هذه السورة مكية. وسبب نزولها مجيء ابن أم مكتوم إليه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل الحديث وأهل التفسير قصته.
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر :﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَهَا ﴾، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه الإنذار، وهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجيهم في أمر الإسلام : عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية، ويدعوهم إليه.
ﰡ
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ٤٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤)
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩)
وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
تَصَدَّى: تَعَرَّضَ، قَالَ الرَّاعِي:
تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كَأَنَّ جبينه | سراج الدجى يجيء إِلَيْهِ الْأَسَاوِرُ |
أَيْ قُبَالَتُهَا. وَقِيلَ: مِنَ الصَّدَى، وَهُوَ الْعَطَشُ. وَقِيلَ: مِنَ الصَّدَى، وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي
فَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي | وَمَا أَسْعَى بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ |
قَالَ: وَالْقَضْبُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا يَقَعُ مِنَ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ لِيُتَّخَذَ مِنْهَا سِهَامٌ أَوْ قِسِيٌّ. الْغُلْبُ جَمْعُ غَلْبَاءَ، يُقَالُ: حَدِيقَةٌ غَلْبَاءُ: غَلِيظَةُ الشَّجَرِ مُلْتَفَّةٌ، وَاغْلَوْلَبَ الْعُشْبُ: بَلَغَ وَالْتَفَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَرَجُلٌ أَغْلَبُ: غَلِيظُ الرَّقَبَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْوَصْفِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرِّقَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
يَسْعَى بِهَا غُلْبُ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ | بُزْلٌ كُسِينَ مِنَ الشُّعُورِ جِلَالَا |
جِذْمُنَا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا | وَلَنَا الْأَبُّ بِهِ وَالْمَكْرَعُ |
لَهُ دَعْوَةٌ مَيْمُونَةٌ رِيحُهَا الصَّبَا | بِهَا يُنْبِتُ اللَّهُ الْحَصِيدَةَ وَالْأَبَّا |
مَأْخُوذَةٌ مِنْ صَخَّهُ بِالْحَجَرِ إِذَا صَكَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصَاخَ لِحَدِيثِهِ مِثْلَ أَصَاخَ لَهُ.
الْغَبَرَةُ: الْغُبَارُ. الْقَتَرَةُ: سَوَادٌ كَالدُّخَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقَتَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْغُبَارُ، جَمْعُ الْقَتَرَةِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ | فَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا |
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَجِيءُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ قِصَّتَهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «١»، ذَكَرَ فِي هَذِهِ مَنْ يَنْفَعُهُ الْإِنْذَارُ وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِنْذَارُ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِيهِمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وأبو جهل وأبي وَأُمَيَّةُ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
أَنْ جاءَهُ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ جَاءَهُ، وَيَتَعَلَّقُ بتولي عَلَى مُخْتَارِ الْبَصْرِيِّينَ فِي الأعمال، وبعبس عَلَى مُخْتَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَبَسَ مُخَفَّفًا، أَنْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِشَدِّ الْبَاءِ وَهُوَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَعِيسَى: أَآنْ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ بَعْدَهَا وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ، وَالْهَمْزَةُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِمَا يَقِفُ عَلَى تَوَلَّى. وَالْمَعْنَى: أَلِأَنْ جَاءَهُ كَادَ كَذَا. وَجَاءَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى إِجْلَالًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلُطْفًا بِهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ لِمَا فِي الْمُشَافَهَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ مِمَّا لَا يَخْفَى. وَجَاءَ لَفْظُ الْأَعْمى إِشْعَارًا بِمَا يُنَاسِبُ مِنَ الرِّفْقِ بِهِ وَالصَّغْوِ لِمَا يَقْصِدُهُ، وَلِابْنِ عَطِيَّةَ هُنَا كَلَامٌ أَضْرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا. وَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَعْمى، أَيْ يَتَطَهَّرُ بِمَا يَتَلَقَّنُ مِنِ الْعِلْمِ، أَوْ يَذَّكَّرُ: أَيْ يَتَّعِظُ، فَتَنْفَعَهُ ذِكْرَاكَ، أي موعظتك. والظاهر مصب يُدْرِيكَ عَلَى جُمْلَةِ التَّرَجِّي، فَالْمَعْنَى: لَا تَدْرِي مَا هُوَ مُتَرَجًّى مِنْهُ مِنْ تَزَكٍّ أَوْ تَذَكُّرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا يُطْلِعُكَ عَلَى أَمْرِهِ وَعُقْبَى حَالِهِ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَوْلَ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى: أَيْ تَنْمُو بَرَكَتُهُ وَيَتَطَهَّرُ لِلَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُ لِلْكَافِرِ، يَعْنِي أَنَّكَ طَمِعْتَ فِي أَنْ يَتَزَكَّى بِالْإِسْلَامِ. أَوْ يَذَّكَرَ فَتُقَرِّبَهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَا طَمِعَتْ فِيهِ كَائِنٌ. انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ يَذَّكَّرُ بِشَدِّ الذَّالِ وَالْكَافِ، وَأَصْلُهُ يَتَذَكَّرُ فَأُدْغِمَ وَالْأَعْرَجُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: أَوْ يَذْكُرُ، بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ. وقرأ الجمهور:
