تفسير سورة التوبة

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ
سورة التوبة

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة التوبة، توخيت فيه أن أبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية، وآداب عالية، وهدايات شاملة، وحكم جليلة، وتراكيب بليغة..
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، ونافعاً لعباده، وشفيعاً لنا عنده –سبحانه- يوم نلقاه، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف
د. محمد سيد طنطاوي
تمهيد بين يدي تفسير سورة التوبة
نقصد بهذا التمهيد –كما سبق أن بينا في تفسير السورة السابقة –إعطاء القارئ صورة واضحة عن السورة التي سنفسرها قبل أن نبدأ في تفسيرها آية آية. فنقول :
١- سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال.
٢- وعدد آياتها مائة وتسعة وعشرون آية عند الكوفيين. ومائة وثلاثون آية عند جمهور العلماء.
٣- أسماؤها :
عرفت هذه السورة منذ العهد النبوي بجملة من الأسماء منها :
( أ‌ ) التوبة : وسميت بهذا الاسم لتكرار الحديث فيها عن التوبة والتائبين ومن ذلك قوله –تعالى- :[ فإن تبتم فهو خير لكم... ]( ١ ).
وقوله –تعالى- :[ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ]( ٢ ).
وقوله –تعالى- :[ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ]( ٣ ).
قوله –تعالى- :[ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم... ]( ٤ ).
وقوله –تعالى- :[ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم... ]( ٥ ).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تكررت في هذه السورة عن التوبة والتائبين.
( ب‌ ) براءة : وسميت بذلك لافتتاحها بقوله –سبحانه- :[ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين... ].
وهذان الاسمان –التوبة وبراءة- هما أشهر أسماء هذه السورة الكريمة.
( ج ) الفاضحة : وسميت بهذا الاسم لحديثها المستفيض عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم.. وفضيحتهم على رءوس الأشهاد.
أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة التوبة قال : التوبة هي الفاضحة. مازالت تنزل : ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحداً منهم إلا ذكر فيها( ٦ ).
( د ) المنقرة : وسميت بذلك، لأنها نقرت عما في قلوب المنافقين والمشركين فكشفت عنه، وأظهرته للناس.
( ه ) المثيرة : وسميت بهذا الاسم، لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم. أي : أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.
( و ) المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم. أي بينتها وعرفتها للمؤمنين.
( ز ) المدمرة : أي المهلكة لهم.
إلى غير ذلك من الأسماء التي اشتهرت بها هذه السورة الكريمة( ٧ ).
هذا، وليس في سور القرآن الكريم أكثر أسماء منها ومن سورة الفاتحة.
٤- زمان ومكان نزولها :
قال ابن كثير : هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري... " ( ٨ ).
وقال صاحب المنار : هي مدنية بالاتفاق. وقيل : إلا قوله –تعالى- [ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى... ] الآية وذلك لما روى في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب –كما سيأتي تفصيله عند تفسيرها.
ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.
واستثنى ابن الفرس قوله –تعالى- [ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ] إلى آخر الآيتين اللتين في آخرها ؛ فزعموا أنهما مكيتان.
ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين من آخر ما نزل من القرآن. كما يرده أيضا قول الكثيرين من أن هذه السورة نزلت تامة.
وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات، يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول، كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا. أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيراً في مقام الاستدلال. وهذا لا يدل على نزولها وحدها، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة " ( ٩ ).
وقال بعض العلماء : ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك.. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.
ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى منها : كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام.
المرحلة الثانية : كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها.
المرحلة الثالثة : كانت بعد العودة منها.
أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها، فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج من ذي القعدة أو في ذي الحجة.
وهذا –على الإجمال- هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه( ١٠ ).
والذي نراه أن هذا القول هو الذي تسكن إليه النفس في الحديث عن زمان ومكان نزول السورة الكريمة ؛ لأن الذي يستعرض آياتها يراها –في مجموعها- ترسم للمؤمنين ما يجب أن تكون عليه علاقاتهم مع المشركين، ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ؛ ومع غيرهم من الطوائف.
كما يراها ترسم لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتخذوه أساساً لدولتهم. ومنهاجاً لحياتهم، حتى تستمر عزتهم، وتبقى كلمتهم عالية قوية بعد أن فتح الله لهم مكة وأذل الشرك وأهله.
كما يراها –أيضاً- تتحدث باستفاضة عن أحداث قد وقعت خلال غزوة تبوك أو قبلها أو بعدها. وغزوة تبوك قد كانت في السنة التاسعة من الهجرة.
٥- لماذا لم تذكر البسملة في أول سورة التوبة ؟
للإجابة على هذا السؤال ذكر العلماء أقوالاً متعددة لخصها القرطبي تلخيصاً حسنا فقال :
واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة : الأول :-أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية، إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه، كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه بسملة ؛ فلما نزلت سورة براءءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم في الموسم، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهود من ترك البسملة.
وقول ثان :-روى النسائي قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف، قال : حدثنا يزيد الرقاشي –وفي صحيح الترمذي يزيد الفارسي- قال : قال لنا ابن عباس : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى " الأنفال " وهي من المثاني، وغلى " براءة " وهي من المثين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحميم، ووضعتموها في السبع الطوال ؛ فما حملكم على ذلك ؟
قال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " وكانت " الأنفال " من أوائل ما أنزل –أي بعد الهجرة، و " براءة " من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم.
وقول ثالث : روي عن عثمان أيضاً. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه.
وروى ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها : فلذلك لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال سعيد بن جبير : كانت مثل سورة البقرة.
وقول رابع :-قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم : هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال إنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان معاً، وثبت حجتاهما في المصحف.
وقول خامس : قال عبد الله بن عباس : سألت علي بن أبي طالب لماذا لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان.
-وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
ثم قال القرطبي والصحيح أن التسمية لم تكتب، لأن جبريل –عليه السلام- ما نزل بها في هذه السورة.. " ( ١١ ).
هذا، وقول القرطبي : والصحيح أن التسمية لم تكتب... إلخ، هو القول الذي نعتمده، وتطمئن إليه قلوبنا، وقد رجحه المحققون من العلماء.
فقد قال الفخر الرازي –وذكر ستة أوجه في سبب إسقاط التسمية من أولها - :
الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا، وأنه حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا( ١٢ ).
وقال الجلال : ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك، كما يؤكد من حديث رواه الحاكم.
أي أنه –كما يقول الجمل- لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك، وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف. وحيث لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تعين ترك التسمية، لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم " ( ١٣ ).
وقال بعض العلماء : ولم تكتب في أولها البسملة لعدم أمره صلى الله عليه وسلم بكتابتها، إذ لم ينزل بها جبريل –عليه السلام- والأصل في ذلك التوقيف ".
أما الأقوال الخمسة التي نقلناها عن القرطبي –منذ قليل- في سبب سقوط البسملة من أول سورة التوبة، فإننا لا نرى واحداً منها يعتمد عليه في هذا الأمر. لأن القول الأول الذي حكاه بقوله : قيل كان من شأن العرب... إلخ. إنما هو تعليل عقلي على سبيل الاجتهاد لبيان الحكمة في عدم كتابة البسملة في أولها. ومثل هذا التعليل يقال في القول الخامس الذي حكاه ابن عباس، عن علي بن أبي طالب.
وأما القول الثاني –وهو الحديث الذي رواه النسائي والترمذي- فقد علق عليه أحد العلماء المحققين بقوله : " في إسناده نظر كثير، بل هو عندي ضعيف جداً، بل هو حديث لا أصل له. يدور إسناده في كل رواياته على " يزيد الفارسي ".. ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه : أهو يزيد بن هرمز أم غيره.
قال البخاري في التاريخ الكبير : " قال لي علي : قال عبد الرحمن : يزيد الفارسي هو ابن هرمز. قال : فذكرته ليحيى فلم يعرفه، قال : " وكان يكون مع الأمراء ". وفي التهذيب : " قال ابن أبي حا
١ - الآية ٣..
٢ - الآية ١١..
٣ - الآية ٢٧..
٤ - الآية ١٠٢..
٥ - الآية ١٠٦..
٦ - صحيح البخاري: ج٦ ص١٨٣ – طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٤٥..
٧ - راجع تفسير الآلوسي ج١٠ ص٣٦. الطباعة المنبرية الطبعة الثانية..
٨ - تفسير ابن كثير ج٢ ص٢٣١. طبعة عيسى الحلبي..
٩ - تفسير المنار ج١٠ ص١٧٤..
١٠ - تفسير "في ظلال القرآن" للمرحوم سيد قطب. الطبعة الخامسة سنة ١٣٨٦هـ وسنة ١٩٦٧م..
١١ - تفسير القرطبي ج٨ ص٦١. طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٨٠هـ سنة ١٩٦١م..
١٢ - تفسير الفخر الرازي ج١٥ ص٢١٦. طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٣٥٧هـ سنة ١٩٣٨م..
١٣ - حاشية الجمل على الجلالين ج٢ ص٢٦١. طبعة عيسى الحلبي..
تفسير سورة التوبة قال تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٤]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
قال الإمام ابن كثير: أول هذه السورة نزل على رسول الله ﷺ لما رجع من غزوة «تبوك» وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق- رضى الله عنه- أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادى بالناس بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. ، فلما قفل أتبعه بعلى بن أبى طالب، ليكون مبلغا عنه ﷺ لكونه عصبة له «١».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣١ طبعة عيسى الحلبي.
194
وقال محمد بن إسحاق: لما نزلت بَراءَةٌ على رسول الله ﷺ وقد كان بعث أبا بكر الصديق- رضى الله عنه- ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتي».
ثم دعا على بن أبى طالب فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد فهو له إلى مدته.
فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله ﷺ «العضباء» حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية.
حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله ﷺ «١».
وقال الفخر الرازي: روى أن النبي ﷺ لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا الأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله ﷺ العهد إليهم «٢».
هذه بعض الآثار التي ذكرها المفسرون في هذا المقام.
وقوله- تعالى-: بَراءَةٌ مصدر برئ «كتعب»، وأصل البراءة: التباعد عن الشيء والتخلص منه. تقول: برئت من هذا الشيء أبرأ براءة فأنا منه برىء، إذا أزلته عن نفسك، وقطعت الصلة بينك وبينه. ومنه قولهم: برئت من الدين أى تخلصت منه.
(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٩٠ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٥٥ هـ سنة ١٩٣٦ م تحقيق مصطفى السقا.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢١٧ طبعة عبد الرحمن محمد.
195
ولفظ بَراءَةٌ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتنوين فيه للتفخيم ومِنَ لابتداء الغاية، والعهد: العقد الموثق باليمين، والخطاب في قوله عاهَدْتُمْ للمسلمين.
والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين بسبب نقضهم لعهودهم، وإصرارهم على باطلهم...
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟.
قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أولا، فاتفق المسلمون مع رسول الله ﷺ وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله- تعالى- النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك فقيل لهم: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.
وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناسا منهم، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين..» «١».
وقال بعض العلماء:
والمعنى أن الله قطع ما بينه وبين المشركين من صلات فلا عهد ولا تعاهد ولا سلم ولا أمان، وتركهم تعمل فيهم سيوف المؤمنين حتى يقوموهم أو يبيدوهم. ولا يدخل في هذا التبري قطع رحمته العامة عنهم التي كتبها على نفسه من جهة أنه الخالق وأنهم المخلوقون فهو مع هذا التبري لا يزال من هذه الجهة يرحمهم بمنح الحياة وموارد الرزق، والتمكين من العمل حسب تقديره العام وسنته الشاملة في خلقه ولو أن التبري كان على إطلاقه لما عاش كافر طرفة عين، ولما استطاع كافر أن يقف في وجه مسلم.
فالآية تقرر حكما تكليفيا للمسلمين في شأن معاملة المشركين..
واعتبار أن الآية تقرر حكما شرعيا والمشرع هو الله أضيف صدور البراءة إليه- سبحانه- وعطف عليه الرسول ﷺ في هذا المقام، لأنه هو المبلغ عنه، والمنفذ لما يبلغه..
ولما كان التعاهد بين المؤمنين وغيرهم تنفيذا لأمر الله به، وأصله حق لجماعتهم، وإنما يقوم الإمام به نائبا عن الجماعة، أضيف- أى التعاهد- إلى جماعة المسلمين، فقيل:
عاهَدْتُمْ.. وكثيرا ما ينسب القرآن الأحكام العامة لجماعة المؤمنين...
ويؤخذ من تقرير البراءة من المشركين في هذه الآية جواز نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٢ طبعة دار الكتاب العربي ببيروت.
196
عهد متى رأى الإمام مصلحة الأمة في ذلك، كأن خيف منهم خيانة، أو نقضوا شيئا من شروط المعاهدة، أو وضعت المعاهدة على غير شرط احترامها الشرعي، وذلك كله أخذا من هذا المقام، ومن قوله- تعالى- في سورة الأنفال: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ.
كما يؤخذ أن عقد المعاهدات إنما هو حق للجماعة، يوافق عليه أصحاب الرأى والاختصاص في موضوع المعاهدة، وما هو في مصلحة الجماعة، ثم يباشرها الإمام بعد ذلك نيابة عن الجماعة «١».
وقوله- تعالى-:
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بيان للمهلة التي منحها- سبحانه- للمشركين ليدبروا فيها أمرهم.
والسياحة في الأصل: جريان الماء وانبساطه على موجب طبيعته، ثم استعملت في الضرب في الأرض والاتساع في السير والتجوال. يقال: ساح فلان في الأرض سيحا وسياحة وسيوحا إذا تنقل بين أرجائها كما يشاء.
والخطاب للمؤمنين على تقدير القول. أى: فقولوا أيها المؤمنون للمشركين سيحوا في الأرض أربعة أشهر.
ويجوز أن يكون الخطاب للمشركين أنفسهم على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الحضور، لقصد تهيئة خطابهم بالوعيد المذكور بعد ذلك في قوله- سبحانه- وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ.
والمقصود بالأمر في قوله: فَسِيحُوا الإباحة والإعلام بحصول الأمان لهم في تلك المدة من أن يقتلوا أو يقاتلوا أو يعتدى عليهم..
والمعنى: قولوا أيها المسلمون للمشركين- بعد هذه البراءة منهم، سيحوا في الأرض، أى: سيروا فيها مقبلين ومدبرين حيث شئتم وأنتم آمنون في هذه المدة.
وفي التعبير بقوله فَسِيحُوا من الدلالة على كمال التوسعة، ما ليس في قوله سِيرُوا أو ما يشبهه، لأن لفظ السياحة يدل على الاتساع في السير والبعد عن المدن، وعن موضع العمارة.
(١) تفسير القرآن الكريم ص ٦١٢ لفضيلة الإمام الأكبر محمود شلتوت. [.....]
197
والحكمة في إعطائهم هذه المدة تمكينهم من النظر والتدبر في أمر أنفسهم حتى يختاروا ما فيه مصلحتهم، ويعلموا أنهم ليس أمامهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو السيف، ولكي لا ينسب إلى المسلمين الغدر ونبذ العهد دون إعلام أو إنذار.
وهذا من سمو تعاليم الإسلام. تلك التعاليم التي لم تبح لأتباعها أن يأخذوا أعدى أعدائهم على غرة، بل منحت هؤلاء الأعداء مهلة كافية يدبرون فيها أمر أنفسهم وهم آمنون من أن يتعرض لهم أحد من المسلمين بأذى.
