ﰡ
﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾؛ طالباً رضَى أزواجِكَ.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَا كان منكَ من التحريمِ.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بكَ حيث رخَّصَ لك الخروجَ منه بالكفَّارة، فأعتقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رقبةً وعادَ إلى ماريَّة ". ورُوي:" أنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اسْتَأْذنَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي زيَارَةِ أبيهَا فِي يَوْمِهَا، فَأَذِنَ لَهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهَا، فَمَضَتْ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى جَارِيَتِهِ مَاريَّةَ الْقِبْطِيَّةَ فَأَدْخَلَهَا فِي حِضْنِهِ، وَكَانَ ذلِكَ فِي يَوْمِ حَفْصَةَ، فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتْ بَابَ بَيْتِهَا مُغْلَقاً، فَجَلَسَتْ عَلَى الْبَاب حَتَّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقاً وحَفْصَةُ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: " مَا يُبْكِيكِ؟ " قَالَتْ: إنَّمَا أذِنْتَ لِي بالزِّيَارَةِ مِنْ أجْلِ هَذا؛ أدْخَلْتَ أمَتَكَ بَيْتِي وَوََقَعْتَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي؟ مَا رَأيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقّاً، مَا قَطُّ صَنَعْتَ هَذا بامْرَأةٍ مِنْ نِسَائِكَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " هِيَ جَارِيَتِي فَلاَ أحَلَّهَا اللهُ، اسْكُتِي هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ، ألْتَمِسُ بذلِكَ رضَاكِ، وَلاَ تُخْبرِي بذلِكَ امْرَأةً مِنْهُنَّ، وَهَذِهِ أمَانَةٌ عِنْدَكِ ". ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَتْ حَفْصَةُ عَلَى الْجِدَار الَّذِي كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهَا: ألاَ أبَشِّرُكِ يَا عَائِشَةُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّمَ جَاريَتَهُ مَاريَّةَ، وَقَدْ أرَاحَنَا اللهُ مِنْهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ مُتَصَافِيَتَيْنِ مُتَظَاهِرَِتَيْنِ عَلَى سَائِرِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ، فَغَضِبَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَالَ: " مَا حَمَلَكِ عَلَى ذلِكَ "، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ". وذهبَ بعضُ المفسِّرين أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ شَرِبَ عِنْدَهَا شَرَابَ عَسَلٍ تُصْلِحُهُ لَهُ، وَكَانَ يَطُولُ مُكْثُهُ عِنْدَهَا، فَاجْتَمَعَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ عَلَى أنْ يَقُولاَ لَهُ: إنَّا نَجِدُ مَعَكَ رَائِحَةَ الْمَغَافِيرِ - وَهُوَ صَمْغٌ مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ يَقَعُ عَلَى الطَّرَفِ يَأْكُلُهُ النَّحْلُ - فَلَمَّا صَارَ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَالَتْ لَِهُ: إنِّي أشُمُّ معَكَ رَائِحَةَ الْمَغَافِيرِ، فَحَرَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفْسِهِ شُرْبَ الْعَسَلِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذهِ الآيَاتِ. والقولُ الأول أظهرُ، ولا يمتنعُ أنَّ الأمرَين قد كانَا، وأنَّ هذا نزلَ فيهما.
﴿ وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ ﴾؛ أي مُتولٍّ أُمورَكم وهو أولى أن يُؤثِرُوا مَرضَاتَهُ.
﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بما فيه صلاحُ خَلقهِ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ في تدبيرِ أمرهِ. وإنَّما سُميت الكفَّارَةُ تَحِلَّةً؛ لأنَّها تجبُ عند انحلالِ اليمين، قال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: قَدْ بَيَّنَ اللهُ لَكُمْ كَفَّارَةَ أيْمَانِكُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَأمَرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَيُرَاجِعَ جَاريَتَهُ مَاريَّةَ).
﴿ قَالَتْ ﴾؛ لَهُ: ﴿ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا ﴾؛ أي من أخبَركَ أنِّي أفشيتُ سِرَّكَ؟ ﴿ قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ ﴾.
﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾؛ أي مَالَتْ إلى الإثمِ وعَدَلَتْ عن الحقِّ، وهو أنَّهما أحبَّتا ما كَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ﴾ أي تعَاوَنا عليه بالإيذاءِ وإظهار الغَيْرَةِ عليه من الجاريةِ.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ ﴾؛ يتولَّى حِفْظَهُ ونَصرَهُ ودفعَ الأذيَّةِ عنهُ.
﴿ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أبُو بكرٍ وعُمرُ يتولَّيانهِ وينصُرانهِ على مَن عاداهُ.
﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾؛ أعوانهُ وأنصارهُ. وعن ابنِ عبِّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: (حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخطَّاب رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأنَا أرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَقَّ عَلَيْكَ مِنْ أمْرِ النِّسَاءِ؟ فَإنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإنَّ اللهَ مَعَكَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَأنَا وَأبُو بَكْرٍ وَالْمَؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأحْمَدُ اللهَ بكَلاَمٍ، إلاَّ رَجَوْتُ أن يَكُونَ اللهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أقُولُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ ). وعن ابنِ عبَّاس قالَ: (سَأَلْتُ عُمَرَ رضي الله عنه فَقُلْتُ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ). ثُمَّ أخَذ عُمَرُ رضي الله عنه يَسُوقُ الْحَدِيثَ قَالَ: (كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قُوْماً نَغْلِبُ نِسَاءََنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْماً تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأتِي فَإذا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فأَنْكَرْتُ أنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَمَا يُنْكَرُ أنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللهِ إنَّ أزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: أتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللِّيْلِ؟ قَالَتْ نَعَمْ، قُلْتُ: أفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أنْ يَغْضَبَ اللهُ لِغَضَب رَسُولِهِ فإذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟! لاَ تُرَاجِعِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّكِ إنْ كَانَتْ جَارَتَكِ هِيَ أوْسَمُ وَأحَبُّ إلَى رَسُولِ اللهِ مِنْكِ) يَعْنِي عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. قرأ أهلُ الكوفة (تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) بالتخفيفِ، وقرأ الباقون بالتشديدِ.
﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ﴾؛ نعتٌ للأزواجِ اللاتِي كان يَبدِّلهُ لو طلَّقَ نساءَهُ، ومعنى ﴿ مُسْلِمَاتٍ ﴾ أي خاضعاتٍ للهِ بالطاعة، مسلماتٍ لأمرِ الله وقضائه، أي مصدِّقاتٍ مؤمناتٍ بتوحيدِ الله بالأَلسُنِ والقلوب.
﴿ قَانِتَاتٍ ﴾؛ أي طائعاتٍ لله والنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ تَائِبَاتٍ ﴾؛ أي راجعاتٍ إلى ما يحبُّه اللهُ.
﴿ عَابِدَاتٍ ﴾؛ للهِ متَذلِّلاتٍ لله ولرسولهِ.
﴿ سَائِحَاتٍ ﴾؛ أي صائماتٍ.
﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾؛ ظاهرُ المرادِ.
﴿ وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ﴾، حطَبُها الناسُ والحجارةُ، يعني حجارةَ الكبريتِ، والمعنى: اعمَلُوا بطاعةِ الله وانتَهُوا عن معصيتهِ، وعلِّموا أولادَكم وأهليكم الاجتنابَ عما تجبُ لهم به النارُ. وعن عمرَ رضي الله عنه:" أنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نَقِي أنْفُسَنَا، فَكَيْفَ لَنَا بأَهْلِنَا؟ قَالَ: " تَنْهَوْهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللهُ عَنْهُ، وَتَأْمُرُوهُمْ بمَا أمَرَكُمُ اللهُ بهِ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ﴾؛ أي على النار ملائكةٌ غِلاَظُ الأخلاقِ شِدَادٌ أقوياءُ الأخذِ والعقوبةِ، يدفعُ الواحدُ منهم في الدفعةِ الواحدة سبعين ألْفاً في جهنَّمَ، لم يخلُقِ الله فيهم شيئاً مِن الرحمةِ.
﴿ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ ﴾؛ من تعذيبِ أهلِها.
﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾؛ من ذلك، جعلَ اللهُ سُرورَهم في تعذيب المعذبين كما جعلَ سُرورَ المؤمنين في الجنَّة. وجاء في الخبرِ:" أنَّ الْمَلَكَ مِنْهُمْ يَكْسِرُ عِظَامَ الْمُعَذب، فيَقُولُ لَهُ: ألاَ تَرْحَمُنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ أرْحَمُكَ وَأرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لَمْ يَرْحَمْكَ ".
﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ في الدُّنيا، ولا تُظلَمون بزيادةٍ على ما تستحقُّون من العذاب.
﴿ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾؛ يعني نورَ كتابهم الذي يُعطونَهُ بها.
﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾؛ أي يقولون ذلك بعدَ ما ذهبَ نورُ المنافقِين، والمعنى: أتْمِمْ لنا نُورَنا على الصِّراطِ إلى أن ندخلَ الجنة.
﴿ وَٱغْفِرْ لَنَآ ﴾؛ ما سَلَفَ من ذُنوبنا.
﴿ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ من إتْمَامِ النور والمغفرة، فيجيبُ الله دعاءَهم ويفعلُ ذلك لَهم، فيكون الصِّراطُ على المؤمنين كما بين صنعاءَ والمدينة، يمشِي عليه بعضُهم مثلَ البرقِ، وبعضُهم مثلَ الريحِ، وبعضهم كعَدْو الفرسِ، وبعضهم يمشِي وبعضهم يزحفُ، ويكون على الكافرين كحدِّ السيف مذهبه.
﴿ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي على الفَرِيقين بالفعلِ والقول.
﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ وبيِّنْ أنَّ مصيرَهم في الآخرةِ إلى النار. وقال الحسنُ: (كَانُوا أكْثَرَ مَنْ كَانَ يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ الْمُنَافِقُونَ، فَأَمَرَ اللهُ أنْ يُغْلِظَ عَلَيْهِمْ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ). وعن ابنِ مسعود قال: (إذا لَمْ تَقْدِرُوا أنْ تُنْكِرُوا عَلَى الْفَاجِرِ - فـ - بوُجُوهٍ مَكْفَهِرَّةٍ).