منها : أن البسملة رحمة وأمان و«براءة » نزلت بالسيف ؛ فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن علي رضي الله عنه، وسفيان بن عيينة.
ومنها : أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتاباً فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النَّبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم. قرأها، ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد، نقل هذا القول بعض أهل العلم، ولا يخفى ضعفه.
ومنها : أن الصحابة لما اختلفوا : هل «براءة » و«الأنفال » سورة واحدة أو سورتان. تركوا بينهما فرجة لقول من قال : إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال : هما سورة واحدة، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف.
ومنها : أن سورة «براءة » نسخ أولها فسقطت معه البسملة، وهذا القول رواه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم، عن مالك، كما نقله القرطبي.
وعن ابن عجلان، وسعيد بن جبير، أنها كانت تعدل سورة «البقرة ». وقال القرطبي : والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة ؛ لأن جبريل لم ينزل بها فيها. قاله القشيري. اه.
قال مقيده : عفا الله عنه أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة. أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة ؛ هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لابن عباس.
فقد أخرج النسائي، والترمذي، وأبو داود، والإمام أحمد، وابن حبان، في [ صحيحه ] والحاكم في [ المستدرك ] وقال : صحيح الإسناد، ولم يخرجاه : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المائين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ﴾ ووضعتموهما في السبع الطول فما حملكم على ذلك ؟
فقال عثمان رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول : ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت «الأنفال » من أوائل ما أنزل بالمدينة، و«براءة » من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتهما شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ﴾، ووضعتها في السبع الطول. اه.
تنبيهان
الأول : يؤخذ من هذا الحديث أن ترتيب آيات القرآن بتوقيف من النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهو كذلك بلا شك، كما يفهم منه أيضاً : أن ترتيب سورة بتوقيف أيضاً فيما عدى سورة «براءة »، وهو أظهر الأقوال، ودلالة الحديث عليه ظاهرة.
التنبيه الثاني : قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى : في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين : ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة «براءة » شبيهة بقصة «الأنفال » فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن، فما ظنك بسائر الأحكام.
ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين، وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله :﴿ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ لا عهد لكافر.
وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء. والذي يبينه القرآن، ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير الموقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر، فتكمل له أربعة أشهر. أما أصحاب العهود الموقتة الباقي من مدتها أكثر من أربعة أشهر، فإنه يجب لهم إتمام مدتهم، ودليله المبين له من القرآن ؛ هو قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ وهو اختيار ابن جرير، وروي عن الكلبي، ومحمد بن كعب القرظي، وغير واحد، قاله ابن كثير ويؤيده حديث علي رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، بعثه حين أنزلت «براءة » بأربع : ألا يطوف بالبيت عريان. ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
قوله تعالى :﴿ فَسِيحُواْ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ الآية.
قال بعض العلماء : كان ابتداء التأجيل بالأشهر الأربعة المذكورة من شوال ؛ وآخره سلخ المحرم، وبه قال الزهري رحمه الله تعالى ولكن القرآن، يدل على أن ابتداءها من يوم النحر على الأصح من أنه يوم الحج الأكبر، أو يوم عرفة على القول بأنه هو يوم الحج الأكبر، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر ﴾ الآية. وهو صريح في أن ابتداء الإعلام المذكور من يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، ولا يخفى انتهاؤها في العشر من ربيع الثاني.
قال ابن كثير : في تفسير هذه الآية وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال، وآخره سلخ المحرم، وهذا القول غريب، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر ﴾.
يفهم من مفهوم مخالفة هذه الآية : أن المشركين إذا نقضوا العهد جاز قتالهم، ونظير ذلك أيضاً، قوله تعالى :﴿ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٧ ] وهذا المفهوم في الآيتين صرح به جل وعلا في قوله :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢ ].
اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية.
فقال ابن جرير : إنها المذكورة في قوله تعالى :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] قاله أبو جعفر الباقر.
ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم، وحكى نحو قوله هذا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وإليه ذهب الضحاك.
ولكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله :﴿ فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [ التوبة : ٢ ].