ومتى كان ذلك؟ كان ذلك في الوقت الذي نقض فيه المشركون عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وفي الوقت الذي أرجف فيه المرجفون أن المسلمين لن يعودوا من تبوك سالمين، بل إن الروم سيأخذونهم أسرى، وفي الوقت الذي كانت المجتمعات فيه يغزو بعضها بعضا بدون إنذار أو إعلام...
فإن قيل: وما الحكمة في تقدير هذه المهلة بأربعة أشهر؟
فالجواب- كما يقول الجمل- اقتصر على الأربعة- هنا لقوة المسلمين إذ ذاك، بخلاف صلح الحديبية فإنه كان لمدة عشر سنين لضعف المسلمين إذ ذاك، والحاصل أن المقرر في الفروع أنه إذا كان بالمسلمين ضعف جاز عقد الهدنة عشر سنين فأقل، وإذا لم يكن بهم ضعف لم تجز الزيادة على أربعة أشهر «١».
وقال بعض العلماء: ولعل الحكمة في تقدير تلك المدة بأربعة أشهر، أنها هي المدة التي كانت تكفى- إذ ذاك بحسب ما يألفون- لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض، والتقلب في شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه في تكوين الرأى الأخير، وفيه فوق ذلك مسايرة للوضع الإلهى في جعل الأشهر الحرم من شهور السنة أربعة.
على أنا نجد في القرآن جعل الأربعة الأشهر أمدا في غير هذا فمدة إيلاء الرجل من زوجه أربعة أشهر- وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.
ولعل ذلك- وراء ما يعلم الله- أنها المدة التي تكفى بحسب طبيعة الإنسان لتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى النظر، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيه إلى ما يقصد فيه.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٣. طبعة عيسى الحلبي.
198
ويؤخذ من تقرير الهدنة للأعداء في هذا المقام تقرر مبدأ الهدنة والصلح في الإسلام، طلبها العدو أم تقدم بها المسلمون، وأصل ذلك مع هدنة المشركين هذه قوله- تعالى- في سورة الأنفال.. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإمام وأرباب الشورى المقررة في قوله- تعالى- وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «١».
وقد اختلف المفسرون في ابتداء هذه الأشهر الأربعة فقال مجاهد والسدى وغيرهما: كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر من السنة التاسعة ونهايتها في العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة، وذلك لأن المشركين قد أعلموا بهذه المهلة يوم النحر من السنة التاسعة على لسان على بن أبى طالب- كما سبق أن بينا.
وقيل كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم النحر لعشر من ذي القعدة من السنة التاسعة ونهايتها في اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من السنة العاشرة، وذلك لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي ابتدعه المشركون.
والرأى الأول أرجح وعليه الأكثرون، لأن معظم الآثار تؤيده. وكذلك اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فيمن تنطبق عليهم هذه المهلة، فقال مجاهد هذا تأجيل للمشركين مطلقا، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها، ومن كانت أكثر حط إليها، ومن كان عهده بغير أجل حد بها. ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك، ويؤسر، إلا أن يتوب ويؤمن «٢».
وقال آخرون: كانت هذه الأربعة الأشهر مهلة لمن له عهد دون الأربعة الأشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت هذه المدة لقوله- تعالى- بعد ذلك: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ.
وهذا القول قد اختاره ابن جرير وغيره، فقد قال ابن جرير- بعد أن ذكر عدة أقوال في ذلك:
«وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله ﷺ ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم، ولم يظاهروا عليه، فإن الله- تعالى- أمر نبيه ﷺ بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، ثم قال: وبعد ففي
(١) تفسير القرآن الكريم ص ٦١٦ لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت. طبعة دار القلم. الطبعة الرابعة سنة ١٩٦٦.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٣.
199
الأخبار المتظاهرة عن رسول الله ﷺ أنه حين بعث عليا ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادى به فيهم «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته». وهو أوضح دليل على صحة ما قلنا.
وذلك أن الله لم يأمر نبيه ﷺ بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل، فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل، أو كان له عهد إلى أجل غير محدود، فأما من كان أجل عهده محدودا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا، فإن رسول الله ﷺ كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا، وبذلك بعث مناديه في أهل الموسم من العرب..» «١».
والذي يبدو لنا بعد مراجعة الأقوال المتعددة في شأن من تنطبق عليهم هذه المهلة من المشركين- أن ما اختاره ابن جرير هو خير الأقوال وأقواها، لأن النصوص من الكتاب والسنة تؤيده.
ومن أراد معرفة هذه الأقوال بالتفصيل فليراجع ما كتبه المفسرون في ذلك.
ثم بين- سبحانه- أن هذا الإمهال للمشركين لن ينجيهم من إنزال العقوبة بهم متى استمروا على كفرهم فقال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ.
أى: واعلموا- أيها المشركون- أنكم بسياحتكم في الأرض خلال تلك المهلة لن تعجزوا الله- تعالى- في طلبكم، فأنتم حيثما كنتم تحت سلطانه وقدرته، واعلموا كذلك أنه- سبحانه- مذل للكافرين، في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب المهين.
فالآية الكريمة قد ذيلت بما يزلزل قلوب المشركين بالحقيقة الواقعة، وهي أن ذلك الإمهال لهم، وتلك السياحة في الأرض منهم، كل هذا لن يجعلهم في مأمن من عقاب الله، ومن إنزال الهزيمة بهم، لأنهم في قبضته.
ومهما أعدوا خلال تلك المهلة من عدد وعدد لقتال المؤمنين، فإن ذلك لن ينفعهم، لأن سنته- سبحانه- قد اقتضت أن يجعل النصر والفوز للمؤمنين والخزي والسوء على الكافرين.
قال الفخر الرازي ما ملخصه، وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ. المقصود منه: أنى أمهلتكم- أيها المشركون- وأطلقت لكم السياحة في الأرض- فافعلوا كل ما
(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٦٢ طبعة مصطفى الحلبي الطبعة الثانية سنة ١٣٧٣.
200
أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون الله بل الله هو الذي يعجزكم، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملكه وتحت سلطانه.. «١».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة من المشركين حتى لا يكون لهم عذر بعد هذا الإعلان فقال- تعالى-:
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ....
الأذان: الإعلام تقول: آذنته بالشيء إذا أعلمته به. ومنه الأذان للصلاة أى الإعلام بحلول وقتها. وهو بمعنى الإيذان كما أن العطاء بمعنى الإعطاء.
قال الجمل: وهو مرفوع بالابتداء. ومِنَ اللَّهِ إما صفته أو متعلق به إِلَى النَّاسِ الخبر، ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف. أى: وهذه، أى: الآيات الآتي ذكرها إعلام من الله ورسوله... «٢».
والمعنى: وهذه الآيات إيذان وإعلان من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم، بسبب إصرارهم على شركهم ونقضهم لمواثيقهم.
وأسند- سبحانه- الأذان إلى الله ورسوله، كما أسندت البراءة إليهما، إعلاء لشأنه وتأكيدا لأمره:
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت.
فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت:
لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس «من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث «٣» ».
واختير يوم الحج الأكبر لهذا الإعلام، لأنه اليوم الذي يضم أكبر عدد من الناس يمكن أن يذاع الخبر عن طريقهم في جميع أنحاء البلاد.
وأصح ما قيل في يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر. وقيل: هو يوم عرفة، وقيل: هو جميع أيام الحج.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٢٠.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٥.
(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٤.
201
وقد رجح ابن جرير- بعد أن بسط الأقوال في ذلك- أن المراد بيوم الحج الأكبر: يوم النحر فقال. وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا: قول من قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، لتظاهر الأخبار عن جماعة من الصحابة أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله ﷺ إلى المشركين يوم النحر، هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله ﷺ أنه قال يوم النحر: «أتدرون أى يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر» «١».
وقال بعض العلماء: قال ابن القيم: والصواب أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة. وفي سنن أبى داود بأصح إسناد أن رسول الله ﷺ قال: «يوم الحج الأكبر يوم النحر»، وكذا قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة.. ويكون فيه ذبح القرابين، وحلق الرءوس، ورمى الجمار، ومعظم أفعال الحج «٢».
وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التي حكت ما كان ينادى به على بن أبى طالب والناس يوم الحج الأكبر ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال: كنت مع على بن أبى طالب حين بعثه النبي ﷺ ينادى، فكان إذا صحل ناديت- أى كان إذا بح صوته وتعب من كثرة النداء ناديت- قلت: بأى شيء كنتم تنادون؟ قال:
بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فعهده إلى مدته «٣».
وسمى يوم النحر بالحج الأكبر، لأن العمرة كانت تسمى بالحج الأصغر ولأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج- كما قال ابن القيم.
هذا، وللعلماء أقوال في إعراب لفظ وَرَسُولِهِ من قوله- تعالى- أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. وقد لخص الشيخ الجمل هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال: قوله وَرَسُولِهِ بالرفع باتفاق السبعة وقرئ شاذا بالجر على المجاورة. أو على أن الواو للقسم وقرئ شاذا أيضا بالنصب على أنه مفعول معه، أو معطوف على لفظ الجلالة، وفي الرفع ثلاثة
(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ من ص ٦٧ إلى ص ٧٦.
(٢) تفسير القاسمى- بتصرف يسير- ج ٨ ص ٢٠٦٨، طبعة عيسى الحلبي الطبعة الأولى سنة ١٣٧٧ هـ سنة ١٩٥٨.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣٣.
202
وجوه: أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أى: ورسوله برىء منهم، وإنما حذف للدلالة عليه.
والثاني أنه معطوف على الضمير المستتر في الخبر... والثالث: أنه معطوف على محل اسم أن «١»... ».
ثم أردف- سبحانه- هذا الإعلام بالبراءة من عهود المشركين بترغيبهم في الإيمان وتحذيرهم من الكفر والعصيان فقال: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
أى: فإن تبتم أيها المشركون من كفركم، ورجعتم إلى الإيمان بالله وحده واتبعتم ما جاءكم به محمد ﷺ فهو أى المتاب والرجوع إلى الحق خَيْرٌ لَكُمْ من التمادي في الكفر والضلال: وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإيمان، وأبيتم إلا الإقامة على باطلكم فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أى: فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله، ولا إفلات لكم من أخذه وبطشه، لأنكم أينما كنتم فأنتم في قبضته وتحت قدرته.
وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ تذييل قصد به تأكيد زجرهم عن التولي والإعراض عن الحق.
أى: وبشر- يا محمد- هؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم بالعذاب الأليم في الآخرة بعد إنزال الخزي والمذلة بهم في الدنيا.
ولفظ البشارة ورد هنا على سبيل الاستهزاء بهم، كما يقال: تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشتم.
وقوله- تعالى- بعد ذلك: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ استثناء من المشركين في قوله:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
والمعنى: اعلموا. أيها المؤمنون أن الله ورسوله بريئان من عهود المشركين بسبب نقضهم لها، لكن الذين عاهدتموهم منهم ولم ينقضوا عهودهم، ولم ينقصوكم شيئا من شروط العهد، ولم يعاونوا عليكم أحدا من الأعداء، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ولا تعاملوهم معاملة الناكثين.
فالآية الكريمة تدل على أن المراد بالمشركين الذين تبرأ الله ورسوله منهم وأعطوا مهلة الأربعة الأشهر، هم أولئك الذين عرفوا بنقض العهود.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٤.
203
أما الذين عاهدوا ووفوا بعهودهم، فإن هؤلاء يجب إتمام عهدهم إلى مدتهم وفاء بوفاء، وكرامة بكرامة.
وعبر- سبحانه- بثم في قوله: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادى المدة وتطاولها.
وقراءة الجمهور يَنْقُصُوكُمْ بالصاد المهملة، وعليها يجوز أن يتعدى لواحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أى: لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا، ويجوز أن يتعدى لاثنين فيكون شيئا مفعوله الثاني، أى: لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد بل أدوها بتمامها.
وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وأبو زيد ثم لم ينقضوكم بالضاد المعجمة وهي على حذف مضاف أى: ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وفي تنكير كلمة «شيئا» وكلمة «أحدا» دلالة على أن انتقاص المعاهدة ولو شيئا يسيرا، وأن معاونة الأعداء بأى وسيلة مهما قلت كل ذلك مبيح لنبذ العهد، لأن الخيانة الصغيرة كثيرا ما تؤدى إلى الخيانة الكبيرة.
قالوا: والمراد بهؤلاء الذين أمر المسلمون بإتمام عهدهم معهم: بنو ضمرة وبنو مدلج وهم من قبائل بنى بكر وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، ولم ينقضوا مواثيقهم.
وقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال، والتنبيه على أن الوفاء بالعهد إلى نهايته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ويحبهم بسببها.
قال صاحب المنار: والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره.
فإن نقص شيئا ما من شروط العهد، وأخل بغرض ما من أغراضه عد ناقضا، لقوله- تعالى- ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً، ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي فيصدق بأدنى إخلال بالعهد.
ومن الضروري أن من شروطه التي ينتقض بالإخلال بها، عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا، وقد صرح بهذا للاهتمام به، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر، أى معاونته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به، كمباشرته للقتال بنفسه.
204
يقال: ظاهره إذا عاونه، وظاهره عليه إذا ساعده عليه، وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة، ومنه بعير ظهير أى قوى» «١».
وقال بعض العلماء: ويؤخذ من هذا أن الإسلام يقرر في حالة نبذ العهود لزوم إعلان العدو بذلك النبذ، على وجه يمكن العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته.
وفي ذلك يقول الكمال بن الهمام الفقيه الحنفي، وهو بصدد قوله، تعالى. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أنه لا يكفى مجرد إعلانهم، بل لا بد من مضى مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شيء من أطرافهم قبل مضى المدة.
وذلك كله أثر من آثار وجوب رعاية العهد والبعد عن النكث بكل ما يستطاع «٢».
وبعد أن قررت السورة الكريمة براءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين، وأمرت بالوفاء لمن وفي بعهده منهم.. بعد كل ذلك أخذت في بيان كيفية معاملة المشركين بعد انتهاء المهلة الممنوحة لهم فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وقوله: انْسَلَخَ من السلخ بمعنى الكشط، يقال: سلخ الإهاب عن الشاة يسلخه ويسلخه سلخا إذا كشطه ونزعه عنها. أو بمعنى الإخراج من قولهم: سلخت الشاة عن الإهاب إذا أخرجتها منه، ثم استعير للانقضاء والانتهاء فانسلاخ الأشهر استعارة لانقضائها والخروج منها.
قال الآلوسى: والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة وذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان، وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ١٨٤.
(٢) تفسير القرآن الكريم ص ٦١٨ لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت.
205
بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدى المسلمين فنيط قتالهم بزوالها» «١».
والمراد بالأشهر الحرم: أشهر الأمان الأربعة التي سبق ذكرها في قوله، تعالى، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وعليه فتكون أل في قوله الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ للعهد الذكرى.
وسميت حرما لأنه. سبحانه. جعلها فترة أمان للمشركين، ونهى المؤمنين عن التعرض لهم فيها.
ووضع- سبحانه- المظهر موضع المضمر حيث لم يقل فإذا انسلخت، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها.
