وقد مر معنا في سورة الحجرات وصف حجرات النبي، وأنها كانت بسيطة جدا، فهي من لبن وسقفها من الجريد، وأبوابها ستائر من الخيش والشَعر.
وكانت حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بسيطة غاية البساطة. وكما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : كان إذا خلا بنسائه ألينَ الناس، وأكرم الناس، ضحّاكا بسّاما. وكان يستمتع بنسائه ويمتعهن من ذات نفسه، ومن فيض قلبه، ومن حسن أدبه، ومن كريم معاملته، وكما تقول عائشة : كان في بيته في خدمة أهله.
فأما حياته المادية وحياة أزواجه فكانت في غالبها كفافا بعد أن افتُتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء، تقول السيدة عائشة : يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار.
وكان يقع بين نسائه بعض الشجار، يغار بعضهن من بعض، شأن بقية الناس. وكانت بعضهن تتآمر على غيرها من ضرائرها وهكذا...
والحادث الذي نزل بشأنه أول هذه السورة الكريمة واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول الكريم، وفي حياة أزواجه. وقد وردت في ذلك عدة روايات لا مجال لذكرها، لكنا سنذكر بعضها عند تفسير الآيات.
أشارت السورة الكريمة إلى أمر من هذه الأمور أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض زوجاته، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفوس مما أحله الله له، وحذَّرَت زوجاته مغبّة ما أقدمن عليه. ثم انتقلت السورة إلى أمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة، وبينت أنه لا يُقبل من الكافرين اعتذار يوم القيامة، ودعت المؤمنين إلى التوبة، كما دعت الرسول الكريم إلى جهاد الكفار والمنافقين والشدة معهم. ثم خُتمت سورة التحريم بضرب بعض الأمثلة : إن صلاح الأزواج لا يرد عذاب الله عن زوجاتهم المنحرفات، وأن فساد الأزواج لا يضر الزوجات إن كن صالحات مستقيمات، ﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾...
ﰡ
تبتغي : تطلب.
الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك.
وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك. واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له : إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير. ( والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة ).
وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك، فقال لها : بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، ولن أعودَ له. وأُقسِم على ذلك، فلا تُخبري بذلك أحدا.
فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا، كما تقدّم، متصافيتَين متفقتين.... فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته.
وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه : يا أيّها النبيّ.... قال تعالى ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
تحلَّة أيمانكم : تحليلها بالكفارة.
ثم بيّن له أنّه يمكن أن يكفّر عن يمينه بقوله :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ بالكفّارة عنها. وقد رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام كفّر عن يمينه فأعتق رقبة. ﴿ والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم ﴾
واللهُ متولِّي أمورِكم وناصرُكم، وهو العليم ما يُصلحكم فيشرّعه لكم، والحكيمُ في تدبيرِ أموركم.
نبأت به : أخبرت عائشة به.
عرف بعضه : أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته.
وأعرض عن بعض : لم يخبرها به.
﴿ وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ﴾، وقد تمّ شرحُ هذا فيما سبق
أما « عرّف بعضَه وأعرضَ عن بعض » فهو أن الله أطلَع رسولَه على ما دار بين حفصة وعائشة، وأخبر الرسول حفصةَ ببعض الحديث الذي أفشَتْه، وأعرضَ عن بعض الحديث وهو قولُه : وقد حلفتُ.
﴿ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير ﴾.
فلما أخبر حفصةَ أنه يعرف ما دار بينَهما استغربتْ وسألتْه : من الذي أخبرك بهذا ؟ قال : أخبرني به اللهُ العليم بكل شيء، الخبيرُ الذي لا تخفَى عليه خافية.
قراءات :
قرأ الكسائي وحده : عرف بعضه بفتح العين والراء بلا تشديد، والباقون عرَّف بتشديد الراء المفتوحة.
صغت قلوبكما : مالت إلى ما يجب للرسول الكريم من تعظيم وإجلال.
وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول.
ظهير : معين.
ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال :
﴿ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾
إن ترجعا إلى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما إلى الحقّ والخير.
ثم بيّن الله أنه حافظٌ لرسوله الأمين وحارسُه فلا يَضُرُّه أذى مخلوقٍ فقال :
﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾.
إن تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر، فلن يضرّه ذلك شيئا، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة : تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد. وقرأ الباقون : تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة.
قرأ حفص ونافع وأبو عمرو وابن عامر : جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة. وقرأ أبو بكر : جبرئيل بفتح الجيم والراء وهمزة قبل الياء.
مؤمنات : مصدقات بتوحيد الله.
قانتات : مواظبات على الطاعة.
تائبات : مقلعات عن الذنوب.
سائحات : صائمات وذاهبات في طاعة الله كل مذهب.
ثم حذّرها ألاّ تعودا لمثلِ ذلك بقوله :
﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾.
احذرْنَ أيتها الزوجات، من إيذاء رسول الله و التألُّب عليه، والعملِ على
ما يسوؤه فإنه إذا أُحرِج يمكن أن يطلقكن ويبدله الله خيراً منكن في الدينِ والصلاح والتقوى. ولا شيءَ أشدُّ على المرأة من الطلاق. وفي هذا تنويهٌ كبير بشأن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
الوقود : حطب النار وكل ما توقد به.
الحجارة : الأصنام التي تعبد من دون الله.
غلاظ : شديدون لا يرحمون.
بعد أن عالجت الآياتُ السابقة ما يجري في بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعاتَبَ الله تعالى الرسولَ الكريم على تحريمه بعضَ ما أحلّ الله له، كما شدّد على نسائه أن يلتزمن الطاعةَ والتوبة والإخلاصَ للرسول الكريم، بيّن هنا للمؤمنين عامةً أن يحفظوا أنفسَهم وأهلِيهم من النار بالتزامِ طاعةِ الله ورسوله، تلك النار التي سيكون وقودُها يومَ القيامة العصاةَ من الناس والحجارةَ التي كانت تُعبَد من دونِ الله كما قال تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ]، ويقومُ على أمر هذه النار ملائكةٌ شديدون، يفعلون
ما يُؤمرون.
لا يعتذِروا اليوم فقد فاتَ الأوان، وإنما تَلقَون جزاءَ ما عملتم في الدنيا.
ثم أمر المؤمنين أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه بإخلاص، عسى الله أن يمحُوَ عنهم سيئاتِهم ويدخلَهم جناتٍ تجري من تحتِ قصورها وأشجارِها الأنهار. وفي ذلك اليوم يرفعُ الله شأنَ النبيّ والذين آمنوا معه، نورُهم يسعى بين أيدِيهم حينَ يمشون، وبأيمانِهم حين الحساب... حيث يتناولون كُتبَهم بأيمانهم وفيه نورٌ وخير لهم.
ويسألون ربّهم بقولهم :
﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. اللهم أجبْ دعاءنا ولا تخيّب رجاءنا.
مأواهم جهنم : مكانهم يوم القيامة جهنم.
ثم بعد الأمرِ النَّصوحِ والرجوع إليه، أمر رسولَه بالجهاد في سبيل الدعوة فقال :
﴿ يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير ﴾.
يا أيّها النبيّ : جاهِدِ الكفارَ الذين أعلنوا كفرهم والمنافقين الّذين أبطنوه، بكلّ وسيلةٍ من قوةٍ وحجّة، و اشتدَّ على الفريقين في جهادك، إن منازلَهم يوم القيامة في جهنّم وبئس المسكنُ والمأوى.
تحت عبدَين : يعني زوجتين لنبيَّين كريمين هما : نوح ولوط.
فخانتاهما : بالكفر والنفاق.
يبينُ الله تعالى في هذه الآية الكريمة أمثلةً واضحة من أحوال النساء تظهر فيها حقائقُ مهمّة، فمن النساء صنفٌ لا يردعُهنّ عن كفرِهنّ حتى وجودُهن في بيوت الأنبياء، كامرأة نوحٍ التي كانت تقول عن زوجها إنه مجنون، وخانتْه بالتآمر عليه وعدم تصديقه برسالته. وكذلك امرأة لوط، كانت كافرةً وخانت زوجها بالتآمر عليه مع قومه حين دلّت قومه على ضيوفه لمآرب خبيثة. فوجودهما في بيت النبوّة مع كفرهما، لم يغيّر منهما شيئاً وذهبتا إلى النار.
فنفخنا فيه : فخلقنا فيه الحياة.
بكلمات ربّها : بشرائعه وكتبه.
وكذلك ضربَ الله مثلا حالَ مريم ابنةِ عمرانَ التي عفّتْ وآمنت بكلماتِ ربّها، فرزقَها الله عيسى بن مريم صلواتُ الله عليه وسلامه.
وفي هذه الأمثال عظةٌ للمؤمنين، ولزوجاتِ الرسول الكريم، وتخويفٌ لكل من تحدّثه نفسُه بأنه سينجو لأنه ابنُ فلان، أو أنه قريبٌ لفلان من الصالحين.
ولا ينجّي الإنسانَ إلا عملُه وتقاه وإيمانه الخالص، واللهُ وليّ الصالحين.