انْتَهَى. وَالتَّرَجِّي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا جَوَابَ لَهُ، فَيُنْصَبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَيَقُولُونَ: يُنْصَبُ فِي جَوَابِ التَّرَجِّي، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى فِي قِرَاءَةِ حَفْصٍ، وَوَجَّهْنَا مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ فِي نَصْبِ الْمُضَارِعِ.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى: ظَاهِرُهُ مَنْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَنِ اللَّهِ. وَقِيلَ:
عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. قِيلَ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى الثَّرْوَةِ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الثَّرْوَةِ لَكَانَ الْمُقَابِلُ: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ فَقِيرًا حَقِيرًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وقتادة وَالْأَعْرَجُ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ وَجُمْهُورُ السَّبْعَةِ: تَصَدَّى بِخَفِّ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ يَتَصَدَّى فَحَذَفَ وَالْحَرَمِيَّانِ: بِشَدِّهَا، أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: تُصَدَّى، بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، أَيْ يَصُدُّكَ حِرْصُكَ عَلَى إِسْلَامِهِ. يُقَالُ: تُصَدَّى الرَّجُلُ وَصَدَّيْتُهُ، وَهَذَا الْمُسْتَغْنِي هُوَ الْوَلِيدُ، أَوْ أُمَيَّةُ، أَوْ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، أَوْ أُمَيَّةُ وَجَمِيعُ الْمَذْكُورِينَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَقْوَالٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ غَلَطٌ مِنَ المفسرين، لأنه أُمَيَّةَ وَالْوَلِيدَ كَانَا بِمَكَّةَ، وَابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَا حَضَرَ مَعَهُمَا، وَمَاتَا كَافِرَيْنِ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْآخَرُ فِي بَدْرٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ قَطُّ أُمَيَّةُ الْمَدِينَةَ، وَلَا حَضَرَ مَعَهُ مُفْرَدًا وَلَا مَعَ أَحَدٍ. انْتَهَى. وَالْغَلَطُ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ، كَيْفَ يَنْفِي حُضُورَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مَعَهُمَا؟ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِهَا. وَالسُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَيْفَ يَقُولُ: وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالْمَدِينَةِ؟
كَانَ أَوَّلًا بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا جَمِيعُهُمْ بِمَكَّةَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْحِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَأُمُّ مَكْتُومٍ أُمُّ أَبِيهِ عَاتِكَةُ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى: تَحْقِيرٌ لِأَمْرِ الْكَافِرِ وَحَضٌّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ فِي كَوْنِهِ لَا يُفْلِحُ وَلَا يَتَطَهَّرُ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى: أَيْ يَمْشِي بِسُرْعَةٍ فِي أَمْرِ دِينِهِ، وَهُوَ يَخْشى: أَيْ يَخَافُ اللَّهَ، أَوْ يَخَافُ الْكُفَّارَ وَأَذَاهُمْ، أَوْ يَخَافُ الْعِثَارَ وَالسُّقُوطَ لِكَوْنِهِ أَعْمَى، وَقَدْ جَاءَ بِلَا قَائِدٍ يقوده. تَلَهَّى:
كَلَّا إِنَّها: أَيْ سُورَةُ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتُ، تَذْكِرَةٌ: عِظَةٌ يُنْتَفَعُ بِهَا. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ: أَيْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ ذَكَرَهُ، أَتَى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ هِيَ الذِّكْرُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «١»، وَاعْتَرَضَتْ بَيْنَ تَذْكِرَةٌ وَبَيْنَ صِفَتِهِ، أَيْ تَذْكِرَةٌ: كَائِنَةٌ. فِي صُحُفٍ، قِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: صُحُفُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُنْزَلَةُ، وَقِيلَ: صُحُفُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ إِخْبَارًا بِمُغَيَّبٍ، إِذْ لَمْ يُكْتَبِ الْقُرْآنُ فِي صُحُفٍ زَمَانَ، كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَكَّةَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، مكرمة عند الله، ومرفوعة فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ، أَوْ مَرْفُوعَةٌ عَنِ الشُّبَهِ وَالتَّنَاقُضِ، أَوْ مَرْفُوعَةُ الْمِقْدَارِ. مُطَهَّرَةٍ: أَيْ مُنَزَّهَةٍ عَنْ كُلِّ دَنَسٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ أَيْضًا: مُطَهَّرَةٌ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَيْدِي الشَّيَاطِينِ، لَا تَمَسُّهَا إِلَّا أَيْدِي مَلَائِكَةٍ مُطَهَّرَةٍ. سَفَرَةٍ: كَتَبَةٍ يَنْسَخُونَ الْكُتُبَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
انْتَهَى. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمْ كَتَبَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: لِأَنَّهُمْ يَسْفِرُونَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْبِيَائِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْقُرَّاءُ، وَوَاحِدُ السَّفَرَةِ سَافِرٌ. وَقَالَ وَهْبٌ:
هُمُ الصَّحَابَةُ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْفِرُ إِلَى بَعْضٍ فِي الْخَيْرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ.
