أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أمّ مكتوم - وأمّ مكتوم أمّ أبيه، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك ابن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي -وعنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام. والعباس ابن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم - فقال : يا رسول اللَّه، أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له : هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين ؛ وقال أنس : رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء.
ﰡ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة «١» ».
سورة عبس
مكية، وآياتها ٤٢ وقيل ٤١ [نزلت بعد النجم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
أتى رسول الله ﷺ ابن أمّ مكتوم «٢» - وأمّ مكتوم أمّ أبيه، واسمه عبد الله بن شريح ابن مالك بن ربيعة الفهري من بنى عامر بن لؤي- وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام. والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة:
يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم «٣». فقال: يا رسول الله، أقرئنى وعلمني مما
(٢). ذكر الزمخشري سبب نزول الآية، وهو أن ابن أم مكتوم الأعمى... الخ» قال أحمد: وإنما أخذ الاختصاص من تصدير الجملة بضمير المخاطب وجعله مبتدأ مخبرا عنه وهو كثيرا ما يتلقى الاختصاص من ذلك، ولقد غلط في تفسير الآية، وما كان له أن يبلغ ذلك.
(٣). ذكره الثعلبي بلا إسناد، وأخرجه ابن أبى حاتم من رواية العوفى عن ابن عباس نحوه دون قوله «صناديد قريش» ودون سياق نسب ابن أم مكتوم. وكذا أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة. قال: ذكر لنا فذكره. وبهذا الاسناد أن النبي ﷺ استخلفه بعد ذلك على المدينة مرتين يصلى بأهلها. ورواه الترمذي والحاكم من حديث عائشة رضى الله عنها نحوه «تنبيه» النسب الذي ساقه في غاية التخليط، يظهر لمن له أدنى إلمام بالأخبار والأنساب. قال ابن سعد: أما أهل المدينة فيقولون اسمه عبد الله. وأما أهل العراق وهشام الكلبي فيقولون اسمه عمرو ثم أجمعوا على نسبه. فقالوا: ابن قيس بن زياد بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص ابن عامر بن لؤي. وأمه عاتكة هي أم مكتوم بنت عبد الله بن عامر بن مخزوم. وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون. أخبرنا جويبر عن الضحاك. قال «كان النبي ﷺ تصدى لرجل من قريش يدعوه إلى الإسلام فأقبل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، فجعل يسأل رسول الله ﷺ وهو يعرض عنه ويعبس في وجهه، ويقبل على الآخر. فعاتب الله رسوله فقال عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى - الآيات فدعاه رسول الله ﷺ فأكرمه واستخلفه على المدينة مرتين».
وقرئ: فتنفعه، بالرفع عطفا على يذكر. وبالنصب جوابا للعلّ، كقوله فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، تَصَدَّى تتعرض بالإقبال عليه، والمصاداة. المعارضة، وقرئ: تصدى، بالتشديد، بإدغام
يلهيك شأن الصناديد. فإن قلت: قوله فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كأن فيه اختصاصا. قلت، نعم، ومعناه: إنكار التصدي والتلهي عليه، أى: مثلك خصوصا لا ينبغي له أن يتصدى للغنىّ ويتلهى عن الفقير.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١١ الى ١٦]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
كَلَّا ردع عن المعاتب عليه، وعن معاودة مثله إِنَّها تَذْكِرَةٌ أى موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أى كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ فِي صُحُفٍ صفة لتذكرة، يعنى: أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح مُكَرَّمَةٍ عند الله مَرْفُوعَةٍ في السماء. أو مرفوعة المقدار مُطَهَّرَةٍ منزهة عن أيدى الشياطين، لا يمسها إلا أيدى ملائكة مطهرين سَفَرَةٍ «١» كتبة ينتسخون الكتب من اللوح بَرَرَةٍ أتقياء. وقيل: هي صحف الأنبياء، كقوله إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى وقيل السفرة: القرّاء. وقيل: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه، وهي من أشنع دعواتهم «٢»، لأنّ القتل قصارى شدائد
(٢). قال محمود: «دعاء عليه وهو من أشنع دعائهم... الخ» قال أحمد: ما رأيت كاليوم قط عبدا ينازع ربه، الله تعالى يقول ثُمَّ شَقَقْنَا فيضيف فعله إلى ذاته حقيقة، كما أضاف بقية أفعاله من عند قوله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ وعلم جرا. والزمخشري يجعل الاضافة مجازية من باب إسناد الفعل إلى سببه، فيجعل إضافة الفعل إلى الله تعالى من باب إضافة الشق إلى الحراث، لأنه السبب. قتل القدري ما أكفره على قول، وما أضله على آخر، وإذا جعل شق الأرض مضافا إلى الحراث حقيقة، وإلى الله مجازا، فما يمنعه أن يجعل الحراث هو الذي صبب الماء وأنبت الحب، والعقب والقضب: حقيقة، وهل هما إلا واحد.
