيان حكم من تولى بعد ذلك.. فأقول لكم. (مَنْ): اسم شرط جازم، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو جملة الجواب فقط، أو هما إن كانت شرطية، أو جملة (أولئك) إنْ كانت موصولة، ﴿تَوَلَّى﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ (من) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَوَلَّى﴾ أو الجملة الفعلية صلة من الموصولة إنْ قلنا: ﴿من﴾: موصولة ﴿فَأُولَئِكَ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة اسمية، أو رابطة الخبر بالمبتدأ، لما في المبتدأ من العموم إنْ كانت موصولة، (أولئك): مبتدأ ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل ﴿الْفَاسِقُونَ﴾: خبر، والجملة الإسمية في محل الجزم على كونها جوابًا لـ ﴿من﴾ الشرطية، أو خبر لـ ﴿من﴾ الموصولة، والجملة الشرطية، أو الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)﴾.
﴿أَفَغَيْرَ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخله على محذوف تقديره: أيتولون.. فيبتغون غير دين الله، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿غير﴾ مفعول مقدم لـ ﴿يَبْغُونَ﴾ وهو مضاف ﴿دِينِ﴾: مضاف إليه وهو مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه، ﴿يَبْغُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة جملة إنشائية مستأنفة،
418
﴿وَلَهُ﴾: الواو حالية ﴿له﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَسْلَمَ﴾ ﴿أَسْلَمَ﴾: فعل ماضٍ. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَنْ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من لفظ الجلالة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ حالان من فاعل ﴿أَسْلَمَ﴾ تقديره: حالة كونهم طائعين وكارهين ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية، (إليه): جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُرْجَعُونَ﴾ ﴿يُرْجَعُونَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ على كونها حالًا من الجلالة، أو مستأنفة.
﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾. إلى قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لقل. ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل الجر، معطوفة على لفظ الجلالة، ﴿أُنزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير النائب، ﴿عَلَيْنَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنُزِلَ﴾، ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾ معطوف على ﴿ما أنزل علينا﴾ ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾ ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾: معطوفات على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾.
﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: معطوف على لفظ الجلالة، ﴿أُوتِيَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ﴿مُوسَى﴾: نائب فاعل، وهو المفعول الأول لأوتي، والثاني محذوف تقديره: أوتيه موسى، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف ﴿وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ﴾: معطوفان على ﴿مُوسَى﴾، {مِن
419
رَبِّهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من ضمير المفعول المحذوف ﴿لَا﴾: نافية، ﴿نُفَرِّقُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على النبي ومن معه، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿آمَنَّا﴾ تقديره: آمنا بما أوتي النبيون حالة كوننا لا نفرق ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾ ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿نُفَرِّقُ﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿أَحَدٍ﴾. ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿نحن﴾ مبتدأ، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُسْلِمُونَ﴾: وهو خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ على كونها حالًا من فاعل ﴿آمَنَّا﴾ تقديره: آمنا بالله حالة كوننا منقادين له.
﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو الجواب فقط، أو هما معًا، ﴿يَبْتَغِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾؛ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿غَيْرَ الْإِسْلَامِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿دِينًا﴾: تمييز، ويجوز أن يكون ﴿دِينًا﴾: مفعولًا، و ﴿غَيْرَ﴾ صفة له، قدمت عليه فصارت حالًا، ويجوز أن يكون ﴿دِينًا﴾ بدل من ﴿غَيْرَ﴾ ﴿فَلَن﴾ الفاء: رابطة لجواب (من) الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ (لن)، (لن): حرف نصب ﴿يُقْبَلَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ (لن)، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿غَيْرَ الْإِسْلَامِ﴾. ﴿مِنْهُ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة، ﴿هو﴾ مبتدأ، ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بـ ﴿الْخَاسِرِينَ﴾ الآتي، على أن الألف واللام ليست موصولة، بل للتعريف، كهي في الرجل، أو على أنها موصولة، وتُسُومِح في الظرف والمجرور؛ لأنَّه يشمع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿من﴾ الشرطية.
420
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)﴾.
﴿كَيْفَ﴾: اسم للاستفهام الإنكاري لتعميم الأحوال، في محل النصب حال، أو ظرف والعامل فيها ﴿يَهْدِى﴾ ﴿يَهْدِي الله قَوْمًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾ ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة (شهدوا): فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَنَّ﴾ مضمرة وجوبًا بعد الواو العاطفة على المصدر الصريح، والجملة الفعلية صلة أنْ المضمرة، أنْ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على قوله: ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ تقديره: كفروا بعد إيمانهم، وبعد شهادتهم أنَّ الرسول حق، ويجوز أن تكون جملة (شهدوا) حالًا من ضمير ﴿كَفَرُوا﴾ وأنْ تكون معطوفة على ﴿كَفَرُوا﴾ كما ذكره أبو البقاء، ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب، ﴿الرَّسُولَ﴾: اسمها، ﴿حَقٌّ﴾: خبرها، وجملة ﴿أَنَّ﴾: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿شهدوا﴾ تقديره: وشهدوا حقية الرسول ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الواو حالية، ﴿جاءهم البينات﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾، ولكنه على تقدير، قد، تقديره: كيف يهدي الله قومًا كفروا وقد جاءهم البينات؟ ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الله﴾ مبتدأ، ﴿لَا﴾: نافية ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول به ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة له.
﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول، ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾: مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه، ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لأنَّ. ﴿لَعْنَةَ اللَّهِ﴾: اسم ﴿أَنَّ﴾ مؤخر عن خبرها، ولفظ الجلالة مضاف إليه ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ﴾ معطوفان على لفظ الجلالة ﴿أَجْمَعِينَ﴾ توكيد للناس، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في
421
تأويل مصدر خبر للمبتدأ الثاني تقديره: جزاؤهم كون لعنة الله عليهم، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من ضمير ﴿عَلَيْهِمْ﴾ والعامل فيها الجار والمجرور، أو ما يتعلق به ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ فعل ونائب فاعل، و ﴿لَا﴾ نافية عنهم، متعلق بـ ﴿يُخَفَّفُ﴾، والجملة في محل النصب حال ثانية من ضمير ﴿عَنْهُمُ﴾ ولكنها حال سببية ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة (لا): نافية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُنْظَرُونَ﴾ خبره، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿لَا يُخَفَّفُ﴾ على كونها حالًا من ضمير ﴿عَنْهُمُ﴾.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء متصل ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب على الاستثناء ﴿تَابُوا﴾، فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَابُوا﴾ ﴿وَأَصْلَحُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿تَابُوا﴾ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ الفاء: تعليلية لقولهم: إنَّ الفاء بعد الاستثناء للتعليل (إنَّ): حرف نصب ولفظ الجلالة اسمها ﴿غَفُور﴾: خبر أول لها، ﴿رحيم﴾ خبر ثانٍ، والجملة في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف تقديره؛ وإنَّما استثنيناهم لكون الله غفورًا رحيمًا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)﴾.
﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾: ظرف زمان، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا﴾ عطف وفعل وفاعل ﴿كُفْرًا﴾: مفعول به منصوب وفي "الفتوحات" قوله: ﴿كُفْرًا﴾: تمييز محول عن الفاعل، والأصل: ثم ازداد كفرهم، كذا أعربه أبو حيان، وفيه نظر، إذ المعنى على أنَّه مفعول به، وذلك أن الفعل المتعدي إلى اثنين، إذا جعل مطاوعًا.. نقص مفعولًا، وهذا من ذلك، كقولهم: زدت زيدًا خيرًا فازداده، وكذلك أصل الآية
422
الكريمة: زادهم الله كفرًا فازدادوه، ﴿لَنْ﴾: حرف نفي ونصب ﴿تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾، مستأنفة. ﴿وَأُولَئِكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أولئك﴾: مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الضَّالُّونَ﴾: خبر، والجملة الإسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿لَنْ تُقْبَلَ﴾: على كونها خبرًا لـ ﴿إنَّ﴾ أو معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ على كونها مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى﴾.
﴿إن﴾: حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول ﴿وَمَاتُوا﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من واو ﴿ماتوا﴾. ﴿فَلَنْ﴾ الفاء: رابطة لخبر ﴿إن﴾ باسمها لشبه الذين بالشرط في العموم، وإيذانًا بتسبب عدم القبول عن الموت على الكفر، الذي هو معطوف على الصلة، فهو من جملة المبتدأ، ولما لم يقع مثل هذا العطف في الآية التي قبلها.. لم يقترن خبر إنَّ بالفاء؛ لأنَّ الكفر في حد ذاته ليس سببًا في عدم قبول التوبة، بل السبب مجموعه، هو والموت عليه، كذا ذكره في "الفتوحات" ﴿لن﴾: حرف نصب ﴿يُقْبَلَ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ﴿مِنْ أَحَدِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُقْبَلَ﴾. ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ نائب فاعل ومضاف إليه ﴿ذَهَبًا﴾ تمييز لـ ﴿مِلْءُ﴾ منصوب، والجملة من الفعل المغير ونائبه في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة ﴿وَلَوِ افتَدَى بِهِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة كما قاله الزجاج ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿افْتَدَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدِهِمْ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿افْتَدَى﴾، وجواب ﴿لو﴾ محذوف تقديره: لم يقبل منه، وجملة ﴿لو﴾ معطوفة على محذوف تقديره: لو تقرب إلى الله في الدنيا بملء الأرض ذهبًا.. لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهبًا.. لم يقبل منه. وقيل: الواو زائدة و (لو): غائبة لا جواب لها.
423
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ ثانٍ مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة، ﴿وَمَا لَهُم﴾: الواو عاطفة ﴿ما﴾: نافية ﴿لَهُم﴾ جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾: من: زائدة ﴿نَاصِرِينَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿أُولَئِكَ﴾. وفي "الفتوحات": يجوز أن يكون ﴿لَهُم﴾ خبرًا لاسم الإشارة، و ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل به، وعمل لاعتماده على ذي خبر، أي: أولئك استقر لهم عذاب، وأن يكون ﴿لَهُم﴾: خبرًا مقدمًا و ﴿عَذَابٌ﴾؛ مبتدأً مؤخرًا، والجملة خبر عن اسم الإشارة، والأول أحسن؛ لأنَّ الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد. اهـ. "سمين".
وفيها أيضًا قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يجوز أن يكون ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾: فاعلًا وجاز عمل الجار لاعتماده على حرف النفي؛ أي: وما استقر لهم من ناصرين، والثاني: أنَّه خبر مقدم، و ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِنْ﴾: زائدة على الإعرابين، وأتى بـ ﴿نَاصِرِينَ﴾ جمعًا لرعاية الفواصل.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ الميثاق: العهد الموثق المؤكد باليمين، وهو أنْ يلتزم المعاهِد - بكسر الهاء - للمعاهَد - بفتحا - أنْ يفعل شيئًا، ويؤكد ذلك بيمين، أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة، يجمع على مواثق، ومياثق، ومواثيق، ومياثيق، وأصله موثاق، قلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة؛ لأنه من وثق يثق.
﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ أصله؛ أقر، بالإدغام، وإنَّما فك هنا؛ لأنَّه إذ اتصل بالفعل المدغم عينه في لامه ضمير رفع سكن آخره. فيجب حينئذٍ الفك، نحو: حللت وحللنا، كما قال في الخلاصة:
424
وَفُكَّ حَيْثُ مُدْغَمٌ فِيْهِ سَكَنْ لِكَوْنِهِ بِمُضْمَرِ الرَّفْعِ اقْتَرَنْ
نَحْوِ حَلَلْتُ مَا حَلَلْتُهُ وَفِي جَزْمٍ وَشِبْهِ الْجَزْمِ تَخْيِيْرٌ قُفِيْ
وهو من قر الشيء إذا ثبت مكانه ﴿أخذتم﴾ بمعنى قبلتم؛ لأنَّه من أخذ الشيء إذا قبل، يأخذ من باب نصر ينصر، كما جاء نحوه في قوله تعالى: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ﴾.
﴿إِصْرِي﴾ الإصر - بكسر الهمزة -: العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه، وهمَّ، اسم من أصره إذا حبسه، من باب ضرب، وهو أيضًا الذنب والثقل كما في "المختار".
﴿طَوْعًا﴾ الطوع: مصدر لطاع لفلان يطوع طوعًا، من باب قال، إذا انقاد له وامتثل أمره.
﴿كرهًا﴾ الكره: مصدر كره الشيء يكره، من باب علم، كرهًا وكرهًا وكراهة وكراهية ضد أحبه، وفي "السمين" ﴿طَوْعًا﴾ ﴿وَكَرْهًا﴾ مصدران في موضع الحال، والتقدير: طائعين وكارهين.
﴿الأسباط﴾ جمع سبط، والمراد بهم الأحفاد، وهم أبناء يعقوب الاثني عشر وذراريهم، ولكن المراد بالأسباط هنا قبائل بني إسرائيل، المتشعبة من أولاد يعقوب.
﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ﴾ وهو مضارع ابتغى الشيء يبتغي ابتغاء، إذا طلبه، من باب التفعل، وبناؤه لمبالغة ثلاثيه يقال: بغى الشيء من باب رمى بغيًا وبغاء، وبغى وبغية وبغية إذا طلبه.
﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ اسم فاعل من الظلم، والظلم هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى الحق ﴿لَعْنَةَ اللَّهِ﴾ واللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط.
﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ الإنظار، الإمهال والتأخير.
425
﴿مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ والملء - بكسر الميم وسكون اللام - وهو ما يؤخذه الإناء إذا امتلأ، يقال: إنه ينام ملء جفنه، إذا نام خاليًا من الغم والهم، ويقال: فلان ملء كسائه؛ أي: سمين، ويجمع على أملأ.
البلاغة
وذكروا في هذه الايات أنواعًا من البلاغة والفصاحة:
فمنها: الالتفات في قوله: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾، ففيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، إذ قبله ميثاق النبيين، وهو لفظ غائب.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ لأن الظاهر في الجواب أن يقال: أقررنا وأخذنا إصرك، فلم يذكر الثاني اكتفاء بالأول.
ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظ: ﴿اشهدوا﴾ و ﴿الشَّاهِدِينَ﴾، وكذلك بين لفظ: ﴿كَفَرُوا﴾ و ﴿كُفْرًا﴾، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الطباق بين ﴿طَوْعًا﴾ ﴿وَكَرْهًا﴾ وبين لفظ الكفر والإيمان في قوله: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ في موضعين.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَهْدِي﴾ و ﴿لَا يَهْدِي﴾، وفي قوله: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿كَفَرُوا﴾ و ﴿كُفْرًا﴾.
ومنها: التأكيد بلفظ هم في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾.
ومنها: قصر صفة على موصوف في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ومثله قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ﴾.
426
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم، بالأجرام التي يزاد بعضها على بعض، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
ومنها: العدول من مفعل إلى فعيل؛ لإفادة المبالغة في قوله: و ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لما في فعيل من المبالغة.
ومنها: الحذف في مواضع إلى غير ذلك (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) إلى هنا انتهى المجلد الرابع من الشرح على الجزء الثالث من القرآن الكريم في تاريخ ٢٤/ ١٢/ ١٤٠٧ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
427
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الخامس»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٥]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعر
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا، ومولانا محمد خاتِم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ...﴾ مناسبةُ (١) هذه الآية لِما قبلها: هو أنه تعالى لما أخبر عمن مات كافرًا، أنه لا يقبل منه ما أنفق في
(١) البحر المحيط.
7
الدنيا أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة.. حض المؤمن على الصدقة، وبيَّن أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾. مناسبة هذه الآية لما قبلها، والجامع بينهما: أنه تعالى أخبر أنه لا ينال المرء البر إلا بالإنفاق مما يحب.
ونبيُّ الله إسرائيل، روي في الحديث أنه مرض مرضًا شديدًا؛ فطال سقمه؛ فنذر لله نذرًا إن عافاه الله من سقمه، أن يحرم، أو ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب العام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب ألبانها. ففعل ذلك تقربا إلى الله تعالى. فقد اتفقت هذه الآية، والتي قبلها في أنَّ كلًّا منهما في ترك ما يحبه الإنسان، وما يؤثره على سبيل التقرب به لله تعالى.
قوله تعالى ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وهو أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم، وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم، ومن خصوصيات دينه.. أخذ في ذكر البيت وفضائله، ليبني على ذلك ذكر الحج ووجوبه. وأيضًا، فإن اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة؛ طعنوا في نبوة رسول الله - ﷺ -، وقالوا: بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال؛ لأنه وضع قبل الكعبة، وهو أرض المحشر، وقبلة جميع الأنبياء، فأكذبهم الله في ذلك بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾، كما أكذبهم في دعواهم قبل: إنما حرم عليهم ما كان محرمًا على يعقوب من قبل أن تنزل التوارة. وأيضًا: فإن كل فرقة من اليود والنصارى، زعمت أنها على ملة إبراهيم، ومن شعائر ملته حج الكعبة، وهم لا يحجونها، فأكذبهم الله في دعواهم تلك.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ...﴾ سبب نزول هذه الآية (١): أن اليهود قالوا للنبيِّ محمد: - ﷺ - تزعم أنك على ملة إبراهيم،
(١) الخازن.
8
وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها، وأنت تأكل ذلك كلَّه، فلست على ملته. فقال النبي - ﷺ -: "كان ذلك حلالًا لإبراهيم". قالوا: كل ما نحرمه اليوم، كان ذلك حرامًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فأنزل الله عز وجل: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ وهو يعقوب ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ يعني: ليس الأمر على ما تدعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل، على إبراهيم، بل كان ذلك حلالًا على إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وإنما حرَّمه يعقوب بسببٍ من الأسباب، وبقيت تلك الحرمة في أولاده، فأنكر اليهود ذلك، فأمرهم رسول الله - ﷺ - بإحضار التوراة، وطلب منهم أن يستخرجوا منها: أنَّ ذلك كان حرامًا على إبراهيم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...﴾ سبب نزول هذه الآية: أنَّ اليهود قالوا للمسلمين، بيت المقدس، قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة، وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء وقبلتهم، وأرض المحشر، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل هذه الآية.
وقيل: لما ادَّعَتِ اليهود والنصارى أنهم على ملة إبراهيم أكذبهم الله تعالى، وأخبر أن إبراهيم كان ﴿حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وأمرهم باتباعه فقال تعالى في الآية المتقدمة: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيم الحج إلى الكعبة، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ...﴾ سبب نزولها: ما أخرجه سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت آية ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم رسولُ الله - ﷺ -: "إن الله فرض على المسلمين حج البيت"، فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا فأنزل الله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن إسحاق، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: مرَّ
9
شاس بن قيس اليهودي - وكان عظيم الكفر، شديد الطعن علي المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من الأنصار الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، وقد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهودي، فجلس إليهم، وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك في بعاث، وهو موضع في المدينة، وكان يوم بعاث يومًا اقتتل فيه الأوس والخزرج قبل مبعثه - ﷺ - بمئة وعشرين سنة، وكان الظفر فيه للأوس.
وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار، فتنازع القوم وتغاضبوا، وقالوا: السلاح السلاح، فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فوصل الخبر إلى النبي - ﷺ -؛ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: أترجعون إلى أحوال الجاهلية، وأنا بين أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام، وألف بين قلوبكم! فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان، ومن كيد ذلك اليهودي، فألقوا السلاح، وعانق بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله - ﷺ -.
فما كان يوم أقبح أولًا وأحسن آخرًا من ذلك اليوم.
قال الواحدي: اصطفوا للقتال، فنزلت الآية إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾: فجاء النبي - ﷺ - حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته، فلما سمعوا صوت النبي - ﷺ - أنصتوا له وجعلوا يستمعون له، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضًا، وجعلوا يبكون.
التفسير وأوجه القراءة
٩٢ - ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أي: لن تصيبوا، ولن تظفروا بثواب البر والخير وهو الجنة. والبر اسم جامع لكل خير، والكلام على حذف مضاف كما قدرنا، أو لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى الذي هو الرحمة والرضا، والجنة، أو لن تكونوا أبرارًا ﴿حَتَّى تنُفِقُوا﴾ وتصرفوا وتخرجوا ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ من أموالكم وجاهكم وعلمكم في معاونة الناس، وبدنكم في طاعة الله، ومهجتكم في سبيله؛ يعني من جيد أموالكم، وأنفسها عندكم، قال
10
تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾ وقيل: هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه، قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ﴾ وقال أبو بكر الوراق: معنى الآية: لن تنالوا بري لكم إلا ببركم بإخوانكم، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم، وقيل: المعنى لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارًا إلا بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم. قاله ابن عطية. ومن في قوله: ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله الشاذة: ﴿حتى تنفقوا بعض ما تحبون﴾ ﴿وَمَا﴾: موصولة. خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص، وحسن النية، ولكنكم أيها المدعون لتلك الدعاوي آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئًا من ماله، فإنما ينفق من أردأ ما يملك، وأبغضه إليه؛ لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره، تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب، فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين، وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟ والمعنى: لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته، برضاه عنهم، وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم، حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم. وقد أثر عن السلف الصالح: أنهم إذا أحبوا شيئًا.. جعلوه لله تعالى.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - ﷺ - يدخلها، ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قام أبو طلحة إلى رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله عَزَّ وَجَلَّ، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله - ﷺ -: "بخ بخ - كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء - ذاك مال رابح، أو قال: ذلك مال رابح، أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، متفق عليه، وفي رواية لمسلم:
11
فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية.. جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها: (سبل) لم يكن له مال أحب إليه منها، فقال: هي صدقة، فقبلها رسول الله - ﷺ - وحمل عليها ابنه أسامة فكأن زيدًا وَجِدَ - حزن - في نفسه، فلما رأى رسول الله - ﷺ - ذلك منه قال: "أما إن الله قد قبلها".
فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله - ﷺ - ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدًا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين، ليثبت قلوبهما، ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلًا ينفذ به إلى ما بين الجوخ (١) فيندمان إذا هما رأيا أموالهما في أيدى الغرباء، إذ كثيرًا ما يفارق المرء شيئًا محبوبًا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لم يلبث إلا قليلًا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثم كان النبي - ﷺ -: يأمر عمال الصدقة بإبقاء كرائم الأموال والبعد عنها حين جباية الصدقات.
وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضًا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: حضرتني هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ الآية، فذكرت ما أعطاني الله تعالى، فلم أجد أحب، إلي من مرجانة - جارية رومية - فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى.. لنكتحها فأنكحتها نافعًا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده).
فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له، ولا يفارقها، لولا أن كان مما عود نفسه عليه.. ألا يرجع في شيء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه. وعلى الجملة فآثار السلف في
(١) الجوخ: نسيج من الصوف يجمع على أجواخ.
12
الإيثار، وبذل المال ابتغاء مرضاة الله كثيرة.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله - ﷺ - رأس شاة، فقال: إن أخي فلانًا كان أحوج مني إليه؛ فبعث به إليه، فلما وصل إليه، قال: إنَّ فلانًا كان أحوج مني إليه، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات، ورجع إلى الأول. وفي هذه الآثر وأمثالها ما ينبغي أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيقتدي بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: وأي شيء تنفقونه في سبيل الله سواء كان من طيب تحبونه، أو من خبيث تكرهونه، وسواء، كان إنفاقكم له لوجه الله أو لمدح الناس ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِهِ﴾، أي: بذلك الشيء المنفق وبنياتكم ﴿عَلِيمٌ﴾ فيجازيكم عليه بحسبه، وبحسب نياتكم، وهذا تعليل للجواب المحذوف، أي: فيجازيكم بحسبه جيدًا كان أو رديئًا، فإنه تعالى عالم بكل شيءٍ، تنفقونه من ذاته وصفاته علمًا كاملًا بحيث لا يخفى عليه شيء.
فرب منفق مما يحب لا يسلم من الرياء، ورب فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه، ولكن قلبه يفيض بالبر ولو وجد ما أحبه.. لأنفقه أو أكثره.
وفي هذه الآية ترغيب وترهيب، وحث على إخفاء الصدقة، كي لا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين.
٩٣ - ﴿كُلُّ الطَّعَامِ﴾؛ أي: كل طعام حلال لمحمد - ﷺ - وأمته، فخرج ما حرم عليهم، وعلى من قبلهم كالميتة والدم. ﴿كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: كان حلالًا أكله لأولاد يعقوب عليه السلام ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾؛ أي: يعقوب عليه السلام ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ بالنذر ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾؛ على موسى، وذلك بعد إبراهيم بألف سنة.
وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - ﷺ - قال: "إنَّ يعقوب مرض مرضًا شديدًا، فنذر لئن عافاه الله.. ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها" قال، الأصمّ: لعل
13
نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع، فامتنع من أكلها قهرًا للنفس، وطلبًا لمرضاة الله تعالى، كما يفعله كثير من الزهاد، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم، وذلك بعد إبراهيم بألف سنة، ولم تكن الإبل حرامًا على عهد إبراهيم كما زعموا.
والمعنى: كل الأطعمة كانت حلالًا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه، وهو لحم الإبل ولبنها ثم حرمت عليهم أنواع من الأطعمة الشحوم وغيرها عقوبة لهم على معاصيهم، أو المراد (١) بإسرائيل: الشعب كله، كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فقط، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه: أنه اجترح من السيئات، وارتكب من الموبقات ما كان سببًا في هذا التحريم كما تدل عليه آية ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾.
وخلاصة هذا الجواب: أنَّ الأصل في الأطعمة الحلُّ، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبًا لهم على جرائم ومخالفات وقعت منهم، وكان سببًا فيما نالهم من التحريم لها، والنبي - ﷺ - وأمته لم يجترحوا هذه السيئات، فلا تحرم عليهم هذه الطيبات.
ومعنى قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ أنه قبل نزول التوراة كان حلًّا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات، أما بعد نزولها: فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد، هذا هو الحق لا زعمكم يا معشر اليهود ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ﴾؛ أي: أحضروها، ﴿فَاتْلُوهَا﴾؛ أي: فاقرؤوها عليَّ لتحكم بيني وبينكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم بأن التحريم قديم. وفي استدعاء (٢) التوراة منهم وتلاوتها، الحجة الواضحة على صدق رسول الله - ﷺ -؛ إذ كان عليه السلام
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
14
النبي الأمي الذي لم يقرأ الكتب، ولا عرف أخبار الأمم السالفة، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم، ولا يجدون من إنكاره محيصًا. وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها، بل بهتوا، وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم.
٩٤ - وفي الآية: دليل على جواز النسخ في الشرائع، وهم ينكرون ذلك ﴿فَمَنِ افْتَرَى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بزعمه أن ذلك كان محرمًا على الأنبياء السابقين كإبراهيم، ونوح، وعلى أممهم قبل نزول التوراة ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من بعد ما ظهرت الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، لا على عهد إبراهيم، أو من جهة ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا.
ومن بعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم، وأن الله لم يحرم شيئًا قبل نزولها، ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت لهم حقيقة الحال ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم، ولمن أضلوه عن الدين من بعدهم الذين لا ينصفون من أنفسهم، ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم؛ لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه، ووضعوا حكم الله في غير موضعه، فضلوا، وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل، وعدم تصديقهم رسول الله - ﷺ -.
٩٥ - ﴿قُل﴾ لهم يا محمد ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾ فيما أنبأني به من أن سائر الأطعمة كانت حلالًا لبني إسرائيل، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة، وبذلك قامت عليكم الحجة، وثبت أني مبلغ عنه إذ ما كان في استطاعتي، لولا الوحي أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم، والجمهور على إظهار في ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾ وهو الأصل، وقرأ أبان بن تغلب شذوذًا بإدغام اللام في الصاد. ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ التي هي ملة الإسلام التي أنا عليها حالة كون إبراهيم ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. ﴿وَمَا كَانَ﴾ إبراهيم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: من الذين أشركوا بالله غيره، وعبدوا سواه، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، وفعله اليهود من ادعائهم أن عزيرًا ابن الله، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله.
وخلاصة هذا: أنَّ محمدًا - ﷺ - على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام
وكلياتها، فأحل ما أحله هو من أكل لحوم الإبل وألبانها، ودعا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله، وما كان إبراهيم صلوات الله على نبينا وعليه إلا على هذا الدين.
٩٦ - ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ﴾؛ أي: بنى متعبدًا ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: بني لعبادات الناس ربهم سبحانه وتعالى ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾؛ أي: للبيت الذي هو ببكة؛ أي: بمكة، سميت مكة بكة؛ لأنه يبك بعضهم فيها بعضًا؛ أي: يزدحمون في الطواف. وسميت مكة؛ لأنها تمك من ظلم فيها؛ أي: تهلكه؛ والمعنى: إن أول بيت وضعه الله، وجعله موضعًا للطاعات، والعبادات، وقبلة للصلاة، وموضعًا للحج وللطواف، تزداد فيه الخيرات، وثواب الطاعات هو الذي بكة.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: "المسجد الحرام قلت: ثم أيُّ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركت الصلاة فصلِّ". متفق عليه، زاد البخاري: "فإن الفضل فيه"؛ أي: إنِّ آدم بنى الكعبة، ثم بنى بيت المقدس، وبين بنائهما أربعون سنة.
وهذه الآية (١) ردٌّ لشبهة اليهود، أنَّ بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها، وهو أرض المحشر. وقيل: المعنى: إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع متعبدًا للناس، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة، ثم بني المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون، بناه سليمان عليه السلام سنة (١٠٠٥) قبل الميلاد، فكان جعله قبلة أَوْلى. وبذا يكون النبي - ﷺ - على ملة إبراهيم، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليه وعليهما.
والخلاصة: أنَّ أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم،
(١) المراغي.
ويتبع هذا أولوية الشرف والتعظيم. ثم ذكر فضائل أربعة:
الأول منها ذكره بقوله: ﴿مُبَارَكًا﴾؛ أي: حالة كونه ذا بركة، وخير كثير؛ لأنه قد أفيض عليه من بركات الأرض، وثمرات كل شيء مع كونه بواد غير ذي زرع، كما قال تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فترى الأقوات والثمار في مكة كثيرة جيدة، وأقل ثمنًا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة، كمصر والشام، وكل هذا ببركة دعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ الآية.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "صلاة في مسجدي هذا، أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام". متفق عليه.
وذكر الثاني منها بقوله: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾؛ أي: وحالة كونه هدى؛ أي: قبلة لكل نبي، ورسول وصديق، ومؤمن يهتدون بذلك البيت إلى جهة صلاتهم، ويولون وجوههم شطره في صلاتهم، وربما لا تمضي ساعة من ليل أو نهار إلّا وهناك ناس يتوجهون إليه، ويأتون إليه مشاة وركبانًا من كل فج عميق، لأداء المناسك الدينية من الحج والعمرة، ولا شك أنَّ هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات. وكونه قبلة لكل نبي؛ لأن تكليف الصلاة كان لازمًا في دين جميع الأنبياء عليهم السلام بدليل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)﴾. فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام، كانوا يسجدون لله، والسجدة لا بد لها من قبلةٍ، فلو كانت قبلة شيث، وإدريس، ونوح، عليهم السلام موضعًا آخر سوى الكعبة.. لبطل قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ فوجب أن يقال: إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدّمين: هي الكعبة. فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدًا مشرفة مكرمة.
٩٧ - وذكر الثالث منها بقوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾؛ أي: وحالة كونه فيه؛ أي: في ذلك البيت آيات بينات؛ أي: دلائل وعلامات واضحات تدل على حرمته، ومزيد
17
فضله، وعظيم قدرته تعالى:
منها: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: الحجر الذي يقوم عليه إبراهيم عند بناء البيت، وكان فيه أثر قدمي إبراهيم، فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، وفيه دلالة على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم؛ لأن تأثير قدميه في الصخرة الصماء، وغوصهما فيها إلى الكعبين، وإلانة بعض الصخرة دون بعض، وإبقاءها ألوفًا من الأعوام معجزةٌ عظيمة، وسبب هذا الأثر أنه: لما ارتفع بنيان الكعبة.. قام على هذا الحجر، ليتمكن من رفع الحجارة، فغاصت فيه قدماه.
ومنها: انحراف الطيور عن موازاة البيت، فلا تعلوا فوقه بل إذا قابل هواه في الجو.. انحرف عنه يمينًا أو شمالًا، ولا يستطيع أن يقطع هواه إلا إذا حصل له مرض فيدخل هواه للتداوي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن الطير يعاين يعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره.
ومنها: مخالطة ضواري السباع، الصيود في الحرم من غير تعرض لها.
ومنها: إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه، وما قصده جبار بسوء إلا أهلكه، ومن الآيات التي فيها الحجر الأسود، والملتزم والحطيم، وزمزم، ومشاعر الحج التي فيها كالصفا والمروة.
ومنها: أنَّ الآمر ببناء هذا البيت هو المولى الجليل، والمهندس له جبريل عليه السلام، والباني هو إبراهيم الخليل عليه السلام، والمساعد في بنيانه هو إسماعيل عليه السلام، فهذه كلها فضيلة عظيمة لهذا البيت.
وقرأ الجمهور: ﴿وُضِعَ﴾ بالبناء للمفعول، وقرأ عكرمة، وابن السميقع شذوذًا ﴿وضع﴾ مبنيًّا للفاعل، فاحتمل أن يعود على الله، واحتمل أن يعود على إبراهيم، وهو أقرب في الذكر، وأليق بالمقام. وقرأ الجمهور: ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ على صيغة الجمع، وقرأ أبي، وعمر وابن عباس، ومجاهد، وأبو جعفر، في رواية قتيبة: ﴿آية بينة﴾ على الإفراد وهي قراءة شاذة أيضًا.
وذكر الرابع منها بقوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾؛ أي: ومن دخل البيت كان
18
آمنًا من ذنوبه. وعن ابن (١) عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -:"مَنْ دَخَل البَيْتَ.. دَخَل في حسنةٍ، وخَرَجَ من سيئة، وخرج مغفورًا له" ولكن تفرد به عبد الله بن المؤمل، وليس بالقوي.
وقيل: من دخل الحرم للنسك تقربًا إلى الله تعالى.. كان آمنًا من النار يوم القيامة، وإن الله أودع في قلوب الخلق الشفقة على كل من التجأ إليه. وعبارة أبي السعود: ومعنى أمن داخله: أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ وكان الرجل إذا أجرم كل جريمة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر - رضي الله عنه -: "لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب.. ما مسسته حتى يخرج منه". ولذلك قال أبو حنيفة - رحمه الله -: "من لزمه القتل في الحل بقصاصٍ أو ردةٍ أو زنا، فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى، ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يبايع، حتى يضطر إلى الخروج".
وقيل: المراد أمنه من النار، وعن النبي - ﷺ -: "من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمنًا". وعن النبي - ﷺ - "الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما، وينثران في الجنة"؛ وهما مقبرتا مكة والمدينة.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - وقف رسول الله - ﷺ - على ثنية الحجون، وليس بها يومئذٍ مقبرةٌ، فقال: "يبعث الله تعالى من هذه البقعة، ومن هذا الحرم سبعين ألفًا وجوههم كالقمر ليلة البدر".
وعن النبي - ﷺ -: "من صبر على حر مكة ساعة من نهار.. تباعدت عنه جهنم مسيرة مئتي عام" انتهت بالحرف، ولكن هذه الأحاديث أكثرها ضعاف.
وفتح مكة بالسيف؛ كان لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه للعبادة فقط، حلت للنبي - ﷺ - ساعةً من نهار، لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده، كما جاء في الحديث.
(١) ابن كثير.
19
على أنَّ حِلَّ مكة وما يتبعُها من أرباضها للنبي - ﷺ - ساعة من نار أمر زائد على أمن البيت، فإن النبي - ﷺ - لم يستحل البيت ساعة، وما دونها، بل كان مناديه ينادي: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق باب بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وقد أخبر أبو سفيان النبيَّ - ﷺ - بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال - ﷺ -: "كذب سعد، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة".
وما فعله الحجاج عن رمي البيت بالمنجنيق فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته، ويقع به في الظلم والإلحاد؛ إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حلَّ ما فعلوا.
﴿وللَّهِ﴾؛ واجب ﴿عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾؛ أي: قصد البيت للعبادة المخصوصة المعروفة ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾؛ أي: على من أطاق، وقدر إلى حج البيت سبيلًا؛ أي: طريقًا وبلاغًا إليه بوجود الراحلة، والزاد، والنفقة للعيال إلى الرجوع، لأنه - ﷺ -: فسَّره بالزاد والراحلة، رواه الحاكم وغيره. وكذا أمن الطريق. والحج أحد أركان الإسلام.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان". متفق عليه. فعد النبيُّ - ﷺ - الحج من أركان الإسلام الخمسة.
والمعنى: أنه يجب الحج على المستطيع من هذه الأمة، وفي هذا تعظيم للبيت أيما تعظيم، وما زال الناس من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلوات الله عليهما يحجون عملًا بسنة إبراهيم، جروا على هذا جيلًا بعد جيل، لم يمنعهم من ذلك شركهم، ولا عبادتهم للأوثان والأصنام، فهي آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى إبراهيم.
20
واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه، كما قال تعالى: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾ وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص، واختلاف البعد عن البيت والقرب منه، وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك. وقد اختلف في تفسيرها، فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد والراحلة مع أمن الطريق. وقال بعضهم: إنها صحة البدن، والقدرة على المشي. وقال آخرون: هي صحة البدن، وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشتري منه الزاد والراحلة وقضاء جميع الديون، والودائع، ودفع النفقة التي تكفي لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج.
وخلاصة ذلك: أنَّ هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة، وهي تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان.
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾: أي: ومن جحد، وأنكر كون هذا البيت أول بيت وضعه الله للعبادة، وأنكر ما فرضه الله من حجه، والتوجه إليه بالعبادة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَنِيٌّ﴾؛ أي: مستغنٍ ﴿عَنِ﴾ إيمانه وإيمان جميع ﴿الْعَالَمِينَ﴾ والخلق، وعن حجهم وعبادتهم.
وفسر بعضهم الكفر بترك الحج، وعبر عنه بالكفر تأكيدًا لوجوبه وتغليظًا على تاركه، والمعنى حينئذٍ: ومن لم يحج مع استطاعته.. فإن الله غني عن حجه، وحج العالمين كلِّهم. قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله - ﷺ - أهل الأديان الستة: المسلمين والنصارى، واليهود، والصابئين، والمجوس، والمشركين، فخطبهم، وقال: "إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا، فآمن به المسلمون، وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: ومن ترك اعتقاد وجوب الحج.. فإن الله غني عنه.
فقد روي أنه - ﷺ - قال: "من مات ولم يحج.. فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا".
وروي عن عليٍّ كرم الله وجهه أنَّ النبي - ﷺ - قال في خطبة له: "أيها الناس،
21
إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلًا، ومن لم يفعل.. فليمت على أي حال شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا".
وأثر عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار، فلينظروا كل من كان له جدة - سعةٌ - ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء: إن الحج واجب على الفور، وقال آخرون: إنه واجب على التراخي. وهذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب، فإنه بدأ الآية بأن قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾. فأفاد أنَّ ذلك ما كان لجر نفع، ولا لدفع ضر، بل كان لعزة الإلهية ولكبرياء الربوبية. وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك لبيان أنَّ فاعل ذلك مستأهل للنعمة برضا الله عنه، وأن تاركه يسخط عليه سخطًا عظيمًا.
وحسب البيت شرفًا وفضلًا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى للعالمين، وما جاء عن رسول الله - ﷺ - في حرمته وفضله من أنه لا يسفك فيه دم، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه - لا يقطع نباته - وأنَّ قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا، وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره، وأن استلام الحجر الأسود، فيه رمز إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه، والإخلاص له وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره. وكتب الأحاديث والسيرة مليئة ببيان فضله ومشيدة بذكره.

فصل في ذكر الأحاديث الواردة في فضل البيت وفضل الحج والعمرة


عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن أول بيت وضع للناس مباركًا يصلى فيه: الكعبة، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا". متفق عليه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن - ﷺ - وإنما سودته خطايا بني آدم".
22
أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعنه قال: قال رسول الله - ﷺ - في الحجر "والله ليبعثنّه الله يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق". أخرجه الترمذي.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - ﷺ -: يقول: "إن الركن، والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما.. لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب". أخرجه الترمذي، وقال: هذا الحديث يروى عن ابن عمر موقوفًا.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى".
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - ﷺ - فقال: "أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال له رجل في كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - ﷺ -: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم". أخرجه مسلم.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى رسول الله - ﷺ -. فقال يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة". أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن. وإبراهيم بن يزيد الجوزي المكي، قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". متفق عليه.
وفي رواية سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من حج لله - عز وجل - وفي لفظ من حج هذا البيت - فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه". أخرجه
23
الترمذي، وقال: "غفر له ما تقدم من ذنبه".
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - ﷺ - قال: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب، والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة، وليس لحجة مبرورة ثواب إلا الجنة، وما من مؤمن يظل يومه محرمًا إلا غابت الشمس بذنوبه". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ - "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله، من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وههنا". أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من طاف بالبيت خمسين مرةً خرج من ذنوبه، كيوم ولدته أمه". أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

فصل في ذكر بعض أحكام تتعلق بالحج


قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، ولوجوبه خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة. ولا يجب على الكافر والمجنون ولو حجا.. لم يصح حجهما؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادة، ولا حكم لقول المجنون، ولا يجب على الصبي والعبد، ولو حج صبي مميزٌ، أو حج عبد صح حجهما تطوعًا، ولا يسقط فرض الإسلام. فإذا بلغ الصبي وعتق العبد، واجتمع فيهما شرائط الحج.. وجب عليهما أن يحجا ثانيًا، ولا يجب على غير المستطيع؛ لقوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، فلو تكلف غير المستطيع الحج، وحج: صح حجه، وسقطت عنه حجة الإسلام.
والاستطاعة نوعان: أحدهما: أن يكون مستطيعًا بنفسه. والآخر: أن يكون مستطيعًا بغيره.
فأما المستطيع بنفسه: فهو أن يكون قويًّا، قادرًا على الذهاب؛ واجدًا للزاد والراحلة، لما تقدم من حديث ابن عمر في الزاد والراحلة.
24
وقال ابن المنذر: واختلف العلماء في قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فقالت طائفة: الآية على العموم، إذ لا نعلم خبرًا ثابتًا عن النبي - ﷺ -، ولا إجماعًا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضًا. فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل - بأي كانت الاستطاعة - الحج على ظاهر الآية.
قال ابن المنذر: وروينا عن عكرمة أنه قال: الاستطاعة: الصحة. وقال: الضحاك: إذا كان شابًّا صحيحًا.. فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه".
وقال مالك: الاستطاعة تختلف باختلاف الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة، ولا يقدر على المشي، وآخر يقدر على المشي على رجليه.
وقال الشافعي: الاستطاعة وجهان:
أحدهما: أن يكون الرجل مستطيعًا ببدنه، واجدًا في ماله ما يبلغه الحج، فتكون استطاعته تامة، فعليه فرض الحج.
والثاني: لا يقدر أن يثبت على الراحلة، وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه، أو قادر على مال، ويجد من يستأجره فيحج عنه، فيكون هذا ممن لزمه فرض الحج.
أما حكم الزاد والراحلة: فهو أن يجد راحلة تصلح له، ووجد من الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه، فاضلًا عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم، وعن دَيْنٍ إن كان عليه، ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت العادة بخروج أهل البلد في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله، أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا بقطع أكثر من مرحلة في يوم لا يلزمه الخروج معهم، ويشترط أن يكون الطريق آمنًا، فإن كان فيه خوف من عدو مسلم، أو كافر، أو رصدي يطلب الخفارة لا يلزمه الحج. ويشترط أن تكون منازل الماء مأهولة معسورة يجد فيها ما جرت به العادة بوجوده من الماء والزاد، فإن تفرق أهلها لجدب، أو غارت مياهها، فلا يلزمه الخروج. ولو لم يجد الراحلة وهو قادر على المشي، أو لم يجد الزاد وهو قادر على الاكتساب لا يلزمه الحج عند من جعل وجدان الزاد والراحلة شرطًا
25
لوجوب الحج، ويستحب له أن يفعل ذلك ويلزمه الحج عند مالك.
هذا كله في الزمن القديم، وأما الآن فالشرط القدرة على تحصيل جواز السفر، وعلى أجرة الطائرة، أو الباخرة، أو السيارة مع مؤونة سفره مطعمًا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا، ذهابًا وإيابًا، والقدرة على ما تطلب منه الحكومة التي يسافر منها، والتي يسافر إليها فاضلًا عن مؤونة من تلزمه نفقتهم ذهابًا، وإيابًا، وعن دين حالٍّ أو مؤجل يحل أجله قبل رجوعه من الحج.
وأما المستطيع بغيره: فهو أن يكون الرجل عاجزًا بنفسه، بأن يكون زَمِنًا، أو به مرض لا يرجى برؤه، وله مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه، وإن لم يكن له مال، وبذل ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه.. لزمه الحج، إن كان يعتمد على صدقه؛ لأن وجوب الحج متعلق بالاستطاعة.
وعند أبي حنيفة: لا يجب الحج ببذل الطاعة، وعند مالك: لا يجب الحج على من غصب ماله أو سرق. وحُجَّةُ من أوجب الحج ببذل الطاعة ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - ﷺ - فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله - ﷺ - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركَتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع. أخرجه الشيخان في "الصحيحين".
وقرأ حمزة والكسائي وحفص ﴿حِجُّ﴾ بكسر الحاء، والباقون بفتحها، وهما لغتان: الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية، ثم أخذ يبكت أهل الكتاب على كفرهم فقال:
٩٨ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لليهود والنصارى ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: لأي سبب تنكرون آيات الله التي دلتكم على صدق نبوة محمد - ﷺ - فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، ﴿وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: والحال أن الله شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجترئوا على الكفر بآياته، ولا ينفعكم التحريف والاستسرار. ولا يخفى ما في هذا من
التوبيخ والإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم، كأنه قيل: هاتوا عذركم، إن كان ذلك في مكنتكم.
٩٩ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد أيضًا ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ﴾ وتصرفون وتمنعون ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ودينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية، وهو ملة الإسلام ﴿مَنْ آمَنَ﴾ باللهِ وبمحمد وبالقرآن بإضلالكم ضعفة المسلمين، وإلقاء الشبهة والشكوك في قلوبهم، وذلك بإنكارهم صفة محمد - ﷺ - المذكورة في كتبهم ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾؛ أي: حالة كونكم تطلبون لسبيل الله اعوجاجًا وميلًا عن القصد، والاستقامة بقولكم: إن النسخ ممنوع، لأنه يدل على البداء، وبقولكم: ورد في التوراة أن شريعة موسى باقية إلى الأبد، وبتغيير صفة رسول الله - ﷺ -. والمعنى: لم تطلبون الزيغ والميل في سبيل الله بلقاء الشبه في قلوب الضعفاء.
وخلاصة المعنى: لِمَ تتركون السبيل المعتدلة، وتطلبون السبيل المعوجة؟! ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾؛ أي: والحال أنكم تشهدون أن محمدًا - ﷺ - وصفته مكتوبة في التوراة، وأن دين الله الذي لا يقبل غيره: هو الإسلام. وقيل: معناه: وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد - ﷺ - الدالة على نبوته، وأنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل.
وحاصل المعنى: لأي سبب تصرفون من آمن بمحمد - ﷺ - واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون، ويرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة، والأعمال الصالحة، وتكذبون بذلك كفرًا، وعنادًا، وكبرًا، وحسدًا، وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيًا وكيدًا للنبي - ﷺ - تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الخير عوجًا، وضلالًا، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجة، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك. فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال؟!.
قرأ الجمهور ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ من صد الثلاثي، وهو متعدّ، ومفعوله من آمن، وقرأ الحسن شذوذًا ﴿تَصُدُّونَ﴾ من أصد الرباعي عدى صد اللازم بالهمز،
وهما لغتان.
قال الراغب: (١) وقد جاء: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ بدون ﴿قُلْ﴾ وجاء هنا مع ﴿قُلْ﴾، فبدون ﴿قُلْ﴾: هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم؛ ليكونوا أقرب إلى الانقياد، ولما قصد الغض عنهم.. ذكر ﴿قل﴾ تنبيهًا على أنهم غير مستأهلين أن يخاطبهم بنفسه، وإن كان كلا الخطابين. وصل إليهم على لسان النبي - ﷺ -. انتهى.
﴿وَمَا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِغَافِلٍ﴾ أي بساه ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من هذا الصد وغيره من الأعمال، فمجازيكم عليه، ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد كما يقول الرجل لعبده، وقد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه: لا يخفى علي ما أنت عليه، وما أنا بغافل عن أمرك.
إنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة؛ لأن صدهم عن الإسلام. كان بضرب من المكر، والكيد، ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله: ﴿وَاللَّهُ شَهِيدٌ﴾ لأن العمل الذي فيها، وهو الكفر ظاهر مشهود.
١٠٠ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠)﴾.
مناسبة (٢) هذه الآية لما قبلها: لما أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين.. حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم، وناداهم بوصف الإيمان تنبيهًا على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأت بلفظ ﴿قل﴾ ليكون ذلك خطابًا منه تعالى لهم، وتأنيسًا لهم، وأبرز نهيه عن موافقتهم، وطواعيتهم في صورة شرطية؛ لأنه لم يقع طاعتهم لم، والإشارة بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: إلى الأوس والخزرج بقرينة سبب النزول كما مر.
والمعنى: يا أيها الذين صدقوا بمحمد - ﷺ - إن تطيعوا، وتوافقوا فريقًا،
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
وجماعة من الذين أوتوا الكتاب فيما يدعونكم إليه، وأصغيتم لهم، واستجبتم لما يدعونكم إليه مما يثير الفتنة بينكم كما مر في سبب النزول، وهم: شاس بن قيس، وعمرو بن شاس، وجبار بن صخر، وغيرهم ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ أي: يصيروكم بعد إيمانكم كافرين؛ أي: يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان، والكفر: يوجب الهلاك في الدنيا والدين. أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة المؤدي إلى سفك الدماء. وأما الدين فلا حاجة إلى بيانه.
١٠١ - ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ استفهام إنكار واستبعاد لوقوع الكفر منهم في هاتين الحالتين، وهما تلاوة كتاب الله عليهم، وهو القرآن الظاهر الإعجاز، وكينونة الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر، ولا تجامعه، فلا يتطرق إليهم كفر مع ذلك، أي: وكيف يوجد منكم الكفر ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾؛ أي: والحال أنكم تقرأ عليكم آيات الله القرآنية التي فيها بيان الحق من الباطل على لسان نبيكم غضًّا طريًا ﴿وَفِيكُمْ﴾؛ أي: ومعكم ﴿رَسُولُهُ﴾ تعالى محمَّد - ﷺ - الذي يبين لكم الحق، ويدفع عنكم الشبه.
قال قتادة (١): في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله، ونبي الله. فأما نبي الله: فقد مضى، وأما كتاب الله: فأبقاه الله بين أظهرهم رحمةً منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته انتهى.
وقال الزمخشري (٢): ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ معنى الاستفهام فيه: الإنكار، والتعجب، والمعنى: من أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن آيات الله، وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم، ويزيح شبهكم، ولكم في سنته خير أسوة تُغَذِّي إيمانكم، وتنير قلوبكم، فلا ينبغي لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول - ﷺ - حتى يكشف عنها، ويزيل ما علق بقلوبكم منها.
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور ﴿تُتْلَى﴾ بالتاء وقرأ الحسن والأعمش شذوذًا: (يتلى) بالياء؛ لأجل الفصل ولأن التأنيث غير حقيقي؛ ولأن الآيات هي القرآن.
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: ومن يستمسك بدين الله وكتابه، وهو القرآن وبرسوله محمَّد - ﷺ -؛ ويحتفظ به عن الوقوع في الهلاك الأبدي ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ وأرشد ﴿إِلَى صِرَاطٍ﴾ وطريق ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾، أي: مستو قويم موصل إلى الجنة، وهو طريق دين الإسلام.
وقيل المعنى (١): ومن يجعل ربه ملجأً ومفزعًا عند الشبه.. يحفظه عن الشبه.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله - ﷺ - يوما فينا خطيبًا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ الناس، وذكر، ثم قال: أما بعد: "ألا أيها الناس: إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". أخرجه مسلم.
١٠٢ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما بين الله سبحانه وتعالى ضلال الكفار في أنفسهم، وإضلالهم لغيرهم.. شرع في بيان تكميل المؤمنين لأنفسهم بهذه الآية، ولغيرهم بقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ الخ؛ أي: يا أيها الذين صدقوا بما جاء به محمَّد - ﷺ - اتقوا الله، وخافوه ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾؛ أي: نهاية تقواه وكاملها، وأبلغها، وأدومها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجبات، والاجتناب عن المحرمات كقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، والذي يصدر عن العبد على سبيل السهو والنسيان، غير قادح فيه؛ لأن التكليف في تلك الحال مرفوع عنه. وقيل: هو أن ينزه الطاعة عن
(١) النسفي.
الالتفات إليها، وعن توقع المجازاة عليها، وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب، وقيل: هو ألا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه.
وقال قتادة، (١) والسدي، وابن زيد، والربيع: هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أمروا أولًا بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء، ثم نسخ، وقال ابن عباس، وطاووس: هي محكمة، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ بيان لقوله: و ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ وقال ابن عباس: المعنى: جاهدوا في الله حق جهاده. وقال (٢) الماتريدي، وفي حرفِ حفصةَ ﴿واعبدوا الله حق عبادته﴾ ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: ولا يأتينكم الموت إلا وأنتم ملتبسون بالإسلام، أي: (٣) حافظوا على الإِسلام في حال صحتكم وسلامتكم؛ لتموتوا عليه، فيا عياذًا بالله من خلاف ذلك، والاستثناء فيه مفرغ من عام الأحوال؛ أي: ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإِسلام.
والخلاصة: استمروا على الإِسلام، وحافظوا على أداء الواجبات، وترك المنهيات حتى الموت. وقد جاء ولا تغيروا، ولا تبدلوا، لئلا يصادفكم الموت في حالة التغيير هذا في مقابلة قوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾.
وعن جابر رضي الله عنه سمعت رسول الله - ﷺ - يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ" رواه مسلم.
١٠٣ - ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾؛ أي: تمسكوا بدين الله الذي هو الإِسلام، أو بكتابه الذي هو القرآن، أو عهده الذي عهد به إليكم الذي هو التوحيد حالة كونكم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين على الاعتصام والتمسك بحبل الله وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - ﷺ - قال: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض".
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) ابن كثير.
31
وروي عنه - ﷺ - أنه قال: "القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، من قال به صدق، ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم". ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾؛ أي: لا تتفرقوا، ولا تختلفوا في الدين كما اختلف من قبلكم من اليهود والنصارى، أو لا تتفرقوا تفرقكم الجاهلي يحارب بعضكم بعضًا، ويقتل بعضكم بعضًا، وقيل: معناه لا تحدثوا بينكم ما يكون عنه التفرق، ويزول معه الاجتماع، والألفة التي أنتم عليها كالعصبية، والجنسية، ففيه النهي عن التفرق والاختلاف، والأمر بالاتفاق، والاجتماع؛ لأن الحق لا يكون إلا واحدًا، وما عداه يكون جهلًا وضلالًا، وإذا كان كذلك.. وجب النهي عن الاختلاف في الدين، وعن الفرقة؛ لأن كل ذلك كان عادة أهل الجاهلية فنهوا عنه.
وبالجملة فحبل الله في هذه الآية هو صراطه المستقيم، كما أن أنواع التفرق هي السبل التي نهي عنها فيها، ومن السبل المفرقة في الدين إحداث الشيع، والفرق كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾.
ومنها: العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج، وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير "ليس منا من دعا إلى عصبية". وقد سار على هذا النهج أهل أوربا في العصر الحديث، فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية، وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإِسلامية، بل عم جميعها، وفشا فيها، فحاول أهلها أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية، ومفاخرات عصبية.
وكانت كل دولة تتفاخر بجنسيتها ظنًّا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن، ويزيدهم شرفًا، وليس الأمر كما يظنون، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه، لا في تفرقهم وعصبيتهم، فإن ذلك مما يورث الشحناء والبغضاء بينهم، خصوصًا، التقدم بالجنسية والعصبية في التعليم والتدريس والإفتاء، بل التقدم في ذلك بالعلم والتقوى، وما لهم في ذلك سند إلا الاقتداء
32
بالنصارى، والعياذ بالله من ذلك. فالدين يأمر باتحاد كل قوم، تضمهم أرض واحدة، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام.
﴿وَاذْكُرُوا﴾؛ أي: تذكروا يا معشر الأوس والخزرج ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أي: إنعامه سبحانه وتعالى عليكم نعمة دنيوية، وأخروية التي من جملتها: الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف، وزوال الغل ﴿إِذْ كُنْتُمْ﴾: ظرف لقوله: ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ أي: اذكروا إنعامه عليكم إذ كنتم في الجاهلية ﴿أَعْدَاءً﴾ متقاتلين يبغض بعضكم بعضًا ويحارب بعضكم بعضًا ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ بالإِسلام؛ أي: قذف الله تعالى فيها المحبة بتوفيقكم للإسلام ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ وصرتم ﴿بِنِعْمَتِهِ﴾ بسبب إنعامه عليكم بنعمة الإِسلام ﴿إِخْوَانًا﴾ في الدين: أي: متحابين مجتمعين على الأخوة في الله سبحانه وتعالى، وقيل: كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين، فوقع بين أولادهما العداوة، وتطاولت الحروب بينهم مائة وعشرين سنة، حتى أطفأها الله بالإِسلام، وألف بينهم برسوله - ﷺ -، وقيل: الخطاب على العموم، والمعنى حينئذٍ؛ واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداءً يقتل بعضكم بعضًا، ويأكل قويكم ضعيفكم، فجاء الإِسلام، فألف بينكم وجمع جمعكم، وجعلكم إخوانًا، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم، وديارهم، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه، وهو في خصاصة وحاجة إليه، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة وأنقذهم مما هو أدهى وأمر، وهو عذاب الآخرة. ﴿وَكُنْتُمْ﴾ يا معشر الأوس والخزرج ﴿عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ﴾؛ أي: على طرف وهدة ﴿مِنَ النَّارِ﴾ الأخروية مثل شفا البئر؛ أي: وكنتم قريبين من الوقوع في النار بسبب كفركم، ليس بينكم، وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم ﴿فَأَنْقَذَكُمْ﴾؛ أي: فأنجاكم ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من تلك الحفرة أو النار، بأن هداكم للإسلام.
والخلاصة: أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله كأنكم على طرف حفرة، يوشك أن ينهار، ويسقط بكم في النار، فليس بين الشرك، والهلاك في النار إلا
33
الموت، والموت أقرب غائب ينتظر؛ فأنقذكم الإِسلام منها.
وفي هذه الآيات جماع المنن التي أنعم الله بها عليهم، فقد أخرجهم بالإِسلام من الشرك ومخازيه، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر، حين كانوا يعملون بكتابه، وأنقذهم بذلك من النار فسعدوا بالحسنيين. فانظر إلى آيات الله، ودلائل قدرته كيف حول قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون إلى جماعات متعافية القلوب مليئة بالحب والإخلاص، وجهتهم جميعًا واحدة هي حكم الله ورفعة دينه ونشره بين البشر.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ما تضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به، وما نهاكم عنه، وبين لكم الحال التي كنتم عليها في الجاهلية، وما صرتم إليه في الإِسلام ليعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ أي: يفصل الله تعالى لكم ﴿آيَاتِهِ﴾؛ أي: سائر حججه في تنزيله على لسان رسوله. ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾؛ أي: لكي تهتدوا من الضلالة، وتستعدوا للاهتداء الدائم حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان؛ والمعنى يزيدكم بيان ذلك ما دام رسول الله فيكم.
فائدة: والاختلاف (١) الذي يقع بين البشر ضربان:
الأول: ضرب لا يسلم منه الناس، ولا يمكن الاحتراس منه، وهو الخلاف في الرأي والفهم، وهو مما فطر عليه البشر، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها في الشيء الواحد كما يختلف حبهم له؛ وميلهم إليه، وهذا ضرب لا ضرر فيه.
والثاني: ضرب جدت الشرائع في هدمه ومحوه، وهو تحكيم الرأي والهوى في أمور الدين وشؤون الحياة، وهاك مثلًا يتضح لك به ما تقدم. قد اختلف الأئمة المجتهدون في فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة، وما
(١) المراغي.
34
كان في ذلك من حرج، فمالكٌ نشأ في المدينة، ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب فقال: إن عمل أهلها أصل من أصول الدين؛ لأنهم لقرب عهدهم من النبي - ﷺ - لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة في العمل. وأبو حنيفة نشأ في العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق؛ فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة، ولو اجتمع هذان الإمامان. لعذر كل منها صاحبه فيما رأى؛ لأنه بذل جهده في بيان وجه الحق مع الإخلاص لله تعالى، وإرادة الخير والطاعة لأمره. ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم، ولم تقلدهم في سيرتهم، وحكموا الرأي والهوى في الدين، وتفرقوا شيعًا كل فريق يتعصب لرأي فيما وقع من أوجه الخلاف، ويعادي المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب في كل ما خالف فيه غيره من الأئمة، وأن الشافعي ومالكًا أخطآ في جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة.
وإذًا فكيف يمضي نحو أربعة عشر قرنًا، ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب في بعض المسائل الخلافية! فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه في تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها!.
وهذا الضرب من الخلاف، وهو تحكيم الرأي والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة، فهوت بعد رفعتها وذلت بعد عزتها وضعفت بعد قوتها.
وقد حدث مثل هذا في الفرق الإِسلامية في علم العقائد، فإن أبدى أحدهم رأيًا في مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه، وتفنيد مذهبه وتضليله، ويقابله الآخر بمثل صنيعه، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر والإطلاع على أدلته، ووزنها بميزان الإنصاف والحق. لما حدث مثل هذا الخلاف، بل اقتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه.
والمسلم ما دام محافظًا على نصوص دينه، لا يخل بواحد منها مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه، لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه.
فإذا تحكم الرأي والهوى، ولعن بعضهم بعضًا، وكفر بعضهم بعضًا؛ فقد
35
باء بها من قالها، كما ورد في الحديث، وكذلك الحال في الاختلاف في المعاملة في المسائل السياسية والدينية، لا ينبغي أن يكون مفرقًا بين جماعة المسلمين، بل عليهم أن يرجعوا من النزاع إلى حكم الله، وآراء أولي العلم منهم، وبذلك نتقي غائلة الخلاف، ونكون في وفاق، ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الإعراب
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.
﴿لَنْ﴾: حرف نصب ﴿تَنَالُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿لَنْ﴾. ﴿الْبِرَّ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية. ﴿تُنْفِقُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد ﴿حتى﴾، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَنَالُوا﴾. ﴿مِمَّا﴾: من حرف جر وتبعيض ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ ﴿مِنْ﴾. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُنْفِقُوا﴾. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية، لأن المحبة لا تنفق، فإن جعل المصدر بمعنى المفعول.. فهو جائز على رأي أبي عليّ الفارسي انتهى. ﴿تُحِبُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تحبونه.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم. ﴿تُنْفِقُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿ما﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿تُنْفِقُوا﴾. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿ما﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها ﴿بِهِ﴾ متعلق بعليم. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبرها، وجملة ﴿إن﴾: في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾.
﴿كُلُّ الطَّعَامِ﴾: مبتدأ، ومضاف إليه ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها
36
ضمير يعود على ﴿كُلُّ﴾. ﴿حِلًّا﴾: خبرها. ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿حِلًّا﴾؛ لأنه مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ لأنه بمعنى جائزًا، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء؛ لأنه استثناء من اسم ﴿كَانَ﴾ والعامل فيه ﴿كَانَ﴾. ﴿حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿حَرَّمَ﴾. والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضميرٌ محذوف تقديره: حرمه.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾.
﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَرَّمَ﴾، قاله أبو البقاء، وفي "الفتوحات" قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ﴾ متعلق بقوله ﴿كَانَ حِلًّا﴾ ولا ضَيْرَ في توسط الاستثناء بينهما إذ هو فصل جائز، وذلك على مذهب الكسائي، وأبي الحسن في جواز أن يعملَ ما قبل إلّا فيما بعدَها؛ إذا كان ظرفًا أو جارًا ومجرورًا أو حالًا، وقيل: متعلِّق بـ ﴿حَرَّمَ﴾. وفيه: أنَّ تقييد تحريمه - عليه السلام - بقبلية تنزيل التوراة ليس فيه مزيد فائدة، إذ كان ما عدا المستثنى حلالًا لهم قبل نزولها، مشتملة على تحريم أمور أخر؛ حرمت بسبب ظلمهم وبغيهم كما قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية. أبو السعود انتهت. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب. ﴿تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ فعل ونائب فاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ والمصدر المؤول بـ ﴿أَنْ﴾ مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره: من قبل تنزيلها.
﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة، ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، لِـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئتَ: قلت ﴿فَأْتُوا﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف تقديره: هذا هو الحق لا زعمكم يا معشر اليهود،
37
كما أشرنا إليه في مقام التفسير. ﴿أتُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿بِالتَّوْرَاةِ﴾ متعلق بـ ﴿أتوا﴾. ﴿فَاتْلُوهَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اتلوها﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿فَأْتُوا﴾ ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعلَ شرط لها. ﴿صَادِقِينَ﴾: خبرُ ﴿كَانَ﴾، وجواب إن معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم صادقين.. فاتلوها، وجملة إن الشرطية في محل النصب: مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
﴿فَمَنِ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة أو استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو الجواب فقط، أو هما على الخلاف المذكور في محله ﴿افْتَرَى﴾ فعل ماض في محل الجزم بِـ ﴿مِنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿افْتَرَى﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿افْتَرَى﴾ أو بـ ﴿الْكَذِبَ﴾ كما ذكره أبو البقاء. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: خبر والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، والجملة الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأْتُوا﴾ بالتوراة على كونها مقولًا لِـ ﴿قُلْ﴾ أو مستأنفة.
﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت.. قلت ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿فَاتَّبِعُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا تبين لكم صدقي وصدق ما جئت به، وأردتم بيان ما هو المصلحة لكم.. فأقول لكم: ﴿فَاتَّبِعُوا﴾: ﴿اتبعوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفةٌ على جملة قوله ﴿صَدَقَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾ أو مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾:
38
مفعول به، ومضاف إليه ﴿حَنِيفًا﴾: حال من ﴿إبراهيم﴾. ﴿وَمَا كَانَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب معطوفة على ﴿حَنِيفًا﴾ على كونها حالًا من ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ تقديره: حالة كونه عادمًا كونه من المشركين.
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿أَوَّلَ بَيْتٍ﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾، ومضاف إليه ﴿وُضِعَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿بَيْتٍ﴾. ﴿لِلنَّاسِ﴾ متعلق بـ ﴿وُضِعَ﴾ والجملة صفة لِـ ﴿بَيْتٍ﴾. ﴿لَلَّذِي﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداءٍ. ﴿الذي﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿بِبَكَّةَ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿مُبَارَكًا﴾: حال من الضمير المستتر في الصلة، أو المستتر في ﴿وُضِعَ﴾. ﴿وَهُدًى﴾: معطوف على ﴿مُبَارَكًا﴾. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور تنازع فيه كل من ﴿مُبَارَكًا﴾ و ﴿هدى﴾ أو متعلق بـ ﴿هدى﴾ فقط.
﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾.
﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿آيَاتٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿بَيِّنَاتٌ﴾ صفة له، والجملة الإسمية في محل النصب حال ثالثة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها لبيان وتفسير بركته وهداه كما في "السمين". ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ بدل من ﴿آيَاتٌ﴾ بدل تفصيل من مجمل و ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ مضاف إليه، والرابط محذوف تقديره ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ منها ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: ﴿وَ﴾ استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو جملة الجواب، أو هما معًا ﴿دَخَلَهُ﴾ فعل ومفعول في محل الجزم بِـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ، ناقص في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جوابًا لها، واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿آمِنًا﴾: خبرها، وجملة من الشرطية: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا سيقت لبيان تلك الآيات البينات، أو في محل الرفع معطوفة على ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ على كونها بدلًا
39
من ﴿آيَاتٌ﴾، والمعنى: فيه آيات بينات. منها: مقام إبراهيم، ومنها: أمن داخله.
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لله﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم. ﴿عَلَى النَّاسِ﴾: متعلق بما تعلَّق به الجار والمجرور قبله. ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والتقدير: ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾: واجب لله على الناس. ﴿مَنِ﴾ اسم موصول في محل الجر بدل ﴿من الناس﴾ بدل بعض من كل، والرابط محذوف تقديره: منهم. ﴿اسْتَطَاعَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿اسْتَطَاعَ﴾. ﴿سَبِيلًا﴾: مفعول به لـ ﴿استطاع﴾.
﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب ﴿كَفَرَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم على كونه فعلَ شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إنْ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها ﴿غَنِيٌّ﴾: خبرها. ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾: متعلق بغني، وجملة ﴿إن﴾: في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة (من) الشرطية: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محلَّ لها من الإعراب، ويجوز أن تكون ﴿مَنْ﴾ موصولة، ودخلت الفاء تشبيهًا للموصول باسم الشرط، وقد تقدم نظيره غير مرة.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لِـ ﴿قُلْ﴾. وإن شئت قلت: ﴿يا﴾ حرف نداء، ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾: ﴿اللام﴾؛ حرف جر. ﴿مَ﴾: اسم استفهام في
40
محل الجر باللام مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ﴿ما﴾ الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَكْفُرُونَ﴾. ﴿تَكْفُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَكْفُرُونَ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿شَهِيدٌ﴾: خبر. ﴿عَلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَهِيدٌ﴾ والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿تَكْفُرُونَ﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه، ويصح كون ﴿مَا﴾ مصدرية كما مر نظيره مرارًا.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول محكي لِـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر. ﴿م﴾: اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَصُدُّونَ﴾. ﴿تَصُدُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَصُدُّونَ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تَصُدُّونَ﴾. ﴿آمَنَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول. ﴿تَبْغُونَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الضمير في ﴿تَصُدُّونَ﴾ أو من ﴿السبيل﴾؛ لأنَّ في هذه الجملة ضميرين راجعين إليهما؛ فلذلك صح أن تجعل حالًا من كل واحد منهما؛ كما ذكره أبو البقاء، أو الجملة مستأنفة. ﴿عِوَجًا﴾: حال من ﴿الهاء﴾ في ﴿تَبْغُونَهَا﴾ بتأويله بمشتق تقديره: معوجة. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ ﴿شُهَدَاءُ﴾: خبر، والجملة في محل النصب: حال إما من فاعل ﴿تَصُدُّونَ﴾ وإما من فاعل ﴿تَبْغُونَ﴾. ﴿وَمَا اللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿ما﴾:
41
حجازية أو تميمية. ﴿اللَّهُ﴾: اسمها، أو مبتدأ. ﴿بِغَافِلٍ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة ﴿غافل﴾: خبر لـ ﴿ما﴾ أو خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تَصُدُّونَ﴾. ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿غافل﴾ وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠)﴾.
﴿يَا﴾: حرف نداء ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة؛ كما مر مرارًا، وجملة النداء: مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول: في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾: ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿تُطِيعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَرِيقًا﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿فَرِيقًا﴾. ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، صلة الموصول. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه جوابًا لها؛ لأنه من أفعال التصيير. ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يردون﴾. ﴿كَافِرِينَ﴾: مفعول ثان ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ وجملة ﴿إن﴾ الشرطية جواب النداء لا محل لها من الإعراب.
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)﴾.
﴿وَكَيْفَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿كيف﴾: اسم استفهام في محل النصب، على الحالية. ﴿تَكْفُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَأَنْتُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿أنتم﴾: مبتدأ. ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغيّر الصيغة. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿تَكْفُرُونَ﴾. ﴿وَفِيكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿فيكم﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿رَسُولُهُ﴾: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة
42
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى﴾ على كونها حالًا من فاعل ﴿تَكْفُرُونَ﴾. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب أو هما. ﴿يَعْتَصِمْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْتَصِمْ﴾. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ ﴿قد﴾ لأنه من المواضع التي يجب فيها إقتران الجواب بالفاء المجموعة في قول بعضهم:
إِنْ أخْرَجُونِي مِنْ بِلاَدِي فَإِنَّ مَعِيَ رَبَّ العِبَادِ
في قَلْبِي إِيْمَانٌ وتَصْدِيقُ وَفِي جِسْمِيَ امْتِثَالٌ وَتَطْبِيْقُ
وَلا أَقُولُ أَهلِي وِلادِي ولا مَالِي وَلاَ تِلاَدِي
إِسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وبِجَامِدٍ وَبِمَا وَلَنْ وَبِقَدْ وَبِالتَّسْوِيفِ
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿هُدِيَ﴾: فعل ماضٍ مغيّر الصيغة في محل الجزم بِـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جواب الشرط، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بـ ﴿هُدِيَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾.
﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أيُّ﴾، وجملة النداء، مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب النداء. ﴿حَقَّ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، وهو مضاف ﴿تُقَاتِهِ﴾: مضاف إليه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ التقاة الحق، أي: الثابتة. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية ﴿تَمُوتُنَّ﴾: فعل مضارع مجزوم ﴿بلا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأن أصله تَمُوتُونَنَّ والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من عام الأحوال. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿أنتم﴾: مبتدأ. ﴿مُسْلِمُونَ﴾: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تَمُوتُنَّ﴾ تقديره، ولا تموتن على حالةٍ من الأحوال إلَّا حالة كونكم مسلمين.
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.
43
﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اعتصموا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بِحَبْلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اعتصموا﴾. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من فاعل ﴿اعتصموا﴾ تقديره: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ﴾ الله حالة كونكم مجتمعين عليه. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية ﴿تَفَرَّقُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾.
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿وَاذْكُرُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿اذكروا﴾ ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ لأنه بمعنى إنعامه عليكم.
﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى مجرد عن معنى الشرط، والظرف متعلق بـ ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾. ﴿كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿فَأَلَّفَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أَلَّفَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿كان﴾. ﴿بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَلَّفَ﴾. ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿أصبحتم﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِنِعْمَتِهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أصبح﴾. ﴿إِخْوَانًا﴾: خبر ﴿أصبح﴾ وجملة ﴿أصبح﴾ في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَلَّفَ﴾.
﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾.
﴿وَكُنْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطف. ﴿وَكُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر ﴿كان﴾ تقديره؛ وكنتم كائنين على شفا حفرة، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾. ﴿مِنَ النَّارِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿حُفْرَةٍ﴾. ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ الفاء عاطفة. ﴿أنقذكم﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله
44
﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ﴾. ﴿مِنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿أَنْقَذَكُمْ﴾.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾ جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: يبين لكم بيانًا كائنًا كذلك؛ أي: كائنًا مِثْلَ البيان المذكور هنا. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق ﴿يُبَيِّنُ﴾. ﴿آيَاتِهِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ﴿لعل﴾ حرف نصب وتعليل بمعنى كي، و ﴿الكاف﴾ اسمها. وجملة ﴿تَهْتَدُونَ﴾ خبرها وجملة ﴿لعل﴾ من اسمها وخبرها في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلِّقة بـ ﴿يُبَيِّنُ﴾ تقديره: كذلك بين لكم آياته لاهتدائكم أي لإرادة اهتدائكم. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ يقال: ناله من فلان معروف يناله نيلًا إذا وصل إليه. والنوال: العطاء من قولك: نولته تنويلًا إذا أعطيته. والنيل: إدراك الشيء ولحوقه، وقيل: هو العطية، وقيل: هو تناول الشيء، باليد يقال: نلته أناله نيلًا قال تعالى: ﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾. وأما النول بالواو فمعناه: التناول يقال: نلته أنوله: أي: تناولته وأنلته زيدًا أنيله إياه؛ أي ناولته إياه. والبر اسم جامع لوجوه الخير، والمراد به هنا الجنة. ﴿حِلًّا﴾ الحل لغة: في الحلال، كما أن الحرم لغة: في الحرام، والحلال، وكذا الحل مصدر يستوي فيه الواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ فيه مراعاة لفظ ﴿مَنْ﴾ وفي قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ مراعاة معناها، والإفتراء اختلاق الكذب وهو من باب افتعل أصله: من: فرى الأديم إذا قطعه؛ لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود.
﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ هي مكة بقلب الميم باء، وبكة علم للبلد الحرام، وكذا مكة، وهما لغتان: وقيل: إن بكة اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام، وقيل: بكة للمسجد، ومكة للحرم كله، يقال: بك يبك من باب رد إذا دق
45
الشيء، وسميت بكة؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة، وبكها لأعناقهم كناية عن إهلاكهم، وإذلالهم ويقال: بك القوم إذا ازدحموا؛ لأنهم يزدحمون فيها في الطواف. وأما تسميتها مكة فقيل: سميت بذلك؛ لأنها قليلة الماء تقول العرب: مك الفصيل ضرع أمه، وأمكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن. وقيل: لأنها تمك المخ من العظم بما ينال ساكنها من المشقة، ومنه مككت العظم، إذا أخرجت ما فيه، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تمك من ظلم فيها؛ أي: تهلكه. وقد اختلف في الباني له في الابتداء، فقيل: الملائكة، وقيل: آدم، وقيل: إبراهيم، ويجمع بين ذلك؛ بأن أول من بناه الملائكة ثم جدده آدم ثم إبراهيم.
﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ والعوج - بكسر أوله وفتحه -: الميل، ولكن العرب فرقوا بينهما، فخصوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان، تقول: في دينه وكلامه عوج بالكسر، وفي الجدار عوج بالفتح. قال أبو عبيدة العوج بالكسر الميل في الدين، والكلام والعمل، وبالفتح في الحائط والجذع. وقال أبو إسحاق بالكسر فيما لا ترى له شخصًا، وبالفتح فيما له شخص، وقال صاحب المجمل: العوج بالفتح في كل منتصب كالحائط، وبالكسر ما كان في بساط أو دين أو أرض أو معاشٍ، فقد فرق بينهما بغير ما تقدم، يقال: عوج من باب: طرب فهو أعوج، والاسم: العوج كما ذكره في "المختار". ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ هو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها كما تقول: ضربت زيدًا شديد الضرب أي؛ الضرب الشديد فكذلك ما هنا، والتقدير: اتقو الله الإتقاء الحق؛ أي: الواجب الثابت. ﴿شَفَا حُفْرَةٍ﴾ في "المصباح"، وشفا كل شيء حرفه، مثل النوى، وفي "السمين": الشفا: طرف الشيء، وحرفه، وهو مقصور من ذوات الواو يثنى بالواو نحو شفوان، ويكتب بالألف، ويجمع على أشفاء، ويستعمل مضافًا إلى أعلى الشيء، وإلى أسفله، فمن الأول ﴿شَفَا جُرُفٍ﴾ ومن الثاني هذه الآية، وأشفى على كذا إذا قاربه، ومنه أشفى المريض على الموت.
البلاغة
وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة أنواعًا:
46
منها: التبكيت والتوبيخ، حيث أمرهم بالإتيان بالتوراة للدلالة على كمالِ القبح.
ومنها: الهزء في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؛ لأنه خرج مخرج الممكن وهو معلوم كذبهم، وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك: إن كنت شجاعًا فالقني، ومعلوم عندك أنه ليس بشجاع، ولكن هزأت به؛ إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به.
ومنها: التفخيم في قوله: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ حيث حذف الموصوف، وذكر الصفة؛ لأن أصل الكلام للبيت الذي ببكة. ومنها: التأكيد والتشديد في قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ حيث وضع هذا اللفظ موضع، ومن لم يحج تأكيدا لوجوبه، وتشديدًا على تاركه. قال أبو السعود: ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات ما لا مزيد عليه، وهي قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق، وأبرزت في صورة الجملة الإسمية الدالة على الثبات والاستمرار على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه وتعالى في ذمم الناس، وسلك بهم مسلك التعميم، ثم التخصيص والإبهام، ثم التبيين والإجمال، ثم التفصيل.
وقال أبو حيان (١): وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة:
منها: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في قوله: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾، وفي اسم الله في مواضع، وفي ما يعملون.
ومنها: الطباق في الإيمان والكفر، وفي الهداية والكفر، إذ هو ضلال، وفي العوج والاستقامة، والتجوز بإطلاق اسم الجمع في قوله: ﴿فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فقيل: هو يهودي غير معين، وقيل: هو شاس بن قيس وإطلاق العموم
(١) البحر المحيط.
47
الذي أريد به الخصوص في ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على قول الجمهور إنه خطاب للأوس والخزرج.
ومنها: الحذف في مواضع. انتهى.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ حيث شبه الدين أو القرآن بالحبل، واستعير اسم المشبه به، وهو الحبل للمشبه، وهو الدين أو القرآن على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، والجامع بينهما التوصل للمقصود في كل، وإضافته للفظ الجلالة قرينة مانعة، والاعتصام ترشيح.
وفيه أيضًا: استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الوثوق بالاعتصام، واستعار الاعتصام للوثوق، واشتق من الاعتصام ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ بمعنى ثقوا.
والحاصل: (١) أنَّ في الآية استعارتين: استعارة الحبل للدين، أو للكتاب فتكون استعارة مصرحة أصلية تحقيقية، والقرينة الإضافة إلى الله تعالى، واستعارة الاعتصام للوثوق به، والتمسك به، فتكون استعارة مصرحة تبعية تحقيقية، والقرينة اقترانها بتلك الاستعارة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية حيث شبه حالهم الذي كانوا عليه بالجاهلية، بحال من كان مشرفًا على حفرة عميقة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) جمل.
48
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)﴾.
المناسبة
لما حذر الله سبحانه (١) وتعالى المؤمنين فيما سلف من مكايد أهل الكتاب، وأمرهم بتكميل أنفسهم، وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس، والأرجاس بالعمل بتقوى الله، والمحافظة على إخلاص العمل له حتى المماتِ، وأمرهم بالاعتصام بحبل الله المتين باتباع كتابه، والتمسك بسنة رسوله - ﷺ - إذا اختلفت الأهواء وتضاربت الآراء.. أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة بدعوتهم إلى الله تعالى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر تثبيتًا لهم جميعًا على مراعاة ما في الشريعة من الأحكام، والمحافظة على ما فيها من التكاليف، وبذلك تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعًا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل
(١) المراغي.
49
الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" رواه مسلم.
وروى البخاري غيره: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
والحفاظ لوحدة الأمة، ومناط بقاء جامعتها أمر بعض أفرادها بعضًا بالاستمساك بالخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ثم ذكر ما حل باليهود من الذل والصغار بسبب البغي والعدوان.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٤ - ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ﴾؛ أي: ولتوجد منكم يا معشر المؤمنين ﴿أُمَّةٌ﴾؛ أي: جماعةٌ متميزةٌ يقتدي بها فرق الناس ﴿يَدْعُونَ﴾ الناس ﴿إِلَى الْخَيْرِ﴾ ويحثونهم على ما فيه صلاح معاشهم، ومعادهم، فأفضل الدعوة، الدعوة إلى توحيد الله وإلى إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، وإلى تقديسه عن الأنداد والشركاء، وعن مشابهة المخلوقات في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ لأنها أساس الدين ومبنى الإيمان.
﴿وَيَأْمُرُونَ﴾ الناس ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرعًا، والمعروف كلُ ما استحسنه الشرع والعقل، والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبًا.. فواجب، وإن كان مندوبًا.. فمندوب ﴿وَيَنْهَوْنَ﴾ الناس ﴿عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ شرعًا، والمنكر ضد المعروف، وهو ما عرف بالعقل، والشرع قبحه. فالنهي عن الحرام واجب كله، لأن تركه واجب. وهذه الأمور من فروض الكفاية؛ لأنها لا تليق إلا من العالم بالحال، وسياسة الناس حتى لا يوقع المأمور، أو المنهي في زيادة الفجور، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل، وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة.
وقوله (١) ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ من باب عطف الخاص على العام؛ إظهارًا لترفهما، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه كما قيل، في عطف جبريل وميكال على الملائكة، وحذف مفعول
(١) الشوكاني.
50
الأفعال الثلاثة إيذانًا بالعموم؛ أي: كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك.
وقرأ الجمهور (١) ﴿وَلْتَكُنْ﴾ بإسكان اللام، وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة، بكسرها، وعلة بنائها على الكسر مذكورةٌ في كتب النحو، وسنبينها لك في مقام الإعراب إن شاء الله تعالى.
وقرأ عثمان وعبد الله بن الزبير ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم﴾ قال أبو بكر ابن الأنباري: وهذه الزيادة تفسيرٌ من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين عنه، فألحقه بألفاظ القرآن، وقد روي عن عثمان كما مر آنفًا أنه قرأها كذلك، ولكن لم يكتبها في مصحفه، فدل على أنها ليست من القرآن.
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع مقامها.
فائدة (٢): ويشترط فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط أربعةٌ؛ ليؤدي وظيفته خير الأداء، ويكون مثلًا صالحًا يحتذى به في علمه وعمله:
الأول: أن يكون عالمًا بالقرآن والسنة وسيرة النبي - ﷺ - والخلفاءِ الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.
الثاني: أن يكون عالمًا بحال من توجه إليهم بالدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم، أي: معرفة أحوالهم الاجتماعية.
والثالث: أن يكون عالمًا بلغة الأمة التي يراد دعوتها، وقد أمر النبيُّ - ﷺ - بعض الصحابة بتعلم العبرانية لحاجته إلى محاورة اليهود، الذين كانوا يحاورونه ومعرفة حقيقة حالهم.
والرابع: معرفة الملل ومذاهب الأمم، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
51
باطلٍ، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره، وإن دعاه إليه، وبالجملة فلا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة التشريع، وفقهه، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.
وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان ومكان على مقدار علمهم في المساجد، والمعابد، والمنتديات العامة، وفي المحافل عند سنوح فرصةٍ. فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير، وندر فيها وقوع الشر، وائتلفت قلوب أهاليها، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وسعدوا في دنياهم وآخرتهم. وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها، واتفاق أهوائها إذ لا مطمع لها إلا رفعة شأن دينها، وعزة أبنائها وسيادتها العالم كله. ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدته، وكملوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغي السعادة والرقي، وتخلقوا بفاضل الأخلاق، وحميد الصفات حتى يكونوا مثلًا عليا يحتذى بها، ويشار إليهم بالبنان.
وإن ما أودع في ديننا من هذا، وما خلفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية، فيه غنية لمن يريد الخير والفلاح، وقد روي أن رسول الله - ﷺ - سئل عن خير الناس، فقال: "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم".
وعنه - ﷺ - أنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم".
وعن علي رضي الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن غضب لله غضب الله له. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع
52
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" أخرجه مسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا". أخرجه البخاري.
واختلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقيل: يجبان على كلِّ مكلف، فمعنى الآية على هذا القول: كونوا أمةً دعاةً إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر. وصاحب هذا القول يقول: هما فرض كفاية إذا قام بهما واحد سقط الفرض عن الباقين.
وقيل: هنا يختصان بالعلماء وولاة الأمر، فعلى هذا يكون معنى الآية ليكن بعضكم آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر. ﴿وَأُولَئِكَ﴾ الدعاة الآمرون الناهون ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: المختصون بالفلاح الكامل، والنجاح الواصل. روي أنه - ﷺ - قال: "من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر.. فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله وخليفة كتابه".
وبعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. بين ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية الآمرة الناهية من وحدة المقصد، واتحاد الغرض؛ لأن الذين سبقوهم من الأمم، لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم، وتفرق أهوائهم؛ لأن كلًّا منهم يذهب إلى تأييد رأيه وإرضاء هواه.
أما المتفقون في القصد: فاختلافهم في الرأي لا يضر بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعيٌّ، لا بدَّ منه لتمحيصه، وتبين وجه الصواب فيه فقال:
١٠٥ - ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ يا معشر المؤمنين ﴿كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾؛ أي: كاليهود والنصارى الذين تفرقوا بالعداوة ﴿وَاخْتَلَفُوا﴾ في الدين، وكانوا شيعًا تذهب كل شيعة منها مذهبًا يخالف مذهب الآخر، وتنصر مذهبها وتدعو إليه، وتخطىء ما سواه ولذا تعادوا واقتتلوا، أو
53
المعنى تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسًا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل، قال الفخر الرازي: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان، صاروا موصوفين بهذه الصفة، فنسأل الله العفو والرحمة.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، أي: تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه، وإتحاد الكلمة. ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر وتعتصم بحبل الله وتتجه إلى غايةٍ واحدةٍ لما تفرقوا واختلفوا فيه. ولما تعددت مذاهبهم في أصوله وفروعه، وما قاتل بعضهم بعضًا: فلا تكونوا مثلهم؛ فيحل بكم ما حل بهم.
قالوا: وهذا الاختلاف المنهي عنه يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية: فالاختلاف فيها جائزٌ. وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين، في أحكام الحوادث لقوله - ﷺ -: "اختلاف أمتي رحمة" ولقوله - ﷺ -: "من اجتهد.. فأصاب؛ فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ".
وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". وزاد الحاكم في رواية: "كلها في النار إلّا ملة واحدة". وزاد أحمد في روايةٍ عن أنس "قيل يا رسول الله: من تلك الفرقة؟ قال: "الجماعة". وإنما قال: ﴿جَاءَهُمُ﴾، ولم يقل: جاءتهم لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل عند وجود الفاصل، أو عند كون الفاعل مؤنثًا مجازيًّا كما هنا.
ثم ذكر سبحانه وتعالى عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال: ﴿وَأُولَئِكَ﴾ الذين تفرقوا واختلفوا في الدين ﴿لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في الدنيا والآخرة؛ بسبب تفرقهم واختلافهم. وفيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والاختلاف. وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا، وخسران الآخرة، أما في الدنيا: فلأن بأسهم يكون بينهم شديدًا، فيشقى بعضهم ببعض، ويبتلون بالأمم التي تطمع في الضعفاء
54
وتذيقهم الخزي والنكال. وأما في الآخرة: فعذاب الله أشد وأبقى. وهذا الوعيد المذكور في هذه الآية يقابل الوعد المذكور في الآية السابقة، وهو قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من فارق الجماعة شبرًا.. فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه". أخرجه أبو داود. ربقة الإِسلام: عقدة الإِسلام وحبله وعراه.
وروى البغويُّ بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "مَنْ سَرَّه أن يسكن بحبوحة الجنة.. فعليه بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الفذِّ، وهو من الاثنين أبعد". بحبوحة الجنة: وسطها، والفذ: هو الواحد.
١٠٦ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى زمان ذلك العذاب فقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ الظرف منصوب بمحذوف تقديره: اذكروا يوم تبيض وتستنير، وتلألأ فيه وجوه كثيرة من المؤمنين بسبب ما تراه من الفرح والسرور بحسناتها، ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ كثيرة من الكافرين بسب ما تراه من الحزن والكآبة والغمّ بسيئاتها، وهو يوم القيامة حين (١) يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة، ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب إذ قرأ المؤمن كتابه.. رأى حسناته، فاستبشر وأبيض وجهه، وإذا قرأ الكافر كتابه.. رأى سيئاته؛ فحزن واسود وجهه.
وفي بياض (٢) الوجوه وسوادها قولان:
أحدهما: البياض كناية عن الفرح، والسرور، والسواد: كناية عن الغم والحزن، واستعمال البياض في السرور والسواد في الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد على سبيل التجوز.
والقول الثاني: بياض الوجوه وسوادها حقيقة تحصل في الوجه، فيبيض وجه المؤمن، ويكسى نورًا، ويسود وجه الكافر ويكسى ظلمة؛ لأن لفظ البياض والسواد حقيقة فيهما.
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
55
والحكمة في بياض الوجوه وسوادها: أن أهل الموقف إذا رأوا بياض وجه المؤمن، عرفوا أنه من أهل السعادة، وإذا رأوا سواد وجه الكافر.. عرفوا أنه من أهل الشقاوة. ونحو هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١)﴾ وقوله: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ وفي الحديث: "إن أمتي يحشرون غرًّا محجلين من أثر الوضوء".
وخلاصة الكلام: أنَّ هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم في هذا اليوم، كما تظاهرت على ذلك الآيات والأحاديث، كما يكون لهم مثل ذلك في الدنيا؛ إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون، ولا يتعاونون، ولا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة وعز الأمة، فتسود وجوههم بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم، وعواقب تفرقهم، واختلافهم بقهر الغاصب لهم، وانتزاعه السلطة عن أيديهم، والتاريخ والمشاهدة شاهدا صدق على هذا.
أما المتفقون الذين اعتصموا، واتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة وعزها، وأصبح كل واحد منهم عونًا للآخر، وناصرًا له، فأولئك تبيض وجوههم، وتتلألأ بهجة وسرورًا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم، واعتصامهم بوجود السلطان والعزة والشرف وارتفاع المكانة بين الأمم.
وقرأ (١) الجمهور ﴿تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ﴾ بفتح التاء، وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو رزين العقيلي، وأبو نهيك ﴿تبْيَضُّ﴾ و ﴿تسْوَدُّ﴾ بكسر التاء فيهما، وهي لغة تميم. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء ﴿تَبياض﴾ و ﴿تسواد﴾ بألف فيهما، ويجوز كسر التاء في ﴿تبياض وتسواد﴾، ولم ينقل أنه قرئ ذلك.
ثم فصل سبحانه وتعالى أحوال الفريقين فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ﴾ وأظلمت ﴿وُجُوهُهُمْ﴾ بسبب تفرقهم واختلافهم فيلقون في النار، وتقول الزبانية توبيخًا لهم ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، أي: هل كفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب
(١) البحر المحيط.
56
الإيمان؟ وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة. وقال عكرمة، والأصم، والزجاج: أي أكفرتم يا أهل الكتاب بعد بعثة محمَّد - ﷺ - بعد إيمانكم به قبل مبعثه؟.
وابتدأ (١) بالذين اسودت وجوههم، للاهتمام بالتحذير من حالهم، ولمجاورة قوله وتسود وجوه، وليكون الابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئًا يسر الطبع، ويشرح الصدر.
فإن قلت (٢): كيف قال؟ أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين، فمن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟
قلت: اختلف العلماء في ذلك، فروي عن أبيّ بن كعب أنه قال: أراد به الإيمان يوم أخذ الميثاق حين قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى فآمن الكل، فكل من كفر في الدنيا.. فقد كفر بعد الإيمان، وقال الحسن: هم المنافقون؛ وذلك أنهم تكلموا بالإيمان بألسنتهم، وأنكروه بقلوبهم. وقال عكرمة: هم أهل الكتاب؛ وذلك أنهم آمنوا بمحمد - ﷺ - قبل مبعثه، فلما بعث.. أنكروه وكفروا به كما مر آنفًا. وقيل: هم الذين ارتدوا في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهم أهل الردة.
ذكر الأحاديث المناسبة للآية
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأنالهم، اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولنَّ: أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي: لا تدري ما أحدثوا بعدك". زاد في رواية "فأقول سحقا لمن
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
57
بدل بعدي". متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "يرد علي يَوْمَ القيامة رهط من أصحابي، أو قال: من أمتي، فيجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى". متفق عليه.
وقيل: هم الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب، وقتلهم، وهم الحرورية. وقيل: هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة كالقدرية، ونحوهم، فكفرهم بعد إيمانهم على هذا القول هو خروجهم من الجماعة ومفارقتهم في الاعتقاد.
﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، أي: باشروا العذاب وادخلوه ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾؛ أي: بسبب كفركم بالله وبرسوله وبكتابه، والأمر بذوق العذاب على طريق الإهانة لهم، والاستهزاء بهم.
وقد جرى عرف القرآن أن يعد المتفرقين في الدين من الكفار والمشركين، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾.
كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر؛ لأن الإيمان اعتقادٌ، وقولٌ، وعملٌ، وهو ذو شعبٍ كثيرة، من أجلها تحري العدل، واجتناب الظلم، فمن استرسل في الظلم.. كان كافرًا كما قال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
وكذلك من ترك الاتحاد، والوفاق، والاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان.
١٠٧ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ﴾ واستنارت ﴿وُجُوهُهُمْ﴾ بالفرح والسرور؛ بما رأوا من حسناتهم التي من جملتها اتحاد الكلمة، وعدم التفرق ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾؛ أي:
فيكونون في رحمة الله وجنته، وعبر عنها بالرحمة تنبيهًا على أن المؤمن، وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى، فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى: ﴿هم فيها خالدون﴾؛ أي: هم دائمون في رحمته وجنته، لا يظعنون عنها ولا يموتون، قيل: إنما كرر ﴿في﴾ لأن في كل واحدة منها معنى غير الأخرى المعنى أنهم في رحمة الله، وأنهم في الرحمة خالدون، وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر ﴿فأما الذين اسوادات وأما الذين ابياضت﴾ بألف.
١٠٨ - ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾ القرآنية، ودلائله الدالة على صدقك يا محمَّد ﴿نَتْلُوهَا﴾، أي: نقرؤها بواسطة جبريل ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد حالة كونها ملتبسة ﴿بِالْحَقِّ﴾ والعدل في مجازاة المحسن، والمسيء بما يستوجبانه، أو حالة كوننا ملتبسين بالحق والصدق.
﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾؛ أي: وما يريد الله فردًا من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلًا عن أن يفعله، وأما ظلم بعضهم لبعض فواقع كثيرًا، وكل واقع فهو بإرادته تعالى، والمعنى لا يشاء أن يظلم هو عباده، فيأخذ أحدًا بغير جرم أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن.
والحاصل: أن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم، إلى ما يكمل فطرتهم ويتم به نظام جماعتهم، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء، وكانوا هم الظالمين، لأنفسهم بتفرقهم، واختلافهم إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع، وتجعل أهله في شقاء، ولا يحل عذاب بأمة إلا بذنب فشا فيها، فزحزحها عن الصراط المستقيم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
١٠٩ - ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفي الظلم عنه تعالى فقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ولله سبحانه وتعالى لا لغيره جميع ما في السموات، وما في الأرض ملكًا، وخلقًا، إحياءً وإماتة، وإثابةً، وتعذيبًا.
لما ذكر الله تعالى أنه لا يريد ظلمًا للعالمين، لأنه لا حاجة به إلى الظلم،
وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد مالًا أو عزًّا أو سلطانًا أو يتم نقصًا فيه بما يظلم به غيره، ولما كان الله عز جل مستغنيًا عن ذلك، وله صفة الكمال أخبر أن له ما في السموات وما في الأرض، وأن جميع ما فيهما ملكه وأهلهما عبيده، وإذا كان كذلك يستحيل في حقه سبحانه وتعالى أن يظلم أحدًا من خلقه؛ لأنهم عبيده وفي قبضته، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ ولأن الظلم ينافي الحكمة، والكمال في النظام، وفي التشريع، ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾؛ أي: إلى حكمه تصير أمور الخلائق، وشؤونها في الآخرة المؤمن، والكافر، والعاصي، والطائع، فيجازي الكل على قدر استحقاقهم، ولا يظلم أحدًا منهم فلا مفر منه، ولا محيص عنه. وقرىء ﴿ترجع﴾ بالبناء للفاعل، أو المفعول، وبالتاء المثناة من فوق على القراءتين.
١١٠ - ﴿كُنْتُمْ﴾ يا أمة محمَّد في سابق علمه تعالى ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾؛ أي: أفضل أمة ﴿أُخْرِجَتْ﴾ وأظهرت بفضلها وشرفها ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: عرف فضلها وشرفها للناس حتى تميزت عنهم بما فيها من الخصال الآتية، أو المعنى أخرجت، وأظهرت في عالم الوجود في الدنيا، لنفع الناس كما أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة في الآية قال: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإِسلام، وفي الآخرة بالشهادة للأنبياء على أممهم، وقال ابن عباس: أخرجت من مكة إلى المدينة، وقيل: اللام فيه بمعنى من، والمعنى: كنتم يا أمة محمَّد في سابق علمي خير أمة أخرجت: أي: اختيرت من الناس لنفعها لهم في الدنيا والآخرة.
ثم بين وجه خيريتها بقوله: ﴿تَأْمُرُونَ﴾ الناس ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: بالتوحيد واتباع محمَّد - ﷺ - ﴿وَتَنْهَوْنَ﴾ الناس ﴿عَنِ الْمُنْكَرِ﴾؛ أي: عن الشرك ومخالفة الرسول محمَّد - ﷺ - ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: وتصدقون بالله وتخلصون له التوحيد والعبادة، أو المعنى تؤمنون بالله إيمانًا متعلقًا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول، وكتاب، وحساب، وجزاء، وغير ذلك. وقال قتادة: هم أمة محمَّد - ﷺ - لم يؤمر نبي قبله بالقتال؛ فهم يقاتلون الكفار، فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة أخرجت للناس.
60
فإن قلت (١): لِمَ قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر، مع أن الإيمان يلزم أن يكون مقدمًا على جميع الطاعات، والعبادات لأنه أساسها؟
قلت: إنَّ الإيمان بالله أمر يشترك فيه جميع الأمم المؤمنة، وإنما فضلت هذه الأمة الإِسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سائر الأمم، فكأنهما هما المقصودان هنا وإن كان الإيمان بالله شرطًا فيهما؛ فلهذا السبب حسن تقديم ذكرهما على ذكر الإيمان، فهذه الأمة لها شبه بالأنبياء من حيث إنها مهتدية في نفسها هادية لغيرها.