قال ابن كثير : في تفسير هذه الآية : والذي يظهر من حيث السياق، ما ذهب إليه ابن عباس، في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها، الأشهر الأربعة المنصوص عليها بقوله :﴿ فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [ التوبة : ٢ ] ثم قال :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾ أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها، وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، مع أن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى اه.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة هموا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة، وصرح في مواضع أخر بأنهم أخرجوه بالفعل، كقوله ﴿ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ] الآية، وقوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِي أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ﴾ [ محمد : ١٣ ] وقوله :﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ التوبة : ٤٠ ] الآية، وذكر في مواضع أخر : محاولتهم لإخراجه قبل أن يخرجوه، كقوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ]، وقوله :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] الآية.
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار، ولو كانوا قرباء، وصرح في موضع آخر : بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا قرباء، وهو قوله :﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] الآية.
ذكر تعالى ما أصاب المسلمين يوم حنين في هذه الآية الكريمة، وذكر ما أصابهم يوم أحد بقوله :﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٣ ]، وصرح بأنه تاب على من تولى يوم أحد بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ]، وأشار هنا إلى توبته على من تولى يوم حنين بقوله :﴿ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ٢٧ ] كما أشار بعض العلماء إليه.
أظهر الأقوال وأقربها للصواب في معنى ﴿ يَكْنِزُونَ ﴾ في هذه الآية الكريمة، أن المراد بكنزهم الذهب والفضة وعدم إنفاقهم لها في سبيل الله، أنهم لا يؤدون زكاتهما.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وأمَّا الكنز ؟ فقال مالك : عن عبد الله بن دينار ؛ عن ابن عمر ؛ هو المال الذي لا تؤدى زكاته.
وروى الثوري، وغيره، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال : ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان نحت سبع أرضين، وما كان ظاهراً لا تؤدى زكاته فهو كنز، وقد روي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، موقوفاً ومرفوعاً.
وقال عمر بن الخطاب نحوه : أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض اه.
وممن روى عنه هذا القول عكرمة، والسدي، ولا شك أن هذا القول أصوب الأقوال، لأن من أدى الحق الواجب في المال الذي هو الزكاة لا يكوى بالباقي إذا أمسكه، لأن الزكاة تطهره كما قال تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] ولأن المواريث ما جعلت إلا في أموال تبقى بعد مالكيها.
ومن أصرح الأدلة في ذلك، حديث طلحة بن عبيد الله وغيره في قصة الأعرابي أخي بني سعد، من هوازن، وهو ضمام بن ثعلبة لما أخبره النَّبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله فرض عليه الزكاة، وقال : هل على غيرها، فإن النَّبي قال له : لا، إلا أن تطوع : وقوله تعالى :﴿ وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] وقد قدمنا في «البقرة » تحقيق أنه ما زاد على الحاجة التي لا بد منها، وقوله :«ليس فيما دون خمسة أوسق » الحديث، لأن صدقة نكرة في سياق النفي فهي تعم نفي كل صدقة.
وفي الآية أقوال أخر :
منها : أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] الآية.
وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضاً. وبه قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك. اه.
وعن علي أنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، ومذهب أبي ذر رضي الله عنه في هذه الآية معروف، وهو أنه يحرم على الإنسان أن يدخر شيئاً فاضلاً عن نفقة عياله. اه ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به، وهو كالضروري عند عامة المسلمين.
فإن قيل : ما الجواب عما رواه الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه، قال : مات رجل من أهل الصفة، وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كيتان صلوا على صاحبكم » اه. وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة صدى بن عجلان قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كية » ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كيتان » : وما روى عبد الرزاق وغيره عن علي رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«تباً للذهب تباً للفضة يقولها ثلاثاً فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر رضي الله عنه : أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا : فأي المال نتخذ ؟ فقال :«لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة تعين أحدكم على دينه ». ونحو ذلك من الأحاديث.
فالجواب والله تعالى أعلم أن هذا التغليظ كان أولاً ثم نسخ بفرض الزكاة كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال ابن حجر في [ فتح الباري ] : قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ؛ فهو كنز يذم فاعله. وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانع الزكاة، إلى أن قال : فكان ذلك واجباً في أول الأمر، ثم نسخ، ثم ذكر عن شداد بن أوس أنه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول. اه.
وقال بعض العلماء : هي في خصوص أهل الكتاب، بدليل افترانها مع قوله :﴿ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار وَالرُّهْبَانِ ﴾ [ التوبة : ٣٤ ] الآية.
فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة، وأنها في من لا يؤدي الزكاة، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة ؛ وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن البيان بالقرآن إذا كان غير واف بالمقصود نتمم البيان من السنة، من حيث إنها بيان للقرآن المبين به، وآيات الزكاة كقوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَآتَوُاْ الزكاة ﴾ [ البقرة : ٢٧٧ ] وقوله :﴿ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ] لا تفي بالبيان فتبينه بالسنة، وقد قال ابن خويز منداد المالكي، تضمنت هذه الآية : زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط، حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. اه وفي بعض هذه الشروط خلاف.
* * *
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : في قدر نصاب الذهب والفضة، وفي القدر الواجب إخراجه منهما.
أما نصاب الفضة، فقد أجمع جميع العلماء على أنه مائتا درهم شرعي، ووزن الدرهم الشرعي ستة دوانق، وكل عشرة دراهم شرعية فهي سبعة مثاقيل، والأوقية أربعون درهماً شرعياً.
وكل هذا أجمع عليه المسلمون فلا عبرة بقول المريسي، الذي خرق به الإجماع ؛ وهو اعتبار العدد في الدراهم لا الوزن، ولا بما انفرد به السرخسي من الشافعية، زاعماً أنه وجه في المذهب، من أن الدرهم المغشوشة إذا بلغت قدراً لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلاً لبلغ نصاباً أن الزكاة تجب فيه، كما نقل عن أبي حنيفة، ولا بقول ابن حبيب الأندلسي، إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم، ولا بما ذكره ابن عبد البر ؛ من اختلاف الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، لأن النصوص الصحيحة الصريحة التي أجمع عليها المسلمون مبينة أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي بالوزن الذي كان معروفاً في مكة. اه.
وكل سبعة مثاقيل فهي عشرة دراهم، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«ليس فيما دون خمس أواق صدقة » ورواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه. وقد أجمع جميع المسلمين، وجمهور أهل اللسان العربي، على أن الأوقية أربعون درهماً، وما ذكره أبو عبيد وغيره، من أن الدرهم كان مجهولاً قدره حتى جاء عبد الملك بن مروان، فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل لا يخفى سقوطه وأنه لا يمكن أن يكون نصاب الزكاة وقطع السرقة مجهولاً في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، حتى يحققه عبد الملك. والظاهر أن معنى ما نقل من ذلك : أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام، وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد : فعشرة مثلاً وزن عشرة، وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصيرونها وزناً واحداً. وقد ذكرنا تحقيق وزن الدرهم في الأنعام، وقال بعض العلماء : يغتفر في نصاب الفضة النقص اليسير الذي تروج معه الدراهم رواج الكاملة.
وظاهر النصوص أنه لا زكاة إلا في نصاب كامل، لأن الناقص ولو بقليل يصدق عليه أنه دون خمس أواق، والنَّبي صلى الله عليه وسلم : صرح بأن ما دونها ليس فيه صدقة.
فإذا حققت النص والإجماع، على أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي، وهي وزن مائة وأربعين مثقالاً من الفضة الخالصة، فاعلم أن القدر الواجب إخراجه منها ربع العشر بإجماع المسلمين، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«وفي الرقة ربع العشر » والرقة : الفضة.
قال البخاري في صحيحه في باب «زكاة الغنم » : حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، قال : حدثني أبي، قال : حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس ؛ أن أنساً حدثه، أن أبا بكر رضي الله عنه، كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين «بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله » الحديث : وفيه ؛ وفي الرقة : ربع العشر، وهو نص صريح صحيح أجمع عليه جميع المسلمين.
فتحصل أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الزكاة في الفضة، ولا خلاف بينهم في أن نصابها مائتا درهم شرعي، ولا خلاف بينهم في أن اللازم فيها ربع العشر.
وجمهور العلماء : على أنها لا وقص فيها خلافاً لأبي حنيفة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والحسن البصري، والشعبي، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهري، القائلين : بأنه لا شيء في الزيادة على المائتين حتى تبلغ أربعين، ففيها درهم.
وأما الذهب : فجماهير علماء المسلمين، على أن نصابه عشرون ديناراً والدينار : هو المثقال، فلا عبرة بقول من شذ وخالف جماهير علماء المسلمين، كما روي عن الحسن في أحد قوليه : أن نصاب الذهب أربعون ديناراً، وكقول طاوس، أن نصاب الذهب معتبر بالتقويم بالفضة، فما بلغ منه قيمة مائتي درهم وجبت فيه الزكاة. وجماهير علماء المسلمين أيضاً، على أن الواجب فيه ربع العشر.
والدليل على ما ذكرنا عن جمهور علماء الأمة، أن نصاب الذهب عشرون ديناراً، والواجب فيه ربع العشر، ما أخرجه أبو داود، في سننه، حدثنا سليمان بن داود المَهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، وسمي آخر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال :«فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون ديناراً فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فَبِحِسَاب ذلك » قال : فلا أدري أَعَلِيٌ يقول فَبِحِسَاب ذلك، أو رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم ؟ وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا أن جريراً قال : ابن وهب، يزيد في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم :«ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول » اه.
فإن قيل : هذا الحديث مضعف بالحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، لأنهما ضعيفان، وبأن الدارقطني، قال : الصواب وقفه على علي، وبأن ابن المواق قال : إن فيه علة خفية وهي، أن جرير بن حازم، لم يسمعه من أبي إسحاق، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب، سحنون، وحرملة، ويونس، وبحر بن نصر، وغيرهم، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان، عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق، فذكره، قال ابن المواق : الحمل فيه على سليمان، شيخ أبي داود، فإنه وهم في إسقاط رجل اه.
وبأن الشافعي رحمه الله قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة، وأخذ المسلمون
لا يخفى ما في هذه الآية الكريمة من التشديد في الخروج إلى الجهاد على كل حال، ولكنه تعالى بين رفع هذا التشديد بقوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ﴾ [ التوبة : ٩١ ] الآية ؛ فهي ناسخة لها.
قال الشافعي، والليث : إن المراد بالرقاب : المكاتبون.
وروي نحوه عن أبي موسى الأشعري والحسن البصري، ومقاتل بن حيان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والنخعي، والزهري، وابن زيد. ويدل لهذا القول قوله تعالى في المكاتبين :﴿ وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الذي ءَاتَاكُمْ ﴾ [ النور : ٣٣ ] وقال ابن عباس : الرقاب أعم من المكاتبين، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ؛ وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، بأن من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم له العذاب الأليم.
وذكر في «الأحزاب » أنه ملعون في الدنيا والآخرة، وأن له العذاب المهين، وذلك في قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيَا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ [ الأحزاب : ٥٧ ].
صرح في هذه الآية الكريمة بأن المنافقين يحذرون أن ينزل الله سورة تفضحهم وتبين ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخبث. ثم بين أنه مخرج ما كانوا يحذرونه، وذكر في موضع آخر أنه فاعل ذلك، وهو قوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴾ [ محمد : ٢٩ ] إلى قوله :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [ محمد : ٣٠ ]، وبين في موضع آخر شدة خوفهم، وهو قوله :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ [ المنافقون : ٤ ].
صرح في هذه الآية الكريمة : أن المنافقين ما وجدوا شيئاً ينقمونه أي يعيبونه وينتقدونه إلا أن الله تفضل عليهم فأغناهم بما فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة.
والمعنى أنه لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب أو ينقم بوجه من الوجوه، والآية كقوله :﴿ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [ البروج : ٨ ] وقوله :﴿ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ ءَامَنَّا بآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا ﴾ [ الأعراف : ١٢٦ ]. وقوله :﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [ الحج : ٤٠ ].
ونظير ذلك من كلام العرب : قول نابغة ذبيان :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
ما نقموا من أمية إلا | أنهم يضربون إن غضبوا |
فما بك في من عيب فإني | جبان الكلب مهزول الفصيل |
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة شدة حر نار جهنم أعاذنا الله والمسلمين منها وبين ذلك في مواضع أخر كقوله :﴿ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [ التحريم : ٦ ] وقوله :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى ﴾ [ المعارج : ١٥ -١٦ ]. وقوله :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ [ النساء : ٥٦ ]. وقوله :﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ [ الحج : ١٩ – ٢١ ]. وقوله :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]. الآية : وقوله :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اختلف العلماء في وزن جهنم بالميزان الصرفي، فذهب بعض علماء العربية إلى أن وزنه «فعنل » فالنون المضعفة زائدة، وأصل المادة : الجيم والهاء والميم ؛ من تجهم إذا عبس وجهه، لأنها تلقاهم بوجه متجهم عابس. وتتجهم وجوههم وتعبس فيها لما يلاقون من ألم العذاب.