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ،
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، غَاضَبَ أَبَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ اسْتَصْلَحَهُ أَبُوهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا وَجَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَافِرٌ بِرَبِّ النَّجْمِ إِذَا هَوَى.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ يَأْكُلْهُ». فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَاضِرَةِ ذَكَرَ الدُّعَاءَ، فَجَعَلَ لِمَنْ مَعَهُ أَلْفَ دِينَارٍ إِنْ أَصْبَحَ حَيًّا، فَجَعَلُوهُ وَسَطَ الرُّفْقَةِ وَالْمَتَاعُ حَوْلَهُ. فَأَقْبَلَ الْأَسَدُ إِلَى الرجال وَوَثَبَ، فَإِذَا هُوَ فَوْقَهُ فَمَزَّقَهُ، فَكَانَ أَبُوهُ يَنْدُبُهُ وَيَبْكِي عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا قَالَ مُحَمَّدٌ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا كَانَ
، وَالْآيَةُ، وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مَخْصُوصٍ، فَالْإِنْسَانُ يراد به
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ: اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ فَقَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ: أَيْ فَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَعَنْهُ قَدَّرَ أَعْضَاءَهُ، وَحَسَنًا وَدَمِيمًا وَقَصِيرًا وَطَوِيلًا وَشَقِيًّا وَسَعِيدًا. وَقِيلَ: مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، إِلَى أَنْ تَمَّ خَلْقُهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ:
أَيْ ثُمَّ يَسَّرَ السَّبِيلَ، أَيْ سَهَّلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ: سَبِيلُ النَّظَرِ الْقَوِيمِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَيْسِيرُهُ لَهُ هُوَ هِبَةُ الْعَقْلِ. وقال مجاهد والحسن وعطاء وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: السَّبِيلُ الْعَامُّ اسْمُ الْجِنْسِ فِي هُدًى وَضَلَالٍ، أَيْ يَسَّرَ قَوْمًا لِهَذَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ «١» الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «٢» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَسَّرَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ: أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا صِيَانَةً لِجَسَدِهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ. قبره: ذفنه، وَأَقْبَرَهُ: صَيَّرَهُ بِحَيْثُ يُقْبَرُ وَجَعَلَ لَهُ قَبْرًا، وَالْقَابِرُ:
الدَّافِنُ بِيَدِهِ. قَالَ الْأَعْشَى:
لَوْ أَسْنَدْتَ مَيِّتًا إِلَى قَبْرِهَا | عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى قَابِرِ |
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَمْ يَقْضِ اللَّهُ لِهَذَا الْكَافِرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ. وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، ذَكَرَ النِّعَمَ فِيمَا بِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى طَعَامِهِ وَكَيْفِيَّاتِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اعْتَوَرَتْ عَلَى طَعَامِهِ حَتَّى صَارَ بِصَدَدِ أَنْ يُطْعَمَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّعَامَ هُوَ الْمَطْعُومُ، وَكَيْفَ يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الْمَذْكُورَةِ من صب
(٢) سورة البلد: ٩٠/ ١٠.
وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا: أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مما لا
فَالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فِي ذِكْرِ تَعْدَادِ الْوُصُولِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالْفَتْحُ قَالُوا عَلَى الْبَدَلِ، وَرَدَّهُ قَوْمٌ، لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ الْأَوَّلَ. قِيلَ: وَلَيْسَ كَمَا رَدُّوا لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى إِنْعَامِنَا فِي طَعَامِهِ، فَتَرَتَّبَ الْبَدَلُ وَصَحَّ. انْتَهَى. كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ مُمَالًا عَلَى مَعْنَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ كَيْفَ صَبَبْنَا.
وَأَسْنَدَ تَعَالَى الصَّبَّ وَالشَّقَّ إِلَى نَفْسِهِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى السَّبَبِ، وَصَبُّ الْمَاءِ هُوَ الْمَطَرُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّقَّ كِنَايَةٌ عَنْ شَقِّ الْفَلَّاحِ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَشُقَّ بِهِ. وَقِيلَ: شَقُّ الْأَرْضِ هُوَ بِالنَّبَاتِ. حَبًّا: يَشْمَلُ مَا يُسَمَّى حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَذُرَةٍ وَسُلْتٍ وَعَدَسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَضْباً، قَالَ الْحَسَنُ: الْعَلَفُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَ الْقَتَّ الْقَضْبَ. وَقِيلَ: الْفَصْفَصَةُ، وَضُعِّفَ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْأَبِّ. وَقِيلَ: مَا يُقْضَبُ لِيَأْكُلَهُ ابْنُ آدَمَ غَضًّا مِنَ النَّبَاتِ، كَالْبُقُولِ وَالْهِلْيَوْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرُّطَبُ، لِأَنَّهُ يُقْضَبُ مِنَ النَّخْلِ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعِنَبَ قَبْلَهُ.
غُلْباً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غِلَاظًا، وَعَنْهُ: طِوَالًا وَعَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: كِرَامًا وَفاكِهَةً: مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ، كَالْخَوْخِ وَالتِّينِ وَأَبًّا: مَا تَأْكُلُهُ الْبَهَائِمُ مِنَ الْعُشْبِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: التِّبْنُ خَاصَّةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلُّ نَبَاتٍ سِوَى الْفَاكِهَةِ رَطْبُهَا، وَالْأَبُّ: يَابِسُهَا. الصَّاخَّةُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ القيامة يصم نبأها الْآذَانَ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
صَخَّتْهُمُ الصَّاخَّةُ وَنَابَتْهُمُ النَّائِبَةُ، أَيِ الدَّاهِيَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّاخَّةُ هِيَ الَّتِي تُورِثُ الصَّمَمَ، وَإِنَّهَا لَمُسْمِعَةٌ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ، كَقَوْلِهِ:
أَصَمَّهُمْ سِرُّهُمْ أَيَّامَ فُرْقَتِهِمْ | فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِسِرٍّ يُورِثُ الصَّمَمَا |
أَصَمَّ بِكَ النَّاعِي وَإِنْ كَانَ أَسْمَعَا وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ مُسْمِعَةٌ تُصِمُّ عَنِ الدُّنْيَا وَتُسْمِعُ أُمُورَ الْآخِرَةِ. انْتَهَى.
يَوْمَ يَفِرُّ: بَدَلٌ مِنْ إِذَا، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اشْتَغَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وَفِرَارُهُ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا جَاءَ
قَوْلِ الرُّسُلِ: «نَفْسِي نَفْسِي».
وَقِيلَ: خَوْفُ التَّبِعَاتِ، لِأَنَّ الْمُلَابَسَةَ تَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ.
يَقُولُ الْأَخُ: لَمْ تُوَاسِنِي بِمَالِكَ، وَالْأَبَوَانِ قَصَّرْتَ فِي بِرِّنَا، وَالصَّاحِبَةُ أَطْعَمْتَنِي الْحَرَامَ وَفَعَلْتَ وَصَنَعْتَ، وَالْبَنُونَ لَمْ تُعَلِّمْنَا وَتُرْشِدْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُغْنِيهِ: أَيْ عَنِ النَّظَرِ فِي شَأْنِ الْآخَرِ مِنِ الْإِغْنَاءِ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَحُمَيْدٌ وابن السميفع: يَعْنِيهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَنَانِي الْأَمْرُ: قَصَدَنِي. مُسْفِرَةٌ: مُضِيئَةٌ، مِنْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ: أَضَاءَ، وتَرْهَقُها: تَغْشَاهَا، قَتَرَةٌ: أَيْ غُبَارٌ. وَالْأُولَى مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْعُبُوسِ عِنْدَ الْهَمِّ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ غُبَارِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: غَبَرَةٌ: أَيْ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ، وَقَتَرَةٌ: سَوَادٌ كَالدُّخَانِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْغَبَرَةُ: مَا انْحَطَّتْ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْقَتَرَةُ: مَا ارْتَفَعَتْ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَتَرَةٌ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِإِسْكَانِهَا.