وموضوع السورة كشأن سائر السور المكية التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى. وقد تناولت أهدافا رئيسية ثلاثة هي : إثبات عظمة الله، وقدرته على الخلق والحياة والموت.
وإقامة الأدلة على وحدانية رب العالمين.
وبيان عاقبة المكذبين الجاحدين.
فقد وُجّهت الأفكار في مطلع السورة إلى آثار قدرة الله الباهرة في الأنفس والآفاق، وذكرت أن الله تعالى بيده المُلك والسلطان، وهو المتصرف في هذا الكون العجيب الواسع، وفي الكائنات بالخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة. وأكدت على الناس أن يفكروا في هذا الكون وما فيه من عجائب. وهنا يكرر التأكيد ﴿ ثم ارجع البصر كرّتين... ﴾.
وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة لترتاد آفاق الكون وأغوار النفس، وطباق الجو، ومسارب الماء، وخفايا الغيوب، فترينا يد الله المبدعة ﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾. ويُحس المرء حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله، وعندما يتأمل في ذلك كله يجد أن الأمر أكبر، وأن المجال أوسع، وأن التسليم أسلم. وكانت الحياة الدنيا تبدو في نظر أهل الجاهلية غاية الوجود، ونهاية المطاف. وتكشف السورة الستار عن عالم آخر ما كانوا يعلمون عنه شيئا، فتحدثهم عن الآخرة وما فيها من مواقف وعذاب وجزاء، وتنبه إلى أن الظاهر من الدنيا ليس كل شيء، فتشدّد أنظارهم وقلوبهم إلى عالم الغيب وإلى السماء والقدرة التي لم ترها عين، ولم تخطر لهم على بال.
ثم يمنّ الله على هذا الخلق بأنه جعل هذه الأرض ذلولا لهم ﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾، والطير في السماء يرونها فوقهم باسطات أجنحتهنّ، ولولا أن الله يمسكهن لوقعن على الأرض.
ثم تتحدث السورة عن نعم الله التي لا تحصى على الإنسان، ومع ذلك
لا يصدّقون ويقولون :﴿ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ ﴾. ويأتي الرد بلطافة ورزانة وأناة ﴿ قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ﴾.
والله سبحانه وتعالى دائما هو الرحمن الرحيم ﴿ قل هو الرحمن آمنا به، وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين ﴾.
ويأتي في ختام السورة إنذار شديد لهؤلاء المكذبين ﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ﴾.
ومفتاح السورة كلها، ومحورها الذي تشدّ إليه تلك الحركة فيها، هو مطلعها العظيم الجامع الموحي :﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ﴾.
ﰡ
بيده الملك : له التصرف المطلق في هذا الكون.
افتتح الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بتمجيد نفسه، وأخبر أنّ بيدِه الملكَ والتصرفَ في جميع المخلوقات ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
ثم أخبر بأنه خلَقَ الموتَ والحياة لغايةٍ أرادها، هي أن يختبركم أيُّكم أصحُّ عملاً، وأخلصُ نيةً، وهو ذو العزةِ الغالبُ الذي لا يُعجزه شيء، الغفورُ لمن أذنبَ ثم تاب، فبابُ التوبة عنده مفتوح دائماً.
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت : لا ترى فيما خلق الله من اختلاف وعدم تناسب وإتقان صنعة.
فارجع البصرَ : أعد النظر.
هل ترى من فُطور : هل ترى من نقصٍ أو شقوق.
ثم بيّن الله تعالى أنه أبدعَ سبع سمواتٍ طباقاً، يطابق بعضُها بعضا في دِقّة الصَّنعةِ والإتقان. والعددُ سبعة لا يفيد الحَصر، بل يجوز أن يكون هنا أكثر بكثير، ولكنّ القرآن يجري على مفهوم لغةِ العرب.. فإن هذا الكونَ العجيبَ فيه مَجَرّات لا حصر لها وكل مجرّةٍ فيها ملايين النجوم.
والسماءُ كل ما علانا فأظلَّنا، والصورةُ التي يراها سكانُ الأرض في الليالي الصافية هي القبّة الزرقاءُ تزيّنها النجومُ والكواكب كأنها مصابيحُ، كما تُرى الشهبُ تهوي محترقةً في أعالي جوّ الأرض.
ما تَرى أيها الإنسان، في صُنع اللهِ أيَّ تفاوت.
﴿ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ﴾.
أعِد النظرَ في هذا الكون العجيب الصنع، وفي هذه السماء.. هل تجد أي خلل ؟
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي : ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت بتشديد الواو بلا ألف. والباقون : من تفاوت.
خاسئا : صاغراً ذليلا.
وهو حسير : وهو كليل، ضعيف.
﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾
ثم أعِد البصرَ مرّاتٍ ومرات، وفكر في هذا الصنع البديع، يرجعْ إليك البصرُ وهو صاغرٌ وكليل.... ولا يمكن أن ترى فيها أيَّ خللٍ أو عيب.
رجوما : مفردها رَجْم وهو كل ما يرمى به.
ثم بعدَ أن بيّن أن هذه السمواتِ وهذا الكونَ كلّه وُجد على نظامٍ دقيق متقَن، وهو مع ذلك الغايةُ في الحسن والجمال والبهاء قال :
﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير ﴾.
إن هذه السماء القريبة منّا والتي نراها، مزينةٌ بهذه النجوم المضيئة والكواكب بهجةً للناظرين، وهدىً للسارِين والمسافرين في البر والبحر، والشهُبُ التي نراها متناثرةً في الليل رُجومٌ للشياطين، وقد أعدَدْنا لهم في الآخرةِ عذابَ النار.
شهيقا : تنفسا قويا.
تفور : تغلي بشدة.
ثم وصفَ هذه النار، بأنّه يُسمع لها شهيق حين يُلقَى فيها الكافرون، وأنّها تفورُ بهم كما يفور ما في المِرجَلِ حين يغلي.
فوج : جماعة.
خَزَنَتُها : واحدها خازن، وهم الملائكة.
نذير : رسول ينذركم ويحذركم.
وأنها تكون شديدةَ الغيظ على من فيها، وأن خَزَنَتَها من الملائكة يَسألون من يدخل فيها :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ؟ ﴾ من ربّكم ؟
ولن ينفعهم اعترافُهم، فبُعداً لأصحاب السعير عن رحمة الله.
قراءات :
قرأ الكسائي : فسحقاً بضم السين والحاء. والباقون : فسحقا بضم السين وإسكان الحاء، وهما لغتان.
بعد أن أوعدَ الكفارَ بالعذاب في نارِ جهنم، ووصفَها ذلك الوصفَ المذهل، وعدَ هنا المؤمنين الذين يخشَون ربّهم بالمغفرة والأجرِ الكريم. وهذه طريقةُ القرآن الكريم : الترغيبُ والترهيب، حتى لا يقنَطَ الإنسانُ من رحمة ربه.
ثم عادَ إلى تهديدِ الكافرين، وأنه تعالى يعلم السرَّ والجَهْرَ، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ويعلَم ما توسوسُ نفسُ الإنسان.
الخبير : العالم بظواهر الأشياء وبواطنها.
ثم بعدَ ذلك كله قال ﴿ وَهُوَ اللطيف الخبير ﴾ كي يذكّرنا دائماً بأنه رؤوفٌ بعباده رحيم.
مناكبها : طرقها ونواحيها.
النشور : البعث بعد الموت.
ثم عدّد بعضَ ما أنعم علينا، فذكر أنه عبَّدَ لنا هذه الأرضَ وذلّلها، وهيّأها لنا، فيها منافعُ عديدةٌ من زروع وثمارٍ ومعادن، وما أعظمَها من نِعم. ثم قال : ﴿ فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور ﴾
تمتعوا بهذهِ النعمِ، ثم إلى ربّكم مرجُكم يومَ القيامة.
ففي الآية الكريمة حثٌّ على العمل، والكسب في التجارة والزراعة والصناعة، وجميع أنواع العمل، وفي الحديث : أن عمر بن الخطاب مرّ على قوم فقال لهم : من أنتم ؟ فقالوا : المتوكّلون، قال : بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكلُ رجلٌ ألقى حَبَّه في بطن الأرضِ وتوكّل على الله عز وجل.
وجاء في الأثر :« إن الله يحبُّ العبدَ المؤمنَ المحترف ».
مَن في السماء : يعني ربنا الأعلى.
تمور : تهتز وتضطرب.
ثم بيّن الله أن الإنسانَ يجب أن يكون دائماً في خوفٍ ورجاءٍ، فذكر أنه : هل يأمنون أن يحلَّ بهم في الدنيا مثلُ ما حلّ بالمكذّبين من قبلهم ؟ من خسْفٍ عاجلٍ تمورُ به الأرض.
نذير : هكذا من غير ياء والأصل نذيري، والمعنى إنذاري وتخويفي.
أو ريحٍ حاصبٍ تُهلك الحرثَ والنسل ! ؟
ثم ضرب لهم المثلَ بما حلّ بالأمم قبلَهم من ضروب المِحَن والبلاء.
﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ ﴾
فأهلكهم وخسَفَ بهم الأرض، وبعضُهم أغرقَهم، وبعضُهم أرسلَ عليهم الريحَ الصرصر....
ويقبضن : يضممنها تارة أخرى.
ثم بعد ذلك وجّه أنظارهم إلى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلبَ إليهم أن ينظروا إلى بعض مخلوقاته، كالطّير كيف تطير باسطةً أجنحتها في الجو تارةً وتضمّها أخرى، وذلك كلّه بقدرة الله وتعليمه لها ما هي بحاجة إليه.
فبعد هذا كله اعتبِروا يا أيها الجاحدون، مما قصَصْنا عليكم، فهل أنتم آمنون أن ندبر بحكمتنا عذاباً نصبّه ونقضي عليكم، فلا يبقى منكم أحد ! ؟
في غرور : في خداع يخدعون أنفسهم.
بعد أن بين الله للناس عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير وخلقه، وخوّفهم من خسف الأرض بهم، وإرسال الحاصب عليهم بالعذاب، سأل الجاحدين المعاندين بقصد التوبيخ والتقريع : من الذي يعينكم وينصركم، ويدفع عنكم العذاب إذا نزل بكم ؟ هل هناك غير الرحمن ؟ والتعبيرُ بالرحمن، يدل على أن الله رؤوف بعباده رحيم.
﴿ إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ ﴾ وظنٍّ كاذبٍ يخدعون به أنفسهم.
لجّوا : تعدَّوا الحد.
في عُتوّ : في تمرد وعناد.
نفور : إعراض وتباعد.
ثم سؤال ثان منه تعالى : إذا منعَ اللهُ عنكم أسبابَ الرزق، من يرزقكم غيرُ الله : بل تمادى الكافرون في استكبارِهم وبُعدِهم عن الحق.
سويًّا : معتدلا، مستقيما.
ثم ضرب الله مثلاً يبين به الفرق بين المشركين والموحدين فقال :
﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
هل الذي يعيش في الضلال ويتخبط في الجهالة والكفر أهدى سبيلاً، أم الذي آمنَ ويمشي على الطريق المستقيم سالماً من التخبط والجهل ؟ ﴿ مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ ؟ ﴾ [ هود : ٢٤ ].
فهذا المكبّ على وجهه هو المشرك، والذي يمشي سويا هو الموحّد، فهل يستويان ؟
الأفئدة : العقول.
قل لهم أيها الرسول، إن ربكم هو الذي خلقكم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لتسمعوا وتبصروا وتهتدوا، ولكن ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ ولكنكم مع كل هذه النعم، فالشاكرون منكم قليل.
قل لهم منبهاً إلى خطأهم وجحودهم : إن ربكم هو الذي خلقكم وبثكم في الأرض، ومن ثم إليه ترجعون يوم القيامة.
سيئت وجوه الذين كفروا : قبحت وعَلتها الكآبة.
تدعون : تطلبون، وتستعجلون.
الحديث في هذه الآية يكون يوم القيامة، يعني : فلما قامت القيامة وحشر الناس، ورأى الكفار العذابَ قريبا منهم ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والحزن. ويقال لهم :﴿ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٤ ] وهذا التعبير جاء ليدلنا على أن يوم القيامة قريب جدا.
وكما جاء في قوله تعالى :﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٧، ٤٨.
قراءات :
قرأ يعقوب : تدعون بفتح الدال من غير تشديد. والباقون : تدعون بتشديد الدال.
قل لهم : أخبِروني ماذا تستفيدون إن أماتنيَ اللهُ ومن معي من المؤمنين،
أو رحمَنا فأخّر آجالنا وعافانا من عذابه ؟ فهل هذا كله يمنع الكافرين من عذابٍ أليمٍ استحقّوه بكفرهم وغرورهم !.
قراءات :
قرأ الكسائي : فسيعلمون بالياء. والباقون : فستعلمون بالتاء.
غورا : غائرا في الأرض.
معين : جارٍ غزير.
ثم يختم الله تعالى هذه السورة العظيمة بتهديد كبير، ويلمّح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، وذلك بحرمانهم من الماء الذي هو سبب الحياة الأول فيقول :
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ﴾
قل لهم : أخبروني إن ذهب ماؤكم غائرا في الأرض، ولم تستطيعوا الوصول إليه، فمن يأتيكم بماء عذب جار تشربونه ؟ ولا جواب لكم إلا أن تقولوا : الله.
فلله الحمد والمنة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.