ومنه قوله مسلم بن الوليد الأنصاري :
شكوت إليها حبها فتبسمت | ولم أر شمساً قبلها تتبسم |
فقلت لها جودي فأبدت تجهما | لتقتلني يا حسنها إذ تجهم |
ولا تجهمينا أم عمرو فإنما | بنا داء ظبي لم تخنه عوامله |
عاقب الله.
في هذه الآية الكريمة : المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم لا يؤذن لهم في الخروج مع نبيه، ولا القتال معه صلى الله عليه وسلم لأن شؤم المخالفة يؤدي إلى فوات الخير الكثير.
وقد جاء مثل هذا في آيات أخر كقوله :﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ [ الفتح : ١٥ ] وقوله :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات ؛ والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان، ومنه قول الشنفري :
ولا خالف داريه متربب | يروح ويغدو داهنا يتكحل |
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه إذا أنزل سورة فيها الأمر بالإيمان، والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم، أستأذن الأغنياء من المنافقين في التخلف عن الجهاد مع القدرة عليه، وطلبوا النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يتركهم مع القاعدين المتخلفين عن الغزو.
وبين في موضع آخر أن هذا ليس من صفات المؤمنين، وأنه من صفات الشاكين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وذلك في قوله :﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخر أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخر وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ [ التوبة : ٤٤-٤٥ ]، وبين أن السبيل عليهم بذلك، وأنهم مطبوع على قلوبهم ؛ بقوله :﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [ التوبة : ٩٣ ] الآية : وبين في مواضع أخر شدة جزعهم من الخروج إلى الجهاد، كقوله :﴿ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ [ محمد : ٢٠ ] الآية، وقوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ [ الأحزاب : ١٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان، أنهم داخلون معهم في رضوان الله تعالى، والوعد بالخلود في الجنات والفوز العظيم، وبين في مواضع أخر. أن الذين اتبعوا السابقين بإحسان يشاركونهم في الخير كقوله جل وعلا :﴿ وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ [ الجمعة : ٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ﴾ [ الحشر : ١٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ].
ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة، أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم، أنه ضال مخالف لله جل وعلا، حيث أبغض من رضي الله عنه ؛ ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا، وتمرد وطغيان.
صرح في هذه الآية الكريمة أن من الأعراب، ومن أهل المدينة، منافقين لا يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر تعالى نظير ذلك عن نوح في قوله عنه ؛ ﴿ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الشعراء : ١١٢ ] الآية.
وذكر نظيره عن شعيب عليهم كلهم صلوات الله وسلامه في قوله :﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [ هود : ٨٦ ] اه.
وقد أطلع الله نبيه على بعض المنافقين كما تقدم في الآيات الماضية، وقد أخبر صاحبه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، بشيء من ذلك، كما هو معلوم.
لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه، ولكنه بينها في سورة «مريم » بقوله :﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٧ ].
هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال، وغاية شفقته علينا هو أعظم منن الله تعالى، وأجزل نعمه علينا، وقد بين ذلك في مواضع أخر، كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] الآية : وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم، بالتوكل عليه جل وعلا.
ولا شك أنه ممتثل ذلك، فهو سيد المتوكلين عليه صلوات الله وسلامه، والتوكل على الله تعالى، هو شأن إخوانه من المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه.
كما بين تعالى ذلك في آيات أخر، كقوله عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ﴿ قَالَ إني أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إني تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ ﴾ [ هود : ٥٤ – ٥٦ ] الآية : وقوله تعالى عن نوح :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ ﴾ [ يونس : ٧١ ] وقوله تعالى عن جملة الرسل :﴿ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا ﴾ [ إبراهيم : ١٢ ] الآية :
ومن أوضح الأدلة على عظم توكل نبينا صلى الله عليه وسلم على الله، قوله يوم حنين، وهو على بغلة في ذلك الموقف العظيم.
أنا النَّبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب