تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الأحقاف
آياتها خمس وثلاثون وهي مكية
ﰡ
مر تفسيره في سورة الجاثية
﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا ﴾ خلقا متلبسا ﴿ بالحق ﴾ دليلا على وجود الصانع القديم الحكيم وعلى البعث للمجازاة على ما يقتضيه الحكمة والعدالة ﴿ وأجل مسمى ﴾ أي بتقدير أجل مسمى ينتهي إليه السماوات والأرض أي يوم القيامة ﴿ والذين كفروا عما أنذروا ﴾ أي عن الإنذار وعما أنذروا به في القرآن من عذاب يوم القيامة ﴿ معرضون ﴾ لا يتفكرون في جوازه عقلا ووجوبه سمعا بشهادة المعجزات ولا يستعدون لحلوله ويدعون من دون الله آلهة بلا دليل.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ أرأيتم ﴾ الإستفهام للتقرير أي حمل المخاطب على الإقرار ﴿ ما تدعون ﴾ أي ما تعبدونه ﴿ من دون الله ﴾ أصناما ﴿ أروني ماذا خلقوا ﴾ ما استفهامية في محل النصب على أنه مفعول لخلقوا أوفي محل الرفع بمعنى أي شيء الذي خلقوه ﴿ من الأرض ﴾ بيان لما ﴿ أم لهم شرك ﴾ أم منقطعة أي بل ألهم مشاركة مع الله ﴿ في ﴾ خلق ﴿ السماوات ﴾ الموصول مع صلته مفعول أول لأرأيتم وجملة أروني إلى آخرها مفعول ثان والمعنى أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل هل يتعقل لأنهم خلقوا شيئا من أجزاء العالم أو يتصور منهم أن يكونوا شركاء لله في الخلق يعني لا يتصور ذلك فكيف تحكمون باستحقاقها للعبادة وتخصيص الشرك بالسماوات احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية ﴿ ائتوني بكتاب ﴾ من عند الله ناطق بالشرك ﴿ من قبل هذا ﴾ القرآن الناطق بالتوحيد ﴿ أو أثارة ﴾ أخرج أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أثارة من علم قال الخط، قال مجاهد وعكرمة أي رواية، وقال قتادة خاصة، وقال الكلبي بقية، في القاموس الأثر البقية من الشيء ﴿ من علم ﴾ الأنبياء الأولين مستندا إلى الوحي القطعي يدل على الشرك ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أن الله أمر بعبادة الأوثان شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعني لا دليل على استحقاقها العبادة ولا نقلا.
﴿ ومن أضل ﴾ عطف على مقولة القول يعني لا أحد أضل ﴿ ممن يدعوا ﴾ أي يعبدوا بطلب حاجاته ﴿ من دون الله من لا يستجيب له ﴾ إذا دعاه لو سمع دعاءهم فرضا أن يعلم سرائرهم ويراعى مصالحهم ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ ما دامت الدنيا ﴿ وهم عن دعائهم غافلون ﴾ لأنها إما جمادات لا يسمع ولا يعقل وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كعيسى وعزير والملائكة.
﴿ وإذا حشر الناس ﴾ يوم القيامة عطف على يستجيب ﴿ كانوا ﴾ أي كانت المعبودون ﴿ لهم أعداء ﴾ يضرونهم ولا ينفعونهم ﴿ وكانوا بعبادتهم كافرين ﴾ مكذبين قائلين تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون يعني ليسوا في الدارين على منفعة إذ لا ينفعهم في الدنيا ويضرهم في الآخرة فلا أضل ممن عبده أوترك عبادة الله السميع البصير الخبير القادر المجيب، وقيل الضمير في قوله كانوا بعبادتهم كافرين للعابدين القائلين ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾.
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ عطف على قوله ﴿ والذين كفروا عما أنذروا معرضون ﴾ أو على يدعوا في ممن يدعوا يعني ومن أضل ممن قال للحق هذا سحر مبين إذا تتلى عليه ﴿ آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق ﴾ أي لأجله وفي شأنه والمراد به الآيات ووضعه موضع ضميرها، ووضع الذين كفروا موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق وظهور الصدق وعليهم بالكفر والانهماك في الضلالة ﴿ لما جاءهم ﴾ أي فورا حين مجيئها إليهم من غير نظر وتأمل ﴿ هذا ﴾ القرآن ﴿ سحر مبين ﴾ ظاهر في كونه سحرا.
﴿ أم يقولون افتراه ﴾ محمد من قبل نفسه، أم منقطعة استفهام للإنكار والتعجيب وإضراب عن قولهم أنه سحر إلى قولهم أنه مفترى ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إن افتريته ﴾ فرضا لكي تتبعوني ﴿ فلا تملكون لي من الله شيئا ﴾ أي لا تقدرون أن تردوا عني شيئا من عذاب الله فكيف أجترأ على الله وأعرض نفسي للعقاب من غير توقع نفع ولا دفع ضرر من قبلكم ﴿ هو أعلم ﴾ أي الله أعلم ﴿ بما تفيضون ﴾ أي تخوضون ﴿ فيه ﴾ من تكذيب آياته والقول بأنه سحر أو مفترى ﴿ كفى به ﴾ الباء زائدة والضمير في محل الرفع على الفاعلية ﴿ شهيدا بيني وبينكم ﴾ يعني أن الله يشهد لي بالصدق والبلاغ بخلق المعجزات وعليكم بالكذب والإنكار وهو وعيد بجزاء إفاضتهم ﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾ وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلمه عنهم وعدم استعجالهم بالتعذيب مع عظم جرمهم.
﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل ﴾ أي بديعا مثل نصف ونصيف يعني لست بأول الرسل أدعي ما لم يدعه أحد قبلي بل قد بعث قبلي كثير من الرسل فلم تنكرون نبوتي بعد شهادة المعجزة، أو لست أقدر على ما لم يقدر الرسل من قبلي وهو الإتيان بالمقترحات كلها ﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ ما إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة ولا لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي والتقدير ما أدري ما يفعل بي، ولا ما يفعل بكم، قيل معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وماله علينا مزية وفضل ولولا أنه ابتدع ما يقول من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فأنزل الله ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ فقالت الصحابة هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك وإذا ما يفعل بنا فأنزل الله ﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات ﴾ الآية وأنزل ﴿ وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا { ٤٧ ﴾ } فبين الله ما يفعل به وبهم، قال البغوي وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة قالوا إنما قال هذا قبل أن يخبره بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك وهذا القول عندي غير مرضي إذ لا يخلو سورة من القرآن غالبا ( مكية كان أو مدنية ) من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين، وكان من أول ما يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ﴿ أنذر عشيرتك والأقربين ﴾ يعني بعذاب الله إن لم يؤمنوا وفي هذه السورة ﴿ وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ﴾. ﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة ﴾ الآية وكيف يكون عاقبة المسلمين والمشركين غير معلوم له صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتاب فإنه يقتضي اعتراض الكافرين ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وما نرى لك علينا من فضل فأي فائدة في ترك دين الآباء وإتباع الرسل ونزول قوله تعالى :﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ وقوله ﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات ﴾ بعد بضع عشر سنة تأخير للبيان عن وقت الحاجة وذلك محال، فإن قيل روى البغوي بسنده عن خارجه بن يزيد قال كانت أم العلاء الأنصارية تقول لما قدم المهاجرون اقترعت الأنصار على سكناهم فطار لنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه في السكنى فمرض فمرضناه ثم إنه توفي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي أن قد أكرمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما يدريك أن الله قد أكرمه ) قلت لا والله لا أدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت فوالله لا أزكي بعد أحدا أبدا، قالت ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عينا تجري فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( ذاك عمله ) وهذا الحديث يؤيد قول من قال معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة وإلا فما معنى لهذا الحديث ؟ قلنا مقتضى هذا الحديث أنه لا يجوز الحكم قطعا على شخص معين بالنجاة أو بالهلاك لأنه إدعاء وعلم الغيب ولا علم على البواطن والسرائر إلا لله سبحانه غير أن الرجل إذا كان ظاهر حاله خيرا يرجو له الخير ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم " أنه قد علمني الله علوم الأولين والآخرين ومع ذلك ما أدري تفضيلا ما يفعل بي ولا بكم في جزاء كل عمل مخصوص فكيف دريت أنت في حق رجل معين أن الله قد أكرمه، وقيل مثل هذا التأويل في الآية أيضا قالوا معنى الآية ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدارين إذ لا علم لي بالغيب وهذا لا يقتضيه سياق الآية بل سياق الآية أن الكفار كانوا يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعهم في الدين ويطمعونه بجمع الأموال له وإنكاح الأزواج بلا سوق مهر ويؤذونه ويخوفونه على ترك الإتباع فمقتضى سياق الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأنه لا يطمع منهم ولا يخافهم ويعلم أنهم غير قادرين على ما أرادوا بل الخير والشر كلاهما من الله تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد فمعنى الآية ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من النصر والخذلان وآنا لا أتبعكم على شيء من التقادير.
﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ من القرآن لا أتركه أبدا، قال البيضاوي جواب عن اقتراح الكفار الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب أو عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين وبه قال البغوي، قال جماعة قوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا وأما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة ومن كذبه فهو في النار. ثم اختلفوا فقال ابن عباس لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم وهو بمكة أرض سبا ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إليها فسكت فأنزل الله هذه الآية ﴿ ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ أنزل في مكاني أو أخرج وإياكم إلى الأرض التي رفعت لي، وقال بعضهم معنى أدري ما يفعل بي ولا بكم أي إلى ماذا يصير أمري في الدنيا إما أن أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي منهم إبراهيم عليه السلام أو أقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلي منهم يحيى عليه السلام، وأنتم أيها المصدقون تخرجون معي أو تتركون أم ماذا يفعل بكم، وما أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة كما رمي قوم لوط أم يخسف بكم كما خسف بقارون أم أي شيء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة ثم أخبره الله عز وجل أن يظهر دينه على الأديان كلها فقال :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ﴾ وقال في أمته :﴿ ما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ فأخبره ما يصنع به وبأمته هذا قول السدي ﴿ وما أنا إلا نذير ﴾ للكافرين من عذاب الله ﴿ مبين ﴾ بين الإنذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة يعني لست مدعيا لعلم الغيب ولا مسلطا عليكم أكرههم على الإيمان.
﴿ قل أرأيتم ﴾ أخبروني ماذا حالكم ﴿ إن كان ﴾ القرآن ﴿ من عند الله وكفرتم به ﴾ حال بتقدير قد أي وقد كفرتم به أيها المشركون ويجوز أن يكون الواو للعطف على فعل الشرط وكذا الواو في قوله ﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل ﴾ قال قتادة والضحاك هو عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. روى البخاري والبيهقي عن أنس ومحمد وبن إسحاق عن رجل من آل عبد الله بن سلام عنه والإمام أحمد ويعقوب بن سفيان عن عبد الله بن سلام والبيهقي عن موسى بن عقبة وعن ابن شهاب قال عبد الله بن سلام لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته والذي كنا نتوقع له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما قدم نزل معنا في بني عمر وبن عوف فأخبر رجل بقدومه وأنا في رأس نخلة أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت فقالت لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال قلت لها أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به قالت فذاك إذن، قال ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أن رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله :( يا أيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )، فقال يا محمد إني سائلك عن ثلاث يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه وما هذا السواد الذي في القمر ؟ فقال أخبرني بهن جبرئيل آنفا، قال جبرئيل، قال نعم، قال ذاك عدو اليهود من الملائكة قال : أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت وأما السواد الذي في القمر فإنهما كانا شمسين قال الله تبارك وتعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل ﴾ فالسواد الذي رأيت هو المحو فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ثم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرى اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم وإنهم قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي من قبل أن تسألهم عني بهتوني ويقولون في ما ليس في فأحب أن تدخلني بعض بيوتك، فأدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بيوته وأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال ( يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله وقد جئتكم بالحق فأسلموا فقالوا ما نعلمه، فقال أي رجل فيكم عبد الله ؟ قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال أرأيتم إن أسلم، قالوا أعاذه الله من ذلك، قال لابن سلام : أخرج عليهم، فخرج فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله يا معشر اليهود اتقوا الله وأقبلوا ما جاءكم به فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه، قالوا كذبت أنت شرنا وابن شرنا وانتقصوا، قال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور فاظهر إسلامه وإسلام أهل بيته وأسلمت عمته ابنة الحارث فحسن إسلامها ).