فصل في ذكر الأحاديث الدالة على خيرية هذه الأمة


عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، "ثم إن بعدهم قومًا يشهدون، ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن". زاد في رواية "ويحلفون ولا يستحلفون". متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجىء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته". متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تسبوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحدًا أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم، ولا نصيفه". متفق عليه. النصيف: النصف."
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه سمع النبي - ﷺ - يقول في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم
(١) الخازن.
61
خيرها، وأكرمها على الله تعالى".
أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". أخرجه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "إنَّ الله لا يجمع أمتي، أو قال: أمة محمَّد - ﷺ - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار". أخرجه الترمذي.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا، الفتن والزلازل والقتل". أخرجه أبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه: "مثل أمتي كمثل المطر، لا يدرى آخره خير أم أوله". أخرجه الترمذي.
وله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "أهل الجنة عشرون ومئة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من أمتي من يشفع في الفئام من الناس، ومنهم من يشفع في القبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للواحد". أخرجه الترمذي.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفًا، أو سبع مئة ألف سماطين (١) متماسكين، آخذ بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". أخرجه البخاري.
﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾؛ أي: ولو آمنت اليهود والنصارى بمحمد - ﷺ -
(١) سماطين: أي صفين.
62
وبما جاء به من الدين إيمانًا كاملًا كإيمانكم ﴿لَكَانَ﴾ ذلك الإيمان ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ مما هم عليه من اليهودية والنصرانية، وإنما حملهم على ذلك حب الرياسة، واستتباع العوام، ولو أنهم آمنوا.. لحصلت لهم الرياسة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة، وهو دخول الجنة، فكان ذلك خيرًا لهم مما قنعوا به ﴿مِنْهُمُ﴾؛ أي: من أهل الكتاب ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ بمحمد - ﷺ - كعبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من اليهود، والنجاشي، وأصحابه الذين أسلموا من النصارى ﴿وَأَكْثَرُهُمُ﴾؛ أي: أكثر أهل الكتاب ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ في أديانهم، فيكونون مردودين عند الطوائف كلهم؛ لأن المسلمين لا يقبلونهم لكفرهم، والكفار لا يقبلونهم، لكونهم فاسقين، فيما بينهم؛ فليسوا بمن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء
١١١ - ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾؛ أي: لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود ﴿إِلَّا أَذًى﴾؛ أي: إلا ضررًا يسيرًا باللسان، لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم إما بطعنهم في دينكم أو نبيكم، وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم عزير ابن الله، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين فلا يصل إليكم منه شيء، وإنما هو مجرد لقلقة اللسان. قيل: سبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود عمدوا إلى من آمن منهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾.
والمعنى: أن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر عليكم، بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح، والطعن في الدين، وإلقاء الشبهات، وتحريف النصوص التي في التوراة، والخوض في النبيّ - ﷺ - ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾؛ أي: وإن يقابلوكم في ميدان القتال ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾؛ أي: يجعلوا أدبارهم وظهورهم مولى إلى جهتكم، وينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء، والمنهزم من شأنه أن يحول ظهره إلى جهة مقاتله، ويستدبره في هربه منه، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه ﴿ثُمَّ﴾ بعد انهزامهم من قتالكم ﴿لَا يُنْصَرُونَ﴾ عليكم أبدًا؛ أي: لا يجدون الشوكة والقوة والنصرة عليكم أبدًا ما داموا على فسقهم ودمتم على خيرتكم، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله.
١١٢ - ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾؛ أي: جعلت الذلة والصغار والهوان على اليهود، بأن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم، وتسبى ذراريهم، وتملك أراضيهم، وقيل: الذلة ضرب الجزية عليهم؛ لأنها ذلة وصغار، وقيل: ذلتهم أنك لا ترى في اليهود ملكًا قاهرًا، ولا رئيسًا معتبرًا، بل هم مستضعفون في جميع البلاد، ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾؛ أي: حيثما وجدوا وصودفوا؛ فلا يقدرون أن يقوموا مع المؤمنين ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾: أي؛ إلا بعهد من الله، وهو أن يسلموا؛ فتزول عنهم الذلة ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: أو بعهد من المؤمنين ببذل الجزية، والمعنى: ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل الناس، وهو ذمة الله، وعهده، وذمة المسلمين وعهدهم، لا عز لهم أبدًا إلا في هذه الحالة الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من بذل الجزية وإنما سمي العهد حبلًا؛ لأنه سبب يوصل إلى الأمن، وزوال الخوف.
﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: استوجبوا، واستحقوا غضبًا من الله، ولعنة منه، وغضب الله تعالى ذمه إياهم في الدنيا، وعقوبته لهم في الآخرة ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير خارجين منها، يعني: جعل عليهم زي الفقر، واليهود في غالب الأحوال مساكين، تحت أيدي المسلمين والنصارى. فاليهودي، وإن كان غنيا موسرًا يظهر من نفسه الفقر. ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من ضرب الذلة، والمسكنة، وغضب الله ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: ينكرون آيات الله الناطقة بنبوة محمَّد - ﷺ - يحرفونها، وسائر الآيات القرآنية ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾؛ أي: بلا جرم، فإن الذين قتلوا الأنبياء، أسلافهم، وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم، فنسب إليهم، كما أن التحريف من أفعال أحبارهم، ينسب إلى كل من يتبعهم، والتقييد بغير حق، مع أنه كذلك في نفس الأمر للدلالة على أنه لم يكن حقًّا بحسب اعتقادهم أيضًا، وللتشنيع عليهم، وللدلالة على أن ذلك حدث منهم عن عمد لا عن خطأ ﴿ذَلِكَ﴾ الكفر والقتل ﴿بِمَا عَصَوْا﴾؛ أي: بسبب كثرة عصيانهم، ومخالفتهم لأوامر الله تعالى، وغشيانهم لمعاصي الله، كالاصطياد في يوم السبت مثلًا ﴿و﴾ بما ﴿كانوا يعتدون﴾؛ أي: يتجاوزون
64
حدود الله باستحلال المحارم؛ أي؛ ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم حدود الله تعالى؛ فنزل بهم ما نزل.
وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها، فالعصيان والاعتداء هو عين الكفر، وقتلهم الأنبياء، ويحتمل أنها ليست مؤكدة بل هي علة للعلة؛ أي: فعلة ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب من الله: كفرهم، وقتلهم الأنبياء، وعلة الكفر، والقتل: عصيانهم أمر الله وتجاوزهم الحد.
وقال بعض العارفين: من ابتلي بترك الآداب.. وقع في ترك السنن ومن ابتلي بترك السنن.. وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة.. وقع في اسحقار الشريعة، ومن ابتلى بذلك.. وقع في الكفر.
الإعراب
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
﴿وَلْتَكُنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ لام الأمر، مبنية على السكون لسبقها بعاطف والأصل فيها: البناء على الكسر كما في قوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ﴾ وإنما حركت حينئذٍ؛ لكونها على حرف واحد، ولتعذر الابتداء بالساكن، وكانت الحركة كسرة للفرق بينها وبين لام القسم، والالتباس بينها وبين لام الجر يندفع بالمقام؛ لأن هذه لا تدخل إلا على الفعل، وتلك إلا على الاسم، كما ذكرته في "الفتوحات القيومية على متن الآجرومية" ﴿تكن﴾ فعل مضارع تام، أو ناقص مجزوم باللام. ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلق به، أو خبر لـ ﴿تكن﴾ إن قلنا ناقصة. ﴿أُمَّةٌ﴾ فاعل، أو اسمٌ لها، والجملة مستأنفة. ﴿يَدْعُونَ﴾ فعل وفاعل. ﴿إِلَى الْخَيْرِ﴾ متعلق به، والجملة صفة لـ ﴿أُمَّةٌ﴾، وجملة ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وكذلك جملة ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ معطوفتان على جملة ﴿يَدْعُونَ﴾ على كونهما صفة لـ ﴿أُمَّةٌ﴾. ﴿وَأُولَئِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿أولئك﴾ مبتداء. ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل. ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبر، والجملة مستأنفة.
65
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، أو عاطفة. ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَكُونُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿كَالَّذِينَ﴾ جار ومجرور خبره، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ﴾. ﴿تَفَرَّقُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. وجملة قوله: ﴿وَاخْتَلَفُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿تَفَرَّقُوا﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور تنازع فيه كل من ﴿تَفَرَّقُوا﴾ ﴿وَاخْتَلَفُوا﴾. ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة صلة ﴿مَا﴾ المصدرية ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد مجيء البينات إياهم. ﴿وَأُولَئِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿أولئك﴾ مبتدأ أول ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ ثانٍ مؤخر، وسوغ الابتداء، تقدم الخبر الظرفي عليه ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾.
﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: أذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة، ويجوز: أن يكون الظرف متعلقًا بـ ﴿عَظِيمٌ﴾، أو للاستقرار في ﴿لَهُمْ﴾ كما ذكره أبو البقاء. ﴿تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. وجملة ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ معطوفة على جملة ﴿تَبْيَضُّ﴾.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الناس في القيامة فريقان: فرقة تبيض وجوههم، وفرقة تسود وجوههم، وأردت بيان مأوى الفريقين فأقول لك ﴿أما الذين﴾ ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، وخبر المبتدأ، محذوف تقديره: فيلقون في النار، أو يكونون في النار، والجملة من المبتدإ، والخبر جواب ﴿أمَّا﴾ لا محل لها من
66
الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقولٌ لجواب، إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي، وقال أبو حيان: الاستفهام، فيه للتقرير والتوبيخ والتعجيب ﴿كفرتم﴾ فعل وفاعل. ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق ﴿بكفرتم﴾، وجملة الاستفهام في محل النصب مقول لقول محذوف معطوف على الخبر المحذوف تقديره؛ ويقال لهم توبيخًا: أكفرتم بعد إيمانكم. ﴿فَذُوقُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة تفريعية. ﴿ذوقوا العذاب﴾ فعل وفاعل ومفعول، فالجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ على كونها مقولًا لقول محذوف. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب. ﴿ما﴾ مصدرية. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿تَكْفُرُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾؛ وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿لما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور ﴿بالباء﴾ تقديره: بسبب كفركم، الجار والمجرور متعلق ﴿بذوقوا﴾.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿أَمَّا﴾ حرف شرط. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها. ﴿في رحمة الله﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: فكائنون في رحمة الله والجملة الإسمية جواب ﴿أما﴾، وجملةُ ﴿أما﴾ في محل النصب معطوفة على جملة، ﴿أما﴾ الأولى ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾ المذكور بعده. ﴿خَالِدُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة دالةٌ على أَنَّ الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود، فلا تعلقَ لها بالجملة قَبلها من حيث الإعراب كما ذكره في "الفتوحات".
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨)﴾.
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ مبتدأ وخبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿نَتْلُوهَا﴾
67
فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلِّق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من آيات الله، ولكنها حالةٌ سببيةٌ تقديره: حالة كوننا تالِينَ إياها. ﴿بِالْحَقِّ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿نَتْلُوهَا﴾ أو مِنْ مفعوله. ﴿وَمَا اللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ حجازية، أو تميمة. ﴿اللَّهُ﴾ اسمها أو مبتدأ. ﴿يُرِيدُ ظُلْمًا﴾ فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ ﴿اللام﴾ زائدة زيدت لتقويةِ معنى العامل كاللام في قوله: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو خبر لِمَا، والجملة الإسمية مستأنفة، ولكنها مرتبطة في المعنى بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لله﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿ما﴾ في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ جار ومجرور صلةٌ لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ معطوفة على ﴿ما﴾ الأولى. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ صلةٌ ﴿لما﴾ أو صفة لها. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿إلى الله﴾ جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية المذكورة قبلها، أو مستأنفة.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ خبر كان ومضاف إليه، وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة ﴿أُخْرِجَتْ﴾ فعلٌ ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾؛ والجملة الفعلية صفة لـ ﴿أُمَّةٍ﴾. ﴿لِلنَّاسِ﴾ متعلق بـ ﴿أُخْرِجَتْ﴾. ﴿تَأْمُرُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب خبر ثان لـ ﴿كان﴾، أو مستأنفة اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ جملة معطوفة على جملة ﴿تأمرون﴾، وكذلك معطوفة عليها جملة قوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ على كونها خبرًا لـ ﴿كان﴾ أو مستأنفة.
﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
68
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لو﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَكَانَ﴾ اللام رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾. ﴿كان﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر فيه تقديره: هو يعود على الإيمان. ﴿خَيْرًا﴾ خبر لـ ﴿كان﴾. ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾ وجملة ﴿كان﴾ جواب ﴿لوَ﴾ لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة لو مستأنفة. ﴿مِنْهُمُ﴾ خبر مقدم. ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)﴾.
﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾ حرف نصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: ﴿إِلَّا﴾ استثناء متصل، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف، والتقدير: لن يضروكم ضررًا إلّا ضررًا يسيرًا، هو الأذى لا نِكايةَ فيه، ولا إِجْحافَ لكم. انتهى. ﴿أَذًى﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بـ ﴿يَضُرُّوكُمْ﴾ لأنه مصدر معنوي له. ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، أو عاطفة. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿يُقَاتِلُوكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول مجزوم ﴿بإنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿يُوَلُّوكُمُ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿أن﴾ على كونه جواب شرط لها ﴿الْأَدْبَارَ﴾ مفعول ثان، وجملة الشرط مستأنفة أو معطوفة على ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف بمعنى ﴿الواو﴾ الاستئنافية. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُنْصَرُونَ﴾ فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ مستأنف، ولم يجزم عطفًا على جواب الشرط؛ لأنه يلزم عليه تغيير المعنى؛ وذلك؛ لأنَّ الله أخبر بعدم نصرتهم مطلقًا، ولو عطفناه على جواب الشرط.. للزم تقييده بمقاتلتهم لنا، مع أنهم غير منصورين مطلقًا قاتلوا أو لم يقاتلوا. انتهى. ويصح أن تكون ﴿ثم﴾ للترتيب الذكري. والجملة معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الشرطية، لا على الجواب فقط. وقال أبو البقاء: هو كلام مستأنف أستؤنف به ليدل على أنَّ الله لا ينصرهم
69
قاتلوا، أو لم يقاتلوا انتهى.
﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾.
﴿ضُرِبَتْ﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق به. ﴿الذِّلَّةُ﴾ نائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَيْنَ﴾ اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بالجواب المحذوف. ﴿مَا﴾ زائدة. ﴿ثُقِفُوا﴾ فعل ونائب فاعل مجزوم بـ ﴿أَيْنَ﴾ على كونه فعلَ شَرْطٍ لها، وجوابها معلوم مما قبلها تقديره أينما ثقفوا ضُرِبَت عليهم الذلة، أو يقال: إنَّ ﴿أَيْنَ﴾ ظرف مجرَّدٌ عن معنى الشرط متعلق بـ ﴿ضُرِبَتْ﴾ فلا جوابَ لها، وجملة ﴿ثُقِفُوا﴾ مضاف إليه لـ ﴿أَيْنَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ من عام الأحوال. ﴿بِحَبْلٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿واو﴾ ﴿ثُقِفُوا﴾ تقديره: ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال إلَّا في حالة كونهم مُتمسكين بحبل من الله، وحبل من الناس. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿حَبْل﴾ تقديره: حبل كائن من الله. ﴿وَحَبْلٍ﴾. معطوف على ﴿حَبْلٍ﴾ ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ صفة لحبلٍ الثاني.
﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾.
﴿وَبَاءُوا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿باءوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿ضُرِبَتْ﴾. ﴿بِغَضَبٍ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿بَاءُوا﴾ والباء للملابسة؛ أى: رجعوا مغضوبًا عليهم، وليس مفعولًا به كمررت بزيد. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ صفة لـ ﴿غَضَبٍ﴾. ﴿وَضُرِبَتْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفةً. ﴿ضُرِبَتْ﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق به ﴿الْمَسْكَنَةُ﴾ نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿أن﴾ حرف نصب وتوكيد و ﴿الهاء﴾ اسمها. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿يَكْفُرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة خبر ﴿كان﴾ تقديره: كانوا كافرين، وجملة ﴿كان﴾ في
70
محل الرفع خبر أنَّ تقديره: بأنهم كافرون، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور ﴿بالباء﴾ تقديره بسبب كفرهم. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَكْفُرُونَ﴾. ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَكْفُرُونَ﴾ على كونها خبرًا لـ ﴿كان﴾. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الضمير في ﴿يَقْتُلُونَ﴾، والتقدير: يقتلونهم مبطلين، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره قتلًا بغير الحق، وعلى كِلَا الوجهين هو توكيد.
﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر ﴿ما﴾ مصدرية. ﴿عَصَوْا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الباء﴾ المتعلقة بخبر محذوف، تقديره: ذلك كائن بسبب عصيانهم، والجملة مستأنفة، ومؤكدة للجملة التي قبلها كما مَر في بحث التفسير ﴿وَكَانُوا﴾ الواو عاطفة ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَعْتَدُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿عصوا﴾ على كونها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الباء﴾ تقديره: ذلك كائنٌ بسبب عصيانهم واعتدائهم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أُمَّةٍ﴾ الأُمة بضم الهمزة: الجماعة دينهم وأمرهم متفق، والطريقة يجمع على أمم. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ ﴿عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ المعروف: هو ما استحسنه الشرع والعقل. والمنكر: ما استقبحه الشرع، والعقل، أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة، والمنكر ما خالفهما أو المعروف الطاعة، والمنكر المعاصي. والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال، والتروك وما عطف عليه خاص. ﴿ابيضت اسودت﴾ ابيض اسود من باب (١) إفعل أصله إفعلل، يدل على ذلك قولهم: اسوددت واحمررت، وشرطه: أن يكون للون أو عيب حسي، كاسود واعوجَّ،
(١) البحر المحيط.
71
واعْورَّ، وأن لا يكون مضعفًا كأحَمَّ الرجل إذا صار محمومًا ولا معتل لامٍ كألمى الرجل إذا حسنت شفته سمرة، وأن لا يكون للمطاوعة، وندر نحو انقاضَّ الحائط وابهار الليل، واشعار الرجل إذا فرق شعره، وشذ ارعوى؛ لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب، مطاوعًا لرعوته بمعنى كففته، وأما زيادة الألف على افعل بأن يقال: افعال كابياضَّ واسواد، فالأكثر أن يقصد به عروض المعنى إذا جىء بها؛ وقد يكون العكس؛ فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ من ادهام، ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى: ﴿تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ واحمر خجلًا.
وَابْيِضَاضُ الوجوه عبارة عن المسرة، واسودادها عبارة عن المساءة، وعلى هذا جاء قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ ﴿بِالْحَقِّ﴾، أي: بالأمر الذي له ثبوت وتحقق، ولا مجال فيه للشبهات و ﴿الظلم﴾: لغة وعرفًا، وضع الشيء في غير موضعه، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ ﴿ضرب﴾ مبني للمفعول، و ﴿الذِّلَّةُ﴾ قائم مقام الفاعل. ومعنى ﴿ضُرِبَتْ﴾ ألزموها، وقضي عليهم بها، والذلة بكسر أوله الصغار، والهوان، والحقارة، والذل بالضم: ضد العز.
﴿الْمَسْكَنَةُ﴾ مفعلة من السكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر. والمسكين مفعيل منه. ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ ألف باء منقلبة عن واو لقولهم باء يبوء مثل: قال، يقول. قال عليه السلام: "أَبوءُ بنعمتك" والمصدر البواءُ ومعناه الرجوع.
﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا﴾ وأصل ﴿عَصَوْا﴾ عصيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان هي والواو، فحذفت لكونها أول الساكنين، وبقيت الفتحة تدل عليها. وأصل العصيان: الشدة يقال: اعتصت النواة، إذا اشتدت. ﴿وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ وأصل ﴿يَعْتَدُونَ﴾ يعتديون ففعل به ما فعل بِـ ﴿يتقون﴾، من الحذف والإعلال، فوزنه يفتعون. والاعتداء المجاوزة من عدا يعدو، فهو افتعال منه، ولم يذكر متعلق العصيان. والاعتداء ليعم كل ما يعصى، ويعتدى فيه.
72
وواو ﴿عَصَوْا﴾ واجبة الإدغام، ومثله فقد اهتدوا، وإن تولوا. وهذا بخلاف ما إذا انضم ما قبل الواو، فإن الضم يقوم مقام الحاجز بين المثلين؛ فيجب الإظهار نحو ﴿آمَنُوا﴾ ﴿وعملوا﴾ ومثله ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ﴾.
البلاغة
﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فيه مجازٌ بالحذف، لأنه حذف من الأفعال الثلاثة المفعول؛ لأن الأصل يدعون الناس، ويأمرونهم وينهونهم، حذفه للإيذان بظهوره، أو للقصد إلى إيجادٍ نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي؛ أي: يفعلون الدعاء إلى الخير. وقوله: يأمرون الخ من عطف الخاص على العام، لإظهار فضلهما على سائر الخيرات. وفي يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فيه من مباحث المعاني قصر صفة على موصوف، حيث قصر الفلاح عليهم.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فيه من أنواع البلاغة: التفصيل بعد الإجمال؛ لأنه تفصيلٌ لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالًا، وتقديم بيان حال الكفار؛ لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم، مع ما فيه من الجمع بين الإجمال، والتفصيل، والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين، كما بدىء بذلك عند الإجمال. ففي الآية من المحسنات البديعية حسن الابتداءِ، وحسن الاختتام حيث بدأ الآية بالبشرى وختمها كذلك.
قال أبو حيان (١): تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة:
منها: الطباقُ بين كلمتي ﴿تبيض﴾ و ﴿تسود﴾، وبين ﴿اسْوَدَّتْ﴾ و ﴿ابْيَضَّتْ﴾، وفي ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ و ﴿ظُلْمًا﴾.
ومنها: التفصيل في قوله: ﴿فأما﴾ و ﴿أَمَّا﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ و ﴿تَكْفُرُونَ﴾.
(١) البحر المحيط.
73
ومنها: تأكيد المظهر بالمضمر في قوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ لأنه أطلق الحال، وأريد المحل أي: ففي الجنة؛ لأنها مكان تنزل الرحمة.
ومنها: التكرار في لفظ الله، ومحسنه أنه في جمل متغايرة المعنى، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل.. أعادت المظهر لا المُضْمَرَ، لأنَّ في ذكره دلالة على تفخيم الأمر، وتعظيمه، وليس ذلك نظيره.
لَا أَرى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ
لاتحاد الجملة لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصدًا للتفخيم.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿نَتْلُوهَا﴾ بالنون لما في إسناد التلاوة للمعظم نفسه من الفخامة والشرف.
ومنها: تلوين الخطاب في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾.
ومنها: التشبيه والتمثيل في قوله: ﴿تَبْيَضُّ﴾ و ﴿وَتَسْوَدُّ﴾ إذا كان ذلك عبارةً عن الطلاقة، والكآبة.
ومنها: الحذف في مواضع.
ومنها: الاستعارة التبعية التخييلية في قوله: ﴿فَذُوقُوا﴾.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿الْعَذَابَ﴾ حيث شبه العذاب بشيء مر يدرك بحاسة الذوق تصورًا بصورة ما يذاق، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الذوق، فإثباته تخييل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
74
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)﴾.
المناسبة
لمَّا وصف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب فيما تقدَّم بذميم الصفات، وقبيح الأعمال، وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم؛ ذكر هنا أنهم ليسوا بدرجة واحدة، وليسوا جميعًا على تلك الشاكلة، بل فيهم من هو متصفٌ بحميد الخصال، وجميل الصفات، لأن فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. ثم ذكر تعالى عقاب الكافرين، وأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم يوم القيامة شيئًا، وأعقب ذلك بالنهي عن اتخاذ أعداء الدين أولياء، ونبه إلى ما في ذلك من الضرر الجسيم في الدنيا والدين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه أحمد، وغيره عن ابن مسعود قال: أخَّر رسول الله - ﷺ - صلاةَ العشاءِ، ثم خرج إلى
75
المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: "أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحدٌ يذكر الله هذه الساعة غيركم، قال: وأنزل الله هذه الآيات ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ حتى بلغ ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾.
هذا، وقد ورد للآية سبب آخر، ففي "مجمع الزوائد" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيه، وأسيد بن سعيه، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود، فآمنوا، وصدقوا، ورغبوا في الإِسلام، قالت أحبار يهود أهل الكفر: ما آمن بمحمد وتبعه إلّا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا.. ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ في ذلك من قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ رواه الطبراني، ورجاله ثقات، ويقال: لا مانع من نزول الآية في الجميع، أو أنه تعدَّد سبب نزولها.
التفسير وأوجه القراءة
١١٣ - ﴿لَيْسُوا﴾؛ أي: ليس جميع أهل الكتاب ﴿سَوَاءً﴾، أي: مستوين، في المساويء والصفات القبيحة، بل منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، أي؛ فليس من آمن منهم كمن لم يؤمن.
وفي قوله (١): ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ قولان:
أحدهما: إنه كلام تام يوقف عليه، والمعني: أنَّ أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾. وقيل: معناه: لا يستوي اليهود، وأمة محمَّد - ﷺ - القائمة بأمر الله الثابتة على الحق.
والقول الثاني: إن قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ متعلق بما بعده، ولا يوقف عليه. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ فيه اختصار، وإضمار، والتقدير: ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ، ومنهم أمةٌ مذمومةٌ غير قائمة، فترك ذكر الأمة الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين.
(١) الخازن.
76
وخلاصة الكلام: ليس أهل الكتاب متساوين في تلك الصفة القبيحة، بل منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، وهذه الجملة كالتأكيد لتلك أعني قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾.
وبعد أن وصف الفاسقين، وذكر سوء أفعالهم.. وصف المؤمنين، ومدحهم بثمانية أوصاف، كلٌّ منها منقبةٌ ومفخريةٌ، يستحق فاعلها الثواب عليها:
الأول منها: ما ذكره بقوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾؛ أي: منهم جماعةٌ مستقيمة على الحق متبعة للعدل، لا تظلم أحدًا، ولا تخالف أمر الدين. وكان من تمام الكلام أن يقال: ومنهم: أمة مذمومة كما مر آنفًا، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين، وتستغني به عن ذكر الآخر، كما قال الشاعر:
دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنّيْ لِأَمْرِهَا مُطِيْعٌ فَمَا أَدْرِيْ أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
يريد: أم غيٌّ، وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلةٌ لإبهامه، والمراد بهذه الأمة: جماعةٌ من اليهود، أسلموا كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيه، وأسيد بن سعيه، وأضرابهم، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس وقال في تفسير الآية: الأمة القائمة: أمة مهتدية قائمةٌ على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
وهذه الآية حجة على أن دين الله واحدٌ على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه مذعنًا وعمل به مخلصًا، وأمر بمعروفٍ ونهى عن منكر فهو من الصالحين.
واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافي ضياع بعض كتبهم، وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث، ويعمل بما علم، ويستمسك به مخلصًا فيه يقال: إنه قائم بالسنة عاملٌ بالحديث.
والثاني والثالث: ما ذكره بقوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾؛ أي: يقرؤون القرآن ساعات الليل، وهم يصلون التهجد في الليل، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع، والخشوع، ودلَّت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل، وقد جاء في كتاب الله ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ
77
اللَّيْلَ}. وفي الحديث: "يا عبد الله لا تَكَنُ مثلَ فلان كان يقوم الليل فتركه إلى غير ذلك".
١١٤ - وذكر الرابع والخامس بقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ أي: يؤمنون إيمان إذعانٍ بهما على الوجه المقبول عند الله، ومن ثمراتِ ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم لا إيمانًا لا حظَّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى، كما هو حال سائر اليهود؛ إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر لكنه إيمان هو والعدم سواءٌ، لأنهم يقولون: عزيرُ ابن الله، ويكفرون ببعض الرسل، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته.
ولمَّا كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير للعمل به، وكان أفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل العلوم معرفة المبدإ، والمعاد، وصفهم الله بقوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾ للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال، وبقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم.
وذكر السادس بقوله: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أي: إنهم بعد أن كمَّلُوا أنفسهم علمًا وعملًا كما تقدم يسعون في تكميل غيرهم، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي بأمرهم بالمعروف، أو بمنعهم عمَّا لا ينبغي بالنهي عن المنكر.
وفي هذا تعريضٌ باليهود المداهنين الصادين عن سبيل الله.
وذكر السابع بقوله: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾؛ أي: يبادرون فيها، ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علمًا منهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها، وإنما يتباطأُ الذين في قلوبهم مرضٌ كما وصف الله المنافقين بقوله: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ فالمسارعة في الخير ناشئةٌ عن فرط الرغبة فيه؛ لأن من رغب في أمر بادر إليه، وإلى القيام به، وآثر الفور على التراخي، وجاء في الحديث: "اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك". وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية، وفي ذكرها تعريض باليهود
الذين يتثاقلون عن ذلك، وعبر بالسرعة، ولم يعبر بالعجلة؛ لأن الأولى: التقدم فيما ينبغي تقديمه وهي محمودةٌ وضدها الإبطاء، والثانية: التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: "العجلة من الشيطان، والتأنِّي من الرحمن" وضدها الأناة، وهي محمودةٌ.
وذكر الثامن بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: وأولئك المصوفون بالصفات السبعة السابقة، هم من الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم؛ فرضيهم ربهم، وفي هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره. والوصف بالصلاح: هو غاية المدح، ونهاية الشرف والفضل، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس، وذي الكفل فقال: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وقال حكاية عن سليمان: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ ولأنه ضد الفساد، الذي لا ينبغي في العقائد، والأفعال، فهو حصول ما ينبغي في كل منهما، وذلك منتهى الكمال ورفعة القدر وعلو الشأن.
١١٥ - ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو بالياء في الفعلين؛ لأن الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب؛ فإن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان.. قال تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا﴾؛ أي: عبد الله بن سلام وأصحابه ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: إيمان وطاعة، وقيل: من إحسان إلى محمَّد وأصحابه ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ أي: فلن يحرموا ثوابه بل يثابوا عليه، وهذه قراءة ابن عباس. وقرأ نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو بكر بالتاء فيهما، على الخطاب لجميع المؤمنين الذين من جملتهم هؤلاء أي: وما تفعلوا معاشر المؤمنين من خير.. فلن تمنعوا ثوابه وجزاؤه بل تجازُوا عليه.
وهذه الجملة جاءت ردًّا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم: أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان، وإشارةً إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى، والدرجات العليا، وفيها تعظيمٌ لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ فهو يجزي العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم، وما تنطوي عليه سرائرهم، فمن كان إيمانه صحيحًا، واتَّقى الله.. فازَ بالسعادة، وفيه بشارةٌ لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده تعالى إلّا أهل التقوى.
وهذه الجملة كالدليل لما قبلها؛ لأن عدم الإثابة المعبَّر عنه بالكفر، إمَّا للسهو والنسيان، واما للجهل، وذلك ممتنع في حقه تعالى؛ لأنه عليم بكل شيء، وإما للعجز أو البخل أو الحاجة، وكل ذلك محال عليه؛ لأنه خالق جميع الكائنات، وهو القادر على كل شيء. ولما انتفى كل هذا.. كان المنع من الجزاء محالًا.
١١٦ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا بَيَّن فيما سلف أحوال الكافرين، وما يحيق بهم من العقاب وأحوال المؤمنين، وما أعدَّ لهم من الثواب جامعًا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة، والمفاخر التي عددها لهم.. أتبع ذلك بوعيد الكفار، وتيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه، ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه في هذه الحياة الدنيا في لذاتهم وجاههم، وتأييد كلمتهم لا يفيدهم شيئًا كزرع أصابته ريح فيها صر فأهلكته فلم يستفد أصحابه منه شيئًا.
والمعنى: إن الذين كفروا من أهل الكتاب ومشركي مكة، وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبيَّ - ﷺ - وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمَّد على الحق.. ما تركه ربه في هذا الفقر الشديد، ويتفاخرون بكثرة الأموال، والأولاد كما حكى الله تعالى عنهم ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ لن تدفع عنهم هذه الأموال، والأولاد يوم القيامة شيئًا من عذاب الله، ولن تنفعهم في الآخرة. واقتصر على ذكرهما؛ لأنهما من أعظم النعم ومن كان يرتع في بحبوحة هذه النعم فقلما يوجه نظره إلى طلب الحق، أو يصغي إلى الداعي إليه، ومن ثم تراه يتخبط في ظلام دامس حتى يتردَّى في الهاوية، ويقع في المهالك، ولا ينفعه مال
ولا ولد يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم يوضع الميزان ويحاسب كل امرىءٍ، على النقير والقطمير ﴿وَأُولَئِكَ﴾ الكفار.
المذكورون هم ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ وملازموها ﴿هُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في النار ﴿خَالِدُونَ﴾؛ أي: دائمون لا يخرجون منها ولا يموتون.
وقيل: إنما خصَّ الله سبحانه وتعالى الأموال والأولاد بالذكر؛ لأن أنفع الجمادات هو الأموال، وأنفع الحيوانات هو الولد. ثم بين تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما البتة في الآخرة وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى.
١١٧ - وبعد ما بين سبحانه وتعالى: أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئًا... ذكر أن ما ينفقونه من المال في سبيل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به، وضرب لذلك مثلًا فقال: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ أي: صفة ما ينفقه الكفار ﴿فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ في المفاخر والمكارم، وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس، أو ينفقونه في سبيل الخيرات كبناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل. وقرأ ابن هرمز (١) الأعرج ﴿تنْفِقُونَ﴾ بالتاء على معنى: قل لهم قيل (٢): أراد نفقة أبي سفيان، وأصحابه ببدر، وأحد في معاداة النبي - ﷺ - وقيل: أراد نفقة اليهود على علمائهم، ورؤسائهم، وقيل: أراد نفقات جميع الكفار، وصدقاتهم في الدنيا، وقيل: أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بما ينفق وجه الله تعالى؛ وذلك لأنَّ إنفاقهم المال إما أن يكون لمنافع الدنيا، أو لمنافع الآخرة، فإن كان لمنافع الدنيا.. لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم، فضلًا عن الكافر، وإن كان لمنافع الآخرة كمن يتصدق، ويعمل أعمال البر، فإن كان كافرًا.. فإنَّ الكفر محبط لجميع أعمال البر؛ فلا ينتفع بما أنفق
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
81
في الدنيا لأجل الآخرة، وكذلك المرائي الذي لا يريد بما أنفق وجه الله تعالى؛ فإنه لا ينتفع بما ينفقه في الآخرة.
ثم ضرب مثلًا لذلك الإنفاق فقال: ﴿كَمَثَلِ﴾ مصاب ﴿رِيحٍ﴾ شديدٍ ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الريح ﴿صِرٌّ﴾؛ أي: حر شديد ويسمى بالسموم أو برد شديدٌ ويسمى بالزمهرير ﴿أَصَابَتْ﴾ تلك الريح ﴿حَرْثَ قَوْمٍ﴾؛ أي: زرع قوم، وسمي الزرع حرثًا لأنه يحرث عند زرعه ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي؛ خسروا أنفسهم بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله تعالى فيه ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾؛ أي: فأحرقت تلك الريح الزرع، كذلك الشرك يهلك النفقة كما أهلكت الريح الزرع.
ومعنى الآية (١): مثل نفقات الكفار في ذهابها، وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته، أو نار فأحرقته، فلم ينتفع به أصحابه.
وقيل المعنى (٢): مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للزرع، أو مثل الكافر الذي أنفق أمواله في الخيرات، كبناء الرباطات كمثل من زرع زرعًا، وتوقع منه نفعًا كثيرًا، فأصابته ريح فأحرقته، فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف.
والخلاصة (٣): أن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبةً لهم على ذنوب اقترفوها؛ إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن، وربط الأسباب بمسبباتها في عالم الحسِّ أن يوفِّقَ بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط بين الناس، لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر، والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهيُّ.
ونحن نسمي ما يترتب عليه حدوث الشيء سببًا له وما يلابس السبب من النفع لبعض والضر لآخرين حكمة له، وكل مقصودٌ للفاعل الحكيم.
(١) الخازن.
(٢) مراح.
(٣) مراغي.
82
﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى بعدم انتفاعهم بنفقاتهم ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾؛ أي: ولكن الكفار المنفقين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال في السبل التي تؤدي إلى الخيبة والخسران على النهج الذي سنه الله تعالى في أعمال الإنسان؛ لأنّ الآية نزلت فيما ينفقه أهل مكة أو ينفقه اليهود في عداوة النبي - ﷺ - ومقاومته، لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم، ولم يضروا النبيَّ - ﷺ - ومن معه بل كان ذلك سبب سيادته عليهم وتمكنه منهم.
أو المعنى (١): وما ظلمهم الله بذهاب منفعة زرعهم ونفقاتهم، ولكن أنفسهم يظلمون بالكفر، ومنع حق الله تعالى من الزرع.
وقرىء (٢) شاذا ﴿وَلَكِنَّ﴾ بالتشديد، واسمها ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ والخبر ﴿يَظْلِمُونَ﴾، والمعنى: يظلمونها هم، وحسن حذف هذا الضمير وإن كان الحذف في مثله قليلًا كون ذلك فاصلة رأس آية؛ فلو صرح به لزال هذا المعنى، ولا يجوز أن يعتقد أن اسم ﴿لكن﴾ ضمير الشأن، وحذف، و ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعولٌ بـ ﴿يَظْلِمُونَ﴾ لأنَّ حذف هذا الضمير يختص بالشعر ذكره أبو حيان.
١١٨ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نزلت هذه الآية في شأن رجال من المؤمنين يشاورون اليهود في أمورهم، لما كان بينهم من الرضاع، والحلف ظنًّا منهم أنهم ينصحون لهم في أسباب المعاش، فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه كما قاله ابن عباس، أو في رجال من المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين فيفشون إليهم الأسرار، ويطلعونهم على الأحوال، فالله تعالى منعهم عن ذلك كما قاله مجاهد.
أي: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بمحمد - ﷺ - وما جاء به ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾ وتجعلوا لأنفسكم ﴿بِطَانَةً﴾؛ أي: خواصَّ، وأصفياء، وأصدقاء تباطنونهم في الأمور وتطلعونهم على سركم كائنين ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾؛ أي: من غيركم أي: من غير أهل ملتكم من الكفار والمنافقين ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾؛ أي: لا يقصرون لكم ولا يتركون جهدهم، وطاقتهم في مضرتكم، وفسادكم، وعداوتكم؛ أي: ليس عندهم
(١) تفسير ابن عباس.
(٢) البحر المحيط.
83
تقصيرٌ في ذلك بل هو شأنهم وديدنهم ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾؛ أي: أحبوا وتمنوا عنتكم ومشقتكم وضرركم في دينكم، ودنياكم أشد الضرر أي؛ فإن الكفار لا يقصرون لكم في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه أحبوا بقلوبهم إلقاءَكم في أشد أنواع الضرر ﴿قَدْ بَدَتِ﴾ وظهرت ﴿الْبَغْضَاءُ﴾ والعداوة لكم ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ وألسنتهم بالوقيعة في أعراضكم والشتيمة لكم، والتكذيب لنبيكم وكتابكم، والنسبة لكم إلى الحمق والجهل لأنهم لا يتمالكون ضبط أنفسهم مع مبالغتهم في ضبطها، ومع ذلك يتفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغض المسلمين، فهم لا يكتفون ببغضكم، وقرأ عبد الله ﴿قَدْ بَدَا﴾ لأنَّ الفاعل مؤنث مجازًا، أو على معنى البغض ﴿وَمَا تُخْفِي﴾ وتستر وتضمر ﴿صُدُورُهُمْ﴾ وقلوبهم من الحقد والبغض والعداوة والغيظ لكم ﴿أَكْبَرُ﴾؛ أي: أعظم وأشد مما يظهرونه لكم على ألسنتهم؛ لأنَّ فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلةٌ جدًّا. ثم إنه سبحانه وتعالى امتنَّ عليهم ببيان الآيات، والعلامات الدالة على عداوتهم كما قال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: أوضحنا وأظهرنا لكم العلامات الدالة على عدواتهم وحسدهم لكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وتفهمون تلك العلامات أي: إن كنتم من أهل العقول المدركة لذلك البيان.
وذكر (١) سبحانه وتعالى في هذه الآية من تلك العلامات أربعًا:
الأولى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾؛ أي: لا يقصرون في مضرتكم وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
والثانية: يتمنون ضركم في دينكم، ودنياكم أشد الضرر.
والثالثة: يبدون البغضاء بأفواههم، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل.
والرابعة: كون ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه.
(١) المراغي.
84
فهذه الأوصاف شروط في النهي عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين فإذا اعتراها تغير وتبدلٌ كما وقع من اليهود، فبعد أن كانوا في صدر الإِسلام أشد الناس عداوةً للذين آمنوا انقلبوا؛ فصاروا عونًا للمسلمين في فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونًا للمسلمين على الروم في فتح مصر؛ فلا يمنع حينئذٍ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم وجرى الخلفاء من بعده على ذلك.
وقيل: معنى قوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾؛ أي: قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو ومن يصح أن يتخذ بطانة، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء، وتعلمون قدر مواعظ الله، وحسن عواقبها.
ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعًا آخرَ من التحذير عن مخالطة الكافرين، واتخاذهم بطانةً، وفيه تنبيهٌ للمسلمين على خطئهم في ذلك، وقد ضمنه أمورًا ثلاثة كل منها يستدعي الكف عن مخالطتهم:
١١٩ - الأول منها: ما ذكره بقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾؛ أي: انتبهوا أنتم يا معشر المؤمنين المخطئين في موالاتهم تحبونهم، وتودونهم بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة، والمصاهرة، وبسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان ومحبة الرسول محمَّد - ﷺ -، وذلك بأن تفشوا إليهم أسراركم ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ بسبب المخالفة في الدين، وبسبب أن الكفر مستقر في باطنهم أي: لا يفشون أسرارهم إليكم.
والمعنى (١): إنكم يا معشر المؤمنين تحبون هؤلاء - الكفار - الذين هم أشد الناس عداوةً لكم، ولا يقصرون في إفساد أمركم وتمني عنتكم، ويظهرون لكم العداوة والغش، ويتربصون بكم ريب المنون، فكيف توادونهم وتواصلونهم.
(١) المراغي.
85
والثاني منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾؛ أي: وإنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب سواءٌ منها ما نزل عليكم، وما نزل عليهم فليس في نفوسكم جحدٌ لبعض الكتب الإلهية، ولا للنبيين الذين جاءوا بها حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب، أما هم: فيجحدون بعض الكتب، وينكرون بعض النبيين.
وخلاصة الكلام: أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؛ فأنتم أحرى، ببغضهم، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم. قال ابن جرير (١): في الآية، إبانةٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ عن حال الفريقين، أعني: المؤمنين، والكافرين، ورحمة أهل الإيمان، ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان، انتهى.
وقال قتادة: فوالله إنَّ المؤمن ليحب المنافق، ويأوي إليه ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأَبادَ خضراءه وأفناه وأهلكه.
وفي هذا: توبيخٌ للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم.
والثالث منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾؛ أي: وإذا لقيكم يا معاشر المؤمنين هؤلاء المنافقون من اليهود وغيرهم، واجتمعوا معكم في المجالس ألانوا لكم القول حذرًا على أنفسهم منكم، و ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ وصدقنا بما جاء به محمدٌ - ﷺ - فإن نعته في كتابنا ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾؛ أي: وإذا خلا بعضهم ببعضٍ، وانفردوا عنكم، ورجعوا، وصاروا في مكان خال، بحيث لا يراهم المؤمنون ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾؛ أي: عضوا الأنامل لأجل الغيظ والغضب عليكم. ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: أكلوا أطراف أصابعهم؛ لأجل شدة غيظهم وغضبهم عليكم.
(١) طبري.
86
والمعنى: وإذا رجع بعضهم إلى بعض أظهروا شدة العداوة على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كنايةً عن الغضب، حتى يقال في الغضبان: إنه يعضُّ يده غيظًا، وإن لم يكن هناك عضٌّ. والعرب تصف المغتاظ، والنادم بعضِّ الأنامل، والبنان، وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم ونصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلًا إلى التشفي منهم، فاضطروا إلى مداراتهم.
﴿قُلْ﴾ لهم: يا محمَّد ﴿مُوتُوا﴾ ملتبسين ﴿بِغَيْظِكُمْ﴾ وغضبكم، وهذا أمرٌ من الله تعالى لنبيه - ﷺ - بأن يدعو عليهم بدوام ما يوجب هذا الغيظ، وهو قوة الإِسلام، وأن يدعو عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون، وليس أمرًا بالإقامة على الغيظ؛ فإن الغيظ كفرٌ، والأمر بالكفر غير جائز، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ أنه تعالى أمر رسوله بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظًا بإعزاز الإِسلام، وإذلالهم به كأنه قيل: حدث نفسك بذلك.
﴿إنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: عالمٌ بما في القلوب؛ فيعلم ما تنطوي عليه صدوركم أيها المنافقون من البغضاءِ، والحقدِ، والحسد، ولا يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم، وما يبديه بعضكم لبعضٍ من تدبير المكائد، ونصب الحيل للمؤمنين، وما تنطوي عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم، ويجازي كلا على ما قدم من خير أو شر، واعتقد من إيمان أو كفر.
ومعنى قوله: ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: بالمضمرات ذوات الصدور، وجعلت صاحبة للصدر لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها نحو أصحاب الجنة، وأصحاب النار
١٢٠ - ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾؛ أي: إن تصبكم منفعة الدنيا كانتصاركم على أعدائكم المقاومين المعارضين لدعوتكم، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وكصحة البدن، وحصول الخصب، والفوز بالغنيمة ﴿تَسُؤْهُمْ﴾؛ أي:
87
تحزنهم تلك الحسنة ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾؛ أي: مضرة كمرض، وفقر، وانهزام من عدو، وقتل، ونهب، وغارة وحدوث اختلاف بين جماعتكم ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾؛ أي: بإصابتها إياكم؛ أي: يسر المنافقون من اليهود، وغيرهم بتلك المصيبة التي أصابتكم، فإنهم متناهون في عداوتكم فاجتنبوهم. فالحسنة (١) هنا: ما يسر من رخاءٍ، وخصبٍ، ونصرة، وغنيمة، ونحو ذلك من المنافع، والسيئة ضد ذلك.
قال (٢) قتادة في بيان ذلك: فإذا رأوا من أهل الإِسلام ألفة وجماعةً وظهورًا على عدوهم غاظهم ذلك، وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإِسلام فرقةً واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف بلاد المسلمين سرهم ذلك، وأعجبوا به، وابتهجوا، وهم كلما خرج منهم قرن، أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، وذلك قضاء الله تعالى فيمن مضى منهم، وفيمن بقي إلى يوم القيامة انتهى.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على عداوتهم، وإذايتهم، وقيل: إن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر ﴿وَتَتَّقُوا﴾؛ أي: تخافوا موالاتهم، وتتوكلوا في أموركم على الله أو تتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم، ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ أيها المؤمنون، ولا ينقصكم ﴿كَيْدُهُمْ﴾؛ أي: كيد الكفار ومكرهم وحيلتهم التي دبروها لأجلكم ﴿شَيْئًا﴾ من الضرر بفضل الله عَزَّ وَجَلَّ، وحفظه الموعود للصابرين، والمتقين؛ لأنكم قد وفيتم الله بعهد العبودية فهو يفي لكم بحق الربوبية، ويحفظكم من الآفات، والمخافات كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ والكيد: احتيال الشخص ليقع غيره في مكروه. قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك، فاجتهد في اكتساب الفضائل. وقد جرت سنة الله في القرآن أن يذكر الصبر في كل مقامٍ يشق على النفس احتماله، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده، وعشيره، ومعامله، وقريبه، مما يشق عليه، فإن من لذات النفوس أن تفضي بما
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
88
في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به.
ولمَّا نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم، من خلطائهم، وعشرائهم، وحلفائهم، لما بدا منهم من البغضاء والحسد، حسن أن يذكرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم، واتقاء ما يجب اتقاءه للسلامة من عواقب كيدهم.
وفي الآية عبرة للمسلمين في معاملة الأعداء؛ فإنَّ الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين، واتقاءِ شرهم، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله؛ إذ من دأب القرآن أن لا يأمر إلا بالمحبة، والخير، ودفع السيئة بالحسنة كما قال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
فإن تعذر تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها.. جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغي، كما فعل النبيُّ - ﷺ - مع بني النضير؛ فإنه حالفهم، ووادَّهم فنكثوا العهد، وخانوا، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب، وحاولوا قتله، فلم يكن هناك وسيلةٌ لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم.
وقرأ الجمهور (١) ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ بالتاء، وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل؛ لأن تأنيث الحسنة مجازيٌّ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة في رواية عنه: ﴿لَا يَضِرْكُمْ﴾ بفتح الياء وكسر الضاد، وسكون الراء من ضار يَضِير، ويقال: ضار يضور، وكلاهما بمعنى ضَرَّ. وقرأ الكوفيون، وابن عامر ﴿لا يضُرُّكم﴾ بضم الضاد والراء المشددة على الجزم بسكون مقدر للإتْباع من ضر يضر. وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه بضم الضاد، وفتح الراء المشددة للتخفيف، وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد. والفتح: هو الكثير المستعمل. وقرأ الضحاك بضم الضاد، وكسر الراء المشددة على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أُبي ﴿لا يضرركم﴾ بفك الإدغام، وهي لغة أهل الحجاز: وعليها في الآية ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ بـ ﴿الياء﴾ باتفاق القراء
(١) البحر المحيط.
89
العشرة؛ أي: بما يعمل المنافقون من عداوتهم ومكرهم، وإذايتهم إياكم ﴿مُحِيطٌ﴾ فيعاقبهم عليه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وهي قراءة شاذة بـ ﴿التاء﴾ الفوقية، والمعنى عليها: إنه تعالى عالم بما تعملون من الصبر والتقوى وغيرهما، فيفعل بكم أيها المؤمنون ما أنتم مستحقون له.
والمعنى (١): إنه تعالى عالم بعمل الفريقين، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما، ومقدماته، ونتائجه، وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعلمه ذلك المحيط بعمله، وعمل من يناهضه ويناصبه العداوة، فهداية الله للمؤمنين خير وسيلةٍ للوصول إلى أغراضهم، ومآربهم. وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر، والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
وخلاصة المعنى: أن الله قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم، فعليكم أن تمتثلوا، وتعلموا أنه محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم فثقوا به، وتوكلوا عليه.
الإعراب
﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾.
﴿لَيْسُوا﴾ فعل ناقص، واسمه ﴿سَوَاءً﴾ خبرها، وجملة ﴿ليس﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة. ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم. ﴿أُمَّةٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿قَائِمَةٌ﴾ صفة له. والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وفي "الفتوحات" قوله (٢): ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ استئنافٌ مبين لكيفية عدم تساويهم، ومزيلٌ لما فيه من الإبهام كما أن ما سبق من قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الخ مبين لقوله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ الخ. انتهى.
﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾.
(١) المراغي.
(٢) جمل.
90
﴿يَتْلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية صفة ثانية لـ ﴿أُمَّةٌ﴾. ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَتْلُونَ﴾ ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَسْجُدُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَتْلُونَ﴾.
﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَالْيَوْمِ﴾ معطوف على لفظ الجلالة. ﴿الْآخِرِ﴾ صفة لليوم. والجملة الفعلية في محل الرفع بدل من جملة ﴿يتلون﴾ على كونها صفة ثانية لـ ﴿أمة﴾. وقال أبو البقاء: (١) إن شئت.. جعلتها حالًا، وإن شئت.. جعلتها مستانفةً انتهى. وقال أبو حيان (٢): والظاهر في ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ أن يكون صفة، أي: تاليةٌ مؤمنةٌ، وجوَّزوا أن تكون الجملة مستأنفةً، أو في موضع الحال من الضمير في ﴿يَسْجُدُونَ﴾، وأن تكون بدلًا من السجود. قيل: لأنَّ السجود بمعنى الإيمان ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿يأمرون﴾ فعل وفاعل ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَيَنْهَوْنَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ينهون﴾ فعل وفاعل ﴿عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَيُسَارِعُونَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿يسارعون﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي الْخَيْرَاتِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾. ﴿وَأُولَئِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿أولئك﴾ مبتدأ. ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.
﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾.
﴿وَمَا يَفْعَلُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿ما﴾ اسم شرط جازم يجزم فعلين في
(١) أبو البقاء.
(٢) البحر المحيط.
91
محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. ﴿يفعلوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بما على كونه فِعْلَ شرط لها. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَفْعَلُوا﴾ أو حال من ما ﴿فَلَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿ما﴾ الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ ﴿لَنْ﴾. ﴿لن﴾: حرف نفي ونصب. ﴿يُكْفَرُوهُ﴾ فعل مضارع، مغير الصيغة منصوب بـ ﴿لن﴾، و ﴿الواو﴾ نائب فاعل له، وهو المفعول الأول، و ﴿الهاء﴾ في محل النصب مفعول ثان له؛ لأنه ضُمِّن معنى حُرم فيتعدى إلى مفعولين، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ما الشرطية من فعل شرطها، وجوابها مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية ﴿الله﴾ مبتدأ ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره ﴿بِالْمُتَّقِينَ﴾ متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿الَّذِينَ﴾ في محل النصب اسمها ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ﴿لَن﴾ حرف نفي ونصب. ﴿تُغْنِيَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿لَن﴾ ﴿عَنْهُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾ زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿أَوْلَادُهُمْ﴾ معطوف على ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور حال من ﴿شَيْئًا﴾ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها، فيعرب حالًا ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به منصوب بـ ﴿تُغْنِيَ﴾.
﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
﴿وَأُولَئِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿أولئك أصحاب النار﴾ مبتدأ وخبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾ وهو خبر عن المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾.
﴿مَثَلُ﴾ مبتدأ، وهو مضاف و ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الجر
92
مضاف إليه. ﴿يُنْفِقُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لِـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد محذوف تقديره: ينفقونه ﴿فِي هَذِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُنْفِقُونَ﴾. ﴿الْحَيَاةِ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عنه. ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾ ﴿كَمَثَلِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة ﴿مثل﴾ مضاف. ﴿رِيحٍ﴾ مضاف إليه ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿صِرٌّ﴾ مبتدأ، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿رِيحٍ﴾. وفي "الفتوحات" (١) ويجوز أن يكون فيها وحده هو الصفة و ﴿صِرٌّ﴾ فاعل به، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف، وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف الإفراد، وهذا قريب منه انتهى.
﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
﴿أَصَابَتْ﴾ فعل ماض، و ﴿التاء﴾ علامة التأنيث، وفاعله ضمير يعود على ﴿رِيحٍ﴾ والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿رِيحٍ﴾. ﴿حَرْثَ قَوْمٍ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به؛ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾ ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿أهلكته﴾ فعل ومفعول. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية ﴿ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾ الواو عاطفة. ﴿لكن﴾ حرف استدراك. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به مقدم على عامله، ومضاف إليه ﴿يَظْلِمُونَ﴾ فعل وفاعل، وجملة الاستدراك معطوفة على جملة النفي.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾.
﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة في محل النصب مبني على الضم. ﴿ها﴾ حرف تنبيه زِيدَت تعويضًا عمَّا فاتَ ﴿أيُّ﴾ من الإضافة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع، أو النصب صفة لـ ﴿أيُّ﴾ وجملة النداء مستأنفة
(١) جمل.
93
﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾ ﴿لا﴾ ناهية. ﴿تَتَّخِذُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم ﴿بلا﴾ الناهية، والجملة، جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿بِطَانَةً﴾ مفعول به. ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه صفة أولى لـ ﴿بِطَانَةً﴾ ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ﴾ ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَأْلُونَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول. و ﴿يَألُو﴾ يتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿بِطَانَةً﴾ ﴿خَبَالًا﴾ منصوب على التمييز، أو على نزع الخافض تقديره: ﴿لا يألونكم﴾ في تخبيلكم، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال ﴿وَدُّوا﴾ فعل وفاعل. ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿عَنِتُّمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لـ ﴿ما﴾ المصدرية. ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره؛ ودوا عنتكم، وجملة ﴿وَدُّوا﴾ من الفعل والفاعل مستأنفة، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير، في ﴿يَأْلُونَكُمْ﴾، و ﴿قد﴾ مقدرةٌ معه حينئذٍ.
﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾.
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿يَأْلُونَكُمْ﴾ ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿بَدَتِ﴾ أو حال من ﴿الْبَغْضَاءُ﴾، تقديره: حالة كون البغضاء ظاهرةً من أفواههم ﴿وَمَا تُخْفِي﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ موصولة في محل الرفع مبتدأ. ﴿تُخْفِي صُدُورُهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما تخفيه. ﴿أَكْبَرُ﴾ خبر المبتدأ والجملة مستأنفة.
﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿بَيَّنَّا﴾ فعل وفاعل ﴿لَكُمُ﴾ جار ومجرور متعلق به ﴿الْآيَاتِ﴾ مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ إن حرف شرط. ﴿كنتم﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها. وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجواب ﴿إنْ﴾ معلوم ممَّا قبلها تقديره: إن كنتم تعقلون فلا توالوهم، وجملة إن الشرطية مستأنفة.
94
﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾.
﴿ها﴾ حرف تنبيه لتنبيه المؤمنين المخاطبين على خطئهم في موالاة الكفار. ﴿أنتم﴾ مبتدأ. ﴿أُولَاءِ﴾ منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء في محل النصب على المفعولية مبني على الكسر لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ وإنما حُرِّك فرارًا من التقاء الساكنين، وكانت الحركة كسرةً لأنها الأصل في حركة التخلص، وجملة النداء معترضةٌ لاعتراضها بين المبتدأ والخبر. ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ الواو حالية ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُحِبُّونَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الهاء في ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ ﴿بِالْكِتَابِ﴾ متعلق بـ ﴿تؤمنون﴾ ﴿كُلِّهِ﴾ توكيد لـ ﴿الكتاب﴾ ومضاف إليه.
﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾.
﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ الواو عاطفة. ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿لَقُوكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، والظرف متعلق بالجواب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرطها، وجوابها في محل الرفع معطوفة على جملة قوله ﴿تحبونهم﴾ على كونها خبر المبتدأ ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿خَلَوْا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرطٍ لها. ﴿عَضُّوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا في محل الرفع معطوفة على جملة قوله ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ على كونها خبر المبتدأ ﴿عَلَيْكُمُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿عضوا﴾. ﴿الْأَنَامِلَ﴾ مفعول به منصوب بـ ﴿عضوا﴾. ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿عضوا﴾ أيضًا. وفي "الفتوحات"
95
قوله ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ خبر عن المبتدإ، وكذلك قوله ﴿وتؤمنون﴾ الخ. وقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ وقوله: ﴿إن يمسسكم﴾ الخ انتهى شيخنا.
﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿مُوتُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِغَيْظِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل تقديره: ملتبسين بغيظكم، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبرها ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليها متعلق بعليم، وجملة إن مستأنفة أو مقول القول لـ ﴿قل﴾.
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾.
﴿إنْ﴾ حرف شرط جازم. ﴿تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جواب شرط لها، والفاعل ضمير يعود على حسنة، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿وَإِنْ تُصِبْكُم﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ على كونها فِعْلَ شرط لها. ﴿يَفْرَحُوا﴾ فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها. ﴿بِهَا﴾ متعلق به، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿تَصْبِرُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فِعْل شرط لها. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الواو عاطفة ﴿تتقوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿تَصْبِرُوا﴾ ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ ﴿لا﴾ نافية. ﴿يضركم﴾ فعل مضارع ومفعول مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه جواب الشرط لها. ﴿كَيْدُهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه ﴿شَيْئًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة مصدر محذوف
96
تقديره: ضررًا شيئًا، وجملة إن الشرطية مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ ﴿إنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُحِيطٌ﴾ الآتي. ﴿يَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: يعملونه. ﴿مُحِيطٌ﴾ هو خبر إن مرفوع وجملة ﴿إنَّ﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ سواء: اسم مصدر بمعنى الاستواء، ويوصف به على أنه بمعنى مستوٍ، فيحتمل حينئذ ضميرًا، ويرفع الظاهر. ومنه قولهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدم، برفع العدم على أنه معطوف على الضمير المستكن في سواء، ولا يثنى ولا يجمع، إما لكونه في الأصل مصدرًا، وإما للاستغناء عن تثنيته بتثنية نظيره، وهو سِيٌ بمعنى مثل تقول: ما سيَّان، أي؛ مثلان ويستعمل للواحد، والمثنى، والجمع بلفظ واحد، فيقال: هما سواء وهم سواءٌ.
﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ الآناء: الساعات، وفي مفردها: لغاتٌ خمسٌ: إنىً كـ (معىً)، وأنىً كـ (فتىً)، وإنىٌ كـ (نحىٌ)؛ وأنىٌ كـ (ظبيٌ)؛ وإنو كجرو. فالهمزة في آناء منقلبة عن ياء على اللغات الأربعة الأولى كرداء، وعن واوٍ على اللغة الأخيرة نحو كساء، وكل واحد من هذه المفردات الخمس يطلق على الساعة من الزمان كما يؤخذ من "القاموس".
﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ الأمة الجماعة، ويجمع على أمم. قائمة: أي مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام أي: استقام ﴿يَتْلُونَ﴾ التلاوة القراءة، وأصلها: الاتباع فكأنها إتباع اللفظ اللفظ.
﴿وَيُسَارِعُونَ﴾ من سارع - من باب فاعل - يسارع مسارعة، ولكن المفاعلة ليست على بابها، بل للمبالغة في معنى الثلاثي. والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه؛ لأن من رغب في الأمر يسارع في توليه والقيام به، والمعنى يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات القاصرة والمتعدية.
97
﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ الصر البرد الشديد المحرق، قاله ابن عباس، وأصله من الصرير الذي هو الصوت من قولهم: صر الشيء إذا صوت، ويراد به الريح الشديدة الباردة.
﴿بِطَانَةً﴾: بطانة الرجل، وكذا وليجته من يعرفه أسراره ثقة به، مشبهٌ ببطانة الثوب يقال: بطن فلان من فلان بطونًا، وبطانة إذا كان خاصًّا به داخلًا في أمره. وفي "الفتوحات" بطانة الرجل خاصته الذين يباطنهم في الأمور، ولا يظهر غيرهم عليها مشتقةٌ من البطن انتهى.
﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ يألونكم من ألا في الأمر يألو من باب دعا وسما إذا قصر فيه، ويقال: لا آلوك نصحًا أي: لا أمنعك نصحًا، ولا آلوك جهدًا أي لا أنقصك جهدًا، ويقال: آلوت في الأمر إذا قصرت فيه. والخبال والخبل: الفساد الذي يلحق الحيوان، يقال في قوائم الفرس؛ خبل وخبال، أي: فسادٌ من جهة الاضطراب؛ والخبال أيضًا النقصان، ومنه رجلٌ مخبول ومخبلٌ، ومختبلٌ إذا كان ناقصَ العقلِ ويقال: خَبَل من باب ضرب فهو خابل، وخبله بالتشديد فهو مخبل. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ يقال: ود الشيء إذا أحبه. والعنت المشقة، وشدة الضرر. وقال الراغب: هنا المعاندة والمعانتة متقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة هي: أن يتحرى مع الممانعة المشقة، ويقال: عنت الأمر إذا شق من باب فرح. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ البغضاء مصدر كالسراء، والضراء يقال: منه بغض الرجل، فهو بغيض كالظريف كظرف فهو ظريف.
﴿والأفواه﴾ معروفة، وهو جمع فم، وأصله فوه فلامه هاء يدل على ذلك جمعه على أفواه، وتصغيره على فويه، والنسب إليه فوهي، وهل وزنه فعل بسكون العين، أو فعل بفتحها؟ خلاف للنحويين انتهى. سمين. وفي الفم تسع لغات، ذكرت في بعض كتب النحو ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ﴾ والعض: وضع الأسنان على الشيء بقوة، والفعل منه على فعل بكسر العين، يقال: عضضت بكسر العين في الماضي: أعض بالفتح في المضارع عضًّا وعضيضًا. والعض كله بالضاد إلا في قولهم: عظ الزمان إذا اشتد، وعظت الحرب إذا اشتدت، فإنهما
98
بالظاء أخت الطاء. والأنامل جمع أنملة، وهي رؤوس الأصابع، وقال ابن عيسى: أصلها النمل المعروف، وهي مشبهة به في الدقة، والتصرف بالحركة ومنه رجل نمل أي: نمام.
وعض الأنامل كناية عن شدة الغيظ والغضب ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ والغيظ: مصدر غاظه يغيظه إذا أغضبه، وفسره الراغب: بأنه أشد الغضب، قال: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من نوازف دم قلبه. ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: بالخواطر القائمة بالقلب، والدواعي التي تدعو إلى الأفعال. فذات هنا تأنيث ذي بمعنى صاحبة الصدور، وجعلت صاحبة الصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها.
﴿كَيْدُهُمْ﴾ الكيد المكر، وهو مصدر: كاده يكيده إذا مكر به، وهو الاحتيال بالباطل. قال ابن قتيبة: وأصله المشقة من قولهم: فلان يكيد بنفسه؛ أي: يعالج مشقات النزع وسكرات الموت.
البلاغة
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ أتى بالجملة الإسمية لتدل على الدوام والاستمرار، كما أتى بالجملة الفعلية في قوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿يَسْجُدُونَ﴾ للدلالة على التجدد والحدوث.
والإشارة بالبعيد في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم في الفضل ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ فيه تشبيه تمثيلي حيث شبه ما كانوا ينفقونه في المفاخر، وكسب الثناء بالزرع الذي أصابته الريح العاصفة الباردة فدمرته وجعلته حطامًا.
﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾ فيه استعارة حيث شبه الأصفياء ببطانة الثوب الملتصقة به، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة الأصلية، والجامع شدة الالتصاق على حد: "الناس دثارٌ والأنصار شعارٌ".
وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآيات ضروبًا من أنواع الفصاحة والبلاغة:
منها: التكرار في قوله: ﴿أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ﴾ والاكتفاء بذكر بعض الشيء
99
عن كله إذ كان فيه دلالة على الباقي في ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿وَيَأْمُرُونَ﴾ ﴿وَيَنْهَوْنَ﴾، وفي قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ و ﴿الْمُنْكَرِ﴾ ويجوز أن يكون طباقًا معنويًّا، وفي قوله: ﴿حَسَنَةٌ﴾ و ﴿سَيِّئَةٌ﴾ و ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ هو ﴿يَفْرَحُوا﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾، و ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾، و ﴿بِطَانَةً﴾ و ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾، و ﴿تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ و ﴿تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ شبه حصولهما بالمس والإصابة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿ظَلَمَهُمُ﴾ و ﴿يَظْلِمُونَ﴾.
ومنها: تسمية الشيء باسم محله في قوله: ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ عبر بها عن الألسنة؛ لأنها محلها.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
100
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم، ثم أمرهم بالصبر والتقوى، وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئًا.. ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد، وما كان فيها من كيد المنافقين، إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا، ثم خرجوا معهم، وانشقوا عنهم في الطريق، ورجعوا بثلث الجيش، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، واتبعه في الانخذال، والرجوع ثلاث مئة رجل من المنافقين، وغيرهم من المؤمنين، ليوقع الفشل بين صفوف المسلمين، ويخذلوهم أمام عدوهم، وما كان من كيد المشركين، وتألبهم عليهم، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر - حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم - وإلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى، وذكرهم أيضًا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم؛ إذ جعلوا الصبر جنتهم، وتقوى الله عدتهم، فأصابوا من
101
عدوهم ما أصابوا، وكان لهم الفلج والنصر عليهم مما لا يزال مكتوبًا في صحيفة الدهر مثلًا خالدًا لصدق العزيمة، والبعد عن مطامع هذه الحياة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا...﴾ الآية، أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ بني سلمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول، والله وليهما، وأخرجه مسلم أيضًا.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - ﷺ - إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأولى من الفجر يقول: "اللهم العن فلانًا، وفلانا بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أخرجه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - كسرت رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أخرجه مسلم، وأخرجه أيضًا أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه. وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأحمد، وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - كان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: "اللهم العَن فلانًا، وفلانًا لأحياء من العرب حتى أنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾.
استطراد دعت إليه الحاجة
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها، نزلت في غزوة أحد، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الوقعة، ليستعين به القارئ على فهمها، ويعرف مواقع أخبارها ويستيقن من حكمها وأحكامها، ولكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشًا اغتاظت من هجرة النبي - ﷺ - وأصحابه إلى المدينة، وحقدوا على أهلها إيواءهم
102
للمسلمين، وتهددوهم، فكان لا بد من الاستعداد للدفع وقد صار النبي - ﷺ - داعية للدين ورئيسًا لحكومة المدينة وقائدًا لجيشها.
هذا، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات؛ بها انتشر الإِسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ، وقد اشترك النبي - ﷺ - في تسع منها أشهرها.
وقعة بدر
كانت قريش ترى أن محمدًا وأصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل، ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة، وهي على طريق التجارة إلى الشام، فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة، ونالوا أول انتصارٍ لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر بئر بين مكة والمدينة كانت لرجل يسمى بدرًا، فسميت باسمه، وكانت هذه الوقعة نصرًا مؤزرًا للمسلمين، وكارثة كبرى على المشركين، وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد
أحدٌ: جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال. سمي أحدًا لتوحده عن الجبال. ولما خذل المشركون في وقعة بدر، ورجع ففُهم إلى مكة مقهورين أخذ أبو سفيان يؤلب المشركين على رسول الله - ﷺ -، إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش، فاجتمعوا للحرب، وكانوا نحو ثلاثة آلاف، فيهم سبع مئة دارع، ومعهم مئتا فرس، وقائدهم: أبو سفيان بن حرب، ومعه زوجه هند بنت عتبة، وكانت جملة النساء اللاتي معهم خمس عشرة امرأة، ومعهن الدفوف يضربن بها، ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين، وساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاث من الهجرة. وكان رأي رسول الله - ﷺ - المقام في المدينة، وقتالهم بها، ورأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم، فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة وأحدٍ، فانخذل عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلث الناس ونزل رسولُ الله - ﷺ - الشعب من أحد،
103
وجعل ظهره إلى الجبل، وكان عدة أصحاب رسول الله - ﷺ - سبع مئة فيهم مئة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين، وكان لواء رسول الله - ﷺ - مع مصعب بن عمير، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع بني عبد الدار. ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان، ومعها النسوة يضربن بالدفوف وهي تقول:
وِيْهَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ... وِيْهَا حُمَاةَ الأَدْبَارِ... ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارِ
وقاتل حمزة قتالًا شديدًا. ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي - ﷺ - الراية لعليّ بن أبي طالب. ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي - ﷺ - بملازمته. فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين، ووقع الصراخ أن محمدًا قد قتل، وانكشف المسلمون، وأصاب العدو منهم. وكان يوم البلاء على المسلمين، وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلًا وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلًا. ووصل العدو إلى رسول الله - ﷺ - وأصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم". وجعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨)﴾.
ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله - ﷺ - في الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه - ﷺ - فسقطت ثنية من ثنياته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، وطمع فيه المشركون، وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ وأصابت طلحة يومئذٍ ضربة شديدة شلت يده منها، وهو يدافع عن رسول الله - ﷺ -.
ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله - ﷺ -، فجدعن الأنوف، وصلمن الآذان، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح، وصعد الجبل، وصرخ
104
بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر، أعل هبل - صنم في الكعبة - أي؛ ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان، ومن معه.. نادى إن موعدكم بدر العام القابل. فقال النبي - ﷺ -: "قولوا له: هو بيننا وبينكم ". ثم سار المشركون إلى مكة، وبحث رسول الله - ﷺ - عن عمه حمزة فوجده مبقور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم". ثم أمر أن يسجى عمه ببردته، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحدًا بعد واحدٍ حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله - ﷺ - عن ذلك، وقال: "ادفنوهم حيث صرعوا". إذا علمت ما تقدم.. سهل عليك فهم هذه الآيات، وما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإِسلام، وما فيها من عظة وعبرة للمسلمين، فقد كانت نبراسًا لهم في كل حروبهم وأعمالهم في حياة النبي - ﷺ - وبعده.
إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها أسوأ الآثار، وأن كل ما حدث فيها، إنما جر إليه الطمع في الغنيمة وجمع حطام الدنيا، وهو ظل زائل، وعرض مفارق.
التفسير وأوجه القراءة
١٢١ - ﴿وَ﴾ إذكر يا محمَّد: لأصحابك قصة ﴿إذْ غَدَوْتَ﴾ وخرجت بعد صلاة الجمعة خامس عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾؛ أي: من منزلك الذي فيه أهلك من المدينة، وهو حجرة عائشة إلى أحد ليتذكروا ما وقع لهم في ذلك اليوم من الأحوال الناشئة من عدم الصبر، فيعلموا أنهم لو لزموا الصبر؛ لا يضرهم كيد الكفرة، وعبر عن الخروج بالغدوِّ الذي هو الخروج غدوة مع كونه - ﷺ - خرج بعد صلاة الجمعة؛ لأنه قد يعبر بالغدو عن الخروج من غير نظر إلى أصل معناه، كما يقال: أضحى، وإن لم يكن في وقت الضحى، وفي
قوله: ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ منقبةٌ عظيمةٌ لعائشة رضي الله عنها؛ لأنه تعالى نصَّ على أنها من أهله.
حالة كونك ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: تقصد أن تبوئهم وتنزلهم وتهىء لهم ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾؛ أي: أماكن ومراكز ومثابت يثبتون فيها لقتال عدوهم المشركين، مراكز للرماة، ومراكز للفرسان، ومراكز لسائر المؤمنين، ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم؛ أي: لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم في خارج المدينة، وقول من قال: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، وسميع لما تشير به أنت عليهم، ﴿عَلِيمٌ﴾ بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبنية كل قائل، من أخلص منهم في قوله، وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص في قوله، وإن كان صوابًا كعبد الله بن أبي، وأصحابه من المنافقين.
١٢٢ - ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ﴾؛ أي: واذكر يا محمَّد أيضًا حين همت وقصدت جماعتان منكم أيها المؤمنون بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، وكانا جناحي عسكر رسول الله - ﷺ - وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء، وعن قالون خلافٌ في ذلك ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾، أي: بأن تضعفا وتجبنا وترجعا عن القتال حين رأوا انخذال عبد الله بن أبي، ومن معه عن رسول الله - ﷺ -؛ وذلك أنه - ﷺ - خرج من المدينة مع تسع مئة وخمسين، ووعدهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا عند جبل أحد انعزل ابن أبي المنافق، مع ثلاثمائة من أصحابه المنافقين، وقال: يا قوم: لأي شيء نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاريُّ وأبو جابر السلمي، وقالا: نسألكم بالله في حفظ نبيكم وأنفسكم أي فإنكم إن رجعتم فاتتكم نصرة نبيكم وفاتتكم وقاية أنفسكم من العذاب لتخلفكم عن نبيكم، فقال عبد الله بن أبي: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم، فهم الطائفتان باتباع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله، فثبتوا مع رسول الله - ﷺ -.
وهذا الهم لم يكن عزيمةً ممضاة، ولكنها كانت حديث النفس، وقلما تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، فإن ساعدها صاحبها ذم، وإن ردها إلى
الثبات والصبر فلا بأس بما فعل، ومما يدل على أن ذلك الهم لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى:
﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾؛ أي: ولي الطائفتين أي متولي أمورهما، وعاصمهما عن اتباع تلك الخطوة، وحافظهما عنه لصدق إيمانهما، ولذلك صرف الفشل عنهما، وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع المنافقين، وكانوا نحو ثلث العسكر، بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين، فوثقا به، وتوكلا عليه.
وقرأ (١) عبد الله ﴿والله وليهم﴾ أعاد الضمير على المعنى، لا على لفظ التثنية كقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ و ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾ ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: فليعتمدوا عليه وليثقوا به في أمورهم؛ أي: إن المؤمنين ينبغي لهم أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه، بالتوكل على الله لا بحولهم وقوتهم، ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدة تحقيقًا لسنن الله في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات، وهو الخالق للسبب والمسبب، والموجد للصلة بينهما، فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم في العدد والعُدد والسلاح، وفي سائر عتاد الجيش، ولذا قال سبحانه وتعالى:
١٢٣ - ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى أيها المؤمنون ﴿بِبَدْرٍ﴾؛ أي: في وقعة يوم بدر - موضعٌ بين مكة والمدينة معروف - الذي انبنى فيه الإِسلام وظهر، وقتل فيه صناديد قريش، وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهرًا من الهجرة ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾؛ أي: والحال أنكم ذليلون ضعفاء بقلة العدد، والعدد، والسلاح، وقلة المال، وضعف الحال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، فإن المؤمنين كانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا، وما كان فيهم إلا فرس واحد، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل، ومعهم مئة فرس مع الأسلحة الكثيرة، والعدة الكاملة، أي: نصركم يوم بدر مع قلتكم وكثرة العدو، ولتعلموا أن النصر من عند الله لا بكثرة العدد والعدد. وأتى بجمع القلة في قوله: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ ليدل على أنهم قليلون في ذواتهم، وعددهم.
(١) البحر المحيط.
وخلاصة الكلام: أنكم إن تصبروا وتتقوا.. لا يضركم كيدهم شيئًا، وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم، وأنتم يومئذٍ في قلة من العدد، وفي غير منعة من الناس حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم، وعظيم منعتهم، فأنتم اليوم أكثر عددًا منكم يومئذٍ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم، كما نصركم في ذلك اليوم، ولا ضير في الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين، ولم يكن المؤمنون بمقهورين، ولا بمستذلين من الكفار، وإنما كانت قوتهم أول تكونها.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيها المؤمنون وخافوه في أمر الحرب بالثبات فيها مع الرسول - ﷺ - وعدم مخالفة أميركم فيها ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: لكي تشكروا نعمته تعالى عليكم ونصرته لكم على أعدائكم، والمعنى: فاتقوا الله ربكم بطاعته، واجتناب محارمه، لتهيؤوا أنفسكم لشكره على ما منَّ به عليكم من النصر على أعدائكم؛ وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم؛ إذ من لم يروض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى، واتباع الشهوات فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع.
١٢٤ - والظرف في قوله: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ متعلق بـ ﴿نصركم﴾ و ﴿الهمزة﴾ في قوله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ للاستفهام الإنكاري؛ أي: لإنكاره - ﷺ - عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة. ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر.
والمعنى: ولقد نصركم الله ببدر في الوقت الذي تقول فيه للمؤمنين تطمينًا لقلوبهم، وبشارة لهم: ألن يكفيكم ويغنيكم عن مساعدة الغير ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ ويساعدكم ويعينكم ﴿رَبُّكُمْ﴾ على عدوكم ﴿بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ من السماء لنصركم.
وذلك القول (١) حين أظهروا العجز عن المقاتلة، لما بلغهم أن كرز بن جابر يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الخ.
(١) جمل.
أخرج (١) ابن أبي شيبة، وابن المنذر: وغيرهما عن الشعبي، أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ فبلغته هزيمة المشركين، فلم يمد أصحابه، ولم يمدوا بالخمسة آلاف.
وقرأ (٢) الحسن ﴿بِثَلَاثَةِءَالَافٍ﴾ يقف على الهاء، وكذلك ﴿بِخَمْسَةِءَالَافٍ﴾ قال ابن عطية: ووجه هذه القراءة ضعيفٌ؛ لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال؛ إذ هما كالاسم الواحد. انتهى. والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف، أبدلها هاءً في الوصل كما أبدلوها هاءً في الوقف..
وقرىء شاذا ﴿بثلاثة آلافٍ﴾ هو بتسكين التاء في الوصل إجراءً له مجرى الوقف.
وقرأ الجمهور ﴿مُنْزَلِينَ﴾ بالتخفيف مبنيًّا للمفعول، وابن عامر بالتشديد مبنيًّا للمفعول أيضًا، والهمزة، والتضعيف للتعدية فهما سيان.
وقرأ بن أبي عبلة ﴿منزلين﴾ بتشديد الزاي، وكسرها مبنيًّا للفاعل، وبعض القراء بتخفيفها، وكسرها مبنيًّا للفاعل أيضًا، والمعنى ينزلون النصر.
١٢٥ - ﴿بَلَى﴾ إيجابٌ لما بعد لن، أي: بلى يكفيكم الإمداد بهم. ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر، والتقوى حثًّا لهم عليهما، وتقويةً لقلوبهم فقال: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا﴾ مع نبيكم على لقاء العدو، ومناهضتهم، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معصية الله، ومخالفة نبيه - ﷺ - ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾؛ أي: ويجئكم المشركون ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾؛ أي: من ساعتهم هذه من جهة مكة ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾؛ أي: ينصركم ربكم على عدوكم في حال إتيانهم من غير تراخٍ، ولا تأخير ﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ ليعجل نصركم، ويسهل فتحكم ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو؛ أي: معلِّمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات. ورجح ابن جرير هذه القراءة وقال كثير من
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
109
المفسرين: مرسلين خيلهم في الغارة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ونافع ﴿مسومين﴾ بفتح الواو أي: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب، وأذنابها، أو مجذوذة أذنابها، أو مرسلين.
قال ابن جرير (١): وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمَّد - ﷺ - أنه قال: ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ ثم وعدهم بعد الثلاثة آلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، واتقوا، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدَّهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله.
غير أن في القرآن دلالةٌ على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألفٍ من الملائكة، وذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.
أما في أحد: فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا، لم يهزموا، وينل منهم ما نيل انتهى.
والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم، ولو نفعًا معنويًّا، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس، فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبتها وتقوي عزيمتها.
فإن قلت: أي حاجة إلى ذلك العدد الكثير، فإن جبريل وحده، أو أي ملك كافٍ في قتال الكفار؟
(١) طبري.
110
أجيب: بأن النصر في ذلك ينسب للرسول - ﷺ - والمؤمنين لقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ فلو هلكوا بشيء مما هلك به الأمم السابقة.. لم يكن في ذلك مزيد فخر للمؤمنين، ولا شفاء لغيظهم لكونه خارجًا عن اختيارهم.
١٢٦ - ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ﴾، أي: ما جعل الله ذلك الإمداد بالملائكة، أو ما جعل (١) الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الآية. ﴿إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾؛ أي: إلّا بشارة لكم أيها المؤمنون لتزدادوا ثباتًا على لقاء العدو أي؛ وما جعل الله ذلك الإمداد إلا ليبشركم به ﴿وَ﴾ إلا ﴿لِتَطْمَئِنَّ﴾ وتثبت ﴿قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الإمداد، وتسكن إليه من الخوف الذي طرقها من كثرة عدد عدوكم، وعظيم استعداده لكم. وفي هذا إشارة إلى أن في ذكر الإمداد فائدتين:
إحداهما: إدخال السرور في القلوب.
والثانية: حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله ونصرته. معهم فلا يجبنوا عن المحاربة مع العدوّ ﴿وَمَا النَّصْرُ﴾ على الأعداء حاصل من عند أحدٍ غير الله لا من عند الملائكة، ولا من كثرة العدد ﴿إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزِ﴾ أي؛ القوي الذي لا يغالب في أقضيته وأحكامه ﴿الْحَكِيمِ﴾ الذي يعطي النصر لأوليائه، ويبتليهم بجهاد أعدائه، أو الذي يدبر الأمور على خير السنن، وأقوم الوسائل، فيهدي لأسباب النصر الظاهرة، والباطنة من يشاء، ويصرفهما عمن يشاء.
والمراد (٢): أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة، فيجب على العبد أن لا يتكل على الأسباب فقط، بل يقبل على مسبب الأسباب؛ إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه؛ لأن من لم ينصره الله فهو مخذول، وإن كثرت أنصاره، فإن حصل الإمداد بالملائكة، فليس ذلك إلا جزءًا من أسباب النصر، وهناك أسباب
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
111
أخرى كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، ومعرفة المواقع، والمكامن كما فعل النبيُّ - ﷺ -، إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق، وأخفاها على العدو، وعسكر في أحسن موضع، وهو الشعب أي: الوادي وجعل ظهره إلى الجبل، وجعل الرماة من ورائهم.
فإن قلت: لم أمد الله المؤمنين يوم بدر بملائكته يثبتون قلوبهم، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب؟
فالجواب: إن المؤمنين كانوا يوم بدر في قلة وذلةٍ، من الضعف والحاجة؛ فلم يكن لهم إعتمادٌ إلا على الله، وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات، والذكر إذ قال: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
ولم يكن في نفوسهم تطلع إلى شيء سوى النصر، وإقامة الدين، والدفاع عن حوزته، وكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة، والتقوي بالاتصال بها.
وروى أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ النبي - ﷺ - كان يدعو يوم بدر "اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة.. فلن تعبد في الأرض أبدًا" وما زال يستغيث ربه، ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه به، ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك، فإنه ينجز لك ما وعدك. وأنزل الله يومئذٍ ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾ الآية.
أمَّا في يوم أحد: فقد كان بعضهم في أول القتال قريبًا من الافتتان بما كان من المنافقين، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا، ولكن الله ثبتهما، وباشروا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا، وهزموا المشركين، ثم خرج بعضهم عن التقوى، وخالفوا أمر الرسول - ﷺ - وطمعوا في الغنيمة، وتنازعوا في الأمر فقتلوا، وضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة، فلم يكن لهم منهم مدد في ذلك اليوم.
112
وحكمة ما حصل بهم في ذلك اليوم تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ﴾ الآية. وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يثبط الهمم، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب، وأن كل ما يصيب العباد من مصائب فهو نتيجة عملهم، وعقوبة طبيعية على أفعالهم.
١٢٧ - واللام في قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ متعلقة بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾، أي: وعزتي وجلالي، لقد نصركم الله سبحانه وتعالى، وأعزكم على عدوكم يوم بدر مع قلة عددكم وعددكم بأمداد الملائكة؛ ليقطع، ويهلك طرفًا وجماعة من صناديد الذين كفروا، وأشركوا بالله، ويهدم ركنًا من أركان الشرك، يعني مشركي مكة بقتل سبعين منهم، وأسر سبعين آخرين منهم. وعبر بالطرف؛ لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾؛ أي: أو ليكبت، ويذل، ويخزي الطرف الآخر منهم، والجماعة الباقية منهم، ويغيظهم بالهزيمة ﴿فَيَنْقَلِبُوا﴾، ويرجعوا إلى مكة حال كونهم ﴿خَائِبِينَ﴾، أي: غير ظافرين بمرادهم من استئصال المؤمنين والظفر لهم.
وقد فعل الله تعالى ذلك بهم في بدر حيث قتل المسلمون من صناديدهم سبعين، وأسروا سبعين، وأعز الله المؤمنين، وأذل الشرك والمشركين.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ بالتاء، وقرأ لاحق بن حميد ﴿أو يكبدهم﴾ بالدال مكان التاء، والمعنى: أو يصيب الحزن كبدهم.
١٢٨ - ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها؛ لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال: ﴿لَيْسَ لَكَ﴾ يا محمَّد ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾؛ أي: من أمر عبادي وتدبيرهم وحسابهم ﴿شَيْءٌ﴾ بل إنما عليك البلاغ والدعوة لهم إلى توحيدي، والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضي فيهم، وأحكم بالذي أشاء من التوبة، أو عاجل العذاب
(١) المراغي.
113
بالقتل، والنقم، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر من العذاب في الآخرة.
وروى أحمد ومسلم، عن أنس رضي الله عنه أن النبيَّ - ﷺ - كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: "كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا، وهو يدعوهم إلى ربهم"؟ فأنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية.
قيل: أراد النبيُّ - ﷺ - أن يدعو عليهم بالاستئصال، فنزلت هذه الآية، وذلك لعلمه أن أكثرهم يسلمون. فمعنى الآية: ليس لك مسألة هلاكهم والدعاء عليهم، لأنه تعالى أعلم بمصالحهم، فربما تاب على من يشاء منهم. وقوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ وقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ كلامٌ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه كما مر آنفًا.
وتقدير الكلام: ولقد نصركم الله أيها المؤمنون في يوم بدر، ليقطع طرفًا من الذين كفروا بالقتل، أو يكبتهم بالهزيمة، أو يتوب عليهم بالإِسلام، إن أسلموا ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ على الكفر إن أصروا؛ فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء، بل الأمر أمري في ذلك كله، وقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ هو كالتعليل لعذابهم، والمعنى: إنما يعذبهم؛ لأنهم ظالمون أنفسهم بالإصرار على الكفر مستحقون للتعذيب.
قال بعض العلماء (١): والحكمة في منعه - ﷺ - من الدعاء عليهم، ولعنهم أن الله تعالى علم من حال بعض الكفار أنه سيسلم فيتوب عليه، أو سيولد من بعضهم ولد يكون مسلمًا برًّا تقيًّا. فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من الدعاء عليهم؛ لأن دعوته - ﷺ - مستجابة، فلو دعا عليهم بالهلاك هلكوا جميعًا، لكن اقتضت حكمة الله، وما سبق في علمه إبقائهم ليتوب على بعضهم، وسيخرج من بعضهم ذرية صالحة مؤمنة، ويهلك بعضهم بالقتل والموت.
وفي هذا الكلام تأديب من الله لرسوله - ﷺ - وإعلامٌ له بأن الدعاء على
(١) البحر المحيط ج ٢ ص ٥٢.
114
المشركين، ولعنهم مما لم يكن ينبغي منك. إذ الأمر كله لله، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه، ولا رأيٌ ولا تدبير فيهما، وإن كان ملكًا مقربًا أو نبيًّا مرسلًا إلا من سخره الله للقيام بشيء من ذلك؛ فيكون خاضعًا لذلك التسخير لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون، ونظام الاجتماع.
١٢٩ - ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، أي: جميع ما في السموات، وما في الأرض ملكًا وخلقًا وعبيدًا ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ مغفرته بفضله ورحمته ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ تعذيبه بعدله وتقديم المغفرة على التعذيب للإعلام بأنَّ رحمته تعالى سبقت غضبه ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لمن تاب ﴿رَحِيمٌ﴾ لمن مات على التوبة.
قال ابن جرير (١): أي لله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضي فيهم بما أحب فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه ثم يغفر له ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه، من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح، وهو الرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلًا على عظيم ما يأتون من المآثم انتهى.
١٣٠ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما (٢) نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود، وأمثالهم من المشركين، ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله، وطاعته وطاعة رسوله، ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله ورسوله من الفوز والفلاح في وقعة بدر، وبما حدث لهم حين عصوا الله، وخالفوا أمر القائد، وهو الرسول - ﷺ - في وقعة أحد، وكيف حل بهم من البلاء ونزلت من المصائب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.. نهاهم هنا عن شر
(١) الخازن
(٢) الطبري.
115
عمل من أعمال اليهود، ومن اقتدى بهم من المشركين، وهو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة، بل السعادة، إنما تكون في تقوى الله، وامتثال أوامره، وفي ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة، وتنفير من البخل، والشح، والكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعة، وشر تلك الوسائل أكل الربا أضعافًا مضاعفة.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بما جاء به محمَّد - ﷺ - لا تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم، وذكر الأكل ليس قيدًا بل إنما ذكره لكونه معظم منافعه حالة كون تلك الزيادة أضعافًا مضاعفة، أي؛ زيادات مكررة عامًا بعد عام بسبب تأخير أجل الدين الذي هو رأس المال، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية، فإن الإِسلام لا يبيح لكم ذلك لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته.
وذكر الأضعاف (١) ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا، فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل.. زادوا في المال مقدارًا يتراضون عليه، ثم يزيدون في أجل الدين، فكانوا يفعلون ذلك مرةً بعد مرةٍ، حتى يأخذ المرابي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء.
قال ابن جرير (٢) معنى الآية: لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم، وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم: أن الرجل منهم يكون له على الرجل مالٌ إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول له، الذي عليه المال: أخر دينك عني وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة، فنهاهم الله عَزَّ وَجَلَّ في إسلامهم عنه انتهى.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
116
وقال الرازي (١): كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل، ولم يكن المديون واجدًا لذلك المال، قال الدائن: زد في المال حتى أزيد لك في الأجل، فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ انتهى.
وربا (٢) الجاهلية هو ما يسمى في عصرنا: بالربا الفاحش، وهو ربح مركب وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل، ولا شيءَ منها في العقد الأول، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر، أو أقل، وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل من الربح، فإذا حل الأجل، ولم يقض الدين، وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء، وهذا هو ربا النسيئة. قال ابن عباس رضي الله عنه إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفًا عندهم انتهى.
وعلى الجملة فالربا نوعان:
الأول: ربا النسيئة؛ وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو أن يؤخر دينه، ويزيده في المال، وكلما آخره زاد في المال حتى تصير المائة آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدمٌ محتاجٌ، فهو يبذل الزيادة ليفتدي من أسر المطالبة، ولا يزال كذلك حتى يعلوه الدين، فيستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويوقعه في المشقة والضرر. فمن رحمة الله، وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا، ولعن آكله، ومؤكله، وكاتبه، وشاهده، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجىء مثل هذا الوعيد في كبيرةٍ غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر.
والنوع الثاني: ربا الفضل، كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها
(١) الطبري.
(٢) الرازي.
117
دنانير، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنةً من التمر الردىء مع تراضي المتبايعين، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه، ومثل هذا لا يدخل في نهي القرآن، ولا في وعيده، ولكنه ثبت بالسنة، فقد روى ابن عمر قوله - ﷺ -: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلًا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق، إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواءٍ، ولا تشفوا بعضه على بعض، إني أخشى عليكم الرماء" الربا.
وهذه الآية (١): هي أولى الآيات نزولًا في تحريم الربا، وآيات البقرة نزلت بعد هذه، بل هي آخر آيات الأحكام نزولًا.
وقد يقول بعض المسلمين الآن: إنا نعيش في عصر ليس فيه دولٌ إسلاميةٌ قوية تقيم أحكام الإِسلام، وتستغني عمن يخالفها في أحكامه بل زمام العالم في أيدي أمم ماديةٍ تقبض على الثروة، وبقية الشعوب عيالٌ عليها، فمن جاراها في طرق الكسب - والربا من أهم أركانه - أمكنه أن يعيش معها، وإلا كان مستعبدًا لها. أفلا تقضي ضرورةٌ كهذه على الشعوب الإِسلامية التي تتعامل مع الأوربيين كالشعب المصري مثلًا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها؛ وتنميها وحتى لا يستنزف الأجنبي ثروتها، وهي مادة حياتها؟.
وجوابًا عن هذا نقول: إن الحرمات في الإِسلام ضربان:
١ - ضرب محرمٌ لذاته لما فيه من الضرر: ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر، والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة، وهو متفق على تحريمه، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض، ولم يجد من يقرضه إلا بالربا؛ فالإثم على آخذ الربا دون معطيه؛ لأن له فيه ضرورةً.
٢ - وضرب محرم لغيره: وهو ربا الافضل؛ لأنه ربما كان سببًا في ربا النسيئة، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضًا.
والمسلم يبحث عن حاله، هل كان مضطرًا إلى الربا أم لا؟. فإن كان
(١) المراغي.
118
مضطرًا حلَّ له تناوله، ويكون مثل أكل الميتة، وشرب الخمر ونحوهما، وإلا لم يحل ذلك.
إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين، وإن كان زيادةً في مال الرابي؛ فهو في الحقيقة نقصانٌ: لأنَّ الفقراء الذين يأخذ أموالهم بهذا التعامل؛ إذا شاهدوه، يلعنونه ويدعون عليه، وبذلك يسلب الله الخير من يديه عاجلًا أو آجلًا في نفسه وماله، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه وغلظ كبده. وقد ورد في الأثر "إنَّ آخذ الربا لا يقبل منه صدقةٌ، ولا جهادٌ ولا حج ولا صلاة". وقرأ ابن كثير، وابن عامر ﴿أضعافًا مضعَّفة﴾ بتشديد العين بلا ألف قبلها. ثم أكد النهي فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقاب الله أيها المؤمنون فيما نهيتم عنه من أكل الربا، وغيره فلا تأكلوه، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تنجوا من عذابه وسخطه، وتظفروا بثوابه في الآخرة. لأن الفلاح يتوقف على التقوى، فلو أكل، ولم يتق؛ لم يحصل الفلاح. وفيه دليل على أنَّ أكل الربا من الكبائر،
١٣١ - ولهذا أعقبه بقوله: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)﴾؛ أي: واخشوا أيها المؤمنون النار الأخروية التي هيئت للكافرين بالتحرز عن متابعتهم، وتعاطي أفعالهم؛ فلا تستحلُّوا شيئًا مما حرم الله، فإن من استحل شيئًا مما حرم الله.. فهو كافر بالإجماع، ويستحق النار بذلك.
وفيه (١) تنبيه على أن النار بالذات معدة للكفار، وبالعرض للعصاة.
قال أبو حنيفة (٢): هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين، إن لم يتقوه في اجتناب محارمه،
١٣٢ - وقد أمدَّ ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته، وطاعة رسوله بقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾، وامتثلوه فيما يأمركم به، وينهاكم عنه من أخذ الربا وغيره ﴿وَ﴾ أطيعوا ﴿وَالرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ - أيضًا، فإن طاعته طاعة الله. قال محمَّد ابن إسحاق (٣):
(١) المراغي.
(٢) البيضاوي.
(٣) النسفي.
119
في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسولَ الله - ﷺ - يوم أحد ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾؛ أي: لكي ترحموا، ولا تعذبوا، إذا أطعتم الله ورسوله فإن طاعة الله مع معصية رسوله ليست بطاعة، قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾.
والمعنى (١): وأطيعوا الله ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا، وما أمرا به من الصدقة كي ترحموا في الدنيا بصلاح حال المجتمع، وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم. وقد ورد في الأثر "الراحمون يرحمهم الرحمن" رواه أبو داود، والترمذي.
الإعراب
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره؛ واذكر يا محمَّد لأصحابك قصة إذ غدوت. ﴿غَدَوْتَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه ﴿لإِذْ﴾. ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿غَدَوْتَ﴾ ﴿تُبَوِّئُ﴾ فعل مضارع، وفاعلمه ضمير يعود على محمَّد ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ مفعول أول، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿غَدَوْتَ﴾: وهي حال مقدرة أي: قاصدًا تبويىء المؤمنين. ﴿مَقَاعِدَ﴾ مفعول ثان. ﴿لِلْقِتَالِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿مَقَاعِدَ﴾ أو متعلق بـ ﴿تُبَوِّئُ﴾. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ الواو استئنافية. ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿سَمِيعٌ﴾ خبر أول. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف بدل من الظرف قبله، وهو المقصود بالسِّياق. ﴿هَمَّتْ طَائِفَتَانِ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ
(١) الخازن.
120
﴿طَائِفَتَانِ﴾. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿تَفْشَلَا﴾: فعل وفاعل منصوب ﴿بأن﴾ ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بالفشل، والباء متعلق بـ ﴿هَمَّتْ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية. ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿وَلِيُّهُمَا﴾ خبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. قال أبو حيان (١): وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين انتهى.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق، بـ ﴿يَتَوَكَّلِ﴾ قدم عليه للاهتمام به. ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ ﴿الفاء﴾ زائدة، زيدت لتوهم معنى الشرط. و ﴿اللام﴾ لام الأمر. ﴿يَتَوَكَّلِ﴾ مجزوم بلام الأمر. ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة. وقال العكبري (٢): دخلت ﴿الفاء﴾ لمعنى الشرط، والمعنى إن فشلوا فتوكلوا أنتم، وإن صعب الأمر فتوكلوا انتهى.
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿نَصَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿بِبَدْرٍ﴾ الباء حرف جر بمعنى في ﴿بَدْر﴾ مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نَصَرَ﴾. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ الواو حالية. ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ. ﴿أَذِلَّةٌ﴾ خبر، والجملة الإسمية حال من ضمير المخاطبين. ﴿فَاتَّقُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة تفريعية، لكون ما قبلها علةً لما بعدها. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَصَرَكُمُ﴾ ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ﴿لَعَلَّ﴾ حرف جر، وتعليل بمعنى ﴿كي﴾. و ﴿الكاف﴾ اسمها. وجملة ﴿تَشْكُرُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره، فاتقوا الله لشكركم إياه.
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)﴾.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
121
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان. ﴿تَقُولُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليها، والظرف متعلق بـ ﴿نَصَرَكُمُ﴾. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقُولُ﴾. ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الخ مقول محكي لـ ﴿تَقُولُ﴾ وإن شئت. قلت: الهمزة للاستفهام التقريري. ﴿لَنْ﴾ حرف نفي ونصب. ﴿يَكْفِيَكُمْ﴾ هو فعل ومفعول به منصوب بـ ﴿لن﴾. ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿يُمِدَّكُمْ﴾ فعل مضارع، ومفعول به منصوب ﴿بأن﴾ المصدرية. ﴿رَبُّكُمْ﴾ فاعل، ومضاف إليه، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية تقديره: ألن يكفيكم إمداد ربكم إياكم، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿تَقُولُ﴾ ﴿بِثَلَاثَةِ آلَافٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُمِدَّكُمْ﴾ ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أولى لـ ﴿ثَلَاثَةِ آلَافٍ﴾ تقديره: كائنات ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾. ﴿مُنْزَلِينَ﴾ صفة ثانية لـ ﴿ثَلَاثَةِ آلَافٍ﴾.
﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)﴾.
﴿بَلَى﴾ حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط. ﴿تَصْبِرُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم ﴿بإِنْ﴾ على كونه جواب الشرط لها. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿تَصْبِرُوا﴾. ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿تَصْبِرُوا﴾. ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾. ﴿هَذَا﴾ صفة لـ ﴿فَوْرِهِمْ﴾ وهو جامد مؤول بمشتق تقديره من وقتهم الحاضر. ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ فعل ومفعول مجزوم ﴿بإنْ﴾ على كونه جواب الشرط لها. ﴿رَبُّكُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية من فعل شرطها، وجوابها جملةٌ جوابيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ ﴿خَمْسَةِ﴾ مضاف. ﴿آلَافٍ﴾ مضاف إليه. ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ جار ومجرور صفة أولى لـ ﴿خَمْسَةِ﴾ ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ صفة ثانية لها.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
122
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)}.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول أول. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿بُشْرَى﴾ مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾ على أنه بمعنى صير، ويجوز أن يكون مفعولًا له على أن يكون ﴿جَعَلَ﴾ متعديًّا لواحد، كما ذكره العكبري ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بُشْرَى﴾ أو متعلق بـ ﴿بُشْرَى﴾، والجملة الفعلية مستأنفة.
وعبارة (١) "السمين" قوله: ﴿إِلَّا بُشْرَى﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول لأجله، وهو استثناء مفرغ إذ التقدير، وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبشرى، وشروط نصبه موجودةٌ، وهي اتحاد الفاعل والزمان، وكونه مصدرًا سيق للعلة.
والثاني: أنه مفعول ثان لجعل على أنه بمعنى صير.
والثالث: أنه بدل من ﴿الهاء﴾ في ﴿جَعَلَهُ﴾ قاله الحوفي، وجعل ﴿الهاء﴾ عائدةً على الوعد بالمدد. انتهى.
﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ فيه (٢) وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على ﴿بُشْرَى﴾ هذا إذا جعلنا مفعولًا لأجله، وإنما جر باللام لاختلال شرط من شروط النصب، وهو عدم اتحاد الفعل، فإن فاعل الجعل هو الله تعالى، وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدَّم، والتقديرُ: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.
والثاني: أنه متعلق بفعل محذوف تقديره؛ وفعل ذلك الإمداد لتطمئن قلوبكم به. وقال الشيخ: و ﴿تَطْمَئِنَّ﴾ منصوب بإضمار أن بعد لام كي فهو من عطف الاسم على توهم موضع آخر. ثم نقل عن ابن عطية أنه قال: واللام في
(١) العكبري.
(٢) الجمل.
123
﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ متعلقة بفعل مضمر يدل عليه ﴿جَعَلَهُ﴾ ومعنى الآية وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم. انتهى، "سمين".
وعلى ما قاله ابن عطية: فنقول في إعرابه: ﴿الواو﴾ عاطفة لمحذوف. ﴿لِتَطْمَئِنَّ﴾ اللام حرف جر وتعليل. تطمئن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي. ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ فاعل، ومضاف إليه ﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَطْمَئِنَّ﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام المتعلقة بفعل محذوف معطوف على جملة قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى﴾ تقديره: وما جعله الله إلا لطمأنينة قلوبكم به ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿النَّصْرُ﴾ مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: وما النصر إلا كائنٌ من عند الله تعالى، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿الْعَزِيزِ﴾ صفة أولى للجلالة. ﴿الْحَكِيمِ﴾ صفة ثانية له.
﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)﴾.
﴿لِيَقْطَعَ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي ﴿يَقْطَعَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿طَرَفًا﴾ مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام الجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ﴾ تقديره: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفٍ. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿طَرَفًا﴾. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ معطوف على ﴿لِيَقْطَعَ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الهاء﴾ مفعول به. ﴿فَيَنْقَلِبُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿يَنْقَلِبُوا﴾ معطوف على ﴿يكبت﴾. و ﴿الواو﴾ فاعل. ﴿خَائِبِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يَنْقَلِبُوا﴾.
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾.
﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿لَكَ﴾ خبرها مقدم. و ﴿شَيْءٌ﴾ اسمها مؤخر. ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ حال ﴿من شيء﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فتعرب حالًا منها، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ من اسمها وخبرها جملة معترضة لاعتراضها بين المعطوف
124
والمعطوف عليه. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ معطوفان على ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ الفاء تعليلية. ﴿إن﴾ حرف نصب. و ﴿الهاء﴾ اسمها. ﴿ظَالِمُونَ﴾ خبرها، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية تقديره: أو لتعذيبهم.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم: ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الواو عاطفة: ﴿مَا﴾ في محل الرفع معطوفة على ﴿ما﴾ الأولى. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ جار ومجرور صلةٌ لما أو صفة لها. ﴿يَغْفِرُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَنْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَغْفِرُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾ صلة لمن، والعائد محذوف تقديره: لمن يشاء غفرانه. ﴿وَيُعَذِّبُ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿يُعَذِّبُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَغفِرُ﴾. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يشاء﴾ صلته، والعائد محذوف تقديره: من يشاء تعذيبه. ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية. ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿غَفُورٌ﴾ خبر أول. ﴿رَحِيمٌ﴾ خبر ثان.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)﴾.
﴿يَا﴾ حرف نداء. ﴿أَيُّ﴾، منادى نكرة مقصودة. و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه زائد، زيد تعويضًا عمَّا فات ﴿أَيُّ﴾ من الإضافة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿أَيُّ﴾ وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَأْكُلُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية. ﴿الرِّبَا﴾ مفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿أَضْعَافًا﴾ حال من الربا، ولكن بتأويله بمشتق؛
125
لأنه مصدر جامد تقديره: حال كونه مضاعفات. ﴿مُضَاعَفَةً﴾ صفة مؤكدة لـ ﴿أَضْعَافًا﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ الواو عاطفة. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ لعلَّ حرف نصب وتعليل. و ﴿الكاف﴾ اسمها. وجملة ﴿تُفْلِحُونَ﴾ في محل الرفع خبرها، وجملة ﴿لعلَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره؛ واتقوا الله لأجل قصد فَلاحِكُم.
﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اتَّقُوا النَّارَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿الَّتِي﴾ اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿النَّارَ﴾. ﴿أُعِدَّتْ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على النار. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُعِدَّتْ﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير النائب.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)﴾.
﴿وَأَطِيعُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿وَالرَّسُولَ﴾: معطوف على الجلالة ﴿لعل﴾ حرف نصب وتعليل. و ﴿الكاف﴾ اسمها، وجملة ﴿تُرْحَمُونَ﴾ من الفعل المغير، ونائبه في محل الرفع خبر ﴿لعلَّ﴾، وجملة ﴿لعلَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره، وأطيعوا الله والرسول لطلب رحمتكم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ يقال: غدا الرجل (١) يغدو من باب سما، أي: خرج غدوةً. والغدوة، والغداة ما بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس، ويستعمل غدا ناقصًا. بمعنى صار عند بعضهم، فيرفع الاسم وينصب الخبر، وعليه قوله عليه الصلاة والسلام: "لو توكلتم على الله حق توكله.. لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصًا وتروح بطانًا".
(١) الجمل.
126
وهذا المعنى الثاني: ممكن هنا، فالمعنى عليه، وإذ غدوت؛ أي صرت تبوىء المؤمنين؛ أي؛ تنزلهم في منازل، وهذا أظهر من المعنى الآخر؛ لأنَّ المذكور في القصة أنه سار من أهله بعد صلاة الجمعة، وبات في شعب أحد، وأصبح ينزل أصحابه في منازل القتال، ويدبرهم أمر الحرب.
﴿تُبَوِّئُ﴾؛ أي: تهىء وتبوىء وتنزل مضارع بوأَ من باب فعل المضاعف، وأصله من المباءة، وهي المرجع، فالمباءة مكان البوء، والبوء الرجوع، وهو هنا المقرُّ؛ لأنه يبوءُ إليه صاحبه. ويقال: بوأته منزلًا، وبوأت له منزلًا؛ أي؛ أنزله فيه فأصل التبوَّؤ اتخاذ المنزل.
﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ جمع مقعد؛ وهو مكان القعود، والمراد: المراكز، والمواطن، والمواقف، وعبر عنها بالمقاعد، إشارةً إلى طلب ثبوتهم فيها، وإن كانوا وقوفًا كثبوت القاعد في مكانه،
﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ﴾ يقال: هممت بكذا، أهم به، بضم الهاء من باب: رد إذا قصده، وأراد فعله، فالهم حديث النفس، وتوجهها إلى الشيء بلا عزم عليه.
وقال أبو حيان: وأوَّل ما يمر الشيء على القلب يسمى خاطرًا، فإذا تردد صار حديث نفس فإذا ترجح فعله صار همًّا، فإذا قوى وأشتد صار عزمًا، فإذا قوى العزم واشتدَّ حصل الفعل أو القول.
﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ يقال فشل يفشل فشلا من باب فرح إذا ضعف وجبن عن الحرب، وقال بعضهم: الفشل في البدن الإعياء وعدم النهوض وفي الحرب الجبن والخور، وفي الرأي العجز والفساد، والفعل منه فشل بكسر العين من باب تعب وتفاشل الماء إذا سأل.
﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ التوكل تفعل من وكل فلان أمره إلى فلان إذا فوضه إليه، واعتمد عليه في كفايته، ولم يتوله بنفسه. وقال ابن فارس (١): التوكل: إظهار
(١) البحر المحيط.
127
العجز، والاعتماد على غيرك، يقال: فلان وكلةٌ أي: عاجزٌ يكل أمره إلى غيره، وقيل: هو من الوكالة، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقةً بحسن تدبيره. ﴿بَدْرٍ﴾ علم لموضع بين مكة والمدينة، سمي باسم صاحبه بدر بن كلدة، وقيل: غير ذلك ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ جمع ذليل كرغيف، وأرغفة كما قال ابن مالك:
في اسْمٍ مُذكَّرٍ رُبَاعِيٍّ بِمَدّ ثَالِثٍ افْعِلَةُ عَنْهُمُ اطَّرَدْ
والذليل هو من لا منعة له ولا قوة وقد كانوا قليلي العدة من السلاح والدواب والزاد.
﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ من الكفاية، وهي سد الحاجة، وفوقها الغنى ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ من أمد الرباعي، والإمداد إعطاء الشيء حالًا بعد حال ﴿بَلَى﴾ حرف جواب كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي، وتفيد إثبات ما بعده ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾؛ أي: من ساعتهم هذه بلا إبطاء ولا تراخٍ، فالفور الحال التي لا بطء فيها، ولا تراخي وأصله (١) من فارت القدر إذا اشتدَّ غليانها، وبادر ما فيها إلى الخروج، ويقال: فار غضبه إذا جاش وتحرك، وتقول: خرج من فوره أي، من ساعته لم يلبث.
﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ﴾ الخمسة مرتبة من العدد معروفةٌ، ويشتق منها الفعل، يقال: خمست الأربعة، إذا صيرتهم في خمسة ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بكسر (٢) الواو من قولهم، سوَّم على القوم إذا أغار عليهم، ففتك بهم، وقيل: من التسويم بمعنى إظهار سيما الشي وعلامته، أي؛ معلمين أنفسهم وخيلهم.
﴿بُشْرَى﴾ اسم مصدر على فعلى لبشر المضاعف كالرجعى بمعنى البشارة، والبشارة إذا أطلقت لا تكون إلا بالخير، وإنما تكون بالشر إذا قيدت به كقوله تعالى: ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾.
﴿طَرَفًا﴾ والطرف جانب الشيء الأخير ثم يستعمل للقطعة من الشيء وإن لم يكن جانبًا أخيرًا، والمعنى هنا أي: طائفةً وقطعةً منهم ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ الكبت:
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
128
الهزيمة والإهلاك، وقد يأتي بمعنى الغيظ، والإذلال، أو الوهن، الذي يقع في القلب ﴿خَائِبِينَ﴾ اسم فاعل من خاب خيبة كهاب هيبة، والخيبة عدم الظفر بالمطلوب.
البلاغة
قال أبو حيان (١): وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة والبلاغة:
فمنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ فإن الجمهور قالوا: أراد به بيت عائشة.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. وفي قوله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ و ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ و ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ خص نفسه بذلك كقوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ فأشبه من قتل، وتفرق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه، وانخرم نظامه، وفي قوله: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ﴾ شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرجل الساكن الحركة، وفي قوله: ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ شبه رجوعهم بلا ظفر، ولا غنيمة بمن أمل خيرًا من رجل فأمه فأخفق أمله وقصده.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ لأن النصر إعزازٌ، وهو ضد الذل، وفي قوله: ﴿يَغْفِرُ﴾ و ﴿يُعَذِّبُ﴾ لأن الغفران ترك المؤاخذة، والتعذيب المؤاخذة بالذنب.
ومنها: التجوز بإطلاق التثنية على الجمع في قوله: ﴿أَن تَفْشَلَا﴾، وبإقامة اللام مقام إلى في قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ﴾؛ أي: إليك أو مقام على أي؛ ليس عليك.
ومنها: الاعتراض والحذف في مواضع اقتضت ذلك.
(١) البحر المحيط.
129
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾.
ومنها: تسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ سمي الأخذ أكلًا لأنه يؤول إليه فهو مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يكون. انتهى.
وجملة قوله (١): وما النصر إلا من عند الله تذييلٌ، أي: كل نصر هو من الله لا من الملائكة. وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا؛ لأنهما أولى بالذكر في هذا المقام؛ لأن العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره كيف يعطاه.
﴿طَرَفًا﴾ والطرف بالتحريك يجوز أن يكون بمعنى الناحية، ويخص بالناحية التي هي منتهى المكان كما في قول أبي تمام:
كَانَتْ هِيَ الْوَسَط الْمَحْمِيُّ فَاتَّصَلَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفًا
فيكون استعارةً لطائفة من المشركين كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾. ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرّف من الجسد كاليدين، والرجلين، والرأس، فيكون هنا مستعارًا لأشراف المشركين وتنوين ﴿طَرَفًا﴾ للتفخيم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) التحرير والتنوير في علم التفسير.
130
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)﴾.
المناسبة
لما حث الله تعالى المؤمنين على الصبر والتقوى، ونبهم على إمداد الله لهم بالملائكة في غزوة بدر، أردفه بالأمر بالمسارعة إلى نيل رضوان الله، ثم ذكر بالتفصيل غزوة أحد، وما نال المؤمنين فيها من الهزيمة بعد النصر بسبب مخالفة أمر الرسول - ﷺ -، ثم بين أن الابتلاء، سنة الحياة، وأن قتل الأنبياء لا ينبغي أن
131
يدخل الوهن في قلوب المؤمنين، ثم توالت الآيات الكريمة في بيان الوقائع والعبر من غزوة أحد.
قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر في الآيات السابقة قصة أحد، وأهم أحداثها، ثم ذكرهم بوقعة بدر، وما كتب لم فيها من النصر على قلة عددهم، وعددهم ذكرهم هنا بسنن الله في خليقته، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار، وأن الحق لا بد أن ينصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولةٍ، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾. وقال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا، أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة والبلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، وفيه تمحيص له الحق؛ فإن الشدائد محك الأخلاق. وفيه هديٌ وإرشادٌ وتسليةٌ للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز والظفر في جميع أعمالهم.
بين لهم هنا أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر والجهاد في سبيل الله؛ كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق، وسلوك طريق الإنصاف، والعدل بين الناس، فسنة الله هنا كسنته هناك.
أسباب النزول
قوله تعالى (١): ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما
(١) لباب النقول.
132
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس أنَّ رجالًا من الصحابة كانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، أو ليت لنا يومًا كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، فنفوز فيه بالشهادة والجنة، أو الحياة والرزق، فأشدهم الله أحدًا، فلم يلبثوا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ...﴾ الآية، أخرج ابن المنذر عن عمر قال: تفرقنا عن رسول الله - ﷺ - يوم أحد فصعدتُ الجبلَ، فسمعتُ يهود تقول: قتل محمد فقلت: لا أسمع أحدًا يقول: قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله - ﷺ - والناس يتراجعون، فنزلت: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: لما أصابهم يوم أحدٍ ما أصابهم من القرح، وتداعوا نبيَّ الله قالوا: قد قتل فقال أناسٌ: لو كان نبيًّا ما قتل، وقال أناس: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم، أو تلحقوا به، فأنزل الله ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ...﴾ الآية.
وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن ابن أبي نجيح أن رجلًا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه فقال: أشعرت أن محمدًا قد قتل؟ فقال: إن كان محمدٌ قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم فنزلت.
وأخرج ابن راهويه في مسنده عن الزهري، أن الشيطان صاح يوم أحد: إنَّ محمدًا قد قتل، قال كعب ابن مالك: أنا أول من عرف رسولَ الله - ﷺ - رأيت عينيه من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي هذا رسول الله - ﷺ - فأنزل الله ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراء
١٣٣ - ﴿وَسَارِعُوا﴾ قرأ الجمهور بالواو عطفًا تفسيريًّا على وأطيعوا الله كمصاحفهم، فإنها ثابتة في مصاحف مكة والعراق، ومصحف عثمان. وقرأ ابن عامر، ونافع، وأبو جعفر ﴿سَارِعُوا﴾ بدون واو كرسم المصحف الشامي، والمدني، على الاستئناف، كأنَّه قيل: كيف نطيعهما؟ فقيل: سارعوا إلى ما يوجب المغفرة، وهو
133
الطاعة بالإِسلام، والتوبة والإخلاص، وأمال الدوري في قراءة الكسائي ﴿وَسَارِعُوا﴾ لكسرةِ الراء.
وقرأ أُبيٌّ وعبدُ الله ﴿وسابقوا﴾ وهي شاذَّةٌ.
أي: وسابقوا وبادروا ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: إلى ما يوجب (١) المغفرة من ربكم، وهي الأعمال الصالحة المأمور بفعلها. قال ابن عباس رضي الله عنهما إلى الإِسلام، ووجهه أنَّ الله تعالى ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه المغفرة العظيمة، وذلك لا يحصل إلا بسبب الإِسلام؛ لأنه يَجُبُّ ما قبله. وعن ابن عباس أيضًا إلى التوبة من الرّبا والذنوب؛ لأنَّ التوبة من الذنوب توجب المغفرة. وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إلى أداء الفرائض لأنَّ اللفظ مطلق فيعم الكل.
وروي عن أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، أنها التكبيرة الأولى يعني تكبيرة الإحرام، وقيل: إلى الإخلاص في الأعمال، كما قاله عثمان بن عفان؛ لأنَّ المقصود من جميع العبادات هو الإخلاص. وقيل: إلى الهجرة، وقيل: إلى الجهاد، كما قاله الضحاك، ومحمد بن إسحاق. وينبغي (٢): أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل، لا على التعيين والحصر. ﴿وَجَنَّةٍ﴾؛ أي: وسارعوا إلى جنة موصوفة بما سيأتي، وأنما فصل بين المغفرة والجنة؛ لأن معنى المغفرة إزالة العقاب، ومعنى الجنة إيصال الثواب، فلا بد للمكلف من تحصيل الأمرين فجمع بينهما للإشعار؛ بأنه لا بدَّ من المسارعة إلى التوبة الموجبة للمغفرة، وذلك بترك المنهيات، ومن المسارعة إلى الأعمال الصالحة المؤدية إلى الجنة.
﴿عَرْضُهَا﴾؛ أي: عرض تلك الجنة وسعتها ﴿السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾؛ أي: كعرض السموات السبع والأرضين السبع وسعتهما، بمعنى لو جعلت السموات والأرض طبقًا طبقًا، ووصلت تلك الطبقات بعضها ببعض كالثياب، وجعلت طبقًا
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
134
واحدًا.. لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية في السعة، فإذا كان عرضها كذلك فكيف بطولها؛ لأن الغالب أنَّ الطول يكون أكثر من العرض. وإنما مثل عرض الجنة بعرض السموات والأرض؛ لأنهما أوسع مخلوقات الله تعالى فيما يعلمه الناس، وإنما جمعت السموات وأفردت الأرض؛ لأن السموات أنواع قيل: بعضها فضة وبعضها غير ذلك، والأرض نوع واحد.
وقال أبو مسلم (١): إن العرض هنا ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع؛ أي: ثمنها، لو بيعت كثمن السموات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها، وإنه لا يساويها شيء وإن عظم ﴿أُعِدَّتْ﴾؛ أي: هيئت تلك الجنة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الشرك، والمعاصي بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات. وفي الآية دليلٌ على أن الجنة مخلوقةٌ الآن، وأنها خارجةٌ عن هذا العالم؛ إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم، فلا يمكن أن يكون محيطًا بها.
ويدل على (٢) ذلك حديث رؤيا النبي - ﷺ -؛ وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله - ﷺ - إن جبريل وميكائيل قالا له: "ارفع رأسك فرفع، فإذا فوقه مثل السحاب، قالا: هذا منزلك قال: فقلت دعاني أدخل منزلي. قالا: إنه بقي لك عمرٌ لم تستكمله، فلو استكملت.. أتيت منزلك".
والأدلة الدالة على أنها مخلوقةٌ من الكتاب والسنة كثيرةٌ شائعة خلافًا للمعتزلة.
وخلاصة (٣) المعنى: أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ربكم، ويدخلكم جنةً واسعة المدى، أعدها الله تعالى لمن اتقاه، امتثل أوامره، وترك نواهيه فاعملوا الخيرات، وتوبوا عن المعاصي والآثام كالربا مثلًا، وتصدقوا على ذوي البؤس والفاقة.
(١) المراغي.
(٢) التحرير والتنوير في علم التفسير.
(٣) المراغي.
135
رُويَ أنَّ رسول هرقل ملك الروم، قدم على النبي - ﷺ - بكتاب هرقل، وفيه أنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار"، يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم، والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو، والنار في جهة السفل.
١٣٤ - ثم وصف الله تعالى المتقين بجملة أوصافٍ كلها مناقب ومفاخر، فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ ويصرفون أموالهم في مصارف الخير ﴿فِي﴾ حالة ﴿السَّرَّاءِ﴾ والغنى، والسعة، والفرح، والرخاء ﴿وَ﴾ في حالة ﴿الضَّرَّاءِ﴾ والفقر، والضيق، والحزن، والشدة، فينفقون في كل حال بحسبها، ولا يتركون الإنفاق في كلتا الحالتين لا في حال غنى وفقر، ولا في حال حزن وسرور، ولا في رخاءٍ وشدةٍ، ولا محنةٍ وبلاء، وسواء كان الواحد منهم في عرس أو حبس، فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في جميع الأحوال. وأثر عن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة. وفي الحديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق".
وإنما بدأ الله سبحانه وتعالى وصف المتقين بالإنفاق لأمرين:
الأول: أنه جاء في مقابلة الربا الذي نهى عنه في الآية السابقة؛ إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج، وإطعام له ما لا يستحقه، والربا استغلال الغني حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهي ضده. ومن ثم لم يرد في القرآن ذكر الربا إلّا ذم وقبح، ومدحت معه الزكاة والصدقة كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ وقوله: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾.
والأمر الثاني: أنَّ الإنفاق في حالي، اليسر والعسر أدل على التقوى، لأن المال عزيز على النفس، فبذله في طرق الخير والمنافع العامة التي ترضي الله يشق عليها أما في السراء؛ فلما يحدثه في السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع، وبعد الأمل، وأما في الضراء؛ فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا
136
أن يعطي، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتًا يجد فيه ما ينفقه في سبيل الله، ولو قليلًا. وحب الخير هو الذي يحرك في الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل، فإن لم توجد تلك الداعية بحسب الفطرة فالدين ينميها، ويقويها، إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة وإصلاح الفطر المعوجة.
وقد أرشدنا هذا الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمةً في ذاتها مهما ألح عليها الفقر، وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال، ومد الأيدي إلى الناس لطلب الإحسان، وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء، لما في ذلك من الذلة والصغار، وهي ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق في قبضة الله، وهو الذي يعطي ويمنع، وقد جعل لكسب المال أوجهًا كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال، والبعد عن ذل السؤال. إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرًا، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة في الزراعة، والصناعة، أو في بناء الملاجىء والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها، وبذا تقدمت في سائر فنون المدنية، والحضارة. ولذا حث الله تعالى على بذل الخير ولو قليلًا بقوله: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾.
ومن هذا ترى: أنَّ الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال؛ كما أن الشحَّ به علامة عدم التقوى. والتقوى: هي السبيل الموصل إلى الجنة. فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد، والجماعات، ويكنزون في صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئًا مع هذا الشح البادي على ووجههم؟!. فما هي إلّا حركات وأعمال مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع في نفوسهم إذ الصلاة التي يقبلها الله، والصوم الذي يرضاه الله هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، وأيُّ منكر أشد من
137
الضن بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد؟.
ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل؛ لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى، ولكنا من ذوي العزة والمكانة بينها.
ولكنا صرنا إلى ما ترى عسى الله أن يغير من نفوس المسلمين، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم، واجتناب نواهيه التي ابتلوا بها من جهة الأوروبيين من الملاهي العصرية، والملاعب الفاضية، من المنافع الحربية التي ينفقون فيها أموالًا كثيرةً، وملايين عديدةً تشبهًا باليهود والنصارى، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

فصل في ذكر بعض الأحاديث الواردة في الحث على الإنفاق


وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق: فلا ينفق إلا سبغت أو وفت على جلده حتى تخفى ثيابه، وتعفو أثره، وأما البخيل: فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقةٍ مكانها؛ فهو يوسعها فلا تتسع ". "الجنة الدرع من الحديد متفق عليه.
وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "السخي قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس، بعيدٌ من الجنة، قريب من النار، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله تعالى من عابدٍ بخيل" أخرجه الترمذي. وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله - ﷺ -: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الاخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا. متفق عليه.
وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله - ﷺ -: "من أنفق زوجين في سبيل الله تعالى دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب، أي فل: هلم، فقال أبو بكر رضي الله: عنه يا رسول الله، ذاك الذي لا توى عليه، قال رسول الله - ﷺ -: "إني
138
لأرجو أن تكون منهم". متفق عليه. قوله: أي فل: يعني يا فلان، وليس بترخيم والتوى الهلاك: يعني ذاك الذي لا هلاك عليه.
وعنه أيضًا رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "قال الله تبارك وتعالى: أنفق ينفق عليك". متفق عليه.
﴿وَالْكَاظِمِينَ﴾؛ أي: الجارعين ﴿الْغَيْظَ﴾ والغضب عند امتلاء نفوسهم منه، والممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، والكافين لها عن الانتقام مع القدرة عليه، ولا يظهرون أثره. والكظم حبس الشيء عند امتلائه، وكظم الغيظ: هو أن يمتليء غيظًا فيرده في جوفه، ولا يظهره بقولٍ ولا فعلٍ، ويصبر عليه ويسكن عنه.
ومعنى الآية (١): أنهم يكفون غيظهم عن الإمضاء، ويردون غيظهم في أجوافهم، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم كما في آية أخرى: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.
ومن أجاب داعي الغيظ وتوجه بعزيمةٍ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال، ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي، ومن ثم كان من التقوى كظمه.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن خادمًا لها غاظها فقالت: لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاءً، وقال - ﷺ -: "ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاءٍ، ومن جرعة غيظٍ كظمها".
وعن سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء". أخرجه الترمذي، وأبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ليس الشديد
(١) الخازن.
139
بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". متفق عليه.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنًا، وإيمانًا" وقال (١) مقاتل بلغنا أنَّ رسول الله - ﷺ - قال في هذه الآية: إنَّ هذه في أمتي لقليل، وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية". وأنشد أبو القاسم بن حبيب:
وَإذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقْوَرًا كَاظِمًا لِلْغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُوْلُ وَتَسْمَعُ
فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَصَبُّرُ سَاعَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الإِلَهُ وَيدْفَعُ
﴿وَالْعَافِينَ﴾؛ أي: التاركين المسامحين الإساءة والمظالم ﴿عَنِ النَّاسِ﴾ الجناة والمسيئين عليهم؛ أي: الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس، ويتركون عقوبة من استحقوا مؤاخذته مع القدرة عليه، وتلك منزلة من ضبط نفسه وملك زمامها قل من يصل إليها، وهي أرقى من كظم الغيظ إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة. وأخرج الطبراني عن أبيٍّ بن كعب أنَّ رسولَ الله - ﷺ - قال: "من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه".
وفي الآية: إيماءٌ إلى حسن موقع عفوه - ﷺ - عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره، وإرشادٌ له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حتى قال حين راه: "قد مثل به لأمثلن بسبعين منهم".
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ﴾ ويثيب ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ بالإخلاص، والأعمال الصالحة، وبالإحسان إلى غيرهم على إحسانهم، ومحبة الله للعبد أعظم درجات الثواب.
أي: والله سبحانه وتعالى يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين، ويواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرًا له على جزيل نعمائه.
(١) البحر المحيط.
140
أخرج البيهقي: أنَّ جاريةً لعليٍّ بن الحسين رضي الله عنها جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها، فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ فقال لها: قد كظمت غيظي قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال: قد عفا الله عنك، قالت: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.
واعلم: أن الإحسان إلى الغير إما بإيصال النفع إليه، وهو الذي عناه الله بقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ فيدخل فيه إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين، وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات.
وإما بدفع الضرر عنه، فهو إما في الدنيا بأن لا يقابل الإساءة بإساءة أخرى، وهو ما عناه الله بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ وإما في الآخرة بأن يعفو عما له عند الناس من التبعات، والحقوق، وهذا هو المراد بقوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى الغير.
١٣٥ - ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ هذا (١) مبتدأ خبره ﴿أؤُلَئِكَ﴾ وقيل: معطوف على ﴿المتقين﴾ والأول أولى، وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأول، ملحقون بهم، وهم التوابون. أي: والذين إذا فعلوا وارتبكوا فاحشةً أي: ذنبًا قبيحًا، وهو ما يتعدى أثره إلى الغير كالغيبة ونحوها ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: ارتكبوا ذنبًا يكون مقصورًا عليهم، كشرب الخمر ونحوه، وقيل: المراد بالفاحشة الكبائر وبالظلم الصغائر.
وقال ابن عباس (٢): الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة. ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: ذكروا وعده ووعيده، وأمره ونهيه، بألسنتهم وعظمته وجلاله وعقابه بقلوبهم ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته راجين رحمته علمًا منهم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو، فهو الفعال
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
141
لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع. وقوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ جملةٌ معترضة بين ما قبلها وما بعدها، أعني بين جملة ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾، وجملة ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ تصويبًا لفعل التائبين، وتطييبًا لقلوبهم، وبشارةً لهم بسعة الرحمة، وقرب المغفرة وإعلاءً لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله، وكرمه، وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عما عنه، وتجاوز عن ذنوبه، وإن جلت، فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم؛ كما أن فيها تحريضًا للعباد على التوبة وحثًّا لهم عليها، وتحذيرًا من اليأس والقنوط.
والاستفهام فيه للإنكار، أي: لا يغفر ذنوب التائبين أحدٌ إلا الله.
ومعنى: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: أتوا بالتوبة على الوجه الصحيح؛ لأجل ذنوبهم، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل، ومع الإقلاع عنه في الحال، وهذا هو حقيقة التوبة. فأما الاستغفار باللسان؛ أي: مجرد قول استغفر الله باللسان والقائل ملتبس بالذنوب، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة، ولإظهار انقطاعه إلى الله تعالى. وقوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾ معطوف على جواب إذا.
﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ معطوف على ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: ولم يقيموا، ولم يدوموا ﴿عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ وارتكبوا من الفواحش واللمم من غير استغفار منها، ورجوع إلى الله بالتوبة بل أقروا واستغفروا. وقد قال - ﷺ -: "لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار". يريد - ﷺ - أن الصغيرة مع الإصرار كبيرةٌ. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وهذه الجملة حال من فاعل ﴿يُصِرُّوا﴾؛ والحال أنهم يعلمون أن ما فعلوه معصية الله، وأنه منهيٌّ عنه قبيحٌ ورد الوعيد عليه، أو يعلمون أن الله يتوب على من تاب.
والفائدة من ذكر هذه الجملة: بيان أنه إذا لم يعلم أنه معصية الله.. يعذر في فعله.
والمؤمن المتقي لا يصر على الذنب، وهو يعلم نهي الله عنه، ووعيده عليه
142
إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على حقوق الشريعة.
فالآية: تؤمِىءُ إلى أن المتقين الذين أعدَّ الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا على الذنوب، إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر. ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالةٍ، وبادر إلى التوبة منها، فكانت مذكرة له بضعفه البشري، ودليلًا على أن للغضب عليه سلطانًا تكون دون صغيرةٍ يقترفها مستهينًا بها، مصرا عليها، مستأنسًا بها، فتزول من نفسه هيبة الشريعة، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين.
وروي أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أوحى إلى موسى عليه السلام: "ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عملٍ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي". وقال عبد الله بن المبارك شعرًا:
تَرْجُو اْلنَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِيْنَةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
قال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ إلى آخرها.

فصلٌ فيما وَرَد في فضل الاستغفار من الأحاديث الصحيحة


عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "إني كنت إذا سمعت حديثًا من رسول الله - ﷺ - نفعني الله منه ما شاء أن ينفعني، وإذا حدَّثني أحد من الصحابة استحلفته، فإذ حلف لي صدقته، وأنه حدثني أبو بكرٍ، وصدق أبو بكر أنه سمع رسولَ الله - ﷺ - يقول: "ما من عبد مؤمن أو قال: ما من رجل يذنب ذنبًا فيقوم ويتطهر، ثم يصلي، ركعتين، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ إلى آخر الآية. أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث قد رواه غير واحد عن عثمان بن المغيرة فرفعوه.
143
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "مَنْ لَزِم الاستغفارَ.. جَعَل الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب". أخرجه أبو داود.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال، رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا.. لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم". أخرجه مسلم.
وعنه أيضًا عن النبي - ﷺ - فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إذا أذنب عبد ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، قال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد، فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال، تبارك وتعالى: إن عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال: تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب". وفي رواية اعمل ما شئت قد غفرت لك". قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت؛ متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله - ﷺ - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أُبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرةً". أخرجه الترمذي. وعنان السماء بفتح العين السحاب، وقيل: ما ظهر لك منها. وقراب الأرض بضم القاف، وروي كسرها، والضم أشهر، وهو ما يقارب ملأها.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - من قال: "استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوبه، وإن كان قد فر من الزحف". أخرجه أبو داود، والترمذي والحاكم، وقال: حديث حسن صحيح على شرط البخاري ومسلم.
144
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "كل ذنب عسَى أن يغفره الله إلا من مات مشركًا، ومن قتل مؤمنًا متعمدًا". أخرجه أبو داود. انتهى الفصل.
١٣٦ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات السابقة، والمستغفرون من ذنوبهم ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ على أعمالهم الحسنة ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ كائنة ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم ﴿وَجَنَّاتٌ﴾؛ أي: بساتين ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها، وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾؛ أي: أنهار الماء، واللبن، والخمر، والعسل حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ﴾؛ أي: مقدرين الخلود ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة دائمين فيها لا يموتون، ولا يخرجون منها ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾؛ أي: وحسن جزاء المطيعين الله بالصفات السابقة، وبالاستغفار من ذنوبهم. والمخصوص بالمدح المغفرة، والجنات.
وخلاصة ذلك: نِعْمَ هذا الأجر الذي ذكر من المغفرة، والجنات أجرًا للعاملين تلك الأعمال الصالحة، وللمستغفرين من ذنوبهم. وذكر تعالى (١) ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ بـ ﴿واو﴾ العطف هنا، وتركها في العنبكوت لوقوع مدخولها هنا بعد خبرين متعاطفين بالواو، فناسب عطفه بها ربطًا بخلاف ما في العنبكوت؛ إذ لم يقع قبل ذلك إلا خبر واحد كنظيره في الأنفال في قوله تعالى: ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى﴾ ونظير الأول قوله في الحج: ﴿فَنِعْمَ الْمَوْلَى﴾؛ وإن كان العطف فيه بالفاء.
ولا يلزم (٢) من إعداد الجنة للمتقين، والتائبين جزاءً لهم أن لا يدخلها المصرون، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم.
والتعبير عن المغفرة، والجنات بالأجر المشعر بأنهما يستحقان في مقابلة العمل، وإن كان بطريق التفضل، لمزيد الترغيب في الطاعات، والزجر عن المعاصي.
١٣٧ - ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ وهذا رجوع إلى تفصيل بقية قصة أحد بعد تمهيد مبادئ الرشد، والصلاح وأولها قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ فقوله: {يأَيَهُا
(١) الجمل.
(٢) كرخي.
145
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا الرِّبَا} إلى قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ اعتراضٌ في خلال القصة.
أيْ: قد (١) مضت من قبل زمانكم أيها المؤمنون سنن الله تعالى وعاداته في الأمم الماضية المكذِّبة لرسلهم بإهلاكهم، واستئصالهم لأجل مخالفتهم الرسل، إن لم يتوبوا، وبالمغفرة إن تابوا، فرغب الله تعالى أمة محمَّد - ﷺ - في تأمل أحوال هؤلاء الماضين؛ ليصير ذلك داعيًا لهم إلى الإيمان بالله ورسله، والإعراض عن الرياسة في الدنيا، وطلب الجاه.
والخلاصة: أن النظر في أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين، فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين، فحالكم كحالهم. وفي الآية تذكير لمن خالف أمر النبي - ﷺ - يوم أحد، وإرشادٌ لهم إلى أنهم بين عاملي خوف ورجاءٍ، فهي على أنها بشارةٌ لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذ هم حادوا عن سننه، وساروا في طريق الضالين ممن قبلهم. وعلى الجملة، فالآية خبر وتشريع، وتتضمن وعدًا ووعيدًا وأمرًا ونهيًا.
والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن في الأمم، وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها. لذلك لم يلبث أصحاب النبي - ﷺ - أن ثابوا إلى رشدهم يومئذٍ، ورجعوا إلى الدِّفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم، ولم ينالوا ما كانوا يقصدون.
وقد جرت سنة الله بأن للمشاهدة في تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده؛ إذ المقول قد ينسى، ويقل الاعتبار به من قبل هذا، أرشدهم إلى الاعتبار، وقياس ما في أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم، ومن ثم قال: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.
ومعنى الآية: قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي، واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب أجله الذي أجلته
(١) مراح.
146
لإهلاكهم، فإن أردتم معرفة ذلك فامشوا أيها المؤمنون في نواحي الأرض وأرجائها، ثم انظروا، وتأملوا كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل الذين لم يتوبوا من تكذيبهم. وفي الآية (١) دلالةٌ على أهمية علم التاريخ، لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل وأسباب صلاح الأمم وفسادها. قال ابن عرفة: السير في الأرض حسي ومعنوي. والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض، لعجز الإنسان وقصوره. وإنما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب؛ لأن في المخاطبين من كانوا أميين، ولأن المشاهدة تفيد من لم يقرأ، علمًا، وتقوي علم من قرأ التاريخ، أو قص عليه.
والمعنى: فسيروا في الأرض، وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم؛ ليحصل لكم العلم الصحيح المبني على المشاهدة وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل في الأمم السالفة وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى. والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها. وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر في كتب التاريخ التي دونها من ساروا في الأرض، ورأوا آثار الذين خلوا، فتحصل لنا العظة والعبرة، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون في الأرض بأنفهسم، ويرون الآثار بأعينهم، لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثرٌ في النفس كما قيل:
إِنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا فَانْظُرُوْا بَعْدَنَا إلى اْلآثَارِ
والحاصل: أنه تعالى رغب أمة محمد - ﷺ - في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعيًا لهم إلى الإيمان بالله ورسوله، والإعراض عن الدنيا ولذاتها. وفيه أيضًا زجر للكافر عن كفره؛ لأنه إذا تأمل في أحوال الكفار الماضين، وإهلاكهم صار ذلك داعيًا له إلى الإيمان.
(١) التحرير والتنوير في علم التفسير.
147
وفي هذه الآية أيضًا تسليةٌ لأصحاب محمد - ﷺ - على ما جرى لهم في غزوة أحد، وحينئذ فلا عجب في أن ينهزم المسلمون في وقعة أحد، وأن يصل المشركون إلى النبيّ - ﷺ - فيشجوا رأسه، ويكسروا سنه، ويردوه في حفرةٍ. وفيها أيضًا دلالةٌ (١) على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى، وزيارة الصالحين، وزيارة الأماكن المعظمة، كما يفعله سياح هذه الأمة. وجواز النظر في كتب المؤرخين، لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم، وما جرى عليهم من المثلات. والأمر في قوله: ﴿فَسِيرُوا﴾ أمر ندب لا وجوب، بل المقصود تعرف أحوال الماضين. وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الاشتغال بعلم التواريخ مندوب ندبًا كفائيًّا، أو عينيًّا كما مرت الإشارة إليه.
١٣٨ - ﴿هَذَا﴾ القرآن الذي أنزل عليك يا محمد، وقيل: اسم الإشارة عائد إلى ما تقدم من أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده ﴿بَيَانٌ﴾ وإيضاحٌ لأحكام الدين ﴿لِلنَّاسِ﴾ عامة أي: مبينٌ لهم لأحكام دينهم من الحلال، والحرام، وغيرهما. ﴿وَهُدًى﴾ للمتقين منهم خاصة ورشاد لهم؛ أي: هادٍ لهم من الضلالة إلى طريق الرشاد ﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾ ونصيحةٌ ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الله خاصة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، أي واعظٌ وزاجرٌ لهم عن المنهيات والمنكرات. وقيل (٢): في الفرق بين البيان، والهدي، والموعظة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. إن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلةً. والهدي هو: طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغيّ. والموعظة هي: الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين.
فالحاصل: أن البيان جنس تحته نوعان:
أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين، وهو الهدى.
والثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين، وهو الموعظة. وإنما خص المتقين بالهدى والموعظة؛ لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
والمعنى: (١) أنَّ هذا الذي تقدم بيان للناس كافةً، وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصةً، فالإرشاد عام للناس، وحجة على المؤمن، والكافر التقي منهم والفاجر.
وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم: لو كان محمدٌ رسولًا حقًّا لما غلب في وقعة أحدٍ. فهذا الهدي والبيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرسل كما هي حاكمةٌ على سائر خلقه. فما من قائدٍ يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وظهورهم، والعدو مشرف عليهم، إلا كان جيشه عرضةٌ للإنكسار؛ إذا كر العدو عليه قطع خط الرجعة، ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس كلٌّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة.
وأما كونه هدى وموعظةً للمتقين خاصَّةً، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع، فيستقيمون، ويسيرون على النهج السوي، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها. فالمؤمن حقًّا، هو الذي: يهتدي بهدي الكتاب، ويسترشد بمواعظه كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب، والتنازع مع غيرنا، إلى أن نروض أنفسنا ونعرف عنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا، فنسير على سنن الله في طلبه، وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا، ونضع الميزان بيننا وبينه وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
١٣٩ - ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾؛ أي: ولا تضعفوا عن الجهاد مع عدوكم لما أصابكم من الهزيمة يوم أحد ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ على ما فاتكم من الغنائم فيه، ولا على ما أصابكم من القتل، والجراحة، وكان قد قتل منهم يومئذٍ سبعون رجلًا خمسةٌ من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، صاحب راية رسول الله - ﷺ -، وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله - ﷺ -، وشماس بن عثمان، وسعدٌ
(١) المراغي.
149
مولى عتبة، وباقيهم من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾؛ أي: الغالبون في آخر الأمر بالنصرة لكم دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدَّمار حسب ما شاهدتم من أحوال أسلافهم، أي لكم العاقبة المحمودة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ حقًّا بصدق وعد الله نبيه بالنصر، وهذا إما منصبٌّ بالنهي أو بوعد النصر والغلبة؛ أي: إن كنتم مؤمنين.. فلا تهنوا، ولا تحزنوا، فإن الإيمان يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وقلة المبالاة بالأعداء، أو إن كنتم مؤمنين. فأنتم الأعلون؛ فإن الإيمان يقتضي العلو بلا شكٍّ.
والمعنى: ولا تضعفوا عن القتال، وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل في يوم أحد، ولا تحزنوا على من فقد منكم في هذا اليوم، وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون؛ فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين، الذين لا يحيدون عن سنته، بل ينصرون من ينصره، ويقيمون العدل فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي، والانتقام، أو للطمع فيما في أيدي الناس.
فهمة الكافر على قدر ما يرمي إليه من غرض خسيسٍ، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمي إلى إقامة صرح العدل في الدنيا، والسعادة الباقية في الآخرة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ومصدِّقين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته في نظم الاجتماع حتى صار ذلك الإيمان وصفًا ثابتًا لكم حاكمًا على نفوسكم وأعمالكم.
إنما نهى عن الحزن على ما فات؛ لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئًا من عزيمته، وبالعكس صلته بما يحب من مالٍ أو متاع أو صديقٍ تكسبه قوة، وتوجد في نفسه سرورًا. والمراد بالنهي عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفًا.
وخلاصة ذلك الأمر: بأخذ الأهبة وإعداد العدة، مع العزيمة الصادقة، والحزم والتوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا، ويستعيضوا مما خسروا.
150
وفي قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ تبشيرٌ لهم بما يقع لهم في المستقبل من النصر، فإن من اخترق الإيمان الصحيح فؤاده، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقينٍ من العاقبة بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح
١٤٠ - ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾؛ أي: إن أصابكم أيها المؤمنون جرح في يوم أحد ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ﴾؛ أي: فقد أصاب كفار مكة يوم بدر ﴿قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾، أي: جرح ماثلٌ لما أصابكم في يوم أحد، بل هو أعظم مما أصابكم؛ لأنه أسر منهم سبعون، وقتل سبعون والمسلمون في أحدٍ قتل منهم سبعون، وأسر عشرون، ومع ذلك فلم يضعف ذلك قلوبهم، فأنتم أحق بأن لا تضعافوا.
وقيل: إن المعنى إن نالكم يوم أحد قرحٌ وانهزامٌ.. فقد نال كفار مكة في ذلك اليوم، أعني يوم، أحد قرحٌ مماثلٌ لما نالكم، فإن المسلمين نالوا من الكفار قبل أن يخالفوا أمر رسول الله - ﷺ - قتلوا منهم نيفًا وعشرين رجلًا، منهم صاحب لوائهم، وجرحوا عددًا كثيرًا، وعقروا عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم أول النهار.
والخلاصة: أنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد، وليس لكم العذر فيه؛ لأجل أن مسكم قرحٌ، فإن أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا في الحرب، ولم يهنوا فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة وتمسككم بالحق.
وقرأ حمزة (١) والكسائي، وابن عيَّاش عن عاصم، والأعمش في طريقةٍ ﴿قَرْحٌ﴾ بضم القاف وباقي السبعة بالفتح. والسبعة كلهم على تسكين الراء. قال أبو علي: والفتح أولى انتهى. ولا أولوية إذ كلاهما متواترٌ فهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل: هو بالفتح الجراح، وبالضم ألمها. وقرأ أبو السمال، وابن السميقع ﴿قَرْحٌ﴾ بفتح القاف والراء، وهي لغة: كالطرد والطرد والشل والشلل. وقرأ الأعمش ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ﴾ بالتاء من فوق ﴿قَرْوحٌ﴾ بالجمع.
(١) البحر المحيط والبيضاوي.
151
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ﴾؛ أي: أيام الغلبة والظفر والنصر ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ ونناقلها، ونحاولها، ونناوبها، ونصرفها من قديم الزمان إلى آخره ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ على وفق ما أردناه أزلًا تارةً لهؤلاء، وتارةً لهؤلاء، فلا تبقى الناس على حالة واحدةٍ، ولا يدوم (١) مسارها ومضارها فيومٌ يحصل فيه السرور للمؤمنين، والغم للأعداء، ويومٌ آخر بالعكس، ولكن العاقبة للمؤمنين، وليس المراد من هذه المداولة أنَّ الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين، والأخرى ينصر الكافرين. وذلك؛ لأن نصرة الله منصبٌ شريفٌ، فلا يليق بالكافر بل المراد من هذه المداولة أنه تارةً يشدد المحنة على الكفار، وأخرى على المؤمنين، ولو شدَّد المحنة على الكفار في جميع الأوقات.. لحصل العلم الضروري بأن الإيمان حقٌّ، وما سواه باطلٌ، ولو كان كذلك.. لبطل التكليف والثواب، وأيضًا إن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي؛ فيشدد الله المحنة عليه في الدنيا تأديبًا له. وأمَّا تشديد المحنة على الكافر، فإنه غضبٌ من الله عليه، وأيضًا: إن لذات الدنيا وآلامها غير باقية، وإنما السعادات المستمرة في دار الآخرة.
ورُوي أنَّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعةٌ، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ يعني محمدًا - ﷺ - وأبو كبشة زوج حليمة السعدية، وهو أبوه من الرضاع أين ابن أبي قحافة؟ يريد أبا بكر أين ابن الخطاب؛ فقال عمر: هذا رسولُ الله - ﷺ - وهذا أبو بكر وها أنا ذا عمر فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم، والأيام دولٌ، والحرب سجالٌ، فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال: إن كان الأمر كما تزعمون.. فقد خبنا إذًا وخسرنا.
والخلاصة (٢): أن مداولة الأيام، وأوقات الغلبة، والنصر بين الناس سنةٌ من سنن الله تعالى في المجتمع البشري، فمرةً تكون الدولة، والغلبة للمبطل، وأخرى للمحق، ولكن العاقبة دائمًا لمن اتبع الحق.
وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح، ورعاها حق رعايتها،
(١) مراح.
(٢) المراغي.
152
كالإتفاق، وعدم التنازع، والثبات، وصحة النظر، وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة، وإعداد ما يستطاع من القوة.
فعليكم أيها المؤمنون: أن تقوموا بهذه الأعمال، والأسباب وتحكموها أتم الأحكام حتى تظفروا، وتفوزوا، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفًا لعزائمكم؛ فإن الدنيا دولٌ كما قال:
فَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيوْمٌ نُسَرُّ
ومن أمثال العرب: الحرب سجالٌ. وقرىء (١) شاذًا ﴿يُدَاوِلُهَا﴾ بالياء، وهو جار على الغيبة قبله وبعده، وقراءة النون فيها التفاتٌ وإخبارٌ بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام.
وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ معطوف على محذوف تقديره وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل، ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة، والباحث في الحكم الإلهية، أنه لا محاباة في هذه المداولة ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ﴾؛ أي: وليرى الله صبر الذين آمنوا منكم على مناجزة الجهاد وملاقاة الأعداء. قال ابن كثير (٢): قال ابن عباس في مثل هذا: لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء. انتهى أو المعنى: وليميِّز الله الذين أخلصوا في إيمانهم من المنافقين إذا أصابتهم المشقة كما وقع في أحد. وقال الشوكانيُّ (٣): فعلنا فعل من يريد أن يعلم؛ لأنه سبحانه لم يزل عالمًا، أو ليعلم الذين آمنوا بصبرهم علمًا يقع عليه الجزاء والثواب، كما علمه علمًا أزليًّا انتهى. وإنما فسرنا كذلك، لأنَّ الله سبحانه وتعالى علمهم أزلًا فلم يزل عالمًا بهم. ﴿وَيَتَّخِذَ﴾؛ أي: وليكرم بعضكم باتخاذهم شهداء في سبيل الله، وهم شهداء أحد، وذلك أن قومًا من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنون لقاء العدو، ويلتمسون فيه الشهادة. والشهداء جمع شهيد، وهو من قتل من المسلمين بسيف
(١) البحر المحيط.
(٢) ابن كثير.
(٣) فتح القدير.
153
الكفار في المعركة؛ سمي بذلك لكونه مشهودا له بالجنة، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة. وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ جملةٌ معترضةٌ بين العلل المتعاطفات؛ لتقرير مضمون ما قبلها؛ أي: لبيان أنَّ الشهداء يكونون ممن أخلصوا في إيمانهم، وأعمالهم، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله ونواهيه، والخروج عن سننه في خلقه.
أي: يعاقب المشركين، وإنما يظفرهم في بعض الأحيان استدارجًا لهم وابتلاءً للمؤمنين. والمعنى: إن الله لا يصطفي للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم. وفي ذلك بشارة للمتقين بمحبة الله لهم، وإنذارٌ للمقصرين بأنه لا يحبهم الله. وتعريضٌ لأعدائهم المشركين بأن الله لا يحبهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، وسفهوها بعبادة المخلوقات، وظلموا سواهم بالفساد في الأرض؛ والبغي على الناس، وهضم حقوقهم. ومن المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطةٌ، ولا تثبت له دولة، بل تكون دولته سريعة الزوال، قريبة الانحلال. ثم عطف على قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
١٤١ - قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: وليطهر الذين آمنوا من ذنوبهم، ويصفيهم منها بما يصيبهم في الجهاد إن كانت الغلبة للكافرين على المؤمنين.
أي: ونداول تلك الأيام ليميز المؤمنين الصادقين من المنافقين، ويطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فتصير تبرًا خالصا لا كدورة فيه، فإن الإنسان كثيرًا ما يشتبه عليه أمر نفسه، ولا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجربة الكثيرة، والامتحان بالشدائد العظيمة، فهي التي تمحصها، وتنفي خبثها، وزغلها، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه.
فالمعتقد في دين أنه الحق قد يخيل إليه وقت الرخاء، أنه يسهل عليه بذل ماله، ونفسه في سبيل الله؛ ليرفع راية ذلك الدين، ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور له أولًا، أنظروا إلى الذين خالفوا أمر النبيّ - ﷺ - يوم أحد، وطمعوا في الغنيمة، وإلى الذين انهزموا وولوا الأدبار كيف محصهم الله تعالى بتلك الشدائد.
فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل، والتواكل، ولا لنيل الظفر، ونيل السيادة، بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدًّا في العمل، وأعظمهم تفانيًا، في أداء الواجب إتباعًا للنواميس، والسنن التي وضعها الله في الخليقة.
وقد تجلَّى أثر هذا التمحيص في الغزوات التي تلت هذه الوقعة ففي "غزوة حمراء الأسد" أمر النبي - ﷺ - ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد، فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنةٍ، وعزائم صادقةٍ، وهم على ما هم عليه من الجراح المبرحة، والقلوب المتكسرة.
﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: وليهلك الكافرين في الحرب، ويستأصلهم شيئًا فشيئًا، إن كانت الغلبة للمؤمنين على الكافرين. ويجعل اليأس يسطو على قلوبهم، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم، فلا يبقى لديهم شجاعةٌ، ولا بأسٌ، ولا قلٌّ (١)، ولا كثرٌ من عزة النفس، فيكون وجودهم كالعدم، لا فائدة فيه، ولا أثر له فالكافرون المبطلون، لا يثبت لهم حالٌ مع المؤمنين الصادقين، وإنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق والعدل في ينازعهم ويقاوم باطلهم، كما هو مشاهد في عصرنا هذا. لأن الإِسلام راح إلا الاسم، فهذه مصيبةٌ، ما أعظمها، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
١٤٢ - وأم في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ منقطعةٌ عند الأكثرين تقدَّر ببل، وهمزة الإنكار، والخطاب فيه للذين انهزموا يوم أحد أي أظننتم (٢) أن تدخلوا الجنة وتفوزوا بنعيمها، والحال أنه لم يجتمع فيكم الجهاد في سبيل الله، والصبر فيه على مشاقه؟ أي: لا تحسبوا دخولها ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾. أي؛ والحال: أنه لم ير الله المجاهدين منكم في سبيل الله
(١) وَقُلُّ الشيء: عُلُوَّهُ وارتفاعه، يقال: قَلَّ الشي يَقِلُّ - من باب ضرب - قِلًّا وقَلًّا إذا علا وكُثْرُ الشيء عظمته. اهـ مؤلفه.
(٢) مراح.
155
يوم أحد، ولم ير الصابرين على قتال عدوّهم مع نبيهم؛ أي: لا تحسبوا (١) أن تدخلوا الجنة بدون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد من جراحٍ، وألم، وكل مكروه، وأريد بحالة نفي علم الله بالذين جاهدوا، والصابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد، والصبر عنهم. لأن الله إذا علم شيئًا فذلك المعلوم محقق الوقوع، فكما كنى بعلم الله عن التحقق في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كنى بنفي العلم عن نفي وقوع اجتماع الجهاد والصبر فيهم، فكأنه، قال: لا تحسبوا دخول الجنة مع أنكم لم تجاهدوا، ولم تصبروا على شدائد الحرب. وقال الطبريُّ (٢) المعنى: أظننتم يا معشر أصحاب محمد: أن تنالوا كرامة ربكم، ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهدون منكم في سبيل الله، والصابرون عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من ألمٍ ومكروه. انتهى.
وفي هذه (٣) الآية معاتبةٌ لمن انهزم يوم أحد، والمعنى: أم حسبتم أيها المنهزمون أن تدخلوا الجنة كما دخلها الذين قتلوا، وبذلوا مهجهم لربهم عن وجل، وصبروا على ألم الجراح، والضرب، وثبتوا لعدوهم يوم بدر من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم.
والخلاصة: لا تحسبوا دخول الجنة والحال أنه لم يقع منكم الجهاد مع الصبر على مكابده، وذلك بعيدٌ، وإنما استبعد هذا؛ لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الوقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبه، وبين وجوه المصالح فيه في الدين والدنيا، كان عن البعيد أن يظن الإنسان أنه يصل إلى السعادة، والجنة مع إهمال هذه الطاعة.
وجهاد (٤) النفس على أداء حقوق الله، وحقوق العباد مما يشق عليها احتماله، ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل، ويسهل عليها أداء تلك الحقوق. وربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء في ميدان القتال، وخوض غمار الوغى وأصعب من هذا، وأشق دعوة الأمة إلى خيرٍ لها في دينها ودنياها، أو بث
(١) التحرير والتنوير.
(٢) تفسير الطبري.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
156
فكرةٍ صالحةٍ تغير بعض أخلاقها، وعاداتها، أو مقاومة بدعةٍ فاشيةٍ بين أفرادها، فإنها تجد مقاومةً من الخاصة بله العامة، فتراهم يرفعون راية العصيان في وجه الداعي، ويشاكسونه بكل الوسائل، ولا سيما إذا تعلق بتغيير بعض عادات مرنوا عليها جيلًا بعد جيل، ووجدوا من أشباه العلماء من يؤازرهم، ويناصرهم في باطلهم.
وكثيرًا ما يحدث للداعي التلف والهلاك، أو ثلم العرض أو الإخراج من حظيرة الدين.
وقرأ الجمهور (١) ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا﴾ بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن وثاب، والنخعي بفتحها. وخُرِّج على أنه إتباعٌ لفتحة اللام، أو على إرادة النون الخفيفة، وحذفها كقول الشاعر:
لا تُهِيْنَ الفَقِيْرَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ كَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
وقرأ الجمهور ﴿وَيَعْلَمَ﴾ بفتح الميم فقيل: هو مجزومٌ وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ بفتح الميم على أحد التخريجين السابقين. وقيل: هو منصوب فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو المعية نحو: ما تأتينا وتحدثنا. وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف. وتقرير المذهبين في علم النحو وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، بكسر الميم عطفًا على ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ المجزوم. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو وبن العلاء ﴿وَيَعْلَمَ﴾ برفع الميم، وفي تخريجه وجهان:
أظهرهما: أنه مستأنف، أي وهو يعلم الصابرين.
وثانيهما: أن الواو للحال كأنه قيل: ولما تجاهدوا، وأنتم صابرون. قاله الزمخشري.
١٤٣ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ خوطب به الذين لم يشهدوا بدرًا، وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهدًا مع رسول الله - ﷺ - لينالوا كرامة الشهادة.
(١) البحر المحيط.
157
أي: وعزتي وجلالي، لقد كنتم يا أصحاب محمد - ﷺ - تطلبون الموت بالشهادة في الحرب من قبل أن تشاهدوا أسباب الموت وشدائده من الجهاد، والقتال يوم أحد، أو من قبل أن تلقوا العدو فيه حيث قلتم ليت لنا يومًا كيوم بدر لننال ما نال شهداؤه من الكرامة، كانوا قد ألحوا على رسول الله - ﷺ - يوم أحد في الخروج إلى المشركين في أحد، وكان رأيه - ﷺ - في الإقامة بالمدينة حتى يدخلها عليهم المشركون. ثم ظهر منهم خلاف ذلك. وقراءة الجمهور بكسر اللام ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ لأنها معربة لإضافتها إلى ﴿أَنْ﴾ وما في حيزها؛ أي: من قبل لقائه. وقرأ مجاهد بن جبر ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ بضم اللام قطعها عن الإضافة كقوله: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ وعلى هذا، فـ ﴿إن﴾ وما في حيزها في محل نصب على أنها بدل اشتمال من الموت أي: تمنون لقاء الموت كقولك رهبت العدو لقاءه.
وقرأ الزهري والنخعيُّ ﴿تلاقوه﴾ ومعناه متحدٌ مع معنى تلقوه، لأن لقي يستدعي أن يكون بين اثنين بمادته، وإن لم يكن على المفاعلة.
﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي: فقد رأيتم الموت وأسبابه وأبصرتموه يوم أحد إن كنتم صادقين في تمنيكم الحرب ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ أي: والحال أنكم تنظرون، إلى سيوف الكفار، والأعداء حين قتل أمامكم من قتل من إخوانكم فلم انهزمتم منهم، ولم تثبتوا مع نبيّكم؛ وهذه الجملة تأكيدٌ لما قبلها، أي: والحال أنكم بصراء ليس بأعينكم علَّةٌ.
وقال الشوكاني: وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة. انتهى.
وقرأ طلحة بن مصرف ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ باللام.
فمعنى (١) قوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدتهم، وأسلحتهم، وكرهم وفرهم مشاهدةً لا خفاء فيها، ولا شبهة، وكان لها الأثر العميق في نفوسكم.
(١) المراغي.
158
ومعنى تمني الموت: تمني الشهادة في سبيل الله، والقتال لنصرة الحق، ولو ذهبت نفوسكم دونه.
وصفوة القول: لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الميدان، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه، لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون به، ومن تمنى الشيء، وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءَه.
وفي الآية الكريمة: تنبيهٌ لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس، والتمنّي، والتشهّي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشاقّ، وعدم الثقة منها بما دون الجهاد، والصبر على المكاره في سبيل الحق حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدعي مع الغفلة، أو الجهل بعجزه عنه.
وكثيرًا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه، ويفكر في خدمتهما، ويتمنى لو يتاح له أن يساهم في تلك الخدمة بنفسه، أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته، وكابد مشقته.
ولكن المؤمن حقًّا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حقٌّ، وذلك يستدعي العمل مهما كان شاقًّا، والجهاد مهما كان عسيرًا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل. وقد كان في الذين خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا في المرتبة العليا من صدق الجهاد، والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي - ﷺ - ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلًا؛ لكنه جعل الخطاب عامًّا ليكون الإرشاد والنصح عامًّا للجميع، فيتهم ذوو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير فيزدادوا كمالًا على كمالهم، ويرعوي المقصرون، وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب في تهذيب الأنفس.
١٤٤ - وقد ظهر أثر ذلك في نفوس أولئك القوم فيما بعد، ورباهم تربيةً كانت بها
159
عزائمهم ماضيةً، وهممهم صادقةً فلم يهنوا، ولم يضعفوا، ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور. ثم نزل (١) في مقالتهم لرسول الله - ﷺ - بلغنا يا نبيَّ الله أنك قتلت فلذلك انهزمنا فقال الله ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ﴾ - ﷺ - ﴿إِلَّا رَسُولٌ﴾؛ أي: إلا بشر مرسل إلى كافة الناس ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾، أي من قبل محمد ﴿الرُّسُلُ﴾ عليه وعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين. فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم، وسنتهم بعد خلوهم. فعليكم يا أمة محمد أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه؛ لأن المقصود من بعثةِ الرسل تبليغ الرسالة، وإلزام الحجة، لا وجوده وخلوده بين أظهر قومه.
ومحمدٌ اسم (٢) علم لرسول الله - ﷺ - وفيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه، وهو الذي كثرت خصاله الحميدة، والمستحق لجميع المحامد المخلوقية؛ لأنه الكامل في نفسه - ﷺ -؛ أي: في خلقه وخلقه، فسماه باسمين مشتقين من اسمه المحمود سبحانه وتعالى، فسمَّاه محمدًا، وأحمد.
وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أرْسَلَ عَبْدَهُ بِبُرْهَانِهِ وَاللهُ أَعْلَى وَأَمْجَدُ
أغَرُّ عَلَيْهِ لِلنَّبُوَّةِ خَاتَمٌ مِنَ اللهِ مِنْ نُوْرٍ يَلُوْحُ وَيشْهَدُ
وَضَمَّ اْلإِلهُ اْسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ إِذَا قَالَ في الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِنْ إِسْمِهِ ليُجِلَّهُ فَذُوْ الْعَرْشِ مَحْمُوْدٌ وَهَذَا محمَّدُ
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". متفق عليه. والعاقب الذي ليس بعده نبيٌّ، وسماه الله رؤوفًا رحيمًا.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله - ﷺ - يسمي لنا
(١) تنوير المقياس.
(٢) الخازن.
160
نفسه أسماءً: فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا المقفى، ونبي التوبة، ونبي الرحمة". رواه مسلم. والمقفى هو آخر الأنبياء الذي لا نبي بعده.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ﴾ للاستفهام (١) الإنكاري، والفاء للعطف ورتبتها التقديم، لأنها حرف عطف. وإنما قدمت الهمزة، لأن لها صدر الكلام. وقال ابن الخطيب: الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، وتكون الفاء عاطفة، ولو صرح به لقيل أتؤمنون به مدة حياته؛ فإن مات كما مات موسى، وإبراهيم وغيرهما ﴿أَوْ قُتِلَ﴾ كما قتل زكريا، ويحيى ﴿انْقَلَبْتُمْ﴾ ورجعتم ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ وأدباركم، وارتددتم راجعين عن دينكم، فتخالفوا سنن أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم، والرسول ليس مقصودًا لذاته، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها.
أي: لا ينبغي منكم الارتداد حينئذٍ؛ لأنَّ محمدًا - ﷺ - مبلغ لا معبودٌ، وقد بلَّغكم والمعبود باقٍ، فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق لو مات من بلغكم إياه.
روي (٢) أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسولَ الله - ﷺ - بحجرٍ فكسر رباعيته، وشج وجه، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب راية رسول الله - ﷺ - يومئذٍ حتى قتله ابن قميئة، وهو يرى أنه قتل النبيَّ عليه الصلاة والسلام فقال: قد قتلت محمدًا، وصرخ صارخ أن محمدًا قد قتل، فانكفأ الناس، وجعل الرسول عليه السلام يدعو "إليَّ عبادَ الله" فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه، وحموه حتى كشفوا عنه المشركين، وتفرق الباقون، وقال بعضهم: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان، وقال ناسٌ من المنافقين: لو كان محمد نبيًّا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم، ودينكم الأول، وقال أنس بن النضر؛ عم أنس بن مالك في تلك الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، وبلغت فيها القلوب الحناجر، يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب
(١) الفتوحات الإلهية.
(٢) البيضاوي.
161
محمد حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله - ﷺ - فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إنّي أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه فنزلت ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ﴾ أي: ومن يرجع ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾؛ أي: إلى دينه الأول، وهو الشرك ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾؛ أي: فلن ينقص الله رجوعه شيئًا، وإنما يهلك نفسه بإقباله على العذاب، أو المعنى؛ ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر الله شيئًا بما فعل، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب وحرمانها من الثواب، فالله قد وعد بنصر من ينصره ويعز دينه، ويجعل كلمته هي العليا، وهو لا محالة منجزٌ وعده، ولا يحول دون ذلك ارتداد الضعفاء، والمنافقين على أعقابهم فهو سيثبت المؤمنين، ويمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص، فيقيموا دينه وينشروا دعوته، ويرفعوا شأنه وتنشر على الخافقين رايته، وهو الذي بيده الخلق، والأمر، وهو القادر على كل شيء ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ له نعمه عليهم بالإيمان، والهداية إلى أقوم السبل الثابتين على دين الإِسلام، الذي هو أجل نعمةٍ وأعز معروفٍ كأنس بن النضر وأمثاله، أي: يجازيهم في الدنيا والآخرة بما يستحقون من النصر على أعدائهم، والثواب الجسيم.
وفي الآية إرشادٌ إلى أن المصائب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل، فكثيرًا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا.
وفيها إيماءٌ إلى أنا لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود العلم بحيث نتركهما عند موته بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته.
والخلاصة: أن الله أوجب علينا أن نستضيء بالنور الذي جاء به الرسولُ - ﷺ -، أمَّا ما يصيب جسمه من جرحٍ أو ألمٍ، وما يعرض له من حياةٍ أو موت، فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فإنما هو بشرٌ مثلكم خاضعٌ لسنن الله كخضوعكم.
والخلاصة: أن قتل محمد - ﷺ - لا يوجب ضعفًا في دينه، لأمرين:
162
أحدهما: أن محمدًا - ﷺ - بشرٌ كسائر الأنبياءِ، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.
والثاني: أن الحاجة إلى الرسول هي تبليغ الذين، فإذا تَمَّ له ذلك.. فقد حصل الغرض، ولا يلزم من قتله فساد دينه.
وفي الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها، ذا صلة بوجود القائد، بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء بل يجب أن تكون المصالح العامة جاريةً على نظام ثابت، لا يزلزله فقد الرؤساء، وعلى هذا تجري الحكومات، والحروب في عصرنا هذا.
ومن توابع هذا النظام أن تعد الأمة لكل أمرٍ عدته، فتوجد لكل عملٍ رجالًا كثيرين حتى إذا فقدت معلمًا أو مرشدًا أو قائدًا أو حكيمًا أو رئيسًا أو زعيمًا وجدت الكثير ممن يقوم مقامه، ويؤدِّي لها من الخدمة ما كان يؤدِّيه، وحينئذ يتنافس أفرادها، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال كلٌّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق الله له.
وقرأ الجمهور ﴿الرُّسُلُ﴾ في قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله. وفي مصحف عبد الله ﴿رسل﴾ بالتنكير، وبها قرأ ابن عباس وقحطان بن عبد الله. وقرأ الجمهور ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ بالتثنية، وقرأ ابن أبي إسحاق على ﴿عَقِبَهِ﴾ بالإفراد.
١٤٥ - ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ﴾؛ أي: وليس من شأن النفوس، ولا من سنة الله فيها ﴿أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: إلّا بأمر الله وقضائه وقدره، وعلمه، وإرادته، ومشيئته التي بها يجري نظام الحياة، وترتبط فيها الأسباب بالمسببات.
وذلك أنَّ الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح، فلا يموت أحدٌ إلا بإذن الله تعالى وأمره، ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ منصوب بعامل محذوف تقديره: كتب الله الموت على عباده كتابًا مقرونًا بأجل معين لا يتغير، ومؤقت أبوقت لا يتقدم، ولا يتأخر، فكثيرٌ من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى، فالشجاع المقدام قد يسلم في الحرب، ويقتل الجبان المتخلف،
163
ويفتك المرض بالشاب القوي، ويترك الضعيف الهزيل وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف فللأعمار آجالٌ، وللآجال أقدارٌ لا تخطوها. والأقدار هي السنن التي عليها تقوم نظم العالم، وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر في الوهن والضعف. وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ؛ لأن فيه آجال جميع الخلق، وفي الآية تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتومًا ومؤقتًا بميقاتٍ، وأن أحدًا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خاض المعارك واقتحم المهالك.. فلا فائدة إذًا للخوف والجبن والحذر.
وفي الآية أيضًا إشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله - ﷺ - مع غلبة العدو له والتفافهم عليه، وإسلام أصحابه له فرصةً للمختلس، فلم يبق سببٌ من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظًا له لم يضره شيء. وفيها أيضًا: إشارةٌ إلى أن قومه قد قصروا في الذَّبِّ عنه ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ ويقصد بعمله الصالح ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾، وحظها ومنفعتها ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾؛ أي: نعطه من الدنيا ما يكون جزاء لعمله مما نشاء أن نعطيه إياه على ما قدرنا له، ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾. نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد، وطلبوا الغنيمة ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ ويقصد بعمله الصالح ﴿ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ ونعيمها ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ نعطه من حظوظ الآخرة، ونعيمها ما يريد مما نشاء من الأضعاف على حسب ما جرى به الوعد الكريم. نزلت في الذين ثبتوا مع رسول الله - ﷺ - يوم أحد.
واعلم: أن هذه الآية، وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامةٌ في جميع الأعمال؛ وذلك لأنَّ الأصل في ذلك كله يرجع إلى نية العبد، فإن كان يريد بعمله الدنياء. فليس له جزاء إلا فيها، وكذلك من أراد بعمله الدار الآخرة فجزاؤه أيضًا فيها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - ﷺ - يقول: "إنما الأعمالُ بالنياتِ". الحديث متفق عليه.
وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ -
164
قال: "من كانت نيته طلب الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا، جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب الله له".
وذلك (١) لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب الدواعي والقصود، لا ظواهر الأعمال كما في الحديث المذكور، فإن من وضع الجبهة على الأرض مثلًا في صلاة الظهر والشمس قدامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى.. كان ذلك من أعظم دعائم الإِسلام، وإن قصد به عبادة الشمس، كان ذلك من أعظم دعائم الكفر ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾؛ أي: سنثيب الثابتين على شكر نعمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، الذين يعرفون أنعم الله عليهم من القوى، ويصرفونها إلى ما خلقوا لأجله من طاعة الله تعالى، ويستعملوها فيما يرقى بهم إلى مراقي الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس بن النضر، وأمثاله الذين جاهدوا، وصبروا مع النبي - ﷺ - بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين.
وقرأ الجمهور (٢) ﴿نُؤْتِهِ﴾ الموضعين بالنون، وكذلك قرؤوا ﴿سَنَجْزِي﴾ بالنون أيضًا، وهو إلتفاتٌ إذ هو خروج من غيبةٍ إلى تكلمٍ بنون العظمة، وقرأ الأعمش ﴿يُؤْتِهِ﴾ بالياء فيهما، وفي ﴿سَيجْزِي﴾ وهو على ما سبق من الغيبة.
وأدغم (٣) أبو عمرو وحمزة والكسائي، وابن عامر، بخلاف عنه دال ﴿يُرِدْ﴾ في الثاء والباقون بالإظهار. وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء ﴿نُؤْتِهِ﴾ في الموضعين وصلًا ووقفًا، وقالون وهشامٌ بخلاف عنه بالاختلاس وصلًا، والباقون بالإشباع وصلًا. فأما السكون فقالوا: إنَّ الهاء لما حلت محل ذلك المحذوف أعطيت ما كان تستحقه من السكون، وأما الاختلاس فلأستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حذف لام الكلمة، فإن الأصل نؤتيه فحذفت الياء للجزم، ولم يعتد
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
165
بهذا العارض فبقيت الهاء على ما كانت عليه، وأما الإشباع فنظرًا إلى اللفظ، لأن الهاء بعد متحرك في اللفظ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن، وهو الياء التي حذفت للجزم اهـ "سمين".
١٤٦ - ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾؛ أي: وكثيرٌ من نبي قاتل لإعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، والحال أن معه في القتال جماعاتٌ كثيرةٌ من العلماء العاملين، والعُبَّاد الصالحين، فأصابهم من عدوهم قرحٌ ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾؛ أي: جبنوا وفتروا عن الجهاد، لأن الذي أصابهم إنما هو في طاعة الله، وإقامة دينه ونصرة رسوله، ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾؛ أي: عجزوا عن قتال عدوهم لما أصابهم من جرح أو قتل، حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه، لأنهم يقاتلون في سبيل الله، لا في سبيل نبيّهم علمًا منهم بأن النبي ما هو إلا مبلِّغٌ عن ربِّه، وهادٍ لأمته، ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾. ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾؛ أي: ما ذلوا وما تواضعوا لعدوهم، كما فعلتم أنتم حين قيل قتل نبيكم، وأردتم أن تعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان، ولا ولوا الأدبار، ولكنهم صبروا على أمر ربهم، وطاعة نبيهم، وجهاد عدوهم، إذ هم على يقين من ربهم في أن الجهاد في السبيل التي يرضاها من تقرير العدل في الأرض، وحماية الحق ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ على شدائد التكاليف، ومشاق الجهاد، في طلب الآخرة، أي: يكرمهم ويعظمهم ويثيبهم، ومحبة (١) الله تعالى للعبد عبارةٌ عن إرادة إكرامه وإعزازه، وإيصال الثواب له، وإدخاله الجنة مع أوليائه وأصفيائه.
والخلاصة (٢): عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين وتصبروا كما صبروا، فإن دين الله واحدٌ وسنته في خلقه واحدةٌ، ومن ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم، وتقتدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم، وتقولوا مثل قول أولئك الربيين.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾ عبارة السمين قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾ هذه اللفظة قيل: مركبة من
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
166
كاف التشبيه، ومن أيٍّ الاستفهامية، وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية، وهي كناية عن عدد مبهم، ومثلها في التركيب، وإفهام التكثير كذا في قولهم: عندي كذا كذا درهمًا، والأصل كاف التشبيه، وذا الذي هو اسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية، وكأين وكذا كلها بمعنى واحدٍ.
وهل هذه الكاف الداخلة على أيّ تتعلق بشيء كغيرها من حروف الجر أم لا؟. والصحيح أنها لا تتعلق بشيء، لأنها مع أي صارتا بمنزلة كلمةٍ واحدةٍ، وهي ككم فلا تتعلق بشيء، ولذلك هجر معناها الأصليُّ، وهو التشبيه.
وفي كأيِّن (١) خمس لغاتٍ:
إحداها: ﴿كَأَيِّنْ﴾ بتشديد الياء والتنوين، وبها قرأ الجماعة إلا ابن كثير.
والثانية: ﴿كَائنٌ﴾ بوزن فاعن وبها قرأ ابن كثير، وجماعةٌ، وهي أكثر استعمالًا من كأيِّن وإن كانت تلك الأصل.
والثالثة: ﴿كئين﴾ بوزن كريم بياء خفيفة بعد همزة مكسورة، وبها قرأ ابن محيصنٍ، والأشهب العقيليُّ.
والرابعة: ﴿كيئن﴾ بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة، وهذه مقلوبة عن القراءة التي قبلها وقرأ بها بعضهم.
والخامسة: ﴿كأن﴾ مثل كعن، وبها قرأ ابن محيصن أيضًا. وقرأ الحسن (٢) ﴿كَىً﴾ بكافٍ بعدها ياءٌ مكسورة منونة. وقرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمرو ﴿قتل﴾ مبنيًّا للمفعول، وقتادة كذلك إلا أنه شدد التاء، وضمير النائب على هذه القراءة يعود على المبتدأ، والجملة خبر المبتدأ، وجملة ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ من المبتدأ، والخبر في محل النصب حال من ضمير الفعل، و ﴿كثيرٌ﴾ صفة لـ ﴿رِبِّيُّونَ﴾، والمعنى على هذه القراءة، وكثيرٌ من الأنبياء قتلوا، وبعدهم الذين بقوا من جماعتهم. وقال الحسن البصريُّ، وجماعةٌ من العلماء لم يقتل نبيُّ في حرب قط، ولهذا ضعفت هذه القراءة من جهة المعنى.
(١) الجمل.
(٢) البحر المحيط.
167
وقرأ باقي السبعة ﴿قَاتَلَ﴾ بوزن فاعل، وهي القراءة المشهورة التي جرينا عليها في تفسيرنا سابقًا. وقرأ الجمهور ﴿رِبِّيُّونَ﴾ بكسر الراء جمع ربِّي، وهو العالم منسوب إلى الرب، وإنما كسرت راؤه تغييرًا في النسب، نحو: إمسي بالكسر منسوب إلى أمس، وقرأ عليُّ وابن مسعود وابن عباس والحسن ﴿رِبِّيُّونَ﴾ بضم الراء، وهو من تغيير النسب إن قلنا: هو منسوبٌ إلى الرب. وقرأ ابن عباس في رواية قتادة بفتح الراء على الأصل إن قلنا: منسوبٌ إلى الرب، وإلا فمن تغيير النسب إن قلنا: إنه منسوبٌ إلى الربة بمعنى الجماعة.
وقرأ الجمهور ﴿وَهَنُوا﴾ بفتح الهاء وقرأ الأعمش، والحسن، وأبو السمال، بكسرها، وهما لغتان، وهن يهن كوعد يعد، ووهن يوهن، كوجل يوجل. وقرأ عكرمة، وأبو السمال أيضًا بإسكان الهاء على تخفيف المكسور، كما قالوا: نعم في نعم، وشهد في شهد، وتميمٌ تسكن عين فعل وقرىء ﴿ضَعُفُوا﴾ بفتح العين وبإسكانها (١).
١٤٧ - ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾؛ أي: قول الربيين عند لقاء العدو، واقتحام مضايق الحرب، وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال، أو عند قتل نبيهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ هذا الدعاء الآتي، وقولهم بالنصب خبرٌ لكان واسمها أن وما بعدها، أي: وما كان قولهم إلا قولهم هذا الدعاء أي هو دأبهم وديدنهم، وهذه قراءة الجمهور.
وقرأ (٢) ابن كثير، وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم على أنه اسم كان والخبر جملة أن وما في حيزها. وقراءة الجمهور أولى، لأنه إذا اجتمع معرفتان: فالأولى أن تجعل الأعرف منهما اسمًا، وأن وما في حيِّزها أعرف قالوا: لأنها تشبه المضمر من حيث إنها تضمر، ولا توصف، ولا يوصف بها. وقولهم: مضاف للمضمر فهو في رتبة العلم، فهو أقل تعريفًا اهـ سمين.
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾، أي: صغائرنا وكبائرنا ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾؛ أي: إفراطنا وتجاوزنا الحد في أمر ديننا، بارتكاب الكبائر، والظاهر أن الذنوب تعم
(١) الشوكاني.
(٢) الجمل.
168
كل ما يسمى ذنبًا من صغيرة، أو كبيرة والإسراف ما فيه مجاوزةٌ للحدِّ، فهو من عطف الخاص على العام. وإنما أضافوا الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضمًا لها، واستقصارًا لهم وإسنادًا لما أصابهم إلى أعمالهم. وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في مواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو بإزالة الخوف من القلوب وإزالة الخواطر الفاسدة من الصدور أو ثبتنا على دينك الحق ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ بالمصابرة والمجاهدة تقريبًا له إلى حيز القبول، فإن الدعاء، المقرون بالخضوع الصادر عن ذكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.
والمعنى: لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر منهم قولٌ يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب، ومراصد الدِّين، وفيه من التعريض للمنهزمين عن النبيِّ - ﷺ - يوم أحد ما لا يخفى، ذكره، أبو السعود.
والخلاصة: أن هؤلاء الربّيين لم يكن لهم من قولٍ عند اشتداد الخطوب، ونزول الكوارث إلا الدعاء، لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم، ما كانوا ألموا به من الذنوب، وتجاوزوا حدود الشرائع، وأن يثبت أقدامهم على الصراط القويم، الذي هداهم إليه حتى لا تزحزحهم الفتن، ولا يعروهم الفشل، والوهن حين مقابلة الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات، ويعتدون على أهل الحق، فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط، فما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه، وألهمها عباده.
وفي هذا إيماءٌ إلى أن الذنوب والإسراف في الأمور من عوامل الخذلان والطاعة والثبات والاستقامة من باب النصر والفلاح، ومن ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم أثر الذنوب، وأن يوفقهم إلى دوام الثبات حين تزل الأقدام.
وفي طلبهم النصر من الله مع كثرة عددهم التي دل عليها قوله: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ إعلامٌ بأنهم لا يعولون على كثرة العدد بل يطلبون العون والمدد الروحاني من الله تعالى بثبات الأقدام والتمسك بأهداب الحقِّ.
169
١٤٨ - ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ قرأ الجحدري ﴿فَآتَاهُمُ﴾ من الإثابة؛ أي: أعطاهم الله تعالى بسبب هذا الدعاءِ جزاء الدنيا بالنصر على الأعداء والظفر بالغنيمة، والسيادة في الأرض، والكرامة، والعزة، وحسن الأحدوثة، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وزوال ظلمات الشبهات، وكفارة المعاصي، والسيئات، وإنما سمي ذلك ثوابًا لأنه جزاءٌ على الطاعة وامتثال أوامر الله تعالى.
﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: ثواب الآخرة الحسن بنيل رضوان الله ورحمته، والقرب منه في دار الكرامة، وقد فسر بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ وبقوله: في الحديث: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر في نفوسهم، فارتقت به إلى حظيرة القدس. والمعنى: حكم الله لهم بحصول الجنة، وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم في الآخرة.
وإنما خصَّ ثواب الآخرة بالحسن إيذانًا بشرفه وفضله، لأنه غير زائل وثوابٌ لا يشوبه أذى ولا تنغيصٌ، وبأنه المعتدُّ به عند الله تعالى بخلاف ثواب الدنيا؛ فإنه قليلٌ سريع الزوال، وعرضة للأذى والمنغصات وترغيبًا في طلب ما يحصله من العمل الصالح، ومناسبة لآخر الآية.
وإنما جمع الله لهم بين الثوابين؛ لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة كما هو شأن المؤمن ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾.
وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من عمل لدنياه أضر بآخرته، ومن عمل لآخرته أضر بدنياه، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوامٍ.
وهذه الآية وأشباهها حجة على الغالين في الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشيء من لذات الدنيا، ويعدون ذلك منافيًا للتقوى ومبعدًا عن رضوان الله تعالى.
170
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: المعترفين بكونهم مسيئين مقصِّرين، فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين، كأنه تعالى يقول لهم: إذا اعترفتم بإساءتكم وعجزكم.. فأنا أصفكم بالإحسان، وأجعلكم أحباء لنفسي حتى تعلموا أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى رضا الله تعالى، إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز.
وقال أبو حيان: وفسَّر المفسرون ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ هنا بأحد معنيين:
الأول: من أحسن ما بينه وبين ربه بلزوم طاعته.
والثاني: من ثبت في القتال مع نبيه حتى يقتل أو يغلب؛ لأنهم هم الذين يقيمون سننه في أرضه، ويظهرون أعمالهم، وأنهم جديرون بخلافة الله فيها، ولا تكون أعمالهم إلا بما يرضي الله تعالى، فهي من الله ولله. وفي هذا تعليمٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يقولوا مثل هذا: عند لقاء العدو، وفيه دقيقةٌ لطيفةٌ، وهي أنهم لمَّا اعترفوا بذنوبهم، وكونهم مسيئين سماهم الله تعالى محسنين.
الإعراب
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)﴾.
﴿وَسَارِعُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، أو عاطفة. ﴿سَارِعُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾ عطفًا تفسيريًّا ﴿إِلَى﴾ ﴿مَغْفِرَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿سَارِعُوا﴾. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿مَغْفِرَةٍ﴾ تقديره: كائنة من ربكم. ﴿وَجَنَّةٍ﴾ معطوف على مغفرة. ﴿عَرْضُهَا﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿السَّمَاوَاتُ﴾ خبر. ﴿وَالْأَرْضُ﴾ معطوف عليه، ولكنه على حذف مضاف تقديره: مثل عرض السموات والأرض، والجملة الإسمية في محل الجر صفة ﴿أُوْلِي﴾ لـ ﴿جَنَّةٍ﴾ ﴿أُعِدَّتْ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿جَنَّةٍ﴾. ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿جَنَّةٍ﴾. ويجوز (١) أن تكون حالًا
(١) العكبري.
171
منها؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون مستأنفة.
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الجر صفة للمتقين، ويجوز أن يكون منصوبًا بإضمار أعني، وأن يكون مرفوعًا بإضمار هم، فيجوز فيه الأوجه الثلاثة. ﴿يُنْفِقُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿فِي السَّرَّاءِ﴾ متعلق بـ ﴿يُنْفِقُونَ﴾. ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ معطوف على ﴿السَّرَّاءِ﴾.
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَالْكَاظِمِينَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿الْكَاظِمِينَ﴾ معطوف على الموصول مجرور على كونه صفة لـ ﴿الْمُتَّقِينَ﴾، ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: أمدح، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح يرفع الفاعل، وفاعله مستتر فيه تقديره: هم. ﴿الْغَيْظَ﴾ مفعوله منصوب ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿الْعَافِينَ﴾ معطوف على الموصول أيضًا على كونه صفة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ ويجوز نصبه بفعل محذوف. ﴿عَنِ النَّاسِ﴾ متعلق به ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿الواو﴾ اعتراضية ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن الجلالة، والجملة الإسمية معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر معطوف على الموصول قبله، فيجوز فيه الأوجه الثلاثة السابقة، الجر على كونه صفة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾، والقطع إلى النصب والرفع، ويجوز (١) أن يكون قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ مرفوعًا بالابتداء و ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ثان و ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ مبتدأ ثالث
(١) الفتوحات.
172
و ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ خبر الثالث والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، ﴿إِذَا فَعَلُوا﴾ ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿فَعَلُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَاحِشَةً﴾ مفعول به. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف: ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة فعلوا على كونها فعل شرط لي ﴿إذا﴾ ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرطها وجوابها صلة الموصول. ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿اسْتَغْفَرُوا﴾ فعل وفاعل، واستغفر يتعدى إلى مفعولين، وكلاهما هنا محذوف تقديره؛ فاستغفروا الله ذنوبهم. ﴿لِذُنُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اسْتَغْفَرُوا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿ذَكَرُوا﴾ على كونها جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ اعتراضية. ﴿مَن﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ فعل ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على ﴿مَن﴾ ﴿إِلَّا﴾، أداة استثناءٍ مفرغ. ولفظ الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ بدل من الضمير المستتر في ﴿يَغْفِرُ﴾ والجملة الإسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المتعاطفين أعني: قوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾، وقوله الآتي ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لَمْ يُصِرُّوا﴾ جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾ على كونها جواب ﴿إِذَا﴾. ﴿عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ ﴿عَلَى مَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُصِرُّوا﴾. ﴿فَعَلُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لِما، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: على ما فعلوه. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿الواو﴾ حالية. ﴿هم﴾ مبتدأ. ﴿يَعْلَمُونَ﴾ فعل وفاعل والمفعول محذوف لعلمه تقديره: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ المؤاخذة بها أو عفو الله عنها، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: وهم عالمون بها، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿يُصِرُّوا﴾.
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
173
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦)}.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ أول. ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ مبتدأ ثان، ومضاف إليه ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ خبر للمبتدأ الثاني. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول، وخبره مستأنفة، وقد سبق لك قريبًا ما في هذه الجملة من أوجه الإعراب غير ما ذكرناه هنا فراجعه. ﴿وَجَنَّاتٌ﴾ معطوف على مغفرة. ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بتجري. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ ﴿جَنَّاتٌ﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾ (١) حال من الضمير في ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى يجزيهم الله جنات في حال خلودهم، وتكون حالًا مقدرة، ولا يجوز أن تكون حالًا من ﴿جَنَّاتٌ﴾ في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذ لو كان كذلك.. لبرز الضمير لجريان الصفة على غير من هي له. ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿وَنِعْمَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿نِعْمَ﴾ فعل ماض؛ وهو من أفعال المدح. ﴿أَجْرُ﴾ فاعل. ﴿الْعَامِلِينَ﴾ مضاف إليه، والجملة من الفعل، والفاعل في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف وجوبًا، يسمى المخصوص بالمدح تقديره ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ الجنة، والجملة من المبتدأ المحذوف، وخبره في محل الرفع معطوفة على ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ على كونها خبرًا للمبتدأ الثاني: تقديره: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم، ومقولٌ في جزائهم نعم أجر العاملين.
﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)﴾.
﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿خَلَتْ﴾ فعل ماض، والتاء للتأنيث. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَتْ﴾. ﴿سُنَنٌ﴾ فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت
(١) الفتوحات.
174
عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنه قد خلت من قبلكم سننٌ، وشككتم فيها، وأردتم تيقنها، والاعتبار بها.. فأقول لكم: سيروا في الأرض لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم؛ ويجوز أن تكون الفاء عاطفة. ﴿سِيرُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ وعبارة (١) الكرخي هنا، ودخلت الفاء لأن المعنى على الشرط؛ أي: إن شككتم فسيروا في الأرض لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم، وهذا مجازٌ عن إجالة الخاطر. والحاصل: أن المقصود تعرف أحوالهم فإن تيسر بدون السير في الأرض.. كان المقصود حاصلاً انتهت. ﴿فَانْظُرُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿انْظُرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿سِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام عن الحال في محل النصب خبر مقدم لـ ﴿كاَنَ﴾. ﴿كاَنَ﴾، فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ﴾ اسمها. ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾ مضاف إليه، وجملة ﴿كاَنَ﴾ في محل النصب مفعول لـ ﴿انْظُرُوا﴾ تقديره: فانظروا حال عاقبة المكذبين.
﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)﴾.
﴿هَذَا﴾ مبتدأ. ﴿بَيَانٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة. ﴿لِلنَّاسِ﴾ متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿بَيَانٌ﴾ أو متعلق به. ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ﴾ معطوفان على ﴿بَيَانٌ﴾ ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ تنازع فيه كل من ﴿هُدًى﴾ و ﴿مَوْعِظَةٌ﴾ على أنه متعلق بهما، أو صفة لهما.
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لَا﴾ ناهية. ﴿تَهِنُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة، وفي "الجمل" قوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ هذا وما عطف عليه معطوفان في المعنى على قوله ﴿فَسِيرُوا﴾ في الأرض الخ. انتهى. وكذلك قوله: ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة
(١) الجمل.
175
﴿وَلَا تَهِنُوا﴾. ﴿وَأَنْتُمُ﴾ الواو حالية. ﴿أَنْتُمُ﴾ مبتدأ. ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾ خبر مرفوع بالواو، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تَهِنُوا﴾ أو ﴿تَحْزَنُوا﴾. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إنْ﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون لأن الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه، وجملة إن الشرطية مستأنفة.
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾.
﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بإن الشرطية. ﴿فَقَدْ مَسَّ﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقرونًا بقد. ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل. ﴿مِثْلُهُ﴾ نعت لقرح ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة، وفي "الجمل": قوله (١): ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ جواب الشرط محذوف؛ أي: فتأسوا، ومن زعم أن جواب الشرط ﴿فَقَدْ مَسَّ﴾ فهو غالط؛ لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جوابا للشرط، وللنحويين في مثل هذا تأويلٌ، وهو أن يقدروا شيئًا مستقبلًا، لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل، كما مرت الإشارة إليه. اهـ كرخي، وذلك التأويل هو التبيين؛ أي: فقد تبين مس القرح للقوم اهـ سمين.
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾.
﴿وَتِلْكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿تِلْكَ﴾. مبتدأ. ﴿الْأَيَّامُ﴾ بدل أو عطف بيان أو نعت لاسم الإشارة. ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نُدَاوِلُ﴾، الجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.
(١) الجمل.
176
﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة على محذوف تقديره: نداولها بين الناس ليتعظوا، وليعلم الله، وقيل: إن الواو زائدة. ﴿اللام﴾ لام كي. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به لأن، ﴿علم﴾ هنا بمعنى عرف، يتعدى إلى مفعول واحد ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، والجملة من الفعل والفاعل، صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولعلم الله ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المحذوف المتعلق بقوله ﴿نداولها﴾ تقديره: وتلك الأيام نداولها بين الناس لاتعاظهم، ولعلم الله الذين آمنوا. ﴿وَيَتَّخِذَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿يَتَّخِذَ﴾ فعل مضارع معطوف على قوله: ﴿لِيَعْلَمَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَتَّخِذَ﴾. على كونه مفعول أول لـ ﴿يَتَّخِذَ﴾ ﴿شُهَدَاءَ﴾ مفعول ثان ﴿لِيَتَّخِذَ﴾ والمعنى ويتخذ بعضكم شهداء ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿الواو﴾ اعتراضية. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُحبُّ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿الظَّالِمِينَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين العلل المتعاطفات.
﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)﴾.
﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لِيُمَحِّصَ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي. ﴿يُمَحِّصَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿اللَّهُ﴾ فاعل. ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به. وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿يُمَحِّصَ﴾ صلة أن المضمرة وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور تقديره: ولتمحيص الله. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. ﴿وَيَمْحَقَ﴾ معطوف على ﴿يُمَحِّصَ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿الْكَافِرِينَ﴾ مفعول به.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)﴾.
177
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل التي للإضراب الانتقاليِّ، والهمزة التي للاستفهام الإنكاريِّ، والمعنى (١): لا تظنوا أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة مع السابقين بمجرد الإيمان من غير جهاد، ولا صبر بل مع الجهاد، والصبر، وهو خطاب لأهل أحدٍ حيث أمروا بالقتال مع كونهم جرحى، وشدد عليهم في ذلك، والمقصود من ذلك تعليم من يأتي بعدهم، وإلا فهم قد جاهدوا في الله حق جهاده وصبروا صبرًا جميلًا. ﴿حَسِبْتُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿أنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ ﴿أن﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية، و ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر سادٍ مسدَّ مفعولي حسب، والتقدير: لا تحسبوا دخولكم الجنة. ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ حالية. ﴿لما﴾ حرف نفي وجزم تفيد توقع الجهاد منهم في المستقبل، فلذا عبر بها دون لم. ﴿يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لما﴾ وعلامة جزمه سكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل، بحركة التخلص من التقاء الساكنين، وجملة ﴿يَعْلَمِ﴾ من الفعل والفاعل في محل النصب حال من فاعل ﴿تَدْخُلُوا﴾. ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به. ﴿جَاهَدُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿جَاهَدُوا﴾. ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة معية. ﴿يَعْلَم﴾ منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد واو المعية الواقعة في جواب النفي. ﴿الصَّابِرِينَ﴾، مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يكن علم الله الذين جاهدوا منكم، وعلمه الصابرين: أي: لا تحسبوا ذلك.
﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ فعل وفاعل ومفعول،
(١) الصاوي.
178
والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ من اسمها وخبرها، جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَمَنَّوْنَ﴾. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿تَلْقَوْهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من قبل لقائكم إياه. ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. قد حرف تحقيق. ﴿رَأَيْتُمُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، لأن ﴿رأى﴾ بصرية، والجملة معطوفة على جملة ﴿تَمَنَّوْنَ﴾. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية. ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ وجملة ﴿تَنْظُرُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿رَأَيْتُمُوهُ﴾.
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿مُحَمَّدٌ﴾ مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿رَسُولٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة. ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿خَلَتْ﴾ فعل وتاء تأنيث. ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَتْ﴾ ﴿الرُّسُلُ﴾ فاعل ﴿خَلَتْ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع صفةٌ لـ ﴿رَسُولٌ﴾.
﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾.
﴿أَفَإِنْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف تقديره: أتؤمنون به مدة حياته؟ ﴿الفاء﴾ عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿مَاتَ﴾ فعل ماضي في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿أَوْ قُتِلَ﴾ فعل ماضي مغير الصيغة معطوف على ﴿مَاتَ﴾ ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مُحَمَّدٌ﴾. ﴿انْقَلَبْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿انقلب﴾ أو حال من فاعل ﴿انْقَلَبْتُمْ﴾ أي: راجعين على أعقابكم، كما ذكره العكبري. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية من فعل شرطها، وجوابها معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها مستأنفة كما مر آنفًا، وجملة الجواب هي محل الاستفهام الإنكاري، أي: إنكار انقلابهم وارتدادهم
179
عن الدين، ﴿فالهمزة﴾ داخلة عليها في المعنى، والتقدير: أأنقلبتم على أعقابكم إن مات، أو قتل أي لا ينبغي منكم الانقلاب والارتداد حينئذٍ كما بيناه في بحث التفسير.
﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ. ﴿يَنْقَلِبْ﴾ فعل مضارع مجزوم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، وخبر ﴿من﴾ الشرطية إما جملة الشرط أو الجواب، أو هما معًا. ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَنْقَلِبْ﴾. ﴿فَلَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ ﴿لن﴾. ﴿يَضُرَّ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة في محل الجزم على كونها جوابًا لها، وجملة من الشرطية مستأنفة. ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به. ﴿شَيْئًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة أي؛ ضررًا شيئًا. ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة.
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿لِنَفْسٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها. ﴿أَن﴾ حرف نصب. ﴿تَمُوتَ﴾ منصوب بـ ﴿أن﴾ وفاعله ضمير يعود على نفس، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية و ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع، على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا، تقديره؛ وما كان الموت إلا بإذن الله كائنًا لنفس. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَمُوتَ﴾. ﴿كِتَابًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بعامل محذوف تقديره: كتب الله الموت على كل نفس ﴿كِتَابًا﴾. ﴿مُؤَجَّلًا﴾ صفة لـ ﴿كِتَابًا﴾ والجملة المحذوفة مؤكدة لمضمون الجملة المذكورة قبلها.
﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾.
180
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يُرِدْ﴾ مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿نُؤْتِهِ﴾ جواب الشرط مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ والهاء مفعول أول. ﴿مِنْهَا﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني؛ لأنّ أتى هنا بمعنى: أعطى وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾ وجملة من الشرطية مستأنفة. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ الواو عاطفة. ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. ﴿يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿نُؤْتِهِ﴾ جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾. والهاء مفعول أول. ﴿مِنْهَا﴾ في محل المفعول الثاني، وجملة ﴿من﴾ معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿سَنَجْزِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الشَّاكِرِينَ﴾ مفعول به، والجملة مستأنفة.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿كَأَيِّنْ﴾ اسم بمعنى كم الخبرية التكثيرية في محل الرفع، مبتدأٌ مبنيٌّ بسكون على النون المدغمة في ميم من لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا لتضمنه معنى رب التكثيرية. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿نَبِيٍّ﴾ تمييز له. ﴿قَاتَلَ﴾ فعل ماض، وفعله ضمير يعود على كأيّن، والجملة في محلِّ الرفع خبر المبتدأ والتقدير: وكثير من الأنبياء مقاتل، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿مَعَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم. ﴿رِبِّيُّونَ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿كَثِيرٌ﴾ صفة له، والجملة في محل النصب حال من فاعل قاتل، والتقدير حال كون الربيين معه في القتال.
﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.
﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿وَهَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَهَنُوا﴾. ﴿أَصَابَهُمْ﴾ فعل ومفعول
181
والفاعل ضمير يعود على ﴿ما﴾ والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَصَابَهُمْ﴾. ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ ﴿ما﴾ نافية. ﴿ضَعُفُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَهَنُوا﴾. وكذلك جملة ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿وَهَنُوا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة خبر عن الجلالة، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماضٍ ناقص. ﴿قَوْلَهُمْ﴾ خبر ﴿كان﴾ مقدم على اسمها، ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل في محل النصب بأن المصدرية، وجملة ﴿قال﴾ من الفعل والفاعل، صلة ﴿أن﴾ المصدرية و ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كان﴾ والتقدير: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ إلا قولهم هذا الدعاء، وهذا الوجه أولى من عكسه، كما سبق تعليله في بحث التفسير، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء مقول القول. ﴿اغْفِرْ﴾ فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿لَنَا﴾ متعلق به. ﴿ذُنُوبَنَا﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول ﴿وَإِسْرَافَنَا﴾ معطوف على ﴿ذُنُوبَنَا﴾ ﴿فِي أَمْرِنَا﴾ متعلق بـ ﴿إِسْرَافَنَا﴾ ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة معطوفة على جملة ﴿اغْفِرْ﴾ على كونها جواب النداء ومقول القول ﴿وَانْصُرْنَا﴾ فعل ومفعول والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿اغْفِرْ﴾ ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ جار ومجرور، وصفة متعلق بـ ﴿انْصُرْنَا﴾.
﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
182
﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة سببية. ﴿آتَاهُمُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ مفعول ثان ومضاف إليه؛ لأن آتى بمعنى أعطى، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾؛ لأن هذه الجملة مسببة عن تلك الجملة ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿حسن﴾ معطوف على ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ وهو مضاف. ﴿ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ مضاف إليه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف كما مر ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ جملة فعلية في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الإسمية مستأنفة. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَسَارِعُوا﴾ من باب فاعل والمفاعلة ليست على بابه، بل المراد منه أصل الفعل، والمسارعة إلى المغفرة والجنة؛ المبادرة إلى الأسباب الموصلة إليهما من الأعمال الصالحة، كالإقبال على الصدقات، وعمل الخيرات، والتوبة عن الآثام كالربا، ونحوه ﴿عَرْضُهَا﴾ والعرض: السعة بقطع النظر عن مقابل له، فليس العرض في مقابلة الطول، بل المراد به مطلق السعة، والعرب تقول: دعوى عريضة؛ أي: واسعة عظيمة. ولفظ العرض يطلق على هذا المعنى وعلى ما يقابل الطول، وهو أقصر الامتدادين، وكل من الإطلاقين حقيقيٌّ كما ذكره "القاموس".
﴿السَّرَّاءِ﴾ الحالة التي تسر ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ الحالة التي تضر ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، وهو اسم فاعل من كظم من باب: ضرب يقال: كظم القربة أي ملأها وشد رأسها، وكظم الباب سدَّه، وكظم البعير جرته إذا ازدردها وكف عن الاجترار. والكظم الحبس يقال: كظم غيظه إذا حبسه فهو كاظمٌ وكظمه الغيظ، والغم إذا أخذ بنفسه فهو مكظومٌ وكظيم. قال تعالى: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ وأخذ فلانٌ بكظم فلان، إذا أخذ بمجرى نفسه. والغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حقُّ من حقوقها المادية، كالمال أو المعنوية كالشرف والعرض، فيزعجها ذلك، ويحفزها على التشفِّي والانتقام.
﴿وَالْعَافِينَ﴾ اسم فاعل من عفا يعفو من باب دعا. والعفو عن الناس: التجاوز عن ذنوبهم، وترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ من أصر
183
الرباعي يصر إصرارًا. والإصرار اعتزام الدوام على الشيء، وترك الإقلاع عنه من صر الدنانير إذا ربط عليها، ومنه صرة الدنانير لما يربط منها (﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أصل ﴿تَهِنُوا﴾ توهنوا حذفت الواو لوقوعها بين ياءٍ وكسرة في الأصل، ثم أجريت حروف المضارعة مجرى الياء، في ذلك يقال: وهن بالفتح في الماضي يهن بالكسر في المضارع، ونقل أنه يقال: وهن ووهن بضم الهاء وكسرها في الماضي، ووهن يستعمل لازمًا ومتعديًا، يقال: وهن زيدٌ إذا ضعف قال تعالى: ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ ووهنته إذا أضعفته. ومنه الحديث: "وهنتهم حمى يثرب"؛ أي: أضعفتهم، والمصدر على الوهن، والوهن بفتح العين وسكونها.
﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾ جمع أعلى، والأصل: أعليون فتحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة لتدل عليها، وإن شئت قلت: استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان أيضًا، الياء، والواو، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وإنما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلّا مضمومًا لفظًا أو تقديرًا، وهذا مثال التقدير اهـ سمين.
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ داول من باب فاعل، والمداولة المناوبة على الشيء، والمعاودة وتعهده مرةً بعد أخرى، يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه، كأن المفاعلة بمعنى أصل الفعل. وعبارة "الخازن": المداولة نقل الشيء من واحد إلى واحد آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر، والمعنى: إنَّ أيام الدنيا دول بين الناس، يوم لهؤلاء، ويوم لهؤلاء، فكانت الدولة للمسلمين يوم بدر، وللكفار يوم أحد. انتهى.
﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)﴾ أصل المحص كالفحص في اللغة: التنقية، والإزالة، لكن الفحصُ يقال: في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه، والمحص في إبرازه عن أشياء متصلة به. وفي "القاموس": محص الذهب بالنار - من باب منع - أخلصه مما يشوبه، والتمحيص الابتلاء، والاختبار: انتهى. وأصل المحق نقص الشيء قليلًا قليلًا.
184
﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ أصل هذا الفعل: استكن من السكون؛ لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليصنع به ما يريد. والألف تولدت من إشباع الفتحة، وعبارة السمين في هذا الفعل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه استفعل من السكون والسكون، الذل وأصله: استكون، فنقلت حركة الواو على الكاف ثم قلبت الواو ألفًا.
والثاني: قال الأزهري: وأبو عليّ ألفه: من ياء، والأصل استكين ففعل بالياء ما فعل بالواو.
والثالث: قال الفراء: وزنه افتعل من السكون، وإنّما أشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقوله:
أَعُوْذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ
يريد: العقرب الشائلة. انتهت.
البلاغة
﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ فيه مجازٌ مرسلٌ؛ لما فيه من إطلاق المسبب، وإرادة السبب، أي: بادروا إلى سببهما، وهو الأعمال الصالحة.
﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾؛ أي: كعرضهما، فيه تشبيه بليغ، وهو ما حذفت فيه الأداة ووجه الشبه.
﴿السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ فيه من المحسنات البديعية: الطباق ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ والعدول فيه إلى صيغة الفاعل؛ للدلالة على الاستمرار والدوام. وأما الإنفاق، فلما كان أمرًا متجددًا؛ عبر عنه بما يفيد التجدد والحدوث.
﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ الاستفهام فيه إنكاريٌّ: بمعنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء، والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله.
﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ﴾ الإشارة بالبعيد للإشعار ببعد منزلتهم، وعلو طبقتهم في الفضل.
185
﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ليس المراد خصوص السير، بل المراد استعلام ما وقع للأمم الماضية بسيرٍ أو غيره، بل هو مجازٌ عن إجالة الخاطر في ذلك، ثم التأمل للتسلي والاتعاظ.
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، والسر في هذا الالتفات تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ونفي المحبة فيه كنايةٌ عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم.
﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ فيه توبيخٌ لهم على أنهم تمنوا الحرب، وتسببوا فيها، ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو توبيخٌ لهم على الشهادة، فإن في تمنيها تمني غلبة الكافرين، وفي إيثار الرؤية على الملاقاة، وتقييدها بالنظر مزيد مبالغةٍ في مشاهدتهم له.
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ القصر فيه قصر قلب، للرد عليهم في اعتقادهم؛ أنه معبودٌ، وهم وإن لم يعتقدوا ذلك حقيقةً لكن نزلوا منزلة من اعتقد ألوهيته لا رسالته؛ حيث رجعوا عن الدين الحق؛ لما سمعوا بقتله فكأنهم اعتقدوه معبودًا، وقد مات فرجعوا عن عبادته.
﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ وهذا كنايةٌ عن الرجوع للكفر، لا حقيقة الانقلاب على الأعقاب الذي هو السقوط إلى خلف. قال في "تلخيص البيان": هذه استعارةٌ، والمراد به الرجوع عن دينه، فشبه سبحانه الرجوع في الإرتياب بالرجوع على الأعقاب.
وقال أبو حيان (١): وقد تضمنت هذه الآيات فنونًا من الفصاحة والبديع والبيان:
من ذلك: الاعتراض في قوله: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وفي قوله: {وَمَن
(١) البحر المحيط.
186
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}، وفي قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.
ومنها: تسمية الشيء باسم سببه في قوله: ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، وقيل: هذه استعارة.
ومنها: الإضافة إلى الأكثر في قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، وهي معدَّة لهم، ولغيرهم من العصاة.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾، وفي قوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ و ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾؛ لأن الوهن والعلو ضدان، وفي قوله: ﴿آمَنُوا﴾ و ﴿الظَّالِمِينَ﴾، لأن الظالمين هم الكافرون، وفي قوله: ﴿آمَنُوا﴾ ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.
ومنها: العامُّ الذي يراد به الخاصُّ في قوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ يعني: من ظلمهم أو المماليك.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ﴾ و ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ﴾ ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، و ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، و ﴿عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، و ﴿وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، و ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، و ﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، و ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، و ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فَسِيرُوا﴾، على أنه من سير الفكر لا من سير القدم. و ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ إذ لم تكن من علو المكان، و ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا﴾، و ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ و ﴿وَيَمْحَقَ﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ﴾، وفي قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ﴾.
ومنها: إدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، إذا علق عليه النهي.
187
ومنها: الاستفهام الذي معناه الإنكار في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿انْقَلَبْتُمْ﴾ ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ﴾، و ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾.
ومنها: تسمية الشيء باسم سببه في قوله: ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾؛ أي: الجهاد في سبيل الله. وفي قوله: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ فيمن فسَّر ذلك بالقلوب؛ لأنَّ ثبات الأقدام متسبَّب عن ثبات القلوب.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ ﴿ويعلم﴾ لاختلاف المتعلَّق، أو للتنبيه على فضل الصابر. وفي قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ لأنَّ العرف في الموت خلاف العرف في القتل، والمعنى مفارقة الروح الجسد فهو واحد، و ﴿مَنْ﴾ في ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ﴾ الجملتين، وفي قوله: ﴿ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا﴾ في قول من سوى بينهما.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
188
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...﴾ مناسبتها لما قبلها ظاهرةٌ، فإنه سبحانه وتعالى لمَّا رغَّب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل، وعظيم الأجر، وحسن العاقبة.. نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوء عاقبتها في دينهم، ودنياهم،
189
والخطاب فيها موجهٌ إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين: ارجعوا إلى إخوانكم، ودينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبيَّ - ﷺ - قد قتل، دعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر، فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
فبالجملة لا تزال الآيات الكريمة تنادي بذكر أحداث غزوة أحد، وما فيها من العظات، والعبر فهي تتحدث عن أسباب الهزيمة، وموقف المنافقين الفاضح في تلك الغزوة، وتآمرهم على الدعوة الإسلامية بتثبيط عزائم المؤمنين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ...﴾ الآية، قال محمد بن كعب القرظي (١): لمَّا رجع رسولُ الله - ﷺ - وأصحابه من أحد إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ يعني بالنصر، والظفر؛ وذلك أنّ الظفر كان للمسلمين في الابتداء، وقيل: إنَّ الله وعد المؤمنين النصر بأحد فنصرهم، فلما خالفوا أمر رسول الله - ﷺ -، وطلبوا الغنيمة هزموا.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت أنظر، وما منهم يومئذٍ من أحدٍ إلا يميد تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ وقال: هذا حديث حسن صحيح. وروى أيضًا عن هشام ابن عروة عن الزبير مثله، وقال: حديث حسن صحيح، وحديث الزبير هذا، أخرجه ابن راهويه ولفظه: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله - ﷺ - يوم أحد حين اشتدَّ علينا الخوف، وأرسل علينا النوم فما منا أحدٌ إلا وذقنه أو قال: ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا
(١) الخازن.
190
هَاهُنَا} فحفظتها، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ إلى قوله: ﴿مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ لقول معتب بن قشير قال: ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ حتى بلغ ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٤٩ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله، وصدقوا بما جاء به محمدٌ - ﷺ - ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾، وتمتثلوا ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وجحدوا، نبوة نبيكم محمد - ﷺ - فيما يأمرونكم به، وتقبلوا رأيهم، ونصيحتهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون، حيث قالوا لكم يوم أحد: إرجعوا إلى دين آبائكم، ولو كان محمد نبيًّا.. ما قتل ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾؛ أي: يرجعوكم عما كنتم عليه من الإيمان بالله ورسوله ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، وأدباركم؛ أي: على ما كنتم عليه أولًا من الكفر والشرك بالله: أي: يحملوكم على الردة بعد الإيمان، والكفر بالله وآياته ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾؛ أي: ترجعوا ﴿خَاسِرِينَ﴾ في الدنيا والآخرة، وتكونوا مغبونين في الدين والدنيا، أما خسران الدنيا فبخضوعكم لسلطانهم، وذلتكم بين يديهم وحرمانكم من السعادة، والملك والتمكين في الأرض كما وعد الله المؤمنين الصادقين، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ فإن أشقَّ الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد إلى العدو، وإظهار الحاجة إليهم.
وأما خُسران الآخرة: فبالحرمان من الثواب المؤيد، والوقوع في العذاب المخلد.
والمراد بالذين كفروا المنافقون كما تقدم. وقال السديُّ وغيره: المراد بهم أبو سفيان بن حرب؛ لأنه شجرة الكفر، وكبير القوم في ذلك اليوم. ومعنى الآية حينئذ: إن تخضعوا لأبي سفيان وأشياعه، وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل: المراد عبد الله بن أبي، وأتباعه من المنافقين؛ لأنهم قالوا: لو كان محمد - ﷺ - نبيًّا.. ما وقعت له هذه الواقعة، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه. وقال ابن عباس: المراد بهم اليهود كعبٌ وأصحابه، والمراد بالذين آمنوا حذيفة وعمار.
١٥٠ - و ﴿بَلِ﴾ في قوله: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ إضرابٌ عن مفهوم الجملة الأولى؛ أي: إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم، ولا ينصروكم بل الله مولاكم، وناصركم، ووليكم، وحافظكم، فاستعينوا به لا غيره.
وقرأ (١) الحسن بنصب الجلالة على تقدير، بل أطيعوا الله، لأن الشرط السابق يتضمن معنى النهي؛ أي: لا تطيعوا الكفار، فتكفروا، بل أطيعوا الله مولاكم ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾؛ أي: أقواهم وأفضلهم؛ فلا يحتاج معه إلى نصرة أحد، ولا إلى ولاية غيره، فاكتفوا به عن ولاية غيره ونصره. وفي هذا دلالةٌ على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب، لأنَّ الله مولاه وناصره، وقال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾، ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾.
والمعنى (٢): لا تفكروا في ولاية أبي سفيان وشيعته، ولا عبدِ الله بن أُبَيٍّ وحزبه، ولا تأبهوا - لا تلتفتوا - لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرًا، وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها، في قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ فقد جرت سنته أن يتولى الصالحين، ويخذل الكافرين كما قال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (١٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (١١)﴾.
١٥١ - ولما انصرف المشركون من أحدٍ.. هموا بالرجوع لاستئصال المسلمين، وخاف المسلمون ذلك، فوعدهم الله تعالى خذلان أعدائهم بقوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾؛ أي: سنقذف في قلوب كفار مكة الخوف منكم حتى لا يرجعوا إليكم، وذلك أنَّ أبا سفيان، ومن معه ارتحلوا يوم أحد متوجهين إلى مكة، فلما بلغوا بعض الطريق ندموا، وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد.. تركناهم ارجعوا إليهم فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، يعني الخوف الشديد، حتى رجعوا عما هموا
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
192
به. فعلى هذا القول: يكون الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفار مخصوصًا بيوم أحد. وقيل: إنه عام، وإن كان السبب خاصًّا لقوله - ﷺ -: "نصرت بالرعب مسيرة شهر". فكأنه قال: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب منكم حتى تقهروهم، ويظهر دينكم على سائر الأديان، وقد فعل الله ذلك بفضله وكرمه، حتى صار دين الإسلام ظاهرًا على جميع الأديان والملل كما قال تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾.
وقرأ (١) الجمهور ﴿سَنُلْقِى﴾ بالنون، وهو مشعرٌ بعظم ما يلقى إذ أسنده إلى المتكلم بنون العظمة. وقرأ أيوب السختياني ﴿سيلقى﴾ بالياء جريًا على الغيبة السابقة في قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ وقدم لفظ ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾ وهو مجرور على المفعول، وهو الرعب للاهتمام بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى. وقرأ ابن عامر، والكسائي ﴿الرعب﴾ بضم العين، والباقين بسكونها فقيل: هما لغتان، وقيل: الأصل السكون، وضم إتباعًا كالصبح والصبح. وقيل: الأصل الضم، وسكن تخفيفًا كالرسل والرسل. والباء في قوله: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾ سببية، و ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: سنلقي في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ﴾؛ أي: آلهةً ومعبودًا لم ينزل الله تعالى بعبادته ﴿سُلْطَانًا﴾؛ أي: برهانًا، وحجة، وكتابًا، وتسليط النفي على الإنزال، والمقصود نفي السلطان؛ أي: آلهةً لا سلطان في إشراكها، فينزل. وقال الشوكاني (٢): والنفي: يتوجه إلى القيد، والمقيد؛ أي: لا حجة، ولا إنزال، والمعنى: أنَّ الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل انتهى.
وكان (٣) الإشراك بالله سببًا لإلقاء الرعب؛ لأنهم يكرهون الموت، ويؤثرون الحياة، إذ لم تتعلق آمالهم بالآخرة، ولا بثوابٍ فيها، ولا عقابٍ، فصار اعتقادهم ذلك مؤثرًا في الرغبة في الحياة الدنيا، كما قالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
(١) البحر المحيط.
(٢) فتح القدير.
(٣) البحر المحيط.
193
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وفي قوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ دليلٌ على إبطال التقليد؛ إذ لا برهان مع المقلد.
والمعنى: أنه سبحانه وتعالى سيحكم في أعدائكم الكافرين سننه، ويلقي في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصنامًا، ومعبوداتٍ لم يقم برهانٌ من عقلٍ، ولا نقل على ما زعموا من ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وبين خلقه، وإنما قلدوا في ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، واتباع خطوات الوهم، فهم يعدون الوساوس أسبابًا، والهواجس مؤثرات وعللًا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضير.
وفي الآية: إيماءٌ إلى بطلان الشرك وسوء أثره في النفوس، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب باعتقادِ؛ أن لبعض المخلوقات تأثيرًا غيبيًا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق وأثروا مقارعة الداعي، ومن استجاب له بالسيف بغيًا، وعدوانًا يرتابون فيما هم فيه، ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلىء قلوبهم رعبًا.
والخلاصة: أن طبيعة المشركين إذا قاوموكم أيها المؤمنون: أن تكون نفوسهم مضطربةً، وقلوبهم ممتلئةً رعبًا وهلعًا منكم، فلا تخافوهم ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم، والالتجاء إليهم.
وبعد أن بين أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا من وقوع الخوف، والهلع في قلوبهم. ذكر أحوالهم في الآخرة فقال: ﴿وَمَأوَاهُمُ﴾؛ أي: مسكنهم، ومنزلهم، ومقرهم ﴿النَّارُ﴾ في الآخرة بسبب إشراكهم، ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾، أي: وقبح مسكن الذين ظلموا أنفسهم، بالإشراك، ومقرهم الذي يستقرون به، ويقيمون فيه، والمخصوص بالذم محذوفٌ تقديره: وبئس مثوى الظالمين النار، وفي جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم، رمزٌ إلى خلودهم فيها. فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأما المأوى: فهو المكان الذي
194
يأوي إليه الإنسان. وقدم المأوى على المثوى؛ لأنه على الترتيب الوجودي؛ لأنَّ الإنسان يأوي إلى المكان ثم يثوي فيه.
والمعنى: إنَّ مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود، ومعاندة الحق، ومقاومة أهله، وظلمهم للناس بسوء المعاملة، وفي التعبير بالمثوى المنبىء عن المكث الطويل دليلٌ على الخلود فيها كما مرَّ آنفًا.
١٥٢ - ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد وفى الله سبحانه وتعالى، وحقق يوم أحد ما وعده لكم أيها المؤمنون على لسان رسوله محمدٍ - ﷺ - من النصر على أعدائكم ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾؛ أي: حين تقتلونهم قتلًا ذريعًا كثيرًا في أوَّل الحرب ﴿بِإِذْنِهِ﴾؛ أي: بإرادته وتيسيره ومعونته، وكان رسول الله - ﷺ - وعدهم النصر يومئذٍ إن انتهوا إلى أمره.
وهذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين، قالوا: وعدنا الله بالنصر، والإمداد بالملائكة، فمن أيِّ وجه أُتينا؟ فنزلت إعلامًا أنه تعالى صدقهم الوعد، ونصرهم على أعدائهم أوّلًا، وكان الإمداد مشروطًا بالصبر والتقوى، واتفق من بعضهم من المخالفة ما نصَّ الله تعالى عليه في كتابه هنا.
﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ وجبنتم عن قتال العدو ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾؛ أي: اختلفتم في أمر الحرب بالثبات في المركز وعدمه، ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ أمر الرسول - ﷺ -؛ أي: ولقد صدقكم وعده بالنصر في أول الحرب إلى وقت أن وقع منكم الفشل، والتنازع والعصيان، وإذا مجردةٌ عن معنى الشرط، وقيل: وهو الصحيح فيها معنى الشرط، وجوابها محذوف تقديره: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم في أول الحرب، حتى إذا فشلتم، وتنازعتم في أمر الحرب، وعصيتم أمر الرسول ابتلاكم الله، وامتحنكم بالهزيمة، ومنعكم النصر ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى في أول الحرب ﴿مَا تُحِبُّونَ﴾ من الظفر، والغنيمة، وانهزام العدو.
والمعنى: صدقكم الله وعده حتى ضعفتم في الرأي والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة، وتنازعتم فقال بعضكم: ما بقاؤنا هنا، وقد انهزم المشركون، وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول - ﷺ - وعصيتم رسولكم وقائدكم؛
195
بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه، يحمون ظهور المقاتلة بدفع المشركين بالنبل من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر، والظفر، فصبرتم على الضراء، ولم تصبروا على السراء.
وخلاصة القول: إنَّ الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل، والتنازع، وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وسلم، فانتهى النصر لأن الله تعالى: إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.
وفي قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ تنبيهٌ على عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا من عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام، وأذاقهم وبال أمرهم، ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ﴾ بجهاده ﴿الدُّنْيَا﴾، أي: الغنيمة، وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله - ﷺ - في الشعب من أحد، وذهبوا وراء الغنيمة، وكان الرماة أولًا خمسين، ذهب منهم نيف على أربعين للنهب، وعصوا أمر الرسول - ﷺ - ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ﴾ بجهاده ﴿الْآخِرَةَ﴾؛ أي: ثوابها، وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، وهم نحو عشرة قتلوا جميعًا، والذين ثبتوا مع النبي - ﷺ -، وهم ثلاثون رجلًا، وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين، فقاتل حتى قتل كأنس بن النضر، وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه.
وهاتان الجملتان معترضتان بين المعطوف عليه الذي هو جواب إذا المقدر، والمعطوف الذي هو قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾؛ أي: ابتلاكم بالهزيمة، ثم صرفكم، وردكم، وكفكم أيها المؤمنون عن الكفار، وألقى الهزيمة عليكم، وسلط الكفار عليكم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾؛ أي: ليمتحن صبركم على المصائب، وثباتكم على الإيمان عندها.
والخلاصة: أنَّ الله سبحانه وتعالى صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك؛ أي: ليكون ذلك ابتلاءً واختبارًا
196
لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين، والصابرين من الجازعين ﴿وَلَقَدْ عَفَا﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿عَنْكُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد غفر الله لكم أيها المخالفون أمر الرسول - ﷺ - ما ارتكبتموه من المخالفة والهزيمة تفضلًا منه لما علم من ندمكم على المخالفة ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿ذُو فَضْلٍ﴾ وطول، وإحسان ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: على أهل الإيمان به، وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصيرٍ يهبط بنفوس بعض، وضعف يلم بآخرين، بل يمحص ما في صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.
١٥٣ - وفي الآية: دليلٌ (١) على أنَّ صاحب الكبيرة مؤمنٌ، وأنَّ الله تعالى يعفو بفضله وكرمه إن شاء؛ لأنه سمَّاهم مؤمنين مع ما ارتكبوه من مخالفة أمر رسول الله - ﷺ - وهي كبيرةٌ، وعفا عنهم بعد ذلك. والظرف في قوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ إما متعلق بصرفكم، وهو أجود من جهة المعنى، أو بعفا، وهو أحسن من جهة القرب أو بعصيتم، أو تنازعتم أو باذكروا محذوفًا؛ أي: ثم صرفكم عنهم حين تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض، والإبعاد في نواحيها، منهزمين منهم هاربين في الجبل، والإصعاد الذهاب في صعيد الأرض. ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾؛ أي: ولا تلتفتون ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ وراءكم؛ أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض، ولا ينتظره لشدة الدهشة التي عرتكم، والخوف الذي فجأكم ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾؛ أي: والحال أنَّ الرسول محمدا - ﷺ - يناديكم من ورائكم و ﴿فِي أُخْرَاكُمْ﴾؛ أي: في (٢) ساقتكم أو جماعتكم الآخرى، أي: واقفٌ في آخركم يقول: "إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، أنا رسول الله من كَرَّ - رجع - فله الجنة" وأنتم لا تسمعون، ولا تنظرون، وقد كان لكم أسوةٌ بالرسول، فتقتدون به في الصبر والثبات.
وقرأ الجمهور (٣) ﴿تُصْعِدُونَ﴾ بضم التاء مضارع أصعد الرباعي، والهمزة
(١) الخازن.
(٢) البيضاوي.
(٣) البحر المحيط.
197
في أصعد للدخول؛ أي: دخلتم في الصعيد ذهبتم فيه كما تقول: أصبح زيدٌ؛ أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تذهبون في الأرض، وتبين ذلك قراءة أبي ﴿إذ تصعدون في الوادي﴾ وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وقتادة، واليزدي ﴿تَصعَدونَ﴾ من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه.
والجمع بين القراءتين: أنهم أوَّلًا أصعدوا في الوادي، فلما ضايقهم العدو صعدوا في الجبل، وهذا على رأي من يفرق بين أصعد وصعد. وقرأ أبو حيوة ﴿تصعدون﴾ من تصعد في السلم، وأصله تتصعدون، فحذفت إحدى التائين على الخلاف في ذلك، أهي تاء المضارعة أم تاء تفعل؟.
وقرأ ابن محيصن، وابن كثير في رواية شِبْلٍ ﴿يَصْعَدُون﴾ ﴿ولا يلوون﴾ بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغيبة. وقرأ الجمهور (١) ﴿تَلْوُنَ﴾ بفتح التاء، وضم الواو الأولى من لوى الثلاثي، وقرىء ﴿تَلْؤُون﴾ بإبدال الواو الأولى همزةً كراهية اجتماع واوين، وليس بقياس. وقياس هذه الواو المضمومة أن لا تبدل همزةً لأن الضمة فيها عارضةٌ.
وقرأ الأعمش وورش عن عاصم ﴿تُلْوون﴾ بضم التاء من أَلْوى الرباعي، وهي لغةٌ ففعل، وأفعل بمعنى.
وقرأ الحسن ﴿تَلُوْنَ﴾ بواو واحدةٍ، وخرَّجُوها على أنه أبدل الواو همزة، ثم نقلت حركة الهمزة على اللام، ثم حذفت الهمزة على القاعدة، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء، وظاهر قوله: ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ بفتح الهمزة على قراءة الجمهور العموم، وقيل: المراد به النبيُّ - ﷺ - وعبر بأحد عنه تعظيمًا له، وصونًا لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه، قاله ابن عباس، والكلبيُّ، وقرأ حميد بن قيس ﴿على أحد﴾ بضم الهمزة، والحاء، وهو الجبل قاله ابن عطية، والقراءة المشهورة أقوى؛ لأنَّ النبي - ﷺ - لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرَّ الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم، إنما كانت وهو يدعوهم انتهى.
(١) البحر المحيط.
198
﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ عطفٌ (١) على صرفكم؛ أي: ثم صرفكم عنهم فجازاكم غمًّا حصل لكم بسبب الانهزام، وقتل الأحباب، وفوت الغنائم بسبب غمٍّ حصل للرسول - ﷺ - بسبب عصيانكم أمره؛ أي: أذاقكم غمًّا بسبب غمٍّ، أذقتموه رسول الله - ﷺ - بسبب فراركم عنه ﴿لِكَيْ﴾ تتمرنوا على تجرع الغموم وتتعودوا الصبر في الشدائد فـ ﴿لا تحزنوا﴾؛ أي: لا تتأسفوا فيما بعد ﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الظفر والغنيمة ﴿وَلَا﴾ تحزنوا على ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ ونالكم من القتل والجراح والهزيمة. وقيل: الجار والمجرور متعلِّقٌ بـ ﴿عفا﴾ عنكم، والمعنى: ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا ما أصابكم؛ لأن عفوه يذهب كلَّ هم وحزن، وقيل: المعنى: فأثابكم غمًّا متواصلًا أنساكم الحزن على ما فاتكم، ولا ما أصابكم. وقد روي أنهم لما سمعوا بأن النبيُّ - ﷺ - قد قتل نسوا ما أصابهم، وما فاتهم. هذا على القول بأنَّ ﴿لا﴾ أصليةٌ. والقول الثاني: أنَّ ﴿لا﴾ زائدة، واللام متعلِّقة بـ ﴿أثابكم﴾ أي: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ وأصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم قال ابن عباس رضي الله عنهما الذي فاتهم الغنيمة، والذي أصابهم القتل والهزيمة. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عالم بجميع أعمالكم، ومقاصدكم والدواعي التي حملتكم عليها قادرٌ على مجازاتكم عليها إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، وفي هذه الجملة ترغيبٌ في الطاعة وترهيبٌ عن الإقدام على المعصية.
وخصَّ (٢) العمل بالذكر، وإن كان تعالى خبيرًا بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيَّات تنبيهًا على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها.
١٥٤ - ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ﴾ الله سبحانه وتعالى وأرسل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يا معشر المسلمين ﴿مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ﴾ الذي أصابكم بسبب الجراح والقتل والهزيمة ﴿أَمَنَةً﴾؛ أي: أمنًا من
(١) البيضاوي.
(٢) البحر المحيط.
199
العدو، وطمأنينةً في القلب وقوله: ﴿نُعَاسًا﴾ بدلٌ من ﴿أمنة﴾ بدل كل من كل؛ أي: ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنًا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم، حتى نعستم، وغلبكم النوم لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح، وما عرض لكم من الضعف. والنوم نعمةٌ كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصائب، وعنايةٌ من الله يخص بها بعض عباده في مثل تلك المحن، ليخفف وقعها على النفوس. ومعنى الآية: امتنان الله علمهم بأمنهم بعد الخوف والغم بحيث صاروا من الأمن ينامون، وذلك أن شديد الخوف والغم لا يكاد ينام. قرأ الجمهور ﴿أَمَنَةً﴾ بفتح الميم على أنه بمعنى الأمن، أو جمع آمنٍ كبارٍ وبررة. وقرأ النخعيُّ، وابن محيصن ﴿أمنةً﴾ بسكون الميم بمعنى الأمن ﴿يَغْشَى﴾؛ أي: يغطي، ويأخذ ذلك النعاس ﴿طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾؛ أي: جماعة منكم أيها المسلمون، قال ابن عباس: هم المهاجرون وعامَّةُ الأنصار، الذين كانوا على بصيرةٍ في إيمانهم. قرأ الجمهور ﴿يَغْشَى﴾ بالياء إسنادًا إلى ضمير النعاس، أي: يغشى هو، وقرأ حمزة، والكسائيُّ تغشى بالتاء إسنادًا إلى ضمير، أمنة؛ أي: تغشى هي.
روى البخاري عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه ويسقط فآخذه.
﴿وَطَائِفَةٌ﴾؛ أي: وجماعةٌ من المنافقين كعبد الله بن أبيٍّ، ومعتِّب بن قشير، وأصحابهما ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾؛ أي: قد أوقعتهم نجاة أنفسهم وخلاصها في الهموم فلا ينامون، لأن أسباب الخوف، وهي قصد العدو كانت حاصلةً لهم، والدافع لذلك، وهو الوثوق بوعد الله ورسوله غير معتبر عندهم؛ لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، فلذلك عظم الخوف في قلوبهم.
وخلاصة هذا: أنَّ المسلمين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين:
الأول: فريقٌ ذكروا ما أصابهم، فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم، ووثقوا بوعد ربهم، وأيقنوا أنهم إن
200
غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول، فإن الله سينصرهم بعد، فأنزل الله عليهم النعاس أمنةً حتى يستردوا ما فقدوا من قوة، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف.
والثاني منهما: فريقٌ أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم؛ إذ الوثوق بوعد الله، ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم؛ لأنهم كانوا مكذِّبين بالرسول في قلوبهم، لا جرم عظم الخوف لديهم، وحقَّ عليهم ما وصفهم الله به من قوله: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ﴾، وهذه الجملة حالٌ من ضمير أهمتهم، أي: أهمتهم أنفسهم حالة كونهم يظنون، ويعتقدون في الله سبحانه وتعالى ظنًّا، سيئًا، فاسدًا، وهو عدم نصر الله محمدًا - ﷺ - ﴿غَيْرَ﴾ الظن ﴿الْحَقِّ﴾ أي غير الصدق الذي يجب اعتقاده، وهو نصره محمدًا - ﷺ - وقوله: ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ بدلٌ من غير الحق؛ أي: يظنون في الله ظن أهل الملة الجاهلية؛ إذ كانوا يقولون في أنفسهم: لو كان محمدٌ نبيًّا حقًّا.. ما سلط الله عليه الكفار، وهذا ظن فاسدٌ، وقولٌ باطلٌ لا يقوله إلا أهل الجهل، والشرك بالله تعالى، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحدٍ عليه، فإن النبوة خلعةٌ من الله تعالى يشرف بها عبده، وليس يجب في العقل أن الله تعالى إذا شرف عبدًا بخلعةٍ أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي، كيف يشاء بحكم الإلهية.
وجملة قوله: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ بدلٌ من ﴿يَظُنُّونَ﴾، والاستفهام فيه للإنكار، ومن زائدة، أي: يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر، والفتح، والظفر الذي وعدنا به محمدٌ نصيبٌ، يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء، قط لأن الله تعالى لا ينصر محمدًا - ﷺ -.
فهم قد فهموا أنَّ النصر وحقيّة الدِّين متلازمان، فما حدث في ذلك اليوم دليلٌ على أنَّ هذا الدين ليس بحق، وهذا خطأٌ كبيرٌ، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالًا، ولكن العاقبة للمتقين.
ثم أتى بجملةٍ معترضةٍ بين ما قبلها، وما بعدها، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المنافقين ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ﴾؛ أي: إنَّ النصر، والغلبة، والظفر، والقضاء،
201
والقدر جميعه ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، وبيده يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف يريد، فكل أمرٍ يقع في العالم فهو بحسب سننه تعالى في الخليقة، ووفق النظام الذي وضعه أولًا، وربط فيه الأسباب بالمسببات، ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد ذلك في قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾. وهذه معترضةٌ كما مر آنفًا. وقرأ الجمهور (١) ﴿كله﴾ بالنصب تأكيدًا للأمر، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب ﴿كله﴾ بالرفع على أنه مبتدأ، ويجوز أن يعرب توكيدًا للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك، وهو الجرميُّ والزجاج والفراء. قال ابن عطية: ورجح الناس قراءة الجمهور، لأن التأكيد أملك بلفظة كلٍّ انتهى. ولا ترجيح إذ كل من القراءتين متواترٌ، والابتداء بكلٍّ كثيرٌ، في لسان العرب، وجملة قوله: ﴿يُخْفُونَ﴾ حال من ضمير يقولون، أي: يقولون: هل لنا من الأمر شيء حالة كونهم يخفون، ويضمرون ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾، أي: ما لا يستطيعون إعلانه، وإظهاره لك، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ويبطنون الإنكار والتكذيب. وجملة قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا لما يخفون واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما الذي يخفونه؛ فأجاب بقوله: يقول هؤلاء المنافقون في أنفسهم أو بعضهم لبعضٍ ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ﴾ والتدبير والرأي والاختيار ﴿شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾؛ أي: ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، وما غلبنا، يعنون أنهم أخرجوا كرهًا، ولو كان الأمر بيدهم ما خرجوا، أو المعنى يقولون: لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا، كما ادَّعى محمد أنَّ الأمر كلَّه لله، ولأوليائه، وأنهم الغالبون لما غلبنا، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة. وهذا منهم تقريرٌ لرأيهم، واستدلالٌ عليه بما وقع لهم، وقد غفلوا عن أنَّ الآجال محدودةٌ، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه، ومن ثم أمر الله نبيه - ﷺ - أن يجيبهم ويرد عليهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿لَوْ كُنْتُمْ﴾ ومكثتم ﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾ ومنازلكم ولم تخرجوا من المدينة إلى أحدٍ للقتال كما تقولون ﴿لَبَرَزَ﴾
(١) البحر المحيط ج ٣ ص ٨٨.
202
وظهر وخرج من بينكم ﴿الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ في اللوح المحفوظ، وانتهت آجالهم، وثبت في علم الله أنهم يقتلون بسببٍ من الأسباب الداعية إلى البروز والخروج ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ وأماكنهم التي ماتوا فيها عند أحد ومصارعهم ومساقطهم ومقاتلهم التي قدر الله تعالى أنهم يقتلون فيها فتكون لهم مصارع ومضاجع وقتلوا هناك ألبتةً، ولم تنفع العزيمة على الإقامة بالمدينة قطعًا، فإن قضاء الله لا يرد وحكمه لا يعقب.
والخلاصة: (١) أنَّ الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال، وإلا انقلب علم الله جهلًا، وذلك محال فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم، كما قدر ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون، وأن العاقبة لهم، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كلِّه. وقرأ الجمهور ﴿برز﴾ بالفتح والتخفيف ويقرأ بالتشديد على ما لم يسم فاعله؛ أي: أخرجوا بأمر الله تعالى ذكره أبو البقاء. وقوله: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ معطوف على علةٍ محذوفةٍ لمعلول محذوف تقديره: فرض الله عليكم القتال، ولم ينصركم يوم أحد وفعل بكم فيه ما فعل لحكمةٍ باهرة، ومصالح جمةٍ، وليبتلى الله سبحانه وتعالى، ويختبر ما في صدوركم من الإخلاص، والنفاق، ويظهر ما فيها من السرائر والاعتقادات، ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ الله سبحانه وتعالى ويصفي ويطهر ﴿مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من وساوس الشيطان، والشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمَنَةِ وصرف العدو عنكم.
وخلاصة الكلام هنا: فعل الله سبحانه وتعالى بكم ما أصابكم يوم أحد من القتل والجراح ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم، وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة، ويمحص ما في قلوبهم من الوساوس، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان، وفي المثل المشهور: "لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين". ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾
(١) المراغي ج ٢ ص ١٠٥.
203
سبحانه وتعالى ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: عالم بالسرائر والضمائر الخفية التي لا تكاد تفارق الصدور، بل تلازمها وتصاحبها، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وفي هذا ترغيبٌ، وترهيبٌ، وتنبيهٌ، إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن الابتلاء، والامتحان، وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين على الصبر، وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين؛ لأنَّ الحقائق قد تخفى على أربابها، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيصٍ، ولا ابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم
١٥٥ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾ وأدبروا، وهربوا، وانهزموا، ﴿مِنْكُمْ﴾ أيَّها المسلمون ﴿يَوْمَ الْتَقَى﴾ والتحم، وتقاتل ﴿الْجَمْعَانِ﴾؛ أي: جمع المسلمين، وجمع الكفار، وهو يوم أحد فهو خطاب لمن كان مع النبي - ﷺ - من المؤمنين يوم أحد بأحدٍ، وكان قد انهزم أكثر المسلمين، ولم يبق مع النبي - ﷺ - إلا ثلاثة عشر رجلًا، وقيل: أربعة عشر من المهاجرين سبعةٌ ومن الأنصار سبعةٌ، فمن المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم والباقون من الأنصار، وهم سبعة: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصَّمَّةِ، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.
﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: إنما أوقعهم الشيطان في الزلل والخطيئة، بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، لا أنه أمرهم بها ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾؛ أي: بسبب بعض ما كسبوا، وعملوا من الذنوب، والعصيان، وهو مخالفة أمر الرسول - ﷺ - بترك المركز والحرص على الغنيمة.
وخلاصة الكلام (١): أنَّ الرماة الذين أمرهم الرسول - ﷺ - أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين ما تركوا هذه المراكز إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل، واستجراره لهم بالوسوسة؛ فإن الخطيئة الصغيرة إذا
(١) المراغي ج ٢ ص ١٠٦.
204
ترخص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأولٍ؛ إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعةٌ من هزيمتهم؛ فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنيمة فوات منفعة، ولا وقوعٌ في ضرر، ولكن هذا التأوُّل كان سببًا في كل ما جرى من المصائب التي من أجلها ما أصاب الرسول - ﷺ - والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعًا في الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.
وفي هذا إيماءٌ إلى سنة من سنن الله تعالى في أخلاق البشر، وأعمالهم وهي أن المصائب التي تعرض لهم في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة إنما هي آثارٌ طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس، وليست ملكةً ولا عادةً لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهي التي عناها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ وإليها الإشارة بقوله: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾.
فهذه المصائب والعقوبات سواء: أكانت في الدنيا أم في الآخرة آثارٌ طبيعيةٌ للأعمال السيئة، ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد عفا الله سبحانه وتعالى، وسامح، وتجاوز عن تولي هؤلاء المتولين المنهزمين، وعقوبتهم عليه لتوبتهم واعتذارهم.
والمعنى: أنَّ ما صدر منهم من الذنوب في هذا اليوم، يستحق أن يعاقبوا عليه في الدنيا والآخرة، ولكن عفا الله عن عقوبتهم الأخروية، وجعل عقوبتهم في الدنيا تربية وتمحيصًا، وفي هذا دفعٌ لاستيلاء اليأس على نفوسهم، وتحسين لظنونهم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لمن تاب يغفر الذنوب جميعًا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والإعتذار ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعاجل عقوبة من عصاه، وهذه الجملة كالعلة للعفو عن هؤلاء المتولِّين، وقد كانوا أكثر المقاتلين، فإنه لم يبق مع النبي - ﷺ - يومئذٍ إلا ثلاثة عشر أو أربعة عشر كما مر. وقد بالغ بعض المنهزمين في الفرار حتى إنَّ بعضهم لم يرجعوا إلى رسول الله - ﷺ - إلّا بعد ثلاثة أيام،
205
وبعضهم رجع في ذلك اليوم، واجتمعوا على الجبل.
١٥٦ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا بين فيما سبق لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلَّت بهم يوم أحد، كانت بوسواسٍ من الشيطان استزلهم به، فزلوا، حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين، فقال: يا أيها الذين آمنوا، وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - لا تكونوا كالمنافقين الذين كفروا في نفس الأمر، كعبد الله بن أبي وأصحابه، وقالوا في شأن إخوانهم وأصدقائهم في النفاق ﴿إِذَا ضَرَبُوا﴾ وسافروا ﴿فِي﴾ نواحي ﴿الْأَرْضِ﴾ للتجارة، والكسب فماتوا ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾؛ أي: غزاةً في وطنهم، أو في بلاد أخرى فقتلوا ﴿لَوْ كَانُوا﴾ مقيمين ﴿عِنْدَنَا﴾ في المدينة ﴿مَا مَاتُوا﴾ في سفرهم، ﴿وَمَا قُتِلُوا﴾ في غزواتهم لما تقدم من قول المنافقين (١) ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ وأخبر الله عنهم أنهم قالوا ﴿لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، وكان قولًا باطلًا، واعتقادًا فاسدًا نهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة، والاعتقاد السيء، وهو أن من سافر في تجارة ونحوها، فمات، أو قاتل، فقتل، لو قعد في بيته لعاش، ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال، وهو معتقدُ الكفار والمنافقين.
والمراد (٢) بالأخوة هنا: أخوة النسب؛ إذ كان قتلى أحدٍ من الأنصار، وأكثرهم من الخزرج، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعةٌ، وقيل: خمسةٌ، ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريبٌ أو بعيدٌ، أو المراد أخوة المعتقد، والنفاق كما مر.
وقرأ الجمهور ﴿غُزًّى﴾ بتشديد الزاي، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي، ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيًّا، وعلى حذف التاء، والمراد غزاةً.
(١) البحر المحيط ج ٣ ص ٩٢.
(٢) البحر ج ٣ ص ٩٢.
206
وقرأ الجمهور ﴿وَمَا قُتِلُوا﴾ بتخفيف التاء، وقرأ الحسن بتشديدها للتكثير في المحال، لا بالنسبة إلى محل واحد؛ لأنه لا يمكن التكثير فيه.
واللام في قوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ﴾ لام كي، متعلِّقة بمعلول محذوف دلَّ عليه السياق تقديره: أوقع الله ذلك القول، والمعتقد في قلوبهم ليجعل الله ذلك؛ أي: ظنهم أن إخوانهم لو لم يسافروا، ولم يحضروا القتال لعاشوا ﴿حَسْرَةً﴾ وندامةً ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾، وحزنًا وغمًّا، وتأسفًا على فوات إخوانهم، والحسرة: الندامة على فوت المحبوب. والمعنى: لا تكونوا كالذين كفروا، وقالوا فيمن ماتوا، أو قتلوا ما قالوا؛ أي: لا تقولوا، ولا تعتقدوا، مقتضى هذا القول المذكور، فالمقصود النَّهْيُ عن هذا القول، واعتقاد مضمونه، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم ميزةٌ عنهم بالعقل الراجح الذي يهدي صاحبه إلى أنَّ الذي وقع كان لا بد أن يقع، فلا يتحسَّر عليه، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانًا وتسليمًا بكل ما يجري به القضاء.
وقوله: ﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ ردٌّ لقولهم: إن القتال يقطع الآجال، فالأمر بيده سبحانه وتعالى، فهو المؤثر وحده في الحياة والموت بمقتضى سننه في أسبابهما، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما؛ فإنَّ الله تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك، ويميت المقيم والقاعد، وإن كان تحت ظلال النعيم. وقد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال، عند موته: ما فيَّ موضع شبرٍ إلّا وفيه ضربة سيفٍ أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت كما يموت العير - الحمارُ - فلا نامت أعين الجبناء.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من خير أو شر ﴿بَصِيرٌ﴾؛ أي: مطلع عليه، فلا يخفى عليه شيءٌ مما تكنون في أنفسكم من المعتقدات التي لها أثرٌ في أقوالكم، وأفعالكم، فيجازيكم عليه، فاجعلوا نفوسكم طاهرةً من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار.
وفي هذا تهديدٌ للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار في أقوالهم، وأفعالهم،
207
وهذا على قراءة التاء في ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خطابًا للمؤمنين، وهي قراءة غير ابن كثير، وحمزة، والكسائي.
والمعنى: فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل المنافقين في قولهم المذكور؛ لأنَّ مقصدهم تنفير المؤمنين عن الجهاد بقولهم؛ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فإن الله تعالى هو المحيي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق، وإن أقام ببيته عند أهله، فلا تقولوا أنتم أيها المؤمنون لمن يريد الخروج إلى الجهاد: لا تخرج فتقتل، فلأن يموت في الجهاد فيستوجب الثواب، خيرٌ له من أن يموت في بيته بلا فائدة. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي ﴿يعملون﴾ بالياء على الغيبة على أنه وعيدٌ للمنافقين؛ أي: مطلعٌ على عملهم فيجازيهم عليه.
١٥٧ - ثم بشر سبحانه وتعالى من قتل، أو مات في سبيل الله بحسن المآل، فقال: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن قتلتم أيها المؤمنون ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في الجهاد ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ في سفركم للغزو مع الكفار، أو في بيوتكم، وكنتم مخلصين من النفاق. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف، وقرأ الباقون بضم الميم من مات يموت كقال يقول، والضم أقيس وأشهر، والكسر مستعمل كثيرًا. ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ﴾ لذنوبكم ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ منه لكم ﴿خير مما تجمعون﴾ بالتاء خطابًا للمؤمنين؛ أي: مما تجمعونه، أنتم، لو لم تموتوا من الأموال التي تعد خيراتٍ، وهذه قراءة الجمهور. وقرأ حفصٌ عن عاصم ﴿يَجْمَعُونَ﴾ بياء الغيبة؛ أي: خير مما يجمعه هؤلاء الكفرة من منافع الدنيا، وطيباتها مدة أعمارهم.
أي: إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل في سبيل الله، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال، والمتاع، في هذه الدار الفانية، فإن هذا ظلٌّ زائلٌ، وذاك نعيم خالد.
والخلاصة: أن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه، والرحمة التي ترفع درجاته، خيرٌ له مما يجمع هؤلاء
الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات.
فما أجدّ المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية، وأن لا يتحسروا على من يقتل منهم، أو يموت في سبيل الله، فإن ما يلقونه بعدهما خيرٌ لهم مما كانوا فيه قبلهما، ثم حثهم على العمل في سبيل الله تعالى؛ لأن المآل إليه فقال.
١٥٨ - ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ في حضرٍ أو سفر، ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ في الجهاد أو غيره ﴿لَإِلَى اللَّهِ﴾ معبودكم الذي توجهتم إليه وبذلتم مهجتكم لوجهه الرحيم الواسع الرحمة والمغفرة المثيب العظيم الثواب لا إلى غيره، لا محالة ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وتجمعون أيها المؤمنون في الحالين، فيوفى جزاءكم، ويعظم ثوابكم، فجميع العالمين يوقفون في عرصة القيامة، وبساط العدل، فيجتمع المظلوم مع الظالم، والمقتول مع القاتل والله تعالى يحكم بين عباده بالعدل.
والمعنى: أنكم بأيّ سببٍ كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون، لا إلى غيره، فيجازي كلًّا منكم بما يستحق من الجزاء، فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى من غيره ثوابٌ، ولا يتوقع منه دفع عقاب، فآثروا ما يقربكم إليه، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته، وعليكم بالجهاد في سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها، فإنها فانيةٌ، وتلك الحياة الأخرى باقيةٌ، خالدة، فقوله تعالى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ﴾ إشارة: إلى من يعبده خوفًا من عقابه، وقوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ إشارةٌ إلى من يعبده لطلب ثوابه، وقوله: ﴿لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ إشارة: إلى من يعبده لمجرد الربوبية، والعبودية، وهذا أعلى المقامات، وأبعد النهايات في العبودية، في علو الدرجة، فهؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعة الله، ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته.
قال بعضهم:
209
فائدة: وهنا ثلاثة مواضع ذكر الموت فيها، قدَّم الموت في الأول: منها: على القتل، وهو قوله: ﴿مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ لمناسبة ما قبله من قوله: ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وقدم القتل على الموت في الثاني منها، وهو قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ﴾ لأنه محل تحريض على الجهاد، فقدم الأهم الأشرف، وقدَّم الموت على القتل في الثالث منها، وهو قوله: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ لأنه الأغلب.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩)﴾.
﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة. و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه زائدٌ، تعويضًا عمَّا فات ﴿أيُّ﴾ من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول، في محل النصب صفةٌ لـ ﴿أيُّ﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿تُطِيعُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِن﴾. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول به. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ فعل، وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جواب الشرط، وجملة الشرط مع جوابه جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾. ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿تنقلبوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ على كونه جواب الشرط. ﴿خَاسِرِينَ﴾ حال من ضمير الفاعل، أو خبر ﴿انقلب﴾ إن قلنا إنه من أخوات صار.
﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)﴾.
﴿بَلِ﴾ حرف إضراب عن محذوف معلوم من السياق، كما مر في بحث التفسير، تقديره: فليسوا أولياء لكم حتى تطيعوهم، بل الله الخ. ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿مَوْلَاكُمْ﴾ خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة أو
210
حالية. ﴿هو﴾ مبتدأ. ﴿خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة الإضراب أو حال من الجلالة.
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)﴾.
﴿سَنُلْقِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ والجملة مستأنفة. ﴿فِي قُلُوبِ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿سَنُلْقِي﴾. ﴿كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب. (ما) مصدرية. ﴿أَشْرَكُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة صِلةٌ لـ ﴿ما﴾ المصدرية وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب إشراكهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سَنُلْقِي﴾. ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول لـ ﴿أشركوا﴾. ﴿لَمْ يُنَزِّلْ﴾ فعل مضارع وجازم، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُنَزِّلْ﴾ والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾. ﴿سُلْطَانًا﴾ مفعول به لـ ﴿يُنَزِّلْ﴾. ﴿وَمَأوَاهُمُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿مأواهم﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿النَّارُ﴾ خبر، والجملة مستأنفة. ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿بئس﴾ فعل ماض من أفعال الذم. ﴿مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ فاعل ومضاف إليه، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا، تقديره: النار، وهو مبتدأٌ خبره جملة ﴿بئس﴾، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَأوَاهُمُ النَّارُ﴾ على كونها مستأنفةٌ، وفي المخصوص بالذم، أوجهٌ كثيرةٌ مذكورة في كتب النحو فراجعها إن شئت.
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿صَدَقَكُمُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول أول. ﴿وَعْدَهُ﴾ مفعول ثانٍ ومضاف إليه، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم
211
مستأنفة. وتعدَّت (١) كلمة ﴿صَدَق﴾ هنا إلى اثنين، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر، تقول: صدقت زيدًا الحديث، وصدقت زيدًا في الحديث، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدَّى إلى اثنين، ويجوز أن يتعدّى إلى الثاني بحرف الجر، فيكون من باب استغفر، ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى مبني على السكون والظرف متعلق بـ ﴿صدق﴾، ويجوز أن يتعلَّق بـ ﴿وعده﴾ كما ذكره أبو البقاء. ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتحسونهم، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ والتقدير: ولقد صدقكم الله وعده وقت حسكم، وقتلكم إياهم بإذنه.
﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾.
﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية بمعنى إلى. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان خافضة لشرطها منصوبة بجوابها. ﴿فَشِلْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب المحذوف الذي سنبينه. ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة ﴿فَشِلْتُمْ﴾. ﴿فِي الْأَمْرِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تنازعتم﴾. ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الخفض معطوفة على جملة ﴿فَشِلْتُمْ﴾ أيضًا. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور، تنازع فيه الأفعال الثلاثة المذكورة قبله. ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿أَرَاكُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ورأى هنا بصرية تعدَّت إلى مفعولين بالهمزة. ﴿مَا تُحِبُّونَ﴾ ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لأرى. ﴿تُحِبُّونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: من بعد إراءته إياكم ما تحبون، وجواب ﴿إِذَا﴾ محذوف تقديره: منعكم النصر، وانهزمتم، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حتى﴾ بمعنى إلى المتعلِّقة بـ ﴿صدقكم﴾ والتقدير: ولقد صدقكم ﴿وعده﴾ إذ تحسونهم بإذنه،
(١) البحر المحيط ج ٣ ص ٧٨.
212
واستمر نصركم إلى منعه تعالى إياكم النصر، وانهزامكم وقت فشلكم، وتنازعكم في الأمر، وعصيانكم أمر الرسول - ﷺ - من بعد إراءته تعالى إياكم ما تحبون من النصر والظفر. وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب لا طائل تحتها، فراجع كتب المفسرين إن شئت.
﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾.
﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. ﴿يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة الفعلية صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد ضمير الفاعل، والجملة من المبتدأ والخبر جملة معترضة، لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. ﴿وَمِنْكُمْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿منكم﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ صلة الموصول، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ على كونها معترضة لا محل لها من الإعراب.
﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف. ﴿صَرَفَكُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جواب ﴿إذا﴾ المقدَّر المذكور سابقًا على كونها جملةً جوابيةً لا محل لها من الإعراب ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿يبتلي﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿والكاف﴾ مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: لابتلائه إياكم الجار والمجرور متعلقٌ بـ ﴿صَرَفَكُمْ﴾.
﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿عَفَا﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿عَنْكُمْ﴾ متعلق بعفا، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم
213
المحذوف مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿ذُو فَضْلٍ﴾ خبر، ومضاف إليه. ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ جار ومجرور، متعلق بفضل، والجملة الإسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان. ﴿تُصْعِدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليها، والظرف متعلق بـ ﴿صرفكم﴾، وهو أجود من جهة المعنى، أو بـ ﴿عفا﴾ وهو أحسن بالنظر إلى قربه كما مر في بحث التفسير. ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تَلْوُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿تُصْعِدُونَ﴾. ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تلوون﴾. ﴿وَالرَّسُولُ﴾ ﴿الواو﴾ واو الحال ﴿الرسول﴾ مبتدأ. ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو الجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿تَلْوُونَ﴾. ﴿فِي أُخْرَاكُمْ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ العائد إلى ﴿الرسول﴾.
﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿أثابكم﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿غَمًّا﴾ مفعول ثان. ﴿بِغَمٍّ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أثابكم﴾ و ﴿الباء﴾ فيه سببية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿ثم صرفكم﴾. وقال الزمخشري (١): ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ عطف على ﴿صرفكم﴾ انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين، والذي يظهر أنه معطوف على ﴿تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ﴾ لأنه مضارع في معنى الماضي، لأنَّ إذ تصرف المضارع إلى الماضي إذ هي ظرفٌ لما مضى، والمعنى إذ صعدتم، وما لويتم على أحد فأثابكم. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ ﴿اللام﴾ حرفٌ جر وتعليل. ﴿كي﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾ نافية
(١) البحر المحيط ج ٣ ص ٨٤.
214
أو زائدة. ﴿تَحْزَنُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿كي﴾. ﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَحْزَنُوا﴾. ﴿فَاتَكُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، وجملة (فات} صلةٌ لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾ زائدة. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوفة على ﴿مَا﴾ الأولى. ﴿أَصَابَكُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، وجملة أصاب صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، وجملة ﴿تَحْزَنُوا﴾ صلة كي المصدرية، وكي مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المتعلقة بـ ﴿أثابكم﴾ والتقدير: فأثابكم غمًّا بغمٍّ لتمرينكم على تجرع الغموم، وعدم حزنكم فيما بعد على ما فاتكم، ولا ما أصابكم. هذا إن قلنا إنَّ ﴿لا﴾ أصلية نافية، أو المتعلقة بـ ﴿عفا عنكم﴾، إن قلنا إنَّ ﴿لا﴾ زائدة، والتقدير: ولقد عفا عنكم لحزنكم على ما فاتكم، وما أصابكم. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿خَبِيرٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لـ ﴿مَا﴾ أو صفةٌ لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه.
﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف. ﴿أَنْزَلَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿أثابكم﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿أَمَنَةً﴾ مفعول به لـ ﴿أنزل﴾. ﴿نُعَاسًا﴾ بدل منه. ﴿يَغْشَى﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿نُعَاسًا﴾ والجملة صفة لـ ﴿نُعَاسًا﴾. ﴿طَائِفَةً﴾ مفعول ﴿يَغْشَى﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿طَائِفَةً﴾. ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، أو حالية. ﴿طائفةٌ﴾ مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿أَهَمَّتْهُمْ﴾ فعل ومفعول. ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدإ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿يَظُنُّونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿أَهَمَّتْهُمْ﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور
215
متعلق بـ ﴿يَظُنُّونَ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا. ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ مفعول أول لـ ﴿يَظُنُّونَ﴾، ومضاف إليه. ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ مفعول مطلق، ومضاف إليه.
﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب بدل من ﴿يَظُنُّونَ﴾ بدل كل من كل. ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿هل﴾: حرف للاستفهام الإنكاري. ﴿لَنَا﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ جار ومجرور حال ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ المذكور بعده. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ ﴿من﴾ زائدة. ﴿شَيْءٍ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. وفي "الفتوحات" قوله ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ إما مبتدأ خبره ﴿لَنَا﴾، أو فاعل بـ ﴿لَنَا﴾ لاعتماده على الاستفهام و ﴿مِن﴾ عليهما زائدةٌ، و ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ حال من المبتدأ، لأنه لو تأخر عن شيء.. لكان نعتًا له فيتعلق بمحذوف.
﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئت قلت ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿الْأَمْرَ﴾ اسمها. ﴿كُلَّهُ﴾ على قراءة النصب توكيد للأمر، وعلى قراءة الرفع مبتدأ. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور، خبر ﴿إن﴾، أو خبر المبتدأ وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقولٌ لقل.
﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾.
﴿يُخْفُونَ﴾، فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُخْفُونَ﴾. ﴿مَا لَا يُبْدُونَ﴾ ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يُخْفُونَ﴾. ﴿لَا﴾ نافية. ﴿يُبْدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفةٌ لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما لا يبدونه. ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ
216
﴿يُبْدُونَ﴾.
﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، بيّن بها ﴿مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾، وهذا هو الأجود من جعلها بدلًا من ﴿يُخْفُونَ﴾ كما ذكره في "الكشَّاف". ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿لَنَا﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾ على اسمها. ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ جار ومجرور حال من ﴿شيء﴾، لأنه نعت نكرة قُدِّم عليها، فيعرب حالًا. ﴿شَيْءٌ﴾ اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر، وجملة كان من اسمها وخبرها فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا قُتِلْنَا﴾ ﴿مَا﴾ نافية. ﴿قُتِلْنَا﴾ فعل ماض مغير، ونائب فاعله. ﴿هَاهُنَا﴾ اسم إشارة للمكان القريب في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿قُتِلْنَا﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقولٌ لـ ﴿يَقُولُونَ﴾.
﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر ﴿كان﴾ أو متعلق بـ ﴿كان﴾ إن قلنا: إنها تامة، وجملة ﴿كان﴾ فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَبَرَزَ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿برز الذين﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿كُتِبَ﴾ فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِمُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿كُتِبَ﴾. ﴿الْقَتْلُ﴾ نائب فاعل لـ ﴿كُتِبَ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير عليهم. ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يبتلي اللَّه﴾.
217
﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾
﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ليبتلى﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿يبتلى اللَّه﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول لـ ﴿يبتلي﴾. ﴿فِي صُدُورِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلةٍ لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، وجملة ﴿يبتلي اللَّه﴾ صلة أن المضمرة وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: ولابتلاء الله ما في صدوركم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المتعلق بمعلول محذوف تقديره: فعل الله بكم ما فعل بكم يوم أحد لحكمة باهرةٍ، ولابتلاء الله ما في صدوركم.
﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ليمحص﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿يمحِّص﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، وجملة ﴿يمحِّص﴾ صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولتمحيص الله ما. ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾ الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره. ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بعليم، والجملة الإسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها. ﴿تَوَلَّوْا﴾ فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿تَوَلَّوْا﴾ ﴿يَوْمَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿تَوَلَّوْا﴾. ﴿الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر، بمعنى ما النافية، وإلا المثبتة. ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة. ﴿بِبَعْضِ مَا﴾ جار ومجرور،
218
ومضاف إليه متعلق بـ ﴿استزل﴾. ﴿كَسَبُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره ببعض ما كسبوه.
﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿عَفَا اللَّهُ﴾ فعل وفاعل. ﴿عَنْهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿إن﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿غَفُورٌ﴾ خبر أول، لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿حَلِيمٌ﴾ خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾.
﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لَا تَكُونُوا﴾ ﴿لَا﴾ ناهية. ﴿تَكُونُوا﴾ فعل ناقص واسمه مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿كَالَّذِينَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿تَكُونُوا﴾، وجملة ﴿تَكُونُوا﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَقَالُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿لِإِخْوَانِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قالوا﴾. ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، ولكنها بمعنى إذْ. ﴿ضَرَبُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿قالوا﴾ والتقدير: وقالوا لإخوانهم وقت ضربهم في الأرض. ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ ﴿أَوْ﴾ حرف عطف وتفصيل. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿غُزًّى﴾ خبره، وجملة ﴿كَانُوا﴾ في محل الجر معطوفة على جملة ﴿ضَرَبُوا﴾. ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ مقول محكي لـ ﴿قُتِلُوا﴾. وإن شئت: قلت ﴿لَوْ﴾
219
حرف شرط غير جازم. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿عِنْدَنَا﴾ ظرف، ومضاف إليه خبر ﴿كَانُوا﴾، وجملة ﴿كَانُوا﴾ فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿مَا مَاتُوا﴾ ﴿مَا﴾ نافية. ﴿مَاتُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لـ ﴿قالوا﴾: وجملة قوله: ﴿وَمَا قُتِلُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿مَا مَاتُوا﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿لو﴾.
﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ﴾.
﴿لِيَجْعَلَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وعاقبة. ﴿يجعل الله﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرةً، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام العاقبة، تقديره: لجعل الله عاقبة ﴿ذلك حسرة في قلوبهم﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قالوا﴾؛ أي: قالوا ذلك ليجعل عاقبة أمرهم الحسرة، والندامة. ﴿ذَلِكَ﴾ مفعول أول لجعل؛ لأنه بمعنى صير. ﴿حَسْرَةً﴾ مفعول ثان له. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يجعل﴾ وهو أبلغ في المعنى، أو صفة لـ ﴿حَسْرَةً﴾ كما في "الفتوحات". ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿الله﴾ مبتدأ. وجملة ﴿يُحْيِي﴾ خبره، والجملة الإسمية مستأنفة. وجملة قوله: ﴿وَيُمِيتُ﴾ معطوفة على جملة ﴿يُحْيِي﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾ الآتي. ﴿تَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما تعملونه. ﴿بَصِيرٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿قُتِلْتُمْ﴾ فعل، ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها.
220
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قُتِلْتُمْ﴾. ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ معطوف على ﴿قُتِلْتُمْ﴾. ﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء. ﴿مغفرة﴾ مبتدأ. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿مغفرة﴾. ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ معطوف على مغفرة. ﴿خَيْرٌ﴾ خبر المبتدأ. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿يَجْمَعُونَ﴾ فعل، وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يجمعونه، والجملة من المبتدإ والخبر جواب القسم لا محل لها من الإعراب. وأما جواب الشرط فمحذوف على القاعدة المشهورة عندهم، كما قال ابن مالك:
لَيْسَ قَصْدِيْ مِنَ الْجِنَانِ نَعِيْمَا غَيْرَ أَنِّيْ أُرِيْدُهَا لأَرَاكَا
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِماعٍ شَرْطٍ وقَسَم جَوَابَ ما أَخَّرَتْ فَهُوَ مُلْتَزمُ
وجملة القسم مع جوابه مستأنفة.
﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿مُتُّمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ معطوف على ﴿مُتُّمْ﴾. ﴿لَإِلَى اللَّهِ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب القسم. ﴿إلى اللَّه﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُحْشَرُونَ﴾. ﴿تُحْشَرُونَ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، وجواب الشرط محذوف معلوم من جواب القسم تقديره: تحشرون إلى الله. وجملة القسم مع جوابه معطوفة على جملة القسم الأول.
وقال أبو البقاء (١) قوله: ﴿لَإِلَى اللَّهِ﴾ ﴿اللام﴾ جواب قسم محذوف، ولدخولها على حرف الجر.. جاز أن يأتي ﴿تُحْشَرُونَ﴾ غير مؤكد بالنون، والأصل: لتحشرن إلى الله.
قال أبو حيان (٢): ولم يؤكد الفعل الواقع جوابًا للقسم المحذوف؛ لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور، ولو تأخَّر.. لكان لتحشرن إليه. قال أبو عليٍّ: الأصل دخول نون التوكيد فرقًا بين لام اليمين،
(١) العكبري.
(٢) البحر المحيط.
221
ولام الابتداء. ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات، فبدخول لام اليمين على الفضلة؛ وقع الفصل، فلم يحتج إلى النون، وبدخولها على سوف كقوله: ﴿فلسوف تعلمون﴾ وقع الفرق فلم يحتج إلى النون؛ لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل، إلا إذا كان حالًا أما إذا كان مستقبلًا.. فلا.
وإنما قُدِّمَ الجار والمجرور اهتمامًا باسم الله تعالى، ولرعاية الفاصلة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ الرُّعب بضمتين، وبإسكان الثاني شدة الخوف التي تملأ القلب، وفي "المصباح". رعبت رعبًا من باب: تفع خفت، ويتعدى بنفسه، وبالهمزة أيضًا يقال: رعبته فهو مرعوب، وأرعبته، والاسم الرعب بالضم، وبضم العين للإتباع، ورعبت الإناء إذا ملأته، ورعبت الحوض ملأته، وسيلٌ راعبٌ؛ أي: ملأ الوادي.
﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ السلطان (١): الحجة والبرهان، ومنه قيل للوالي: سلطان، وقيل: اشتقاق السلطان من السليط، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم، وقيل: السليط: الحديد، والسلاطة: الحدة، والسلاطة من التسليط، وهو القهر والسلطان من ذلك، فالنون زائدةٌ، والسليطة المرأة الصخابة، والسليط الرجل الفصيح اللسان.
﴿مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ المثوى: مفعلٌ من ثوى يثوي ثويًا إذا أقام، يكون للمصدر، والزمان، والمكان، والثواء الإقامة بالمكان الثابتة، أما المأوى: فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان كما مر في بحث التفسير.
﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ الحسُّ: القتل الذريع يقال: حسَّه يحسه من باب: رد حسًّا، إذا قتله قتلًا ذريعًا قال الشاعر:
حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوْا وَتَبَدَّدُوْا
(١) البحر المحيط.
222
وجراد محسوسٌ قتله البرد، وسنةٌ حسوس إذا أتت على كل شيء. وفي "المختار" ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ أي: تستأصلونهم قتلًا، وبابه: ردَّ، فكان القاتل أبطل حسه بالقتل، كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه إذا أصاب رأسه.
﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ في "المصباح" فشل فشلًا، فهو فشلٌ من باب: تعب وهو الجبان الضعيف القلب.
﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ التنازع الإختلاف، وهو من النزع وهو الجذب يقال: نزع ينزع إذا جذب، وهو متعدٍّ إلى واحد؛ ونازع متعدٍ إلى اثنين وتنازع متعدٍ إلى واحد.
قال الشاعر:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ بضم أوله على قراءة الجمهور من أصعد الرباعيّ، يقال: أصعدنا من مكة إلى المدينة، أي: ذهبنا، وبفتحه على قراءة غيرهم من صعد في الجبل إذا رقى. وقال المفضل: صعد وأصعد بمعنى واحدٍ.
﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾؛ أي: لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، يقال: فلانٌ لا يلوي على شيء؛ أي: لا يعطف عليه، ولا يبالي به، وأصل تلوون تلويون استثقلت الحركة على الياء ثم حذفت، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الياء، ثم ضمت واو عين الكلمة لمناسبة واو الضمير فصار تلوون.
﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ يقال: فات الشيء، أعجز إدراكه، وهو متعد، ومصدره فوتٌ وهو قياس فعل المتعدِّي.
﴿نُعَاسًا﴾ النعاس (١): النوم الخفيف، يقال: نعس ينعس من باب فتح، ونصر نعاسًا، فهو ناعسٌ، ولا يقال: نعسان. وقال الفراء: قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها، ويقال: نعس الرجل نعسًا إذا أخذته فترةٌ في حواسه، فقارب النوم، فهو ناعسٌ.
﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ جمع مضجع، والمضجع: المكان الذي يتكأ فيه للنوم،
(١) البحر المحيط.
223
ومنه: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ والمضاجع المصارع، وهي أماكن القتل، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها.
﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ جمع (١) غاز، على حدِّ قوله:
وفُعَّلٌ لِفاعِلٍ وفاعِلَهْ وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وعَاذِلَهْ
ومِثْلُهُ الفُعَّالُ فِيْمَا ذُكِرَا.... وَذَانِ فِيْ المُعَلِّ لامًا نَدَرَا
وهو منصوبٌ بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو، وحذفت لالتقاء الساكنين، وأصله غزو تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، ثم حذفت لما ذكر. وفي "السمين" والجمهور على ﴿غزًّا﴾ بالتشديد جمع غازٍ، وقياسه: غزاةٌ كـ: رامٍ، ورماةٍ، وقاضٍ وقضاةٍ، ولكنهم حملوا المعتل على الصحيح في نحو ضاربٍ، وضُرَّب، وصائمٍ، وصُوُّم. وقرأ الحسن ﴿غُزًا﴾ بالتخفيف، وفيه وجهان أحدهما: أنه خفَّف الزاي كراهية التثقيل في الجمع، والثاني: أن أصله غزاةٌ كقضاةٍ ورماة، ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأنَّ نفس الصيغة دالَّةٌ على الجمع، فالتاء مستغنى عنها.
﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ بضم الميم من مات يموت من باب قال يقول، وأصل مات: موت تحركت الواو، وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا فصار مات. وأصل يموت يموت نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فصار يموت. وأما بكسرها فمن: مات يمات كخاف يخاف، أصله في الماضي موت كخوف، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار مات فهو من باب علم وأصله في المضارع يموت بوزن يعلم نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها، ثم قلبت ألفًا، فصار يمات مثل يخاف، فيقال في الماضي، عن إسناده لتاء الضمير: متم كما يقال: خفتم، وأصله موتم بوزن علمتم، نقلت كسرة الواو إلى الميم بعد سلب حركتها، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين.
وأما ﴿مُتُّمْ﴾ بالضم؛ فلأنَّ فَعَلَ بفتح العين من ذوات الواو، فقياسه إذا
(١) الفتوحات.
224
أسند إلى تاء المتكلم، وأخواتها: أن تضم فاؤه، إما من أوَّل وهلة، وإما أن تبدل الفتحة ضمةً، ثم تنقلها إلى الفاء على اختلافٍ بين الصرفيين.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة:
منها: الطِّباق في لفظ ﴿آمَنُوا﴾، و ﴿كَفَرُوا﴾، وكذلك بين ﴿يخفون﴾ و ﴿يبدون﴾، وبين ﴿فاتكم﴾ و ﴿أصابكم﴾، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقرى؛ والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه، ورأس ماله، وبالمنقلب الذي يروح في طريق، ويغدو في أخرى، وفي قوله: ﴿سَنُلْقِي﴾، وقيل هذا كله استعارة.
ومنها: الالتفات (١) إلى التكلم في قوله: ﴿سَنُلْقِي﴾ من الغيبة في قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه تعالى، وقرأ أيوب السختيانيُّ سيلقي بالغيبة جريًا على الأصل، وقدم المجرور على المفعول به اهتمامًا بذكر المحل قبل ذكر الحال، والإلقاء هنا مجازٌ؛ لأنَّ أصله في الأجرام فاستعير هنا.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ حيث لم يقل، وبئس مثواهم بل وضع الظاهر مكان الضمير للتغليظ، وللإشعار بأنهم ظالمون لوضعهم الشيء في غير موضعه.
ومنها: التفخيم في قوله: ﴿ذُو فَضْلٍ﴾ حيث نكره.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ للتشريف، وللإشعار بعلة الحكم حيث لم يقل عليكم.
ومنها: الإبهام (٢) في قوله: ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ فمن قال: هو
(١) الفتوحات.
(٢) البحر المحيط.
225
الرسول أبهمه تعظيمًا لشأنه؛ ولأن التصريح فيه هضمٌ لقدره.
ومنها: التجنيس المماثل في ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾.
ومنها: التفسير بعد الإبهام في قوله: ﴿مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ﴾.
ومنها: الاحتجاج النظريُّ في قوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾، وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضروب من المعقول نحو قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ﴾ وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، ومنه قول الشاعر:
جَرَى القَضَاءُ بِمَا فِيْهِ فَإِنْ تَلُمِ فَلاَ مَلاَمَ عَلَى مَا خُطَّ بِالْقَلَمِ
ومنها: الاعتراض في ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾.
ومنها: الاختصاص في ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، وفي ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً﴾.
ومنها: الاستعارة في ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ تشبيهًا (١) للمسافر في البرِّ بالسابح الضارب في البحر؛ لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقًّا لها، واستعانةً على قطعها.
ومنها: التكرار في ﴿مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ وما بعدهما.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تلخيص البيان ص ٢٢.
226
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لمَّا أرشد (١) الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم، ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم.. زاد في الفضل والإحسان إليهم، في هذه الآيات بأن مدح الرسول - ﷺ - على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم، وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد، التي خالف فيها النبيَّ - ﷺ - بعض أصحابه، وكان من جراء ذلك ما كان من الفشل، وظهور المشركين عليهم، حتى أصيب النبيُّ - ﷺ - مع من أصيب، فصبر، وتجلَّدَ، ولان في معاملة أصحابه، وخاطبهم بالرِّفْقِ، ولم
(١) المراغي.
227
يعاتبهم اقتداء بكتاب الله تعالى؛ إذ أنزل في هذه الواقعة آيات كثيرةً بيَّن فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين، وعصيانهم، وتقصيرهم حتى ذكر الظنون والهواجس النفسية، لكن مع العتب المقترن بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة.
والآيات تتحدَّث عن أخلاق النبوَّةِ، وعن المِنَّةِ العظمى ببعثةِ الرسولِ الرحيم، والقائد الحكيم، وعن بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ...﴾ الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها (١): من حيث إنها تضمَّنت حكمًا من أحكام الغنائم في الجهاد، وهو من المعاصي المتوعَّد عليها بالنار، كما جاء في قصة مُدْعِمٍ (٢) فحذَّرهم عن ذلك.
قوله تعالى: (٣) ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمَّا ذكر الفريقين فريق الرضوان، وفريق السخط، وأنهم درجاتٌ عند الله مجملا من غير تفصيل، فصل أحوالهم. وبدأ بالمؤمنين وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تاليًا لآيات الله، ومبيِّنًا لهم طريق الهدى، ومطهِّرًا لهم من أرجاس الشرك، ومنقذًا لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها، وسلَّاهم عمَّا أصابهم يوم أحد من الخِذلان، والقتل، والجراح، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة، ثم فصَّل حالَ المنافقين الذين هم أهل السخط بما نصَّ عليه تعالى.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ...﴾ الآية، أخرج (٤) أبو داود والترمذي وحسَّنه، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قطيفةٍ حمراء، فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس لعلَّ رسولَ الله - ﷺ - أخذها، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
(١) البحر المحيط.
(٢) مدعم: اسم عبد للنبي - ﷺ - وهبه له رجل من بني جذام يدعى رفاعة بن زيد كما سيأتي بيانه في أحاديث الغلول. اهـ مؤلفه.
(٣) البحر المحيط.
(٤) لباب النقول.
228
يَغُلَّ...} إلى آخر الآية.
وأخرج (١) الطبراني في الكبير بسندٍ رجاله ثقات، عن ابن عباس قال: بعث رسولُ الله - ﷺ - جيشًا، فردت، رايته ثم بعث، فردت، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب، فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ...﴾.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما رواه الإِمام أحمد رحمه الله/ ج١ ص ٣٠/) عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، قال: نظر النبي - ﷺ - إلى أصحابه، وهم ثلاث مئة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبيُّ - ﷺ - القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: "اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام.. فلا تعبد في الأرض أبدًا، قال: فما زال يستغيث ربَّه عَزَّ وَجَلَّ، ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبيَّ الله، كفاك مناشدتك ربَّك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ فلما كان يومئذٍ، والتقوا، فهزم الله عَزَّ وَجَلَّ المشركين، فقتل منهم سبعون رجلًا، وأسر منهم سبعون رجلًا، فاستشار رسولُ الله - ﷺ - أبا بكرٍ وعليًّا، وعمر رضي الله عنهم فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله: هؤلاء بنو العم، والعشيرة، والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوةً لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضدًا، فقال رسول الله - ﷺ - ما ترى يا ابن الخطاب؛ قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكنّي أرى أن تمكنني من فلان قريبًا لعمر، فأضرب عنقه، وتمكِّن عليًّا رضي الله عنه عن عقيل، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادَّةٌ للمشركين،
(١) لباب النقول.
(٢) مسند أحمد.
229
هؤلاء صناديدهم، وأئمتهم، وقادتهم، فهوى رسولُ الله - ﷺ - ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما أن كان من الغد، قال عمر رضي الله عنه: غدوت إلى رسول الله - ﷺ - فإذا هو قاعدٌ، وأبو بكر رضي الله عنه: وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، فإن لم أجد تباكيت لبكائكما، قال: فقال النبي - ﷺ -: الذي عرض عليَّ أصحابك من الفداء، لقد عُرِضَ عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرةٍ قريبةٍ، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾ من الفداء ثم أحل لهم الغنائم، فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب النبي - ﷺ - عن النبي - ﷺ - وكسرت رباعيته، هشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ بأخذ الفداء".
الحديث رجاله رجال الصحيح، وقد عزاه ابن كثير، والسيوطي لابن أبي حاتم مختصرًا، وإنما سقته بتمامه لما فيه من العبر.
التفسير وأوجه القراءة
١٥٩ - والباء في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ سببيةٌ، وما زائدة؛ أي: فسبب رحمةٍ عظيمةٍ من الله، لنت وسهلت (١) لهم أخلاقك، وكثرت احتمالك إياهم، ولم تسرع إليهم بتعنيف على ما وقع منهم يوم أحد. ومعنى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾: هو توفيق الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه محمدًا - ﷺ - للرفق، والتلطُّف بهم، وأنَّ الله تعالى ألقى في قلب نبيه - ﷺ - داعية الرحمة، واللطف حتى فعل ذلك معهم.
وقال (٢) أبو حيان: متعلَّق الرحمة المؤمنون، فالمعنى فبرحمة من الله عليهم، لِنْتَ لهم، فتكون الرحمة امْتَنَّ بها عليهم؛ أي: سهلت أخلاقك، ولان
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط ج ٣ ص ٩٧.
230
جانبك لهم بعد ما خالفوا أمرك، وعصوك في هذه الواقعة، وذلك برحمة الله إياهم. وقيل: متعلق الرحمة المخاطب - ﷺ -؛ أي: برحمة الله إياك، جعلك لين الجانب، موطأ الأكناف، فرحمتهم، ولنت لهم، ولم تؤاخذهم بالعصيان، والفرار وإفرادك للأعداء، ويكون ذلك امتنانًا على رسول الله - ﷺ -.
والخلاصة: أنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية؛ إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال، وشمروا للهزيمة، والحرب قائمة على قدم وساق، ومع ذلك لنت لهم، وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك، وخصك بها؛ إذ أمدَّك بآداب القرآن العالية، وحكمه السامية حتى هانت عليك المصائب، وعلمتك ما لها من المنافع، وحسن العواقب، وقد مدح الله نبيَّه - ﷺ - بحسن الخلق في مواضع من كتابه، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾ وقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾، وقال - ﷺ -: "لا حِلْمَ أحبَّ إلى الله تعالى من حِلْمِ إمامٍ ورِفْقهِ، ولا جَهْلَ أَبْغَضَ إلى الله من جَهْلِ إمامٍ وخُرْقِهِ".
﴿وَلَوْ كُنْتَ﴾ يا محمَّد ﴿فَظًّا﴾؛ أي: سيىء اللِّسان بذيّه ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾، أي: جافيه، وقاسيه ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾؛ أي: ولو لم تكن كذلك، وكنت فظًّا غليظًا ﴿لَانْفَضُّوا﴾؛ أي: لتفرقوا من عندك، ونفروا عنك، ولم يسكنوا إليك حتى لا يبقى أحدٌ منهم عندك، ولا يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، إذا انفضوا من عندك. وذاك أنَّ المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلّا إذا مالت قلوبهم إليهم، وسكنت نفوسهم لديهم، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريمًا، يتجاوز عن ذنب المسيء، ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر، والمكرمة، والشفقة.
﴿فَاعْفُ﴾ يا محمَّد ﴿عَنْهُمْ﴾ وسامح لهم ما وقع منهم يوم أحد فيما يختصُّ بك، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾؛ أي: واطلب المغفرة لهم من الله سبحانه وتعالى فيما يختص بحقوق الله تعالى إتمامًا للشفقة عليهم، وإكمالًا للبر لهم، ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ يا
231
محمَّد ﴿فِي الْأَمْرِ﴾ الذي يرد (١) عليك، أي أمر كان مما يشاور في مثله، أو في أمر الحرب خاصَّةً، كما يفيده السِّياقُ، لما في ذلك من تطييب خواطرهم، واستجلاب مودَّتهم، فإن المشاورة تقتضي شدَّة محبتهم له - ﷺ -؛ لأنها تدل على رفعة درجتهم، فترك المشاورة معهم إهانة لهم، وروي أنه - ﷺ - قال: "ما شاور قومٌ قطُّ إلا هدوا لأرشد أمورهم" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورةً من أصحاب النبي - ﷺ - ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منه أحدٌ بعدك، وقرأ ابن عباس ﴿في بعض الأمر﴾.
فائدة: وللمشاورة فوائد جمة (٢):
منها: أنها تبين مقادير العقول والأفهام، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة.
ومنها: أن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفةٌ، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره، وإن كان عظيمًا.
ومنها (٣): أن الآراء فيها تقلب على وجوهها، ويختار الرأي الصائب من بينها.
ومنها: أنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب، ومن ثم شرعت الاجتماعات في الصلوات، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة.
ومنها: أنه قد يعزم الإنسان على أمرٍ فيشاور فيه، فيتبين له الصواب في غيره، فيعلم بذلك عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي ج ٢ ص ١١٤.
(٣) النسفي.
232
ومنها: أنه إذا لم ينجح أمره.. علم أن امتناع النجاح محض قدرٍ، فلم يلم نفسه. وقال بعضهم: يجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا، ومشاورة وجه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وحكى القرطبيُّ عن ابن عطية: أنه لا خلاف في عزل من لا يستشير بأهل العلم، والدِّين. ذكره الشوكاني. وقال بعضهم في مدح المشاورة:
وَشَاوِرْ إِذَا شَاوَرْتَ كُلَّ مُهَذَّبٍ لَبِيْبٍ أَخِىْ حَزْمٍ لتَرْشَدَ فِيْ الأَمْرِ
وَلاَ تَكُ مِمَّنْ يَسْتَبِدُّ بِرَأيِهِ فَتَعْجَزَ أوْ لَا تَسْتَرِيْحَ مِنَ الْفِكْرِ
ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِعَبْدِهِ وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأمْرِ حَتْمًا بِلَا نُكْرِ
﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ وجزمت، وصممت نفسك بعد المشاورة على شيء من أمورك، وقصدت إمضاءه ﴿فَتَوَكَّلْ﴾، واعتمد ﴿عَلَى﴾ معونة ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى واستعن به في إمضائه لا على المشاورة، والمقصود: أن لا يكون للعبد اعتمادٌ على شيء إلا على الله تعالى، في جميع أموره، فالمشورة لا تنافي التوكل، فإنه ليس التوكل هو إهمال التدبير بالكلية، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو: أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول بقلبه على عصمة الله ومعونته فـ ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ﴾، ويثيب ﴿الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ والمعتمدين عليه في جميع أمورهم الواثقين به، فينصرهم، ويرشدهم إلى ما فيه خيرٌ لهم وصلاحٌ. فالتوكل: هو الاعتماد على الله، والتفويض في الأمور إليه. وقال ذو النون: التوكل: خلع الأرباب، وقطع الأسباب، والصحيح: أن التوكل إنما يكون مع الأخذ في الأسباب، وبدونها يكون دعوى التوكل جهلًا بالشرع، وفسادًا في العقل.
وقرأ الجمهور (١) ﴿عَزَمْتَ﴾ على الخطاب كالذي قبله، وقرأ عكرمة، وجابر بن زيد، وأبو نهيك، وجعفر الصادق، ﴿عَزَمْتَ﴾ بضم التاء على أنها
(١) البحر المحيط.
233
ضميرٌ لله تعالى، والمعنى: فإذا عزمت لك على شيء؛ أي: أرشدتك إليه، وجعلتك تقصده، فتوكل على الله، ويكون قوله: على الله من باب الالتفات؛ إذ لو جرى على نسق ضم التاء.. لقال فتوكل عليَّ.
١٦٠ - ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: إن يعطكم الله النصر ويعنكم بنصره، ويمنعكم من عدوكم كما نصركم يوم بدر ﴿فَلَا غَالِبَ﴾ وقاهر لكم من الناس؛ أي: فلا أحد يغلبكم، وإنما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته، واعتصم بربه، وقدرته ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ ويترك نصركم، ووكلكم إلى أنفسكم، لمخالفتكم أمره وأمر رسوله - ﷺ - كما فعل بكم يوم أحد ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ﴾؛ أي: فمن الذي ينصركم ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد خذلانه إياكم؛ أي: فلا أحد يملك لكم نصرًا، ويدفع عنكم الخذلان فالذي وقع لكم من النصر كما في يوم بدر، أو من الخذلان كما في يوم أحد بمشيئته سبحانه وتعالى، فالأمر كلُّه لله بيده العزَّة، والنصرة، والإذلال، والخذلان. وقرأ الجمهور ﴿يَخْذُلْكُمْ﴾ من خذل الثلاثي، وقرأ عبيد بن عمير ﴿يَخْذُلْكُمْ﴾ من أخذل الرباعي، والهمزة فيه للجعل؛ أي: يجعلكم مخذولين. ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ القاهر الغالب سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: فليخصوه بالتوكل؛ لأنه لا ناصر لهم سواه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب"، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، فقام آخر، فقال: يا نبيَّ الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة". رواه الشيخان وأحمد.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "لو أنكم تتوكَّلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا". أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن.
١٦١ - ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ قرأ ابن عباس، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم
234
بفتح الياء، وضم الغين؛ أي: وما (١) كان لنبيٍّ أن يخون؛ أي: ما جاز له أن يخون أمته في شيء من الغنائم؛ لأن النبوة، والخيانة لا يجتمعان؛ لأنَّ منصب النبوة أعظم المناصب، وأشرفها وأعلاها، فلا تليق به الخيانة؛ لأنها في نهاية الدناءة والخسة، والجمع بين الضدين محال، فثبت بذلك أن النبي - ﷺ - لم يخن أمته في شيء، لا من الغنائم، ولا من الوحي. وقيل: المراد به: الأمة؛ لأنه قد ثبت براءة ساحة النبي - ﷺ - من الغلول، والخيانة، فدلَّ ذلك على أن المراد بالغلول غيره. وقيل: اللام فيه منقولة معناه ما كان النبيُّ ليغل على نفي الغلول عن الأنبياء. وقيل: معناه ما كان لنبي الغلول يعني ما غل نبيٌّ قط، فنفى عن الأنبياء الغلول. وقيل: معناه، وما كان يحل لنبي الغلول، وإذا لم يحل له... لم يفعله. وحجة هذه القراءة أنهم نسبوا النبي - ﷺ - إلى الغلول في بعض الروايات، فبين الله تعالى بهذه الآية، أنَّ هذه الخصلة، لا تليق به، ونفى عنه ذلك بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾.
وقرأ ابن مسعود، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، ويعقوب ﴿يغل﴾ بضم الياء وفتح الغين بالبناء للمفعول، ولها معنيان:
أحدهما: أن يكون من الغلول أيضًا، ومعناه: وما كان لنبي أن يخان؛ أي: ما جاز له أن تخونه أمته، لأن الوحي يأتيه حالا فحالًا، فمن خانه.. فربما نزل الوحي فيه، فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا؛ ولأن الخيانة في حقه - ﷺ - أفحش؛ لأنه أفضل البشر، ولأن المسلمين في ذلك كانوا في غاية الفقر.
والثاني: أن يكون من الإغلال، ومعناه: وما كان لنبي أن يخون؛ أي: ينسب إلى الخيانة والغلول، أو ما صحَّ له أن يوجد غالًّا.
ومعنى الكلام: أيْ ما كان (٢) من شأن، أي نبيٍّ، ولا من سيرته أن يغلَّ؛ لأنَّ الله تعالى عصم أنبياءه منه، فهو لا يليق بمقامهم، ولا يقع منهم؛ لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءةٌ، وخسةٌ. {وَمَنْ
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
235
يَغْلُلْ}؛ أي: ومن يأخذ من الغنيمة خفية، وخيانة ﴿يَأتِ بِمَا غَلَّ﴾؛ أي: يجىء بالذي غله وأخذه من الغنيمة بعينه يحمله علي عنقه ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فضيحةً له على رؤوس الأشهاد، وزيادة له في تعذيبه ﴿ثُمَّ تُوَفَّى﴾؛ أي: ثم بعد جمع الخلائق في عرصات القيامة، والحال أن الغال فيهم حاملًا بما غل على عنقه، تعطي، وتوفر وتجازى ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ غالةٍ وغيرها جزاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ واقترفت من خير أو شر، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أن الخلائق لا يظلمون في جزاء أعمالهم بنقص ثواب عنهم، أو زيادة عقاب عليهم.

فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الغلول ووعيد الغال


والغلول: لغة: أخذ الشيء خفية، والخيانة فيه. وشرعًا: الخيانة في الغنيمة، وبهذا وردت الأحاديث.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - ﷺ - ذات يوم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره حتى قال: "لا ألفينَّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاء يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حمحمةٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك لا ألفينَّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفسٌ لها صياحٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاعٌ تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
الرغاء: صوت البعير، والثغاء. صوت الشاة، والرقاع: الثياب، والصامت: الذهب والفضة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله - ﷺ - إلى خيبر،
236
ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهبًا، ولا ورقًا غنمنا المتاع، والطعام، والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي، يعني وادي القرى، ومع رسول الله - ﷺ - عبدٌ له وهبه رجلٌ من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي، قام عبدُ رسول الله - ﷺ - يحل رحله، فرمي بسهم فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئًا له، شملته الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله - ﷺ -: كلا، والذي نفس محمَّد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك، أو شراكين، فقال: أصبتها يوم خيبر، فقال رسول الله - ﷺ - شراكٌ من نارٍ، أو شراكان من نار". متفق عليه.
وفي رواية نحوه، وفيه "ومعه عبدٌ يقال له: مدعمٌ أهداه له أحد بني الضبيب، وفيه إذ جاءه سهمٌ عائر.
والشراك: سير النعل الذي يكون على ظهر القدم، ومثله شسع النعل، والسهم العائر، هو: السهم الذي لا يدرى من رماه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان على ثِقَل رسول الله - ﷺ - رجل، يقال له: كركرة، فمات، فقال رسول الله - ﷺ -، "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلَّها". رواه البخاري.
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رجلًا من أصحاب النبي - ﷺ - توفِّي، فذكروه لرسول الله - ﷺ - فقال: "صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله"، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز اليهود، لا يساوي درهمين. أخرجه أبو داود، والنسائي.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "مَنْ غَلَّ فأحرقوا متاعه، واضربوه". أخرجه أبو داود، والترمذي.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - ﷺ -، وأبا بكر، وعمر أحرقوا متاع الغال، وضربوه. زاد في رواية، ومنعوه سهمه. أخرجه أبو داود.
١٦٢ - وقد أردف الله سبحانه وتعالى توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين
أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين، فقال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾؛ أي: أفمن اتبع كتاب الله ورسوله، وسعى في تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى بفعل الطاعات، وترك الغلول، وغيره من الفواحش والمنكرات ﴿كَمَنْ﴾ غلَّ و ﴿بَاءَ﴾ ورجع ﴿بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: بغضب شديد كائن من الله سبحانه وتعالى ﴿و﴾ كمن كان ﴿مَأوَاهُ﴾ ومسكنه، ومنزله ﴿جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي: وقبح وساء المرجع مرجعه. والاستفهام هنا: إنكاري، أي: ليس جزاء من اتقى، وسعى في تحصيل مرضات الله تعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، وترك الغلول كجزاء من غل، وارتكب الفواحش والمحرمات، وانتهى أمره إلى سخط الله تعالى، وعظيم غضبه، وكان مأواه الذي يأوي إليه جهنم، ولا مرجع له غيره؛ لأن مأوى الأول الجنة، ومأوى هذا: النار، فيا بونًا بائنًا بين المنزلين.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾.
١٦٣ - ﴿هُمْ﴾، أي: الفريقان المذكوران ﴿دَرَجَاتٌ﴾؛ أي: أصحاب درجات وطبقات، أي: إنَّ كلا ممن اتبع رضوان الله، ومن باء بسخط من الله أصحاب طبقات ومراتب مختلفة عند الله، ومنازل متفاوتة في حكمه، وبحسب علمه بشؤونهم، وبما يستحقون من الجزاء، فهم مختلفون في درجات الثواب، والعقاب في حكم الله وعلمه باختلاف مراتب الطاعات والمعاصي.
والخلاصة: أنَّ الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون في الفضائل، والمعرفة في الدنيا، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة، أو السيئة، وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضًا من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبيُّ - ﷺ - في مرض موته إلى الدرك الأسفل.
وقرأ الجمهور ﴿دَرَجَاتٌ﴾ بالجمع، فهي مطابقة للفظ هم، وقرأ النخعي ﴿درجةٌ﴾ بالإفراد. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عالم بأعمالهم، ودرجاتها، فمجازيهم على حسبها.
١٦٤ - وبعد أن نفى الغلول والخيانة عن النبي - ﷺ - على أبلغ وجه، أكد ذلك بهذه الآية ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد منَّ الله سبحانه وتعالى وأنعم ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، وأحسن إليهم، وتفضَّل عليهم نعمة عظيمة التي هي بعثة محمد - ﷺ - إليهم، ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ﴾ وأرسل إليهم ﴿رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وجنسهم عربيًّا مثلهم، ولد ببلدهم، ونشأ بينهم يفهمون كلامه بسهولة، ويعرفون حاله بالصدق، والأمانة من أول العمر إلى آخره، ولو كان من غير جنسهم بأن كان ملكًا أو جنًّا لم يتأنسوا به، ولو كان من غير نسبهم بأن كان أعجميًّا لم يفهموا كلامه بسهولة.
وهو صار شرفًا للعرب، وفخرًا لهم، وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركًا فيه اليهود، والنصارى، والعرب، ثم إن اليهود يفتخرون بموسى، والتوراة، والنصارى يفتخرون بعيسى، والإنجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدًا - ﷺ -؛ وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدًا على شرف الجميع، فهذا وجه الفائدة في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وخص المؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بمبعثه - ﷺ - بالإيمان بما جاء به. وقرىء شاذًا (١) ﴿لِمَنْ مَنِّ الله على المؤمنين﴾ بمن الجارة، و ﴿منّ﴾ مجرورٌ بها بدل ﴿قد من﴾ والمعنى لمن من الله على المؤمنين منه، أو بعثه إذ بعث فيهم، فحذف المبتدأ لدلالة السياق عليه. وقرأ الجمهور ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ بضم الفاء، جمع نفس، وقرأت فاطمة، وعائشة، والضحاك، وأبو الجوزاء ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ بفتح الفاء من النفاسة، والشيء النفيس. وروي عن أنس رضي الله عنه أنه سمعها كذلك، من رسول الله - ﷺ -. وروى عليُّ عنه عليه السلام "أنا من أنفسكم نسبًا، وحسبًا، وصهرًا، ولا في أبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاحٌ، كلها نكاح والحمد لله".
وقال ابن عباس: ما خلق الله نفسًا هي أكرم على الله من محمَّد رسوله - ﷺ - وما أقسم بحياة أحد غيره، فقال: ﴿لعمرك﴾.
والخلاصة: أن هذا الرسول ولد في بلدهم، ونشأ بين ظهرانيهم، ولم يروا
(١) البحر المحيط.
239
منه طول حياته، إلا الصدق، والأمانة، والدعوة إلى الله، والإعراض عن الدنيا، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانةٌ وغلولٌ، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأوصافٍ كل منها يقتضي عظيم المنة وجسيم النعمة:
الأول: أنه من أنفسهم؛ أي: إنه عربي من جنسهم، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته، والاهتداء بهديه، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم.
والثاني: أنه ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: يقرأ عليهم كتابه، وقرآنه الذي أنزل عليه بعد أن كانوا أهل جاهلية، لم يطرق أسماعهم شيءٌ من الوحي السماوي.
والثالث؛ أنه ﴿يزكيهم﴾ ويطهرهم من العقائد الزائغة، ووساوس الوثنية، وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإِسلام كانوا فوضى في أخلاقهم، وعقائدهم، وآدابهم، فكان محمَّد - ﷺ - يقتلع منهم جذور الوثنية، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى ومضار تخشى من بعض المخلوقات، فيجب تعظيمها، والالتجاء إليها دفعًا لشرها، وجلبًا لخيرها، وتقربًا إلى خالقها، ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام، وعبيد الخرافات يخاف في موضع الأمن، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف.
والرابع: أنه ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾؛ أي: يعلمهم معاني القرآن وتفسيره ﴿و﴾ يعلمهم ﴿الْحِكْمَةَ﴾؛ أي: السنة، والحديث، فتعليم الكتاب (١) اضطرَّهم إلى تعلم الكتابة، وأخرجهم من الأمية إلى نور العلم، والعرفان، فقد طلب إليهم كتابة القرآن، واتخذ كتبة للوحي وكتب كتبًا دعا بها الملوك، والرؤساء إلى الإِسلام، في سائر الأقطار، المعروفة، فانتشرت الكتابة بينهم، وعظمت مدينتهم، وامتدت سلطتهم، فملكوا الأمم التي كان لها السلطان، والصولة، والنفوذ في تلك الحقبة.
وكذلك علمهم الحكمة وأرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء، ومعرفة أسرارها وفقه أحكامها، وبيان ما فيها من المصالح، والحكم، وهداهم إلى طريق
(١) المراغي.
240
الاستدلال، ومعرفة براهينها، فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها، والتمسك بأهدابها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
والخلاصة: أن تعليم الكتاب إشارةً إلى معرفة ظواهر الشريعة، وتعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها، وعللها، وبيان منافعها.
﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: والحال أنهم كانوا من قبل بعثة محمَّد - ﷺ - ﴿لَفِي ضَلَالٍ﴾، وغيٍّ وجهل ﴿مُبِينٍ﴾: أي: بين واضحٍ بعيدٍ عن الحق، ولا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون بالله، ويعبدون الأصنام ويسيرون وراء الأوهام، وهم على ذلك أميون، لا يقرؤون، ولا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال. وإنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنةٍ، فكان موقعها أعظم إذ أن بعثة الرسول جاءت بعد جهلٍ، وبُعدٍ عن الحق، فكانت أعم نفعًا وأتم وقعًا.
وهذا على كون إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، واللام فارقةٌ بين المخففة، والنافية، وهو مذهب سيبويه. وقال الكوفيون: إنها النافية، واللام بمعنى إلا، والمعنى (١): وما كانوا من قبل مجىء محمَّد، ونزول القرآن، إلّا في ضلال بيّن، وذلك لأنَّ دين العرب قبل ذلك كان أرذل الأديان، وهو عبادة الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق، وهو الغارة والنهب، والقتل، وأكل الأطعمة الرديئة، ثم لما بعث الله تعالى سيدنا محمدًا - ﷺ - إليهم انتقلوا ببركته من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أحسنها، وصاروا أفضل الأمم في العلم، والزهد والعبادة، وعدم الالتفات إلى الدنيا، وطيباتها، ولا شك أن هذا أعظم المنة.
١٦٥ - وبعد أن حكى الله سبحانه وتعالى عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي - ﷺ - الغلول، والخيانة، ثم برأه منه وبين ما بعث لأجله عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة وبعدها، وبين خطأهم، وضلالهم في أقوالهم، وأفعالهم فقال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ الهمزة فيه:
(١) المراح.
241
للاستفهام الإنكاري، داخلةٌ على محذوف، والواو عاطفة لـ ﴿قُلْتُمْ﴾ الآتي على ذلك المحذوف ولما حينية متعلقة بـ ﴿قُلْتُمْ﴾، وجملة ﴿أَصَابَتْكُمْ﴾ مضاف إليه، لـ ﴿لَمَّا﴾ كما سيأتي لك في بحث الإعراب.
والمعنى: أنسيتم فضل الله عليكم، ونصره لكم يوم بدر، وقلتم متعجِّبين حين أصابتكم مصيبةٌ يوم أحد قد أصبتم مثليها، وضعفها يوم بدر من المشركين، أنّى هذا؟ أي: أقلتم متعجبين كيف حصل لنا هذا الخذلان من القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله - ﷺ - فينا، ونحن ننصر دين الإِسلام الحقَّ، وهم ينصرون دين الشرك الباطل فكيف صاروا منصورين علينا، ونحن أحقُّ بالنصر!.
والمراد بالمصيبة: ما أصاب المسلمين يوم أحد من ظهور المشركين عليهم، وقتل سبعين منهم. والمراد بمثليها ما أصاب به المسلمون من المشركين يوم بدر بقتل سبعين منهم، وأسر سبعين.
أي: لا ينبغي لكم أن تعجبوا مما حل بكم في هذه الواقعة؛ فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم في بدر، فقد كان نصركم في تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين في هذه.
فلماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر، فلم تذكروه، وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد، وتسألون عن سببه.
وفائدة قوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ التنبيه على أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحدٍ، فأنتم هزمتموهم مرتين، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة.
وقد أجاب الله سبحانه وتعالى عن شبهة تعجبهم بجوابين: أحدهما: قوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾، والثاني قوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿هُوَ﴾؛ أي: إنَّ هذا الخذلان الذي وقع بكم يوم أحد، وتعجبتم منه، وسألتم عن سببه، ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: إنما وقع بشؤم معصيتكم، ومخالفة أنفسكم أمر الرسول - ﷺ -؛ لأنكم عصيتم الرسول في أمور كثيرة:
منها: أن الرسول - ﷺ - قال: المصلحة في البقاء في المدينة، فلا نخرج إلى أحد فأبيتم إلا الخروج، وكان الرأي ما رآه الرسول، حتى إذا ما دخلها
242
المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة، والشوارع، وترميهم النساء، والصبيان بالأحجار من سطوح المنازل.
ومنها: أنكم فشلتم وضعفتم في الرأي.
ومنها: أنكم تنازعتم، وحصلت بينكم مهاترة (١) كلاميةٌ.
ومنها: أنكم عصيتم الرسول - ﷺ - وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه، لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أرادوا أن يكونوا من ورائكم، ولا شك أن العقوبات آثارٌ لازمةٌ للأعمال، والله إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية، كما قال: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أراده (قدير)؛ أي: قادرٌ، فإنه قادر على نصركم، لو ثبتم وصبرتم كما هو قادرٌ على التخلية بينكم وبين عدوكم إذا خالفتم، وعصيتم، وهو سبحانه وتعالى قد ربط الأسباب بالمسببات، ولا يشذ عن ذلك مؤمنٌ، ولا كافرٌ، فوجود الرسول بينكم وأنتم قد خالفتم سنن الله في البشر، لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن.
١٦٦ - ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾؛ أي: وكل ما أصابكم، ونالكم أيها المؤمنون من القتل والجراحة والهزيمة ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾؛ أي: يوم تقابل وتقاتل فيه جمع المسلمين، وجمع المشركين، وهو يوم أحد ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: فهو واقعٌ بكم بإذن الله، وإرادته، وقضائه، السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها، فكل عسكر يخطئ الرأي، ويعصى قائده، ويخلي بين العدو وظهره، يصاب بمثل ما أصبتم به، أو بما هو أشد، وأنكى منه، وفي ذلك تسليةٌ للمؤمنين بما حصل لهم يوم أحد من القتل والهزيمة، ولا تقع التسلية إلا إذا علموا أن ذلك واقعًا بقضاء الله تعالى، وقدره، وحينئذٍ يرضون بما قضى الله عليهم.
وقوله ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوف (٢) على قوله ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ عطف مسببٍ على سببٍ.
١٦٧ - وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ عطفٌ على ما قبله قيل: أعاد الفعل
(١) فتح القدير.
(٢) المراغي.
243
لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم، وإلى المنافقين واحدًا. والمعنى؛ أي: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فكائنٌ بإذن الله تعالى، وإرادته، وكائن ليظهر الله صبر الذين آمنوا، وصبروا، وثبتوا، ولم يتزلزلوا، وقوة إيمانهم، وليظهر نفاق الذين نافقوا كعبد الله بن أبيٍّ، وأصحابه الذين انخذلوا يوم أحد عن رسول الله - ﷺ - ورجعوا، كانوا نحوًا من ثلاث مئة رجل ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: قال لهم بعض المسلمين قيل: هو عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ﴿تَعَالَوْا﴾ معنا إلى أحد، و ﴿قَاتِلُوا﴾ معنا المشركين ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾؛ أي: أو قاتلوا المشركين دفعًا عن أنفسكم، وأهليكم، وأموالكم، وبلدكم إن لم تكونوا مؤمنين؛ أي: كونوا إمَّا من المجاهدين في سبيل الله، أو من الدَّافعين عن الأنفس والأموال والبلاد.
والخلاصة: قاتلوا ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه أو قاتلوا للدنيا ودافعوا عن أنفسكم وأهليكم ووطنكم لكنهم راوغوا وقعدوا وتكاسلوا.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المنافقون للمؤمنين ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا﴾؛ أي: لو نعرف قتالًا، ونحسنه ونقدر عليه ﴿لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾؛ أي: لذهبنا معكم إلى أحد، وقاتلنا معكم، ولكنا لا نقدر على ذلك، ولا نحسنه. وقيل: معناه لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتالٍ، ولكنه إلقاءٌ بالنفس إلى التهلكة لعدم القدرة منا ومنكم، على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم، والخروج من المدينة. وقيل: المعنى لو نعلم أنكم تلقون قتالًا في خروجكم.. ما أسلمناكم، بل كنا نتبعكم، لكنا نرى أن الأمر سينتهي بدون قتال، ولا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق، وأنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس والاستهزاء إذ ذهاب المشركين وهم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الإمارات على أنهم يريدون قتالًا ﴿هُمْ﴾؛ أي: هؤلاء المنافقون ﴿لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾؛ أي: هم يوم إذ قالوا فيه ما قالوا، وانخذلوا فيه عن المؤمنين أقرب للكفر من قربهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون؛ لأنهم قد بينوا حالهم وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك، فإنهم كانوا
244
قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم، وما ظهرت منهم أمارةٌ تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المسلمين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين، وأيضًا: قولهم ذلك يدل على كفرهم؛ لأنه إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبي - ﷺ - وكل واحد منهما كفرٌ. وقيل (١): المعنى: أنهم لأهل الكفر يومئذٍ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان.
وقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جملةٌ مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدمها؛ أي: يظهرون بألسنتهم الإيمان الذي ليس في قلوبهم، بل الذي في قلوبهم الكفر، والنفاق، هذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين؛ لأن صفة المؤمن المخلص مواطأة القلب اللسان على شيء واحد، وهو التوحيد. وقال ابن عطية: ذكر الأفواه للتأكيد مثل قوله: يطير بجناحيه.
والمعنى: أنهم أظهروا أمرين ليس في قلوبهم واحدٌ منهما:
أحدهما: عدم العلم بالقتال.
والآخر: الاتباع على تقدير العلم به، وقد كذبوا فيهما، فإنهم عالمون بالقتال غير ناوين للاتباع، بل كانوا مصرين على الانخذال عازمين على الارتداد.
ثم أكد كفرهم ونفاقهم، وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه تعالى ﴿أَعْلَمُ﴾؛ أي يعلم ﴿بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ من تفاصيل الأحوال ما لا يعلمه غيره من الكفر، والكيد للمسلمين، وتربص الدوائر بهم، فهو في كل حين يبين مخبآت أسرارهم، ويكشف أستارهم ثم يعاقبهم على ذلك في الدنيا والآخرة.
والخلاصة: أنه لا ينفعهم النفاق، فالله أعلم بما تكنه سرائرهم، وقلوبهم.
١٦٨ - وبعد أن ذكر قولًا قالوه قبل القتال، وبين بطلانه، أردفه قولًا قالوه بعده، وبين فساده وقال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾؛ أي: هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في هذه الواقعة، يعني من قتل يوم أحد من أقاربهم المؤمنين، أو من
(١) الشوكاني.
245
أمثالهم المنافقين ﴿وَقَعَدُوا﴾؛ أي: والحال أن المنافقين القائلين قد قعدوا وجلسوا عن الخروج للقتال مع النبي - ﷺ - ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾؛ أي: لو أطاع المقتولون إيانا فيما أمرناهم به من القعود، ووافقونا في ذلك، ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج ﴿مَا قُتِلُوا﴾؛ أي: لما قتلوا يومئذٍ كما أنا لم نقتل.
وقرأ الحسن وهشام: ﴿قُتِّلُوا﴾ بتشديد التاء، وفي هذا إيماءٌ إلى أنهم أمروهم بالانخذال، حين انخذلوا.
أخرج ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله - ﷺ - في ألف رجلٍ وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاث مئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فقالوا: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم، ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنعى الله عليهم ذلك بقوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ الآية.
وقد دحض الله تعالى حجتهم، وأبان لهم كذبهم، ووبخهم على ما قالوا، فقال لنبيه ردًّا عليهم. ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء المنافقين القائلين ذلك ﴿فَادْرَءُوا﴾؛ أي: فادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أن القعود ينجي من الموت.
يعني أن (١) صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علمًا بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز فيها جاز في غيرها، وحينئذٍ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم، فادفعوا عنها إن كنتم صادقين.
والخلاصة: أنكم إن كنتم صادقين في أن الحذر يغني عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم، فإنه أحرى بكم.
والمعنى (٢): أن القعود غير مغنٍ عن الموت، فإن أسباب الموت كثيرةٌ، وكما أن القتال يكون سببًا للهلاك، والقعود يكون سببًا للنجاة قد يكون الأمر بالعكس، فلا تغتروا بما قلتم.
(١) المراغي.
(٢) البيضاوي.
246
وروي (١) أنه أنزل الله بهم الموت، فمات منهم يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقًا، من غير قتال، ومن غير خروج، لإظهار كذبهم، والله أعلم.
الإعراب
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾.
﴿فَبِمَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت مما سبق لك أنهم يستحقون الملامة، والتعنيف، ولا يستحقون اللين، والسهولة، وأردت بيان سبب لينك لهم فأقول لك: ﴿بما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم﴾. ﴿الباء﴾ حرف جر. ﴿ما﴾ زائدة. ﴿رَحْمَةٍ﴾ مجرور بـ ﴿الباء﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿لِنْتَ﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿رَحْمَةٍ﴾. ﴿لِنْتَ﴾ فعل وفاعل. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلِّق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لو﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿كُنْتَ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فَظًّا﴾ خبرٌ أول لـ ﴿كان﴾. ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ خبر ثان لها، ومضاف إليه، وجملة ﴿كان﴾ فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿لَانْفَضُّوا﴾ ﴿اللام﴾ رابطةٌ لجواب ﴿لو﴾. ﴿انفضوا﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ حَوْلِكَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلِّق به، والجملة الفعلية جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿لو﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لِنْتَ﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.
﴿فَاعْفُ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم يستحقون الملامة والعتاب، وأردت بيان ما هو الأصلح لهم
(١) المراح بالنسفي.
247
فأقول لك: أعف عنهم. ﴿أعف﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على محمَّد - ﷺ -. ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ جملة فعلية معطوفة على جملة ﴿فَاعْفُ﴾ وكذلك جملة ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ معطوفة عليها على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن المشاورة معهم عزيمةٌ عليك ليقتدي بك، وأردت بيان ما هو اللائق بك بعد المشاورة، والعزم على شيء فأقول لك ﴿إِذَا عَزَمْتَ﴾. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿عَزَمْتَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والظرف متعلِّق بالجواب، وهو قوله: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطةٌ لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا. ﴿تَوَكَّلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿يُحِبُّ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة.
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾.
﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم. ﴿يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية ﴿فَلَا غَالِبَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية. ﴿لا﴾ نافية للجنس تعمل عمل ﴿إِنَّ﴾ ﴿غَالِبَ﴾ في محل النصب اسمها. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾.
248
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم. ﴿يَخْذُلْكُمْ﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي﴾ ﴿الفاء﴾ رابطةٌ لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿مَنْ ذَا﴾ ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام إنكاريٍّ في محل الرفع مبتدأ. ﴿ذَا﴾ اسم إشارة في محل الرفع خبر ﴿مَنْ﴾ ﴿الَّذِي﴾ نعت لـ ﴿ذَا﴾ أو بدل منه، أو عطف بيان. ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾ فعل ومفعول مرفوع؛ وفاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَنْصُرُ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون من وذا بمنزلة اسم واحد، كما كانت ماذا؛ لأنَّ ما أشدُّ إبهامًا من من إذا كانت مَنْ لمن يعقل. انتهى. والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ﴾ على كونها مستأنفة.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَعَلَى﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿على الله﴾ جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ ﴿الفاء﴾ زائدة و ﴿اللام﴾: حرف طلب وجزم ﴿يتوكل﴾ فعل مضارع مجزوم ﴿باللام﴾. ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿لِنَبِيٍّ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾ على اسمها. ﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿يَغُلَّ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿نَبِيٍّ﴾ وجملة ﴿يَغُلَّ﴾ صلة ﴿أَنْ﴾. ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا تقديره؛ وما كان الغلول لائقًا لنبي، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة.
﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما كما مَرَّ مرارًا. ﴿يَغْلُلْ﴾ فعل مضارع
249
مجزوم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿يَأتِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ بحذف حرف العلة على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ وجملة من الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾. ﴿بِمَا غَلَّ﴾ ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَأتِ﴾. ﴿غَلَّ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَأتِ﴾ وجملة ﴿غَلَّ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما غلَّه.
﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف. ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الشرط. ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان. ﴿كَسَبَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كل نفس، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته. ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾؛ لأنها بمعنى الخلائق.
﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)﴾.
﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري داخلةٌ على محذوف على مذهب الزمخشري، تقديره: هل عرفت الفرق بين الضالّ، والمهتدي؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَمَنِ﴾ ﴿اتَّبَعَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿مَنِ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿كَمَنْ﴾ جار ومجرور خبر ﴿مَنِ﴾ الموصول، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة المحذوفة. وعلى مذهب الجمهور الفاء استئنافية، والجملة مستأنفة. ﴿بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ ﴿بَاءَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، الجملة صلة الموصول. ﴿بِسَخَطٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَاءَ﴾ أو حال
250
من ضمير الفاعل تقديره: حالة كونه ملتبسًا بسخط من الله. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لسخط. ﴿وَمَأوَاهُ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿مَأوَاهُ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿جَهَنَّمُ﴾ خبر له، والجملة معطوفة على جملة الصلة، عطفًا للجملة الإسمية على الجملة الفعلية؛ أي: وكمن مأواه جهنم فيكون قد وصل الموصول بجملتين: فعلية، واسمية، ويحتمل كونها مستأنفة، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿بِئْسَ﴾ فعل ماض من أفعال الذم. ﴿الْمَصِيرُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف، تقديره: هي، يعود على جهنم، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ظرف، ومضاف إليه صفة لـ ﴿دَرَجَاتٌ﴾ تقديره: هم أصحاب درجات كائنات عند الله. وقال أبو (١) البقاء عند الله ظرف لمعنى درجات، كأنه قال: هم متفاضلون عند الله، ويجوز أن يكون صفة لـ ﴿دَرَجَاتٌ﴾ انتهى. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿بَصِيرٌ﴾ خبر له، والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾. ﴿يَعْمَلُونَ﴾ جملة فعلية صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما يعملونه. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿مَنَّ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة جوابٌ لقسم محذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مَنَّ﴾.
﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى متعلّقٌ بـ ﴿مَنَّ﴾. ﴿بَعَثَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه. ﴿فِيهِمْ﴾: جار ومجرور
(١) العكبري.
251
متعلقان بالفعل ﴿بَعَثَ﴾. ﴿رَسُولًا﴾ مفعول به. ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور صفة أولى لـ ﴿رَسُولًا﴾. ﴿يَتْلُو﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على رسولًا. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتْلُو﴾، وجملة ﴿يَتْلُو﴾ في محل لنصب صفة ثانية لـ ﴿رَسُولًا﴾ تقديرها: رسولًا كائنًا، منهم تاليًا عليهم. ﴿آيَاتِهِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَسُولًا﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَتْلُو﴾ على كونها صفة لـ ﴿رَسُولًا﴾، وكذلك جملة قوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ معطوفة على جملة ﴿يَتْلُو﴾ على كونها صفة ثانية وثالثة لـ ﴿رَسُولًا﴾. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ الواو حالية. ﴿إِنْ﴾ مخففة، من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: وإنهم. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَانُوا﴾. ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿اللام﴾ لام الابتداء فارقة بين إن المخففة، وإن النافية. ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كان﴾. ﴿مُبِينٍ﴾ صفة لـ ﴿ضَلَالٍ﴾ وجملة ﴿كان﴾ الناقصة في محل الرفع، خبر إن المخففة تقديره: وإنهم لكائنون في ضلال مبين، وجملة ﴿إن﴾ المخففة في محل النصب حال من ضمير المفعول في ﴿يعلمهم﴾.
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾.
﴿أَوَ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة في التقدير على قوله: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾. و ﴿الواو﴾ استئنافية على مذهب الجمهور. وقال الزمخشري: ﴿الهمزة﴾ داخلة على محذوف تقديره: أنسيتم فضل الله عليكم يوم بدر، ونصره لكم فيه. و ﴿الواو﴾ عاطفة لجملة ﴿قُلْتُمْ﴾ على ذلك المحذوف. ﴿لَمَّا﴾ ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية مبنية على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿قُلْتُمْ﴾. ﴿أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ﴾ قد حرف تحقيق. ﴿أَصَبْتُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِثْلَيْهَا﴾ مفعول به ومضاف إليه والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿مُصِيبَةٌ﴾. ﴿قُلْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة على مذهب الجمهور، ومعطوفة على محذوف على مذهب الزمخشري كما مرَّ آنفًا. ﴿أَنَّى هَذَا﴾ ﴿أَنَّى﴾ اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم. ﴿هَذَا﴾ اسم إشارة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل
252
النصب مقول لـ ﴿قُلْتُمْ﴾ والمعنى على مذهب الزمخشري: أنسيتم فضل الله عليكم يوم بدر، وقلتم حين أصابتكم يوم أحد مصيبةٌ قد أصبتم مثليها يوم بدر، كيف أصابتنا هذه المصيبة، ومن أين لنا هذا الخذلان، والجملة المحذوفة على مذهبه مستأنفة، كما أن المذكورة مستأنفة على مذهبهم.
﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هُوَ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضافان إليه خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقولٌ لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾. ﴿قَدِيرٌ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿مَا﴾ موصولة في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَصَابَكُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، الجملة صلة الموصول. ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿أَصَابَكُمْ﴾. ﴿الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا لشبه المبتدأ بالشرط في الإبهام نحو قولهم: الذي يأتيني فله درهم. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، ولكنه على إضمار تقديره: فهو بإذن الله، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿يعلم﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام ﴿كي﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى أظهر يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولعلمه المؤمنين الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ على كونه خبر المبتدأ، تقديره: وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فكائنٌ بإذن الله، وكائنٌ
253
لإظهاره صبر المؤمنين.
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾.
﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿يَعْلَمَ﴾ منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به ليعلم. ﴿نَافَقُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة يعلم في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره، ولعلمه الذين نافقوا، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ﴾.
﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾.
﴿وَقِيلَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ نائب فاعل محكي لقيل، وجملة ﴿وَقِيلَ﴾ معطوفة على جملة ﴿نَافَقُوا﴾ على كونها صلة الموصول، وإن شئت قلت ﴿تَعَالَوْا﴾ فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لِـ ﴿قِيلَ﴾. وكذلك جملة ﴿قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَاتِلُوا﴾. ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ ﴿أَوِ﴾ حرف عطف، وتفصيل. ﴿ادْفَعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿قَاتِلُوا﴾. وقال أبو حيان (١): و ﴿أَو﴾ على بابها من أنها لأحد الشيئين. وقيل: يحتمل أن تكون بمعنى الواو، فطلب منهم الشيئين القتال في سبيل الله، والدفع عن الحريم والأهل، والمال، فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن، والمنافق في القتل، والسبي، والنهب. والظاهر أن قوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ كلامٌ مستأنف قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم، وأموالهم، حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال، والجواب، ويحتمل أن يكون قوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ معطوفًا على ﴿نَافَقُوا﴾ فيكون من الصلة انتهى.
وفي "الفتوحات": قوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا﴾ هذه الجملة (٢) تحتمل وجهين:
(١) البحر المحيط.
(٢) الجمل.
254
أحدهما: أن تكون استئنافية، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال، وإما بالدفع؛ أي: تكثير سواد المسلمين.
والثاني: أن تكون معطوفة على ﴿نَافَقُوا﴾ فتكون داخلة في حيز الموصول؛ أي: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ الذين حصل منهم النفاق، والقول المذكور و ﴿تَعَالَوْا﴾ و ﴿قَاتِلُوا﴾ كلاهما قائم مقام الفاعل، لـ ﴿قِيلَ﴾؛ لأنه هو المقول. قال أبو البقاء: (١) وإنما لم يأت بحرف العطف بين ﴿تَعَالَوْا﴾ و ﴿قَاتِلُوا﴾ لأنه أراد أن تكون كل من الجملتين مقصودةً بنفسها، ويجوز أن يقال: إن المقصود هو الأمر بالقتال، و ﴿تَعَالَوْا﴾ ذكر ما لو سكت عنه.. لكان في الكلام دليلٌ عليه، وقيل: الأمر الثاني حالٌ انتهى.
﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿نَعْلَمُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المنافقين. ﴿قِتَالًا﴾ مفعول به؛ لأن علم بمعنى عرف. ﴿لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب لو. ﴿اتَّبَعْنَاكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة لو من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾
﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿لِلْكُفْرِ﴾ جار ومجرور متعلِّقٌ بأقرب الآتي. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلِّقٌ بأقرب أيضًا كما ذكره أبو حيان. ﴿أَقْرَبُ﴾ خبر المبتدأ والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بأقرب. ﴿لِلْإِيمَانِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَقْرَبُ﴾ أيضًا، و ﴿أَقْرَبُ﴾ تعلقت به هنا أربع ظروفات.
فإن قلت: من المعلوم أنه لا يتعلق حرفا جرٍّ متحدان لفظًا ومعنًى بعامل واحد، إلا أن يكون أحدهما معطوفًا على الآخر، أو بدلًا منه؛ فكيف تعلقا هنا بـ ﴿أَقْرَبُ﴾؟
(١) العكبري.
255
قلتُ: هذا من خواصِّ أفعل التفضيل، فإنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس أحدهما معطوفًا على الآخر، ولا بدلًا منه بخلاف سائر العوامل؛ فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، إلا بالعطف أو على سبيل البدل.
وقال أبو البقاء: (١) وجاز أن يعمل أقرب فيهما لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل أطيب في قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطبًا في الظرفين المقدرين؛ لأن أفعل يدل على معنيين: على أصل، وزيادته، فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الآخر، فتقديره يزيد قربهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان. واللام هنا على بابها، وقيل هي بمعنى إلى. انتهى.
﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في ﴿أَقْرَبُ﴾، أي قربوا إلى الكفر قائلين قاله أبو البقاء. ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه خبر ﴿لَيْسَ﴾، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلةٌ لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في ﴿لَيْسَ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿أَعْلَمُ﴾ خبر، والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾. وجملة ﴿يَكْتُمُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يكتمونه.
﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ في إعرابه أوجه: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين قالوا، والجملة مستأنفة أو على أنه بدل من الذين نافقوا، أو نعت له، أو على أنه مبتدأ خبره ﴿قُلْ﴾ الآتي، تقديره: الذين قالوا لإخوانهم، قل لهم: فادرؤوا الخ والنصب على الذم، والجر بدلًا من المجرور في ﴿أَفْوَاهِهِمْ﴾ أو
(١) العكبري.
256
﴿قُلُوبِهِمْ﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لِإِخْوَانِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَقَعَدُوا﴾ فعل، وفاعل يجوز أن يكون معطوفًا على ﴿قَالُوا﴾ على كونه صلة الموصول معترضًا بين ﴿قَالُوا﴾ ومعموله، وهو قوله: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾، ويجوز أن يكون حالًا من ﴿قَالُوا﴾ وقد مقدرة، أي: وقد ﴿قَعَدُوا﴾ ومجيء الماضي حالًا مقترنًا بالواو وقد أو بدونهما ثابت في "لسان العرب". ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ مقولٌ. محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت ﴿لو﴾ حرف شرط. ﴿أَطَاعُونَا﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿قُتِلُوا﴾ فعل مغير ونائب فاعل، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئت.. قلت ﴿فَادْرَءُوا﴾ الفاء رابطة لجواب شرط محذوف معلوم من السياق تقديره: إن كنتم رجالًا دفاعين لأسباب الموت ﴿فَادْرَءُوا﴾ جميع أسبابه عن أنفسكم حتى لا تموتوا. ﴿ادْرَءُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ادْرَءُوا﴾. ﴿الْمَوْتَ﴾ مفعول به وجملة ﴿ادْرَءُوا﴾ في محل الجزم على كونها جوابًا لشرط محذوف، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقولٌ لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿صَادِقِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونها فعل شرط لها وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم صادقين في دعواكم أن التحيل والتحرز ينجي من الموت، ﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾، ولن تجدوا إلى ذلك سبلًا، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب، مؤكدةٌ للشرط المحذوف على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾ والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ﴾ من لان يلين لينًا من باب باع، واللين في المعاملة الرفق والتلطف فيها.
257
﴿فَظًّا﴾ يقال: فظَّ يَفَظُّ، وَيفِظُّ فظًّا وفظاظةً وفِظاظًا: إذا كان فظًّا، والفظ: الغليظ السيء الخلق، الخشن الكلام، يجمع على فظاظٍ، وفظوظ ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ يقال: غلظ وغلظ بالكسر، والضم، والغلظة ضد الرقة فالفظاظة الجفوة في المعاشرة قولًا وفعلًا، والغلظة التكبر ثم تجوز به عن عدم الشفقة وكثرة القسوة في القلب، فغلظ القلب عبارة عن كونه خلق صلبًا لا يلين، ولا يتأثر ﴿لَانْفَضُّوا﴾ الانفضاض التفرق من الأجزاء، وانتشارها يقال: نفض القوم إذا تفرقوا، وهو من باب انفعل الخماسيِّ من مزيد الثلاثي، وبناؤه للمطاوعة يقال: فضضتهم فانفضوا؛ أي: فرقتهم فتفرقوا، وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك.
والمعنى (١): لو كنت فظًّا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك هيبةً لك واحتشامًا منك بسبب ما كان من توليهم، وإذا كان الأمر كما ذكر فاعف عنهم الخ ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذةً من قول العرب شرت الدابة، وشورتها إذا علمت خبرها، وقيل من قولهم: شرت العسل إذا اجتنيته، واستخرجته، وأخذته من موضعه، وثلاثيه أجوف واوي من باب قال.
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ التوكل: إظهار العجز، والاعتماد على غيرك، والاكتفاء به في فعل ما تحتاج إليه.
﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ في "المصباح" خذلته وخذلت عنه من باب قتل، والاسم: الخذلان إذا تركت نصرته وإعانته وتأخرت عنه.
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ يقال: غل الشي يغله غلًّا وغلولًا، من باب شد إذا أخذه خفيةً، ودسَّهُ في متاعه، فهو من المضاعف المعدى، فقياسه: ضم مضارعه. والغل: الأخذ خفية كالسرقة، ثم غلب استعماله في السرقة من المغنم قبل القسمة، ويسمى الغلول أيضًا.
﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ السخط بفتحتين: مصدر قياسي لسخط من باب فرح، والسخط بضم فسكون، مصدر سماعيٌّ له، قال ابن مالك:
(١) الشوكاني.
258
وَفَعِلَ اللَّازِمُ بَابُهُ فَعَلْ كَفَرَحٍ وَكَجَوَىً وَكَشَلَلْ
ثم قال:
وَمَا أَتَى مُخَالِفًا لِمَا مَضَى فَبَابُهُ اَلنَّقْلُ كَسُخْطٍ وَرِضَا
والسخط على كلا الضبطين الغضب الشديد.
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ يقال: من يمن بالضم منَّ، ومنيني عليه بكذا إذا أنعم عليه به من غير تعب، فهو من المضاعف، اللازم فقياسه: الكسر فالضم فيه شاذ، ولم يأت فيه إلَّا الضمّ.
﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ يقال: درأه يدرؤُهُ بالفتح، من باب منع درءًا، ودرأةً إذا دفعه دفعًا شديدًا، ودرأ السيل عليه اندفع، ودرأ الرجل علينا إذا طرأ فجأة، تدارأ القوم إذا تدافعوا في الخصومة.
البلاغة
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فيه مجازٌ بالزيادة؛ لأن ﴿مَا﴾ زائدةٌ للتأكيد. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ﴾ ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ فيهما من المحسنات البديعية: المقابلة والالتفات؛ إذ هو خروج من الغيبة إلى الخطاب، وتنويع الكلام؛ لأنه جاء في جواب ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ﴾ بصريح النفي العام حيث قال: ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ وفي جواب ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ بالنفي المضمن في الاستفهام حيث قال: فمن ذا الذي ينصركم، وإفادة الحصر في قوله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ بتقديم المعمول على العامل.
﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فيه استعارةٌ بديعية، حيث جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئًا، فنكص عن اتباعه، ورجع بدونه.
﴿بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ التنكير فيه للتهويل؛ أي: بسخط عظيم لا يكاد يوصف ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ فيه مجازٌ بالحذف؛ أي: ذَوُو درجات متفاوتةٍ متخالفةٍ.
﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ بين الكفر والإيمان الطباق.
259
﴿أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ فيه من المحسنات البديعية: جناس الاشتقاق.
وقال أبو حيان (١): وتضمنت هذه الآيات من صنوف البلاغة والفصاحة:
منها: الطباق في قوله: ﴿يَنْصُرْكُمُ﴾ و ﴿يَخْذُلْكُمْ﴾ وفي قوله: ﴿رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ و ﴿بِسَخَطٍ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَنْصُرْكُمْ﴾ و ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾؛ وفي الجلالة في مواضع.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿يَغُلَّ﴾، وما ﴿غَلَّ﴾.
ومنها: الاستفهام الذي معناه النفي في قوله: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ﴾ الآية.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾، وفي ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ خص العمل دون القول؛ لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ﴾ الآية، إذ التقدير من الله عليهم بالهداية، فيكون في هذا المقدر، وفي قوله: ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وفي ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ والقول ظاهر و ﴿يَكْتُمُونَ﴾، وفي قوله: ﴿قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا﴾ إذ التقدير حين خرجوا، وقعدوا هم.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ لاختلاف متعلق العلم.
ومنها: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في قوله: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ﴾.
ومنها: الاحتجاج النظري في قوله: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾.
ومنها: الحذف في عدة مواضع، لا يتم المعنى إلا بتقديرها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
260
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)﴾
المناسبة
لمَّا ذكر (١) الله سبحانه وتعالى تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه، وأنه مفضٍ إلى القتل، كما حدث يوم أحد، والقتل بغيضٌ إلى النفوس مكروه لها، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره، كما يحدث الموت، فمن كتب عليه أن يقتل، لا يمكنه أن يبتعد من القتل، ومن لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد.. ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله،
(١) المراغي.
261
فأبان أن المقتولين شهداء أحياءٌ عند ربهم، قد خصَّهم الله بالقرب منه والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق، وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.
وأخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لمَّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا..﴾ الآيات، لمَّا كان من فوز المشركين في أُحد ما كان، وأصاب النبيَّ - ﷺ - والمؤمنين شيءٌ كثير من الأذى أظهر بعض المنافقين كفرهم، وصاروا يخوفون المؤمنين، ويؤيسونهم من النصر، والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إنَّ محمدًا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارةً عليه، ولو كان رسولًا من عند الله.. ما غلب إلى نحو هذه المقالة، مما ينفر المسلمين من الإِسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسليةً له كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه - ﷺ - كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، وقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ..﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق ما يحرض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وبذل أنفسهم فيه بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم، شرع هنا يحث على بذل المال في الجهاد، والمال شقيق الروح، فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائلٌ، وأن مدى الحياة قصيرٌ، وأن الوارثين والموروثين سيموتون، ويبقى الملك لله وحده.
262
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الإِمام أحمد. (ج١ ص ٢٦٥) حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير المكي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عَزَّ وَجَلَّ أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتهوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم، ومأكلهم، وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هؤلاء الآيات على رسوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ...﴾.
وأخرج الترمذي وحسَّنه (ج ٤ ص ٨٤) عن جابر رضي الله عنه قال: لقيني رسولُ الله - ﷺ - فقال يا جابر "ما لي أراك منكسرًا" فقلت يا رسول الله: استشهد أبي وترك عيالًا، ودينًا، فقال: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك"، قال: بلى يا رسول الله، قال: "ما يكلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجابه، وأحيا أباك، فكلَّمه كفاحًا (١) فقال: تمن عليَّ أعطيك قال: يا رب تحييني، فأقتل فيك ثانيةً، قال الرب تعالى علوًّا كبيرًا: إنه قد سبق أنهم لا يرجعون"، قال: وأنزلت هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ...﴾ قال الشوكاني في "تفسيره": وعلى كلِّ حال، فالآية باعتبار عمومها تعم كل شهيد.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ سبب نزولها: ما روي (٢) عن ابن عباس قال: لما انصرف أبو سفيان، والمشركون من
(١) كفاحًا: أي مواجهةً بدون حجاب ولا رسول.
(٢) مجمع الزوائد ولباب النقول.
263
أحد، وبلغوا الروحاء، قال أبو سفيان: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله - ﷺ - فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء (١) الأسد، أو بئر أبي عتبة، فأنزل الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وذلك أن أبا سفيان قال للنبي - ﷺ -: موعدك موسم بدر، حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان: فرجع، وأما الشجاع: فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه، فلم يجدوا به أحدًا، وتسوقوا، فأنزل الله عز وجل: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ رواه الطبراني.
وأخرج (٢) ابن مردويه عن أبي رافع، أنَّ النبيَّ - ﷺ - وجه عليًّا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابيُّ من خزاعة، فقال: إن القوم قد جمعوا لكم، قالوا ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فنزلت فيهم هذه الآية.
وأخرج (٣) ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن الله قذف الرعب في قلب أبي سفيان يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة، فقال النبي - ﷺ -: إن أبا سفيان، قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع، وقذف الله في قلبه الرعب، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى، وأنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك فندب النبيُّ - ﷺ - لينطلقوا معه، فجاء الشيطان فخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: "إني ذاهب"، وإن لم يتبعني أحد فانتدب معه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلًا، فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...﴾ الآية.
(١) حمراء الأسد: مكان على ثمانية أميال من المدينة المنورة.
(٢) لباب النقول.
(٣) لباب النقول.
264
التفسير وأوجه القراءة
١٦٩ - ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: ولا تظنن يا محمَّد، أو أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث، أو يرتابون، فيؤثرون الدنيا على الآخرة، كون الذين استشهدوا في سبيل الله، لإعلاء دينه، ﴿أَمْوَاتًا﴾ قد فقدوا الحياة، وصاروا عدمًا لا يحسون، ولا يتنعمون ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أَحْيَاءٌ﴾ في عالم آخر غير هذا العالم هو خيرٌ للشهداء، لما فيه من الكرامة، والشرف مكرمون ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ من نعيم الجنة غدوًّا وعشيًّا، كما روى عن النبي - ﷺ - "أنَّ أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم يرزقون، ويتنعمون من ثمار الجنة يجدون ريحها، وليسوا فيها" وهذه الحياة (١) التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة محققة غيبية عنا لا ندرك حقيقتها، ولا نزيد على ما جاء به الوحي. قوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ تأكيد لكونهم أحياءً، وتحقيق لهذه الحياة.
وقرأ الجمهور (٢) ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء، والخطاب لرسول الله - ﷺ - أو لكل سامع، وقرأ حميد بن قيس، وهشام بخلاف عنه ﴿ولا يحسبن﴾ بالياء؛ أي: لا يحسبن حاسبٌ أيًّا كان.
وقد اختلف (٣) أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية، من هم؛ فقيل: شهداء أحد، وقيل: شهداء بدر، وقيل: شهداء بئر معونة، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وقرأ الحسن (٤) وابن عامر ﴿قُتِّلُوا﴾ بالتشديد، وروي عن عاصم ﴿قاتلوا﴾ وقرأ الجمهور ﴿قُتِلُوا﴾ مخففًا، وقرأ الجمهور ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوت تقديره: بل هم أحياء. وقرأ ابن أبي عبلة ﴿أَحْيَاءً﴾ بالنصب على تقدير فعل؛ أي: بل أحسبهم أحياءً، كما قاله الزمخشري، وتبعه الزجاج.
١٧٠ - قوله: ﴿فَرِحِينَ﴾ حالٌ من الضمير في ﴿يُرْزَقُونَ﴾ و {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
فَضْلِهِ} متعلق بـ ﴿فَرِحِينَ﴾ وقرأ ابن السميفع ﴿فارحين﴾ وهُما لغتان: كالفره، والفاره، والحذر، والحاذر. والمراد ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ﴾ ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة، وما صاروا فيه من الحياة، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه وتعالى، والمعنى: مسرورين بما أعطاهم الله تعالى من قربه، ودخول جنته، ورزقهم فيها إلى سائر ما أكرمهم به. ولا تعارض (١) بين فرحين، وبين ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ في قصة قارون؛ لأن ذاك بالملاذ الدنيوية، وهذا بالملاذ الأخروية ولذلك جاء ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾، وجاء ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
١٧١ - والمراد بفضل الله شرف الشهادة، والفوز بالحياة الأبدية، والزلفى من الله تعالى، والتمتع بالنعيم المخلد عاجلًا، والواو في قوله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ عاطفة على قوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾؛ أي: يرزقون، ويستبشرون، ويسرون (بـ) ما تبين لهم من حسن حال إخوانهم المجاهدين ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ في القتل، والشهادة، ولم يقتلوا إذ ذاك وتركوهم ﴿مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ ووراءهم في الدنيا، بل سيلحقون بهم من بعد؛ أي: إنهم بقوا في الدنيا بعدهم، وهم قد تقدموهم يعني من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على منهج الإيمان، والجهاد، فعلموا أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم، ونالوا من الكرامة مثلهم.
وقيل (٢): المراد بإخوانهم هنا جميع المسلمين الشهداء وغيرهم؛ لأنهم لما عاينوا ثواب الله، وحصل لهم اليقين بحقية دين الإِسلام؛ استبشروا بذلك لجميع أهل الإِسلام الذين هم أحياء لم يموتوا، وهذا أقوى؛ لأن معناه أوسع، وفائدته أكثر، واللفظ يحتمله، بل هو الظاهر، وبه قال الزجاج، وابن فورك.
وقوله (٣): ﴿مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ إشارة إلى أنهم وراءهم، يقتفون أثرهم، ويحذون حذوهم قدمًا بقدمٍ، وفي ذكر حال الشهداء، واستبشارهم بمن خلفهم حث
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
266
للباقين بعدهم على زيادة الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء، وإصابة فضلهم كما فيه إخمادٌ لحال من يرى نفسه في خير، فيتمنى مثله لإخوانه، في الدين، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمآب.
وقوله: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بدلٌ من ﴿الَّذِينَ﴾؛ أي: يستبشرون بعدم الخوف، والحزن على إخوانهم الذين تركوهم أحياءً، وأنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية، لا يكدرها خوفٌ من وقوع مكروه من أحوالها، ولا حزنٌ من فوات محبوب من نعيمها.
والمعنى (١): يستبشرون بأن لا خوف من المتخلِّفين على أنفسهم، فهم آمنون، ولا هم يحزنون، فهم فرحون هذا ما أدركه لهم إخوانهم المتقدمون، وليس المراد أنهم؛ أي: المتقدمين لا يخافون على المتخلِّفين كما هو ظاهر.
والحاصل (٢): أن الشهداء المتقدمين: يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلانًا وفلانًا في صف المقاتلة مع الكفار، فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا؛ أي: يفرحون بحسن حال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا، بدوام انتفاء الخوف والحزن، وبلحوقهم بهم؛ لأن الله تعالى بشَّرهم بذلك.
والخوف: غم (٣) يلحق الإنسان بما يتوقعه من السوء، والحزن غمٌّ يلحقه من فوات نافع، وحصول ضار، فمن كانت أعماله مشكورةٌ.. فلا يخاف العاقبة، ومن كان متقلِّبًا في نعمة من الله، وفضل.. فلا يحزن أبدًا.
﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ لمَّا (٤) بيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ الشهداء يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ذكر أنهم أيضًا يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم والفضل، فالاستبشار الأول كان لغيرهم، والاستبشار الثاني
(١) الجمل.
(٢) مراح.
(٣) كرخي.
(٤) الخازن.
267
لأنفسهم خاصة؛ أي: يفرحون بنعمة من الله؛ أي: بثواب أعمالهم وفضل؛ أي: زيادة عظيمة من الكرامة على ثواب أعمالهم، نظير قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ وتنكيرها للتعظيم فالنعمة هي الثواب الذي يلقاه العامل جزاءً على عمله، والفضل هو التفضل الذي يمن الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ويفرحون بأن الله تعالى لا يبطل، ولا يبخس أجر المؤمنين من الشهداء، وغيرهم. قرأ الكسائي (١) بكسر الهمزة من ﴿إنَّ﴾ على أنه مستأنف. وفيه دلالة على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين، ويؤيده قراءة ابن مسعود، ومصحفه ﴿والله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ وقرأ باقي السبعة، والجمهور بفتح الهمزة عطفًا على فضل، فهو داخل في جملة ما يستبشرون به، قال (٢) أبو علي يستبشرون: بتوفير ذلك عليهم، ووصوله إليهم؛ لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم، ولم يبخسوه، ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين؛ لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم، وقد علموا قبل موتهم أنَّ الله لا يضيع أجر المؤمنين، فهم يستبشرون بأنَّ الله ما أضاع أجورهم، حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة، وختم لهم بالنجاة، والفوز، وقد كانوا يخشون على إيمانهم، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة، وما اختصَّهم به من حسن الخاتمة التي تصح معها الأجور، وتضاعف الأعمال استبشروا؛ لأنهم كانوا على وجل من ذلك. انتهى كلامه، وفيه تطويلٌ شبيهٌ بالخطابة.
وفي ذلك كله تحريضٌ للمؤمنين على الجهاد، وترغيبٌ لهم في الشهادة، وحث على ازدياد الطاعة، وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
268

فصلٌ في ذكر الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله


وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "تضمَّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادًا في سبيلي، وإيمانًا وتصديقًا برسلي، فهو عليَّ ضامن - أي: مضمون - أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال من أجرٍ، أو غنيمةٍ، والذي نفس محمَّد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين يكلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمَّد بيده، لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعةً فأحملهم، ولا يجدون سعةً، ويشق عليهم أن يتخلَّفوا عني، والذي نفسُ محمَّد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال "لغَدَوْةٌ في سبيل الله، أو رَوْحَةٌ خير من الدنيا وما فيها" متفق عليه.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا، وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا، وما عليها". متفق عليه.
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر" أخرجه أبو داود، والترمذي.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "مَنْ قاتل في سبيل الله فواق ناقةٍ، وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل في سبيل الله صادقًا من نفسه، ثم مات أو قتل؛ كان له أجر شهيد، ومن جرح جرحًا في سبيل الله، أو نكب نكبةً.. فإنها تجىء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك، ومن خرج به خراج في سبيل الله، فإن عليه
269
طابع الشهداء". أخرجه أبو داود، والنسائي، وأخرجه الترمذي مفرقًا في موضعين.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله - ﷺ - فقال: "أيُّ الناس أفضل؟ قال: مؤمن مجاهد بنفسه، وماله في سبيل الله، قال: ثم من؟ قال: رجل في شعب من الشعاب يعبد الله"، وفي رواية: "يتقي الله ويدع الناس من شره". متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا، واحتسابًا، وتصديقًا بوعده.. فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله، في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات". أخرجه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "ما أحدٌ يدخل الجنة فيجب أن يرجح إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة"، وفي رواية "لما يرى من فضل الشهادة". متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة". أخرجه الترمذي وللنسائي نحوه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "يَشْفَعُ الشهيد في سبعين من أهل بيته". أخرجه أبو داود.
١٧٢ - قوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ مبتدأ خبره، قوله الآتي ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾؛ أي: هؤلاء المؤمنون الذين أجابوا دعوة الله، ورسوله إياهم للخروج إلى الغزو ثانيًا في اليوم التالي ليوم أحد ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ﴾، ونالهم ﴿الْقَرْحُ﴾، والجراح في يوم أحد، ولبوا نداءهما من غير توانٍ ولا تباطؤ. وكان هذا الدعاء في يوم الأحد التالي ليوم أحد الذي هو يوم السبت لست عشرة مضت، أو لثمان
عشرة خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة، كما في المواهب. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ بإجابة الرسول إلى الخروج للغزو ثانيًا على ما هم عليه من جراح، وآلام أصابتهم يوم أحد ﴿وَاتَّقَوْا﴾ مخالفة الرسول، وعاقبة تقصيرهم، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، وثواب جزيل، وهو الجنة على ما أتوا به من جليل الأعمال، وصالح الأفعال.
وفي قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ إشارة إلى أن من دعوا لبوا، واستجابوا له ظاهرًا، وباطنًا، ولكن عرض لبعضهم موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، وخرج الباقون.
روي أن أبا سفيان وأصحابه لمَّا رجعوا من أحد، فبلغوا الروحاء موضع بين مكة والمدينة، ندموا، وهموا بالرجوع حتى يستأصلوا، من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله - ﷺ - فأراد أن يرهبهم، ويريهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان، وقال: "لا يَخْرَجُنَّ معنا يومنا إلا من حضر بالأمس"، فخرج رسولُ الله - ﷺ - مع جماعة من أصحابه يوم الأحد اليوم التالي، يوم أُحد حتى بلغوا حمراء الأسد - موضعٌ على ثمانية أميال من المدينة، على يسار الطريق لمن أراد ذا الحليفة - وكان بأصحابه الجراح والآلام، فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا إلى مكة مسرعين، وأقام بها رسول الله - ﷺ - الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة، وقد غاب عنها خمسًا، فنزلت هذه الآية وتسمي هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهي متصلة بغزوة أحد.
١٧٣ - وقوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ منصوب بفعل محذوف تقدير: أمدح المؤمنين الذين قال لهم الناس: أي؛ قال لهؤلاء المؤمنين نعيم ابن مسعود الأشجعي، ومن وافقه، وهم أربعة؛ أي: قالوا للمؤمنين تثبيطًا لهم ﴿إِنَّ النَّاسَ﴾؛ أي: إن أبا سفيان، وكفار قريش ﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾؛ أي: لقتالكم واستئصالكم، أيها المؤمنون في مجنة، وهي سوق بقرب مكة جموعًا كثيرةً، وأعوانًا عديدةً ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾، أي: فخافوا أيها المؤمنون هؤلاء المجموع، واحذروهم ولا تخرجوا
271
إليهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، وقلنا لكم ذلك نصيحةً لكم أيها المؤمنون، فإنا رأينا تلك الجنود المجندة لكم.
روي عن (١) ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان، قال: حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمَّد موعدنا موسم بدر القابل، إن شئت، فقال النبي - ﷺ -: "ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى". فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مِجنَّة من ناحية مر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، فلقي نعيم ابن مسعود، وقد قدم معتمرًا، فقال له أبو سفيان: إني واعدت محمدًا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمَّد، ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأةً، فالحق بالمدينة، فثبطهم ولك عندي عشرةٌ من الإبل، أضعها في يدي سهيل بن عمرو. فأتى نعيم المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: ما هذا الرأي؟ أتوكم في دياركم، وقراركم، ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم، وقد جمعوا لكم المجموع عند الموسم، فوالله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم، فقال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده لأخرجن، ولو وحدي فخرج، ومعه سبعون راكبًا يقولون: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ حتى وافى بدرًا الصغرى - بدر الموعد - فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، فلم يلق أحدًا؛ لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجلٍ، فسماه أهل مكة جيش السويق، وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق". ووافى المسلمون سوق بدرٍ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا، واشتروا أدمًا، وزبيبًا، فربحوا، وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى.
﴿فَزَادَهُمْ﴾؛ أي: فزاد المؤمنين ذلك القول والتثبيط ﴿إِيمَانًا﴾ وتصديقًا
(١) المراغي.
272
بوعده، وثقةً به، وقوةً في دينهم، وثبوتًا على نصر نبيهم - ﷺ - ولم يلتفتوا إلى تخويفهم، بل حدث في قلوبهم عزمٌ وتصميمٌ على محاربة هؤلاء الكافرين، وطاعة للرسول في كل ما يأمر به، وينهى عنه، وإن أضناهم ذلك، وثقل عليهم لما بهم من جراحات عظيمة، وقد كانوا في حاجة إلى قسط من الراحة، وشيء من التداوي، لكن وثوقهم بنصر الله وتغلبهم على عدوهم، أنساهم كل هذه المصاعب، فلبوا الدعوة سراعًا.
والخلاصة: أن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله، وعظمته وسلطانه، ويقينهم بوعد الله، ووعيده، وتبع ذلك زيادةٌ في العمل، ودأبٌ على إنفاذ ما طلب الرسول - ﷺ -، ولولا ذلك ما أقدموا على الاستجابة إلى ما كاد يكون وراء حدود الإمكان.
ونحو هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾.
﴿وقالوا﴾؛ أي: قال المؤمنون معبرين عن صادق إيمانهم، ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾؛ أي: كافينا ومحسبنا الله، فهو الذي يكفينا ما يهمنا، من أمر هؤلاء الذين جمعوا لنا المجموع العديدة، فهو سبحانه وتعالى لا يعجزه أن ينصرنا على قلتنا، وكثرتهم، أو يلقي في قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم، وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، وجيشه، على كثرة عهددهم، وتوافر عُددهم، فولوا مدبرين، وكان النصر في ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين.
﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾؛ أي: ونعم وحسن الموكول إليه أمورنا، كلها دينًا، ودنيا، ونصرًا على أعدائنا، والمخصوص بالمدح الله سبحانه وتعالى.
وأخرج البخاري عن ابن عباس ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمَّد - ﷺ - حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم جموعًا.
273
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل". وأخرج ابن أبي الدنيا، عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي - ﷺ - كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه، ولحيته، ثم تنفس الصعداء، وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل".
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - ﷺ - "حسبي الله ونعم الوكيل، أمان كل خائف".
١٧٤ - وقوله: ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ معطوف على محذوف تقديره: أي: فخرجوا للقاء عدوهم، ولم يلقوا منه كيدًا، ولا همًّا، وانقلبوا؛ أي: رجعوا إلى أهليهم حالة كونهم ملتبسين ﴿بِنِعْمَةٍ﴾ وسلامةٍ وثواب ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَفَضْلٍ﴾؛ أي: وزيادةٍ، وربح في تجارتهم، وهو ما أصابوا في سوق بدر من الربح، وقيل: النعمة منافع الدنيا، والفضل ثواب الآخرة، وحالة كونهم ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ﴾؛ أي: لم يصبهم في الذهاب، والإياب ﴿سُوءٌ﴾؛ أي: قتل ولا جراحٌ من عدوهم.
﴿وَاتَّبَعُوا﴾؛ أي: وامتثلوا رسول الله في كل ما به أمر ونهى عنه لينالوا ﴿رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى في كل ما أتوا به من قول أو فعل؛ أي: ليفوزوا برضا الله الذي هو وسيلة النجاة، والسعادة في الدنيا، والآخرة، ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ ومَنٍّ جسيم عليهم إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق بالمبادرة إلى الجهاد والجرأة على العدو وحفظهم من كل ما يسوءهم.
١٧٥ - وفي هذا إلقاء للحسرة في قلوب المتخلِّفين منهم، وإظهارٌ لخطأ رأيهم، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ﴾ المخوف المثبط القائل لكم: إن الناس قد جمعوا لكم، وهو نعيم بن مسعود هو ﴿الشَّيْطَانُ﴾ سماه الله شيطانًا؛ لأنه كان تابعًا للشيطان، ولوسوسته ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾؛ أي: يخوفكم أيها المؤمنون عن لقاء أوليائه، ومقاتلتهم، وعن الخروج إليهم؛ أي: ليس ذلك الذي قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أيها المؤمنون، عن قتال أوليائه وأنصاره، وأحزابه المشركين، ويوهمكم أنهم عدد كثر، وأولو قوة، وبأس شديد، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم، وتجبنوا عن مدافعتهم.
قرأ ابن عباس وابن مسعود ﴿يخوفكم أولياءَه﴾ وقرأ أبي بن كعب، والنخعي ﴿يخوفكم بأوليائه﴾.
﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾؛ أي: فلا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تقعدوا عن قتالهم، ولا تجبنوا عنهم، ولا تحفلوا بقولهم ﴿وَخَافُونِ﴾ في مخالفة أمري بالجلوس، فجاهدوا في سبيلي، مع رسولي؛ لأنكم أوليائي، وأنا وليكم وناصركم، ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: مصدقين بوعدي لكم النصر، والظفر، أو راسخي الإيمان قائمين بحقوقه، فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره، والأمن من شر الشيطان، وأوليائه وأثبت أبو عمرو ياء ﴿وَخَافُونِ﴾ وهي ضمير المفعول، والأصل الإثبات، ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون، فتذهب الدلالة على المحذوف.
وخلاصة ذلك: أنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله الذي بيده كل شيء، وهو يجير، ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم، وإظهار دينكم على الدين كله، وأن الحق يدمغ الباطل، فإذا هو زاهق، واذكروا قوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ثم خذوا أهبتكم، وتوكلوا على ربكم، فإنه لا يدع لخوف غيره مكانًا في قلوبكم.
١٧٦ - ولما نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه وحده تعالى نهى رسوله - ﷺ - عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر، فقال: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾؛ أي: لا يهمنك أيها الرسول مسارعة ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ﴾ ويبادرون ﴿فِي﴾ نصرة دين ﴿الْكُفْرِ﴾، والشرك، ومظاهرة أهله على النبي - ﷺ - قيل: هم كفار قريش، وقيل: هم المنافقون، وقيل: هو عام في جميع الكفار، والمعنى: ولا يحزنك من يسارع في الكفر بنصرته بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك، وإبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة، وهذا المقصود لا يحصل لهم، بل يضمحل أمرهم، وتزول شوكتهم، ويعظم أمرك، ويعلو شأنك فـ ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾؛ أي: إن هؤلاء المسارعين لن يضروا دين الله ورسوله بهذا الصنيع
275
﴿شَيْئًا﴾ من الضرر، وإنما يضرون أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم.
قرأ نافع (١) ﴿يُحزِنك﴾ بضم الياء وكسر الزاي، من أحزن الرباعي هنا، وفي جميع القرآن حيثما وقع إلا قوله تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ في سورة الأنبياء فقرأه بفتح الياء، وضم الزاي من حزن الثلاثي كباقي القراء في جميع ما في القرآن، فإنهم قرؤوه بفتح الياء وضم الزاي حيثما وقع، وهما لغتان: يقال حزنني الأمر، وأحزنني، والأول أفصح وقرأ ابن محيصن بضم الياء، والزاي من أحزن على النفي.
وقرأ (٢) طلحة بن مصرف النحويُّ ﴿يسرعون﴾ من أسرع الرباعي في جميع القرآن، قال ابن عطية، وقراءة الجمهور أبلغ؛ لأن من يسارع غيره أشد اجتهادًا من الذي يسرع وحده.
وفي ضمن قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ دلالةٌ على أن وبال ذلك عائد عليهم ولا يضرون إلا أنفسم، وفي توجيه الخطاب إلى النبي - ﷺ - في قوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ تسليةٌ له، وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشؤونه، ثم علل هذا النهي، وأكمل التسلية بتحقيق نفي ضررهم أبدًا بقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾؛ أي: إنهم لن يضروا أولياء الله، وهم النبي وصحبه شيئًا من الضرر، فعاقبة هذه المسارعة في الكفر، وبالٌ عليهم لا عليك، ولا على المؤمنين، فإنهم لا يحاربونك، فيضروك، وإنما هم يحاربون الله تعالى، ولا شك أنهم من أن يفعلوا ذلك عاجزون، فهم إذًا لا يضرون إلا أنفسهم، وفي جعل مضرتهم؛ أي: المؤمنين مضرة لله تعالى تشريف لهم، ومزيد مبالغة في تسليته - ﷺ -.
ثم بين أنهم لا يضرون إلّا أنفسهم فقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: إنما سارعوا في الكفر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أرإد ﴿أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا﴾؛ أي: نصيبًا ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾؛ أي: في الجنة؛ فلذلك خذلهم حتى سارعوا في
(١) مراح وفتح القدير.
(٢) البحر المحيط.
276
الكفر، وانهمكوا فيه، وقضى الله بذلك حرمانهم من نعيم الآخرة على وفق ما تقتضيه سنة الله، وإرادته، وفي تعبيره بصيغة الاستقبال دلالةٌ على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر.
﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المسارعين مع حرمانهم من الثواب ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: شديد في النار بسبب مسارعتهم في الكفر، فكان ضرر كفرهم عائدًا عليهم جالبا لهم عدم الحظ في الآخرة، ومصيرهم في العذاب العظيم.
١٧٧ - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى حكم أولئك المسارعين إلى نصرة الكفر، والدفاع عنه، ومقاومة المؤمنين لأجله، وأرشد أنه لا يؤبه بهم، ولا يهتم بشأنهم، فهم إنما يحاربون الله، والله غالب على أمره، أشار إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان، واستبدله به فقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾؛ أي: الذين أخذوا الكفر بدلًا عن الإيمان، رغبة فيما أخذوا وإعراضًا عما تركوا ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ باستبدالهم الكفر عن الإيمان ﴿شَيْئًا﴾ من الضرر، ولن ينقصوه شيئًا باختيارهم الكفر، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم، كما قال: ﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المشترين الكفر بالإيمان في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم وفي هذا الكلام إيماء إلى شيئين:
أحدهما: تأكيد عدم إضرارهم بالنبي - ﷺ -.
وثانيهما: بيان سخافة عقولهم، وغباوة آرائهم إذ هم كفروا أوَّلًا، ثم آمنوا، ثم كفروا، بعد ذلك، وهذا دليل على شدة اضطرابهم، وعدم ثباتهم ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شيء مما يحتاج إلى أصالة الرأي، وقوة التدبير.
١٧٨ - ثم بين سبحانه وتعالى أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبًّا في الحياة ليس من الخير لهم فقال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾؛ أي: ولا يظنن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم بتأخير الأجل، وإطالة أعمارهم ﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملًا صالحًا ينتفعون به في أنفسهم، بتزكيتها، وتطيهرها من شوائب الأدران، وسيء الأخلاق، وينتفع به الناس في تهذيبهم،
277
وتحسين معاشهم ﴿إِنَّمَا نُمْلِي﴾ ونمهل ﴿لَهُمْ﴾ في أعمارهم ونعطيهم الأموال والأولاد ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ وذنبًا وطغيانًا في أنفسهم، وإضلالًا لغيرهم في الدنيا، ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؛ أي: ذو إهانة، وإذلال لهم يهانون به يومًا فيومًا وساعة بعد ساعة.
والخلاصة (١): أن هذا الإمهال والتأخر ليس عنايةً من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سننه في الخلق بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر، فإنما هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإمهال للكافر علة لغروره، وسببًا لاسترساله في فجوره، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكتسبه: العذاب المهين.
وفي الآية من العبرة شيئان:
أحدهما: أن من شأن الكافر أن يزداد كفرًا بطول عمره، ويتمكن من العمل بحسب استعداده.
وثانيهما: أن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته، وتزداد خيراته، فليجعل المؤمن هذا دستورًا فيما بينه وبين ربه، ويحاسب نفسه على مقتضاه، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور، وكان من ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾.
قال (٢) الفخر الرازي: بين الله تعالى في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلِّفين عن القتال، ليس خيرًا من قتل أولئك الذين قتلوا في أحد، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا، والعقاب الدائم في الآخرة، وقتل أولئك الذين قتلوا في أحد صار وسيلةً إلى الثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة، وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل انتهى.
وروى (٣) البغوي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رضي الله
(١) المراغي.
(٢) الفخر الرازي.
(٣) الخازن.
278
عنهما قال: سئل رسول الله - ﷺ - أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره، وحسن عمله"، قيل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره، وساء عمله".
قرأ (١) ابن كثير، وأبو عمرو في الأربعة ﴿ولا تحسبن الذين كفروا﴾ ﴿ولا ئحسبن الذين يبخلون﴾ ﴿ولا تحسبن الذين يفرحون﴾ ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بتاء الخطاب، وضم الباء في قوله ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله فلا ﴿تحسبنهم﴾ فإنه بالتاء. وقرأ حمزة كلّها بالتاء، وقرأ (٢) يحيى بن وثاب ﴿إنما نملي﴾ بكسر النون في الموضعين، وهي قراءة ضعيفة في العربية. وقال أبو حيان: (٣) قرأ يحيى بن وثاب ﴿ولا يحسبن﴾ بالياء ﴿وإنما نملي﴾ بالكسر انتهى.
١٧٩ - قوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ كلام مستأنف بين فيه أن الشدائد هي محك صدق الإيمان، والخطاب (٤) فيه عند جمهور المفسرين للكفار، والمنافقين؛ أي: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر، والنفاق ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، وقيل: الخطاب للمؤمنين، والمنافقين، والمعنى: أي: ما كان الله سبحانه وتعالى ليترك المؤمنين المخلصين على الحال التي كنتم عليها أيها الناس في غزوة أحد من اختلاط المنافقين بالمخلصين، وإظهارهم أنهم من أهل الإيمان ﴿حَتَّى يَمِيزَ﴾ ويفرق ﴿الْخَبِيثَ﴾، والمنافق ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾، والمؤمن ويظهر حال كل منهما بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة؛ لأن الشدائد هي التي يتميز قوي الإيمان من ضعيفه وتزيل الالتباس بين الصادقين، والمنافقين فمن كان مؤمنًا ثبت على إيمانه، وتصديق الرسول - ﷺ - ومن كان منافقًا ظهر نفاقه وكفره أو بالقرائن، فإن المؤمنين كانوا يفرحون بنصرة الإِسلام وقوته، والمنافقون كانوا يغتمون بذلك.
أمَّا تكليف ما لا مشقة فيه، كالصلاة، والصدقة، القليلة، وغيرهما، فيقبلها المنافق كما يقبلها صادق الإيمان لما فيها من حسن الأحدوثة، والتمتع بمزايا الإِسلام.
(١) مراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الشوكاني.
279
وفي الشدائد من الفوائد أشياء كثيرة:
منها: إتقاء المنافق إذا علم نفاقه، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن به، حين يراه يؤدي الواجبات الظاهرة، ويشارك الصادقين في سائر الأعمال، فإذا هو أفشاها عرف حاله، وحذره الصادقون.
ومنها: أن تَزوَرَ الجماعة حالها إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان، الذين لم تربهم الشدائد.
ومنها: أنها تدفع الغرور عن النفس إذ قد يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما في نفسه من ضعف في الاعتقاد والأخلاق حتى تمحصه الشدائد، وتبين له حقيقة أمره.
وقرأ الأخوان (١): حمزة والكسائي ﴿يميز﴾ من ميز، وباقي السبعة ﴿يَمِيزَ﴾ من ماز، وفي رواية عن ابن كثير ﴿يُمِيْزَ﴾ من أماز، والهمزة ليست للنقل كما أن التضعيف ليس للنقل، بل أفعل، وفعل بمعنى الثلاثي المجرد، كحزن وأحزن وقدر الله وقدَّر.
ولمَّا كان يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلةٍ لتمييز المؤمن الصادق من المنافق أن يطلع المؤمنين على الغيب، حتى يعرفوا حقائق أنفسهم، وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم، فيعرفوا أن فلانًا من أهل الجنة، وفلانًا من أهل النار، أجاب الله تعالى عن هذا فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لِيُطْلِعَكُمْ﴾ ويظهركم أيها الناس، وقيل: الخطاب فيه لكفار قريش فقط، ﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾، أي: على ما شأنه أن يغيب ويختفي عنكم حتى تميزوا بين الخبيث والطيب، فإن الله سبحانه وتعالى هو المستأثر بعلم الغيب لا يظهر علي غيبه أحدًا ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَجْتَبِي﴾، ويختار ﴿مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، ويريد إطلاعه على الغيب، فيطلعه على ما يشاء من بعض المغيبات كما وقع لنبينا
(١) البحر المحيط.
280
محمَّد - ﷺ - من تعيين كثيرٍ من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم من الله له، لا لكونه يعلم الغيب. وقيل (١) المعنى. وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي﴾ الخ هذا استدراكٌ على معنى الكلام، المتقدم؛ لأنه لما قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ توهم أنه لا يطلع أحدًا على غيبه لعموم الخطاب، فاستدراك بالرسل إزالةً لذلك الوهم، كأنه قال: إلا الرسل فإنه يطلعهم على الغيب.
والحاصل: أنه لم يكن (٢) من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب؛ إذ لو فعل ذلك.. لأخرج الإنسان من طبيعته، فإنه تعالى خلقه يحصل رغائبه، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبيّ، الذي تهدي إليه الفطرة، وترشد إليه النبوة.
ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، والتضحية بالنفس، وبذل المال في سبيل الحق، والخير، كما ابتلي المؤمنون في وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم، وابتلي الرماة منهم بالمخالفة، وإخلاء ظهور قومهم لعدوّهم وابتلوا بظهور العدو عليهم جزاء ما فعلوا من المخالفة، فظهر نفاق المنافقين، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالًا شديدًا، وثبت كملة المؤمنين، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير.
ولكن الله يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما في قلوب المنافقين من كفر ونفاق، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾.
وفي التعبير بالاجتباء إشارة إلى أنَّ الوقوف على أسرار الغيب منصبٌ جليلٌ تتقاصر عنه الهمم، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
281
وبعد أن رد الله على ما طعن به المنافقون في نبوة محمَّد - ﷺ - من وقوع الحوادث التي حصلت في أحد، وبين أن فيه كثيرًا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب، أمرهم بالإيمان به وبرسله فقال: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾؛ أي: إذا ثبت أنه تعالى يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على بعض المغيبات، ومنهم محمَّد - ﷺ - إذ ثبتت نبوته بإطلاع الله تعالى له على بعض المغيبات، وإخباره لكم بها في غير ما موطنٍ، فآمنوا بالله ورسله الذين ذكرهم الله في كتابه، وقص علينا قصصهم؛ لأنه هو المطلوب منكم، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه وتعالى، ومعنى الإيمان باللهِ: بأن تقدروه حق قدره، وتعلموا أنه وحده هو العالم بالغيوب، ومعنى الإيمان بالرسل: أن تنزلوهم منازلهم، بأن تعلموا أنهم عبادٌ مجتبون، لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء. قاله الزمخشري. وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعًا، مع أن سوق الكلام في الإيمان بالنبي - ﷺ - للإيماء إلى أن الإيمان به يقتضي الإيمان بهم؛ لأنه - ﷺ - مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء على صحة نبوته.
﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ بما جاؤوا به من أخبار الغيب ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ﴿فَلَكُمْ﴾ أيها المؤمنون بما ذكر ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وثواب جسيم، لا يستطاع الوصول إلى معرفة قدره.
وقيل أن ذكر القرآن الإيمان، إلا قرن به التقوى؛ كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثًّا على عمل البرّ، والرأفة بالفقراء والبائسين، وإشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بهما.
١٨٠ - وقوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ الموصول فيه فاعل على قراءة الياء التحتانية والمفعول الأول محذوف لدلالة يبخلون عليه، والمعنى: ولا يظنن الذين يبخلون بما أعطاهم الله من فضله، وعطائه، بخلهم إياه هو خيرًا لهم ﴿بَلْ هُوَ﴾؛ أي: بخلهم إياه ﴿شَرٌّ لَهُمْ﴾ وضررٌ عليهم؛ لأن أموالهم ستزول عنهم، ويبقى عليهم، وبال البخل، والمعنى: لا
282
يحسبن البخلاء أن جمعهم المال، وبخلهم بإنفاقه ينفعهم بل هو مضرةٌ عليهم في دينهم ودنياهم. وأما على قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية، فالفعل مسند إلى ضمير النبي - ﷺ - والمفعول الأول محذوف أيضًا، والمعنى: ولا تحسبن يا محمَّد بخل الذين يبخلون هو خيرًا لهم، بل هو شر، وضرر لهم.
وحاصل المعنى: ولا يظنن أحدٌ أن بخل الباخلين بما أعطاهم من فضله ونعمه هو خيرًا لهم؛ لأنهم مطالبون بشكران النعم، والبخل بها كفرانٌ، لا ينبغي أن يصدر من عاقل، وقال القرطبي: والبخل في اللغة: أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه، فأما من منع ما لا يجب عليه.. فليس ببخيل.
وقال المراغي: والمراد من البخل بالفضل البخل به في أداء الزكاة المفروضة، وفي الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد، ويهدد استقلالها، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزةً أو إنقاذ شخصٍ من مخالب الموت جوعًا.
ففي كل من هذه الأحوال يجب بذل المال؛ لأنه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس.
وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه، إذ أن الله أباح لنا الطيبات؛ لنستمتع بها، ولأن العقل قاضٍ بأن الله لا يكلف الناس، ببذل كل ما يكسبون، ويبقون عراةً جائعين، ومن ثم قال في حق المؤمنين المهتدين: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبًا في بذل المال بدون تحديد، ولا تعيين، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي في قلبه، وما تحدثه في النفس من بذل الواجب، والزيادة عليه إذا هو تذكر أن في ماله حقًّا للسائل والمحروم. وقرأ حمزة ﴿تحسبن﴾ بالتاء الفوقانية، وقرأ باقي السبعة بالياء كما مرّ. وقرأ الأعمش بإسقاط ﴿هو﴾ من قوله: ﴿هُوَ خَيْرًا﴾.
وقوله: ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾، أي: هو شر عظيم لهم، وقد نفى أوَّلًا أن يكون خيرًا، ثم أثبت كونه شرًّا؛ لأن المانع للحق إنما يمنعه؛ لأنه يحسب أن في
283
منعه خيرًا له لما في بقاء المال، في يده من الانتفاع به، في التمتع باللذات، وقضاء الحاجات، ودفع الغوائل، والآفات.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله - ﷺ - فقال: "إيّاكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور ففجروا". أخرجه أبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: مال رسول الله - ﷺ -: "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق"، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
وقوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ تفسير لقوله: ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾؛ أي: سيجعل ما بخلوا به من المال طوقًا في أعناقهم، يوم القيامة، ويلزمهم ذنبه، وعقابه، ولا يجدون إلى دفعه سبيلًا، أو المعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق.
وقال مجاهد: إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا من أموالهم يوم القيامة عقوبةً لهم، فلا يستطيعون ذلك، ويكون ذلك توبيخًا لهم على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنًا ميسورًا، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾.
وقال بعضهم: إن التطويق حقيقي وأنهم يطوقون بطوق يكون سببًا لتعذيبهم؛ فتصير تلك الأموال حيات تلتوي في أعناقهم، فقد روى البخاري، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "من آتاه الله مالًا.. فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع - أي: ثعبانًا عظيمًا - له زييبتان - نكتتان سوداوان فوق عيني الحية - فيأخد بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية".
وقيل: المراد البخل: بالعلم؛ وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت
284
محمَّد - ﷺ - فكان ذلك الكتمان بخلًا، فحينئذٍ يكون معنى سيطوقون أنَّ الله تعالى يجعل في رقابهم طوقًا من نار، قال - ﷺ -: "من سئل عن علم يعلمه، فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". والمعنى: أنهم عوقبوا في أفواههم، وألسنتهم بهذا اللجام؛ لأنهم لم ينطقوا بأفواههم، وألسنتهم بما يدل على الحق.
﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده، لا لأحد سواه ﴿مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، أي: جميع ما يتوارث به أهل السموات والأرض، بعضهم من بعض من مال أو غيره، كجاه، وعلم، وقوة، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد واحد، ولا يسلم التصرف فيه لأحد إلى أن يفنى الوارثون، والموروثون، ويبقى مالك الملك رب العالمين، فما لهؤلاء القوم البخلاء يبخلون بملكه عليه، ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته، وهو لله تعالى لا لهم، وإنما كان عندهم عاريةً مستردةً، والميراث في الأصل هو: ما يخرج من مالك إلى آخر، ولم يكن مملوكًا لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم أن الله تعالى هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته.
وفي الآية إيماء إلى أنَّ كل ما يعطاه الإنسان من مال، وجاه، وقوة، وعلم، فإنه عرض زائل، وصاحبه فان غير باق، فلا ينبغي أن يستبقي الفاني ما هو مثله في الفناء، بل عليه أن يضع الأشياء في مواضعها، التي تصلح لها، وبذا يكون خليفة الله في أرضه محسنًا للتصرف فيما استخلف فيه ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من البخل والسخاء ﴿خَبِيرٌ﴾ فيجازيكم عليه، أو فيجازيهم عليه، أي: والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، ولا ما تنطوي عليه جوانحكم، فيجازي كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله في تزكية نفسه، أو تدسيسها ونيته في فعله كما في الحديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ﴿يعملون﴾ بالياء على الغيبة جريًا على ﴿يَبْخَلُونَ﴾ و ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾، وقرأ الباقون بالتاء على الالتفات، فيكون ذلك خطابًا للباخلين.
285
الإعراب
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ فعل مضارع في محل الجزم ﴿بلا﴾ الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بـ ﴿نون﴾ التوكيد، و ﴿نون﴾ التوكيد حرف لا محل له من الإعراب مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنت يعود على محمَّد، أو على كل مخاطب، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول أول لـ ﴿تحسبن﴾. ﴿قُتِلُوا﴾ فعل مغير ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ـقتلوا﴾. ﴿أَمْوَاتًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿حسب﴾. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ ﴿بَلْ﴾ حرف عطف واضراب. ﴿أَحْيَاءٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم أحياء، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يرزقون﴾. وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون خبرًا ثانيًا لـ ﴿أحياء﴾ على قراءة الجمهور.
الثاني: أن يكون ظرفًا لـ ﴿إحياء﴾ لأن المعنى يحيون عند ربهم.
الثالث: أن يكون ظرفًا لـ ﴿يرزقون﴾، أي: يقع رزقهم في هذا المكان الشريف.
الرابع: أن يكون صفة لـ ﴿أحياء﴾ فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة.
الخامس: أن يكون حالًا من الضمير المستكن في ﴿أَحْيَاءٌ﴾، والمراد بالعندية المجاز عن قربهم بالتكرمة انتهى. ﴿يُرْزَقُونَ﴾ فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿أحياء﴾، ويجوز أن تكون حالًا من الضمير، في
(١) الجمل.
286
﴿أَحْيَاءٌ﴾، أي: يحيون مرزوقين.
﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
﴿فَرِحِينَ﴾ حال من الضمير في ﴿يُرْزَقُونَ﴾. وفي "الجمل" (١) قوله: ﴿فَرِحِينَ﴾ فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون حالًا من الضمير في ﴿أَحْيَاءٌ﴾.
الثاني: أن يكون حالًا من الضمير في الظرف.
الثالث: أن يكون حالًا من الضمير في ﴿يُرْزَقُونَ﴾.
الرابع: أنه منصوب على المدح.
الخامس: أنه صفة لـ ﴿أحياء﴾ وهذا يختص بقراءة ابن أبي عبلة. ﴿فَرِحِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرِحِينَ﴾. ﴿آتَاهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: آتاهموه؛ لأن أتى هنا بمعنى أعطى. ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه حال من ضمير المفعول الثاني المحذوف، والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير المفعول المحذوف.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ الواو عاطفة. ﴿يستبشرون﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على ﴿فَرِحِينَ﴾ على كونها حالًا من ضمير ﴿يُرْزَقُونَ﴾ لأن ﴿فَرِحِينَ﴾ اسم فاعل يشبه الفعل المضارع فيجوز عطف الفعل عليه. ﴿بِالَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يستبشرون﴾ ﴿لَمْ يَلْحَقُوا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿بِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿يَلْحَقُوا﴾ تقديره: حال كونهم
(١) الجمل.
287
متخلفين عنهم في الزمان أو متعلق بـ ﴿يلحقوا﴾. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره أنه. ﴿لا﴾ نافية تعمل عمل ليس. ﴿خَوْفٌ﴾ اسمها مرفوع. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾، تقديره: أنه لا خوف موجودًا عليهم، وجملة لا من اسمها، وخبرها في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ المخففة، وجملة ﴿أن﴾ المخففة في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من الموصول في قوله ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ بدل اشتمال تقديره، يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بعدم خوفهم. ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الواو عاطفة. ﴿لا﴾ زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿يَحْزَنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لا﴾ الأولى على كونها خبرًا؛ لـ ﴿أن﴾ المخففة، والتقدير: يستبشرون بعدم وجود خوفهم، وبعدم حزنهم.
﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)﴾.
﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة مكررة لتأكيد الجملة السابقة. ﴿بِنِعْمَةٍ﴾ جار، ومجرور متعلق بـ ﴿يستبشرون﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿نعمة﴾ تقديره: بنعمة كائنة من الله. ﴿وَفَضْلٍ﴾ معطوف على ﴿نعمة﴾. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ الواو عاطفة. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿اللَّهِ﴾ اسمها. ﴿لَا يُضِيعُ﴾ ﴿لا﴾ نافية. ﴿يضيع﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور على كونه معطوفًا على ﴿نعمة﴾ تقديره: يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وبعدم إضاعة الله أجر المؤمنين.
﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل البحر صفة لـ ﴿المؤمنين﴾، أو في محل النصب على إضمار أعني، أو في محل الرفع على إضمارهم، أو على كونه مبتدأ خبره جملة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾. ﴿اسْتَجَابُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة
288
الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿استجابوا﴾. ﴿وَالرَّسُولِ﴾ معطوف على الجلالة. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور متعلق باستجابوا. ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد إصابة القرح إياهم. ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا. ﴿أَحْسَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿أَحْسَنُوا﴾. ﴿وَاتَّقَوْا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿أَحْسَنُوا﴾. ﴿أَجْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة له، والجملة من المبتدأ المؤخر، والخبر المقدم، مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر لقوله ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا﴾ إن قلنا إنه مبتدأ.
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول لفعل محذوف، تقديره: أمدح الذين قال لهم الناس، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمُ﴾ متعلق به. ﴿النَّاسُ﴾ فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير لهم. ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾ وإن شئت قلت ﴿إنَّ﴾ حرف نصب. ﴿النَّاسَ﴾ اسمها. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جَمَعُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول لـ ﴿قال﴾. ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة تفريعية. ﴿اخشوهم﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جيملة ﴿قَدْ جَمَعُوا﴾. ﴿فَزَادَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿زادهم﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير مستتر فيه، تقديره: هو يعود على القول المذكور ﴿إِيمَانًا﴾ مفعول ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿وَقَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾. ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ
289
مؤخر. ﴿حَسْبُنَا﴾ خبر مقدم، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ والمخصوص بالمدح محذوف وجوبًا تقديره: هو يعود على ﴿اللَّهُ﴾.
﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.
﴿فَانْقَلَبُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف تقديره: وخرجوا مع النبي - ﷺ - إلى سوق بدر، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ ﴿انقلبوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. ﴿بِنِعْمَةٍ﴾ جار ومجرور حال من ﴿واو﴾ ﴿انقلبوا﴾ تقديره حالة كونهم ملتبسين بنعمة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿نعمة﴾. ﴿وَفَضْلٍ﴾ معطوف على ﴿نعمة﴾. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ جازم وفعل، ومفعول، وفاعل والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿انقلبوا﴾ ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ الواو عاطفة. ﴿اتبعوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ أو في محل النصب حال من فاعل ﴿انقلبوا﴾. ﴿رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿ذُو فَضْلٍ﴾ خبر ومضاف إليه. ﴿عَظِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿فضل﴾، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ونفي بمعنى ما النافية، وإلا المثبتة حرف لا محل له من الإعراب. ﴿ذَلِكُمُ﴾ مبتدأ. ﴿الشَّيْطَانُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة. ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ فعل ومفعول ثان، ومضاف إليه، وفاعله ضمير مستتر يعود على اسم الإشارة، أو على الشيطان، والمفعول الأول محذوف، تقديره: يخوفكم أولياءه؛ أي: أصحابه الكفار، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من ﴿الشيطان﴾، والعامل فيه اسم الإشارة. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن ذلك المخوف هو الشيطان، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول: ﴿لا تخافوهم﴾ ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَخَافُوهُمْ﴾ فعل وفاعل
290
ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَخَافُونِ﴾ الواو عاطفة. ﴿خافوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل. و ﴿النون﴾ للوقاية، ﴿وياء﴾ المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به. وفي "الفتوحات": هذهِ الياء التي بعد النون اختلف القراء السبعة في إثباتها لفظًا، واتفقوا على حذفها في الرسم؛ لأنها من ياءات الزوائد، وكلها لا ترسم، وجملتها في القرآن اثنان وستون اهـ شيخنا. والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فلا تخافوا﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبر كان، وجواب ﴿إن﴾ محذوف معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم مؤمنين، فخافون، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)﴾.
﴿وَلَا﴾ الواو استئنافية. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَحْزُنْكَ﴾ فعل، ومفعول به. ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يُسَارِعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿فِي الْكُفْرِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يسارعون﴾. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب. و ﴿الهاء﴾ اسمها. ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول. ﴿شَيْئًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، أي: ضررًا شيئًا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَّا يَجْعَلَ﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَجْعَلَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ ﴿جعل﴾. ﴿حَظًّا﴾ مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾. ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ صفة لـ ﴿حظًّا﴾ أو متعلق بـ ﴿جعل﴾، وجملة ﴿جعل﴾ صلة أن المصدرية وأن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يريد﴾ تقديره: يريد الله عدم جعل حَظّهم في
291
الآخرة. ﴿وَلَهُمْ﴾ الواو استئنافية. ﴿وَلَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة له، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها. ﴿اشْتَرَوُا الْكُفْرَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِالْإِيمَانِ﴾ متعلق بـ ﴿اشتروا﴾. ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول به. ﴿شَيْئًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿وَلَهُمْ﴾ الواو استئنافية. ﴿لهم﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له، والجملة مستأنفة.
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾، مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، و ﴿نون﴾ التوكيد حرف لا محل له، مبني على الفتح، ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَنَّمَا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿ما﴾ مصدرية، فهي كلمة مستقلة، وكان المناسب أن تكتب مفصولة من ﴿أن﴾ لكن طريقة المصحف كتابتها موصولة. ﴿نُمْلِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه اسم ﴿أن﴾ تقديره أن إملاءنا. ﴿خَيْرٌ﴾ خبر ﴿أن﴾. ﴿لِأَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بخير، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي ﴿حسب﴾، تقديره: ولا يحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم، أو ساد مسد المفعول الثاني على قراءة التاء في ﴿تحسبن﴾، والمفعول الأول ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والفاعل ضمير المخاطب، وهو النبي - ﷺ - أو غيره، والتقدير: ولا تحسبن يا محمَّد الذين كفروا خيرية إملائنا لهم. ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ ﴿إن﴾ أداة حصر. ﴿نُمْلِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة
292
استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: ما بالهم يحسبون الإملاء خيرًا، فقيل: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾. ﴿لِيَزْدَادُوا﴾ ﴿اللام﴾ لام كي. ﴿يزدادوا﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي والواو فاعل. ﴿إِثْمًا﴾ مفعول به والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المضمرة. وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: إنما نملي لهم لإرادة ازديادهم إثمًا، الجار والمجرور متعلق بنملي، ﴿وَلَهُمْ﴾ الواو استئنافية. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿مُهِينٌ﴾ صفة له والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.
﴿مَا﴾ نافية. ﴿كَانَ اللَّهُ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿لِيَذَرَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وجحود. ﴿يذر﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، تقديره: ما كان الله ليترك المؤمنين على ما أنتم عليه، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة، وإنما أولنا كذلك، لأن ﴿يذر﴾ فعل جامد، لا مصدر له فأخذنا مصدر ما هو بمعناه، وهو ترك. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه ﴿اللام﴾: تسمى لام الجحود، وينصب المضارع بعدها بإضمار أن، ولا يجوز إظهارها، والفرق بينها وبين لام كي أن هذه على المشهور شرطها أن تكون بعد كون منفي بما، إن كان ماضيًا، أو بلم إن كان مضارعًا، وعرفها بعضهم في بيت واحد فقال:
وَكُلِّ لاَمٍ قَبْلَهُ مَا كَانَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجُحُوْدِ بَانَا
وفي خبر ﴿كَانَ﴾ في هذا الموضع، وما أشبهه قولان، أحدهما: وهو قول البصريين، أنه محذوف، وأن اللام مقوية لتعدية ذلك الخبر المقدر لضعفه، والتقدير: ما كان الله مريدًا، لأن ﴿يذر﴾، فأن يذر، هو مفعول مريدًا، والتقدير: ما كان الله مريدًا ترك المؤمنين على ما أنتم عليه. والثاني: قول الكوفيين أن ﴿اللام﴾ زائدة لتأكيد النفي، وأن الفعل بعدها هو خبر ﴿كاَنَ﴾ و ﴿اللام﴾ عندهم هي العاملة النصب في الفعل بنفسها، لا بإضمار أن، والتقدير: عندهم: ما كان
293
الله يذر المؤمنين. وضعف أبو البقاء مذهب الكوفيين؛ لأن ما بعدها قد انتصب، فإن كان النصب باللام نفسها فليست زائدة، وإن كان النصب بأن فسد المعنى؛ لأن أن وما في حيزها في تأويل مصدر، والخبر في باب كان هو الاسم في المعنى، فيلزم أن يكون المصدر الذي هو معنى من المعاني صادقًا على اسمها، وهو محال، انتهت بتصرف وزيادة. وقد أشبعنا الكلام في لام الجحود على كلا المذهبين بما لا مزيد عليه في كتابنا "الخريدة البهية في إعراب أمثلة الآجرومية" فراجعه.
﴿عَلَى مَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يذر﴾ ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿عَلَيْهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿عليه﴾. ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ ﴿حَتَّى﴾ حرف جر، وغاية. ﴿يَمِيزَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حتى﴾ بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْخَبِيثَ﴾ مفعول به. ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ متعلق بـ ﴿يميز﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حتى﴾ بمعنى إلى تقديره: إلى ميزه أو تمييزه الخبيث من الطيب، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يذر﴾.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿كَانَ اللَّهُ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿لِيُطْلِعَكُمْ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وجحود. ﴿يطلعكم﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾ متعلق بـ ﴿يطلع﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وما كان الله لإطلاعكم الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا لـ ﴿ـكان﴾ تقديره: وما كان الله مريدًا لإطلاعكم على الغيب، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ الواو عاطفة. ﴿لكن﴾ حرف استدراك على ما فهم من قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ من أنه لا يطلع أحدًا على الغيب حتى الأنبياء؛ لعموم الخطاب فيه. ولفظ الجلالة اسمها. ﴿يَجْتَبِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ﴿مِنْ رُسُلِهِ﴾ جار
294
ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يجتبى﴾. ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به ﴿يَشَاءُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء اجتباءه، وجملة ﴿يَجْتَبِي﴾ في محل الرفع خبر لكن، وجملة لكن معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
﴿فَآمِنُوا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن الله لا يطلع على غيبه إلا من اجتبى من رسله، وأردتم بيان ما الأصلح لكم؛ فأقول ﴿أمنوا﴾. ﴿أمنوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق ﴿بأمنوا﴾. ﴿وَرُسُلِهِ﴾ معطوف على الجلالة. ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ الواو استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿تُؤْمِنُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿ـإِنْ﴾. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معطوف عليه. ﴿فَلَكُمْ﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. ﴿لكم﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿أَجْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم بأن على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾.
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ الواو استئنافية. ﴿لا﴾ ناهية. ﴿يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَبْخَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يبخلون﴾. ﴿آتَاهُمُ اللَّهُ﴾ فعل، ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه؛ لأن آتى بمعنى: أعطى يتعدى إلى مفعولين. ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف، وجملة ﴿آتى﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط الضمير المحذوف، ﴿هُوَ خَيْرًا﴾ هو ضمير فصل. ﴿خَيْرًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿حسب﴾؛ والمفعول الأول محذوف تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من
295
فضله بخلهم هو خيرًا لهم. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خيرًا﴾ هذا على قراءة الياء، وأما على قراءة التاء: فالفاعل ضمير المخاطب يعود على النبي - ﷺ - ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول أول، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: ولا تحسبن يا محمَّد بخل ﴿الَّذِينَ﴾ يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم.
فائدة: وكون ﴿هو﴾ هنا ضمير فصل متعين؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون مبتدأ، أو بدلًا، أو توكيدًا، والأول منتف لنصب ما بعده، وهو خيرًا، وكذا الثاني؛ لأنه كان يلزم أن يوافق ما قبله في الإعراب، فكان ينبغي أن يقال: إياه لا هو، وكذا الثالث. اهـ "سمين" ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ ﴿بَلْ﴾ حرف ابتداء وإضراب، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ. ﴿شَرٌّ﴾ خبر. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به.
﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ ﴿ما﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿طوق﴾. ﴿بَخِلُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾ متعلق، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يطوقون﴾ ﴿وَلِلَّهِ﴾ الواو استئنافية. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو استئنافية. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خبير﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما تعملونه. ﴿خَبِيرٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ من باب استفعل من الاستبشار، والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة، وأصله: من البشرة؛ لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه، وقال ابن عطية: وليس استفعل هنا بمعنى طلب البشارة، وإنما هو بمعنى الفعل
296
المجرد، كقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ بمعنى غني، ويقال: بشر الرجل بكسر الشين. فيكون استبشر بمعناه، ولا يتعين هذا المعنى بل يجوز أن يكون مطاوعًا لأفعل، وهو الأظهر، أي: أبشره الله فاستبشر، كقولهم: فأكانه فاستكان، وأراحه فاستراح، وإنما كان هذا الأظهر هنا؛ لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلًا عن غيره، فحصلت له البشرى بإبشار الله له بذلك، ولا يلزم هذا المعنى. إذا كان بمعنى المجرد؛ لأنه لا يدل على المطاوعة ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ ﴿استجاب﴾ من باب استفعل الـ ﴿سين﴾ و ﴿التاء﴾ فيه زائدتان، فهو بمعنى ﴿أجابوا﴾ ﴿القرح﴾ بفتح ﴿الفاء﴾، وسكون ﴿العين﴾ مصدر قرح من باب فتح يقال: قرحه إذا جرحه، قرحًا يجمع على قروح، والقرح أثر السلاح بالبدن، والقرحة بضم أوله، وفتحه مع سكون ثانيه فيهما الجراحة المتقادمة التي اجتمع فيها القيح.
﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ حسب في الأصل مصدر حسبه حسبًا إذا كفاه. فهو مصدر أريد به اسم الفاعل، فهو بمعنى المحسب؛ أي: الكافي، وقال في "الكشاف" والدليل على أنه بمعنى المحسب أنه يوصف به، فتقول: مررت برجل حسبك من رجل، أي: كافيك منه، فتصف به النكرة إذ إضافته غيرُ محضة؛ لكونه بمعنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل، قال الشاعر:
فَتَمْلأُ بَيْتَنَا أُقُطًا وَسَمْنَا وَحَسْبُكَ مِنْ غِنَىً شِبَعٌ وَرِيُّ
والوكيل فعيل، بمعنى مفعول؛ أي: الموكول إليه الأمور؛ أي: نعم الموكول إليه أمورنا، أو الكافي، أو الكافل.
﴿حَظًّا﴾ ﴿الحظ﴾ النصيب: ويستعمل في الخير، والشر، وإذا أطلق يكون للخير ﴿نُمْلِي﴾ الإملاء التأخير، والإمهال. قال القرطبي: والمراد بالإملاء هنا طول العمر، ورغد العيش. وفي "المصباح" أمليت له في الأمر، أخرت، وأمليت للبعير في القيد، أرخيت له، ووسعت ﴿لِيَذَرَ المؤمنينَ﴾ ﴿يذر﴾ فعل جامد، لا يتصرف كيدع استغناء عنه بتصرف مرادفه، وهو يترك، ولم يستعمل منه ماض استغناء عنه بترك، وأصل يذر: يوذر، فحذفت الواو منه من غير موجب تصريفي،
297
تشبيهًا له بيدع إذ لم تقع الواو في ﴿يذر﴾ بين ياء وكسرة، ولا ما هو في تقدير الكسرة؛ إذ الواو فيه، وقعت بين ياء وفتحة أصلية، بخلاف يدع، فإن الأصل فيه يودع، فحذفت الواو، لوقوعها بين الياء، وبين ما هو في تقدير الكسرة، إذ أصله يودع مثل يوعد، وإنما فتحت الدال منه؛ لأن لامه حرف حلقي، فيفتح له ما قبله، ومثله يطأ، ويسع، ويقع، ونحو ذلك.
﴿حَتَّى يَمِيزَ﴾ يقرأ بالتخفيف من ماز يميز، من باب باع، وبالتشديد من ميز من باب فعل، وهما بمعنى واحد، بمعنى فصل الشيء من الشيء، وقيل: لا يكون ماز إلا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد، فيتميز على معنى يعزل، ذكره أبو حيان، وليس التشديد لتعدي الفعل مثل فرح، وفرحته؛ لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي﴾ ﴿اجتبى﴾ من باب افتعل من جبوت الماء أو المال وجبيته، وهما لغتان؛ فـ ﴿الياء﴾ في ﴿يَجْتَبِي﴾ تحتمل أن تكون على أصلها، وأن تكون منقلبة من واوٍ لانكسار ما قبلها. ﴿مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ﴾ أصل ﴿ميراث﴾ موراث فقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، والميراث مصدر ميمي كالميعاد. قال ابن الأنباري: يقال ورث فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركًا فيه، وقال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ لأنه انفرد بذلك بعد أن كان داود مشاركًا له فيه.
البلاغة
قال أبو حيان (١): وقد تضمنت هذه الآيات فنونًا من البلاغة والبديع:
منها: الاختصاص في قوله: ﴿أجر المؤمنين﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ و ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ وفي اسمه في عدة مواضع، و ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وفي ذكر الإملاء.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ و ﴿لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.
(١) البحر المحيط.
298
ومنها: الاستعارة في ﴿يُسَارِعُونَ﴾ و ﴿اشْتَرَوُا﴾ و ﴿نُمْلِي﴾، و ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾، و ﴿الخبيث﴾ و ﴿الطيب﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿فَآمِنُوا﴾ ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿أنتم﴾ إن كان خطابًا للمؤمنين، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لقال على ما هم عليه، وإن كان خطابًا لغيرهم. كان من تلوين الخطاب، وفي ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فيمن قرأ بتاء الخطاب.
ومنها: الحذف في مواضع انتهى.
قوله (١): ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ تعليل للنهي، وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم؛ أي: لن يضروا بفعلهم ذلك أولياء الله ألبتة، وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم، وللإيذانِ بأن مضارتَهم بمنزلة مضارته تعالى، وفيه مزيد مبالغة في التسلية.
ووصف تعالى (٢) عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث بـ ﴿عظيم﴾، و ﴿أليم﴾ و ﴿مهين﴾، ولكل من هذه الصفات، مناسبة تقتضي ختم الآية بها:
أما الأولى: فإن المسارعة في الشيء، والمبادرة في تحصيله، والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه، وأنه من النفاسة، والعظم، بحيث يتسابق فيه، فختمت الآية بعظم الثواب، وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر، إشعارًا بخساسة ما سابقوا فيه.
وأما الثانية: فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان، ومن عادة المشتري الاغتباطُ بما اشتراه، والسرورُ به عند كون الصفقة رابحةً، وتألمه عند كونها خاسرة فناسبها وصف العذاب بالأليم.
وأما الثالثة: فإنه ذكر الإملاء، وهو الامتاع بالمال، والبنين، والصحة،
(١) الجمل.
(٢) الجمل والبحر المحيط.
299
وكان هذا الإمتاع سببًا للتعزز، والتمتع، والاستطالة، فختمت الآية بإهانة العذاب لهم، وأنّ ذلك الإملاءَ المنتج عنه في الدنيا التعزز، والاستطالة، مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
300
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة معركة أحد، وما فيها من الأحداث العجيبة، وتناولت تلك الآيات ضمن ما تناولت مكائدَ المنافقين، ودسائسهم، وما انطوت عليه نفوسهم من الكيد للإسلام، والغدر بالمسلمين، وتثبيط عزائمهم عن الجهاد في سبيل الله.. أعقبَ سبحانه وتعالى ذلك بذكر دسائس اليهود، وأساليبهم الخبيثة في مُحاربة الدعوة الإِسلامية، بطريق التشكيك، والبلبلة، والكيد، والدس ليحذر المؤمنين من خطرهم كما حذرهم من المنافقين، والآيات الكريمة، تتحدث عن اليهود، وموقفهم المخزي من الذات الإلهية، واتهامهم لله عَزَّ وَجَلَّ بأشنع الاتهامات بالبخل والفقر، ثم نقضهم للعهود، وقتلهم
301
للأنبياء، وخيانتهم الأمانة التي حملهم الله تعالى إياها إلى آخر ما هنالك من جرائمَ وشنائعَ اتصف بها هذا الجنسُ الملعونُ.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...﴾ الآيات، مناسبتُها (١) لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما سلى نبيه - ﷺ - فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرًا من الرسل قبلك، قد كذبوا كما كذبت، ولاَقُوا من أقوامهم من الشدائد مثلَ ما لاقيتَ بل أشد مما لاقيت، فقد قتلوا كثيرًا منهم كيحيى، وزكرياء عليهما السلام.. زاده هنا تسلية، وتعزية أخرى، فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب، فلا تضجَرْ ولا تحزَن على ما تَرى منهم، وأنهم سيجازون على أعمالهم في دار الجزاء، كما تجازى، وحسبك ما تصيب من حسن الجزاء، وحسبهم ما أصيبوا به، وما يُصابون به من الجزاء في الدنيا، وسيوفون الجزاء كاملًا يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...﴾ الآية، مناسبتها (٢) لما قبلها أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن اليهود شبهًا، ومطاعنَ في نبوة محمَّد - ﷺ - وأجاب عنها بما علمتَ فيما سلف.. أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم، وغريب أمرهم، وأنه لا يليق بهم أن يطعنوا في نبوته، ولا أن يوجهوا شبهًا لدينه ذاك أن اليهود، والنصارى، أمروا بشرح ما في التوراة، والإنجيل، وبيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد - ﷺ - وصدق رسالته، فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن، والشبه، وكانوا أجدر الناس بدفعها، وأحقهم بتأييده، والذود عن دينه لما في كتابيهما من البشارة به، وتوكيد دعوته فالعقل قاض بأن يظاهروه ودينهم حاكم بأن يؤيدوه، ومن العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل والنقل وراءهم ظهريًّا، وهل مثل هؤلاء يجدي معهم الحجاج والجدال، أو تقنعهم قوة الدليل والحجة.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
302
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "دخل أبو بكر بيت المدراس، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص فقال له: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيًّا عنا.. ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، فغضب أبو بكر فضرب وجهه، فذهب فنحاص إلى رسول الله - ﷺ - فقال: "يا محمَّد انظر ما صنع صاحبك بي فقال: "يا أبا بكر ما حملك على ما صنعت"؟ قال يا رسول الله، قال قولًا عظيمًا، يزعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء فجحد فنحاص فأنزل الله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتت اليهود النبي - ﷺ - حين أنزل الله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ فقالوا: يا محمَّد افتقر ربك، يسأل عبادهُ، فأنزل الله ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا...﴾ الآية.
قوله تعالى (٢): ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا...﴾ الآيةَ، روى ابن أبي حاتم، وابن المنذر بسند حسن، عن ابن عباس، أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر، وفنحاص من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾.
وأخرج أبو داود (٣) رحمه الله (ج ٣ ص ١١٤) بسنده إلى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه - وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم - وكان كعب بن الأشرف يهجو النبي - ﷺ - ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي - ﷺ - حين قَدِمَ المدينةَ، وأهلها أخلاط منهم المسلمون، والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود، وكانوا يؤذون النبي - ﷺ - وأصحابه، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه - ﷺ -
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
(٣) الصحيح المسند.
303
بالصبر، والعفو، ففيهم أنزل الله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ...﴾ الآية. فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أَذَى النبي - ﷺ -.. أمر النبي - ﷺ - سَعْدَ بن معاذ أن يبعث رَهْطًا يقتلونه، فبعث محمدَ بن مسلمة، وذَكَر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت يهود، والمشركون، فغدوا على النبيِّ - ﷺ - فقالوا: طرق صاحبنا، فقتل، فذكر لهم النبي - ﷺ - الذي كان يقول، ودعاهم النبي - ﷺ - إلى أن يكتب بينه، وبينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي - ﷺ - بينه وبينهم، وبين المسلمين عامةً صحيفة. الحديث.
وقال المنذري (١): قوله عن أبيه فيه نظر، فإن أباه عبد الله بن كعب ليست له صحبة، ولا هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، ويكون الحديث على هذا مرسلًا، ويحتمل أن يكون أراد بأبيه جده، وهو كعب بن مالك، فيكون الحديث على هذا مسندًا، إذ قد سمع عبد الرحمن من جده كعب بن مالك، وكعب: هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وقد وَقَع مثل هذا في الأسانيد في غير موضع اهـ من "عون المعبود" بتصرف.
قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا...﴾ الآية. سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجالًا من المنافقين على عهد الرسول - ﷺ - كان إذا خرج رسول الله - ﷺ - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خِلافَ رسول الله - ﷺ - وإذا قدم رسول الله - ﷺ - اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ الحديث، أخرجه مسلم أيضًا.
ولها أيضًا سبب آخر، وهو ما أخرجه البخاري عن ابن أبي مليكة، أن علقمة بن وقاص أخبره، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل
(١) عون المعبود.
304
له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا. لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لك ولهذه الآية، إنما دعا النبي - ﷺ - يهود، وسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾.
ويُمكن الجمعُ بين الحديثين بأن تكون الآية نزلَتْ في الفريقين معًا، قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح" ولو رجح حديث أبي سعيد، لكان أولى، لأن حديث ابن عباس مما أنتقد على الشيخين، كما في مقدمة "الفتح".
وأخرج (١) عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج، وزيدَ بن ثابت كانا عند مروان، فقال مروان: يا رافع في أيِّ شيء نزلَتْ هذه الآية: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ قال رافع: أنزلت في أناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي - ﷺ - اعتذروا، وقالوا: ما حَبَسَنا عنكم إلا شغل، فلوددنا أنا كنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكان مروان أنكر ذلك، فجَزِعَ رافع من ذلك، وقال لزيد بن ثابت: أنشدك بالله هل تعلم ما أقول؟ قال: نعم، قال الحافظ ابن حجر: يجمع بين هذا، وبين قول ابن عباس بأَنَّه يمكن أن تكون الآية نزلت في الفريقين معًا. قال: وحَكَى الفراء أنها نزلت في قول اليهود نحن أهلُ الكتاب الأول، والصلاة، والطاعة، ومع ذلك لا يقرون بمحمد، وروى ابن أبي حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحوَ ذلك، ورجحه ابن جرير، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك. انتهى.
التفسير وأوجه القراءة
١٨١ - وعزتي، وجلالي ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ﴾ وعلم، وأحصى ﴿قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ وهو فنحاص بن عازوراء، كما قاله ابن عباس، والسدي أو حيي بن أخطب، كما قاله
(١) لباب النقول.
305
قتادة، أو كعبُ بن الأشرف، كما نقله ابن عساكر ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا عما قالوا ﴿فَقِيرٌ﴾؛ أي: محتاج إلينا يطلب منا القرض على لسان محمَّد ﴿وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ لا نحتاج إلى قرضه، قالوا: هذه المقالة تمويهًا على ضعفائهم؛ لا أنهم يعتقدون ذلك؛ لأنهم أهل الكتاب، بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمَّد، فهو فقير، ليشككوا على إخوانهم في دين الإِسلام، والمقصود من هذا تهديد القائلين ما ذكر، وإعلامهم أنهم لا يفوتهم من جزائه شيء ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ من هذه المقالة الشنيعة في صحائف (١) الملائكة ليقرأوا ذلك يومَ القيامة، أو سنحفظه، ونثبته في علمنا، لا ننساه ولا نهمله، أو المراد: سنكتب عنهم هذا الجهلَ في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدةَ جهلهم وطعنهم، في نبوة محمَّد - ﷺ - بكل ما قدروا عليه، وقيل: إن معنى سنكتب: سنوجب عليهم في الآخرة جزاءَ ما قالوه في الدنيا ﴿و﴾ نكتب ﴿قَتْلَهُمُ﴾؛ أي: قتل آبائهم ﴿الْأَنْبِيَاءَ﴾، وإنما نُسِبَ القتل إليهم مع أنه لم يقع منهم، ووعدوا العذابَ عليه لرضاهم بصنع آبائهم، والراضي بشيء، ينسب إليه ذلك الشيء، ويعاقب عليه إن كان شرًّا.
وإنما (٢) جعل ذلك القول قرينًا لقتل الأنبياء تنبيهًا على أنه من العظَم، والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ حتى في اعتقادهم كما في نفس الأمر، فكانوا يعتقدون أن قتلهم لا يجوز، ولا يحل، وحينئذ فيناسب شن الغارة عليهم؛ أي: نكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياءَ بغير جرم، أو المعنى: سنحفظ عن الفريقين معًا أقوالهم، وأفعالهم ﴿وَنَقُولُ﴾ معطوف على ﴿سنكتب﴾ أي: نقول لهم عند الموت، أو عند الحشر، أو عند قراءة الكتاب، أو عند الإلقاء في النار؛ أي: ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم، ويحتمل أن يكون هذا القول كنايةً عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: باشروا وادخلوا العذابَ المحرق البالغ النهاية في
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
306
الحرق، والحريق (١) المحرق فهو فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، وقيل: الحريق طبقة من طباق جهنم، وقيل: الحريقُ الملتهبُ من النار، والنار تشمل الملتهبة، وغير الملتهبةِ، والملتهبة: أشدها. وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة.
وقرأ الجمهور: ﴿سَنَكْتُبُ﴾ ﴿وَقَتْلَهُمُ﴾ بالنصب و ﴿نقول﴾ بنون المتكلم المعظم، أو تكون للملائكة، وقرأ الحسن، والأعرج، ﴿سيكتب﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ حمزة ﴿سيكتب﴾ بالياء مبنيًّا للمفعول، ﴿وقتلهم﴾ بالرفع عطفًا على ﴿ما﴾ إذ هي مرفوعة بـ ﴿سيكتب﴾ و ﴿يقول﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ طلحة بن مصرف ﴿سنكتب ما يقولون﴾. وحكى الداني عنه ﴿ستكتب ما قالوا﴾ بتاء مضمومة على معنى مقالتهم. وقرأ ابن مسعود ﴿ويقال ذوقوا﴾ ونقلوا عن أبي معاذ النحوي أن في حرف ابن مسعود ﴿سنكتب ما يقولون، ونقول: لهم ذوقوا﴾
١٨٢ - ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب المحرق الذي تذوقون حَرارَتَهُ ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: بسبب ما اقترفتموه، وعملتموه في الدنيا من الأفعال القبيحة، والأقوال الشنيعة كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر، وفنون الفسق، والعصيان ﴿و﴾ بسبب ﴿أن الله ليس بظلام للعبيد﴾؛ أي: بذي ظلم لعباده، فيعذبهم بغير ذنب؛ أي: إن ذلك العذاب الذي أصابكم بسبب عملكم، وبسبب كونه تعالى عادلًا في حكمه، وفعله لا يجور، ولا يظلم، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب، ولا يجعل المجرمين كالمتقين، والكافرين كالمؤمنين، وإنما أضاف العمل إلى الأيدي؛ لأن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد، وليفيدَ أن ما عذبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة، لا أنهم أمروا به، ولم يباشروه.
١٨٣ - والخلاصة (٢): أن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشيء في غير موضعه، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثيرَ الظلم مبالغًا فيه ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ إما منصوب على الذم، أو مجرور على أنه نعت ﴿للذين﴾
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
307
قبله، أي: لقد سمع قول الذين قالوا ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَهِدَ إِلَيْنَا﴾؛ أي: أمرنا في التوراة وأوصانا ﴿أَلَّا نُؤْمِنَ﴾؛ أي: بأن لا نصدق ﴿لِرَسُولٍ﴾؛ أي: رسول كان في دعواه الرسالة ﴿حَتَّى يَأتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأكُلُهُ النَّارُ﴾؛ أي: حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل، وهي أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية، فتأكله، أي: تحرقه، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من أعمال البر من نسك، وصدقة، وذبح، وكل عمل صالح. وقرأ عيسى بن عمر ﴿بقربان﴾ بضم الراء قال ابن عطية: إتباعًا لضمة القاف، وليس بلغة، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين.
وكانت (١) القرابين، والغنائم لا تحل لبني إسرائيل، وكانوا إذا قربوا قربانًا، أو غنموا غنيمة جمعوا ذلك، وجاءت نار بيضاء من السماء، لا دخان لها، ولها دوي فتأكل ذلك القربان، أو الغنيمة، وتحرقه فيكون ذلك دليلًا، وعلامة على القبول، وإذا لم يقبل بقي على حاله، ولم تنزل نار.
والمعنى: لن نؤمن لك يا محمَّد حتى تأتينا بنار تأكل القربان، كما كانت في زمن الأنبياء الأول، فإن جئتنا بها صدقناك في رسالتك.
قال ابن عباس (٢): نزلت هذه الآية في حق كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذ، وزيد بن التابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحييّ بن أخطب، وغيرهم أتوا رسول الله - ﷺ - فقالوا يا محمَّد: تزعم أنك رسول الله، وأنه تعالى أنزل عليك الكتاب، وقد عهد الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون لها دوي خفيف تنزل من السماء، فإن جئتنا بهذا صدقناك فنزلت الآية، لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزةً فهوَ وسائر المعجزات سواء، وما مقصدهم من تلك المفترَياتِ إلا عدمَ الإيمان برسول الله - ﷺ -؛ لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله:
(١) الخازن.
(٢) المراح.
308
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد موبخًا لهم، ومكذبًا ﴿قَدْ جَاءَكُمْ﴾ وأتاكم يا معشر اليهود ﴿رُسُلٌ﴾ كثير ﴿مِنْ قَبْلِي﴾ كزكريا، ويحيى، وغيرهما ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالعجزات الواضحة الدالة على صدقهم، وبكل ما تقترحونه منهم ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾؛ أي: وبالقربان الذي تأكله النار ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في مقالتكم إنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه، فإن زكريا ويحيى، وعيسى، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام قد جاؤوكم بما قتلم في معجزات أخرَ، فما بالكم لم تؤمنوا بهم بل اجترأتم على قتلهم، وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد - وبذلك وصفوا في التوراة - قساة القلوب لا تفقهون الحق، ولا تذعنون له، وإنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادًا، بل تعنتًا وعنادًا.
وقد نسب هذا الفعل إلى ما كان في عمر النبي - ﷺ - وقد وقع من أسلافهم؛ لأنهم راضون بما فعلوه، معتقدون أنهم على حق في ذلك، والأمة في أخلاقها العامة، وعاداتها كالشخص الواحد، وقد كان هذا معروفًا عند العرب، وغيرهم، يلصقون جريمةَ الشخص بقبيلته، ويؤاخذونها بها.
والخلاصة: أن أسلافكم كانوا متعنتين، وما أنتم إلا كأسلافكم، فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان، إذ لا فائدة منه.
١٨٤ - ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يا محمَّد في أصل النبوة والشريعة بعد أن جئتَهم بالبينات الساطعة، والمعجزات الواضحة، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل مع استنارة الحجة، والدليل ﴿فـ﴾ تسل يا محمَّد على تكذيبك، ولا تأس عليهم، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم، ولا تعجب من فساد طويتهم، وعظيم تعنتهم فتلكَ سنة الله في خليقته؛ لأنه ﴿قد كذب رسل من قبلك﴾؛ أي: كذبتهم أممهم حينما ﴿جَاءُوا﴾ هم ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الواضحات، ﴿و﴾ بـ ﴿الزبر﴾؛ أي: وبالصحف المشتملة على الترغيب، والترهيب، والزواجرَ، والعظات كصحف إبراهيم، وموسى، وغيرهما، والزبير: جمع زبور، وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حبسته، وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورًا، لأنه يزبر عن الباطل، ويدعو إلى الحق ﴿و﴾ بـ ﴿الكتاب المنير﴾؛ أي: المضيء الذي أضاء،
وأنار سبيل النجاة، وهو التوراة، والزبور، والإنجيل، وإنما عطف الكتاب المنير على الزبر لشرفه، وفضله باشتماله على الأحكام.
والمعنى: فقد كذب رسل من قبلك جَاءُوا بمثل ما جئت من باهر المعجزات، وهزوا القلوبَ بالزواجر، والعظات، وأناروا بالكتاب سبيلَ النجاة، فلم يغن ذلك عنهم شيئًا، فصبروا على ما نالهم من الأذى، وما نالهم من السخرية، والاستهزاء، ذلك أسوة بهم. وفي هذا تسلية للنبيّ - ﷺ - وبيان بأن طباع البشر في كل الأزمنة سواء، فمنهم من يتقبل الحق، ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة، ومنهم من يقاوم الحقَ، والداعي إليه ويسفه أحلام معتنقيه؛ فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك، ولا أن يفندوا حجتك، فإن نُفُوسَهم منصرفة عن طلب الحق، وتحري سبل الخير.
وقر الجمهور (١) ﴿والزبور والكتاب﴾ بغير الباء فيهما، وقرأ ابن عامر، ﴿وبالزبر﴾ بإعادة ﴿الباء﴾ كقراءة ابن عباس، للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات، وكذا هي في مصاحف أهل الشام، وقرأ هشام بخلاف عنه، ﴿وبالكتاب﴾ وإعادة ﴿الباء﴾ وإعادة حرف البحر في المعطوف للتأكيد.
١٨٥ - ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾؛ أي: كل روح من حيوان حاضر في دار التكليف ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾؛ أي: ذائقة موت (٢) أجسادها إذ النفس بمعنى الروح، لا تموت، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها؛ لأن الحياة شرط في الذوق، وسائر الإدراكات. وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: حين موت أجسادها، والمعنى كل نفس تذوق طعمَ مفارقة البدن، وتحس به. وقرأ الجمهور (٣) ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بالإضافة، وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وابن أبي إسحاق، ﴿ذائقةٌ الموت﴾ بالتنوين، ونصب الموت، وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ﴿ذائقة﴾ بغير تنوين الموت بالنصب، وخرج على حذف التنوين لالتقاء
(١) البحر المحيط.
(٢) الجمل.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
310
الساكنين، كقراءة من قرأ ﴿هل هو الله أحد الله الصمد﴾ بحذف التنوين من أحد، وقرىء أيضًا شاذًا ﴿ذائقة الموت﴾ على جعل الهاء ضمير ﴿كلٍ﴾ على اللفظ، وهو مبتدأ وخبر كما ذكره أبو البقاء ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾؛ أي: وإنما تعطون جزاء أعمالكم كاملًا، وافيًا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: يوم قيام الخلق من القبور، وذلك عند النفخة الثانية، وفي ذكر لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبل يوم القيامة، ويؤيده ما أخرجه الترمذي، والطبراني مرفوعًا "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران" ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ وأبعد ﴿عَنِ النَّارِ﴾ يوم القيامة ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾؛ أي: فقد ظفر بالمحبوب، ونجا من المكروه؛ أي: فمن نجا، وخلص من العذاب والنار يوم القيامة، ووصل إلى الثواب والجنة، فقد ظفر بالمقصد الأسنى، والغاية القصوى، التي لا مطلبَ بعدها.
وقد روي (١) عن النبي - ﷺ - أنه قال: "من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته، وهو يؤمن باللهِ واليوم الآخر، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". رواه وكيع بن الجراح في تفسيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص وقد رواه الإِمام أحمد في "مسنده" عن وكيع بسنده.
والخلاصة (٢): أن هناك جنة ونارًا، وإن من الناس من يلقى في هذه، ومنهم من يلقى في تلك، وإن هولَ النار عظيم، وعبر عن النجاة عنها بالزحزحة، كأن كلَّ شخص كان مشرفًا على السقوط فيها؛ لأن أعمالهم سائقةٌ لهم إلى النار؛ لأنها أعمال حيوانية، تسوق إليها، ولا يدخل الجنة أحدٌ إلا إذا زحزح، فالزحزحة عنها فوز عظيم، فأولئك المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية، فأخلصوا في إيمانهم، وجاهدوا في الله حق جهاده، ولم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله معه في عمل من أعمالهم.
والمعنى: فمن بعد عن النار يومئذ ونحي عنها. فقد فاز؛ أي: ظفر بما يريد، ونجا مما يخاف، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوزَ يقاربه، فان كل
(١) ابن كثير.
(٢) المراغي.
311
فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة، ليس بشيء بالنسبة إليها، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة، ولا عيش إلا عيشها، ولا نعيم إلا نعيمها، فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وارض عنا رضًا لا سخط بعده أبدًا، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة.
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾؛ أي: وما حياتنا القربى إلى الزوال، أو الدنيئة التي نحن فيها، ونتمتع بلذاتها الحسية من مأكل، ومشرب، أو المعنوية كالجاه والمنصب، والسيادة ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ومواعين الخداع؛ لأنَّ صاحبَها دائمًا مغرور بها، مخدوع لها تشغله كل حين بجلب لذاتها، ودفع آلامها، فهو يتعب لما لا يستحق التعب به، ويشقى لتوهم السعادة فيها.
والمتاع: كل ما يتمتع به الإنسان، وينتفع به، ثم يزول، ولا يبقى، والغرور ما يغرُّ الإنسان مما لا يدوم، وقيل: الغرور الباطل الفاني، الذي لا يدوم.
ومعنى الآية (١) أن منفعةَ الإنسان بالدنيا كمنفعته بهذه الأشياء التي يستمتع بها، ثم تزول عن قريب، وقيل: هي متاع متروك، يوشك أن يضمحل ويزولَ، فخذوا من هذا المتاع، واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور، لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، وأما من اشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع، وبلاغ إلى ما هو خير منها.
والخلاصة: أن الدنيا ليست إلا متاعًا من شأنه أن يغرَ الإنسانَ، ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف، والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة. فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه، وإنفاق الوقت فيما لا يفيد إذ ليس للذاتها غاية تنتهي إليها، فلا يبلغ حاجةً منها إلا طلب أخرى.
فَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ وَلاَ انْتَهَى أَرَبٌ إلّا إِلَى أَرَبِ
فعليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله، أو عمل صالح ينتفع به، وينفع عباده مع إصلاح السريرة، وخلوص النية، وقد قال بعضهم: عليك بنفسك إن لم
(١) الجمل.
312
تشغلها شغلتك.
١٨٦ - ولما سلى الله سبحانه وتعالى نبيه - ﷺ - والمؤمنين بما سبق آنفًا.. زاد في تسليتهم بهذه الآية فقال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ وأبان لهم أنه كما لقي هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد، فسيلقون منهم أذى كثيرًا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء في النفس أو في المال.
والمقصود من هذا الإخبار: أن يوطنوا أنفسَهم على الصبر، وترك الجزع حتى لا يشق عليهم النبلاء عند نزوله بهم. والمعنى: وعزتي، وجلالي لتمتحنن، ولتختبرن في أموالكم بذهابها بالمهلكات، والآفات، كالغرق، والحرف والبرد، وبالتكاليف كالزكاة، والإنفاق في الجهاد، وبذلِها في جميع وجوه البر، التي ترفع شأنَ الأمة الإِسلامية وتدفع عنها أعداءها، وترد عنها المكارهَ، وتدفع عنها غوائلَ الأمراض والأوبئة، ولتختبرَن في أنفسكم بما يصيبها من البلايَا كالأمراض، والأوجاع، والقتل، والضرب، ومن التكاليف كالصلاة وبذلها في الجهاد في سبيل الله، والصبر فيهما، وبموت من تحب من الأهل، والأصدقاء ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لتسمعن أيها المؤمنون ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ أي: من اليهود والنصارى ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾؛ أي: ومن مشركي العرب، والمراد بهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾؛ أي: أنواعًا كثيرةً من الإيذاء كالطعن في أعراضكم، والطعن في الدين الحنيف، والقدح في أحكام الشرع الشريف، وقد من أراد أن يؤمن وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف، وأضرابه من هجاء المؤمنين، وتشبيب (١) نسائهم وتحريض المشركين على معاندة رسول الله - ﷺ - ونحو ذلك مما لا خير فيه.
وفائدة الابتلاء (٢): تمييز الخبيث من الطيب وفائدة الإخبار كما مر آنفًا، أن
(١) تشبيب: هو ذكر أوصاف الجمال للنساء بالقصائد والمسجعات، وكان كعب بن الأشرف يفعل ذلك بنساء المؤمنين.
(٢) المراغي.
نعرف السننَ الإلهيةَ، ونهيىءَ أنفسَنا لمقاومتها، فإن من تقع به المصيبة فجأةً على غير انتظار يعظم عليه الأمر، ويحيط به الغمُّ حتى كاد ليقتله في بعض الأحايين، لكنه إذا استعد لها اضطَلَع بها وقويَ على حملها.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ أيها المؤمنون على ما سيحل ويقع بكم من البلاء في أموالكم، وأنفسكم، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب، والمشركين من الأذى ﴿وَتَتَّقُوا﴾ ما يجب اتقاؤه، وتحترزوا عما لا ينبغي كالمداهنة مع الكفار، والسكوت عن إظهار الإنكار ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ الصبرَ والتقوى ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾؛ أي: من معزومات الأمور؛ أي: من الأمور الواجبة التي ينبغي أن يعزمَها ويفعلَها كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف، أو مما عزم الله تعالى عليه، وأمر به، وبالغ فيه، وأوجب، يعني أن ذلك عزمة من عزمات الله، وواجب من واجبات الله التي أوجبها على عباده.
١٨٧ - ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾؛ أي: واذكر يا محمَّد لأمتك قصة إذ أخذ الله العهدَ المؤكدَ باليمين من الذين أوتوا الكتاب؛ أي: من علماء اليهود، والنصارى على لسان أنبيائهم ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ بالتاء حكاية لمخاطبتهم؛ أي: لتبينن ذلك الكتاب الذي أوتيتم للناس، ولتظهرن جميع ما فيه من الأحكام، والأخبار التي من جملتها نبوة محمَّد - ﷺ - للناس ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾؛ أي: والحال أنكم لا تكتمون، ولا تخفون ذلك الكتاب عن الناس، ولا تؤولونه، ولا تلقون الشبه الفاسدة، والتأويلات المزيفة إليهم، وذلك بأن يوضحوا معانيه كما هي، ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها، ويذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع اضطراب ولا لبس في فهمه.
فإن لم يفعلوا ذلك.. فإما أن يبينوه على غير وجهه، ولا يكون هذا بيانًا، ولا كشفًا لأغراضِه ومقاصده، وأما أن لا يبينوه أصلًا، ويكون هذا كتمانًا له.
وتبيين الكتاب على ضربين:
الأول: تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه.
الثاني: تبيينه للمؤمنين به لهدايتهم، وإرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم،
314
وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة (١) فيه، وكفى بهذه الآية حجة عليهم، وهي آكد من قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ الآية.
﴿فَنَبَذُوُه﴾؛ أي: نبذ علماؤهم ذلك الكتابَ، أو الميثاقَ وطرحوه ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾؛ أي: خَلْفَ ظهورهم، فلم يعملوا به، ولم يبالوا به، ولم يهتموا بشأنه، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم، لا شيئًا ملقى مرميًّا وراء الظهور، لا ينظر إليه، ولا يفكر في أمره، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئًا، ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار، ومنهم الذين يحرفونه عن مواضعه، ومنهم الذين لا يعلمونه إلا أماني يتمنونها، وقراءة يقرؤونها.
وإن هذا والله لينطبق على المسلمين اليوم أتمَ الانطباق، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم، ونهجوا نهجهم حذو القذة بالقذة، فما بالهم عن التذكرة معرضين، وكتاب الله بين أيديهم شاهد عليهم، وهو يتلى بين ظهرانيهم، فإنهم مع حفظهم لكتابهم، وتلاوتهم إياه في كل مكان في الشوارع، والأسواق، ومجتمعات الأفراح والأحزان، تركوا تبيينه للناس والعمل به، ففقدوا هدايته وعميت عليهم عظاته، وزواجره وحكمه وأسراره، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه، وصار القابض على دينه بينهم كالقابض على الجمر، والضمير في قوله: ﴿وَاَشتَرَوْا بِهِ﴾ عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه، ونهوا عن كتمانه؛ أي: وأخذوا بكتمانه ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وعوضًا يسيرًا من حطام الدنيا، وأغراضها من المآكل والمشارب، والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم، وسفلتهم يعني أخذوا عوضًا منه فائدة دنيويةً حقيرة، فغبنوا في هذا البيع والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤسين من حطام الدنيا، ليتمتعوا بلذاتها الفانية، وشهواتها الفاسدة، وكانوا يؤولون الكتابَ، ويحرفونه، لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام، أو الرجاء فيهم، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره، أو لإرضاء
(١) الهوادة: الرفق واللين والمحاباة، ومنه قوله: لأبعثن إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة؛ أي: إلى رجل يحابيك الرخصة. اهـ.
315
العامة، أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم، وهذا كله أيضًا مما ابتلي به علاء المسلمين الآن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾؛ أي: قبح ذلك الثمن شيئًا يشترونه، والمخصوص بالذم ذلك الثمن فكل من لم يبين الذي علم للناس، وكتم شيئًا منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب قلوبهم، أو لجر نفعة، أو لحياء، أو لبخل للعلم، فهو داخل تحت هذا الوعيد. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ - "من سئل علمًا يعلمه، فكتمه، ألجم بلجام من نار. أخرجه الترمذي، ولأبي داود "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة. وقال قتادة: طوبى لعالم ناطق، ومستمع واع، هذا علم علمًا فبذله، وهذا سمع خيرًا فقبله ووعاه.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخَذَ على أهل العلم أن يُعلِّموا، وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم، وتلا هذه الآية. وعن الحسن أنه قال: لولا الميثاقُ الذي أخذَه الله تعالى على أهل العلم، ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الفعلين أعني ﴿ليبيننه﴾ ﴿ولا يكتمونه﴾ إسنادًا لأهل الكتاب إذ قبله الذين أوتوا الكتاب وبعده، فنبذوه. وقرأ باقى السبعة بالتاء للخطاب حكايةً لمخاطبتهم. وقرأ عبد الله ﴿ليبنونه﴾ بغير نون التوكيد، وقرأ ابن عباس ﴿ميثاق النبيين لتبيننه للناس﴾ فيعود الضمير في ﴿فنبذوه﴾ على الناس، إذ يستحيل عوده على النبيين، أي: فنبذه الناس المبين لهم الميثاق.
١٨٨ - ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾؛ أي: لا تظنن يا محمَّد أو أيها المخاطب اليهودَ الذين يسرون بما فعلوا من تحريف نصوص التوراة، وتفسيرها بتفسيرات باطلة ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا﴾، ويُوصفوا ﴿بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾؛ أي: بقول الناس لهم علماء، وليسوا بأهل علم؛ أي: يحبون أن يصفهم الناس ويمدحوا لهم بما ليس فيهم من الصدق، والعفاف، والفضل، والدين؛ أي: لا تحسبنهم
316
ناجينَ من العذاب الدنيوي، وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها، وساءت أعمالها، وألفت الفسادَ، والظلمَ وهو ضربان (١):
الأول: عذاب هو أثر طبيعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري بخذلان أهل الباطل، والإفساد وذهاب استقلالهم، ونصرة أهل الحق عليهم، وتمكينهم من رقابهم، وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد، والعدل مكان الظلم ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
والضرب الثاني: عذاب يكون سخطًا سماويًّا، كالزلازل، والخسف، والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم، وكذبوهم، وآذوهم عند اشتداد عتوهم، وإيذائهم لرسلهم.
روي أن رسول الله - ﷺ - سأل اليهود عن شيء في التوراة فكتموا الحق، وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوا، واستحمدوا إليه، وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك، وسلاه بما أنزل من وعيدهم. وهذا المعنى على قراءة التاء، فالمفعول الأول عليها الموصول، والثاني قوله الآتي: ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾. وقرىء بالياء فعلى هذه القراءة يكون الموصول فاعلًا، والمفعول الأول محذوف، وهو فَرحهم، والمفعول الثاني ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾. والمعنى: عليها لا يحسبن الفارحون فرحَهم منجيًّا لهم من العذاب وقوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ تأكيد للفعل الأول على القراءتين. وقد عهد هذا في الأساليب العربية من إعادة الفعل، إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج: العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت، وما أشبهها إعلامًا بأن الذي جرى متصل بالأول، فتقول: لا تظنن زيدًا إذا جاءك، وكلمك بكذا، وكذا، فلا تظننه صادقًا، فيفيد لا تظنن توكيدًا، وتوضيحًا والفاء زائدة كما في قوله:
فَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي
(١) المراغي.
317
وقوله: ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ مفعول ثان على القراءتين، أي: فلا تظنهم بمنجاة؛ أي: فائزين بالنجاة من العذاب الذي أعده الله لهم في الدنيا من القتل، والأسر، وضرب الجزية، والذلة، والصغار، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع في الآخرة. وناسبَ وصفه بـ ﴿أليم﴾ لأجل فرحهم، ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا.
وهذه الآية (١) وإن كانت قد نزلت في اليهود، أو المنافقين خاصةً فإن حكمَها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والصلاح، ويُنسَب إلى العلم، وليس كذلك، فيفرح به فَرح إعجاب، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من سَدَاد السيرة، واستقامة الطريقة، والزهد والإقبال على طاعة الله.
وفي الحديث الصحيح: "المتشح بما ليس فيه، كلابس ثوبي زور". وقرأ حمزة، وعاصم (٢)، والكسائي ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ ﴿وتحسبنهم﴾ بالتاء الفوقية، وكلاهما إما بفتح الباء، والتقدير: لا تحسبن يا محمَّد، أو أيها المخاطب، وإما بضم الباء، والخطاب للمؤمنين، والمفعول الأول: ﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾، والثاني: ﴿بِمَفَازَةٍ﴾. وقوله ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ تأكيد، والفاء مقحمة، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر بالياء التحتية، وكلاهما إما بفتح الباء والفاعل للرسول، وإما بضمها، والفاعل من يتأتى منه الحسبان، أو بفتح الباء في الأول، وضمها في الثاني، وهي قراءة أبي عمرو. والفاعل: هو الموصول، والمفعول الأول محذوف، والتقدير ولا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معًا اختصارًا لدَلاَلة مفعولي الفعل الثاني عليهما، أي: لا يحسبن هؤلاء أنفسهم فائزين، أو على أن الفعل الأول مسند للرسول، أو لكل حاسب، ومفعوله الأول الموصول، والثاني محذوف لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه، والفعل الثاني مسندٌ إلى ضمير الموصول، والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه - ﷺ -، ومفعولاه ما بعده. وقرأ النخعي، ومروان بن الحكم، والأعمش ﴿بما آتوا﴾ بالمد، أي: يفرحون بما
(١) الخازن.
(٢) المرح.
318
أعطوا. وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم ﴿أَتَوْا﴾ بالقصر. وقرأ ابن جبير، والسلمي ﴿بِمَا أَتَوْا﴾ مبنيًّا للمفعول.
١٨٩ - ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وتدبيرهما، وخزائنهما فكيف يكون من له ملك السموات والأرض فقيرًا، وفيه تكذيب لمن قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾ ﴿واللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه، ومنه عقاب هؤلاء الكفرة ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر على تعجيل العقوبة لهم على ذلك القول؛ لكنه تفضل على خلقه بإمهالهم، وعلى إظهار دينكم ونصركم عليهم.
والمعنى: لا تحزنوا (١) أيها المؤمنون، ولا تضعفوا، وبينوا الحق، ولا تكتموا منه شيئًا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ولا تفرحوا بما عملتم، فإن الله يكفيكم ما أهمكم، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها، فإن لله ملك السموات والأرض، يعطي من يشاء، وهو على كل شيء قدير، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم، وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين.
وفي هذا إيماء إلى أن الخير في اتباع ما أرشد إليه، وفيه تسلية للنبي - ﷺ - وللمؤمنين، ووعد له بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين، ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانًا صحيحًا يظهر أثره في أخلاقهم وأعمالهم؛ إذ لو كانوا كذلك، ما تركوا العمل بكتابه، وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا.
الإعراب
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾.
﴿لَقَدْ﴾ اللام موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿سَمِعَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوفة مستأنفةٌ. ﴿قَوْلَ الَّذِينَ﴾ مفعول به ومضاف إليه. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿إنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾
(١) المراغي.
319
اسمها منصوب ﴿فَقِيرٌ﴾ خبرها مرفوع، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿ـقالوا﴾. ﴿وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿إن﴾.
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾.
﴿سَنَكْتُبُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿ما﴾ اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿قالوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿لما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما قالوه، ويصح كون ﴿ما﴾ مصدرية، والمصدر المؤول منها مفعول به لـ ﴿نكتب﴾ تقديره: سنكتب قولهم ذلك. ﴿وَقَتْلَهُمُ﴾ بالنصب معطوف على ﴿ما﴾ أو على المصدر المؤول منها على كونه مفعولًا لـ ﴿نكتب﴾. وبالرفع معطوف على ﴿ما﴾ أيضًا على كونه نائب فاعل لـ ﴿كتب﴾ على قراءة الياء ﴿قتل﴾ مضاف. والهاء مضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. ﴿الْأَنْبِيَاءَ﴾ مفعول المصدر أعني ﴿قتلهم﴾ منصوب به. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قتلهم﴾ أو حال منه.
﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾.
﴿وَنَقُولُ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿نقول﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿نكتب﴾. ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ مقول محكي لـ ﴿نقول﴾، وإن شئت قلت ﴿ذُوقُوا﴾: فعل، وفاعل. ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿ـنقول﴾.
﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل البحر بالباء، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب الذي قدمته أيديكم، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿قَدَّمَتْ﴾: فعل ماض، وتاء تأنيث. ﴿أَيْدِيكُمْ﴾: فاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما قدمته أيديكم ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾: الواو
320
عاطفة. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الله. ﴿بِظَلَّامٍ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة في خبر ﴿لَيْسَ﴾. ﴿بِظَلَّامٍ﴾ خبر ﴿لَيْسَ﴾: منصوب بفتحة مقدرة. ﴿لِلْعَبِيدِ﴾ جار ومجرور متعلق ﴿بِظَلَّامٍ﴾ وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر معطوف على ﴿ما﴾ في قوله ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾ تقديره: ذلك العذاب كائن بسبب الذي قدمته أيديكم، وبسبب عدم كون الله ظلامًا للعبيد.
﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأكُلُهُ النَّارُ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ نعت (١) للذين في قوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾. فالسماع مسلط عليه، والتقدير: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله عهد إلينا إلخ، أو منصوب على الذم بفعل محذوف تقديره: أذم الذين قالوا إن الله عهد إلينا إلخ. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ إلى قوله ﴿تَأكُلُهُ النَّارُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾. وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسهما. ﴿عَهِدَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿إِلَيْنَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿عهد﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قالوا﴾. ﴿أَلَّا نُؤْمِنَ﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، ويجوز أن تكتب أن مفصولة وموصولة، ومنهم من يحذفها في الخط اكتفاءً بالتشديد. قاله العكبري. ﴿لا﴾ نافية. ﴿نُؤْمِنَ﴾ منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على الكفار القائلين. ﴿لِرَسُولٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿ـنُؤمِن﴾ والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: بعدم إيماننا لرسول، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿عهد﴾. ﴿حَتَّى يَأتِيَنَا﴾ ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية بمعنى إلى ﴿يأتي﴾ فعل
(١) الخازن.
321
مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى. بمعنى: إلى. و ﴿نا﴾ ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿رسول﴾. ﴿بِقُرْبَانٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يأتى﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حتى﴾، بمعنى إلى تقديره: إلى إتيانه إيانًا. ﴿بِقُرْبَانٍ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نؤمن﴾. ﴿تَأكُلُهُ النَّارُ﴾ فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة في محل البحر، صفة لـ ﴿ـقربان﴾ ولكنها صفة سببية.
﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿قَدْ جَاءَكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿جَاءَكُمْ رُسُلٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾ ﴿مِنْ قَبْلِي﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿رسل﴾. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿جاء﴾. ﴿وَبِالَّذِي﴾ جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾. ﴿قُلْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره، قلتموه، والخطاب في قوله ﴿قَدْ جَاءَكُمْ﴾ وبقوله: ﴿قُلْتُمْ﴾ وبقوله: ﴿قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ وبقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ لمن في عصر نبينا - ﷺ -، وإن كان الفعل لأجدادهم، لرضاهم به. ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ الفاء زائدة. ﴿لم﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر. ﴿م﴾ اسم استفهام في محل الجر باللام مبني، بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة. الجار والمجرور متعلق بما بعده، أعني ﴿قَتَلْتُمُوهُمْ﴾، ﴿قَتَلْتُمُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ إن حرف شرط جازم. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل الجزم ﴿بإن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿صَادِقِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إن﴾ معلوم ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين، فلم قتلتموهم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾.
322
﴿فإن﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلت لهم يا محمَّد ما أمرتك به، وكذبوك، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿إن كذبوك﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿كَذَّبُوكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإن على كونه فعلَ شرط لها، وجواب الشرط محذوف جوازًا دل عليه السياق تقديره: فاصبر، وتسل على تكذيبهم إياك، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿فَقَدْ كُذِّبَ﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿كُذِّبَ رُسُلٌ﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿رسل﴾، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما أمرتك يا محمَّد بالصبر على تكذيبهم لتكذيب رسل من قبلك، وصبرهم على إذاية قومهم. ﴿جَاءُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿جاؤوا﴾. ﴿وَالزُّبُرِ﴾ معطوف على البينات. وكذلك ﴿والكتاب﴾ معطوف عليه. ﴿الْمُنِيرِ﴾ صفة للكتاب، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿رُسُلٌ﴾ وصح مجىء الحال منه لتخصصه بالصفة أعني الجار والمجرور، أو في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿رسل﴾.
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)﴾.
﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ خبر ومضاف إليه، وإنما أُنث الخبر لاكتساب المبتدأ التأنيث من المضاف إليه والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ﴾ الواو استئنافية. ﴿إنما﴾ ما أداة حصر بمعنى ﴿ما﴾ النافية وإلّا المثبتة، والمعنى: وما توفون أجوركم إلا يوم القيامة. ﴿تُوَفَّوْنَ﴾ فعل مغير، ونائب فاعل. ﴿أُجُورَكُمْ﴾ مفعول ثان، ومضاف إليه، والمفعول الأول جعل نائبًا عن الفاعل، والأصل: وإنما يوفيكم الله. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿توفون﴾. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن توفية الأجور يوم
323
القيامة، وأردتم بيان من فاز فيه، ومن لم يفز.. فأقول لكم: من زحزح. ﴿من زحزح﴾ ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما. ﴿زُحْزِحَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم، بـ ﴿من﴾ الشرطية، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿عَنِ النَّارِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿زحزح﴾. ﴿وَأُدْخِلَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿أدخل﴾ فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم معطوف على ﴿زُحْزِحَ﴾ على كونه فعل شرط لمن، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿الْجَنَّةَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿أدخل﴾ أو منصوب على التوسع بإسقاط الخافض. ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا لكون الجواب مقرونًا بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿فَازَ﴾ فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿الْحَيَاةُ﴾ مبتدأ. ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة له. ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ إلا أداة استثناء مفرغ. ﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ خبر، ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾.
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿تبلون﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وإنما أعرب مع اتصال نون التوكيد به لِعَدَمِ مباشَرَتِها له لفصلها عنه بضمير الفاعل، والواو ضمير لجماعة المذكور المخاطبين في محل الرفع نائب فاعل. و ﴿نون التوكيد﴾ الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، وسيأتي الإعلال الجاري فيه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القمسم المحذوف مستأنفة ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تبلون﴾. ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ معطوف على ﴿أَمْوَالِكُمْ﴾.
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.
324
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿تسمعن﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين مع نون التوكيد في محل الرفع فاعل ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، والقسم المحذوف معطوف على جملة القسم المحذوف في قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تسمعن﴾ ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾. ﴿أُوتُوا﴾ فعل، ونائب فاعل. ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿أوتوا﴾ لأنه بمعنى أعطوا. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أوتوا﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلَ لها من الإعراب.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿الَّذِينَ أُوتُوا﴾ جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾. ﴿أَشْرَكُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿أَذًى﴾ مفعول ﴿تسمعن﴾ منصوب بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين ﴿كَثِيرًا﴾ صفة لـ ﴿أذى﴾.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ الواو استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿تَصْبِرُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿تَصْبِرُوا﴾. ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية. ﴿إن﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿ذَلِكَ﴾ في محل النصب اسمها. ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل: فإن ذلك من الأمور المعزومة؛ أي: المفروضة. الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿إن﴾، وجملة إن في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة.
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)﴾.
325
﴿وَإِذْ أَخَذَ﴾ الواو استئنافية. ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمَّد قصة إذا أخذ الله. ﴿أَخَذَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِيثَاقَ الَّذِينَ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، والتقدير: واذكر يا محمَّد لأمتك قصة وقت أخذ الله ميثاق الذين ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾. ﴿أُوتُوا﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿أوتوا﴾ والجملة صلة الموصول. ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ ﴿اللام﴾ واقعة في جواب قسم دل عليه أخذ الميثاق؛ لأن الميثاق العهد المؤكد باليمين، تقديره: وعزتي وجلالي لتبيننه للناس. ﴿تبينن﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل؛ لأن أصله لتبينوننه كما سيأتي لك في بحث التصريف إن شاء الله تعالى. و ﴿الهاء﴾ ضمير الغائب في محل النصب مفعول به. ﴿لِلنَّاسِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تبينن﴾، والجملة الفعلية جواب للقسم المقدر لا محلَ لها من الإعراب، وجملة القسم المقدر جملة معترضة لا محلَ لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ الواو عاطفة. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تَكْتُمُونَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ على كونها جوابَ القسم المقدر. ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿نبذوه﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ﴾ على كونها مضافًا إليه. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ ﴿وَرَاءَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿نبذوه﴾، وهو مضاف. ﴿ظهور﴾ مضاف إليه ﴿ظهور﴾ مضاف. و ﴿الهاء﴾ ضمير الغائبين في محل الجر مضاف إليه. ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾ الواو عاطفة. ﴿وَاشْتَرَوْا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾ متعلق به. ﴿ثَمَنًا﴾ مفعول به لـ ﴿اشتروا﴾. ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لـ ﴿ثمنا﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿نبذوه﴾. ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ ﴿فَبِئْسَ﴾ ﴿الفاء﴾ استئنافية. ﴿بئس﴾ فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه، وجوبًا لشبهه بالمثل تقديره: هو يعود على الثمن القليل. ﴿ما﴾ نكرة موصوفة في محل النصب تمييز لفاعل ﴿بئس﴾. ﴿يَشْتَرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صفة لما، والرابط محذوف، تقديره: فبئس هو أي ذلك
326
الثمن شيئًا يشترونه. وجملة ﴿بئس﴾ في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف وجوبًا، تقديره: فبئس شيئًا يشترونه، هو، أي: ذلك الثمن، والجملة الإسمية مستأنفة، ويحتمل كون ﴿مَا﴾ مصدرية، وجملة ﴿يَشْتَرُونَ﴾ صلتها، و ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لبئس تقديره: فبئس شراؤهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: شراؤهم هذا.
﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)﴾.
﴿لَا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ فعل مضارع. في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت: يعود على محمَّد - ﷺ -، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿حسب﴾ والثاني: محذوف دل عليه قوله الآتي ﴿بِمَفَازَةٍ﴾؛ تقديره: لا تحسبن الذين يفرحون فائزين ناجينَ من العذاب ﴿يَفْرَحُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَفْرَحُونَ﴾. ﴿أَتَوْا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما أتوه، وفعلوه. ﴿وَيُحِبُّونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَفْرَحُونَ﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿أَنْ يُحْمَدُوا﴾ ﴿أن﴾ حرف مصدر. ﴿يُحْمَدُوا﴾ فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة صلة ﴿أن﴾ المصدرية و ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ويحبون حمد الناس إياهم. ﴿بما﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُحْمَدُوا﴾. ﴿لَمْ يَفْعَلُوا﴾ فعل وفاعل وجازم، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صلة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: بما لم يفعلوه. ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ زائدة. ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ فعل ومفعول أول في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -. ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان لـ ﴿حسب﴾ تقديره: فلا تحسبنهم كائنين بمنجى من العذاب، والجملة الفعلية
327
مؤكدة لجملة حسب الأولى. ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿مفازة﴾. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لهم﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿تحسبن﴾ الأولى، وهنا أوجه كثيرة من الإعراب، تتعدد بتعدد القراءات، أعرضنا عنها صفحًا؛ لئلا يطول الكلام، وفيما ذكرنا كفاية لمن له عناية.
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مُلْكُ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ مضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السموات والجملة الإسمية مستأنفة ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو عاطفة. ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ وهو خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ على كونها مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ يقال: ذاق الطعام، إذا أدرك طعمه من حلاوة، أو حموضة، أو مرارة. وأصل الذوق: وجود الطعم في الفم، ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات. ﴿الْحَرِيقِ﴾ المحرق، فهو فعيل بمعنى: مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، وإضافة العذاب إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع. ﴿بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛ أي: بذي ظلم، فـ ﴿ظلام﴾ من صيغ النسب على حد قول ابن مالك:
ومع فاعل وفعال وفعل في نسب أغنى عن اليا فقبل
﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ يقال: عهد إليه بكذا، إذا أمره به، وأوصاه إليه. ﴿بِقُرْبَانٍ﴾ و ﴿القربان﴾: مصدر بمعنى اسم المفعول، وهو ما يتقرب به إلى الله من حيوان، ونقد، وغيرهما. ﴿وَالزُّبُرِ﴾ جمع زبور (١) كرسول ورسل، وهو
(١) البحر المحيط.
328
الكتاب مأخوذ من الزبر، وهو الكتابة يقال: زبرت بكذا إذا كتبته، فالزبور فعول بمعنى مفعول؛ أي: مزبور بمعنى مكتوب، كالركوب بمعنى المركوب، وقال امرؤ القيس:
لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي كَخَطِّ زَبُوْرٍ في عَسِيْبٍ يَمَانِ
ويقال: زبرته إذا قرأته، وزبرته إذا حسنته، وتزبرته إذا زجرته، وقال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة. وقيل: أصله (١) من الزبر بمعنى الزجر، وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورًا؛ لأنه يزبر أي يزجر عن الباطل ويدعو إلى الحق. وفي المختار الزبرُ الزجرُ والانتهار، وبابه نَصَر والزبرُ أيضًا الكتابة، وبابه ضرب انتهى.
﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾؛ أي: الواضح المعنى من أنار الشيء إذا وضح.
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ تطلق النفس على الروح، وعلى مجموع الجسد، والروح الذي هو الحيوان، وهذا المعنى الثاني هو الأقرب المتبادر هنا. وفي المختار: النفس الروح، يقال: خرجت نفسه، والنفس الجسد، ويقولون: ثلاثة أنفس فيذكرونه لأنهم يريدون به الإنسان انتهى. وفي المصباح أن النفس تطلق على جملة الحيوان والنفس إن أريد بها الروح تؤنث وإن أريد بها الشخص تذكر انتهى. والموت أمر وجودي يضاد الحياة.
﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ الزحزحة الإبعاد والتنحية وهو من ملحق الرباعي على وزن فعلل أصله من الزح وهو الجذب بعجلة ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ يقال: فاز فوزًا من باب قال إذا ظفر، والفوز: النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل.
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ﴿الْحَيَاةُ﴾ العيش، وهي المعيشة. والمعيشة: كسب الإنسان، وتحصيله ما يعيش به من مطعم ومشرب وملبس وغيرها. ﴿الدُّنْيَا﴾: بمعنى القربى، وهي صفة مؤنث مذكره أدنى؛ لأنه من دنا يدنو دنوًا فهو أدنى، وهي دنيا بوزن فعلى. ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ والمتاع: كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره، وفي "السمين" يجوز أن يكون الغرور فعولًا بمعنى مفعول؛ أي: متاع
(١) الخازن.
329
المغرور؛ أي: المخدوع. وأصل الغرور الخِداع انتهى. والغرور في الأصل: إما مصدر غره يغره غرورًا إذا خدعه، وإما جمع غار.
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ أصله لتبلوونن بواوين أولاهما لام الكلمة؛ لأنه من بلا يبلو من باب غزا، وثانيهما: واو الضمير فحذفت النون الأولى التي هي علامة الرفع، لتوالي الأمثال مع نون التوكيد، وتحركت الواو الأولى التي هي لام الكلمة، وانفتح ما قبلَها، فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، الألف وواو الضمير، فحذفت الألف لئلا يلتقيَ ساكنان، وضمت الواو دلالةً على المحذوف، وإن شئت قلت استثقلت الضمة على الواو الأولى، فحذفت فالتقى ساكنان، وهما: الواوان فحذفت الواو الأولى، وحركت الواو الثانية التي هي واو الضمير بحرة مجانسة دلالةً على المحذوف، فعلم من مجموع هذين التصريفين: أن الواوَ المحذوفةَ هي لام الكلمة، وأن هذه الواوَ الموجودةَ هي ضمير الجمع، وهي نائب الفاعل.
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾ أصله لتسمعونن حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وواو الضمير لالتقاء الساكنين مع نون التوكيد ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ والصبر تلقي المكروه بالاحتمال، وكظم النفس عليه مع دفعه بروية، ومقاومة ما يحدث من الجزع، والتقوى الابتعاد عن المعاصي ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ مأخوذ من قولهم: عزمت عليك أن تفعل كذا؛ أي: ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: المعزوم عليه بمعنى أنه يجب العزم عليه، والتصميم للقلب عليه، وأصله ثبات في الرأي على الشيء إلى إمضائه ﴿مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الميثاق العهد المؤكد باليمين، وأصله: موثاق قلبت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة؛ لأنه من وثق يثق وثوقًا وميثاقًا ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ المفازة المفعلة من فَازَ بمعنى مكان الفوز؛ أي: النجاة من المكروه، وأصلها مفوزة تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الآن، فقلبت ألفًا فصار مفازةً. ﴿لله ملك﴾ الملك بضم الميم ما يملكه الإنسان، ويتصرف به، والعظمة، والسلطَة يجمع على أملاك، وملوك.
330
البلاغة
﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ أكدت اليهود الجملة التي نسبوها إلى الله بـ ﴿إن﴾ واسمية الجملة، مبالغةً في نسبة الفقر إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ولم يؤكدوا في الجملة التي نسبوها إلى أنفسهم، كأنهم خرجوا تلك الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد، كان الغنى وصف لازم لهم، لا يمكن فيه نزاع فيحتاج إلى تأكيد، وهذا دليل على تعنتهم وتعمقهم في الكفر والطغيان.
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ فيه مجاز عقلي من الإسناد إلى الآمر، لأنه تعالى لا يكتب ذلك بنفسه، بل يأمر الملائكة بالكتابة.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ فيه مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل لعلاقة الجزئية.
﴿تَأكُلُهُ النَّارُ﴾ فيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأنه شبه الإحراق بالأكل، لأن الأكل إنما يكون في الإنسان والحيوان. ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ فيه استعارة تبعية؛ لأن حقيقة الذوق ما يكون بحاسة اللسان.
﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ قال الزمخشري: شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغر به حتى يشتريه، والشيطان هو المدلس الغرور فهو من باب الاستعارة.
﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأنه شبَّه عدمَ التمسك، والعمل به، بإلقاء شيء مرمي خَلْفَ ظهر الإنسان. وفي "الفتوحات" نَبَذَ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية، وشبه أيضًا أخذ عوض حقير من حطام الدنيا على كتم آيات الله باشتراء ثمنٍ قليلٍ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
وقال أبو حيان (١): لقد تضمنت هذه الآياتُ من ضروب الفصاحة والبلاغة
(١) البحر المحيط.
331
والمحسنات البديعية:
منها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿قَالُوا﴾، و ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ و ﴿كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿فَقِيرٌ﴾ و ﴿أَغْنِيَاءُ﴾، و ﴿الْمَوْتِ﴾ و ﴿الْحَيَاةُ﴾ و ﴿زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾ ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿سَنَكْتُبُ﴾ و ﴿نَقُوْل﴾ و ﴿أجوركم﴾، إذ تقدمه كل نفس.
ومنها: التكرار في لفظ الجلالة، وفي البينات.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿سَنَكْتُبُ﴾ على قول من لم يجعل الكتابة حقيقةً، ﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ و ﴿تَأكُلُهُ النَّارُ﴾، ﴿وذوقوا﴾ ﴿وذائقة﴾.
ومنها: المذهب الكلامي في قوله: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿أيديكم﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿ذلك﴾ والشرط المتجوز فيه.
ومنها: الزيادة للتوكيد في قوله: ﴿بالزبر﴾ و ﴿بالكتاب﴾ في قراءة من قرأ كذلك.
ومنها: الحذف في مواضع انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
332
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها واضحة؛ لأنه تعالى لما ذكر أنه مالك السموات والأرض، وذكر قدرتَه، ذكرَ أن في خلقهما دلالات واضحةً لذوي العقول.
قال الرازي: واعلم أنه لما كان المقصود من هذا الكتاب الكريم جَذبَ القلوب، والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الإله الحق، وطال الكلامُ في تقرير الكلام، والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إثَارةٍ
(١) لباب النقول.
333
القلوب بذكر ما يدلُّ على التوحيد، والألوهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية.
وأيضًا في ختم هذه السورة بهذه الآية مناسبة لمبدئها؛ لأنه سبحانه وتعالى لمَّا بَدأَ هذه السورةَ الكريمة بذكر أدلة التوحيد، والألوهية، والنبوة.. خَتَمَها بذكر دلائل الوحدانية، والقدرة ودلائل الخلق، والإيجاد؛ ليستدل منها الإنسان على البعث والنشور، فكان ختامها مسكًا، كابتدائها، فيتأمل الإنسان في كتاب الله المنظور - الكون الفسيح - بعد أن تأمل في كتاب الله المسطور القرآن العظيم.
قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)﴾. مناسبتها لما قبلها: أنه لما وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في الدنيا في غاية الفقر، والشدة، والكفار كانوا في رخاء ولَيْنِ عيش ذَكر في هذه الآية ما يسليهم، ويصبرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارةَ ما أُوتيَ هؤلاء من حظوظ الدنيا، وذَكَر أنها متاعٌ قليل زائل، فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم، قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوالَ الكفار وأحوالَ أهل الكتاب، وأن مصيرهم إلى النار، ذَكَرَ حَالَ من آمن من أهل الكتابِ، وأنَّ مصيرَهم إلى الجنة فقال: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: أتت قريش اليهودَ فقالوا بمَ جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه، ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى، فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبيَّ - ﷺ - فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبًا، فدعا ربَّه فنزلت الآية ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)﴾ والمعنى: تفكروا واعتبروا أيها الناس: فيما خلقته وأنشأته من
334
السموات، والأرض لمعاشكم، وأرزاقكم.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ...﴾ الآية (١)، سبب نزولها: ما أخرجه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والترمذي والحاكم، وابن أبي حاتم، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله: لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله عز وجل: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى...﴾ إلى آخر الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما روى النسائي عن أنسٍ قال: لما جاء نعي النجاشي قال رسول الله - ﷺ - "صلوا عليه، فقالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي، فأنزل الله عز وجل ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...﴾ الآية. وروى ابن جرير نَحوه عن جابر. وفي المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت في النجاشي هذه الآية ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ وقيل (٢): نزلت في أربعين رجلًا من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي - ﷺ - وصدقوه. وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام، وأصحابه الذين آمنوا بالنبيِّ - ﷺ -. وقيل: نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب، وهذا القول أولى وأشمل.
قوله تعالى (٣): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا...﴾ أخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أما إنه لم يكن في زمن النبي - ﷺ - غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجدَ، يصلون الصلوات في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها.
وقد ثبت في "الصحيح" وغيره من قول النبي - ﷺ - " ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا
(١) لباب النقول.
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
335
إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباطُ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
التفسير وأوجه القراءة
١٩٠ - ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾؛ أي: إن فيما خلقَ في السموات من الملائكة، والشمس والقمر، والنجوم، والسحاب ﴿و﴾ فيما خلق في ﴿الأرض﴾ من الجبال، والبحور، والشجر، والدواب، هذا إن جعلنا ﴿خَلْقِ﴾ مصدرًا بمعنى اسم المفعول، والمعنى: إن في مخلوقات السموات، والأرض، ويصح إبقاؤه على مصدريته، والمعنى حينئذ: إن في إيجاد السموات والأرض، وإنشائهما على ما هما عليه في ذواتهما، وصفاتهما من إبداع لأحكام، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧)﴾ وبالجملة:
فَفِيْ كُلِّ شَيءٍ لَه آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
﴿و﴾ في ﴿اختلاف الليل والنهار﴾ وتعاقبهما في وجه الأرض بكون كل منهما خلفة عن الآخر، بمجيء الليل عقبَ النهار، والنهار عقبَ الليل، فليس أحد يقدر على الإتيان بالليل في النهار، ولا العكس أو في اختلافهما بزيادة أحدهما بقدر ما نَقَصَ من الآخر بحسب اختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربًا، وبعدًا ﴿لَآيَاتٍ﴾ واضحةً وبراهينَ قطعيةً ودلالات دالة على وجوده تعالى، وباهر قدرته، ووحدانيته، وعظيم علمه، وسلطانه.
﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة الخالصة عن شوائب النقص الذين (١) خلص عقلهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فيرون أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر؛ لأنَّ جوهرًا ما لا ينفك عن عرض حادثٍ؛ وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، ثم حدوثها يدل على محدثها، وذا قديم، وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى، وحسن
(١) النسفي.
صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل على قدرته، وروي أنه - ﷺ - قال: "ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها".
١٩١ - قوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ﴾ نعت ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ويجوز قطعه إلى الرفع، أو إلى النصب، بتقدير أمدح مثلًا؛ أي: أولو الألباب هم الذين يكررون ذكر الله من التهليل، والتسبيح، والتحميد، مثلًا بألسنتهم، ويستحضرون عظمة الله في قلوبهم، ويتذاكرون حكمته وفضله وجليلَ نعمه في جميع أحوالهم في حال كونهم ﴿قِيَامًا﴾؛ أي: قائمين ﴿و﴾ في حال كونهم ﴿قعودًا﴾؛ أي: قاعدين، ﴿و﴾ في حال كونهم مضطجعين ﴿على جنوبهم﴾ جمع جنب ومستلقين على ظهورهم.
والخلاصة: أنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره، واستغراق سرائرهم بمراقبته. وفي الحديث "من أحب أن يرتعَ في رياض الجنة، فليكثر ذكرَ الله".
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - ﷺ - يذكر الله عَزَّ وَجَلَّ في كل أحيانه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله - ﷺ - قال: "من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترةً، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه من الله ترة". أخرجه أبو داود. والترة: النقص، وقيل: هي هنا: التبعة.
وقال (١) علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وقتادة: هذا في الصلاة؛ يعني هم الذين يصلون قيامًا، فإن عجزوا فقعودًا، فإن عجزوا.. فعلى جنوبهم، والمعنى: أنهم لا يتركون الصلاةَ في حال من الأحوال، بل يصلون في كل حال، ويدومون عليها.
وأخرج البخاري عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كانت بي
(١) الخازن.
337
بواسير، فسألت النبي - ﷺ - عن الصلاة فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". وأخرجه الترمذي، وقال فيه: سألته عن صلاة المريض، وذكر نحوه.
وذكر الله وحده لا يكفي في الاهتداء، بل لا بد معه من التفكر في بديع صنعه، وأسرار خليقته، ومن ثمَ قال: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على قوله: ﴿يَذْكُرُونَ﴾. وأصل الفكر: إعمالُ الخاطر في الشيء، وتردد القلب في ذلك الشيء، وهو قوة متطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكُّر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، ولا يمكن التفكر إلا فيما له صورة في القلب، ولهذا قيل: تفكروا في ألاء الله، ولا تفكروا في ذات الله تعالى، إذ الله منزه أن يوصف بصورة؛ أي: ويتفكرون إستدلالًا، واعتبارًا في بديع صنعهما، وإتقانهما، مع عِظَمِ أجرامهما، وما أبدع الله فيهما من عجائب مصنوعاته، وغرائب مبتدعاته، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، ويعلموا أن لهما خالقًا، قادرًا، مدبرًا، حكيمًا؛ لأن عظم آثاره، وأفعاله، تدل على عظم خالقه سبحانه وتعالى.
وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
وإنما ذَكَر (١) التفكرَ في خلق الله؛ لورود النهي عن التفكر في الخالق؛ لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته، وصفاته، فقد أخرج الأصبهاني، عن عبد الله بن سلام، قال: خرج رسول الله - ﷺ - على أصحابه، وهم يتفكرون، فقال: "تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق".
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "تفكروا في آلاءِ الله، ولا تفكروا في الله تعالى". وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ هو على تقدير القول؛ أي: يقولُ الذاكرون المتفكرون: ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية، والأرضية باطلًا، ولا أبدعته عبثًا سبحانك رَبَّنا، تنزهت عن
(١) المراغي.
338
الباطل والعبث، بل كل خلقك حق مشتمل على حكَم جليلةٍ، ومصالحَ عظيمة، والإنسان بعض خلقك، لم يخلق عبثًا، فإن لحقه الفناءُ، وتفرقت منه الأجزاء بعد مفارقة الأرواح للأبدان. فإنما يهلك منه كونه الفاسدَ؛ أي: الجسم، ثم يعود بقدرتك في نشأة أخرى، كما بدأته في النشأة الأولى، فريق أطاعَكَ، واهتدى، وفريقٌ حقت عليه الضلالة، فالأول يدخل الجنة؛ بصالح أعماله، والآخر يكب في النار، بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات جزاءً وفاقًا.
وقيل معناه (١): ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلينَ ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿مَا خَلَقْتَ﴾، وأوجدت ﴿هَذَا﴾ الخلق، وأخرجته إلى الوجود من العدم ﴿بَاطِلًا﴾ وعبثًا ضائعًا بلا حكمة بل خلقتَهُ دليلًا على وحدانيتك، وكمال قدرتك ﴿سُبْحَانَكَ﴾؛ أي: تنزيهًا لك عن أن تخلق شيئًا عبثًا لغير حكمة، وهو اعتراض، وقوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ الفاء (٢) دخلت فيه لمعنى الجزاء، تقديره: إذا نزهناك. فقنا عذاب النار؛ لأنه جزاء من عصى، ولم يُطع، والمعنى: فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل، حتى يكون ذلك وقايةً لنا من عذاب النار. والمقصود من قوله: ﴿سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ تعليم عباده كيفيةَ الدعاء، فمن أراد أن يدعو.. فليقدم الثناء على الله أولًا، ويدل عليه قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾، وبعد ذلك الثناء يأتي بالدعاء، ويدل عليه قوله: ﴿فَقِنَا﴾ ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾.
واعلم (٣): أنه تعالى لما حَكَى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله... وأبدانَهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله؛ ذكَر أنهم مع هذه الطاعة يطلبون من الله أن يقيهَم عذاب النار؛ لأنه يجوز على الله تعذيبهم؛ لأنه لا يقبحُ من الله شيء أصلًا.
واعلم (٤): أن دلائلَ التوحيد في خلق هذا العالم محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائلُ الأنفس، ولا شك أن دَلائل الآفاق أعظمُ وأعجب، فلو أن الإنسان نظَر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة. رأى في تلك الورقة عرقًا
(١) الخازن.
(٢) النسفي.
(٣) مراح.
(٤) مراح.
339
واحدًا ممتدًا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق، عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصرُ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكمًا بالغة، وأسرارًا عجيبة، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة.. لعجز، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقةَ الصغيرة، فإذا قاس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمسِ، والقمر، والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار، والجبال، والمعادن، والنبات والحيوان.. عَرفَ أن تلك الورقةَ بالنسبة إلى هذه الأشياءِ كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير.. عرف أنه لا سبيل له إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان قصور عقله.. لم يبقَ معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل من أن يحيط به، وصف الواصفين، ومعارف العارفين، بل يسلم أن في كل ما خلقه الله تعالى حكمًا بالغةً، وأسرارًا عظيمةً، ولا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا﴾ الخلق العجيب ﴿بَاطِلًا﴾؛ أي: بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة، وهي أن تجعلها مساكنَ للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك، وتحرزوا عن معصيتك، ومدارًا لمعايش العباد، ومنارًا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد ﴿سُبْحَانَكَ﴾ وهذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة، بآثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض؛ أي: إن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة. لم يعرفوا منها إلا هذا القدر، وهو أن خالِقَها ما خلقَها باطلًا، بل خلقها لحكم عجيبةٍ، وأسرار عظيمةٍ، وإن كانت العقول قاصرةً عن معرفتها ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ للإخلال (١) بالنظر فيه، والقيام بما يقتضيه، وفائدة هذه الفاء: هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقتَ السموات والأرض، حملهم على الاستعاذة.
ثم إنهم بعد أن يدعو ربهم أن يقيهم دخولَ النار يتوجهون إليه قائلين:
(١) البيضاوي.
340
١٩٢ - ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ وأهنته بيانًا للسبب الذي حملهم على دعائه، بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار.. فقد أخزاه؛ أي: أذله، وأهانه غايةَ الإذلال، ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: الكافرين ﴿مِنْ أَنْصَارٍ﴾ يمنعونهم من عذاب الله تعالى. والظالم: هو الذي يتنكب الطريقَ المستقيم، وقد وصف الله سبحانه وتعالى من يدخل النار بالظلم؛ للدلالة على أن سبب دخوله إياها: هو جوره، وظلمه، وللتشنيع عليه بهذا العمل القبيح؛ أي: إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين، ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار، والحكم، فيعلمون أنه لا يمكن أحدًا أن ينتصر عليه، وأن من عاداه. فلا ملجأ له إلا إليه، ويقولون:
١٩٣ - ﴿رَبَّنَا﴾؛ أي: يا مالك أمرنا ﴿إِنَّنَا سَمِعْنَا﴾، وأصغينا ﴿مُنَادِيًا﴾؛ أي: نداء مناد ﴿يُنَادِي﴾، ويدعو ﴿لِلْإِيمَانِ﴾؛ أي: إلى الإيمان والتوحيد ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾؛ أي: ينادي بأن آمنوا وصدقوا، ووحدوا بمتولي أموركم، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه ﴿فَآمَنَّا﴾؛ أي: سمعنا نداءه فأجبناه، وصدقناه، واتبعناه فيما دعانا إليه من التوحيد والطاعة.
قال ابن عباس (١) وأكثر المفسرين: المنادي هو محمَّد - ﷺ - ويدل على صحة هذا القول. قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾ قال محمَّد بن كعب القرظي: المنادي هو القرآن، قال: إذ ليس كل أحد لقي النبي - ﷺ -. ووجه هذا القول أنَّ كل أحد يسمع القرآن، ويفهمه فإذا وفقه الله تعالى للإيمان به. فقد فاز به، وذلك لأن القرآن مشتمل على الرشد، والهدى، وأنواع الدلائل الدالة على الوحدانية فصار كالداعي إليها.
وفي توطئة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم، وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة، والابتهال إلى من عودهم الإحسانَ والأفضالَ.
﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ﴾؛ أي: فاستر لنا ﴿ذُنُوبَنَا﴾ الكبائرَ، أو الماضية، ولا تفضحنا
(١) الخازن.
بها ﴿وَكَفِّرْ﴾؛ أي: وغط وامح بفضلك ورحمتك ﴿عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ الصغائر، أو المستقبلة. وقيل: المراد (١) بالأول ما يزول بالتوبة، وبالثاني ما تكفره الطاعة العظيمة، وقيل: المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصيةً، وبالثاني ما أتى به الإنسان مع جهله بذلك. والظاهر (٢): عدمُ اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين، والآخر بالآخر، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحدًا، والتكرير للمبالغة، والتأكيد كما أن معنى الغفر، والتكفير واحد. والغفران: الستر، والتغطية، يقال: رجل مكفر بالسلاح؛ أي: مغطى به، قال لبيد:
في لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُوْمَ ظَلاَمُهَا
وكذلك التكفير معناه الستر، فهما بمعنى واحد، وإنما ذكرَهما للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ في الدعاء، والمبالغةَ فيه مندوب إليه، ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾؛ أي: أمتنا مصاحبين وملتبسينَ بأعمال الأبرار والأخيار المتمسكين بالسنة والطريقة المستقيمة من الأنبياء، والمرسلين، والصديقين، والصالحين، حتى نكون في درجاتهم يوم القيامة، أو المعنى: وتوفنا على الإيمان، واجمعنا مع أرواح النبيينَ والصالحين.
والحاصل: أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثةَ أشياء: غفرانَ الذنوب المتقدمة، وتكفيرَ السيئات المستقبلة، وأن تكون وفاتهم مع الأبرار؛ بأن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة، كما يقال: فلان في العطاء مع أصحاب الألوف؛ أي: هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفًا، قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾ وفي هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله، ومن أحب لقاء الله. أحب الله لقاءَه.
١٩٤ - ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا﴾؛ أي: أعطنا ﴿مَا وَعَدْتَنَا﴾ من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا، والنعيم في الآخرة جزاءً ﴿عَلَى﴾ تصديق ﴿رُسُلِكَ﴾ واتباعهم، فالجار والمجرور، إمَّا متعلق بوعدتنا؛ أي: وعدتنا على تصديق رسلك، أو متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف مؤكد للعامل، تقديره: وعدتنا وعدًا كائنًا على ألسنة رسلك.
(١) المرح.
(٢) الشوكاني.
342
وخلاصة ذلك (١): أنهم قالوا: أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق به ذلك، إلى أن تتوفانا مع الأبرار. وفي هذا استشعار بتقصيرهم، وعدم الثقة بثباتهم، إلا بتوفيق الله، ومزيد عنايته. وقرأ الأعمش على ﴿رسْلك﴾ بإسكان السين. ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾؛ أي: لا تهنا، ولا تفضحنا، ولا تهتك سترنا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بإدخالنا النارَ التي يخزى من دخلها، ﴿إِنَّكَ﴾ يا إلهي ﴿لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾؛ أي: لا تخلف ما وعدتَ به على الإيمان، وصالح العمل، فقد وعدتَ المؤمنين بسيادة الدنيا في قولك: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾
وقلت: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ ووعدت بسعادة الآخرة، فقلت: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾.
فإن قلتَ (٢): كيف سألوا الله إنجازَ ما وَعَد، والله لا يخلف الميعاد؟ قلتُ: معناه أنهم طلبوا من الله تعالى التوفيقَ فيما يحفظ عليهم أسبابَ إنجاز الميعاد، وقيل: هو من باب اللجاء إلى الله تعالى، والتذلل له، وإظهار الخضوع والعبودية؛ كما أن الأنبياء عليهم الصلاة واللام يستغفرون الله مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذللَ لربهم سبحانه وتعالى، والتضرعَ إليه، واللجاء إليه، الذي هو سيما العبودية. وقيل: معناه ربنا، واجعلنا ممن يستحق ثوابكَ، وتؤتيهم ما وعدتَهم على ألسنة رسلك؛ لأنهم لم يتيقنوا استحقاقَهم لتلك الكرامة؛ فسألوه أن يجعلَهم مستحقين لها. وقيل: إنما سألوه تعجيلَ ما وعدهم من النصر على الأعداء، قالوا: قد علمنا أنك لا تخلف الميعاد، ولكن لا صَبْرَ لنا على حلمِك فعجل هلاكهم، وأنصرنا عليهم.
قال العلماء (٣): ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر آيات، اقتداء بالنبي - ﷺ - ثبت ذلك في "الصحيحين"، وغيرهما ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل. وفي الآثار عن جعفر الصادق: من حزبه أمرٌ فقال: ربنا خمس مرات أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
343
أراد،
١٩٥ - بهذه الآية: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾؛ أي: أجاب لهم ربهم سبحانه وتعالى دَعاءهم بـ ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ﴾، ولا أبطل، ولا أحبط ﴿عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون، سواء كان ذلك العامل ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ بل أثيبكم على ما فعلتم من الخيرات؛ فلا تفاوت في الإجابة، وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا في التمسك بالسنة والعمل بالطاعة على السواء ﴿بَعْضُكُمْ﴾ أيها المؤمنون والمؤمنات ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾؛ أي: كبعض في الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية؛ لأن تكليفي عام لكل من النوعين. وقيلَ: بعضُكم من بعض في الدين، والنصرة، والموالاة. وقيل: الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، فكلكم من آدَمَ وحواء.
وهذه الجملة معترضة، بيَّن الله سبحانه وتعالى بها شركةَ النساءَ الرجالَ فيما وعده الله عبادَه العاملين.
وقرأ الجمهور (١) ﴿أَنِّي﴾ بفتح الهمزة، وإسقاط الباءِ، أي: بأني، وهو مطرد إذا أمن اللبس كما قال ابن مالك:
نَقْلًا وَفِيْ أَنَّ وَأَنْ يَطَّرِدُ مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوْا
وقرأ أبي ﴿بأنى﴾ بإثبات الباء، وهي للسببية؛ أي: فاستجاب لهم ربهم؛ بسبب أنه لا يضيع عملَ عامل منهم، والمراد بالإضاعة تركُ الإثابة، وقرأ عيسى بن عمر ﴿إنِّي﴾ بكسر الهمزة، فيكون على إضمار القول على قول البصريين، أو على الحكاية بقوله: ﴿فَاسْتَجَابَ﴾ لأن فيه معنى القول على طريقة الكوفيين. وقرأ الجمهور ﴿أُضِيعُ﴾ من أضاع الرباعي، وقرأ بعضهم ﴿أُضِيعُ﴾ بالتشديد من ضيع المضعف، والهمزة، والتشديد فيه: للنقل.
ويستنبط من هذه الآية أمور كثيرة:
منها: أن الاستجابة يصح أن تكون بغير ما طلبَ، فقد سألوه غفرانَ الذنوب وتكفيرَ السيئات، والوفاةَ مع الأبرار، فأجابهم بأن كل عامل سيوفَى جزاءَ
(١) المراغي.
344
عمله، وفي ذلك تنبيه على أن العبرةَ في النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب إنما تكون لإحسان العمل، والإخلاص فيه.
ومنها: أن الذكر والأنثى متساويان عند الله في الجزاء متى تساويَا في العمل، حتى لا يغتر الرجل بقوته، ورياسته على المرأة، فيظن أنه أقربُ إلى الله منها.
ومنها: أن الله قد بين علة هذه المساواة بقوله: بعضكم من بعض، فالرجل مولود من المرأة، والمرأة مولودة من الرجل، فلا فرق بينهما في البشرية، ولا تفاضل إلا بالأعمال.
ومنها: أنها رفعَتْ قَدْر النساء المسلمات في أنفسهن، وعند الرجال المسلمين.
ومنها: أن هذا التشريع قد أصلح معاملةَ الرجل للمرأة، واعترَفَ لها بالكرامة، وأنكرَ تلك المعاملةَ القاسيةَ التي كانت تعاملها بها بعض الأمم، فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل، وبعضُها يعدها غير أهل للتكاليف الدينية؛ إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السباقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة، ومساواتها للرجل؛ ليس مبنيًّا على أساس صحيح، فالإِسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينيةُ، والمدنية يتميز الرجل من المرأة، نعم إن المسلمين قصروا في تعليم النساء، وتربيتهن، لكن هذا لا يصلح حجةً على الدين نفسه.
ومنها: أن ما يفضل به الرجالُ النساء من العلم والعقل، وما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال، وجعل حظ الرجل في الإرث مثلَ حظ الانثيين؛ لأنه يتحمل نفقة امرأته؛ فلا دخل لشيء منه في التفاضل عند الله بثواب ولا عقاب.
ثم فصل الله سبحانه وتعالى العملَ الذي أجمله في قوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ﴾ بقوله: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ وارتحلوا معه - ﷺ - أو بعده من مكة إلى
345
المدينة، وفارقوا أوطانَهم التي ولدوا فيها طلبًا لرضا الله ورسوله - ﷺ - ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾؛ أي: ألجأهم الكفار إلى الخروج من منازلهم التي تربوا فيها ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ وديني، وطاعتي؛ أي: آذاهم وأضرهم المشركون بسبب إيمانهم باللهِ، وعملهم بما شرعه الله تعالى لعباده، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة، فهاجر طائفة إلى الحبشة، وطائفة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله - ﷺ - وبعد هجرته. فلما استقر رسول الله - ﷺ - في المدينة رجع إليه من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين ﴿وَقَاتَلُوا﴾ الكفار أعداءَ الله، وجاهدوهم لإعلاء كلمة الله، ونصر دينه مع رسوله - ﷺ - ﴿وَقُتِلُوا﴾ بالبناء للمفعول؛ أي: واستشهدوا في جهاد الكفار.
وقرأ (١) جمهورُ السبعة ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ وقرأ حمزة، والكسائي ﴿وقتلوا وقاتلوا﴾ يبدآنِ بالمبني للمفعول، ثم بالمبني للفاعل فتتخرَج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب، فيكون الثاني وقع أولًا، ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع، فالمعنى قتل بعضهم، وقاتل باقيهم. وقرأ عمر بن عبد العزيز ﴿وقتلوا وقتلوا﴾ ببناء الأول للفاعل، وبناء الثاني للمفعول، وهي قراءة حسنة في المعنى مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن دثار ﴿وقتلوا﴾ بفتح القاف ﴿وقاتلوا﴾ وقرأ طلحة بن مصرف ﴿وقتلوا وقاتلوا﴾ بضم القاف الأولى، وتشديد التاء، وهي في التخريج كالقراءة الأولى. وقرأ أبو رجاء والحسن ﴿وقاتلوا وقتلوا﴾ بتشديد التاء، والبناء للمفعول؛ أي: قطعوا في المعركة.
واللام في قوله ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه خبر عن قوله: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾؛ أي: لأمحون عنهم ذنوبهم، ولأغفرنها لهم؛ أي: وعزتي وجلالي، لأسترن ذنوبَ هؤلاء الموصوفين بالصفات السابقة بمحض فضلي ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ﴾ وبساتينَ ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾؛ أي: أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من
(١) البحر المحيط.
346
لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين. وقوله ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ مصدر مؤكد لمعنى قوله: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ﴾ والمعنى: ولأثيبن هؤلاء المذكورين بالثواب المذكور إثابةً كائنةً من عند الله؛ أي: من فضل الله وإحسانه إليهم، لا وجوبًا عليه ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾؛ أي: الثواب الحسن، والجزاء الموفر، وهي الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعَت، ولا خطرَ على قلب بشر، وهذا تأكيد لكون ذلك الثواب الذي أعطاهم من فضله، وكرمه؛ لأنه جواد كريم.
وقد وعد (١) الله تعالى هؤلاء الموصوفينَ بالصفات السابقة بأمور ثلاثة:
الأول: هو السيئات، وغفران الذنوب، ودل على ذلك بقوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ وذلك ما طلبوه بقولهم: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾.
الثاني: إعطاء الثواب العظيم، وهو قوله: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وهذا ما طلبوه بقولهم ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾.
والثالث: أن يكون هذا الثواب عظيمًا مقرونًا بالتعظيم والإجلال، وهو قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، وهذا ما طلبوه بقولهم، ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. والمعنى: لأكفرن عنهم سيئاتهم، ولأدخلنهم الجنات، ولأثيبنهم بذلك ثوابًا من الله لا يقدر عليه غيره. ولما قال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، والسعة، والتمتع، والتقلب في البلاد في أسفارهم للتجارة، والمكاسب، ونحن في الجهد، والضيق، والفقر، والجوع..
١٩٦ - نزل قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾، والخطاب فيه لرسول الله - ﷺ - والمراد غيره من الأمة؛ لأنه - ﷺ - معصوم عن الاغترار بذلك، والمعنى: لا يخدَعَنَك، ولا يغرنك أيها المخاطب ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: تنقلهم وضَرْبهُم في البلاد، وأرجاء الأرض، وأَمْنهم في تقلباتهم للتجارات، وطلب الأرباح، والمكاسب وتَبسُّطهم في المعاش والملاذ.
وخلاصة المعنى: لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ كيف
(١) المراغي.
شاؤوا، وأنتم معاشرَ المؤمنين خائفون محصورون، فإنَّ ذلك لا يبقى إلا مدةً قليلة، ثم ينتقلون إلى أشدِّ العذاب؛ فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله، فهو النعيم الحقيقي الباقي.
١٩٧ - وقرأ (١) ابن أبي إسحاق، ويعقوب لا يغرنك، ولا يصدنك، ولا يصدنكم، ولا يغرنكم، وشبهه بالنون الخفيفة ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ خبر لمحذوف تقديره؛ ذلك التقلب، والتبسط شيء قليل، متعوا به، ومنفعة يسيرة زائلة، لا تدوم لا قدرَ لها في مقابلة ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، قال - ﷺ -: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعَه في اليم، فلينظر بم يَرجع". رواه مسلم. ﴿ثُمَّ مَأوَاهُمْ﴾؛ أي: ثم المكان الذي يأوون إليه، وينزلون فيه إنما هو ﴿جَهَنَّمُ﴾، وعبر بالمأوى إشعارًا بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها، وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لم أماكن انتقال من مكان إلى مكان لا قرارَ لهم، ولا خلودَ، ثم المأوى الذي يأوون إليه، ويستقرون فيه هو جهنم ﴿وَبِئْسَ﴾ وقبح ﴿الْمِهَادُ﴾ والفراش لهم، والمخصوص بالذم جهنم
١٩٨ - ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ لما تضمن (٢) ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد، هو متاع قليل، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم، فدل على قلة ما متعوا به؛ لأن ذلك منقض بانقضاء حياتهم، ودل على استقرارهم في النار.. استدركَ بلكن الإخبارَ عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين، وذلك شيئان:
أحدهما: مكان استقرار، وهي الجنات.
والثاني: ذكر الخلود فيها، وهو الإقامة دائمًا، والتمتع بنعيمها سرمدًا فقابل جهنم بالجنات، وقابل قلة متاعهم بالخلود. الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن هنا أحسن موقع؛ لأنه آل معنى الجملتين إلى تعذيب الكفار، وإلى تنعيم المتقين فهي واقعة بين الضدين. وقرأ الجمهور ﴿لكن﴾ خفيفةَ النون، وقرأ أبو جعفر بالتشديد، ولم يظهر لها عمل؛ لأن اسمها مبني؛ أي: لكن المؤمنون
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
الذين اتقوا، وخافوا عقاب ربهم بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات، وإن أخذوا في التجارات، والمكاسب لهم جنات وبساتين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ من الماء، واللبن، والخمر، والعسل حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات أبدًا لا يموتون، ولا يخرجون منها، فلا يضرهم التبسط في الدنيا، إذا كان على الوجه المعروف في الشرع، فذم الدنيا ومعيشتها للكافر خاصة كما قال بعضهم:
مَا أَحْسَنَ الدِّيْنَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا لاَ بَارَكَ اللهُ فِيْ دُنْيَا بِلاَ دِيْنِ
حالة كون تلك الجنات ﴿نُزُلًا﴾؛ أي: جزاء وثوابًا، وعطاءً، وإكرامًا، واقعًا لهم ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ضيافة معدةً لهم من فضله، وكرمه سبحانه وتعالى. والنزل في الأصل ما يهيأ للضيف النازل من القِرَى والطعام، والشراب النفيس، وفي الآية: إيماء إلى أن النازلينَ فيها ضيوف عند ربهم، يحفهم بلطفه، ويخصهم بكرمه، وجوده، وهذه الجنات نعيم جسماني لهم، وهناك نعيم روحاني أعطاه الله بمحض الفضل والإحسان، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى من الكرامة فوق ما تقدم كرؤية الله عز وجل، أو من الثواب الدائم ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿لِلْأَبْرَارِ﴾؛ أي: للموحدين مما يتقلب فيه الكفار، والفجار في الدنيا من المتاع القليل السريع الزوال.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: جئت رسول الله - ﷺ - فإذا هو في مشربة، وإنه لعلَى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبور، وعند رأسه أُهَبٌ معلقة، فرأيت أثَر الحصير في جنبه، فبكيت فقال: "ما يبكيك"؟ قلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله. فقال: "أمَا ترضَى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة". متفق عليه. وهذا لفظ البخاري. والمشربة الغرفة والعليةُ والمشاربُ العلالي.
١٩٩ - ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: وإن من اليهود والنصارى ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ﴾ ويصدق ﴿بـ﴾ وحدانية ﴿الله﴾ تعالى كعبد الله بن سلام، وأصحابه، والنجاشي، وأصحابه ﴿و﴾ يؤمن بـ ﴿ما أنزل إليكم﴾ من القرآن ﴿و﴾ يؤمن بـ ﴿ما أنزل إليهم﴾
349
من التوراة، والإنجيل، والزبور حالةَ كونهم ﴿خَاشِعِينَ﴾؛ أي: متواضعين ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات ﴿لَا يَشْتَرُونَ﴾ أي: لا يأخذون (بـ) كتمان ﴿آيات الله﴾ من أمر محمَّد - ﷺ - ونعته من سَفَلتهم ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا؛ كما يفعله غيرهم من أهل الكتاب، يعني لا يغيرون كتبهم، ولا يحرفونها، ولا يكتمون صفة محمَّد - ﷺ - لأجل الرئاسة، والمآكل، والرشا كما يفعلُه رؤساء اليهود.
والحاصلُ (١): أنه سبحانه وتعالى لما بين حال المؤمنين، وما أعد لهم من الثواب، وحالَ الكافرين، وما هيأ لهم من العقاب.. ذكر هنا حالَ فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن، وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هديِ الأنبياءِ، وقد وصفهم الله تعالى بصفات كلها تستحق المزيَةَ والشرفَ:
الأولى: الإيمان بالله إيمانًا لا تشوبه نزعات الشرك، ولا يفارقه الإذعانُ الباعثُ على العمل، لا كمن قال الله فيهم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.
الثانية: الإيمان بما أنزل إلى المؤمنين، وهو ما أوحاه الله تعالى إلى نبيه محمَّد - ﷺ -.
الثالثة: الإيمان بما أنزل إليهم، وهو ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم، والمراد به: الإيمان به إجمالًا وما أرشد إليه القرآن تفصيلًا فلا يضيرُ في ذلك ضياع بعضه، ونسيان بعضه الآخر.
الرابعة: الخشوع، وهو الثمرة للإيمان الصحيح؛ فإن الخشوع أثر خشية الله في القلب، ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر، فيخشعُ البصر بالانكسار، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج (٢).
(١) المراغي.
(٢) تهدج الصوت: تقطُعُه في ارتعاش.
350
الخامسة: عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله، وهذا أثر لما قبله.
﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بهذه الصفات الحميدة المذكورة ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾؛ أي: لهم ثواب أعمالهم، وأجر طاعتهم حالَ كونه مدخرًا لهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ الذي رباهم بنعمه، وهداهم إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ أي: سريع لإيصال الأجر الموعود إليهم من غير حاجة إلى تأمل؛ لكونه عالمًا بجميع الأشياء، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب، فهو يحاسب الناسَ جميعَهم في وقت قصير، فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم، وانطوت عليه جوانحهم، وهو مكتوب في صحائف أعمالهم، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة الأفلام التي تعرض فيها الحوادث والوقائع في عصرنا الحاضر، وقد ختم الله سبحانه وتعالى هذه السورةَ بوصية للمؤمنين، إذا عملوا بها كانوا أهلًا لاستجابة الدعاء، وأحق بالنصر في الدنيا وحسن المثوبة في الآخرة فقال:
٢٠٠ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ على (١) شدائد الدنيا وآلامها من مرض، وفقر، وخوف، أو على تكاليف دينكم، وأدائها، وعلى مشقة الاحتراز عن المنهيات ﴿وَصَابِرُوا﴾؛ أي: تحملوا المكارهَ التي تلحقكم من غيركم، ويدخل في ذلك احتمالُ الأذى من الأهل والجيران، وترك الانتقام ممن يسىء إليكم؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ والعفو عمن ظلمكم كما قال تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ ودفع شبه المبطلين، وحل شكوكهم، والإجابة عن شبههم.
﴿وَرَابِطُوا﴾؛ أي: اربطوا خيلكم في الثغور كما يربط العدو خيله استعدادًا للقتال، كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ ويدخل في هذا كل ما ولده العلم في هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات، وقاذفات للقنابل، ودبابات، ومدافع رشاشة، وبنادق، وأساطيل بحرية، ونحو
(١) المراغي.
351
ذلك مما صار الآن ضروريًّا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزلَ من السلاح، وإن كان مدججًا به، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب، والخطط العسكرية بارعين في العلوم الطبيعية، والرياضية، فكل ذلك واجب على المسلمين في هذا العصر؛ لأن الاستعدادَ المأمور به في الآية لا يتم إلا به.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها". متفق عليه.
وعن سلمان الخير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - قال: "رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه. جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان". رواه مسلم.
وفي سنن أبي داود قال: "كل الميت يختم على عمله، إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتاني القبر". وقيل: المراد بالمرابطة: انتظار الصلاة بعد الصلاة، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمن النبي - ﷺ - غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة.
ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات" قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". أخرجه مسلم.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في مخالفة أمره ونهيه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تظفروا السعادةَ الأبديةَ في الدنيا والآخرة، قال (١) محمَّد بن كعب القرظي يقول الله عز
(١) الخازن.
352
وجل: واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. وقال (١) بعضهم في معنى هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا اصبروا على بلائي، وصابروا على نعمائي، ورابطوا على مجاهدة أعدائي، واتقوا محبة سوائي لعلكم تفلحون بلقائي. وقيل: اصبروا على النعماء، وصابروا على البأساء، والضراء، ورابطوا في دار الأعداء، واتقوا إله الأرض والسماء، لعلكم تفلحون في دار البقاء. وقيل: اصبروا على الدنيا ومحنها، رجاءَ السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة، واتقوا ما يعقبكم الندامةَ لعلكم تفلحون غدًا في دار الكرامة، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
ولقد (٢) أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر التقوى، ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله، وعَرَفَ سنةَ نبيه وسيرة السلف الصالح من الأمة الإِسلامية، ومن فعل كل ما تقدم فصبرَ، وصابَرَ، ورابطَ لحماية الحق، وأهله، ونشَرَ دعوته، واتقى ربه في سائر شؤونه فقد أفلح، وفاز بالسعادة عند ربه.
الإعراب
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا لـ ﴿إنَّ﴾ تقديره: إن آيات دالات على وحدانية الله لكائنة لأولي الألباب في خلق السموات ﴿وَالْأَرْضِ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَاخْتِلَافِ﴾ معطوف على ﴿خَلْقِ﴾، وهو مضاف. ﴿اللَّيْلِ﴾ مضاف إليه. ﴿وَالنَّهَارِ﴾
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
353
معطوف على الليل. ﴿لَآيَاتٍ﴾ اللام حرف ابتداء. ﴿آيات﴾ اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر منصوب بالكسرة. ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾.
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الجر صفة ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾. ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿قِيَامًا﴾ حال من فاعل ﴿يذكرون﴾. ﴿وَقُعُودًا﴾ معطوف عليه. ﴿وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ الواو عاطفة. ﴿على جنوبهم﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف معطوف على ﴿قِيَامًا﴾ على كونه حالًا من فاعل ﴿يَذْكُرُونَ﴾، تقديره: وحالة كونهم مضطجعين على جنوبهم، ففي الآية عطف الحال المؤولة على الحال الصريحة عكسَ قوله تعالى: ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾، و ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿يَذْكُرُونَ﴾ على كونه صلة الموصول. ﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾، جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يتفكرون﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. وقوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ مقول محكي لقول محذوف تقديره: يقولون: ربنا ما خلفت هذا باطلًا، وجملة القول المحذوف حال من فاعل ﴿يتفكرون﴾، تقديره: ويتفكرون في خلق السموات والأرض حالةَ كونهم قائلينَ ربنا ما خلقت هذا باطلًا. ﴿رَبَّنَا﴾ رب منادى مضاف. ﴿نا﴾ مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف كما سبق آنفًا. ﴿مَا خَلَقْتَ﴾ ﴿ما﴾ نافية. ﴿خَلَقْتَ﴾ فعل وفاعل. ﴿هَذَا﴾ مفعول به ﴿بَاطِلًا﴾ حال من اسم الإشارة، وهو الأحسن في إعرابه، وهي حال لا يستغنى عنها إذ لو حذفت للزم نفي الخلق، وهو لا يصح أو مفعول من أجله؛ أي: ما خلقت هذا للباطل، والعبث، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المذكور. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: سبحناكَ، ونزهناك عن كل ما لا يليق بك
354
سبحانك، وجملة التسبيح جملة معترضة بين قوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ وبين قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. ﴿فَقِنَا﴾ الفاء حرف عطف وسبب؛ لأن ما بعدها متسبب عن قوله ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾؛ لأن المعنى فحيث وحدناك، ونزهناك عن النقائص فقنا عذاب النار؛ لأن النار جزاء من عَصَى، ولم يوحد. ﴿قنا﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾ مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ ﴿ربَّ﴾ منادى مضاف و ﴿نا﴾ مضاف إليه. ﴿إِنَّكَ﴾ ﴿إن﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿الكاف﴾ في محل النصب اسمها. ﴿مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ﴾ من اسم شرط في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿تدخل﴾ وجوبًا لكونه مما يلزم الصدارة. ﴿تُدْخِلِ النَّارَ﴾ فعل ومفعولِ ثان في محل الجزم على كونه فعل شرط لمن، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿فَقَدْ﴾ الفاء رابطة لجواب من وجوبًا لكونه مقرونًا بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿أَخْزَيْتَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب الشرط لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الواو عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ أَنْصَارٍ﴾ ﴿من﴾ زائدة. ﴿أَنصَارٍ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ ﴿ربَّ﴾ منادى مضاف و ﴿نا﴾ مضاف إليه. ﴿إِنَّنَا﴾ إن حرف نصب و ﴿نا﴾ اسمها. ﴿سَمِعْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿مُنَادِيًا﴾ مفعول به، وجملة ﴿سَمِعْنَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها جواب النداء ﴿يُنَادِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المنادي، والجملة في محل النصب صفة ﴿مُنَادِيًا﴾. ﴿لِلْإِيمَانِ﴾ جار ومجرور
355
متعلق بـ ﴿ينادى﴾. ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ أن تفسيرية بمعنى؛ أي: ﴿آمِنُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِرَبِّكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آمنوا﴾ والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ ﴿ينادى﴾ لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: ﴿أن﴾ مصدرية. ﴿آمِنُوا﴾ فعل وفاعل في محل النصب، وجملة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة المتعلقة بـ ﴿ينادي﴾ تقديره. ينادي بطلب إيمانكم. ﴿فَآمَنَّا﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب. ﴿آمنا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿سَمِعْنَا﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف ومضاف إليه. ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ الفاء حرف عطف وترتيب. ﴿اغفر﴾ فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَنَا﴾ متعلق بـ ﴿اغفر﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿أمنا﴾. ﴿ذُنُوبَنَا﴾ مفعول به، ومضاف إليه ﴿وَكَفِّرْ﴾ فعل دعاء معطوف على ﴿فَاغْفِرْ﴾. ﴿عَنَّا﴾ متعلق به. ﴿سَيِّئَاتِنَا﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَتَوَفَّنَا﴾: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿فاغفر﴾. ﴿مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿توفنا﴾، أو بمحذوف حال من ضمير المفعول تقديره: حالة كوننا مصاحبينَ للأبرار.
﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف ومضاف إليه. ﴿وَآتِنَا﴾ الواو عاطفة ﴿آتنا﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاغْفِرْ﴾، ﴿مَا وَعَدْتَنَا﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان ﴿لآتنا﴾ لأنه بمعنى أعطنا. ﴿وَعَدْتَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذرف تقديره: وعدتناه. ﴿عَلى رُسُلِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بوعدتنا؛ ولكنه على حذف مضاف تقديره: على ألسنة رسلك كما مر في بحث التفسير. ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾ ناهية.
356
﴿تُخْزِنَا﴾ فعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاغْفِرْ﴾. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تخزنا﴾. ﴿إِنَّكَ﴾ ﴿إن﴾ حرف نصب ومصدر و ﴿الكاف﴾ اسمها. ﴿لَا﴾ نافية. ﴿تُخْزِنَا﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْمِيعَادَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها معللة لقوله ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾.
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾.
﴿فَاسْتَجَابَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة (١) إما على مقدر، تقديره: دعوا ربهم بهذا الدعاء، فاستجاب لهم، والجملة المحذوفة مستأنفة، وإما على قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿استجاب﴾ فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿رَبُّهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. ﴿أَنِّي﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، والياء اسمها. ﴿لَا أُضِيعُ﴾ لا نافية. ﴿أُضِيعُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَمَلَ عَامِلٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿عامل﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر ﴿أن﴾؛ وجملة ﴿أن﴾. في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، تقديره: بعدم إضاعة عمل عامل. ﴿مِنْكُمْ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿استجاب﴾ هذا على قراءة فتح الهمزة، وأما على قراءة كسرها، فمقول لقول محذوف تقدير: فاستجاب لهم ربهم بقوله: أني لا أضيع عمل عامل منكم. ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾ جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله ﴿مِنْكُمْ﴾ بدل تفصيل من مجمل بإعادة العامل، أو بدل ﴿من﴾ لفظ ﴿عامل﴾ على جعل ﴿من﴾ زائدة، كأنه قال: لا أضيع عمل ذكر. ﴿أَوْ أُنْثَى﴾ معطوف على ذكر. ﴿بَعْضُكُمْ﴾ مبتدأ، ومضا إليه. ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، فالجملة معترضة لاعتراضها بين المجمل أعني قوله: {عَمَلَ
(١) الشوكاني.
357
عَامِلٍ مِنْكُمْ}، وبين ما فصل به عمل العاملين من قوله ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾. ولذلك قال الزمخشري ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾، تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم. وقيل (١): هي في محل التعليل للتعميم في قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ فكأنه قيل: إنما سوى بين الفريقين في الثواب لاشتراكهم في الأصل، والدين، والمعنى: كما أنكم من أصل واحد، وأن بعضكم مأخوذ من بعض، فكذلك أنتم سواء في ثواب العمل، لا يثاب رجل عامل دونَ امرأة.
﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾.
﴿فَالَّذِينَ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنّي لا أضيع عمل عامل منكم، وأردت بيانَ كيفية عدم الإضاعة، فأقول لك. ﴿الذين﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿هَاجَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَأُخْرِجُوا﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أخرجوا﴾. ﴿وَأُوذُوا﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾ أيضًا. ﴿فِي سَبِيلِي﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق ﴿بأوذوا﴾. ﴿وَقَاتَلُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿هاجروا﴾. و ﴿وَقُتِلُوا﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي لأكفرن. ﴿لأكفرن﴾ فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، ونون التوكيد: حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أكفرن﴾. ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا مفصلة لعملِ العاملين المجمل أولًا.
(١) الجمل.
358
﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾.
﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لأدخلنهم﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿أدخلن﴾ فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بـ ﴿نون التوكيد﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. و ﴿الهاء﴾ ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أول. ﴿جَنَّاتٍ﴾ مفعول ثان، وجملة القسم المحذوف في محل الرفع معطوفة على جملة القسم في قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ﴾. ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿جنات﴾ ولكنها سببية. ﴿ثَوَابًا﴾ حال من ﴿جَنَّاتٍ﴾، ولكنها مؤولة بمشتق تقديره: حالة كونها مثابًا بها، أو حال من ضمير المفعول في قوله: ﴿لأدخلنهم﴾ تقديره، حالة كونهم مثابين. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ ﴿ثَوَابًا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿عِنْدَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه خبر مقدم للمبتدأ الثاني. ﴿حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ مبتدأ ثان، ومضاف إليه، والتقدير: والله الثواب الحسن كائن عنده، والجملة الإسمية مستأنفة. وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ الأحسن: أنه فاعل بما تعلق به ﴿عِنْدَهُ﴾؛ أي: مستقر عنده؛ لأن الظرف قد اعتمد بوقوعه خبرًا، والإخبار بالمفرد أولى.
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)﴾.
﴿لَا﴾ ناهية. ﴿يغرن﴾ فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب، مبني على الفتح. ﴿الكاف﴾ ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به مبني على الفتح. ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل.
(١) الجمل.
359
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧)﴾.
﴿مَتَاعٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو متاع يعود على تقلبهم. ﴿قَلِيلٌ﴾ صفة لـ ﴿متاع﴾ والجملة مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف، وترتيب مع تراخ. ﴿مَأوَاهُمْ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿جَهَنَّمُ﴾ خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الواو استئنافية. ﴿بئس المهاد﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر للمبتدأ المحذوف وجوبًا، الذي هو المخصوص بالذم تقديره، هي يعود على جهنم، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره، جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب.
﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨)﴾.
﴿لَكِنِ﴾ حرف استدراك. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿اتَّقَوْا﴾ فعل وفاعل. ﴿رَبَّهُمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿جَنَّاتٌ﴾ مبتدأ ثان مؤخر عن خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره، في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول، وخبره جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿جنات﴾، ولكنها سببية. ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير في قوله ﴿لَهُمْ﴾، والعامل فيه معنى الاستقرار. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خالدين﴾. ﴿نُزُلًا﴾ حال من ﴿جَنَّاتٌ﴾ لتخصصه بالصفة، والمعنى حال كون تلك الجنات ضيافةً وإكرامًا من الله لهم، أعدها كما يعد القرى للضيف إكرامًا له. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ ﴿نزلا﴾. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ﴿ما﴾ مبتدأ. ﴿عِنْدِ اللَّهِ﴾ ظرف، ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿خَيْرٌ﴾ خبر للمبتدأ. ﴿لِلْأَبْرَارِ﴾ صفة لـ ﴿خير﴾ أو متعلق به، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إنَّ﴾ هو حرف نصب وتوكيد. {مِنْ أَهْلِ
360
الْكِتَابِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَمَنْ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتدأ. ﴿مِنْ﴾ اسم موصول في محل النصب، اسم إن مؤخر، والتقدير: وإن من يؤمن بالله.. لكائن من أهل الكتاب، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿يُؤْمِنُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، وفيه مراعاة للفظ ﴿من﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يؤمن﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الجر معطوف على لفظ الجلالة. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿إِلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أنزل﴾.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الجر معطوف على لفظ الجلالة. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿خَاشِعِينَ﴾ حال من ضمير ﴿يُؤْمِنُ﴾ في قوله: ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ﴾ وفيه مراعاة لمعنى ﴿من﴾ لأنه راعى معنى ﴿من﴾ في يسبعة مواضع أولها ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وآخرها ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خاشعين﴾ ﴿لَا يَشْتَرُونَ﴾ إلا نافية. ﴿يَشْتَرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال ثانية من ضمير ﴿يُؤمِنُ﴾. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يشترون﴾ ﴿ثَمَنًا﴾: مفعول به لـ ﴿يَشْتَرُونَ﴾. ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لـ ﴿ثَمَنًا﴾.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ أول ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ الثاني. ﴿أَجْرُهُمْ﴾ مبتدأ ثان مؤخر، ومضاف إليه، والتقدير: أولئك أجرهم كائن لهم، والجملة مستأنفة. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من أجرهم تقديره: حال كونه مدخرًا لهم عند ربهم ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ خبرها، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة بمنزلة التعليل.
361
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أي﴾. منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾ صفة ﴿لأي﴾ وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿اصْبِرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. وكذلك ﴿وَصَابِرُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اصْبِرُوا﴾. وكذلك جملة ﴿وَرَابِطُوا﴾ معطوف عليه. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿اصْبِرُوا﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ﴿لعل﴾ حرف نصب وترج وتعليل بمعنى كي. ﴿والكاف﴾ اسمها ﴿تُفْلِحُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة المعللة لجمل الأفعال المذكورة قبلها، والمعنى: اتصفوا بالصبر، وما بعده لطَلب فلا حكم ورجائه والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الخلق: مصدر قياسي لخلق من باب فَعل المفتوح المعدَّى، وهو إما باق على مصدريته، فيكون بمعنى التقدير، والترتيب الدال على النظام، والإتقان، أو بمعنى اسم المفعول؛ أي: مخلوقهما، و ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ جمع سماء، وهو ما علاك مما ترى فوقك، والأرض ما تعيش عليه.
﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ﴿والألباب﴾: جمع لب، كأقفال جمع قفل، وهو العقل.
﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ جمعان لقائم، وقاعد، وأجيز (١) أن يكونا مصدرين، وحينئذ يتأولان على ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا ﴿بَاطِلًا﴾ الباطل: العبث الذي لا فائدة فيه، والشيء الزائل الذاهب، ومنه قول لبيد:
أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ
(١) جمل.
362
﴿سُبْحَانَكَ﴾ اسم مصدر لسبح الرباعي، وهو من الأسماء التي تلزم النصب على المصدرية، ومعناه تنزيهًا لك عما لا يليق بك ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ من أخزى الرباعي، من باب: أفعل من مزيد الثلاثي ﴿ذُنُوبَنَا﴾ جمع ذنب، وهو (١) التقصير في المعاملة بين العبد وربه ﴿سَيِّئَاتِنَا﴾ جمع سيئة، وهي التقصير في حقوق العباد، ومعاملة الناس بعضهم بعضًا.
﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ جمع بار، كصاحب وأصحاب، وهو المحسن في العمل، أو جمع بر أصله برر، ككتف وأكتاف اهـ سمين ﴿لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ ﴿الْمِيعَادَ﴾: مصدر ميمي، بمعنى الوعد، لا بمعنى المكان، والزمان ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ﴾ ﴿استجاب﴾ من باب: استفعل، فالسين والتاء فيه زائدتان؛ لأنه بمعنى أجاب الرباعي، ويتعدى بنفسه، وباللام ﴿أُضِيعُ﴾ من أضاع الرباعي، فهو من مزيد الثلاثي؛ لأن ثلاثيه ضاع من باب باع ﴿ثَوَابًا﴾ الثواب اسم مصدر، لأثاب الرباعي، يقال: أثابه إثابة، وثوابًا، والثواب. هنا بمعنى الإثابة، التي هي المصدر فهو مصدرَ معنوي مؤكد لمعنى لأكفرن، ولأدخلنهم، فمعنى المجموع لأثيبنهم إثابةً، وإن كان في الأصل إسمًا لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى به.
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ من غر الثلاثي المضاعف المعدي يقال: غرني ظاهره؛ أي: قبلته على غفلة عن امتحانه، ويقال في الثوب إذا نشر، ثم أعيد إلى طيه: رددته على غره ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والتقلب: مصدر لتقلب الخماسي الذي هو من باب تفعل؛ أي: تصرفهم في التجارات، وتنقلهم في البلاد آمنين لطلب المكاسب ﴿مَتَاعٌ﴾ اسم مصدر من أمتع الرباعي؛ أي: ذلك الكسب والربح الحاصل لهم متاع ﴿قَلِيلٌ﴾ وإنما وصفه بالقليل؛ لأنه قصير الأمد ﴿ومأواهم جهنم﴾، والمأوى اسم مكان من أوى يأوي، من باب رمي يقال: أوى الرجل البيتَ يأوي إواءً ومأوى بالفتح على القياس؛ إذا نزل فيه، والمأوى مكانُ النزول. وجهنم اسم لطبقة من طباق النار يجازي بها الكافرون في الآخرة، ﴿الْمِهَادُ﴾ اسم للمكان
(١) المراغي.
363
الموطأ كالفراش والنزلُ بضمتين ما يهيأ للضيف النازل. وفي "السمين": النزاع ما يهيأ للضيف، هذا أصله ثم اتسع فيه، فأطلق على الرزق والغذاء، وإن لم يكن ضيف، ومنه ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ وفيه قولان: هل هو مصدر، أو جمع نازل. انتهى ﴿لِلْأَبْرَارِ﴾ جمع بار، وهو المتصف بالبر؛ أي: الإحسان كما مر ﴿وَصَابِرُوا﴾؛ أي: غالبوا أعداءكم بالصبر على شدائد القتال والحرب، وهو من باب: فاعل الرباعي فيدل على المفاعلة ﴿وَرَابِطُوا﴾؛ أي: أقيموا في الثغور رابطين خُيولَكم حابسينَ لها، مترصدينَ للغزو، فهو من باب: فاعل قال على المفاعلة أيضًا. وأصل (١) المرابطة: أن يربط هؤلاء خيولَهم، وهؤلاء خيولَهم بحيث يكون كل من الخصمين مستعدًا لقتال الآخر، ثم قيل لكل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه مرابط، وإن لم يكن له مركوب مربوط. والتقوى: اسم من اتقى يتقى إتقاء ثلاثيه تقى يتقي، كقضى يقضي، والتقوى أن تقي نفسك وتحفظها من غضب الله وسخطه. والفلاح: اسم مصدر من أفلح، وهو الفوز، والظفر بالبغية المقصودة من العمل.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع أنواعًا (٢):
منها: الاختصاص في قوله: ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، و ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، و ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، و ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ فكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما لهم، أو وما له، مراعاةً لمعنى ﴿من﴾ أو لفظها.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿أن آمنوا فآمنا﴾، و ﴿عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾.
ومنها: المغايرُ في قوله: ﴿مُنَادِيًا يُنَادِي﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾.
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط بتصرف.
364
ومنها: التنكير للتفخيم في قوله: ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ودخلت اللام في خبر إن لزيادة التأكيد.
ومنها: الالتفات إلى التكلم والخطاب في قوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ لإظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ و ﴿اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ فالسماء جهة العلو، والأرضُ جهة السفل، والليل عبارة عن الظلمة، والنهار: عبارة عن النور، و ﴿قِيَامًا﴾ و ﴿قُعُودًا﴾ و ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿رَبَّنَا﴾ حيث كرر خمس مرات، والغرض منه: المبالغة في التضرع، وفي ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ إن كان المعنى واحدًا، وفي ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وفي ﴿ثَوَابًا﴾ و ﴿حُسْنُ الثَّوَابِ﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾؛ أي: على ألسنة رسلك، وكذلك في قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: قائلين ربنا.
والاستعارة بسماع المنادى إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبالاستجابة عن قبول مسألتهم، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازاته على يسير أعمالهم، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان، وتغير معالمه عن خضوعهم، وتذللهم بين يديه، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته.
قيل: ويحتمل أن يكون الحساب أستعير للجزاء كما استعير ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦)﴾؛ لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾.
ومنها: الحذف في مواضع.
فإن قلت (١): ما الفائدة في الجمع بين ﴿مُنَادِيًا﴾ و ﴿يُنَادِي﴾؟
(١) جمل.
365
قلتُ: أجاب الزمخشري بأنه ذكر النداء مطلقًا، ثم مقيدًا بالإيمان تفخيمًا لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان، وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء السائرة، أو لإغاثة الملهوف، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع، فإذا قلت ينادي للإيمان فقد رفعت شأنَ المنادي وفخمته ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ وأتى هنا بالصلة مستقبلةً، وإن كان ذلك قد مَضَى دلالةً على الاستمرار والدوام (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) هذا آخر ما أوردناه على سورة آل عمران من التفاسير، وفرغنا منه في تاريخ: ٢٦/ ٨/ ١٤٠٨ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.
366
سورة النساء (١)
سورة النساء: مدنية كلها على الصحيح، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما نزلت سورة النساء، إلا وأنا عند رسول الله - ﷺ - وقد بَنَى النبي - ﷺ - بعائشة في المدينة، في شوال من السنة الأولى من الهجرة.
وآياتُها مئة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وكلماتها ثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة، وحروفها ستةَ عشرَ ألف حرف، وثلاثون حرفًا.
التسمية: وسميت سورة النساء لكثرة ما ورد فيها من الأحكام التي تتعلق بهن، بدرجة لم توجد في غيرها من السور، ولذلك أطلق عليها سورةُ النساء الكبرى في مقابلة سورة النساء الصغرى التي عرفت في المصحف بسورة الطلاق.
مناسبتها: والمناسبة بينها وبين سورة آل عمران من أوجه (٢):
منها: أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة بذلك، وهذا من آكد المناسبات في ترتيب السورة.
ومنها: أن في السابقة ذكرَ قصة أحد مستوفاة، وفي هذه ذيل لها، وهو قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ فإنه نزل في هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد.
ومنها: أنه ذكر في السالفة الغزوة التي بعد أحد، وهي غزوة حمراء الأسد بقوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وأشير إليها هنا في قوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ الآية.
وقال أبو حيان (٣): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أحوال
(١) بدأت تفسير هذه السورة في تاريخ: ٢٨/ ٨/ ١٤٠٨ هـ.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
367
المشركين، والمنافقين، وأهل الكتاب، والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ على المجازاة، وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق، والتوادد، والتعاطف، وعدم الاختلاف، ولينبه بذلك على أن أصل الجنس الإنساني، كان عابدًا لله مفردَه بالتوحيدَ والتقوى، طائعًا له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه، فنادى تعالى دعاءً عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سببًا للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم، وأنشأهم من نفس واحدة، ومن كان قادرًا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع، وإعدام هذه الأشكال، والنفع، والضر.. فهو جدير بأن يتقى انتهى.
ذكر ما حوته هذه السورة من الموضوعات (١)
١ - الأمر بتقوى الله تعالى في السر والعلن.
٢ - تذكير المخاطبين بأنهم خلقوا من نفس واحدة.
٣ - أحكام القرابة والمصاهرة.
٤ - أحكام الأنكحة والمواريث.
٥ - أحكام القتال.
٦ - الحجاج مع أهل الكتاب.
٧ - بعض أخبار المنافقين.
٨ - الكلامُ مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات في آخرها.
وبالجملة: اشتملت هذه السورة على ذكر حقوق النساءِ والأيتام، وخاصةً اليتيمات اللاتي في حجور الأولياء، والأوصياء، فقررت حقوقَهن في الميراث،
(١) المراغي.
368
والكسب، والزواج، واستنقذتهن من أسر الجاهلية، وتقاليدها الظالمة المهينة.
وتعرضت لموضوع المرأة فصانت كرامتَها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها، حقوقها التي فرضها الله تعالى لها كالمهر، والميراث وإحسان العشرة.
وتعرضت لأحكام المواريث على الوَجْهِ الدقيق العادلِ الذي يكفل العدالةَ، ويحقق المساواة، وأفصحت عن المحرمات من النساء بالنسب، والرضاع، والمصاهرة.
واشتملت على تنظيم العلاقات الزوجية، وبينت أنها ليست علاقةَ جسد، وإنما هي علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجرًا ولا ثمنًا، وإنما هو عطاء يوثق المحبةَ، ويديم العشرةَ وبربط القلوبَ.
وذكرت حق الزوج على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدَتْ إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية عندما يبدأ الشقاقُ، والخلاف بين الزوجين، وبينت معنى قوامة الرجل، وأنها ليست قوامةَ استعباد، وتسخير، وإنما هي قوامة نصح، وتأديب التي تكون بين الراعي ورعيته.
ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلى دائرة المجتمع، فأمرت بالإحسان في كل شيء، وبينت أن أساس الإحسان التكافل، والتراحم والتناصح، والتسامح، والأمانة، والعدل حتى يكون المجتمع راسخَ البنيان قوي الأركان، ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجيّ الذي يحفظ على الأمة استقرارها، وهدوءها، فأمرت بأخذ العدة لمكافحة الأعداء.
ثم وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين، والدول الأخرى المحايدة، أو المعادية، واستتبع الأمر بالجهاد جملةً ضخمةً على المنافقين، فهم نابتة السوء، وأصول الشر التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم، كما أومأت إلى خطر أهل الكتاب، وخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله الكرام.
369
ثم ختمت السورة ببيان ضلالات النصارى، في أمر المسيح عيسى ابن مريم، حيث غالوا فيه حتى عبدوه، ثم صلبوه؛ أي: جعلوه صليبًا مصورًا معبودًا لهم مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث فأصبحوا كالمشركين الوثنيين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة السمحة الشافعية عقيدة التوحيد وصدق الله تعالى حيث قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
قيل (١): وجعل هذا المطلع مطلعًا لسورتين إحداهما: هذه، وهي الرابعة من النصف الأول، والثانية: سورة الحج، وهي الرابعة من النصف الثاني، وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد.
فضلها: وقد ورد (٢) في فضل هذه السورة ما أخرجه الحاكم في "مستدركه" عن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الآية، و ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الآية، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، و ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية. ثم قال: هذا إسناد صحيح، إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه، وقد اختلف في ذلك.
الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمَّد بن حزم (٣): سورة النساء مدنية تحتوي على أربع وعشرين آية منسوخة:
الأولى منها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ مدنية النساء نسخت بأية المواريث وهي قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الآية ١١ مدنية النساء.
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) الناسخ والمنسوخ.
370
والثانية منها: قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الآية ٩ النساء نسخت بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الآية ١٨٢ مدنية البقرة.
والثالثة منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ ١٠ مدنية النساء، وذلك أنه لما نزلت هذه الآية امتنعوا من أموال اليتامى، وعزلوهم فدخل الضررُ على الأيتام، ثم أَنْزَل (١) الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ ٢٢٠ البقرة. من المخالطة ركوب الدابة، وشرب اللبن فرخص في المخالطة، ولم يرخص في أكل الأموال بالظلم ثم قال عز وجل: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ٦ النساء، فهذه الآية نسخت الأولى، والمعروف هنا: القرض فإذا أيسر رده، فإن مات قبل ذلك. فلا شيءَ عليه.
والرابعة منها: قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ الآية ١٥ مدنية النساء. كانت المرأة إذا زنت، وهي محصنة حبست في بيت، فلا تخرج منه حتى تموت، قال رسول الله - ﷺ -: "خذوا عني قد جعل الله لهن السبيلَ الثيبُ بالثيب الرجمُ، والبكر جلد مائة، وتغريب عام" فهذه الآية منسوخة بعضها بالكتاب، بقوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ ١٥ مدنية النساء. وبعضها بالسنة، وكني فيها بذكر النساء عن ذكر النساء والرجال.
والخامسة منها: قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ ١٦ مدنية النساء. كان البكران إذا زنيا عيرا وشتما فنسخ الله ذلك بالآية التي في سورة النور، وهي قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ ٢ مدنية النور.
(١) وفي "الخازن": وقد توهم بعضهم أن قوله: ﴿وإن تخالطوهم﴾ ناسخ لهذه الآية، وهذا غلط ممن توهمه؛ لأن هذه الآية واردة في المنع من أكل أموال اليتامى ظلمًا وهذا لا يصير منسوخًا لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله ﴿وإن تخالطوهم فإخوانكم﴾ وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والإحسان إليهم وهو أعظم القرب. اهـ منه.
371
والسادسة منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ الآية. ١٧ مدنية النساء، وذلك أن الله تعالى ضمن لأهل التوحيد أن يقبلَ قبل أن يغرغروا، وقال رسول الله - ﷺ -: "كل من كان قبل الموت" ثم استثنى في الآية بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، فصارت ناسخة لبعض حكمها لأهل الشرك، ثم قال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إلى آخرها ١٨ النساء.
والسابعة منها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ إلى قوله: ﴿بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ ١٩ النساء، ثم نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ ١٩ النساء.
والثامنة منها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ٢٢ النساء؛ أي: من أفعالهم فقد عفوت عنه.
والتاسعة منها: قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ ٢٣ النساء، نسخت بالاستثناء بقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يعني عفوت عنه.
والعاشرة: قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ ٢٤ مدنية النساء. نسخت بقوله - ﷺ -: "إني كنت أحللت هذه المتعةَ، ألا وإن الله ورسوله قد حرمَاها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب"، ووقع ناسخها من القرآن موضعَ ذكر ميراث الزوجة الثمنَ، أو الربعَ فلم يكن لها في ذلك نصيب.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: موضع تحريمها في سورة المؤمنين، وناسخها قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ٥ مكية المؤمنون، وأجمعوا على أنها ليست بزوجة، ولا ملك اليمين، فنسخها الله بهذه الآية.
والحادية عشرة منها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية ٢٩ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى في سورة النور:
372
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ ٦١ مدنية النور، وكانوا يجتنبونهم في الأكل، فقال تعالى: ليس على من أكل مع الأعرج والمريض حرج، فصارت هذه الآية ناسخة لتلك الآية.
الثانية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ الآية ٣٣ مدنية منسوخة، وناسخها قوله تعالى في آخر الأنفال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ الآية ٧٥ مدنية الأنفال.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ﴾ الآية ٦٣ مدنية نسخت بآية السيف.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ الآية ٦٤ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية ٨٠ مدنية التوبة.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ الآية ٧١ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ ١٢٢ مدنية التوبة.
السادسة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ الآية ٨٠ مدنية النساء. نسختها آية السيف.
السابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ٨١ مدنية النساء. نسخ الإعراض عنهم بآية السيف.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ ٩٠ مدنية النساء. نسخها الله بآية السيف.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ ١٩١ النساء. نسخها الله بآية السيف.
العشرون منها: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ الآية ٩٢ مدنية
373
النساء. نسخها الله تعالى بقوله: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ١ مدنية التوبة.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ الآية. ٩٣ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ ٤٨، ١١٦ النساء. وبالآية التي في الفرقان، ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ ٦٨ مدنية. الفرقان.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ ١٤٥ النساء. نسخ الله بعضها بالاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا﴾ الآية ١٤٦ النساء.
الثالثة والعشرون، والرابعة والعشرون. قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ ٨٨ النساء. وقوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ ٨٤ النساء نسخهما آية السيف، فتكون مع هاتين أربعًا وعشرين آية. انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
374