يقال: قبر الميت إذا دفنه. وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه. ومنه قول من قال للحجاج: أقبرنا صالحا أَنْشَرَهُ أنشأه النشأة الأخرى. وقرئ: نشره كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه لَمَّا يَقْضِ لم يقض بعد، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية ما أَمَرَهُ الله حتى يخرج عن جميع أوامره، يعنى: أنّ إنسانا لم يخل من تقصير قط.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٢]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
(٢). قوله «من الكفران والغمط» بطر النعمة وتحقيرها. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «من أى شيء خلقه من أى شيء حقير» لعله: أى من شيء... الخ». (ع)
والمقضاب: أرضه، سمى بمصدر قضبه إذا قطعه، لأنه يقضب مرّة بعد مرّة وَحَدائِقَ غُلْباً يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلبا، أى: عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب:
يمشى بها غلب الرّقاب كأنّهم | بزل كسين من الكحيل جلالا «٣» |
جذمنا قيس ونجد دارنا | ولنا الأبّ به والمكرع «٤» |
(٢). قوله «والقضب الرطبة» في الصحاح «القضبة، والقضب» الرطبة. وفيه أيضا «الرطبة» بالفتح:
القضب اه وفيه دور. وقال بعض الفضلاء «القضب» : هو المسمى في مصر بالبرسيم الحجازي. (ع)
(٣). لعمرو بن معديكرب. ويقال: أسد أغلب، أى: غليظ العنق، والغلب: جمعه، ثم استعير لكل غليظ والبزل: جمع بازل للمذكر والمؤنث من الإبل إذا انفطر نأيه، وذلك في السنة التاسعة: والكحيل: القطران.
والجلال: جمع جل: يصف مفازة تمشى فيها أسود غلاظ الأعناق، كأنها فتيات من الإبل دهنت بالقطران حتى صار عليها كالجلال، فكسين: استعارة مصرحة، والجلال: ترشيح. ويروى: كأنهم، باستعارة ضمير العقلاء لغيرهم.
(٤). الجذم- بالكسر وقد يفتح: الأصل الذي يقتطع منه غيره. والأب والأم- بالفتح والتشديد- بمعنى المرعى، لأنه يؤب ويؤم، أى: يقصد. والمكرع: المنهل. يقول: نحن من قبيلة قيس ونجد هي ديارنا، ولنا به أى في نجد المرعى والمروي. وفيه تمدح بالشرف والشجاعة على غيره.
(٥). أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن. حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر رضى الله عنه سئل عنه فذكره ورواه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد من هذا الوجه. وهذا منقطع.
ورواه يحيى الحماني وابن عبد البر في العلم من طريقه من رواية إبراهيم النخعي عن أبى معمر عن أبى بكر فذكره.
لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله- على ما تبين لك ولم يشكل- مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٢ الى ٤١]
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١)
يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازا، لأنّ الناس يصخون لها يَفِرُّ منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا، وبدأ بالأخ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وقيل: يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات.
يقول الأخ: لم تواسنى بمالك. والأبوان: قصرت في برنا. والصاحبة: أطعمتنى الحرام وفعلت وصنعت. والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه: هابيل، ومن أبويه:
إبراهيم ومن صاحبته: نوح ولوط، ومن ابنه: نوح يُغْنِيهِ يكفيه في الاهتمام به. وقرئ:
يعنيه أى يهمه مُسْفِرَةٌ مضيئة متهللة، من أسفر الصبح: إذا أضاء. وعن ابن عباس رضى الله