تفسير سورة الجاثية

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «إِنَّ» مُضْمَرَةٌ حُذِفَتْ لِدَلَالَةِ إِنَّ الْأُولَى عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ «آيَاتٌ» مَعْطُوفَةً عَلَى آيَاتٍ الْأُولَى لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَرَّرَ «آيَاتٍ» لِلتَّوْكِيدِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَفْظِ آيَاتٍ الْأَوْلَى، فَأَعْرَبَهَا بِإِعْرَابِهِ؛ كَقَوْلِكَ: إِنَّ بِثَوْبِكَ دَمًا، وَبِثَوْبِ زَيْدٍ دَمًا؛ فَدَمٌ الثَّانِي مُكَرَّرٌ؛ لِأَنَّكَ مُسْتَغْنٍ عَنْ ذِكْرِهِ.
وَيُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَ «فِي خَلْقِكِمْ» : خَبَرُهُ؛ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَقِيلَ: هِيَ فِي الرَّفْعِ عَلَى التَّوْكِيدِ أَيْضًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ) فَمَجْرُورَةٌ بِفِي مُقَدَّرَةٍ غَيْرِ الْأُولَى.
وَ (آيَاتٌ) بِالْكَسْرِ وَالرَّفْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «اخْتِلَافِ» مَعْطُوفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِفِي، وَ «آيَاتٍ» تَوْكِيدٌ.
وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنَ.
قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَتْلُوهَا) : قَدْ ذُكِرَ إِعْرَابُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الْبَقَرَةِ: ٢٥٢].
قَالَ تَعَالَى: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْمَعُ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الصِّفَةِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «أَثِيمٍ» أَوْ مُسْتَأْنَفٌ.
وَ (تُتْلَى) : حَالٌ، وَ «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» : حَالٌ أَيْضًا.
قَالَ تَعَالَى: (مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا مَا اتَّخَذُوا) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «مَا كَسَبُوا» وَ «مَا» فِيهِمَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ.
وَ (مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) : قَدْ ذُكِرَ فِي سَبَأٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَمِيعًا مِنْهُ) :«مِنْهُ» : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِسَخَّرَ، وَأَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِجَمِيعٍ.
وَيُقْرَأُ مِنْهُ - بِالنَّصْبِ؛ أَيْ الِامْتِنَانِ، أَوْ مَنَّ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَّةً.
وَيُقْرَأُ «مِنْهُ» بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ، عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ «سَخَّرَ» أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَلِكَ مَنُّهُ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) : قَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَجْزِيَ قَوْمًا) بِالْيَاءِ وَالنُّونِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَيُقْرَأُ عَلَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَنَصْبِ «قَوْمٍ» وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْجَيِّدُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِيَجْزِيَ الْخَيْرَ قَوْمًا؛ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَفْعُولٌ بِهِ فِي الْأَصْلِ، كَقَوْلِكَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مَقَامَ الْفَاعِلِ جَائِزَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ الْمَصْدَرَ؛ أَيْ لِيَجْزِيَ الْجَزَاءَ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) : يُقْرَأُ «سَوَاءً» بِالرَّفْعِ؛ فَمَحْيَاهُمْ: مُبْتَدَأٌ، وَمَمَاتُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَسَوَاءً: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ.
وَيُقْرَأُ (سَوَاءً) بِالنَّصْبِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْكَافِ؛ أَيْ نَجْعَلُهُمْ مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِحَسِبَ، وَالْكَافُ حَالٌ، وَقَدْ دَخَلَ اسْتِوَاءُ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْحُسْبَانِ.
وَ (مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) : مَرْفُوعَانِ بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوٍ وَقَدْ قُرِئَ بِاعْتِمَادِهِ.
وَيُقْرَأُ: (مَمَاتَهُمْ) - بِالنَّصْبِ؛ أَيْ فِي مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ، وَالْعَامِلُ فِيهِ نَجْعَلُ أَوْ سَوَاءٌ. وَقِيلَ: هُمَا ظَرْفَانِ فَأَمَّا الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَبِيلَيْنِ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفَّارِ، لِأَنَّ مَحْيَاهُمْ كَمَمَاتِهِمْ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْكَافِرُ مَيْتًا.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣)).
وَ (عَلَى عِلْمٍ) : حَالٌ.
وَ (مَنْ يَهْدِيهِ) : اسْتِفْهَامٌ. (مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ) : هُوَ بَدَلٌ مِنْ «يَوْمَ» الْأَوَّلِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ أُمَّةٍ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «تُدْعَى» : خَبَرُهُ.
وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِنْ كُلٍّ الْأُولَى، فَتُدْعَى عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَوْ وَصْفٌ لِكُلٍّ، أَوْ لِأُمَّةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَنْطِقُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكِتَابِ، أَوْ خَبَرًا ثَانِيًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا) : يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ.
وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ «إِنَّ» وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ. وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ «إِنَّ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا) تَقْدِيرُهُ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا نَظُنُّ ظَنًّا، فَإِلَّا مُؤَخَّرَةٌ، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ: لَكَانَ الْمَعْنَى: مَا نَظُنُّ إِلَّا نَظُنُّ. وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّ نَظُنُّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالشَّكِّ؛ فَاسْتَثْنَى الشَّكَّ؛ أَيْ مَا لَنَا اعْتِقَادٌ إِلَّا الشَّكُّ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي السَّمَاوَاتِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الِاسْتِقْرَارُ؛ وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ الظَّرْفُ الْأَوَّلُ أَوِ الْكِبْرِيَاءُ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ.
Icon