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن الأشجعي قال انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وإني معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف فإذا رجل من خلفه فقال كما أنت يا محمد وأقبل، فقال أي رجل تعلموني منكم يا معشر اليهود ؟ قالوا والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدك قبل أبيك، قال فإني أشهد بالله أنه لنبي الله الذي تجدونه في التوراة قالوا كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج الشيخان عن سعيد بن أبي وقاص قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت هذه الآية :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل ﴾ قال الراوي عن مالك وهو عبد الله بن يوسف شيخ البخاري لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث، وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن سلام قال في نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل وعلى هذا التقرير الآية مدنية لأن إسلام عبد الله بن سلام كان بالمدينة ولفظة مثل في قوله تعالى ﴿ على مثله ﴾ زائدة والضمير للقرآن والمعنى شهد شاهد عليه أي على كونه يعني القرآن من عند الله أو المعنى وشهد شاهد على مثل ما قلت أي على كون القرآن من عند الله ﴿ فآمن ﴾ عبد الله بن سلام ﴿ واستكبرتم ﴾ عن الإيمان يا معشر اليهود.
وأنكر مسروق نزول الآية في عهد الله بن سلام وقال والله ما نزلت فيه لأن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة، ونزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه، ومعنى قوله :﴿ شهد شاهد من بني إسرائيل ﴾ أنه شهد موسى وشهادته ما في التوراة خبر بعثة محمد صلى الله عليه سلم على مثله أي مثل القرآن وهو ما في التوراة من المعاني المصدقة للقرآن فآمن موسى عليه السلام واستكبرتم عن الإيمان يا معشر قريش وجواب الشرط وهو قوله ﴿ إن كان من عند الله ﴾ محذوف تقديره فمن أضل منكم أو لستم ظالمين يدل عليه ﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ وهي جملة مستأنفة فإن قيل أفعال الشرط أعني كان من الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم كلها مجزوم وقوعها، فما وجه استعمال حرف إن فيها وهي تستعمل في موضع الشك ؟ قلت : إن الواو في الجمل كلها للجمع واستعمل كلمة إن للتوبيخ وإيراد المجزوم موقع الشك للدلالة على أنه لا يجوز عند العقل السليم الكفر مع كونه من عند الله والاستكبار مع شهادة أهل العلم وإيمانه فهو نظير قوله :﴿ إن كنتم قوما مسرفين ﴾ والله أعلم.
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ عطف على ﴿ قال الذين كفروا للحق ﴾ الآية ﴿ للذين آمنوا ﴾ منهم أي في حقهم ﴿ لو كان ﴾ دين محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ خيرا ما سبقونا إليه ﴾ أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قال أناس من المشركين نحن أعز ونحن خير فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزلت هذه الآية، وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله يقال لها رنين فكان عمر يضربها على إسلامها حتى تفتن، وكان كفار قريش يقولون لو كان خيرا ما سبقتنا إليه رنين فأنزل الله في شأنها هذه الآية، وأخرج ابن سعد نحوه عن الضحاك والحسن وقال البغوي بناء على نزول الآية السابقة في عبد الله بن سلام أنه قال الذين كفروا من اليهود للذين آمنوا من اليهود لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا إليه يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ﴿ وإذ لم يهتدوا به ﴾ أي وهو معطوف على قوله قال الذين كفروا وعطف على محذوف تعلق به الظرف قوله ﴿ فسيقولون هذا إفك قديم ﴾ الفاء للسببية فإن هذا القول مسبب لظهور عنادهم وضلالهم وهو كقولهم ﴿ أساطير الأولين ﴾ يعني أكاذيب الأولين يعني اختلف هذا أهل الزمان السابق ثم تلقاه منهم محمد.
﴿ ومن قبله ﴾ أي قبل القرآن وهو خبر لقوله ﴿ كتاب موسى ﴾ التوراة ﴿ إماما ﴾ يقتدى به حال من الضمير المستكن في قبله ﴿ ورحمة ﴾ من الله على الناس ليفوزوا إلى فلاح الدارين والجملة معترضة ﴿ وهذا كتاب ﴾ من الله تعالى ﴿ مصدق ﴾ لكتاب موسى أو لمحمد صلى الله عليه وسلم بإعجازه صفة لكتاب ﴿ لسانا عربيا ﴾ حال من ضمير كتاب في مصدق أو منه لتخصيصه بالصفة وعاملها معنى الإشارة وفائدتهما الإشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا للتوراة كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله، أو مفعول به لمصدق بحذف مضاف أي مصدق ذا لسان عربي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لينذر ﴾ قرأ نافع والبزي بخلاف عنه وابن عامر ويعقوب بالتاء للخطاب أي لتنذر يا محمد والباقون بالياء للغيبة أي لينذر الكتاب أو الله أو الرسول متعلق بمفهوم هذا كتاب أي أنزل لتنذر ﴿ الذين ظلموا ﴾ أنفسهم بالكفر ﴿ وبشرى ﴾ مصدر لفعل محذوف أي وليبشر بشرى أو مفعول له معطوف على محل لينذر وهذا لا يجوز إلا على قراءة لينذر بصيغة الغائب ويكون الضمير لله تعالى حتى يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل به واحدا وهو أنزل وجاز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا أي هو والجملة عطف على جملة قبلها ﴿ للمحسنين ﴾.
﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ﴾ قد ذكرنا تفسير الاستقامة في تفسير ( ﴿ حم ١ ﴾ السجدة ) ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ بعد الموت عن لحوق مكروه ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على فوات محبوب والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط.
﴿ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها ﴾ حال من المستكن في أصحاب والعامل فيه معنى الإشارة والجملة في مقام التعليل لنفي الخوف ﴿ جزاء ﴾ مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ من اكتساب الفضائل العلمية والعملية.
﴿ ووصينا الإنسان ﴾ اللام للعهد والمراد به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي بكر وهو المروي عن علي رضي الله عنه قال نزلت في أبي بكر أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع من المهاجرين أبواه في الإسلام غيره، وقال السدي والضحاك نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد ذكرنا قصته في تفسير سورة العنكبوت، وقيل اللام للجنس وإن كان نازلا في أبي بكر أو سعد وذلك لا يقتضيه سياق الآية كما سنشير إليه ﴿ بوالديه ﴾ متعلق بمحذوف أي أن يحسن بوالديه وهما أبو قحافة عثمان بن عمر وأم الخير بنت الخير بن الصخر بن عمر ﴿ إحسانا ﴾ كذا قرأ الكوفيون من الأفعال فهو منصوب على المصدرية وقرأ الباقون حسنا من المجرد فهو بدل اشتمال لقوله ﴿ بوالديه ﴾ منصوب على محله ﴿ حملته أمه كرها ﴾ أي ذات كره فهو حال من فاعل حملته أو حملا ذاكره فهو مصدر وهو المشقة قرأ أهل الحجاز وهشام وأبو عمر بفتح الكاف في الموضعين والباقون بضمها وهما لغتان، وقيل المضموم إسم والمفتوح مصدر ﴿ ووضعته كرها ﴾ جملتان معترضتان في مقام التعليل للأمر بالإحسان وفيه إشعار بمزية إستحقاق الأم في الإحسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صل أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم أذناك أذناك ) وقد مر الحديث في سورة العنكبوت.
﴿ وحمله وفصاله ﴾ وهو الفطام والمراد به الرضاع تسمية الملزوم باسم اللازم وقرأ يعقوب وفصله وهما بتقدير المضاف مبتدأ بعده خبره أي مدة حمله ورضاعه ﴿ ثلاثون شهرا ﴾ معترضة أخرى لبيان شدة المشقة في مدة طويلة يستدل بهذه الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لقوله تعالى :﴿ وفصاله في عامين ﴾ فإنه إذا ذهب منها عامين بقي للحمل ستة أشهر وعليه اتفق الأئمة في أقل مدة الحمل. واختلفوا في أكثرها ؟ فقال أبو حنيفة سنتان وعن مالك روايات أربع سنين وخمس سنين وسبع سنين، وقال الشافعي أربع سنين وعن أحمد روايتان المشهور كمذهب الشافعي والأخرى كمذهب أبي حنيفة، وجه قول أبي حنيفة قول عائشة الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل وفي رواية ولو بقدر ظل مغزل، وقال ومثله لا يقال إلا سمعا إذ المقدرات لا تدرك بالرأي، قلت : يحتمل أن يكون قولها على تقدير الصحة مبنيا على التجربة في جريان العادة كقول مالك والشافعي، قلت : والاستدلال بهذه الآية على أقل مدة الحمل مبني على كون اللام في الإنسان للجنس وإن كان للعهد فلا لأنها حينئذ بيان لواقعة حال، والاستدلال بهذه الآية على مذهب أبي حنيفة أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا لا يجوز وقد مر الكلام فيه وفي غيرها من مسائل الرضاع في سورة النساء في تفسير قوله تعالى :﴿ وأمهاتكم التي أرضعنكم ﴾ روي عن عكرمة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعته أحد وعشرين شهرا وإذا حملت ستة أشهر رضعته أربعة وعشرين شهرا والله أعلم.
﴿ حتى إذا بلغ ﴾ متعلق بفعل محذوف معطوف على وضعته تقديره وربياه حتى إذا بلغ ﴿ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾ عطف على بلغ يعني وبلغ كمال عقله كان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة وذلك بلوغ الأشد وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه ﴿ قال رب أوزعني ﴾ قرأ ورش والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها والمعنى ألهمني وقيل معناه الكف أي إجعلني بحيث أزع نفسي يعني أكفه من الكفران ﴿ أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ﴾ الهداية للإسلام أو ما يعمه وغيره ﴿ وأن أعمل صالحا ترضاه ﴾ نكر صالحا للتعظيم أو لأنه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضاء الله، قال ابن عباس فأجابه الله تعالى فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ودعا أيضا ﴿ وأصلح لي في ذريتي ﴾ فأجابه الله فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا كذا قال ابن عباس، وأدرك أبو قحافة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وابنه أبوبكر وابنه عبد الرحمان بن أبي بكر وابن عبد الرحمان أبو عتيق ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة ﴿ إني تبت إليك ﴾ عن الكفر وعن كل ما لا يرضاه الله أو يشغل عنه ﴿ وإني من المسلمين ﴾ المخلصين قوله ﴿ حتى إذا بلغ ﴾ إلى آخره دليل على أن اللام في الإنسان للعهد فإنه لو كان للجنس لا يستقيم ذلك لأن تأخير النعمة القديمة إلى بلوغ أربعين سنة لا يجوز فالآية حكاية عن الواقع فإنه رضي الله عنه آمن وهو ابن أربعين سنة والمعتبر من الشكر ما كان بعد الإيمان، فإن قيل المروي أن أباه أبا قحافة أسلم يوم الفتح وكان أبو بكر حينئذ ابن ستين سنة وكان نزول الآية قبل الهجرة لأن السورة مكية وحين بلغ أبو بكر أربعين سنة كان أبو قحافة كافرا فكيف يوصي الله بالإحسان به وكيف يقول أبو بكر ﴿ أنعمت علي وعلى والدي ﴾ ؟ قلنا : قد روي أن آبا بكر أسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة وأسلم أبواه بعد ذلك بسنتين وكان أبو بكر حينئذ ابن أربعين سنة فلعل هذه الرواية هي الصحيحة وعلى تقدير نزول الآية بمكة وإسلام أبي قحافة بعد الفتح قلنا الوصية بالإحسان للوالدين الكافرين أيضا جائزة قال الله تعالى في سورة العنكبوت ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ﴾ والمراد حينئذ بنعمتك أنعمت علي ما يعم نعمة الدين والدنيا والله أعلم، قلت : وعلى تقدير كون اللام للجنس يقال معنى الآية أنه إذا بلغ الإنسان أشده يعني بلغ مبلغ الرجال شكر الله تعالى على كمال جسده ثم إذا بلغ أربعين سنة شكر الله سبحانه على كمال عقله والله أعلم.
﴿ أولئك ﴾ إن كان المراد بالإنسان الجنس، فالإشارة إلى عامة الموصوفين بالصفات المتقدمة ظاهر وإن كان المراد به أبو بكر أو سعد فالمشار إليه هو ومن كان مثله في الصفات المذكورة فذكر حكم أبي بكر وسعد في ضمن العموم على سبيل الكناية وهو أبلغ من الصريح فإنه كدعوى الشيء مع بينة وبرهان ﴿ الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ﴾ فإن المباح حسن ولا يثاب عليها أو هي من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها يعني نتقبل عنهم ما عملوا أحسن مما عمله غيره ﴿ ونتجاوز عن سيئاتهم ﴾ فلا نعاقبهم على شيء منها، قرأ حمزة والكسائي وحفص مقبل ونتجاوز بالنون على التكلم والتعظيم وأحسن منصوبا على المفعولية والباقون بالياء على الغيبة والبناء للمفعول وأحسن مرفوعا على أنه مسند إليه ﴿ وفي أصحاب الجنة ﴾ خبر بعد خبر لأولئك أوحال من الضمير المجرور في عنهم وعن سيئاتهم أي كائنين في أعدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم ﴿ وعد الصدق ﴾ مصدر مؤكد لنفسه فأن يتقبل ويتجاوز وعد أي وعدت وعد الصدق وإضافة الوعد إلى الصدق من قبيل حاتم الجود ﴿ الذي كانوا يوعدون ﴾ في الدنيا والجملة مستأنفة لبيان جزاء الإنسان المذكور.
﴿ والذي قال لوالديه ﴾ إذا دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار الموصول مبتدأ خبره أولئك والجملة مستأنفة أخرى لبيان حكم من خالف المذكورين ﴿ أف لكما ﴾ وهي كلمة كراهية، قرأ نافع وحفص بالتنوين وكسر الفاء وقرآ ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء بغير تنوين والباقون بكسر الفاء بغير تنوين ﴿ أتعدانني ﴾ قرأ هشام بنون واحدة مشددة والباقون بنونين مكسورتين وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها والاستفهام للإنكار والتوبيخ في مقام التعليل للتأفيف ﴿ أن أخرج ﴾ من قبري حيا بعد الموت ﴿ وقد خلت القرون من قبلي ﴾ الجملة حال من فاعل أخرج وهاهنا جملة محذوفة معطوفة على هذه الجملة تقديره ولم يخرج أحد منهم ﴿ وهما ﴾ أي أبواه ﴿ يستغيثان الله ﴾ أي يقولان الغياث بالله منك أو يسألانه تعالى أن يغيثه بالتوفيق للإيمان الجملة حال من والديه ﴿ ويلك ﴾ مصدر لفعل محذوف أي هلكت هلاكا، والجملة مقدرة بالقول أي ويقولان له ويلك أمن بالله وبالبعث بعد الموت ﴿ إن وعد الله ﴾ بالبعث ﴿ حق ﴾ لهذه الجملة في مقام التعليل للأمر بالإيمان ﴿ فيقول ﴾ ذلك الولد الكافر لوالديه ﴿ ما هذا ﴾ الوعد ﴿ إلا أساطير ﴾ أي أكاذيب ﴿ الأولين ﴾.
أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهك قال كان مروان على الحجاز استعمل معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا فقال مروان هذا الذي أنزل الله فيه ﴿ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني ﴾ فقالت عائشة من وراء الحجاب ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن أنزل عذري. وروي أنه غضب عبد الرحمن بن أبي بكر بقول مروان وقال هذا سنة الهراقلة أن يرث الأبناء ملك الآباء، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وعن ابن عباس مثل قول مروان وقال نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ثم أسلم عبد الرحمان وحسن إسلامه، وقال البغوي قال ابن عباس والسدي ومجاهد نزلت في عبد الله وقيل في عبد الرحمن بن أبي بكر كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ويقول أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون، قلت وقول من قال أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر إنما نشأ من قول مروان وقد سمعت أن قول مروان إنما كان مبنيا على العناد. قال البغوي وأنكرت عائشة أن يكون هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر وقالت إنما نزلت في فلان سمت رجلا، وقال الحافظ ابن حجر ونفي عائشة أصح إسنادا وأولي بالقبول، وقال البغوي والصحيح أنها نزلت في كافر عاق لوالديه المسلمين كذا قال الحسن وقتادة، وقال الزجاج قول من قال نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، يبطله قوله تعالى :﴿ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ﴾
﴿ أولئك الذين حق ﴾ أي وجب وثبت ﴿ عليهم القول ﴾ بأنهم أهل النار فإن عبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين ﴿ في أمم ﴾ أي مع أمم كافرة ﴿ قد خلت ﴾ أي مضت ﴿ من قبلهم من الجن والإنس ﴾ بيان لأمم وجملة قد خلت صفة لأمم وفي أمم متعلق بحق وهو صلة للموصول والموصول خبر لاسم الإشارة والجملة خبر لقوله ﴿ والذي قال لوالديه ﴾ ﴿ إنهم كانوا خاسرين ﴾ تذييل.
﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾ أي من جزاء ما عملوا من الخير أومن أجل ما عملوا قال البغوي قال ابن عباس يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن يخلف عنه ولو بساعة وقال مقاتل ولكل فضائل بأعمالهم فيوفيهم جزاء أعمالهم، وقيل ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين درجات منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم فجازيهم عليها قال ابن زيد في هذه الآية درجات أهل النار يذهب سفالا ودرجات أهل الجنة علوا ﴿ وليوفيهم ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام وعاصم بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم والتعظيم وهو معطوف على علة محذوفة لفعل محذوف تقديره فعلنا ذلك أو فعل الله ذلك لحكم ومصالح وليوفيهم ﴿ أعمالهم ﴾ أي جزاء ما عملوا ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ بنقص ثواب وزيادة عقاب حال من الضمير المنصوب.
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ﴾ أي يعذبون بها أصله يعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم عرضت الناقة على الحوض ﴿ أذهبتم ﴾ مقدر بالقول أي يقال لهم أذهبتم وهو ناصب اليوم، قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب ْأذهبتم بالاستفهام فقرأ ابن ذكوان بهمزتين محققتين بغير مد وابن كثير وأبو جعفر ويعقوب وهشام بهمزة ومد وهشام أطول مدا على أصله وابن كثير يسهل الثانية على أصله والباقون بهمزة واحدة على الخبر، قال البغوي كلاهما فصيحتان لأن العرب تستفهم للتوبيخ وتترك الاستفهام ﴿ طيباتكم ﴾ ولذائذكم ﴿ في حياتكم الدنيا ﴾ باستيفاء ما كتب لكم حظا منها في الدنيا ﴿ واستمتعتم بها ﴾ فما بقي لكم منها شيء ﴿ فاليوم ﴾ الفاء للسببية عطف على استمتعتم ﴿ تجزون عذاب الهون ﴾ أي العذاب الذي فيه ذل وهوان ﴿ بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ﴾ أي بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله.
قال البغوي وبخ الله الكافرين بالتمتع في الدنيا فأثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصالحون اجتناب اللذات للدنيا رجاء لثواب الآخرة، روى الشيخان في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف، قلت يا رسول الله أدع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فقال أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، وفي رواية ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ) وفي الصحيحين عن عائشة ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى البخاري عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية فدعوه فأبى أن يأكل وقال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وروى عن عائشة قالت لقد كان يأتي علينا شهر ما توقد فيه نار وما هو إلا الماء والتمر غير أن جزى الله النساء من الأنصار خيرا ربما أهدين لنا شيئا من اللبن، وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير، وروى الترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت وما يؤذى أحد ولقد أتت علي ثلاثين من بين ليلة ويوم ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ) قال الترمذي ومعنى الحديث حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم هاربا من مكة ومعه بلال إنما كان مع بلال من الطعام ما تحمل تحت إبطه، وروى البخاري عن أبي هريرة ( قال رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته )، وروى البخاري عن أنس أنه مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سبخة، ولقد وهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا بالمدينة عند يهودي وأخذ منه الشعير لأهله ولقد سمعته يقول ما أمسى عند آل محمد صاع بر ولا صاع حب وإن عنده تسع نسوة وروى الترمذي عن أبي طلحة قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين، وقال الترمذي هذا حديث غريب، وروى مسلم عن عبد الرحمان قال " جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو وأنا عنده فقالوا يا أبا محمد والله ما نقدر على شيء لا نفقة ولا دابة ولا متاع، فقال لهم ما شئتم إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان وإن شئتم صبرتم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا، قالوا فإنا نصبر نسأل شيئا ) وروى أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن قال :( إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ) وروى البيهقي في شعب الإيمان عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من رضي من الله باليسر من الرزق رضي الله عنه بالقليل من العمل ) وروى البغوي عن عبد الرحمان بن عوف أنه أتى بطعام وكان صائما فقال قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه قال وأراه قال وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا الدنيا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، وروي عن جابر بن عبد الله أنه رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي فقال ما هذا يا جابر ؟ قلت اشتهيت لحما فاشتريته فقال عمر فكلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية ﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ﴾، وقد روى القصة من حديث ابن عمر، وفي رواية من حديث جابر أما يجد أحدكم أن يطوى بطنه لجاره وابن عمه، وروى رزين عن زيد بن أسلم قال استسقى يوما عمر فجيء بماء قد شيب بعسل فقال إنه طيب لكني أسمع الله عز وجل نفى على قومه شهواتهم فقال أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فأخاف أن تكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه.
﴿ واذكر أخا عاد ﴾ يعني هود عليه السلام ﴿ إذ أنذر قومه ﴾ عادا، إذ مع ما أضيف إليه بدل اشتمال من أخا عاد أي اذكر وقت إنذاره ﴿ بالأحقاف ﴾ أي في الأحقاف قال ابن عباس : الأحقاف بين عمان ومهرة، وقال مقاتل منازل عاد كان باليمن في حضرموت بموضع يقال لها مهرة تنسب إليها الإبل المهرية وكانوا أهل عهد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة آدم، قال قتادة ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن كانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال له يشجر والأحقاف جمع حقف وهو المستطيل المعوج من الرمال قال ابن زيد هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا، وقال الكسائي هي ما استدار من الرمال ﴿ وقد خلت النذر ﴾ أي مضت الرسل جملة معترضة أوحال من فاعل أنذر ﴿ من بين يديه ﴾ أي قبل هود ونوح وغيره ﴿ ومن خلفه ﴾ أي بعده صالح وإبراهيم ولوط وغيرهم مثل إنذار هود ﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾ أن مفسرة لأنذر أو مصدرية بتقدير أنباء فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أخاف عليكم ﴾ إن عبدتم غير الله ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ أي عظيم بلاؤه.
﴿ قالوا أجئتنا ﴾ استفهام تقرير ﴿ لتأفكنا ﴾ أي لتصرفنا ﴿ عن آلهتنا ﴾ أي عن عبادتها ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ من العذاب على الشرك ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في وعيدك شرط مستغن عن الجزاء بما مضى.
﴿ قال إنما العلم ﴾ لوقت عذابكم ﴿ عند الله ﴾ أي يأتيكم في وقت مقدر له من المستقبل ولا يستلزم عدم وقوع العذاب الآن كوني كاذبا ولا مدخل لي فيه فاستعجلوا ﴿ وأبلغكم ما أرسلت به ﴾ إليكم من التوحيد والأحكام والأخبار بنزول العذاب أن لم تؤمنوا ﴿ ولكني ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أراكم قوما تجهلون ﴾ لا تعلمون أن الله هو العليم القدير والرسل إنما بعثوا منذرين مبلغين لا معذبين ولا مقترحين.
﴿ فلما رأوه ﴾ الضمير عائد إلى ما تعدنا أو مبهم تفسيره ﴿ عارضا ﴾ أي هيئة سحاب يعرض أي يبدو في عرض السماء ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾ وقد كانوا قد حبس عنهم المطر قبل ذلك سنتين ( وقد مر قصتهم في سورة الأعراف وغيرها ) استبشروا بها ﴿ قالوا هذا ﴾ الذي نراه ﴿ عارض ﴾ سحاب عرض ﴿ ممطرنا ﴾ أي يأتينا بالمطر قال الله تعالى أو قال هود ليس هذا سحابا ممطرا كما زعمتم ﴿ بل هو ما استعجلتم به ﴾ من العذاب ﴿ ريح ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هي أو بدل من الموصول ﴿ فيها عذاب ﴾ صفة لريح ﴿ أليم ﴾ صفة عذاب.
﴿ تدمر ﴾ أي تهلك ﴿ كل شيء ﴾ مرت به من أنفسهم وأموالهم ﴿ بأمر ربها ﴾ أي رب الريح فجاءت الريح الشديد تحمل الفسفاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة وأول ما عرفوا أنها عذاب إذا رأوا ما كان خارجا من ديارهم من رجال عاد وأموالهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففلقت أبوابهم وصرعتهم وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال وكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ﴿ فأصبحوا لا يرى ﴾ عطف على قال الله أو قال هود المحذوف، قرأ عاصم وحمزة ويعقوب بضم الياء للغيبة على البناء للمفعول ﴿ إلا مساكنهم ﴾ بالضم عندهم على أنه مفعول ما لم يسم فاعله والباقون بالتاء للخطاب يعني لا ترى يا محمد أويا مخاطب مطلقا ومساكنهم عندهم بالنصب على المفعولية ﴿ كذلك ﴾ أي جزاء مثل جزائهم ﴿ نجزي القوم المجرمين ﴾ روي أن هودا عليه السلام لما أحس بالريح اعتزل بالمؤمنين في الخطير، عن عائشة قالت :( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ) متفق عليه، وفي رواية عند البغوي فقلت يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء إن يكون فيها المطر وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال ( يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا )، وعنها قالت :( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت سري عنه فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال : لعله : يا عائشة كما قال عاد فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، وفي رواية ويقول إذا رأى المطر رحمة ) متفق عليه، وفي رواية عند أبي داود والنسائي وابن ماجه والشافعي كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصرنا شيئا من السماء ترك عمله واستقبله وقال إني أعوذ بك من شر ما فيه الحديث، وعن ابن عباس ما هبت الريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه سلم على ركبتيه وقال :( اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ) الحديث، رواه الشافعي والبيهقي.
﴿ ولقد مكناهم ﴾ يعني عادا ﴿ فيما إن مكناكم فيه ﴾ من القوة والمال ما موصولة أو موصوفة وإن نافية وهي أحسن هاهنا من ما لئلا يلزم التكرار لفظا أي في الذي ﴿ أو في شيء مكناكم فيه ﴾، أو شرطية والجواب محذوف والتقدير ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر أو زائدة يعني مكناهم فيما مكناكم فيه والأول أظهر لقوله تعالى ﴿ أحسن أثاثا ﴾ ﴿ وكانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا ﴾ ﴿ وجعلنا لهم سمعا ﴾ بمعنى إسماعا ﴿ وأبصارا وأفئدة ﴾ قلوبا ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على مانحها ويواظبوا على شكرها ﴿ فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيءٍ ﴾ من زائدة يعني لم ينفعهم شيء منها شيئا من النفع ﴿ إذ كانوا يجحدون بآيات الله ﴾ ظرف جرى مجرى التعليل من حيث أن الحكم مرتب على ما أضيف إليه فهو علة لما أغنى ﴿ وحاق ﴾ أي نزل ﴿ بهم ما كانوا به يستهزءون ﴾ من العذاب.
﴿ ولقد أهلكنا ما حولكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ من القرى ﴾ كحجر ثمود وأرض سدوم قرى قوم لوط والمراد أهلها ﴿ وصرفنا الآيات ﴾ أي كررنا الحجج والبينات ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي لكي يرجعوا يعني أهل مكة عن كفرهم تعليل للصرف وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.
﴿ فلولا نصرهم ﴾ فهلا منعهم من عذاب الله ﴿ الذين اتخذوا ﴾ أي الذين اتخذوهم ﴿ من دون الله قربانا آلهة ﴾ أي آلهة يتقربون بها إلى الله حيث قالوا :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾، أو مفعولي اتخذوا الراجع إلى الموصول محذوف وثانيهما قربانا وآلهة بدل أو عطف بيان أو آلهة مفعول ثان، وقربانا حال أو مفعول له على أنه بمعنى التقرب أو مفعول مطلق أي اتخاذ تقرب إلى الله ﴿ بل ضلوا عنهم ﴾ أي غابوا عن نصرهم عند نزول العذاب وأمتنع أن يستمدوا بهم امتناع الإستمداد بالضال ﴿ وذلك ﴾ أي اتخاذ الذين هذا شأنهم ﴿ إفكهم ﴾ كذبهم وصرفهم عن الحق.
وقيل ذلك إشارة إلى انتفاء نصرهم وهو به يقول أو إفكهم بحذف المضاف خبره والمعنى وذلك أي انتفاء نصرهم أثر إفكهم أي افترائهم والجملة معترضة لبيان سبب المشار إليه ﴿ وما كانوا يفترون ﴾ أي إفتراؤهم أنها آلهة.
أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال إن الجن هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا أنصتوا قالوا صه وكانوا تسعة أحدهم رذبعة فأنزل الله ﴿ وإذ صرفنا ﴾ أي أهلنا ﴿ إليك ﴾ هذه الجملة إلى آخرها معترضة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم نفرا وهي جماعة دون العشرة وجمعه أنفار ﴿ من الجن ﴾ قال ابن عباس كانوا سبعة من جن نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم وقال الآخرون كانوا تسعة.
قال البغوي روى عاصم عن زر بن حبيش أن رذبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن ﴿ يستمعون القرآن ﴾ حال من نفر ﴿ فلما حضروه ﴾ أي القرآن أو الرسول ﴿ قالوا أنصتوا ﴾ قال بعضهم لبعض اسكتوا نسمعه ﴿ فلما قضى ﴾ أي أتم وفرغ من قراءته ﴿ ولو ﴾ انصرفوا ﴿ إلى قومهم ﴾ من الجن ﴿ منذرين ﴾ مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا القصة بوجوبها في سورة الجن لما سبق مني تفسيرها.
﴿ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ﴾، قال عطاء كان دينهم اليهودية، قلت : لعل معنى قولهم أنزل من بعد موسى ناسخا للتوراة بخلاف الإنجيل والزبور فإنهما لم يكونا ناسخين لكثير من أحكام التوراة حيث قال الله تعالى في عيسى عليه السلام ﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل { ٤٨ ﴾ } وقال حكاية عنه ﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ ﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية حال من فاعل أنزل أوصفة ثانية لكتابا وكذا قوله ﴿ يهدي إلى الحق ﴾ من العقائد ﴿ وإلى طريق مستقيم ﴾ من الشرائع.
﴿ يا قومنا أجيبوا داعي الله ﴾ محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ﴿ وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ وما كان حقا لله بخلاف المظالم فإنها لا يغفر بالإيمان ﴿ ويجركم من عذاب أليم ﴾ فاستجاب من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البطحاء فقرأ عليهم القرآن فأمرهم ونهاهم وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس جميعا وقد ذكرنا اختلاف العلماء في حكم مؤمن الجن في سورة الجن.
﴿ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ﴾ أي لا يعجز الله فيفوته إذا أراد الله تعذيبه ﴿ وليس له من دونه أولياء ﴾ يمنعونه من عذاب الله هذه الجملة حال من فاعل ليس بمعجز والجملة الشرطية أعني من لا يجب داعي الله إلخ معترضة ﴿ أولئك ﴾ أي الذين لم يجيبوا داعي الله ﴿ في ضلال مبين ﴾ فإن الهداية منحصرة في إتباع الرسول.
﴿ أولم يروا ﴾ الاستفهام لإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أينكرون هؤلاء الكفار عن البعث بعد الموت ولم يروا أي لم يعتقدوا ﴿ أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي ﴾ أي لم يتعب ولم يعجز ﴿ بخلقهن ﴾ فإن قدرته ذاتية لا ينقص ولا ينقطع بالإيجاد أبد الآبدين ﴿ بقادر ﴾ الباء زائدة واسم الفاعل في محل النصب على أنه مفعول ثان ووجه دخول الباء على خبر أن المفتوحة إن مع جملتها قائم مقام مفعولي يروا والنفي في أفعال القلوب يتوجه إلى المفعول الثاني، هذا قراءة الجمهور وفي قراءة ابن مسعود قادرا بغير الباء وقرأ يعقوب يقدر بصيغة الفعل المضارع ﴿ على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ﴾.
﴿ ويوم يعرض الذين كفروا على النار ﴾ منصوب بقول مضمر تقديره يقال لهم ﴿ أليس هذا ﴾ إشارة إلى العذاب بالنار الذي ينكرونها في الدنيا ﴿ بالحق قالوا ﴾ أي الكفار في الجواب ﴿ بلى وربنا ﴾ يقسمون بالله ويعترفون به حين لا ينفعهم الإقرار ﴿ قال ﴾ أي يقول الله تعالى حينئذ ﴿ فذوقوا العذاب ﴾ الِفاء للسببية فإن كونها حقا مع إنكارهم إياها في الدنيا سبب للذوق ﴿ بما كنتم تكفرون ﴾ أي بسبب كفركم في الدنيا ومعنى الأمر هو الإهانة والتوبيخ وجملة ويوم يعرض إلى الخ متصلة بقوله ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أذهبتم طيباتكم ﴾ وما بينهما معترضات.
﴿ فاصبر ﴾ يا محمد على أذى الكفار الفاء للسببية يعني إذا علمت أنهم يذوقون عذاب النار فاصبروه تهتم للانتقام ﴿ كما صبر ﴾ أي صبرا مثل ﴿ أولوا العزم ﴾ أي أولي الصبر والثبات والجد ﴿ من الرسل ﴾ قبلك فإنك من جملتهم. واختلفوا فيهم ؟ قال ابن زيد كل رسول كان صاحب عزم فإن الله لم يبعث نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل ومن للتبيين، وقال بعضهم الأنبياء كلهم أولوا عزم إلا يونس بن متى لعجلة كانت منه ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ولا تكن كصاحب الحوت ﴾ وقيل إلا يونس وإلا آدم لقوله تعالى :﴿ ولم نجد له عزما ﴾ وقال قوم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا. قال الله تعالى بعد ذكرهم ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ وقال الكلبي هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله وقيل هم ستة : نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء، وقال مقاتل هم ستة نوح صبر على أذى قومه وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهب بصره، ويوسف صبر في البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر، وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأصحاب الشرائع مع محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين خمسة، قال الشيخ محيي السنة البغوي ذكرهم الله على التخصيص في قوله :﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ﴾ وفي قوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾، وقال الشيخ أحمد المجدد للألف الثاني رضي الله عنه هم ستة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين وسلم، أما الخمسة فلما ذكر من تخصيصهم للميثاق وكونهم أصحاب الشرائع ومن جاء خلفهم أيد شرائعهم وأما آدم فلا جرم يكون هو صاحب شريعة جديدة لكونه مقدما على غيره.
روى البغوي عن مسروق قال قالت لي عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا الصبر على مكروهها والصبر على محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم وقال فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وإني والله ما بدا لي من طاعته وإني والله لأصبرن كما صبروا وأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا بالله ).
عن ابن مسعود قال :( كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) متفق عليه، ﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ أي لا تدع على كفار قريش بنزول العذاب عليهم فإنه نازل بهم في وقته لا محالة، كأنه ضجر وضاق قلبه بكثرة مخالفات قومه فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر عن قرب العذاب فقال ﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون ﴾ من العذاب في الآخرة ﴿ لم يلبثوا ﴾ في الدنيا زمانا ﴿ إلا ساعة من نهار ﴾ استقصروا من هوله مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة ولأن ما مضى وإن كان طويلا فهو إذا انقضى صار كأن لم يكن وجملة كأنهم واقع موقع التعليل لعدم الاستعجال في تعذيب الكفار ثم قال ﴿ بلاغ ﴾ أي هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة أو هذا القرآن وما به من البيان بلاغ من الله إليكم أي كفاية أو تبليغ الرسول وتنكير البلاغ للتعظيم والتفخيم، وقيل بلاغ مبتدأ خبره لهم وما بينهما اعتراض أي لهم وقت يبلغون إليه كأنهم إذا بلغوه رأسا رأوا ما فيه استقصروا مدة عمرهم ﴿ فهل يهلك ﴾ الاستفهام للإنكار أي لا يهلك بالعذاب أحد ﴿ إلا القوم الفاسقون ﴾ الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة، قال الزجاج تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، ولهذا قال قوم ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية.