( سورة للتحريم مدنية، وآياتها ١٢ آية، نزلت بعد سورة الحجرات )
شاء الله أن يكون الرسول بشرا، فيه قوة الإنسان، وتجارب الإنسان، ومحولات الإنسان، وضعف الإنسان، لتكون سيرة هذا الرسول الإنسان نموذجا للمحاولة الناجحة، يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الميسرة العملية الواقعية، التي لا تعيش في هالات ولا في خيالات.
وهذه السورة فيها عتاب للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم على تحريمه ما أحل الله له، ولو كتم النبي من أمر القرآن شيئا لكتم هذا العتاب.
إن هذا القرآن كتاب الحياة بكل ما فيها، وقد شاء الله أن يواكب الوحي حياة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، فيبارك الخطوات الناجحة، ويُقوّم ما يحتاج إلى تقويم، وبذلك تكون القدوة في متناول الناس.
قال تعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾. ( الأحزاب : ٢١ ).
لقد عاتب القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبوله الفداء من أسرى بدر، وفي إذنه للمخلفين بالقعود عن الجهاد، وفي إعراضه عن الأعمى الذي ألحّ في السؤال، وفي تحريمه ما أحل الله له.
كما عرض القرآن جوانب القوة والجهاد والتربية والسلوك للنبي الأمين، وجعل حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها، تقرأ فيه صورة العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية، ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ولا سترا مطويا، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي، حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر، بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس.
إن حياة الرسول ملك للدعوة، وهي الصورة المنظورة الممكنة التطبيق من العقيدة، وقد جاء ليعرضها للناس في شخصه وفي حياته، كما يعرضها بقوله وفعله، ولهذا خُلق، ولهذا جاء، لتكون السنة هي ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وليكون هو النموذج العملي الملموس في دنيا الناس، يتعرض للأحزان، ويموت ابنه، ويصاب في غزوة أحد، وتنتشر الشائعات عن زوجته عائشة، ويعيب المنافقون عليه بعض الأمور، لتكون الصورة كاملة للإنسان بكل ما فيه، وليكون الوحي بعد ذلك فيصلا، ودليلا هاديا فيما ينبغي سلوكه في هذه الحياة.
قصة التحريم
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسع نساء لحكم إلهية، ولتكون هذه الزوجات مبلغات لشئون الوحي فيما يخص النساء، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صدر حياته مع خديجة وكان عمره خمسا وعشرين سنة وعمرها أربعين، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يتزوج عليها في حياتها، وكان وفيا لذكراها، وقد ماتت خديجة وعمره خمسون عاما.
ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم سلمة، وقد مات زوجها شهيدا فضم النبي صلى الله عليه وسلم إليه عيالها من أبي سلمة وتزوجها، وزينب بنت جحش زوج مولاه ومتبناه زيد، ليكون ذلك تشريعا للناس في إباحة زواج الإنسان من زوجة ابنه المتبنى.
قال تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾. ( الأحزاب : ٣٧ ).
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أعتق الصحابة أقاربها وأسلم أهلها، وكانت أيمن امرأة على قومها. ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة إلى الحبشة، ثم ارتد زوجها وتنصر فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت من الحبشة إلى المدينة، ثم تزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حيى بن أخطب زعيم بني النضير، وكانت آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث بن حزن، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس.
وكانت لكل زوجة من أزواجه صلى الله عليه وسلم قصة وسبب في زواجه منها، ولم يكن معظمهن شواب، ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال، وكل نسائه قد سبق لهن الزواج ما عدا عائشة، فقد كانت البكر الوحيدة بين نسائه.
وقد أنجب النبي صلى الله عليه وسلم جميع أبنائه من خديجة، فقد رزق منها ولدين وأربع بنات، وقد مات الولدان في صدر حياته صلى الله عليه وسلم وبقيت البنات على ما بعد الرسالة، ثم ماتت ثلاث من بناته وهن : رقية، وزينب، وأم كلثوم، وعاشت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر بعد وفاة أبيها، ولم ينجب صلى الله عليه وسلم من زوجة أخرى غير خديجة.
وكان المقوقس ملك مصر قد أهدى إليه جاريتين هما مارية وسيرين، فتسرى بمارية، وأهدى سيرين إلى حسان بن ثابت، ولما كانت مارية جارية لم يكن لها بيت بجوار المسجد، فكان بيتها في عوالي المدينة، في المحل الذي يقال له الآن :( مشربة أم إبراهيم )، وقد رُزق النبي منها بمولود ذكر سماه إبراهيم تيمنا بإبراهيم الخليل.
وقد ماتت خديجة والنبي صلى الله عليه وسلم في الخمسين، ولم يرزق بمولود من نسائه جميعا طوال عشر سنوات، ثم رزق إبراهيم وقد تخطى الستين، ففاضت نفسه بالمسرة، وامتلأ قلبه الإنساني الكبير أُنسا وغبطة، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينيه إلى مكانه سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه، وزادت عنده حظوة وقربا.
كان طبيعيا أن يدس ذلك في نفوس سائر زوجاته غيرة، تزايدت أضعافا بأنها أم إبراهيم، وبأنهن جميعا لا ولد لهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتردد كل يوم على إبراهيم ويحمله بين يديه، ويفرح لابتسامته البريئة، ويُسر بنموه وجماله.
وكانت المرأة في الجاهلية تُسام الخسف صغيرة، وتُمسك على الذل كبيرة، فلما جاء الإسلام حرّم وأد البنات، وسما بالمرأة إلى منزلة سامية ووصى النبي بالنساء خيرا، وعامل نساءه معاملة حسنة، وجعل لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب.
قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين الناس، وأكرم الناس، ضحاكا بساما.
تحريم مارية :
حدث أن جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حفصة في زيارة لبيت أبيها، فدخلت مارية في حجرة حفصة، وأقامت بها وقتا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعادت حفصة فوجدت مارية في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشد ما تكون غيرة، وجعلت كلما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدة، فلما خرجت مارية ودخلت حفصة قالت : يا نبي الله، لقد جئتَ إليّ شيئا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله، في يومي وفي دوري وعلى فراشي. قال صلى الله عليه وسلم : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها "، قالت : بلى، فحرمها، وقال : " لا تذكري ذلك لأحد "، فذكرته لعائشة، فأظهره الله عز وجل عليه، فأنزل :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ... ﴾ فبلغنا نبي الله صلى الله عليه وسلم كفّر عن يمينه وأصاب جاريته١
تحريم العسل :
روى البخاري، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير٢، إني أجد منك ريح مغافير، قال : " لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا " ٣
فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له، وقد نزل بشأنه :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ... ﴾
ويبدو أن التي حدثها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وأمرها بستره قالته لزميلتها المتآمرة معها، ثم أطلع الله رسوله على حديثهما.
قال ابن جرير الطبري :
والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أي ذلك كان فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه٤
النبي يهجر نساءه :
كان من جراء هذا الحادث، وهو تحريم مارية أو تحريم العسل، وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، أن غضب النبي فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا، وهمّ بتطليقهن، ثم نزلت هذه السورة وقد هدأ غضبه صلى الله عليه وسلم فعاد إلى نسائه.
روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، أن ابن عباس سأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله تعالى لهما :﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا... ﴾ ( التحريم : ٤ ). فقال عمر : هما عائشة وحفصة، ثم قال عمر : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال عمر، فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي : لو صنعت كذا وكذا، فقلت لها : ومالك أنت ولما هاهنا، وما تكلفك في أمر أريده ؟ فقالت لي : عجبا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، وإن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال : فانطلقت فدخلت على حفصة، فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة : والله إنا لنراجعه، فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، منقطعا عنهن في مشربة منعزلة، واستأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حتى أذن له. قال عمر : فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت : أطلّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إليّ وقال : " لا "، فقلت : الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله، قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم أخرى، فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ قال : " نعم "، فجلست، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباته
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١ ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( ٢ ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( ٣ ) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( ٤ ) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( ٥ ) ﴾ملاحظة :
يلاحظ في وصف النساء اللائي سيعوّض الرسول صلى الله عليه وسلم بهن إذا طلّق نساءه، أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد، ثم بالإيمان وهو التصديق، ثم بالقنوت وهو الطواعية، ثم بالتوبة وهي لإقلاع عن الذنب، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم أو الهجرة، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة، لذا عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى، وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكرا كعائشة، وفيهن الثياب وهن بقية نسائه صلى الله عليه وسلم.
تمهيد :
كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت عائشة وحفصة، إذا دخل صلى الله عليه وسلم على إحداهما أن تقول له : أشم منك رائحة المغافير، فهل أكلت مغافير ؟ ( وهو نبت صمغ حلو، له رائحة كريهة من شجر العُرْفُط في الحجاز ).
فقال صلى الله عليه وسلم :" لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعوذ إليه، وقد حلفْتُ ".
وقال لحفصة :" لا تخبري بذلك أحدا "، فأخبرت به عائشة رضي الله عنهما. وقد روى ذلك البخاري ومسلم.
وقيل : حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه، وهذا القول، وإن قرب من حيث المعنى، إلا أنه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل، كما ورد ذلك في أحكام القرآن.
وقد ذكر البخاري، عن عمر أنه وعظ نساء النبي صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة، ينهاهن عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ويهددهن أن يبدله الله خيرا منهن، فقالت له زينب، يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسك عمر، فأنزل الله :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ... ﴾ ( التحريم : ٥ ).
المفردات :
تحرّم : تمتنع
ما أحل الله : العسل، أو مارية القبطية.
تبتغي : تطلب.
التفسير :
١- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية :
الرواية الأولى :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة بنت عمر : لقد حرّمت مارية على نفسي. استرضاء لها، لأن حفصة كانت في زيارة أبيها، وجاءت مارية القبطية من عوالي المدينة، فدخلت في بيت حفصة، فلما جاءت حفصة أخبروها بأن مارية في حجرتها، فتغيّظت من ذلك، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا أعرست بها على سريري، وما كنت تفعلها لولا هواني عليك، فقال صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إني حرّمت مارية على نفسي فاكتمي علي ". لكنّ حفصة أخبرت عائشة بذلك، وكانتا متصادقتين، فعاتبهما الله تعالى.
الرواية الثانية :
أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زينب فشرب عسلا، فاتفقت عائشة وحفصة إذا دخل على واحدة منهما أن تقول له : نشمّ منك رائحة مغافير – وهو طعام حلو كريه الريح – فلما قالتا له ذلك، قال صلى الله عليه وسلم : " شربت عسلا عند زينب، ولن أعود إليه "، وحلف فنزلت :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ... ﴾
وذكر العلماء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما وقع منه الأمران : تحريم مارية، وبعد فترة قريبة حرّم العسل على نفسه، فنزلت الآية عقب الأمرين جميعا.
والإمام الطبري يذكر أن المستفاد من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرّم على نفسه شيئا ما قد أحله الله له، فحرّمه على نفسه تطييبا لخاطر نسائه، لكن الله تعالى لامه على ذلك، وأحلّ له العدول عن اليمين، والاستمتاع بهذا الحلال.
وقد يكون ما حرّمه على نفسه هو مارية القبطية، وقد يكون العسل، وقد يكون غير ذلك. ١. ه.
فعاتبه الله تعالى على ما بدر منه، رفقا به، وتنويها بقدره، وإجلالا لمنصبه صلى الله عليه وسلم، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه، مع أنه أنف لطف الله به.
ومعنى الآية :
يا أيها النبي الموحى إليك، الذي فضله الله، وختم به الرسل، لِمَ تحرِّم على نفسك ما أحله الله لك، مثل العسل، أو مارية القبطية، تبتغي بذلك مرضاة عائشة وحفصة، والله غفور رحيم، يغفر لك ويرحمك برحمته الواسعة.
ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حرّم العسل أو مارية، بمعنى التحريم الشرعي، وإنما كان قد قرر حرمان نفسه من العسل أو من مارية، فجاء هذا العتاب بأنّ ما جعله الله حلالا، لا يجوز حرمان النفس من عمدا وقصدا، إرضاء لأحد.
يلاحظ في وصف النساء اللائي سيعوّض الرسول صلى الله عليه وسلم بهن إذا طلّق نساءه، أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد، ثم بالإيمان وهو التصديق، ثم بالقنوت وهو الطواعية، ثم بالتوبة وهي لإقلاع عن الذنب، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم أو الهجرة، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة، لذا عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى، وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكرا كعائشة، وفيهن الثياب وهن بقية نسائه صلى الله عليه وسلم.
تمهيد :
كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت عائشة وحفصة، إذا دخل صلى الله عليه وسلم على إحداهما أن تقول له : أشم منك رائحة المغافير، فهل أكلت مغافير ؟ ( وهو نبت صمغ حلو، له رائحة كريهة من شجر العُرْفُط في الحجاز ).
فقال صلى الله عليه وسلم :" لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعوذ إليه، وقد حلفْتُ ".
وقال لحفصة :" لا تخبري بذلك أحدا "، فأخبرت به عائشة رضي الله عنهما. وقد روى ذلك البخاري ومسلم.
وقيل : حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه، وهذا القول، وإن قرب من حيث المعنى، إلا أنه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل، كما ورد ذلك في أحكام القرآن.
وقد ذكر البخاري، عن عمر أنه وعظ نساء النبي صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة، ينهاهن عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ويهددهن أن يبدله الله خيرا منهن، فقالت له زينب، يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسك عمر، فأنزل الله :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ... ﴾ ( التحريم : ٥ ).
المفردات :
فرض : شرع وبين.
تحلّة أيمانكم : تحليلها بالكفارة، أو بالاستثناء متصلا حتى لا يحنث.
مولاكم : وليكم وناصركم.
التفسير :
٢- ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.
قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحلّلون به من أيمانكم وذلك بالكفّارة.
وفي الحديث الشريف : " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه " ٧
وقال تعالى :﴿ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾. ( المائدة : ٨٩ ).
﴿ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ... ﴾ فهو سبحانه وليّكم وناصركم.
﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.
يشرع لكم عن علم وعن حكمة، ويأمركم بما يناسب طاقتكم، وما يصلح لكم، فلا تحرّموا إلاّ ما حرّم، ولا تحلّوا غير ما أحلّ.
يلاحظ في وصف النساء اللائي سيعوّض الرسول صلى الله عليه وسلم بهن إذا طلّق نساءه، أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد، ثم بالإيمان وهو التصديق، ثم بالقنوت وهو الطواعية، ثم بالتوبة وهي لإقلاع عن الذنب، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم أو الهجرة، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة، لذا عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى، وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكرا كعائشة، وفيهن الثياب وهن بقية نسائه صلى الله عليه وسلم.
تمهيد :
كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت عائشة وحفصة، إذا دخل صلى الله عليه وسلم على إحداهما أن تقول له : أشم منك رائحة المغافير، فهل أكلت مغافير ؟ ( وهو نبت صمغ حلو، له رائحة كريهة من شجر العُرْفُط في الحجاز ).
فقال صلى الله عليه وسلم :" لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعوذ إليه، وقد حلفْتُ ".
وقال لحفصة :" لا تخبري بذلك أحدا "، فأخبرت به عائشة رضي الله عنهما. وقد روى ذلك البخاري ومسلم.
وقيل : حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه، وهذا القول، وإن قرب من حيث المعنى، إلا أنه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل، كما ورد ذلك في أحكام القرآن.
وقد ذكر البخاري، عن عمر أنه وعظ نساء النبي صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة، ينهاهن عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ويهددهن أن يبدله الله خيرا منهن، فقالت له زينب، يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسك عمر، فأنزل الله :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ... ﴾ ( التحريم : ٥ ).
المفردات :
بعض أزواجه : هي حفصة على المشهور.
نبّأت به : أخبرت به عائشة.
أظهره : أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة.
عرّف : أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته.
وأعرض عن بعض : لم يخبرها به.
التفسير :
٣- ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾.
كانت حفصة رضي الله عنها في زيارة أبيها، ولما جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة، خلا بها النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة حفصة، وانتظرت حفصة حتى خرجت مارية، وتألمت من دخول مارية غرفتها، فحرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية على نفسه، وأخبر حفصة بذلك، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندها، أخبرت عائشة بذلك، ولم تستطع من شدة سرورها بتحريم مارية أن تكتم الخبر فأخبرت به عائشة، وطلبت منها أن تكتم الأمر، أو كان الأمر هو تحريم العسل.
ومعنى الآية :
وإذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : إني حرّمت العسل على نفسي، أو حرمت مارية على نفسي، واكتمي هذا الخبر، لكن حفصة أخبرت به عائشة، وأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما حَدَثَ.
فلما عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حفصة، وأخبرها بما فعلت، قالت له : من أين علمت بذلك ؟ فأفادها أن الذي أخبره بذلك هو الْعَلِيمُ. بسائر أحوال الناس، الْخَبِيرُ. بكل شيء في الوجود.
وفي ذلك دعوة للناس جميعا إلى مراقبة الله تعالى، ودعوة لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ترك التآمر والمكايدات المحبوكة وراء الأستار، والتفرُّع بالقلوب إلى مراقبة الله تعالى، وذكره وشكره والالتجاء إليه.
يلاحظ في وصف النساء اللائي سيعوّض الرسول صلى الله عليه وسلم بهن إذا طلّق نساءه، أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد، ثم بالإيمان وهو التصديق، ثم بالقنوت وهو الطواعية، ثم بالتوبة وهي لإقلاع عن الذنب، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم أو الهجرة، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة، لذا عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى، وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكرا كعائشة، وفيهن الثياب وهن بقية نسائه صلى الله عليه وسلم.
تمهيد :
كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت عائشة وحفصة، إذا دخل صلى الله عليه وسلم على إحداهما أن تقول له : أشم منك رائحة المغافير، فهل أكلت مغافير ؟ ( وهو نبت صمغ حلو، له رائحة كريهة من شجر العُرْفُط في الحجاز ).
فقال صلى الله عليه وسلم :" لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعوذ إليه، وقد حلفْتُ ".
وقال لحفصة :" لا تخبري بذلك أحدا "، فأخبرت به عائشة رضي الله عنهما. وقد روى ذلك البخاري ومسلم.
وقيل : حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه، وهذا القول، وإن قرب من حيث المعنى، إلا أنه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل، كما ورد ذلك في أحكام القرآن.
وقد ذكر البخاري، عن عمر أنه وعظ نساء النبي صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة، ينهاهن عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ويهددهن أن يبدله الله خيرا منهن، فقالت له زينب، يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسك عمر، فأنزل الله :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ... ﴾ ( التحريم : ٥ ).
المفردات :
إن تتوبا : حفصة وعائشة.
صغت قلوبكما : مالت قلوبكما عن الحق، وعدلت عما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال.
وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال.
مولاه : وليه وناصره.
ظهير : ظهراء معانون، وأنصار مساعدون.
التفسير :
٤- ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾
تأتي هذه الآية لتوجيه عائشة وحفصة رضي الله عنهما، إلى التوبة النصوح والتفرغ إلى ذكر الله وطاعته.
وقد جرت العادة بأنّ الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيّع زمنا من تفكيرهم فيها.
وتبين الآية أن قلبي عائشة وحفصة قد انشغلا بتدبير مؤامرة، يترتب عليها أن يزهد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه، والنبي الكريم يربي أمة، ويوجّه دعوة، وينزل عليه الوحي، ويبلّغ الوحي للناس، ويقود الجيوش، ويرسل السرايا، وينظم شئون الأمة الإسلامية صباح مساء، فينبغي أن يتوفّر له القدر الكافي من الهدوء النفسي والمعنوي.
لذلك حمل القرآن حملة قوية على عائشة وحفصة، وذكّرهما أن قلوبهما قد مالت عن الانشغال بطاعة الله إلى عمل مؤامرة لتزهيد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه.
ومعنى الآية :
إن تتوبا إلى الله تعالى مما بدر منكما، فذلك حق واجب، وخير كبير، لأن قلوبكما قد انصرفت عن الإخلاص والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، إلى تدبير مؤامرة منكما ليكره بعض نسائه
وإن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوءه، من الوقيعة بين بنيه وبين بعض نسائه، فإن تعاونكما وتظاهركما عليه فاشل ضائع، لأن هناك قوة عليا، وجيوشا متعاونة، تؤازر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشد أزره.
فإن الله. مولاه وناصره، وكفى به وليا ونصيرا.
وجبريل. كذلك وليه وناصره.
وصالح المؤمنين. وأبو بكر وعمر، والصالحون من المؤمنين نصراء له.
والملائكة بعد ذلك ظهيرا. والملائكة هم أعظم المخلوقات، بمثابة جيش جرار، يملأ القفار، نُصْرة للنبي المختار، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوئ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، والآية مسوقة لتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان منزلته العالية، وأن الدنيا كلها تسانده، وأيضا للتأثير العاطفي على نسائه، حتى يَكففن عن التآمر عليه، وحتى يتفرغ كليا لأمر دعوة الإسلام.
وقد كان يكفي أن يقال : فإن الله هو مولاه. ومن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يبين أن الكون كله معه، فخالق الكون معه، والكون كله معه.
وقد ثبت في الصحيح ما يفيد أن هذا الأمر شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتزل نساءه شهرا، وأنّ ذلك شق على المسلمين، وحزنوا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه.
ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : يا رسول الله، ما يشقّ عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل، وأبو بكر وعمر معك، فنزلت هذه الآية موافقة لقول عمر رضي الله عنه.
والخلاصة :
إذا تظاهرتما عليه فلن يضرّه، لأن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير.
يلاحظ في وصف النساء اللائي سيعوّض الرسول صلى الله عليه وسلم بهن إذا طلّق نساءه، أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد، ثم بالإيمان وهو التصديق، ثم بالقنوت وهو الطواعية، ثم بالتوبة وهي لإقلاع عن الذنب، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم أو الهجرة، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة، لذا عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى، وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكرا كعائشة، وفيهن الثياب وهن بقية نسائه صلى الله عليه وسلم.
تمهيد :
كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت عائشة وحفصة، إذا دخل صلى الله عليه وسلم على إحداهما أن تقول له : أشم منك رائحة المغافير، فهل أكلت مغافير ؟ ( وهو نبت صمغ حلو، له رائحة كريهة من شجر العُرْفُط في الحجاز ).
فقال صلى الله عليه وسلم :" لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعوذ إليه، وقد حلفْتُ ".
وقال لحفصة :" لا تخبري بذلك أحدا "، فأخبرت به عائشة رضي الله عنهما. وقد روى ذلك البخاري ومسلم.
وقيل : حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه، وهذا القول، وإن قرب من حيث المعنى، إلا أنه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل، كما ورد ذلك في أحكام القرآن.
وقد ذكر البخاري، عن عمر أنه وعظ نساء النبي صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة، ينهاهن عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ويهددهن أن يبدله الله خيرا منهن، فقالت له زينب، يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسك عمر، فأنزل الله :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ... ﴾ ( التحريم : ٥ ).
المفردات :
مسلمات : خاضعات له بالطاعة.
مؤمنات : مصدقات بتوحيد الله مخلصات.
قانتات : مواظبات على الطاعة.
تائبات : مقلعات عن الذنوب.
عابدات : متعبدات متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
سائحات : صائمات، سمي الصائم سائحا : لأنه يسيح في النهار بلا زاد، أو مهاجرات.
ثيبات وأبكارا : مشتملات على الصنفين، فالثيِّب من تزوجت سابقا، والبكر من لم يسبق لها الزواج.
التفسير :
٥- ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾.
أي : إن تحقق طلاق الرسول صلى الله عليه وسلم لكنّ، فإن الله سيبدله أزواجا خير منكنّ، يتمتعن بأخلاق فاضلة، ، هي قدوة لكن وللجميع.
مُسْلِمَاتٍ. خاضعات مستسلمات لأمر الله ورسوله.
مُؤْمِنَاتٍ. مصدّقات مخلصات.
قَانِتَاتٍ. متعمقات في العبادة والقنوت، والتبتل والإخلاص، مواظبات على الطاعة.
تَائِبَاتٍ. نادمات على وقوع المعصية، متجهات إلى الطاعة.
عَابِدَاتٍ. متذلّلات في طاعة الله ومحبته والإخلاص له.
سَائِحَاتٍ. متأملات بعيونهن وقلوبهن في ملكوت السماوات والأرض، صائمات عن كل سوء، مهاجرات عن السوء مجتنبات له.
ثَيِّبَاتٍ. جمع ثيّب وهي التي زالت عذرتها، وسميت بذلك لأنها ترجع إلى الزوج بعد زوال عذرتها.
وَأَبْكَارًا. جمع بكر، وهي التي تفتض بكارتها.
وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها ثيبا، وفيهن من تزوجها بكرا، وجاء أنه لم يتزوج بكرا إلا السيدة عائشة رضي الله عنها.
وقد رضيتْ نفس النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات، وخطاب ربه ولأهل بيته، واطمأنّ هذا البيت الكريم بعد هذه الزلزلة، وعاد إليه هدوءه بتوجيه الله سبحانه وتعالى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٧ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٨ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٩ ) ﴾
تمهيد :
في الآيات السابقة توجيه وتحذير لأمهات المؤمنين، بأن النبي إذا غضب عليهن وطلقهن، فسيحرمن من هذا الفضل، وسيعوّضه الله نساء أخريات، متّصفات بصفات سامية، هي المثل الأعلى.
وهنا يوجِّه النصح للمؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، وأخبر عن الكفار أنهم يلقون جزاءهم في النار، وأمر المسلمين بالتوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزم على الاستقامة فيما هو آت، فإن ذلك وسيلة إلى مغفرة الذنوب، ودخول الجنات يوم القيامة، حيث لا يهين الله النبي ولا يخذله، بل يكرمه ويكرم المؤمنين، حيث نرى نور أعمالهم يسعى أمامهم وعن يمينهم.
ثم توّج ذلك كله بالأمر بجهاد الكافرين المعتدين، والمنافقين المتستِّرين، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة والبرهان.
المفردات :
قوا أنفسكم : اجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي.
وأهليكم : بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب.
الوقود :( بفتح الواو ) ما توقد به النار.
الحجارة : الأصنام التي تعبد، قال تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنم... ( الأنبياء : ٩٨ ).
ملائكة : هم خزنة جهنم التسعة عشر.
غلاظ : غلاظ القلوب، لا يرحمون إذا استُرحموا.
شداد : أقوياء الأبدان، شداد الأفعال.
التفسير :
٦-﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾.
بعد أن حذّرت الآيات السابقة زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من إيذائه، توجهت هذه الآيات إلى نصح المؤمنين بالتوبة والاستقامة والعمل الصالح، وأن يجعلوا بين أنفسهم وبين النار وقاية وحماية، وذلك بعمل المأمورات وترك المنهيات، واجتناب الشبهات.
أما وقايتهم لأهليهم من النار، فذلك بحملهم على الطاعات، وأمرهم بالصلوات، وإلزامهم بآداب الإسلام، ورعايتهم وتأديبهم.
قال تعالى :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾. ( طه : ١٣٢ ).
قال قتادة : تأمر أهلك بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية قدعتهم عنها، وزجرتهم عنها. ١ه.
وروى أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهما في المضاجع ". ٨
وروى الترمذي، والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن " ٩
صفة النار أعادنا الله منها
﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ... ﴾
إن أمر هذه النار يدعو إلى العجب، لأن نار الدنيا تتقد بالحطب، أما نار الآخرة فإنها تتقد بأجسام الكفار والمشركين، وبالأصنام التي عُبدت من دون الله، وقد ورد في وصف جهنم وأهوالها وعذابها آيات وأحاديث كثيرة، لتحذير الناس منها، وكثيرا ما قارن القرآن بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل لنار
قال تعالى :﴿ كمن هو خالد في النار وسُقوا ماء حميما فقطّع أمعاءهم ﴾. ( محمد : ١٥ ).
﴿ علَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ.. ﴾.
يحيط بالنار زبانية.
قال تعالى :﴿ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ( ٢٩ ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا... ﴾( المدثر : ٢٩-٣١ ).
﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾.
فمن خصائصهم طاعة الله فيما يأمرهم، ومن خصائصهم كذلك القدرة على النهوض بما يأمرهم، وهم بغلظتهم هذه وشدتهم مُوكّلون بهذه النار الشديدة الغليظة.
وعلى المؤمن أن يقي نفسه، وأن يقي أهله هذه النار، قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار.
في الآيات السابقة توجيه وتحذير لأمهات المؤمنين، بأن النبي إذا غضب عليهن وطلقهن، فسيحرمن من هذا الفضل، وسيعوّضه الله نساء أخريات، متّصفات بصفات سامية، هي المثل الأعلى.
وهنا يوجِّه النصح للمؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، وأخبر عن الكفار أنهم يلقون جزاءهم في النار، وأمر المسلمين بالتوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزم على الاستقامة فيما هو آت، فإن ذلك وسيلة إلى مغفرة الذنوب، ودخول الجنات يوم القيامة، حيث لا يهين الله النبي ولا يخذله، بل يكرمه ويكرم المؤمنين، حيث نرى نور أعمالهم يسعى أمامهم وعن يمينهم.
ثم توّج ذلك كله بالأمر بجهاد الكافرين المعتدين، والمنافقين المتستِّرين، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة والبرهان.
٧- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
لا تعتذروا اليوم، لأن اليوم عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل.
والجزاء هنا على قدر العمل، ومن أجل كفركم وعتوّكم وظلمكم تدخلون النار جزاء عملكم :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾. ( الكهف : ٤٩ ).
وفي ذلك المعنى يقول الله تعالى :﴿ اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن لله سريع الحساب ﴾. ( غافر : ١٧ ).
في الآيات السابقة توجيه وتحذير لأمهات المؤمنين، بأن النبي إذا غضب عليهن وطلقهن، فسيحرمن من هذا الفضل، وسيعوّضه الله نساء أخريات، متّصفات بصفات سامية، هي المثل الأعلى.
وهنا يوجِّه النصح للمؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، وأخبر عن الكفار أنهم يلقون جزاءهم في النار، وأمر المسلمين بالتوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزم على الاستقامة فيما هو آت، فإن ذلك وسيلة إلى مغفرة الذنوب، ودخول الجنات يوم القيامة، حيث لا يهين الله النبي ولا يخذله، بل يكرمه ويكرم المؤمنين، حيث نرى نور أعمالهم يسعى أمامهم وعن يمينهم.
ثم توّج ذلك كله بالأمر بجهاد الكافرين المعتدين، والمنافقين المتستِّرين، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة والبرهان.
المفردات :
توبة نصوحا : بالغة الغاية في النصح، وقوامها ثلاثة أمور : الندم على ما فات، والإقلاع في الحال، والعزم على عدم العودة إلى المعاصي أبدا، كما لا يعود اللبن إلى الضِّرع.
يوم لا يخزي الله النبي : لا يصيبهم بالخزي أو الانكسار أو الفضيحة.
بين أيديهم : أمامهم، يسعى نور الإيمان بهم على الصراط.
التفسير :
٨- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
دعوة من لله تعلى للذين آمنوا أن يتوبوا إليه سبحانه وتعالى توبة بالغة الغاية في النصح، كأنها تنصح صاحبها وتدعوه إلى ثلاثة أشياء :
١-الندم الشديد على المعصية.
٢- الإقلاع في الحال عن كل معصية.
٣-العزم الأكيد على الطاعة والبعد عن كل معصية في المستقبل، والتصميم على ألاّ يعود إلى المعاصي أبدا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
من فعل ذلك وتاب إلى الله توبة صادقة، كان جديرا بوعد الله له بأن يغفر له ذنوبه، وأن يدخله جنات وبساتين تجري من تحتها الأنهار، مع الكرامة والرعاية، والبعد عن المهانة والزراية، والعذاب الأليم الذي يلقاه المشركون، ومن تكريم المؤمنين أن يضمهم الله إلى النبي الكريم في قوله سبحانه :﴿ يوم لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ... ﴾ وفيه تعريض بخزي الكافرين ومهانتهم في النار.
﴿ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ... ﴾
وهذه جملة مستأنفة لبيان حال المؤمنين عند مرورهم على الصراط، حيث يجدون نور إيمانهم يسعى أمامهم وعن يمينهم.
كما جاء في سورة الحديد :﴿ ويجعل لكم نورا تمشون به... ﴾ ( الحديد : ٢٨ ).
﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
يقول المؤمنون راغبين راجين بعد أن يلهمهم الله الدعاء :
ربنا أتتم لنا نورنا حتى نسير فيه إلى الجنة، واغفر لنا وسامحنا، وامح عنا ذنوبنا، إنّ كل شيء بيدك، وأنت على كل شيء قدير، من المغفرة والتوبة والرضوان.
قال ابن عباس :
هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، في ذلك اليوم يُشاهد المؤمنون غرّا محجَّلين من آثار الوضوء، تسطع جباههم وأيديهم بالنور من آثار الطهور، فيعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
في الآيات السابقة توجيه وتحذير لأمهات المؤمنين، بأن النبي إذا غضب عليهن وطلقهن، فسيحرمن من هذا الفضل، وسيعوّضه الله نساء أخريات، متّصفات بصفات سامية، هي المثل الأعلى.
وهنا يوجِّه النصح للمؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، وأخبر عن الكفار أنهم يلقون جزاءهم في النار، وأمر المسلمين بالتوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزم على الاستقامة فيما هو آت، فإن ذلك وسيلة إلى مغفرة الذنوب، ودخول الجنات يوم القيامة، حيث لا يهين الله النبي ولا يخذله، بل يكرمه ويكرم المؤمنين، حيث نرى نور أعمالهم يسعى أمامهم وعن يمينهم.
ثم توّج ذلك كله بالأمر بجهاد الكافرين المعتدين، والمنافقين المتستِّرين، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة والبرهان.
المفردات :
جاهد الكفار : بمختلف أنواع الأسلحة
والمنافقين : باللسان والحجة.
وغلظ عليهم : اشتد عليهم بالانتهار والمقت والقتل بحق
التفسير :
٩- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
يا أيها النبي جاهد الكفار بالسيف والقوة، وَالْمُنَافِقِينَ. بالحجة والبرهان، وفضح سلوكهم وكشف نفاقهم، واغلظ عليهم في الجهاد، والجدال بالحجة والبرهان، ومصير الكافرين والمنافقين جهنم، وبئس هذا المصير مصيرا، إنه مصير إلى النار وعذابها، وبئس ما يلقونه فيها.
اللهم عافنا من النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار.
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( ١٠ ) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ١١ ) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( ١٢ ) ﴾
تمهيد :
نجد في ختام السورة مثلا لزوجتين كافرتين في بيتي نبيّين كريمين، ومع شدة القرب بين الزوجة وزوجها، فإن هذا القرب لم يغنِ عنهما من عذاب الله شيئا.
فموازين الله عادلة، ولكل عامل جزء عمله، ولن ينفع المسيء قرب أفضل الرسل منه، ولن يضرّ لصالح قرب أظلم الناس منه.
لذلك ضرب الله مثلا للذين آمنوا بزوجة فرعون، فهذا المَلِك كان يملك الملك والجاه والسلطان والقصر، وزوجته في الذروة العليا من مظاهر الدنيا، لكنها تعالت على كل ذلك، وطلبت النجاة من فرعون وعمله، ومن الظالمين من حاشيته وملئه، ورغبت في جنة الله، وفي بيت من بيوت هذه الجنة، إنها نموذج حيّ لعائشة وحفصة ولسائر المؤمنات، وفي الآية الأخيرة نموذج ثان لامرأة مؤمنة، آمنت بالله وتحصنت بالعفة، فنفخ جبريل بأمر الله في جيب قميصها، فوصلت النفخة إلى فرجها، فحملت بعيسى وصدّقت بكتب الله وكلماته، وكانت من القانتين العابدين، فجعلها الله نموذجا يحتذى لأهل الإيمان، وجعلها ضمن أربع كاملات فضليات سيدات نساء أهل الجنة :
١- آسية امرأة فرعون.
٢- مريم ابنة عمران.
٣- خديجة الكبرى.
٤- فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
ضرب الله مثلا : ضرب المثل : ذكر حال غريبة، منها حال أخرى تشاكلها في الغرابة.
تحت عبدين : في عصمتهما.
فخانتاهما : أي : نافقتا فأخفتا الكفر وأظهرتا الإيمان، وكانت امرأة نوح تقول لقومه : إنه مجنون، وامرأة لوط تدل قومه على نزول أضيافه عليه، وقد حفظ الله زوجات الأنبياء من الزنا.
فلم يغنيا عنهما : فلم يفيداهما، ولم يجزيا عنهما شيئا من عذاب الله.
التفسير :
١٠- ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾.
ضرب الله الأمثال في القرآن، والمثل قصة عجيبة فيها تشبيه أمر معنوي حسي، تجسيما للمعنى، وإبرازا للمعقول في صورة المحسوس، فهذا نموذج للكفر ولعصيان والطرد من رحمة الله، يتمثل في زوج نود وزوجة لوط، كل واحدة منهما كانت زوجة لنبي كريم، وعبد صالح من عباد الله الصالحين، والعبودية لله منزلة عليا يتفاضل بها لناس، وفي صدر سورة الإسراء :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده... ﴾ ( الإسراء : ١ ).
ومع قرب الزوجة من زوجها ومعايشته في النهار والليل، ورؤيتها لسلوكه، وفضل الله عليه، فإن الإيمان لم يخالط بشاشة قلبها، فكانت زوجة نوح تسخر منه مع الساخرين، أو تتهمه بالجنون مع قومها، أو ترشد قومها إلى كل أمر جديد، أو دعوة جديدة عند نوح، لقد كانت خيانتها لنوح خيانة للدعوة التي يحملها، ولم تكن خيانتها ارتكاب فاحشة الزنا، لأن الله حفظ نساء الأنبياء من ارتكاب فاحشة الزنا.
وكانت امرأة لوط ترشد قومه إلى الأضياف الذين ينزلون عنده، فغضب الله عليهما، ولم يغن نوح أو لوط عنهما من عذاب الله شيئا، ، وقيل لهما : ادخلا النار مع الداخلين من أمة نوح ولوط.
وهو تهديد لعائشة وحفصة، وزوجات الرسول عامة، ولكل إنسان، مؤدّاه : إن الله أعدّ الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدا حبشيا، وأعد النار لمن عصاه وإن كان حرا قرشيا، أو منسبا أو قريبا للنبي صلى الله عليه وسلم، أو زوجة من زوجاته، فالخلق جميعا عباد الله تعالى، يتفاضلون عنده بالتقوى، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح.
قال تعالى :﴿ يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ﴾. ( الحجرات : ١٣ ).
نجد في ختام السورة مثلا لزوجتين كافرتين في بيتي نبيّين كريمين، ومع شدة القرب بين الزوجة وزوجها، فإن هذا القرب لم يغنِ عنهما من عذاب الله شيئا.
فموازين الله عادلة، ولكل عامل جزء عمله، ولن ينفع المسيء قرب أفضل الرسل منه، ولن يضرّ لصالح قرب أظلم الناس منه.
لذلك ضرب الله مثلا للذين آمنوا بزوجة فرعون، فهذا المَلِك كان يملك الملك والجاه والسلطان والقصر، وزوجته في الذروة العليا من مظاهر الدنيا، لكنها تعالت على كل ذلك، وطلبت النجاة من فرعون وعمله، ومن الظالمين من حاشيته وملئه، ورغبت في جنة الله، وفي بيت من بيوت هذه الجنة، إنها نموذج حيّ لعائشة وحفصة ولسائر المؤمنات، وفي الآية الأخيرة نموذج ثان لامرأة مؤمنة، آمنت بالله وتحصنت بالعفة، فنفخ جبريل بأمر الله في جيب قميصها، فوصلت النفخة إلى فرجها، فحملت بعيسى وصدّقت بكتب الله وكلماته، وكانت من القانتين العابدين، فجعلها الله نموذجا يحتذى لأهل الإيمان، وجعلها ضمن أربع كاملات فضليات سيدات نساء أهل الجنة :
١- آسية امرأة فرعون.
٢- مريم ابنة عمران.
٣- خديجة الكبرى.
٤- فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
امرأة فرعون : هي آسية بنت مزاحم.
نجني من فرعون وعمله : خلِّصني منه، فإني أبرأ إليك منه ومن عمله.
القوم لظالمين : هم الوثنيون أقباط مصر – في ذلك الوقت – وحاشية فرعون.
التفسير :
١١-﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
ونموذج آخر حيّ للإيمان والمثل الأعلى الصالح، امرأة فرعون، كانت تحت أعظم ملك، ومعها القصور والجاه، لكنها لما آمنت بموسى زهدت في كل شيء، وعذّبها فرعون بأربعة أوتاد، من يديها ورجليها، لكنها رفضت كل إغراء، وطلبت النجاة من فرعون وعمله، والنجاة من حاشيته وأتباعه، وأن يكون بيتها عند الله في الجنة، في معية الله ورحمته، وفضله ورعايته.
قال بعض العلماء :
ما أحسن هذا الكلام، فقد اختارت الجار قبل الدار حيث قالت : ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور، وفي الآية دليل على إيمانها بالبعث والدار الآخرة.
قال قتادة :
كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فو الله ما ضرّ امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه.
نجد في ختام السورة مثلا لزوجتين كافرتين في بيتي نبيّين كريمين، ومع شدة القرب بين الزوجة وزوجها، فإن هذا القرب لم يغنِ عنهما من عذاب الله شيئا.
فموازين الله عادلة، ولكل عامل جزء عمله، ولن ينفع المسيء قرب أفضل الرسل منه، ولن يضرّ لصالح قرب أظلم الناس منه.
لذلك ضرب الله مثلا للذين آمنوا بزوجة فرعون، فهذا المَلِك كان يملك الملك والجاه والسلطان والقصر، وزوجته في الذروة العليا من مظاهر الدنيا، لكنها تعالت على كل ذلك، وطلبت النجاة من فرعون وعمله، ومن الظالمين من حاشيته وملئه، ورغبت في جنة الله، وفي بيت من بيوت هذه الجنة، إنها نموذج حيّ لعائشة وحفصة ولسائر المؤمنات، وفي الآية الأخيرة نموذج ثان لامرأة مؤمنة، آمنت بالله وتحصنت بالعفة، فنفخ جبريل بأمر الله في جيب قميصها، فوصلت النفخة إلى فرجها، فحملت بعيسى وصدّقت بكتب الله وكلماته، وكانت من القانتين العابدين، فجعلها الله نموذجا يحتذى لأهل الإيمان، وجعلها ضمن أربع كاملات فضليات سيدات نساء أهل الجنة :
١- آسية امرأة فرعون.
٢- مريم ابنة عمران.
٣- خديجة الكبرى.
٤- فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
أحصنت فرجها : حفظته وصانته.
الفرج : شق جيب الدرع ( القميص ) إذ الفرج لغة : كل فُرجة بين الشيئين، ويراد بذلك عفتها.
كلمات ربها : شرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله.
القانتين : الطائعين المخبتين إلى الله، المتمثلين أوامره.
التفسير :
١٢- ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾.
ونموذج آخر للمثل الأعلى للمرأة المؤمنة، و مريم ابنة عمران البتول الطاهرة المتعبدة الصالحة الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا. أي : حفظته من كل فاحشة، كالحصن الذي يتحصن به الجنود فلا يصل إليهم الأعداء، والمرأة المحصنة هي الفاضلة المستقيمة البعيدة عن الريبة، فقد وصفها الله بالطهارة والاستقامة، وبُعدها عن الفاحشة، حيث أحصنت فرجها وحفظته عن الحرام.
وحينما ظهر لها جبريل في صورة بشر، قالت :﴿ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( ١٨ ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ( ١٩ ) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( ٢٠ ) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ( ٢١ ) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا. ( مريم : ١٨-٢٢ ) ﴾.
هذه المرأة رفعها إيمانها الكامل، وطاعتها لربها، وعفتها وإحصانها لفرجها، وبُعدها عن الزنا والفاحشة، فنفخ جبريل في جيب قميصها، فوصلت النفخة إلى فرجها، فحملت بعيسى عليه السلام، كما هو مفصّل في سورة مريم وغيرها من السّور.
﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾.
وآمنت بشرائع الله وكتبه وصحفه، كصحف إدريس وصحف إبراهيم وموسى، وصدقت ببشارة الله لها، أنها ستحمل ولدا بدون أب، ليكون آية بينة للبشرية كلها على قدرة الله الخارقة، وأنه سبحانه هو المسبب للأسباب، وأن أمره بين الكاف والنون.
قال تعالى :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾. ( يس : ٨٢ ).
وقال تعالى :﴿ إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾. ( آل عمران : ٥٩ )
وثبت في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ". ١٠