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...﴾ مناسبتها للآية التي في آخر السورة السابقة - أعني قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ - ظاهرةٌ؛ لأن كلا الآيتين آمرة بالتقوى كما سبق.
قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها (١) لما قبلها: أنه لما وصل الأرحام.. أتبع بالأيتام؛ لأنهم صاروا بحيث لا كافلَ لهم، ففارق
(١) البحر المحيط.
375
حالهم حال من له رحم. ذكره أبو حيان.
وقيل: مناسبتها أنه سبحانه وتعالى لما (١) افتتح السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقادَ له من التكاليف؛ ليبتعد عن سخطه وغضبه في الدنيا والآخرة.. شرع يذكر أنواعها، وأولها: إيتاء اليتامى أموالهم، وثانيها: حكم ما يحل عدده من الزوجات، ومتى يجب الاقتصار على واحدةٍ، ثم أوجب إيتاء الصداق لهن.
قوله تعالى ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه وتعالى، لما أمر في الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم، وبإيتاءِ النساء مهورهن.. أتى في هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معًا، وهو أن لا يكون كل منهما سفيهًا مع بيان أنهم يرزقون فيها، ويكسون ما دامت في أيديهم مع قول المعروف لهم، حتى تحسن أحوالهم، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد، وأنه لا ينبغي الإسراف في أكل أموال اليتامى، فمن كان من الأولياء غنيًّا.. فليعف عن الأكل من أموالهم، ومن كان فقيرًا.. فليأكل بما يبيحه الشرع، ويستجيزه أرباب المروءة.
قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها، أنه سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى، وأمر بإعطائهم أموالَهم إذا رشدوا، ومنع أكل مهور النساء أو تزويجَهن بغير مهر.. ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى، يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، والأولاد الصغار، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وحاز بالغنيمة، ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى؛ لأن اليتيم مرهف الحس، يألم للكلمة تهينه، ولا سيما ذكر أبيه، وأمه بسوء، وقلما يوجد يتيم لا يمتهن، ولا يقهر بالسوء من القول، ثم طلب الإشفاقَ عليهم ومعاملتَهم بالحسنى، فربما يترك الميت ذريةً ضعافًا يود أن غيره
(١) المراغي.
376
يعاملهم بمثل هذه المعاملة، وبعد ذلك شدد في الوعيد، ونفر من أكل أموال اليتامى ظلمًا، وجعل أكله كأكل النار.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى...﴾ الآية، سبب نزولها: ما روى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالُها، فيريد وليها أن يتزوجَها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيَها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك، إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طَابَ لهم من النساء سواهن، وإن الناس استفتوا رسولَ الله - ﷺ - بعد هذه الآية، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ...﴾ الآية. أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج البخاري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلًا كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. الحديث أخرجه ابن جرير في تفسيره بنحوه، وأخرجه مسلم أيضًا.
قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...﴾ سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوح ابنتَه أَخذَ صداقها، دونها، نهاهم الله عن ذلك فأنزل ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إنها نزلت في مال اليتيم إذا كان
(١) لباب النقول.
377
فقيرًا، فإنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف. أخرجه البخاري ومسلم.
قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ...﴾ سبب نزولها: ما أخرجه (١) أبو الشيخ، وابن حبان في كتاب الفرائض من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، ولا الصغار من المذكور، حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار، يقال له: أوس بن ثابت، وترك ابنتين وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه خالد، وعرفطة، وهما عصبة، فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته رسول الله - ﷺ - فذكرت له ذلك فقال: ما أدري ما أقول: فنزلت ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ...﴾ الآية.
وقال المراغي (٢): وقد روي في سبب نزول هذه الآية ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ...﴾ أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة، وثلاث بنات له منها، فزوى ابنا عمه سويد، وعرفطة ميراثه عنهن، على سنة الجاهلية، فجاءت امرأته إلى رسول الله - ﷺ - في مسجد الفضيخ مسجد بالمدينة كان سكنه أهل الصفة - فشكت إليه أن زوجها أوسًا قد مات وخلف ثلاث بنات، وليس عندها ما تنفق عليهن منه، وقد ترك أبوهن مالًا حسنًا عند ابني عمه لم يعطياها مثله شيئًا، وهن في حجري لا يطعمنَ ولا يسقينَ، فدعاهما رسول الله - ﷺ - فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسًا، ولا يحمل كلا، ولا ينكأُ عدوا نكسب عليها، ولا تكسب، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث فقال رسول الله - ﷺ -: لا تفرقا من مال أوس شيئًا، فإن الله جعل لبناته نصيبًا مما ترك، ولم يبين فنزلتْ ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ إلخ فأعطى زوجتَه الثمن، والبنات الثلثين، والباقي لبني العم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...﴾ سبب نزولها (٣) ما روي عن مقاتل بن حيان أن رجلًا من غطفان يقال له مرثد بن زيد، ولي مال يتيم
(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
(٣) القرطبي.
378
Icon