تفسير سورة الطور

حومد
تفسير سورة سورة الطور من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

(١) - يُقسِمُ اللهُ تَعَالى بِجَبَلِ الطُّورِ فِي سِينَاءَ، وَهُوَ الجَبَلُ الذِي كَلَّمَ اللهُ فَوْقَهُ مُوسَى، عَلَيهِ السَّلامُ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ عَلَيهِ التَّورَاةَ.
الطُّورِ - جَبَلٍ في طُورِ سِينَاءَ. وَقِيلَ إِنَّهُ الجَبَلُ المَكْسُوُّ بالشَّجَرِ. وَقِيلَ إِنَّهُ الجَبَلُ عَامَّةً فِي السِّريَانيَّةِ.
﴿كِتَابٍ﴾
(٢) - وَيُقْسِمُ اللهُ تَعَالى بالكِتَابِ المَسْطُورِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى، عَليهِ السَّلامُ، في جَبَلِ الطُّور - وَهُوَ التَّورَاةُ.
وَقِيلَ أيضاً إِنَّهُ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ.
(٣) - وَقَدْ سُطِّرَ هذا الكِتَابُ المُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى عَلَى عَبْدِهِ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ، في جِلْدٍ رَقيقٍ مِمّا يَكْتُبُ عَلَيهِ الأَوَّلُونَ كُتُبَهُمْ، وَقَدْ نَشَرَ اللهُ الرَّقَّ لِتَسْهُلَ قِراءَةُ ما فِيهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ مَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامٍ.
رَقٍّ - مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ.
مَنْشُورٍ - مَبْسُوطٍ غيرِ مَطْوِيٍّ.
(٤) - وَالَبْيتُ المَعْمُورُ هُوَ كَعْبَةُ أَهْلِ السَّماءِ، وَفِي كُلِّ سَماءٍ بَيْتٌ مَعْمُورٌ يَتَعَبَّدُ فِيهِ أَهْلُها، وَيُصَلُّونَ إِلَيهِ.
(٥) - وَيُقْسِمُ تَعَالى بِالسَّمَاءِ، وَهِيَ السَّقْفُ المَرْفُوعُ مِنْ غَيرِ عَمَدٍ. وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾
(٦) - وَيُقْسِم اللهُ تَعَالى بالبَحْرِ المَحْصُورِ مِنْ أَنْ يَفيضَ فَيُغْرِقَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الأَرْضِ.
(وَقِيلَ إِنَّ المَسْجُورَ تَعْنِي هُنَا المُشْتَعِلَ بِالنِّيرَانِ الكَائِنَةِ دَاخِلَ الأَرْضِ. وَمِنْها سَجَرَ التَّنُّورَ إِذا مَلأَهُ حَطَباً وَأَوْقَدَهُ).
﴿لَوَاقِعٌ﴾
(٧) - لَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالى بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّ عَذَابَهُ الذِي أَنْذَرَ الرُّسُلُ بهِ الخَلاَئقَ لَوَاقِعٌ بِالكَافِرينَ، وَمُحِيطٌ بِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
(وَهذا جَوابُ القَسَمِ).
(٨) - وَإِذا وَقَعَ العَذَابُ فَلا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ دَافِعٌ وَلا يَجِدُونَ عَنْهُ مَحِيصاً وَلاَ مَهْرَباً، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ وَآياتِهِ.
(٩) - وَيَقَعُ عَذَابُ اللهِ تَعَالى بالكَافِرينَ، وَلاَ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ دَافعٌ، في يَوْمِ القِيَامةِ الذِي تَتَحَرَّكُ فِيهِ السَّماءُ، وَتَدُورُ دَوَرانا وَهِي في مَكانِها كما تَدُورُ الرَّحَى.
تَمُورُ مَوْراً - تَتَحَرَّكُ وَتَدُورُ وَهِيَ في مَكَانِها.
(١٠) - وَفِيهِ تَزُولُ الجِبَالُ مِنْ أَمَاكِنِها، وَتَسِيرُ عَنْ مَوَاضِعِها كَسَيرِ السِّحابِ. وَتَصيرُ كالعِهْنِ المَنْفُوشِ الذِي تَلْعَبُ بِهِ الرِّياحُ.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(١١) - فالوَيلُ والهَلاَكُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لِلْمُكَذِّبينَ بِالحَقِّ.
(١٢) - الذِينَ يَخُوضُونَ في البَاطِلِ، وَهُمْ لاَهُونَ لاَ يُفَكِّرُونَ في آخِرةٍ وَلا في حِسَابٍ.
خَوْضٍ - اندِفَاعٍ في الأبَاطِيلِ والأَكَاذِيبِ.
(١٣) - وفي ذلِكَ اليَوْمِ يُدفَعُ هؤلاءِ المُكَِذِّبُونَ، الخَائِضُونَ في البَاطِل، إِلى جَهَنَّم دَفْعاً عَنيفاً، وَيُسَاقُونَ إليها سَوْقاً.
يُدَعُّونَ - يُدْفَعُونَ بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ.
(١٤) - وَيَقُولُ لَهُم خَزَنةُ جَهَنَّمَ مُوَبِّخِين وَمُقَرِّعِينَ: هذِهِ هيَ النَّارُ التِي كُنْتُم تُكَذِّبُونَ بِوُجُودِها حِينَما كُنْتُم في الحَياةِ الدنيا، كَمَا كُنْتُم تُكَذِّبونَ بِأَنَّ الكُفَّارَ وَالمكَذِّبينَ سَيَصِيرُونَ إِليها ليُعَذَّبُوا فيها.
(١٥) - لَقَدْ كُنْتُم تَدَّعُونَ، وَأَنْتُم في الحَيَاةِ الدُّنيا، أَنَّ مُحَمَّداً يَسْحَرُ عُقُولَكُم، فَيَتْبَعُه النَّاسُ. وَيُتَابِعُ المَلاَئِكَةُ تَوْبِيخَهم لهؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ فَيَقُولُونَ لَهُم: هَلِ الذِي تَرَوْنَهُ الآن بِأْمِّ أَعْيُنِكُمْ مِنْ نَارٍ تَتَلَظَّى، وَمُجْرِمينَ يُلقَوْنَ فِيها جَزاءً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهم. هُوَ سِحْرٌ أيضاً؟ أَمْ هَلْ غُطِّيَت أَبْصَارُكُم فَهِي لا تَرى شَيئاً؟ كَلاَّ إِنَّ مَا تَرونَهُ لَحَقٌّ، وَليسَ بِسِحْرٍ وَلا خِدَاعِ بَصَرٍ.
(١٦) - فَادْخُلُوا الآنَ نَارَ جَهَنَّمَ لِتَصْطَلُوا بِنَارِها التِي تَغْمُرُكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِب، وَسواءٌ عَليكُم أَصَبَرتُمْ عَلَى عَذَابِها وَنَكَالِها، أمْ لَمْ تَصْبِروا فَلاَ مَحِيدَ لُكُم عَنْها، وَلا خَلاَصَ لَكُم مِنْها، وَهذا الذِي نَزَلَ بِكُمْ مِنَ العَذَابِ هُوَ مَا تَسْتَحِقُّونَه جَزَاءً لَكُم عَلَى أَعْمَالِكُمْ في الحَيَاةِ الدُّنيا.
اصْلوها - ادْخُلُوها، أو قَاسُوا حَرَّها.
﴿جَنَّاتٍ﴾
(١٧) - بَعْدَ أَنْ بيَّنَ اللهُ تَعَالى حَالَ الكَفَرةِ الأشْقِياءِ في الآخِرةِ ثَنَّى بِبِيَانِ حَالِ المُؤْمِنينَ السُّعَداءِ فَأَخْبرَ أَنَّ المُتَّقِينَ الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَخَافُوهُ، وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ، يَجْزِيهِمْ رَبُّهمْ، عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمالِهِم الصَّالحةِ، بِإِدْخَالِهمْ جَنَّاتٍ يَنْعَمُونَ فِيها، لاَ يَحُولُونَ عَنْها ولا يَزُولُونَ.
﴿فَاكِهِينَ﴾ ﴿آتَاهُمْ﴾ ﴿وَوَقَاهُمْ﴾
(١٨) - وَيَكُونُونَ في الجَنَّةِ طَيِّبي النُّفُوسِ، قَريرِي الأَعْيُنِ، يَتَنَعَّمُونَ بِما آتَاهُمْ رَبُّهم فِيهَا مِنَ المآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَلابِسِ، وَلاَ يَشْغَلُ بالَهُمْ شَاغِلٌ، وَقَدْ أَنْجَاهُمْ رَبُّهم مِنَ العَذَابِ في نَارِ جَهَنمَ، وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ.
فَاكِهِينَ - مُتَلَذِّذِينَ نَاعِمِينَ مَسْرُورِينَ.
(١٩) - وَيُقَالُ لَهُمْ وَهُمْ في الجَنَّةِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا ممَّا رَزَقَكُمْ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، هَنِيئاً مَرِيئاً لاَ تَخَافُونَ أَذَى وَلاَ غَائِلَةً، وَذلِكَ جَزَاء لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ بِاللهِ، وَعَلى الأَعْمالِ الصَّالحةِ التِي فَعَلْتُمُوها فِي رَبِّكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ بِاللهِ، وَعَلى الأَعْمالِ الصَّالحةِ التِي فَعَلْتُمُوها فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا.
﴿وَزَوَّجْنَاهُم﴾
(٢٠) - وَيَجْلِسُونَ في رِيَاضِ الجَنَّةِ عَلَى سُررٍ صُفَّ بَعْضُها إِلى جَانِبِ بَعْضٍ، وَهُمْ مُتَّكِئُونَ في جَلْسَةِ المُطْمَئِنِّ المُرتَاحِ، الذِي لا كُلْفَةَ عَلَيهِ. وَجَعَلَ لَهُمْ رَبُّهُمْ زَوْجَاتٍ صِبَاحَ الوُجُوهِ، وَاسِعَاتِ العُيُونِ.
سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ - مَوْصُولٍ بَعْضُها بِبَعْضٍ بِاسْتِواءٍ.
عِينٍ - وَاسِعَاتِ العُيُونِ.
زَوَّجْنَاهُمْ - قَرَنَّاهُمْ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿بِإِيمَانٍ﴾ ﴿أَلَتْنَاهُمْ﴾
(٢١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى العِبَادَ عَمَّا يَتَفَضَّلُ بهِ عَلَى المُؤْمِنينَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالى يُلحِقُ بِهِمْ مَنْ آمَنَ مِنْ ذُرِّيتهِم، في المَنْزِلةِ، لِتَقرَّ بِهِمْ عُيونُهُمْ فِي الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَمَلُ هؤُلاءِ لا يُبَلِّغُهُمْ هذِهِ المَنْزِلَةَ، فَيتَفَضَّلُ اللهُ تَعَالى بِرَفْعِ نَاقِصِي العَمَلِ إِلى مَرْتَبةِ الكَامِلي العَمَلِ، تَكرُّماً مِنْهُ، وَتَفَضُّلاً عَلَى هؤُلاءِ الكِرامِ البَرَرَةِ، وَلاَ يُنْقِصُ اللهُ تَعَالى دَرجَاتِ الآباءِ بِسَببِ ذُنُوبِ أبْنَائِهِمْ بَلْ يَرْفَعُ مَنْزلةَ الأَبْنَاءِ.
ثُمَّ يُخْبِرُ تَعَالى بِأَنَّ العَدْلَ يَقْضِي بِأَلاَّ يُؤاخَذَ بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُرْتَهنٌ بِعَمَلِهِ، وَلاَ يُحمَلُ عَليهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.
مَا أَلَتْنَاهُمْ - مَا نَقصْنا الآباءَ بِهذا الإلْحَاقِ.
﴿أَمْدَدْنَاهُم﴾ ﴿بِفَاكِهَةٍ﴾
(٢٢) - وَيَأْمرُ اللهُ بِأَنْ تُوَجَّهَ إِليهِم الفَوَاكِهُ واللحومُ التي تَشْتَهِيهَا أَنْفُسُهُم، دُونَ أَنْ يَطْلُبُوا هُمْ ذلِكَ، وَدُونَ أَنْ يَقْتَرِحُوهُ.
﴿يَتَنَازَعُونَ﴾
(٢٣) - وَيتعاطَى هؤُلاءِ الكِرَامُ البَرَرَةُ في الجَنَّةِ كَأْساً مِنَ الخَمْرِ لا يَهْذُون فِيها، وَلا يَتَكلَّمُون كَلاماً لَغْواً وَبَاطلاً، وَلا يَقُولُونَ قَولاً فاحِشاً فِيهِ إِثْمٌ، كَمَا يَفْعَلُ شَارِبُو الخَمْرِ في الدًُّنيا.
يَتَنَازَعُونَ - يَتَعَاطَوْنَ أَوْ يَتَجَاذَبُونَ.
كَأْساً - خَمْراً أو إِنَاءً فيهِ خَمْرٌ.
لا لغْوٌ - لاَ كَلامٌ مُبْتَذَلٌ سَاقِطٌ.
تَأْثِيمٌ - فِعْلٌ يُوجِبُ الإِثْمَ.
(٢٤) - وَيَطُوفُ عَلَيهِمْ بِكُؤُوسِ الخَمْرِ هذِهِ غِلْمانٌ مُعَدُّونَ لِخدْمَتِهِمْ، يَعْمَلُون بِأْمْرِهِمْ، وَيَنْتَهُونَ بِنَهيِهِمْ، وَهُمْ في حُسْنِهم وَبَهائِهم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ نَاصِعُ الَبَيَاضِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أصْدافِهِ، وَلَم يَتَعَرَّضْ لِلنُّورِ وَلَفْحِ الشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ.
مَكْنُونٌ - مَصُونٌ في أَصْدَافِهِ.
(٢٥) - وَأَقْبَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَنْ أَحْوالِهِمْ وَمَا كَانُوا فيهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، وَعَنْ سَبَبِ مَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنَ نَعِيمٍ.
(٢٦) - فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّا كُنَّا في الدُّنيا، وَنَحْنُ بَيْنَ أَهْلِنَا، خَائِفينَ مِنْ رَبِّنا، مُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِهِ.
مُشْفِقِينَ - خَائِفِينَ مِنَ العَاقِبَةِ.
﴿وَوَقَانَا﴾
(٢٧) - فَتَفَضَّلَ عَلَينَا رَبُّنا وَأَجَارَنَا مِمَّا كُنَّا نَخَافُ مِنْهُ وَأنْقَذَنا مِنْ أَنْ نَتَعَرَّضَ لِعَذابِ السَّمُومِ.
السَّمُومِ - النَّارِ ذَاتِ الحَرَارةِ التِي تَنْفُذُ مِنَ المَسَامِّ.
(٢٨) - وَلَقَدْ كُنَّا في الدُّنيا نَسَأَلُ اللهَ تَعَالى أَنْ يَمُنَّ عََلَينا بالرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ فَاسْتَجَابَ لِدُعَائِنَا وَأَعْطَانا سُؤْلَنَا، لأَنَّهُ هُوَ المُحْسِنُ المُتَفَضِّلُ، ذُو الرَّحمةِ الوَاسِعَةِ، وَالفَضْلِ العَظِيمِ.
البَرُّ - المُحْسِنُ العَطُوفُ.
الرَّحِيمُ - العَظِيمُ الرَّحْمَةِ.
﴿بِنِعْمَةِ﴾
(٢٩) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَهُ الكَرِيمَ ﷺ بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ إِلى النَّاسِ، وَبِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ عَليهِ وَيَقُولُ لَهُ تَعَالى: إِنَّكَ لَسْتَ، بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيكَ، بِكَاهِنٍ مِنَ الكُهَّانِ، الذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُم يَتَّصِلُونَ بِالجِنِّ، وَيَأْتُون بِأْسْرارِ الغَيبِ مِنْهُم، وَلَسْتَ بِمَجْنُونٍ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ.
(كَانَ مُشْرِكُوا قُريشٍ لا يَجِدُونَ مَا يَرُدُّونَ بِهِ الحَقَّ الذِي جَاءَهُم بِهِ رَسُولُ اللهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ إِلاَّ القَوْلَ تَارةً إِنَّهُ كَاهِنٌ، وَتَارةً إِنَّهُ مَجْنُونٌ يَهْذي بِكَلامٍ لا مَعْنًى لَهُ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالى عَلَيهِم قَوْلَهم هذا نافياً ما يَتَّهِمُونَ بِهِ الرَّسُولَ).
(٣٠) - بَلْ هُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ شَاعِرٌ نَنْتَظِرُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ قَوارعُ الدَّهْرِ فَيمُوتَ وَنْسْتَرِيحَ مِنْهُ.
المَنُونِ - الدَّهْرِ.
الرَّيبُ - الأَحْدَاثُ والقَوَارِعُ المُهْلِكَةُ.
(٣١) - فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: انتَظِروا أَنْ يَنْزِلَ رَيْبُ المَنُونِ فَإِنِّي مُتَرَبِّصٌ مَعَكُم، مَنْتَظِرٌ قَضاءَ اللهِ فِيَّ وَفِيكُمْ، وَسَتَعْلَمُونَ لمنْ تَكُونُ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ والظَّفَرُ، في الدُّنيا وَالآخِرةِ.
﴿أَحْلاَمُهُمْ﴾
(٣٢) - بَلْ تَأْمُرُهُمْ عُقُولُهُمْ بهذا الذِي يَقُولُونَ في الرَّسُولِ مِنَ الأَقَاوِيلِ البَاطِلةِ التي يَعْلَمُونَ في أَنْفِسِهِمْ أَنَّها كَذِبٌ، وَأَنَّها مُتَنَاقِضَةٌ فِيما بَيْنَها، فَالشَّاعرُ غَيْرُ الكَاهِنِ وَغَيْرُ المَجْنُونِ، وَلكِنَّهُمْ قَومٌ طَاغُونَ، ضَالَّونَ، مُعَانِدُونَ.
طَاغُونَ - مُتَجَاوِزُونَ الحَدَّ في العِنَادِ.
(٣٣) - أَيَقُولُونَ شَاعرٌ، أَمْ يَقُولُونَ كَاهِنٌ، أَمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ اخْتَلَقَ القُرآنَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَنَسَبَه إِلى اللهِ كَذِباً وافْتِرَاءً عَلَى اللهِ. وَالحَقِيقةُ هِيَ أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ الذِي يَحمِلُهُمْ عَلَى قَوْلِ مَا يَقُولُونَ.
﴿صَادِقِينَ﴾
(٣٤) - فَإِنْ كَانُوا صَادِقينَ في قَولِهِمْ إِنَّ مُحمَّداً تَقَوَّلَ مِنْ هذا القُرآنِ، إِنَّهُمْ عَنْ ذلكَ عَاجِزُونَ، مَعَ أَنَّ القُرآن جَاءَ بِاللُّغَةِ العَرَبيَّةِ، وَكَانُوا هُمْ أَسَاطِينَ البلاغَةِ في عَصْرهِمْ.
﴿الخالقون﴾
(٣٥) - بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالى أَنَّ رِسَالَة مُحَمَّدٍ حَقٌّ، وأَنَّهُ مُرْسَلٌ إِليهم مِنْ رَبِّهِ، شَرَعَ هُنا في إِثْبَاتِ وُجُودِهِ تَعَالى، وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَقُدْرتِهِ البَالِغةِ، فَقَالَ هُنَا: أَوُجِدُوا هُمْ مِنْ غَيرِ مُوجِدٍ؟ أَمْ أَنَّهُمْ هُمُ الذِين أَوْجَدُوا أَنْفُسَهُمْ؟ وَبِمَا أَنَّهُ لاَ يُوجَدُ شيءٌ مِنْ غَيرِ مُوجِدٍ، وَبِمَا أَنَّهم غَيْرُ قَادِرِينَ هُمْ عَلَى خَلْقِ أَنْفُِسِهِمْ، وَلا عَلَى خَلْقِ شيءٍ، فَيَكُونُ اللهُ تَعَالى هُوَ الذِي خَلَقَهُمْ وَأَوْجَدَهم بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونوا شَيْئاً.
﴿السماوات﴾
(٣٦) - وَهَلْ هُمُ الذِينَ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالأَرْضَ؟ إِنَّهُم يَعْلَمُون أَنَّهُمْ لَمْ يَخلُقوا شَيْئاً، وَأَنَّ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ قَدْ خَلَقَها اللهُ تَعَالى وَحْدَه، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَلاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُمْ لا يُوقِنُون بِمَا يَقُولُونَ.
﴿خَزَآئِنُ﴾
(٣٧) - أَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ في المُلْكِ، وَبِيَدِهِمْ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ اللهِ فَيُعْطُونَ النُّبوَّةَ لمنْ يَشَاؤُونَ، وَيَصْطَفُونَ لَها مِنَ الخَلْقِ مَنْ يَخْتَارُونَ هُمْ؟ أَمْ هُمُ الأَرْبَابُ الغَالِبُونَ المُسَيْطِرُونَ عَلَى أَمْرِ العَالَمِ فَيُصَرِّفون الأُمُورَ وَفْقَ إِرَادَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ؟ كَلاَّ إِنَّهُمْ لاَ يَتَصَرَّفُون بَشَيءٍ، وَلا يُسَيْطِرُونَ عَلَى شَيءٍ، فَاللهُ تَعَالى هُوَ وَحْدَهُ المُتَصَرِّفُ المُسَيْطِرُ.
﴿بِسُلْطَانٍ﴾
(٣٨) - أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَرْتَقُونَ عَلَيهِ إِلى السَّماءِ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ مَا يَدُورُ مِنْ أَحَادِيثَ في المَلإِ الأعْلَى، وَمَا يُوحَى إِلى المَلاَئِكَةِ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ. فَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ ذَلِكَ فَلْيأتِ مَنْ يَسْتَمِعُ لَهُمْ بِحجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تُصَدِّقُ دَعْواهُم بأَنَّهم عَلَى حَقٍّ فِيما يَقُولُونَ، وَفِيما يَفْعَلُونَ.
سُلَّمٍ - مَرْقًى إِلى السَّماء يَصْعَدُون إِليهَا بِهِ.
﴿البنات﴾
(٣٩) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ المُشْرِكينَ إِنَّ المَلاَئِكَةَ بَنَاتُ اللهِ، فَيَقُولُ مُنْكِراً عَلَيهِمْ مَا نَسَبُوهُ إِليهِ مِنَ الوَلَدِ، وَمِنْ جَعْلِ أَوْلادِ اللهِ مِنَ الإِنَاثِ، بَيْنَما يَخْتَارُونَ هُمْ لأَنفُسِهِمْ الذُّكُورَ لأَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُمْ وَيُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى الإِنَاثِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَلِرَبِّكُم البَنَاتُ وَلَكُمُ الذُّكُورُ، تِلْكَ إِذا قِسْمَةٌ جَائِرَةٌ لاَ يَقُولُها عَاقِلٌ.
﴿تَسْأَلُهُمْ﴾
(٤٠) - أمْ إِنَّك تَسْأَلُهُم أَجْراً تَأْخُذُهُ مِنْ أَمْوالِهم عَلَى مَا تَقُومُ بهِ مِنْ إِبْلاغِ الرِّسَالَةِ إِليهِم فَهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ هذا المَغْرَمَ، وَيَتَبَرَّمُونَ بِهِ؟ وَيَتَضَايَقُونَ مِنْهُ؟ إِنَّك لاَ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً وَإِنَّما أَجْرُكَ عَلَى اللهِ.
مَغرَمٍ - الْتِزامِ غْرْمٍ. مُثْقَلُونَ - مُتْعَبُونَ مِنْ حَمْلِهِ.
(٤١) - أَمْ عِنْدَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبونَ ذلِكَ للنَّاسِ، وَيُنِّبُونَهُمْ بِمَا يُرِيدُونَ؟ إِنَّ الأَمرَ لَيْسَ كذِلكَ، لأنَّ الغَيْبَ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ تَعَالى.
(٤٢) - أَمْ يُريدُ هؤُلاءِ بِقَولِهِمْ هذا أَنْ يُغَرِّرُوا بالنَّاسِ، وَأَنْ يَكِيدُوا للرَّسُولِ وَالمؤمنينَ، وأن يَمْكُرُوا بهم، فَإِنْ كَانَ هذا مَا يُرِيدُون فإِن كَيْدَهُم مَرْدُودٌ عَلَيهِمْ، وَإِنَّ وَبَالَهُ وَاقعٌ عَلَيهِمْ لأنَّ اللهَ سَيُعلي كَلِمَتَهُ، وَسَيَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَسَيُبْطِلُ كَيْدَ الكَافِرينَ.
المَكِيدُونَ - المَجْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ.
﴿سُبْحَانَ﴾
(٤٣) - أًمْ لَهُمْ إلهٌ غَيْرُ اللهِ يَنْصُرُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَعَذابِهِ؟ إِنَّ الأَصْنامَ والأَنْدادَ والأَوْثَانَ وَمَا يَدْعُون مِنْ دُونِ اللهِ، لاَ تَسْتَطيعُ نَصْرَهُمْ إِذا أَرادَ اللهُ أَن يُنزِلَ بِهِمْ عَذَابَه فَتنزَّه اللهُ تَعَالى عَنْ شِرْكِهِمْ وَإِفْكِهِمْ.
(وَفِي هذهِ الآيَةِ إِنْكَارٌ شَدِيدٌ عَلَى المُشْرِكِينَ، فِيما يَعْبُدُونَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَوثَانِ).
(٤٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى في هذِه الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَنْ عِنَادِ المُشْرِكِينَ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْمَحْسُوسِ، فَيَقُولُ تَعَالى: إِنَّهم لَوْ رَأَوا بَعْضَ مَا سَألُوا مِنَ الآيَاتِ فَعَاينُوا السَّماءَ تَسْقُطُ قِطعاً عَلَيهِمْ، كَمَا طَلَبُوا، لَكَذَّبُوا ذلكَ، وَلَقَالُوا إِنَّهُ سَحَابٌ تَرَاكَمَ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ.
كِسْفاً - قِطَعاً عَظِيمَةً.
مَرْكُومٌ - مُتَراكِمٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَأَنَّهُ سَيُمْطِرُهُمْ.
﴿يُلاَقُواْ﴾
(٤٥) - فدَعْهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَشَأْنَهُمْ، وَلاَ تَهْتَمَّ بِأَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ سَيَظَلُّونَ سَادِرِينَ في غَيِّهِمْ وَضَلاَلِهِمْ حَتَّى يَجيءِ اليَوْمُ الذِي يَهْلِكُونَ فِيهِ (يُصْعَقُونَ)، وَحِينئذٍ يُلاقُونَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ العَذابِ وَالنَّكَالِ.
(وَقِيلَ إِنَّ هذا اليَوْمَ هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَقِيلَ بَلْ إِنَّهُ يَوْمُ القِيَامَةِ).
(٤٦) - وفي ذلِكَ اليَوْمِ لاَ يَنْفَعُهُم كَيْدُهُمْ وَمَكْرُهُم وَلاَ أَسَالِيبُهم فِي الاحْتِيالِ والخِدَاعِ وَالإِيذَاءِ التي استَعْمَلُوها في الحِياةِ الدُّنيا لإِيذَاءِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنينَ، وَالوُقُوفِ في وجْهِ الدَّعْوةِ الإِسْلاَمِيَّةِ، وَمَنْعِ انتِشَارِها، وَلا يَجِدُونَ لَهُم نَاصِراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذابِ اللهِ.
لا يُغْنِي عَنْهُمْ - لاَ يَدْفَعُ عَنْهُمْ.
(٤٧) - وَلِهؤُلاءِ المشُرِكِينَ، الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَارْتِكَابِ المَعَاصِي، عَذَابٌ يَنْزِلُ بِهِمْ في الدُّنيا، هُوَ دُونَ عَذابِ يَوْمِ القِيَامةِ في الشَّدَّةِ والقَسْوَةِ، يُنزلُهُ اللهُ بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ وَيَرْجِعُونَ إِلى اللهِ، وَلكِنَّ أكْثر هؤُلاءِ لاَ يَعْلَمُونَ ما أَعَدَّهُ اللهُ لَهُمْ مِنْ عَذاب في الدُّنيا وَالآخِرَةِ.
(وَقَدْ أَصَابَهُمُ اللهُ بِالقَحْطِ وَالجُوعِ وَالخَوفِ والإِصَابَةِ في الحُرُوبِ).
(٤٨) - فَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُم، وَلاَ تُبَالِ بِهِمْ فَإِنَّك بِمَرْأى مِنَّا وَفي حِفْظِنا وَتَحْتَ كَلاَءَتِنَا (بِإَعْيُنِنا)، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وَنَزِّهِ اسْمَ رَبِّكَ العَلِيِّ العَظِيمِ عَمَّا لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ، وَعَمَّا يَصِفُهُ بِهِ المُشْرِكُونَ، حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلسٍ تَجلِسُهُ.
" وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَارَ في آخِرِ حَيَاتِه لا تَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ إِلاَّ قَالَ سُبْحَانَك اللَهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِليْكَ. وَلما سُئِلَ الرَّسُولُ عَنْ هذَا الدُّعَاء قال: إِنَّهُ كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ في المَجْلِس "
بِأَعْيُنِنا - في حِفْظِنا وَرِعَايَتِنا.
﴿الليل﴾ ﴿وَإِدْبَارَ﴾
(٤٩) - وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَنَزِّهْهُ فِي صَلاَةِ الَّليلِ، وَحِينَما تُدْبِرُ النُّجُومُ وَتَميلُ لِلْغُرُوبِ فِي آخرِ الْلَيِلِ، لأَنَّ العِبَادةَ في الْلَيلِ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ.
وَقِيلَ إِنَّ تَسْبِيحَ إِدْبارِ النُّجُومِ هُمَا رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ.
سَبِّحْهُ - نَزَّهِ اللهَ تَعَالى حَامِداً لَهُ.
إِدْبَارَ النُّجُومِ - وَقْتَ مَغِيبِها فِي الصَّبَاحِ.
Icon