وقيل المراد بالأشهر الحرم هنا: الأشهر المعروفة وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير.
قال ابن كثير: وفيه نظر، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفى عنه وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، وابن إسحاق، وقتادة والسدى وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن المراد بها أشهر التيسير الأربعة المنصوص عليها بقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثم قال فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أى: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم، وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتى بيان حكمها في آية أخرى وهي قوله- تعالى- إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً... «٢».
والمراد بالمشركين في قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أولئك الخائنون الذين انتهت مدة الأمان لهم، أما الذين لم يخونوا ولهم عهود مؤقتة بمدة معينة فلا يحل للمسلمين قتالهم، إلا بعد انتهاء هذه المدة، كما سبق أن بينا قبل قليل تفسير قوله- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ....
والمعنى: فإذا انتهت هذه الأشهر الأربعة التي جعلها الله مهلة للخائنين، فاقتلوا- أيها المؤمنون- أعداءكم المشركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أى: في أى مكان تجدونهم فيه
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٤٤. طبعة منير الدمشقي. [.....]
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣٥- بتصرف يسير-.
206
وَخُذُوهُمْ وهو كناية عن الأسر، وكانت العرب تعبر عن الأسير بالأخيذ، وَاحْصُرُوهُمْ أى: وامنعوهم من الخروج إذا كانت مصلحتكم في ذلك وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ والمرصد الموضع الذي يقعد فيه للعدو لمراقبته، يقال: رصدت الشيء أرصده رصدا ورصدا إذا ترقبته.
والمعنى: واقعدوا لهم في كل موضع يجتازون منه في أسفارهم، حتى تسد السبل في وجوههم، وتضعف شوكتهم، وتذهب ريحهم، فيستسلموا لكم.
والمتدبر لهذه الآية الكريمة يرى أن هذه الوسائل الأربع- القتل والأسر والمحاصرة والمراقبة- هي الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأعداء، ولا يخلو عصر من العصور من استعمال بعضها أو كلها عند المهاجمة.
وهكذا نرى تعاليم الإسلام تحض المسلمين على استعمال كل الوسائل المشروعة لكيد أعدائهم، والعمل على هزيمتهم.. ، ما دام هؤلاء الأعداء مستمرين في طغيانهم وعدوانهم وانتهاكهم لحدود الله- تعالى-.
أما إذا فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا له، فإن الآية الكريمة ترفع عنهم السيف، وتأمر المؤمنين بإخلاء سبيلهم.
استمع إلى بقيتها حيث تقول: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أى: عليكم- أيها المؤمنون- إذا ما انتهت أشهر الأمان الأربعة أن تقتلوا المشركين الناكثين لعهودهم أينما وجدتموهم وأن تأسروهم وتحبسوهم وتراقبوهم على كل طريق حتى تضعف شوكتهم فينقادوا لكم.. فَإِنْ تابُوا عن الشرك بأن دخلوا في الإسلام فاتركوا التعرض لهم، وكفوا عن قتالهم، وافتحوا المسالك والطرق في وجوههم.
واكتفى- سبحانه- بذكر الصلاة والزكاة عن ذكر بقية العبادات، لكونهما الأساسين للعبادات البدنية والمالية.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل قصد به التعليل لوجوب إخلاء سبيلهم أى، إن فعلوا ذلك فخلوا سبيلهم، ولا تعاملوهم بما كان منهم من شرك، فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن الله قد غفر لهم ما سلف من الكفر والغدر بفضله ورحمته.
قال الإمام ابن كثير: وقد اعتمد الصديق- رضى الله عنه- في قتال ما نعى الزكاة على هذه الآية وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي
207
هي حق الله- تعالى- وبعدها الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيرا ما يقرن الله الصلاة والزكاة.
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة».
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» ورواه البخاري وغيره.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ثم قال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه «١».
وبذلك ترى هذه الآية قد جمعت في إرشادها بين الترغيب والترهيب فقد أمرت المؤمنين بأن يستعملوا مع أعدائهم كل الوسائل المشروعة لإرهابهم ثم أمرتهم في الوقت نفسه بإخلاء سبيلهم متى تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة..
وبعد أن بين- سبحانه- حكم المصرين على الشرك وهو قتالهم وأخذهم، وحكم الراجعين عنه وهو إخلاء سبيلهم. بعد ذلك بين- سبحانه- حكم المشركين الذين يطلبون الأمان لمعرفة شرائع الإسلام فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
وقوله: استجارك، أى، طلب جوارك وحمايتك من الاعتداء عليه، وقد كان من الأخلاق الحميدة المتعارف عليها حماية الجار والدفاع عنه، حتى سمى النصير جارا، وعلى هذا المعنى جاء قوله، تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ «٢» أى: نصير لكم.
وإِنْ شرطية وأَحَدٌ مرفوع بفعل مضمر يفسره الفعل الظاهر وهو
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٥. بتصرف وتلخيص.
(٢) سورة الأنفال الآية ٤٨.
208
اسْتَجارَكَ والمعنى: وإن استأمنك- يا محمد- أحد من المشركين، وطلب جوارك وحمايتك بعد انقضاء مدة الأمان المحددة له، فَأَجِرْهُ أى: فأمنه وأجبه إلى طلبه، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ أى: لكي يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه من تعاليم مقنعة للعقول السليمة بأن الشرك ظلم عظيم..
واقتصر على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم، لأنهم من أهل الفصاحة والبلاغة، وقد كان سماع بعضهم لشيء من كلام الله سببا في هدايته.
وقوله: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ بيان لما يجب على المسلمين نحو هذا المشرك المستجير إذا ما استمع إلى كلام الله ثم بقي على شركه.
أى: عليك- يا محمد- أن تجيره حتى يسمع كلام الله ويتدبره ولا يبقى له عذر في الإصرار على شركه، فإن آمن بعد سماعه صار من أتباعك، وإن بقي على شركه وأراد الرجوع إلى جماعته، فعليك أن تحافظ عليه حتى يصل إلى مكان أمنه واستقراره، وهو ديار قومه: ثم بعد ذلك يصبح حكمه كحكم المصرين على الشرك، ويعامل بما يعاملون به.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ يعود إلى الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن.
أى: ذلك الذي أمرناك به من إجارة المستجير من المشركين وإبلاغه مأمنه إذا لم يسلم، بسبب أنهم قوم لا يعلمون الإسلام ولا حقيقة ما تدعوهم إليه أى قوم يحتاجون إلى فترة من الوقت يسمعون كلام الله فيها وهم آمنون، وبهذا السماع منك ومن أصحابك لا يبقى لهم عذر أصلا في استمرارهم على الباطل.
عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من المشركين إلى على بن أبى طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتى إلى محمد ﷺ بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة: قتل؟
فقال له على لا، لأن الله يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ الآية «١».
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من الآية ما يأتى:
١- أن المستأمن لا يؤذى، بل يجب على المسلمين حمايته في نفسه وماله وعرضه مادام في دار الإسلام، وقد حذر الإسلام أتباعه من الغدر أشد تحذير، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن النبي ﷺ أنه قال: «من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا برىء من القاتل وإن كان المقتول كافرا».
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢٨.
209
وروى الشيخان وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» «١».
٢- يلحق بالمستجير الطالب لسماع كلام الله من كان طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا، ومن كان طالبا للجواب على الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام، لأن هؤلاء وأمثالهم يطرقون باب الفهم والمعرفة ويبحثون عن الحق فعلينا أن نحميهم، وأن نبذل أقصى الجهود في تعليمهم وإرشادهم وإزالة الشبهات عنهم، لعل الله أن يشرح صدورهم للإسلام بسبب هذا التعليم والإرشاد.
قال ابن كثير: كان رسول الله ﷺ يعطى الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين لرسولهم ﷺ ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم، وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم «٢».
٣- على الإمام أو من يقوم مقامه أن يعطى المستأمن المهلة التي يراها كافية لفهمه حقائق الإسلام وأن يبلغه مأمنه بعد انقضاء حاجته، وأن لا يمكنه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته.
قال الإمام الرازي: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون، ولعله لا يعرف مقدارها إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه «٣».
٤- أخذ العلماء من هذه الآية وجوب التفقه في الدين، وعدم الاكتفاء بالظنون والتقليد للغير، وقد وضح الإمام الرازي هذا المعنى فقال:
دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك. فلما لم يقل له ذلك- بل أمهل وأزيل الخوف عنه ووجب تبليغه مأمنه- علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل: فلذا أمهل ليحل له النظر والاستدلال» «٤».
(١) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٧٧.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣٧.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٢٧.
(٤) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٢٧.
210
٥- تكلم العلماء عمن له حق إعطاء الأمان للمستأمن فقال القرطبي: «ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز لأنه مقدم النظر والمصلحة. نائب عن الجميع في جلب المصالح ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضى أمانه عند كافة العلماء. وأما العبد فله الأمان في مشهور مذهب المالكية وبه قال الشافعى وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا أمان له. والأول أصح لقوله ﷺ «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم»
.
قالوا: فلما قال «أدناهم» جاز أمان العبد... «١».
وقال بعض العلماء: هذه الآية كانت أصلا عند الفقهاء في إباحة تأمين المشرك، وقد توسع الإسلام في باب الأمان فقرر به عصمة المستأمن، وأوجب على المسلمين حمايته مادام في دار الإسلام، وجعل للمسلمين حق إعطاء ذلك الأمان، ولم يشترط في ذلك إلا ما يضمن على المسلمين سلامتهم، بأن لا تظهر على المستأمن مظاهر الركون إلى التجسس على المسلمين.
ولا ينسى الإسلام- وهو يعطى هذا الحق للأفراد- حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين، بل جعل له بمقتضى هيمنته العامة، وتقديره لوجوه المصلحة، حق إبطال أى أمان لم يصادف محله، أو لم يستوف شروطه، كما له أن ينتزع ذلك الحق من الأفراد متى رأى المصلحة في ذلك.
والإسلام يبيح بهذا الأمان التبادل التجارى والصناعى والثقافى، وفي سائر الشئون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة «٢».
٦- هذه الآية الكريمة تشهد بسمو تعاليم الإسلام وسماحتها وحرصها على هداية الناس إلى الحق، وعلى صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم من العدوان عليها.. حتى ولو كان هؤلاء الناس من أعداء الإسلام.
وقد بسط هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه: إن هذه الآية تعنى أن الإسلام حريص على كل قلب بشرى أن يهتدى وأن يثوب، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه، فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين، لعل قلوبهم أن تتفتح وتستجيب وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٨٦.
(٢) تفسير القرآن الكريم ص ٦٢٢ لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت.
211
ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام.. ولكن قمة القمم هذه الحراسة للمشرك- عدو الإسلام والمسلمين- حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام.
إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام.
إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون، وإجارة لمن يستجيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه.. «١».
وبعد أن صرحت السورة الكريمة ببراءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين، وأمرت المؤمنين بإعطائهم مهلة يسيحون فيها في الأرض، ويتدبرون خلالها أمرهم، ثم بعد ذلك على المؤمنين أن يقتلوهم حيث وجدوهم، وأن يستعملوا معهم كل الوسائل المشروعة لإذلالهم، وأن يؤمنوا المشرك الذي يريد أن يسمع كلام الله، وأن يحافظوا عليه حتى يصل إلى مكان استقراره..
بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان الأسباب التي أوجبت البراءة من عهود المشركين، والحكم التي من أجلها أمر الله بقتالهم والتضييق عليهم فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ١٢]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
(١) راجع تفسير (في ظلال القرآن) ج ١ ص ١٤٢ للأستاذ سيد قطب.
212
وقوله- سبحانه-: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ الاستفهام فيه للإنكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد. وهو إنكار للوقوع لا للواقع. أى تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك في المستقبل.
والمراد بالمشركين أولئك الذين نقضوا عهودهم، لأن البراءة إنما هي في شأنهم.
والعهد: ما يتفق شخصان أو طائفتان من الناس على التزامه بينهما، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة العناية بالوفاء به سمى ميثاقا، لاشتقاقه من الوثاق- بفتح الواو- وهو الحبل أو القيد. وإن أكداه باليمين خاصة سمى يمينا.
وسمى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.
والمعنى: لا ينبغي ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا يدينون لله بالعبودية، ولا لرسوله بالطاعة، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة. وعادتهم الغدر، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله.
قالوا: وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته، لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده، فقد انتفى وجوده بالطريق البرهاني. وتكرير كلمة عِنْدَ للإيذان بعدم الاعتداد بعهودهم عند كل من الله- تعالى- ورسوله ﷺ على حدة.
ويَكُونُ من الكون التام وكَيْفَ محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف.
أو من الكون الناقص فيكون قوله عَهْدٌ اسمها، وقوله كَيْفَ خبرها وهو واجب التقديم، لأن الاستفهام له صدر الكلام «١».
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ..
استثناء من المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله.
(١) تفسير الآلوسى. بتصرف وتلخيص. ج ١٠ ص ٤٩.
213
والمراد بالمشركين الذين استثنوا هنا: أولئك الذين سبق الحديث عنهم في قوله- تعالى- قبل ذلك إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ...
وهم- كما رجحه ابن جرير والخازن- بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة من قبائل بنى بكر، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين «١».
وأعيد ذكر استثنائهم هنا، لتأكيد هذا الحكم وتقريره.
والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم، فيكون الكلام على حذف مضاف.
أى: عند قرب المسجد الحرام.
والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام، لزيادة بيان أصحابها، وللإشعار بسبب وجوب الوفاء بها.
والمعنى: لا ينبغي ولا يصح أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، لكن الذين عاهدتموهم- أيها المؤمنون- عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ.
أى: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، فتكون ما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية.
ويصح أن تكون شرطية وعائدها محذوف فيكون المعنى: فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم، إذ لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال، وتبيين أن الوفاء بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده، ويحبهم بسبب تمسكهم بها.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية: ان العهد المعتد به في شريعة الإسلام، هو عهد الأوفياء غير الناكثين، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته، وأن الالتزام بالعهود من تقوى الله التي يحبها لعباده.
وقوله- سبحانه- كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً...
لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمراعاة، وبيان لما يكون عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين.
(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٨٢- وحاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٦.
214
وفائدة هذا التكرار للفظ كَيْفَ: التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى مجاهدتهم والإغلاظ عليهم، والحذر منهم.
قال الآلوسى: وحذف الفعل بعد كيف هنا لكونه معلوما من الآية السابقة، وللإيذان بأن النفس مستحضرة له، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره.
وقد كثر الحذف للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده. ومن ذلك قول كعب الغنوي يرثى أخاه أبا المغوار:
وخبرتماني أنما الموت بالقرى... فكيف وماتا هضبة وقليب
يريد فكيف مات والحال ما ذكر.
والمراد هنا: كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً «١».
وقوله: يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يظفروا بكم ويغلبوكم. يقال: ظهرت على فلان أى:
غلبته ومنه قوله- تعالى- فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أى:
غالبين.
وقوله: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ أى: لا يراعوا في شأنكم. يقال: رقب فلان الشيء يرقبه إذا رعاه وحفظه.. ورقيب القوم حارسهم.
والإل: يطلق على العهد، وعلى القرابة، وعلى الحلف.
قال ابن جرير- بعد أن ساق أقوالا في معنى الإل- وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: والإل: اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد والعقد، والحلف، والقرابة.. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل:
أفسد الناس خلوف خلفوا... قطعوا الإل وأعراق الرحم
أى قطعوا القرابة.
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى العهد قول القائل:
وجدناهم كاذبا إلّهم... وذو الإل والعهد لا يكذب
وإذا كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها- جل ثناؤه- معانيها الثلاثة... «٢».
(١) تفسير الآلوسى- بتصرف يسير- ج ١٠ ص ٤٩. [.....]
(٢) تفسير ابن جرير- بتصرف وتلخيص- ج ١٠ ص ٨٣.
215
والذمة: كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هي ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم.
والمعنى: بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، والحال المعهود منهم أنهم إن يظفروا بكم ويغلبوكم، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا حقا من الحقوق.
وقوله- تعالى-: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ زيادة بيان للأحوال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين.
أى: أن هؤلاء المشركين إن غلبوكم- أيها المؤمنون- فعلوا بكم الأفاعيل، وتفتنوا في إيذائكم من غير أن يقيموا ووزنا لما بينكم وبينهم من عهود ومواثيق، وقرابات وصلات... أما إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ أى: يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم، وهم في الوقت نفسه تَأْبى قُلُوبُهُمْ المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم، فهم كما وصفهم- سبحانه- في آية أخرى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «١».
وتقييد الإرضاء بالأفواه، للإشعار بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم.
وقوله: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ أى: خارجون عن حدود الحق، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة، إذ الفسق هو الخروج والانفصال. يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان إذا خرج عن حدود الشرع.
وإنما وصف أكثرهم بالفسوق، لأن هؤلاء الأكثرين منهم، هم الناقضون لعهودهم، الخارجون على حدود ربهم، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا، ولم يظاهروا عليهم أحدا.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا في نهاية الذم والقبح، لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا وأسرفوا في الإيذاء، نابذين كل عهد وقرابة وعرف... أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة.
أى أن الغدر ملازم لهم في حالتي قوتهم وضعفهم، لأنهم في حالة قوتهم لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.
(١) سورة آل عمران الآية ١٦٧.
216
وفي حالة ضعفهم يخادعون ويداهنون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك السبب الأصيل الذي جعل الغدر ديدنهم، والحقد على المؤمنين دأبهم فقال: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
والمراد بالاشتراء هنا الاستبدال والاستيعاض.
والمراد بآيات الله: كل ما جاء به النبي ﷺ من آيات قرآنية، ومن تعاليم سامية تهدى إلى الخير والفلاح.
والمعنى إن السبب الأصيل الذي حمل هؤلاء المشركين على الغدر، وعلى الفجور والطغيان عند القوة وعلى المداهنة والمخادعة عند الضعف. هو أنهم استبدلوا بآيات الله المتضمنة لكل خير وفلاح... ثمنا قليلا. أى: عرضا حقيرا من أعراض الدنيا وزخارفها.
وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات. بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات. لأن كل ثمن يؤخذ في مقابل آيات الله فهو قليل وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا وزينتها.
وقوله: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ بيان لما ترتب على استبدالهم بآيات الله ثمنا قليلا.
والصد: المنع والحيلولة بين الشيء وغيره، ويستعمل لازما فيقال: صد فلان عن الشيء صدودا بمعنى أعرض عنه. ويستعمل متعديا فيقال: صده عنه إذا صرفه عن الشيء.
وهنا تصح إرادة المعنيين فيكون التقدير: أن هؤلاء المشركين قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بهذا بل صرفوا غيرهم عنها، ومنعوه من الدخول فيها.
وقوله: إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم، وقبح أعمالهم.
أى: إنهم ساء وقبح عملهم الذي كانوا يعملونه من اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا، ومن صدودهم عن الحق وصدهم لغيرهم عنه.. وسيجازيهم الله على ذلك بما يستحقونه عن عقاب شديد.
ثم بين- سبحانه- أن عداوة هؤلاء المشركين ليست خاصة بالمؤمنين الذين يقيمون معهم، وإنما هي عداوة عامة شاملة لكل مؤمن مهما تباعد عنهم فقال- تعالى-:
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ.
217
أى: أن هؤلاء المشركين لا يراعون في أمر مؤمن يقدرون على الفتك به عهدا يحرم الغدر، ولا قرابة تقتضي الود، ولا ذمة توجب الوفاء خشية الذم... وإنما يبيتون الحقد والغدر والأذى لكل مؤمن، من غير أن يقيموا للعهود أو للفضائل وزنا.
وهذه الآية الكريمة أعم من قوله- تعالى: قبل ذلك: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً لأن هذه بينت أن عدوانهم على المؤمنين مقيد بظهورهم عليهم، أما التي معنا فقد بينت أن عدوانهم ليس مقيدا بشيء، فهم متى وجدوا الفرصة اهتبلوها في الاعتداء على المؤمنين ولأن التي معنا بينت أن عداوتهم قد شملت كل مؤمن مهما كان موضعه.
أما الآية السابقة فهي تخاطب المؤمنين الذين كان بينهم وبين المشركين الكثير من الحروب والدماء.
وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ تذييل قصد به ذمهم والتحقير من شأنهم.
أى: وأولئك المشركون الموصوفون بتلك الصفات السيئة هم المتجاوزون لحدود الله والخارجون على كل فضيلة ومكرمة.
وبعد أن وضحت السورة الكريمة طبيعة هؤلاء المشركين بالنسبة لكل مؤمن، وبينت الأسباب التي جعلتهم بمعزل عن الحق والخير.. شرعت في بيان ما يجب أن يفعله المؤمنون معهم في حالتي إيمانهم وكفرهم فقال تعالى.
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ.
أى: فإن تابوا عن شركهم وما يتبعه من رذائل ومنكرات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، على الوجه الذي أمر الله به فهم في هذه الحالة فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وهذه الأخوة تجبّ ما قبلها من عداوات.
وقوله: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جملة معترضة، جيء بها للحث والتحري على ما فصله- سبحانه- من أحكام المشركين، وعلى الالتزام بها.
هذا ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء المشركين إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة..
أما إن كانت الأخرى، أى إذا لم يتوبوا وأصروا على عداوتهم، فقد بين سبحانه. ما يجب على المؤمنين نحوهم في هذه الحالة فقال: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ.
أى: وإن نقضوا عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها.
وقوله: نَكَثُوا من النكث بمعنى النقض والحل. يقال نكث فلان الحبل إذا نقض فتله
218
وحل خيوطه ومنه قوله- تعالى-: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً «١».
وقوله: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ معطوف على ما قبله. أى: وعابوه وانتقصوه.
وقوله: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أى: فقاتلوهم فهم أئمة الكفر، وحملة لوائه. فوضع- سبحانه- الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم.
وقيل: المراد بأئمة الكفر رؤساؤهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين، ويقودونهم لقتال النبي ﷺ وأصحابه.
وعطف. سبحانه- قوله وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة قتالهم، لزيادة تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم.
وقوله: إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة صادقة، وقلوب ثابتة. لأنهم قوم لا أيمان ولا عهود لهم على الحقيقة، لأنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان.
وقرأ ابن عامر إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ- بكسر الهمزة. على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان. أى إنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم. أو المراد الإيمان الشرعي. أى إنهم لا تصديق ولا دين لهم، ومن كان كذلك فلا وفاء له.
وقوله: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقوله فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.
أى: ليكن مقصدكم من مقاتلتهم- بعد أن وجد منهم ما وجد من إيذائكم الرجاء في هدايتهم، والانتهاء عن كفرهم وخيانتهم.. واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق- ما يأتى:
١- أن ما ذكرته الآيات من كون المشركين، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، يقرر حقيقة واقعة، ومن الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين- وخاصة مسلمي بغداد. سنة ٦٥٦. وما فعله الوثنيون الهنود مع مسلمي باكستان، وما فعله الشيوعيون. في روسيا والصين وغيرها- مع المسلمين الذين كانوا يعيشون معهم «٢».
٢- أن هؤلاء المشركين متى تابوا عن كفرهم، وأقلعوا عن شركهم، واندمجوا في جماعة المؤمنين.. صاروا إخوة لنا في الدين.
(١) سورة النحل الآية ٩٢.
(٢) لمعرفة ذلك بالتفصيل راجع تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٠ من ص ١٤١ إلى ص ١٤٥.
219
وهذه الأخوة الدينية- كما يقول صاحب المنار- مما يحسدنا جميع أهل الملل عليها فهي لا تزال أقوى فينا منها فيهم برا وتعاونا. وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية، وأثرة المادية وغيرها، على ما منيت به شعوبنا من الضعف واختلال النظام، واختلاف الجنسيات والأحكام.. «١».
٣- قال القرطبي: استدل بعض العلماء بهذه الآية وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ- على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه.
وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي ﷺ عليه القتل. وممن قال بذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق والشافعى «٢».
٤- أخذ بعضهم من قوله- تعالى- إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أن الكافر لا يمين له على الحقيقة.
قال الفخر الرازي: وبه تمسك أبو حنيفة. رحمه الله. في أن يمين الكافر لا يكون يمينا.
وعند الشافعى. رحمه الله- يمينهم يمين. ومعنى الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه- سبحانه- وصفها بالنكث في قوله وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ.. ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث «٣».
٥- دل قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ على أن قتال المؤمنين للمشركين لا يراد به سلب أموالهم ولا هتك أعراضهم.. وإنما المراد به الرجاء في هدايتهم، والأمل في انتهائهم عن الكفر وسوء الأخلاق.
قال صاحب الكشاف: قوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقوله فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.
أى: ليكن غرضكم في مقاتلتهم- بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم- أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد «٤».
وبعد أن بينت السورة الكريمة الأسباب الموجبة لقتال المشركين: شرعت في تحريض المؤمنين على مهاجمتهم ومقاتلتهم بأسلوب يثير الحمية في النفوس، ويحمل على الإقدام وعدم المبالاة بهم.. فقال تعالى:
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٢٨.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٨٢.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٣٤.
(٤) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥١.
220

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٣ الى ١٥]

أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
قال الآلوسى: قوله تعالى أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً... تحريض على القتال بأبلغ وجه، لأن الاستفهام فيه للإنكار، والاستفهام الإنكارى في معنى النفي، وقد دخل هنا على نفى، ونفى النفي إثبات. وحيث كان الترك منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه، فيفيد الحث والتحريض عليه. بأقوى الأدلة، وأسمى الأساليب «١».
وقد ذكر- سبحانه- هنا ثلاثة أسباب كل واحد منها يحمل المؤمنين على قتال المشركين بغلظة وشجاعة.
أما السبب الأول فهو قوله تعالى: نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أى: نقضوا عهودهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها لتأكيد هذه العهود.
ومن مظاهر ذلك أن هؤلاء المشركين الذين تعاهدوا معكم في صلح الحديبية على ترك القتال عشر سنين. قد نقضوا عهودهم بمساعدة حلفائهم بنى بكر على قتال حلفائكم بنى خزاعة عند أول فرصة سنحت لهم.
والسبب الثاني قوله. سبحانه. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ والهم: المقاربة من الفعل من غير دخول فيه.
أى: وهموا بإخراج الرسول ﷺ من مكة التي ولد فيها وعاش بها زمنا طويلا..
لكنهم لم يستطيعوا ذلك، بل خرج باختيار. وبإذن الله له في الهجرة.
وقد فصل سبحانه. ما هموا به في قوله
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٤- بتصرف يسير.
221
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «١».
وإنما اقتصر، سبحانه، في الآية التي معنا على همهم بإخراجه. صلى الله عليه وسلم. من مكة، مع أن آية الأنفال قد بينت أنهم قد هموا بأحد أمور ثلاثة- لأن الإخراج هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر، أما القتل والحبس فلم يكن لهما أثر في الخارج.
وقيل: إنه. سبحانه. قد اقتصر على الأدنى وهو الهم بالإخراج، ليعلم غيره بالطريق الأولى، إذ الإخراج أهون من القتل والحبس.
وأما السبب الثالث فهو قوله. سبحانه. وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أى: وهم الذين كانوا بادئين بقتالكم في أول لقاء بينكم وبينهم وهو يوم بدر، كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم في كل قتال بعد ذلك، كما حدث منهم في أحد والخندق وكما حدث منهم مع حلفائكم من بنى خزاعة.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أى: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله ﷺ جاءهم أولا بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال. فهم البادئون بالقتال والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقابلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ «٢».
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد ذكرت ثلاثة أمور كل واحد منها كفيل بحمل المؤمنين على قتال المشركين.. فكيف وقد توفرت هذه الأمور الثلاثة في هؤلاء المشركين؟.
ولم تكتف الآية الكريمة بهذا التهييج والتحريض للمؤمنين على القتال، بل أمرتهم بأن تكون خشيتهم من الله وحده، فقال سبحانه أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أى: أتتركون- أيها المؤمنون- قتال هؤلاء المشركين الذين نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ خشية منهم.. ؟ لا، إن هذا لا يليق بكم، وإنما الذي يليق بكم- إن كنتم مؤمنين حقا- أن تكون خشيتكم من الله وحده.
قال الإمام الرازي: وهذا الكلام يقوى داعية القتال من وجوه:
الأول: أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوى هذه الداعية.
الثاني: أنك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك؟ كان ذلك تحريكا لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه.
الثالث: أن قوله: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ يفيد ذلك كأنه قيل: إن كنت تخشى أحدا
(١) سورة الأنفال الآية ٣٠.
(٢) الكشاف ج ٢ ص ٢٥٣.
222
فالله أحق أن تخشاه، لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة..
الرابع: أن قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ معناه: إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا، وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه: أنكم إذا لم تقدموا لا تكونوا كذلك، فثبت أن هذا الكلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد «١».
ثم أمرهم- سبحانه- أمرا صريحا قاطعا بمقاتلة المشركين. ورتب على هذه المقاتلة خمسة أنواع من الفوائد فقال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ.
أى: أقدموا على قتالهم وباشروه بشجاعة وإخلاص كما أمركم ربكم، فإنكم متى فعلتم ذلك يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بسبب ما تنزلونه بهم من قتل وأسر وجراحات بليغة، واغتنام للأموال.
وأسند- سبحانه- التعذيب إليه، لأنه أمر زائد على أسبابه من الطعن والضرب وما يفضيان إليه من القتل والجرح.. والأسر. تلك هي الفائدة الأولى من قتالهم.
أما الفائدتان الثانية والثالثة فتتجليان في قوله. تعالى. وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ.
أى: ويخزهم بسبب ما ينزل بهم من هزيمة وهوان وهم يتفاخرون بقواتهم وبأسهم، وينصركم عليهم بأن يجعل كلمتكم هي العليا وكلمتهم هي السفلى.
قال الإمام الرازي: فإن قالوا: لما كان حصول ذلك الخزي مستلزما لحصول هذا النصر، كان إفراده بالذكر عبثا؟
فتقول: ليس الأمر كذلك، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين، إلا أن المؤمنين قد تحصل لهم آفة لسبب آخر، فلما قال: وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر» «٢».
والفائدة الرابعة بينها- سبحانه- في قوله. وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ.
أى: أنكم بقتالكم لهم وانتصاركم عليهم، تشفون قلوب جماعة من المؤمنين من غيظها المكظوم، لأن هذه الجماعة قد لقيت ما لقيت من أذى المشركين وظلمهم وغدرهم.. فكان انتصاركم عليهم شفاء لصدورهم.
قالوا: والمراد بهؤلاء القوم بنو خزاعة الذين غدر بهم بنو بكر بمساعدة قريش.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ٢٣٥- بتصرف يسير.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٢ طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٩٣٨.
223
والأولى أن تكون الجملة الكريمة عامة في كل من آذاهم المشركون.
أما الفائدة الخامسة فقد بينها- سبحانه. في قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ: أى:
ويذهب غيظ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين ويزيل كربها وغمها، لأن الشخص الذي طال أذى خصمه له. ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإن هذا الشخص في هذه الحالة يعظم سروره، ويفرح قلبه، ويتحول غيظه السابق إلى غبطة وارتياح نفسي.
قال الآلوسى: «وظاهر العطف أن إذهاب الغيط غير شفاء الصدور. ووجه بأن الشفاء يكون بقتل الأعداء وخزيهم، وإذهاب الغيظ يكون بالنصر عليهم... وقيل إذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر، وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله به عليهم من تعذيبه لأعدائهم، ونصرته لهم عليهم، ولعل إذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه، فيكون ذكره من باب الترقي... » «١».
وقوله: تعالى- وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كلام مستأنف لبيان شمول قدرة الله- تعالى-، وواسع رحمته، وبالغ حكمته.
أى: ويتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه من عباده فيوفقه للإيمان، ويشرح صدره للإسلام، والله- تعالى عليم بسائر شئون خلقه، حكيم في كل أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته، فامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله- تعالى- إيمانا حقيقيا لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة بالغضب وبالحمية من أجل الدين، ومن أجل الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين الصادقين.
كما تدل على أنها من المعجزات، لأنه- تعالى- أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت كما أخبر فقد انتصر المؤمنون، وأسلم من المشركين أناس كثيرون- فيكون ذلك إخبارا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة» «٢».
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة التي حرضت المؤمنين على القتال أعظم تحريض، ببيان بعض الحكم التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله، فقال- تعالى-:
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٥٥- بتصرف وتلخيص. [.....]
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤.
224

[سورة التوبة (٩) : آية ١٦]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
و «أم» هنا للاستفهام الإنكارى. وحسب- كما يقول الراغب- مصدره الحسبان وهو أن يحكم الشخص لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسبه ويعقد عليه الأصابع، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك. ويقارب ذلك الظن، لكن الظن أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما على الآخر «١».
والواو في قوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ... حالية، ولَمَّا للنفي مع توقع الحصول، ونفى العلم هنا مجاز عن نفى التبيين والإظهار والتمييز.
وقوله: وَلِيجَةً أى، بطانة ومداخلة. من الولوج في الشيء أى الدخول فيه.
يقال: ولج يلج ولوجا إذا دخل. وكل شيء أدخلته في شيء ولم يكن منه فهو وليجة.
والمراد بالوليجة هنا: البطانة من المشركين الذين يطلعون على أسرار المؤمنين ويداخلونهم في أمورهم.
قال ابن جرير: قوله: وَلِيجَةً هو الشيء يدخل في آخر غيره. يقال منه: ولج فلان في كذا يلجه فهو وليجة. وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم «٢».
والمعنى: أحسبتم- أيها المؤمنون- أن تتركوا دون أن تؤمروا بقتال المشركين، والحال أن الله- تعالى- لم يظهر الذين جاهدوا منكم بإخلاص ولم يتخذوا بطانة من أعدائكم.. ممن جاهدوا منكم بدون إخلاص؟
لا. أيها المؤمنون، إن كنتم حسبتم ذلك فهو حسبان باطل، لأن سنة الله قد اقتضت أن يميز المخلص في جهاده من غيره، وأن يجعل من حكم مشروعية الجهاد الامتحان والتمحيص.
قال ابن كثير: والحاصل أنه- تعالى- لما شرع الجهاد لعباده، بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه، وهو- تعالى- العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو
(١) المفردات في غريب القرآن ص ١١٧ للراغب الأصفهاني.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٩٢.
كان كيف كان يكون، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو ولا رب سواه، ولا راد لما قدره وأمضاه» «١».
وقوله تعالى. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ بيان لشمول علمه- سبحانه لجميع شئون خلقه.
أى: والله- تعالى- خبير بجميع أعمالكم، مطلع على نياتكم، فأخلصوا له العمل والطاعة، لتنالوا ثوابه ورضاه وعونه.
وبذلك نرى السورة الكريمة من أولها إلى هنا قد أعلنت براءة الله ورسوله من عهود المشركين، وأعطتهم مهلة يتدبرون خلالها أمرهم، وأمرت المؤمنين بعد هذه المهلة- أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم.. ثم ساقت الأسباب التي تدعو إلى مجاهدتهم، والفوائد التي تترتب على هذه المجاهدة، والحكم التي من أجلها شرعت هذه المجاهدة.
ثم أخذت السورة بعد ذلك في إعلان حكم آخر يتعلق بتعمير مساجد الله، فبينت أنه يحرم على المشركين أن يعمروا مساجد الله، وأن المستحقين لذلك هم المؤمنون الصادقون، فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
قال الجمل: وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، منهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله ﷺ يعيرونهم
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٠.
226
بالشرك. وجعل على بن أبى طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله ﷺ وقطيعة الرحم.
فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له: وهل لكم محاسن؟
قال: نعم. ونحن أفضل منكم. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة- أى نخدمها-، ونسقى الحجيج، ونفك العاني- أى الأسير- فنزلت هذه الآية «١».
وقال صاحب المنار: والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به العباس وغيره من كبراء المشركين، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم «٢».
وقوله: يَعْمُرُوا من العمارة التي هي نقيض الخراب. يقال: عمر فلان أرضه يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والإصلاح والزراعة.
والمراد بعمارة المساجد، هنا: ما يشمل إقامة العبادة فيها، وإصلاح بنائها وخدمتها، ونظافتها، واحترامها، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذي بنيت من أجله.
وقوله: مَساجِدَ اللَّهِ قرأ أبو عمرو وابن كثير مسجد الله بالإفراد، فيكون المراد به المسجد الحرام: لأنه أشرف المساجد في الأرض، ولأنه قبلة المساجد كلها..
فلا يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه.
وقرأ الجمهور مَساجِدَ اللَّهِ بالجمع، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جمع مضاف في سياق النفي فيعم سائر المساجد، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أوليا، لأن تعميره مناط افتخارهم، وأهم مقاصدهم. وهذه القراءة آكد في النفي، لأن نفى الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
قوله: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حال من الواو في قوله يَعْمُرُوا.
وفائدة المجيء بهذه الجملة: الإشعار بأن كفرهم كفر صريح، وأنهم يعترفون به اعترافا لا يملكون إنكاره، ولا يسعهم إلا إقراره.
والمعنى: لا ينبغي ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التي بنيت لعبادته وحده
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٧٠.
(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٤٩.
227
سبحانه. وذلك لأن هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها ألسنتهم، وأيدتها أعمالهم.
فهم لا ينطقون بكلمة التوحيد، وإنما ينطقون بالكفر والإشراك. وهم لا يعملون أعمال المؤمنين، وإنما يعملون الأعمال القبيحة التي تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام عقب الطواف بالكعبة.
قال الفخر الرازي: وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها:
الأول- وهو الأصح: أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان، وتكذيب القرآن، وإنكار نبوة محمد- عليه الصلاة والسلام- وكل ذلك كفر فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة.
الثاني. قال السدى: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن يقول عابد الوثن أنا عابد الوثن.
الثالث: أنهم كانوا يطوفون عراة وكلما طافوا شوطا سجدوا للأصنام. وكانوا يقولون:
لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك «١».
ثم بين- سبحانه: في ختام الآية سوء عاقبتهم فقال أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ:
أى: أولئك المشركون الشاهدون على أنفسهم بالكفر قد فسدت أعمالهم التي كانوا يفتخرون بها مثل العمارة والحجابة والسقاية لأنها مع الكفر لا قيمة لها، وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم.
ثم بين. سبحانه. أن المؤمنين الصادقين هم الجديرون بعمارة مساجد الله، فقال: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ.
أى: ليس المشركون أهلا لعمارة مساجد الله وإنما الذين هم أهل لذلك المؤمنون الصادقون الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وآمنوا بما فرضه الله عليهم من فرائض فأدوها بالكيفية التي أرشدهم إليها نبيهم ﷺ فهم في صلاتهم خاشعون وللزكاة معطون بسخاء وإخلاص.
وهم بجانب ذلك لا يخشون أحدا إلا الله في تبليغ ما كلفوا بتبليغه من أمور الدين
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٨.
228
ولا يقصرون في العمل بموجب أوامر الله ونواهيه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله ﷺ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول. عليه الصلاة والسلام. لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين كأنهما شيء واحد.. انطوى تحت ذكر الإيمان بالله.
تعالى. الإيمان بالرسول ﷺ فإن قلت: كيف قال: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها.
قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف: وإذا اعترض أمران: أحدهما حق الله والآخر حق نفسه، آثر حق الله على حق نفسه «١».
وقوله- تعالى- فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ تذييل قصد به حسن عاقبة المؤمنين الصادقين.
أى: فعسى أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة من الإيمان بالله واليوم الآخر.. أن يكونوا من المهتدين إلى الجنة وما أعد فيها من خير عميم، ورزق كبير.
قال الآلوسى: وإبراز اهتدائهم لذلك- مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة- في معرض التوقع، لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين. وهم من هم. إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فكيف يقطع المشركون. وهم بيت المخازي والقبائح. أنهم مهتدون؟!.
وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم، وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء «٢».
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:
١- أن أعمال البر الصادرة عن المشركين. كإطعام الطعام، وإكرام الضيف.. إلخ.
لا وزن لها عند الله، لاقترانها بالكفر والإشراك به- سبحانه-.
قال. تعالى.: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «٣».
٢- أن عمارة مساجد الله من حق المؤمنين وحدهم، أما المشركون فإنهم لا يصح منهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٥- بتصريف يسير.
(٢) تفسير الآلوسي ج ١٠ ص ٥٩- بتصريف وتلخيص.
(٣) سورة الفرقان الآية ٢٣.
229
قال الجمل. لا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله بدخولها والقعود فيها. فإذا دخل الكافر المسجد بغير إذن من مسلم عزّر، وإن دخل بإذنه لم يعزر لكن لا بد من حاجة.
فيشترط للجواز الإذن والحاجة. ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي ﷺ شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سوارى المسجد وهو كافر «١».
٣- التنويه بشأن بناء المساجد، والتعبد فيها، وإصلاحها، وخدمتها، وتنظيفها، والسعى إليها، واحترامها، وصيانتها عن كل ما يتنافى مع الغرض الذي بنيت من أجله، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى، ومن ذلك: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عثمان بن عفان. رضى الله عنه. قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من بنى لله مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة».
وروى الشيخان. أيضا. عن أبى هريرة. رضى الله عنه. قال: رسول الله ﷺ «من غدا إلى المسجد أو راح- أى سار قبل الزوال أو بعده لعبادة الله في المسجد- أعد الله له نزلا- أى مكانا طيبا في الجنة- كلما غدا أو راح».
وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» قال الله. تعالى-: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.. الآية.
وروى أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة أو ينشد فيه شعر». وروى مسلم في صحيحه عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله تعالى. وقراءة القرآن» «٢».
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت بشأن المساجد.
ثم بين. سبحانه. بعد ذلك أنه لا يصلح أن يسوى بين هؤلاء المشركين- لمجرد سقايتهم الحجاج وعمارتهم المسجد الحرام. وبين المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته فقال- سبحانه-:
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٧٠.
(٢) من كتاب «رياض الصالحين» للإمام النووي ص ٤١٨، ص ٤١٩، ص ٦١٤، ٦١٥ طبعة عيسى الحلبي.
230

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]

أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبي. ﷺ في نفر من أصحابه فقال رجل: ما أبالى أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي ﷺ وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله ﷺ فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله. تعالى.:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ.. الآية «١» وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ..: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام. ونفك العاني، ونحجب البيت، ونسقى الحاج فأنزل الله. تعالى.: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ..
«٢».
وقال صاحب المنار، بعد أن ساق عددا من الروايات في سبب نزول هذه الآيات.:
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٠.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٩٦. [.....]
231
والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه. من أعمال البر الهينة المستلذة. وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهي أشق العبادات البدنية والمالية «١».
والسقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر. بتخفيف الميم.
والمراد بسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان العباس. رضى الله عنه. هو الذي يتولى إدارة هذا العمل.
قال الجمل: السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم. كان يشترى الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقى للناس، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاما، وأقرها النبي ﷺ له.. ويظهر أن المراد بها هنا المصدر. أى: إسقاء الحجاج وإعطاء الماء لهم «٢».
والمراد بعمارة المسجد الحرام: ما يشمل العبادة فيه، وإصلاح بنائه، وخدمته، وتنظيفه.. كما سبق أن بينا.
والهمزة في قوله. أَجَعَلْتُمْ للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى.
والكلام على حذف مضاف، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله؟ ويؤيده قراءة أجعلتم سقاة الحاج بضم السين. جمع ساق. وعمرة المسجد الحرام بفتح العين والميم جمع عامر.
وعلى هذا المعنى يكون التقدير في جانب الصفة، ويجوز أن يكون التقدير في جانب الذات فيكون المعنى. أجعلتموهما، أى السقاية والعمارة. كإيمان من آمن وجهاد من جاهد؟
والخطاب يشمل بعض المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء في حديث النعمان. كما يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام.
والمقصود من الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين. وقد جاء هذا الإنكار صريحا في قوله تعالى. لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ.
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٢٥٩.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٧١.
232
أى: لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني في حكم الله، إذ أن الفريق الثاني له بفضل إيمانه الصادق. وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله.
فالجملة الكريمة مستأنفة لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده ثم ختم- سبحانه. الآية الكريمة بقوله. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أى. والله تعالى. لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق، وتمييزه من الباطل، لأنهم قد آثروا الشر على الخير والضلالة على الهداية.
وقوله. الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ..» استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد، وتكميلا له.
أى: الَّذِينَ آمَنُوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، وَهاجَرُوا من دار الكفر إلى دار الإيمان فرارا بدينهم، وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هؤلاء الذين توفرت فيهم هذه الصفات الجليلة أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أى: أعلى مقاما وأشرف منزلة في حكم الله وتقديره من أهل سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام ومن كل من لم يتصف بهذه الصفات الأربعة الكريمة وهي: الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال، والجهاد بالنفس.
قال الفخر الرازي. فإن قيل: لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين. كما جاء في بعض روايات أسباب النزول. فكيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة.
قلنا. الجواب عنه من وجوه. الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله. سبحانه آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «١».
الثاني: أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات، تنبيها على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات، فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث: أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة.
والمراد منه ترجيح تلك الأعمال. ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل ثوابها في حق الكفار بسبب كفرهم «٢».
(١) سورة النمل: الآية ٥٩.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ١٤ وتلخيص يسير.
233
وقوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أى: وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، هم الفائزون، بثواب الله الأعظم، وبرضائه الأسمى الذي لا يصل إليه، سواهم ممن لم يفعل فعلهم.
ثم فصل- سبحانه- هذا الفوز فقال: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
أى يبشرهم ربهم على لسان نبيهم ﷺ في الدنيا وعلى لسان الملائكة عند الموت بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أى: برحمة واسعة منه- سبحانه- وبرضائه التام عنهم، وبجنات عالية لهم فيها نعيم عظيم لا يزول ولا يبيد.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: ماكثين في تلك الجنات مكثا أبديا.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره لهؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
قال الآلوسى: ذكر أبو حيان أنه- تعالى- لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث: الرحمة، والرضوان، والجنة.
وبدأ- سبحانه- بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه، ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق.
وثنى- سبحانه- بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي هو بذل الأنفس والأموال.
وثلث بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها- في سبيله أعطاهم بدلها دارا عظيمة دائمة وهي الجنات.
وفي الحديث الصحيح يقول الله- سبحانه-: «يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك؟ فيقول- سبحانه- لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائى فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «١».
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت أنه لا تصح المساواة بين المؤمنين الصادقين
(١) تفسير الآلوسى ج ٦٠ ص ٦٢.
234
الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين غيرهم ممن لم يفعل فعلهم، ولم يجاهد جهادهم...
وبعد أن بين- سبحانه- ما أعده من عطاء عظيم للمؤمنين الصادقين، الذين هاجروا وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم... أتبع ذلك بتوجيه نداء إليهم، حثهم فيه على أن يجردوا أنفسهم لعقيدتهم، وأن يقاطعوا أعداءهم في الدين مهما بلغت درجة قرابتهم منهم، وأن يؤثروا حب الله ورسوله على كل شيء من زينة الحياة الدنيا فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ المشركين أَوْلِياءَ وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم، وتطلعونهم على ما لا يجوز اطلاعهم عليه من شئونكم، وتلقون إليهم بالمودة.. فإن ذلك يتنافى مع الإيمان الحق، ومع الإخلاص للعقيدة وإيثارها على كل ما سواها من زينة الحياة.
والمراد النهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة أى فرد من أفراد المشركين، لأن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، كما في قوله- تعالى- وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ «١».
(١) سورة آل عمران الآية ١٩٢.
235
قال القرطبي: وخص- سبحانه- الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان.
ولم يذكر الأبناء في هذه الآية، إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله إن أمى قدمت على راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال نعم. «صلى أمك» «١».
وقوله- سبحانه-: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ قيد في النهى عن اتخاذهم أولياء. والاستحباب: طلب المحبة: يقال: استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته.
أى: لا تتخذوهم أولياء إن اختاروا الكفر على الإيمان وأصروا على شركهم وباطلهم..
أما إذا أقلعوا عن ذلك ودخلوا في دينكم، فلا حرج عليكم من اتخاذهم أولياء وأصفياء.
وقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل قصد به الوعيد والتهديد لمن يفعل ذلك.
أى: ومن يتولهم منكم في حال استحبابهم الكفر على الإيمان، فأولئك الموالون لهم هم الظالمون لأنفسهم، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها، وتجاوزوا حدود الله التي نهاهم عن تجاوزها، وسيجازيهم- سبحانه- على ذلك بما يستحقونه من عقاب.
ثم أمر- سبحانه- رسوله ﷺ أن يعلن للناس هذه الحقيقة: وهي أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال- تعالى-: قُلْ يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الذين أنتم بضعة منهم، وَأَبْناؤُكُمْ الذين هم قطعة منكم وَإِخْوانُكُمْ الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم وَأَزْواجُكُمْ اللائي جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة وَعَشِيرَتُكُمْ أى: أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أى: اكتسبتموها فهي عزيزة عليكم.
وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتساب مطلقا:
وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أى: تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الإيمان.
يقال: كسد الشيء من باب نصر وكرم. كسادا وكسودا، إذا قل رواجه وربحه.
وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أى: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ الآية ٩٤.
236
قل لهم يا محمد: إن كان كل ذلك- من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن- أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ.
أى: إن كانت هذه الأشياء أحسن في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم، وهو العذاب العاجل أو العقاب الآجل.
فالجملة الكريمة تهديد وتخويف لمن آثر محبة الآباء والأبناء على محبة الله ورسوله، وعلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين.
وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى:
والله- تعالى- قد اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:
(١) تحريم موالاة الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم، واعتبار هذه الموالاة من الكبائر، لوصف فاعلها بالظلم: قال- تعالى-: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
(٢) قوة إيمان الصحابة، وسرعة امتثالهم لأوامر الله، فإنهم في سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس إليهم ممن خالفوهم في الدين، بل وحاربوهم وقتلوهم.
قال ابن كثير: روى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر الجراح، قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية- التي بآخر سورة المجادلة- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ، أَوْ أَبْناءَهُمْ، أَوْ إِخْوانَهُمْ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «١».
(٣) إن المؤمن لا يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب، وقد وردت عدة أحاديث في هذه المعنى، ومن ذلك ما أخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبى عقيل
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٢.
237
زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال رسول الله ﷺ «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: فأنت والله أحب إلى من نفسي. فقال رسول الله ﷺ «الآن يا عمر» «١».
(٤) في الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليما، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء.. ولذا قال الإمام الزمخشري: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين. فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ «٢».
(٥) قال بعض العلماء: وليس المطلوب. من قوله- تعالى- قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ... إلخ. أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة.. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة، وهي المحركة الدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الحياة؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة والعشيرة والزوج.. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن. ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق. في غير سرف ولا مخيلة.
بل إن المتاع حينئذ لمستحب، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده. وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بلغت درجة قرابتهم، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله.. انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٣.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٧.
238
الله عليهم. حيث نصرهم- سبحانه- في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
قال ابن كثير. هذه أول آية نزلت من براءة يذكر- تعالى- المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده- تعالى-: وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم إلى أن النصر من عنده سواء قل الجمع أم كثر، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم... ثم أنزل الله نصره على رسوله والمؤمنين.
وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة: وذلك أنه لما فرغ ﷺ من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله ﷺ بلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه، ومعهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر.
فخرج إليهم رسول الله ﷺ في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين.
فسار بهم رسول الله ﷺ إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح.
239
انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد.. فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار، وثبت رسول الله ﷺ وثبت معه من أصحابه قريب من مائة.
ثم أمر ﷺ عمه العباس- وكان جهير الصوت- أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة- أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه- فجعل ينادى بهم.. فجعلوا يقولون: لبيك لبيك.
وانعطف الناس فتراجعوا.. فأمرهم رسول الله ﷺ أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله ﷺ «١».
هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين- للمرة الأولى- جيش تعداده اثنا عشر ألفا، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة.. أصيبوا بالهزيمة في أول معركة.. ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئا إذا لم يكن عون الله معهم.
فقوله- تعالى-: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم حتى يداوموا على طاعته ومحبته. وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت.
والمواطن: جمع موطن. وهو المكان الذي يقيم فيه الإنسان. يقال: استوطن فلان بمكان كذا، إذا جعله وطنا له.
والمراد بالمواطن هنا: الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم.
قال الآلوسى: وقوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز.. وأوجب الزمخشري كون يَوْمَ منصوبا بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة.
أى: «ونصركم يوم حنين..» «٢».
وقوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بدل من يوم حنين، أو عطف بيان له.
(١) تفسير ابن كثير. بتصرف وتلخيص. ج ٢ ص ٣٤٣. وراجع تفاصيل هذه الغزوة في السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ من ص ٨٠ إلى ص ١٤٣. طبعة الحلبي سنة ١٩٣٦ تحقيق مصطفى السقا وزميليه.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٥- بتصرف وتلخيص:
240
وأعجبتكم: من الإعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه. وسبب هذا الإعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا، وعدد أعدائهم كان أربعة آلاف.
وقوله: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً بيان للأثر السيئ الذي أعقب الإعجاب بالكثرة، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلا، بل تبعه الحزن والهزيمة.
وقوله: تُغْنِ من الغناء بمعنى النفع. تقول: ما يغنى عنك هذا الشيء، أى:
ما يجزئ عنك وما ينفعك وقوله: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ بيان لشدة خوفهم وفزعهم.
قال القرطبي: والرحب- بضم الراء- السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر.
والرحب- بالفتح- الواسع. تقول منه: بلد رحب وأرض رحبة.
وقيل: الباء بمعنى مع، أى: وضاقت عليكم الأرض مع رحبها. وقيل بمعنى على. أى:
على رحبها. وقيل المعنى برحبها فتكون «ما» مصدرية «١».
والمعنى: اذكروا- أيها المؤمنون- نعم الله عليكم، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة، ومن مظاهر هذه النعم أنه- سبحانه- قد نصركم على أعدائكم مع قلتكم. في مواقف حروب كثيرة كغزوة بدر، وغزوة بنى قينقاع والنضير... كما نصركم. أيضا. في يوم غزوة حنين، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم: لن نغلب اليوم من قلة...
ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئا من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم، فكنتم كما قال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة... على الخائف المطلوب كفّة حابل «٢»
وقوله: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم.
ووليتم: من التولي بمعنى الإعراض. ومدبرين: من الإدبار بمعنى الذهاب إلى الخلف.
أى: ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شيء.
وهكذا، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويرا بديعا
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠١.
(٢) الكفة. بالكسر. حبالة الصائد. والحابل: الذي ينصب الحبالة. [.....]
241
معجزا.. فهي تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم، وتقفل في وجوههم، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتمثلة في تولية الأدبار، والنكوص على الأعقاب.
وبعد هذا الخوف الشديد الذي أصاب المؤمنين في مبدأ لقائهم بأعدائهم في غزوة حنين، يجيء نصر الله الذي عبر عنه- سبحانه- بقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ...
والسكينة: الطمأنينة والرحمة والأمنة وهي فعيلة من السكون: وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.
أى: ثم أنزل الله- تعالى- على رسوله ﷺ وعلى المؤمنين رحمته التي تسكن إليها القلوب، وتطمئن بها اطمئنانا يستتبع النصر القريب.
وقد كان الرسول ﷺ في حاجة إلى هذه السكينة لأنه مع شجاعته وثباته ووقوفه في وجه الأعداء كالطود الأشم. أصابه الحزن والأسى لفرار هذا العدد الكبير من أصحابه عنه.
وكان المؤمنون الذين ثبتوا من حوله في حاجة إلى هذه السكينة ليزدادوا ثباتا على ثباتهم، وإيمانا على إيمانهم.
وكان الذين فروا في حاجة إلى هذه السكينة، ليعود إليهم ثباتهم، فيقبلوا على قتال أعدائهم بعد أن دعاهم رسولهم ﷺ إلى ذلك.
وقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها بيان لنعمة أخرى سوى إنزال السكينة.
أى: وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم، ولكنكم وجدتم أثرها في قلوبكم، حيث عاد إليكم ثباتكم وإقدامكم.
وقوله: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، بيان لنعمة ثالثة سوى السابقتين.
أى: أنزل سكينته وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا بأن سلطكم عليهم فقتلتم منهم من قتلتم، وأسرتم من أسرتم.
وقوله وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أى وذلك الذي نزل بهؤلاء الكافرين من التعذيب جزاء لهم على كفرهم، وصدهم عن سبيل الله.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته ورحمته بعباده فقال- تعالى- ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
242
أى: ثم يتوب الله- تعالى- من بعد هذا التعذيب للذين كفروا في الدنيا، على من يشاء أن يتوب عليه منهم، بأن يوفقه للدخول في الإسلام، والله- تعالى- واسع المغفرة، عظيم الرحمة، لا يحاسب الكافرين بعد إيمانهم على ما حصل منهم من كفر.
قال- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ «١».
قال ابن كثير: وقوله: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ... قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا، وقدموا عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير، ما بين صبي وامرأة فرده عليهم: وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطاهم مائة من الإبل مالك بن عوف النضري واستعمله على قومه «٢».
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ذكرت المؤمنين بجانب من نعم الله عليهم. ومن رحمته بهم، وأرشدتهم إلى أن النصر لا يتأتى لمن أعجبوا بكثرتهم فانشغلوا بها عن الاعتماد عليه- سبحانه- وإنما النصر يتأتى لمن أخلصوا لله سرائرهم وعلانيتهم. وباشروا الأسباب التي شرعها- سبحانه- للوصول إلى الفوز والظفر.
قال ابن القيم: افتتح الله- تعالى- غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، لهذا يقرن بين هاتين بالذكر، فقال بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين.. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله ﷺ والمسلمين. فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله «٣».
وبعد هذا التذكير والتوجيه من الله- تعالى- لعباده المؤمنين.. وجه- سبحانه- إليهم نداء أمرهم فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام، ووعدهم بالعطاء الذي يغنيهم، فقال:
(١) سورة الأنفال الآية ٣٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٤٦.
(٣) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٠٩٩.
243

[سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
وقوله: نَجَسٌ بالتحريك- مصدر نجس الشيء ينجس فهو نجس إذا كان قذرا غير نظيف، وفعله من باب «تعب» وفي لغة من باب «قتل».
قال صاحب الكشاف: النجس: مصدر. يقال نجس نجسا وقذر قذرا، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها «١».
قيل: وجوز أن يكون لفظ «نجس» صفة مشبهة- وإليه ذهب الجوهري ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى، ليصح الإخبار به عن الجمع. أى جنس نجس ونحوه «٢».
وقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فيه ما فيه من التعبير البديع المصور المجسم لهم، حتى لكأنهم بأرواحهم وماهيتهم وكيانهم: النجس يمشى على الأرض فيتحاشاه المتطهرون، ويتحاماه الأتقياء من الناس.
وقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا تفريع على نجاستهم والمراد النهى عن الدخول إلا أنه عبر عنه بالنهى عن القرب مبالغة في إبعادهم عن المسجد الحرام.
والنهى وإن كان موجها إلى المشركين، إلا أن المقصود منه نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك، والمراد بقوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا العام الذي حصل فيه النداء بالبراءة من المشركين، وبعدم طوافهم بالمسجد الحرام.. وهو العام التاسع من الهجرة.
قال ابن كثير: أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا- عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية. وكان نزولها في سنة تسع.
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦١.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١ ص ٦٨.
244
ولهذا بعث رسول الله ﷺ عليا صحبة أبى بكر رضى الله عنهما- عامئذ، وأمره أن ينادى في المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا «١».
وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ بشارة من الله تعالى للمؤمنين بأن سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المشركين.
والعيلة: الفقر والفاقة: يقال: عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر، ومنه قول الشاعر:
وما يدرى الفقير متى غناه... وما يدرى الغنى متى يعيل
وقرئ «عائلة» بمعنى المصدر كالعافية: اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أى: حالا عائلة.
قال ابن جرير- بعد أن ساق روايات في سبب نزول الآية-: عن عطية العوفى قال: لما قيل «ولا يحج بعد العام مشرك» قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم، قال فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... الآية «٢».
والمعنى: لا تمكنوا أيها المؤمنون. المشركين من دخول المسجد الحرام بعد هذه السنة، لأنهم نجس.. ولا تخشوا الفقر والفاقة بسبب عدم تمكينهم، حيث إنكم تتبادلون معهم التجارات والمبايعات.. لأن الله- تعالى- قد وعدكم أن يغنيكم من فضله بالعطايا والخيرات التي تكفيكم أمر معاشكم..
وقد أنجز الله- تعالى- لهم وعده، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وفتح لهم البلاد، فكثرت بين أيديهم الغنائم وألوان الخيرات، ودخل في دين الله من هم أيسر حالا وأغنى مالا من هؤلاء المشركين..
قال صاحب الكشاف: قوله: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أى: من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل عليهم السماء مدرارا، فأغزر بها خيرهم، وأكثر مسيرهم. وأسلم أهل تبالة «٣» وجرس فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به: فكان أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته» «٤».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٨.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٠٧.
(٣) تبالة: بلد باليمن خصبة ومثلها جرس.
(٤) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٠.
245
والتقييد بالمشيئة في قوله: إِنْ شاءَ ليس للتردد، بل هو لتعليم المؤمنين رعاية الأدب مع الله- تعالى- كما في قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. ولبيان أن هذا الإغناء بإرادته- سبحانه- وحده، فعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه، وتضرعهم إليه لا إلى غيره، وللتنبيه على أن عطاءه سبحانه لهم، هو من باب التفضل لا الوجوب، لأنه لو كان واجبا ما قيده بالمشيئة.
ولما كانت مشيئته- سبحانه- تجرى حسب مقتضى علمه وحكمته، فقد ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أى: إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم، وبما يكون عليه أمر حاضركم ومستقبلكم حكيم فيما شرعه لكم. فاستجيبوا له لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي استنبطها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
١- أن المراد بالمشركين في الآية ما يتناول عبدة الأوثان وغيرهم من أهل الكتاب. كما هو مقتضى ظاهر اللفظ، وكما يدل عليه قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.. «١».
أى: لا يغفر أن يشرك به بأى لون من ألوان الشرك.
ويرى كثير من الفقهاء أن المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان فحسب، لأن الحديث خاص بهم من أول السورة إلى هنا.
٢- يرى جمهور الفقهاء أن نجاسة المشركين مرجعها إلى خبث بواطنهم لعبادتهم سوى الله- تعالى- أما أبدانهم فطاهرة.
وقد بسط صاحب المنار القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه: «قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين، ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل.
حكى هذا القول عن ابن عباس والحسن البصري.. وجمهور الظاهرية..
ويرى جمهور السلف والخلف وأصحاب المذاهب الأربعة أن أعيانهم طاهرة. لأنه من المعلوم أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم. ومع هذا فالنبي ﷺ لم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم.. بل الثابت أنه ﷺ توضأ من مزادة مشركة، وأكل من طعام اليهود... وأطعم هو وأصحابه وفدا من الكفار ولم يأمر بغسل الأوانى التي أكلوا وشربوا فيها..
(١) سورة النساء الآية ٤٨.
246
وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله، فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا... » «١».
٣- اختلف الفقهاء في المراد بالمسجد الحرام في قوله- تعالى- فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا....
فقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء: المراد به الحرم كله فيشمل المسجد الحرام ومكة، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله. وعليه فالكافر يمنع من دخول الحرم كله..
ويرى الشافعى أن المراد المسجد الحرام بخصوصه أخذا بظاهر اللفظ.
قال القرطبي: وقال الشافعى: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد» «٢».
ويرى الإمام مالك أن المراد المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد تقاس عليه، لأن العلة- وهي النجاسة- موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد.
وعليه فلا يجوز تمكينهم لا من المسجد الحرام ولا من غيره من المساجد.
ويرى الأحناف أن المراد بالمسجد الحرم كله، إلا أن النهى هنا ليس منصبا على دخوله وإنما هو منصب على المنع من الحج والعمرة. ومن الحج إليه أى: لا تمكنوا- أيها المؤمنون- المشركين من الطواف بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا.
قال الآلوسى: ويؤيده قوله- تعالى- بَعْدَ عامِهِمْ هذا، فإن تقييد النهى يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام. أى: لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة.. ويدل عليه نداء على- كرم الله وجهه- يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، وكذا قوله- سبحانه- وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أى: فقرا بسبب منعهم، لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى.
ثم قال: والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهى عليه، ولا يمنعون عنده من دخول المسجد الحرام ومن دخول سائر المساجد» «٣».
(١) راجع تفسير المنار ج ١٠ ص ٣٢٢ وما بعدها.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٠٥.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٦٨.
247
٤- قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز، وليس ذلك بمناف للتوكل، وإن كان الرزق مقدرا، ولكنه علقه بالأسباب لتظهر القلوب التي تتعلق بالأسباب، من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري أن الرسول ﷺ قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» «١» - أى: تغدو صباحا وهي جياع، وتعود عشية وهي ممتلئة البطون-.
هذا، وبتدبر آيات السورة الكريمة- من أولها إلى هنا- نراها قد وضحت العلاقات النهائية بين المسلمين وعبدة الأوثان، وفصلت كثيرا من الأحكام التي تخص الفريقين، ومن ذلك أنها قررت:
١- براءة الله ورسوله من عهود المشركين الذين مردوا على نقض المواثيق.
٢- إعطاءهم مهلة مقدارها أربعة أشهر يتدبرون خلالها أمرهم، دون أن يتعرض المسلمون لهم بسوء.
٣- إعلان الناس جميعا يوم الحج الأكبر بهذه البراءة..
٤- أمر المؤمنين بإتمام مدة العهد لمن حافظ من المشركين على عهده.
٥- بيان ما يجب على المؤمنين فعله إذا ما انقضت أشهر الأمان التي أعطيت للمشركين.
٦- إرشاد المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم تأمين المشرك المستجير بهم حتى يسمع كلام الله، ويطلع على حقيقة الإسلام.. ثم توصيله إلى موضع أمنه إن لم يسلم.
٧- بيان الأسباب التي تدعو إلى قتال المشركين، وإلى وجوب البراءة منهم.
٨- بيان بعض الحكم والأسرار التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام.
٩- بيان أن المشركين ليسوا أهلا لعمارة مساجد الله.. وأن الذين هم أهل لذلك:
المؤمنون الصادقون.
١٠- توجيه المؤمنين إلى أن إيمانهم يحتم عليهم أن يؤثروا محبة الله ورسوله على أى شيء آخر، من الآباء والأبناء والإخوان.
١١- تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم حيث نصرهم في مواطن كثيرة ونصرهم يوم غزوة حنين، بعد أن هزموا في أول المعركة دون أن تنفعهم كثرتهم التي أعجبوا بها.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠٧- بتصرف يسير-[.....]
248
١٢- نهيهم عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام، وإزالة الوساوس التي قد تخطر ببالهم بسبب هذا النهى، بأن وعدهم- سبحانه- بأنه سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المكاسب التي تأتيهم عن طريق تبادل المنافع مع المشركين في موسم الحج.
هذه أهم الموضوعات التي تعرضت لها سورة التوبة في ثمان وعشرين آية من أولها إلى هنا.
وهي موضوعات وضحت. كما أسلفنا. الأحكام النهائية في علاقات المسلمين بالمشركين عبدة الأوثان.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من المنحرفين من أهل الكتاب، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة، وأفعالهم القبيحة، التي تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإسلام، وقد بدئت هذه الآيات بقوله- تعالى-
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه لما ذكر- سبحانه- حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام.. ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد «١».
وقال ابن كثير ما ملخصه: هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب- اليهود والنصارى. وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله ﷺ لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة، فندبهم فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة. ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ حر. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٢٧.
249
يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، ونزل بها، وأقام بها قريبا من عشرين يوما، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال، وضعف الناس....» «١».
وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ.... أمر منه- سبحانه- للمؤمنين بقتال أهل الكتاب، وبيان للأسباب التي اقتضت هذا الأمر، وهي أنهم:
أولا: لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لأنهم لو كانوا مؤمنين به إيمانا صحيحا، لاتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولأن منهم من قال: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ومنهم من قال: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
وقولهم هذا كفر صريح، لأنه- سبحانه- منزه عما يقولون.
قال- تعالى- قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
وثانيا: أنهم «لا يؤمنون باليوم الآخر» على الوجه الذي أمر الله- تعالى- به، ومن كان كذلك كان إيمانه. على فرض وجوده. كلا إيمان.
قال الجمل ما ملخصه: فإن قلت: اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف نفى الله عنهم ذلك؟
قلت: إن إيمانهم بهما باطل لا يفيد، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبي ﷺ فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم فصح نفيه في الآية ولأن إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه، والنصارى يعتقدون الحلول، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك.
وأيضا فإن إيمانهم باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين، وذلك لأنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجساد، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون- أى أنهم يرون نعيم الجنة وعذاب النار يتعلقان بالروح فقط ولا شأن للجسد بذلك. ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن «٢».
وثالثا: أنهم لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أى: أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله محمد ﷺ في القرآن والسنة، وفضلا عن ذلك فهم لا يلتزمون ما حرمته
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٧.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٧٥.
250
شريعتهم على ألسنة رسلهم، وإنما غيروا وبدلوا فيها على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم.
أى أنهم لا يحرمون ما حرمه الله لا في شريعتنا ولا في شريعتهم.
فاليهود- بجانب كفرهم بشريعتنا- لم يطيعوا شريعتهم، بدليل أنهم استحلوا أكل أموال الناس بالباطل مع أنها. أى شريعتهم. نهتهم عن ذلك.
قال- تعالى- وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ... «١».
والنصارى- بجانب كفرهم- أيضا- بشريعتنا- لم يطيعوا شريعتهم بدليل أنهم ابتدعوا الرهبانية مع أن شريعتهم لم تشرع لهم ذلك.
قال- تعالى- ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «٢».
ورابعا: لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. وقوله: يَدِينُونَ بمعنى يعتقدون ويطيعون.
يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه.
والمراد بدين الحق: دين الإسلام الناسخ لغيره من الأديان.
أى: أنهم لا يتخذون دين الإسلام دينا لهم، مع أنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده، والذي لا يقبل- سبحانه- دينا سواه. قال- تعالى-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً... «٣».
وقال- تعالى-: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «٤».
ويصح أن يكون المراد بدين الحق. ما يشمل دين الإسلام وغيره من الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء السابقون.
أى: ولا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه، وشرعها لعباده، وإنما هم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم.
(١) سورة النساء. الآية ١٦١.
(٢) سورة الحديد ٢٧.
(٣) سورة المائدة. الآية ٣.
(٤) سورة آل عمران الآية ٨٥.
251
وعبر عنهم في قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.. بالاسم الموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال.
أى أن العلة في الأمر بقتالهم، كونهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق.
وقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للمتصفين بهذه الصفات الأربعة وهم اليهود والنصارى لأن الحديث عنهم، وعن الأسباب التي توجب قتالهم.
والمراد بالكتاب: جنسه الشامل للتوراة والإنجيل.
أى: قاتلوا من هذه صفاتهم، وهم اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإنجيل- عن طريق موسى وعيسى- عليهما السلام- ولكنهم لم يعملوا بتعاليمهما وإنما عملوا بما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم.
والمقصود بقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان في الحكم، لأن حكم هؤلاء قتالهم حتى يسلموا، أما حكم أهل الكتاب فهو القتال، أو الإسلام، أو الجزية:
وقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ غاية لإنهاء القتال.
أى: قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن طوع وانقياد، فإن فعلوا ذلك فاتركوا قتالهم.
والجزية: ضرب من الخراج يدفعه أهل الكتاب للمسلمين وهي- كما يقول القرطبي:
- من جزى يجزى- مجازاة- إذا كافأ من أسدى إليه. فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
يجزيك أو يثنى عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى «١»
والمراد بإعطائها في قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، التزام دفعها وإن لم يذكر الوقت المحدد لذلك.
واليد هنا: يحتمل أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد. أى: حتى يعطوا الجزية عن خضوع وانقياد.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١١٤
252
ويحتمل أن تكون كناية و «عن» الدفع نقدا بدون تأجيل. أى: حتى يعطوها نقدا بدون تسويف أو تأخير.
ويحتمل أن تكون على معناها الحقيقي، و «عن» بمعنى الباء أى: حتى يعطوها بيدهم إلى المسلمين لا أن يبعثوا بها بيد أحد سواهم.
وهذه المعاني لليد إنما تتأتى إذا أريد بها يد المعطى. أى: يد الكتابي.
أما إذا أردنا بها اليد الآخذة- وهي يد الحاكم المسلم- ففي هذه الحالة يكون معناها القوة والقهر والغلبة.
أى: حتى يعطوها عن يد غالبة قوية لا قبل لهم بالوقوف أمامها.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: قوله: «عن يد» إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يده، أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة إذ أن من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده، إذا انقاد وأصحب- أى: سهل بعد صعوبة- ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه.
أو المعنى: حتى يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة، لا مبعوثا بها على يد أحد، ولكن يد المعطى إلى يد الآخذ.
ومعناه على إرادة يد الآخذ: حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية- وهي يد المسلمين- أو حتى يعطوها عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم، نعمة عظيمة عليهم» «١».
وقوله: وَهُمْ صاغِرُونَ من الصغار بمعنى الذل والهوان. يقال: صغر فلان يصغر صغرا وصغارا إذا ذل وهان وخضع لغيره.
والمعنى: قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يدفعوا لكم الجزية عن طواعية وانقياد. وهم أذلاء خاضعون لولايتكم عليهم... فإن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله. ولا يتخذون الدين الحق دينا لهم. يستحقون هذا الهوان في الدنيا، أما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى.
هذا. ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
١- إن هذه الآية أصل في مشروعية الجزية، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٢٤.
253
كثير من الفقهاء- لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإسلام أو القتال أو الجزية، أما غيرهم من مشركي العرب فلا يخيرون إلا بين الإسلام أو القتال.
قال القرطبي ما ملخصه: وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى:
لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية: فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم، لقوله- تعالى- في شأن المشركين:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب.
وقال الشافعى: وتقبل من المجوس لحديث «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أى: في أخذ الجزية منهم.
وبه قال أحمد وأبو ثور. وهو مذهب الثوري وأبى حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعى: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب.
وكذلك مذهب مالك: فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربيا أو عجميا تغلبيا أو قرشيا كائنا من كان إلا المرتد..» «١».
٢- أن أخذ الجزية منهم إنما هو نظير ما ينالهم، وكفنا عن قتالهم، ومساهمة منهم في رفع شأن الدولة الإسلامية التي أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم، ومقدساتهم.. وإقرار منهم بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم، ورعايتهم، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة..
وفي تاريخ الإسلام كثير من الأمثلة التي تؤيد هذا المعنى، ومن ذلك، ما جاء في كتاب الخراج لأبى يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد «وينبغي يا أمير المؤمنين- أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد ﷺ والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم فقد روى عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من ظلم من أمتى معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه».
وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته: أوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله ﷺ أن يوفى بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم» «٢».
وجاء في كتاب «أشهر مشاهير الإسلام» أن جيوش التتار، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون
(١) تفسير القرطبي ج ٨ طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٨ هـ ١٩٦١ م.
(٢) كتاب الخراج لأبى يوسف ص ١٤.
254
شوكة التتار، ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية، أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأبى أن يسمح بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لا بد من إطلاق جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فأطلقهم له» «١».
وجاء في كتاب «الإسلام والنصرانية» للأستاذ الإمام محمد عبده ما ملخصه:
«... الإسلام كان يكتفى من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين. ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار، لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة.
خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة للعبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال.
جاءت السنة بالنهى عن إيذاء أهل الذمة، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين، «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»
و «من آذى ذميا فليس منا».
واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام. ولست أبالى إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عند ما بدأ الضعف في أبناء الإسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف.
ثم قال: أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله، وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم- بعد العجز عن إخراجهم من دينهم- طردتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا.
ولا يمنع غير المسيحي من تعدى المسيحي إلا كثرة العدد أو شدة العضد، كما شهد التاريخ، وكما يشهد كاتبوه.
ثم قال: فأنت ترى الإسلام يكتفى من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء، لا يعكرون معه
(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٢.
255
صفو الدولة، ولا يخلون بنظام السلطة العامة، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم» «١».
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه: قال السيوطي: استدل بقوله- تعالى- وَهُمْ صاغِرُونَ من قال إنها تؤخذ بإهانة، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه، ويحنى ظهره، ويقبض الآخذ لحيته... إلخ.
وقد رد الإمام ابن القيم على هذا القائل بقوله: هذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو من مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله ﷺ ولا عن أصحابه.
والصواب في الآية، أن الصغار: هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم، وإعطاء الجزية، فإن ذلك هو الصغار، وبه قال الشافعى» «٢».
والذي نراه أن ما قاله الإمام ابن القيم في رده هو عين الصواب، وأن ما نقله السيوطي عن بعضهم... يتنافى مع سماحة الإسلام وعدله ورحمته بالناس.
هذا، وهناك أحكام أخرى تتعلق بالجزية لا مجال لذكرها هنا، فليرجع إليها من شاء في بعض كتب الفقه والتفسير «٣».
وبعد أن بين- سبحانه- بعض رذائل أهل الكتاب على سبيل الإجمال، اتبع ذلك بتفصيل هذه الرذائل، فحكى أقوالهم الباطلة، وأفعالهم الذميمة، ونواياهم السيئة فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
(١) الإسلام والنصرانية ص ٧٤.
(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٠٨. [.....]
(٣) راجع على سبيل المثال تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠٩. وتفسير المنار ج ١٠ ص ٣٣١ وتفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٠٥.
256
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أتى رسول الله ﷺ سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى. وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك- يا محمد- وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله، فأنزل الله في ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.. الآية «١».
و «عزير» كاهن يهودي سكن بابل سنة ٤٥٧ ق م تقريبا، ومن أعماله أنه جمع أسفار التوراة وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا عن العبرانية القديمة، وألف أسفار: الأيام، وعزرا، ونحميا.
وقد قدسه اليهود من أجل نشره لكثير من علوم الشريعة، وأطلقوا عليه لقب «ابن الله».
قال البيضاوي: وإنما قالوا ذلك- أى: عزير ابن الله- لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة «بختنصر» - سنة ٥٨٦ ق م هـ من يحفظ التوراة. وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إلا لأنه ابن الله» «٢».
وقال صاحب المنار ما ملخصه: جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية- طبعة ١٩٠٣- أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره، وعبق شذا
(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١٠.
(٢) تفسير البيضاوي ص ٢٢٣.
257
ورده. وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة..» «١».
وقد ذكر المفسرون هنا أقوالا متعددة في الأسباب التي حملت اليهود على أن يقولوا «عزير ابن الله» وأغلب هذه الأقوال لا يؤيدها عقل أو نقل، ولذا فقد ضربنا عنها صفحا «٢».
وقد نسب- سبحانه- القول إلى جميع اليهود مع أن القائل بعضهم، لأن الذين لم يقولوا ذلك لم ينكروا على غيرهم قولهم، فكانوا مشاركين لهم في الإثم والضلال، وفيما يترتب على ذلك من عقاب.
وأما قول النصارى «المسيح ابن الله» فهو شائع مشهور، ومن أسبابه أن الله- تعالى- قد خلق عيسى بدون أب على خلاف ما جرت به سنته في التوالد والتناسل، فقالوا عنه «ابن الله».
وقد حاجهم- سبحانه- في سورة آل عمران بأن آدم قد خلقه الله من غير أب أو أم، فكان أولى بنسبة البنوة إليه، لكنهم لم ينسبوا إليه ذلك، فينبغي أن يكون عيسى كآدم.
قال- تعالى- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
وقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ذم لهم على ما نطقوا به من سوء يمجه العقل السليم، والفكر القويم.
أى: ذلك الذي قالوه في شأن «عزير والمسيح» قول تلوكه ألسنتهم في أفواههم بدون تعقل، ولا مستند لهم فيما زعموه سوى افترائهم واختلاقهم، فهو من الألفاظ الساقطة التي لا وزن لها ولا قيمة، فقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد أو والد أو صاحبة أو شريك.
قال- تعالى- وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «٣».
ولقد أنذر، سبحانه، الذين نسبوا إليه الولد بالعقاب الشديد فقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «٤».
(١) راجع تفسير المنار ص ٣٧٧ وما بعدها ففيه كلام مفيد عن عقيدة اليهود والنصارى.
(٢) راجع- على سبيل المثال- تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١١. وتفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٧٢.
(٣) سورة مريم الآيات: ٩٢- ٩٥.
(٤) سورة الكهف الآيتان ٤، ٥.
258
وأسند، سبحانه، القول إلى الأفواه مع أنه لا يكون إلا بها، لاستحضار الصورة الحسية الواقعية، حتى لكأنها مسموعة مرئية ولبيان أن هذا القول لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع، وإنما هو قول لغو ساقط وليد الخيالات والأوهام، ولزيادة التأكيد في نسبة هذا القول إليهم، أى: أنه قول صادر منهم وليس محكيا عنهم.
قال صاحب الكشاف، فإن قلت: كل القول يقال بالفم فما معنى قوله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؟.
قلت: فيه وجهان: أحدهما- أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من أى معنى تحته، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم، لا تدل على معان.
وذلك أن القول الدال على معنى، لفظه مقول بالفم، ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير.
والثاني- أن يراد بالقول: المذهب، كقولهم «قول أبى حنيفة» يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة، حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد» «١».
وقوله: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ذم آخر لهم على تقليدهم لمن سبقوهم بدون تعقل أو تدبر.
قال الجمل ما ملخصه: قرأ العامة يُضاهِؤُنَ بضم الهاء بعدها واو-. وقرأ عاصم «يضاهئون» بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة- فقيل هما بمعنى واحد وهو المشابهة، وفيه لغتان: ضاهأت وضاهيت... » «٢».
والمراد بالذين كفروا من قبل: قيل، أهل مكة وأمثالهم من المشركين السابقين الذين قالوا، الملائكة بنات الله وقيل، المراد بهم قدماء أهل الكتاب، أى، أن اليهود والنصارى المعاصرين للنبي ﷺ يشابه قولهم في العزير وعيسى قول آبائهم الأقدمين، - أى المعاصرين للعهد النبوي- قد ورثوا الكفر كابرا عن كابر.
والأولى من هذين الوجهين أن يكون المراد بالذين كفروا من قبل. جميع الأمم التي ضلت وانحرفت عن الحق، وأشركت مع الله في العبادة آلهة أخرى.
قال صاحب المنار، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٧٧.
259
الابن لله والحلول والتثليث، كانت معروفة عند البراهمة في الهند وفي الصين واليابان وقدماء المصريين وقدماء الفرس.
وهذه الحقيقة التاريخية- والتي بينها القرآن في هذه الآية- من معجزاته لأنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان» «١».
والمعنى. أن هؤلاء الضالين الذين قال بعضهم «عزير ابن الله» وقال البعض الآخر «المسيح ابن الله» ليس لهم على قولهم الباطل هذا دليل ولا برهان، ولكنهم يشابهون ويتابعون فيه قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم «فهم على آثارهم يهرعون» «٢».
وقوله. قاتَلَهُمُ اللَّهُ تعجيب من شناعة قولهم، ودعاء عليهم بالهلاك فإن من قاتله الله لا بد أن يقتل، ومن غالبه لا بد أن يغلب.
وعن ابن عباس، أن معنى قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن «٣».
وقوله: أَنَّى يُؤْفَكُونَ تعجيب آخر من انصرافهم الشديد عن الحق الواضح إلى الباطل المظلم المعقد.
وأَنَّى بمعنى كيف. ويُؤْفَكُونَ من الإفك بمنى الانصراف عن الشيء والابتعاد عنه، يقال، أفكه عن الشيء يأفكه أفكا، أى، صرفه عنه وقلبه. ويقال، أفكت الأرض أفكا، أى: صرف، عنها المطر.
والمعنى: قاتل الله هؤلاء الذين قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ والذين قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ لأنهم بقولهم هذا محل مقت العقلاء وعجبهم، إذ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، بعد وضوح الدليل على استحالة أن يكون له- تعالى- ولد أو والد أو صاحبة أو شريك.. ؟!.
إن ما قالوه ظاهر البطلان وهو محل عجب العقلاء واستنكارهم وغضبهم.
وقوله- سبحانه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق إلى الباطل، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة، وأفعال ذميمة.
(١) تفسير المنار- بتصرف وتلخيص ج ١٠ ص ٣٩٩ وراجع تفسير في ظلال القرآن ج ١٠ ص ٢٠٠.
(٢) سورة الصافات. الآية ٧٠.
(٣) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١٣.
260
والضمير في قوله اتَّخَذُوا يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من باطل وبهتان.
والأحبار: علماء اليهود جمع حبر، بكسر الحاء وفتحها- وهو الذي يحسن القول ويتقنه، مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن، والرهبان: علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا، المنعزل عن الناس مأخوذ من الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله- تعالى.
والمراد باتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم، وفيما حرموه عليهم، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفا لشرع الله.
وهذا التفسير مأثور عن رسول الله ﷺ فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدى بن حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله ﷺ فر إلى الشام: وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومها، ثم منّ رسول الله ﷺ على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله ﷺ فقدم عدى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عدى صليب من فضة، وكان الرسول يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ...
قال عدى: فقلت، إنهم لم يعبدوهم، فقال، بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.
قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية:
أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدى: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم «١».
وقال الآلوسى: وقيل اتخاذهم أربابا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله، تعالى، وحينئذ فلا مجاز، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله، لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده» «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١ ص ٧٥. [.....]
261
وقوله: وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ معطوف على قوله أَحْبارَهُمْ والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف أى: اتخذوه ربا وإلها.
قال صاحب المنار ما ملخصه: جمع- سبحانه. بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن أعطوهم حق التشريع فيهم: وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه ابن الله، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح: إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد» «١».
وقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة حالية أى: اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، بأن أطاعوهم فيما يحلونه لهم وفيما يحرمونه عليهم ولو كان ذلك مخالفا لشرع الله وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم ربا وإلها.
والحال أنهم جميعا ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا يكون الاعتماد إلا عليه، وكل ما سواه فهو مخلوق له.
وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لقوله إِلهاً. أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده، وأنه- سبحانه- هو المستحق لذلك شرعا وعقلا.
وقوله: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له.
أى: تنزه الله- عز وجل- وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، فهو رب العالمين، وخالق الخلائق أجمعين..
قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: ومن النص القرآنى الواضح الدلالة، ومن تفسير رسول الله ﷺ للآية وهو فصل الخطاب، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار وهي: أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول ﷺ فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى الاعتقاد في ألوهيتهم، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم... ومع هذا فقد حكم الله، سبحانه، عليهم
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٢٦.
262
بالشرك في هذه الآية، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها- فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين، ويدخله في عداد الكافرين.
إن النص القرآنى يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقادا وقدموا إليه الشعائر في العبادة «١».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما يهدف إليه أهل الكتاب من وراء أقاويلهم الكاذبة، ودعاواهم الباطلة فقال: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
والمراد بنور الله: دين الإسلام الذي ارتضاه. سبحانه- لعباده دينا وبعث به رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأعطاه من المعجزات والبراهين الدالة على صدقه، وعلى صحته ما جاء به مما يهدى القلوب، ويشفى النفوس، ويجعلها لا تدين بالعبادة والطاعة إلا لله الواحد القهار.
وقيل المراد بنور الله: حججه الدالة على وحدانيته- سبحانه- وقيل المراد به، القرآن، وقيل المراد به: نبوة النبي ﷺ وكلها معان متقاربة.
والمراد بإطفاء نور الله: محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه، وكتحريضهم لأتباعهم وأشياعهم على الوقوف في وجهه، وعلى محاربته.
والمراد بأفواههم. أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له ولا قيمة.
والمعنى: يريد هؤلاء الكافرون بالحق من أهل الكتاب أن يقضوا على دين الإسلام، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها نبيه ﷺ عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه، أو أصل تستند إليه، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة...
قال الآلوسى ما ملخصه: في الكلام استعارة تمثيلية، حيث شبه- سبحانه- حال أهل
(١) راجع تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٠ ص ٢٠٣ للأستاذ سيد قطب. طبعة دار إحياء التراث العربي الطبعة الخامسة.
263
الكتاب في محاولة إبطال نبوة النبي ﷺ عن طريق تكذيبهم له، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم مثبت في الآفاق ليطفئه بنفخه..
وروعي في كل من المشبه والمشبه به معنى الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال والتكذيب بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله- تعالى- العظيم الشأن.
ومن شأن النور المضاف إليه- سبحانه- أن يكون عظيما، فكيف يطفأ بنفخ الفم «١».. ؟!!
وقوله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بشارة منه- سبحانه- للمؤمنين، وتقرير لسنته التي لا تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأتباعه.
والفعل يَأْبَى هنا بمعنى لا يريد أو لا يرضى- أى: أنه جار مجرى النفي، ولذا صح الاستثناء منه.
قال أبو السعود: وإنما صح الاستثناء المفرغ- وهو قوله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. من الموجب، وهو قوله وَيَأْبَى اللَّهُ- لكونه بمعنى النفي، ولوقوعه في مقابلة قوله:
يُرِيدُونَ، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفى الإرادة، أى: لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه، فضلا عن الإطفاء.
وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره- سبحانه- زيادة اعتناء بشأنه، وتشريف له على تشريف، وإشعار بعلة الحكم» «٢».
وجواب لَوْ في قوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ محذوف لدلالة ما قبله عليه.
والمعنى: يريد أعداء الله أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والحال أن الله- تعالى- لا يريد إلا إتمام هذا النور، ولو كره الكافرون هذا الإتمام لأتمه- سبحانه- دون أن يقيم لكراهتهم وزنا.
فالآية الكريمة وعد من الله، تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم لكي يمضوا قدما إلى تنفيذ ما كلفهم الله به بدون إبطاء أو تثاقل، وهي في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها الوعيد لهؤلاء الضالين وأمثالهم.
- ثم أكد- سبحانه- وعده بإتمام نوره، وبين كيفية هذا الإتمام فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٧٦- بتصرف وتلخيص.
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٦٧. طبعة صبيح.
264
والمراد بالهدى: القرآن الكريم المشتمل على الإرشادات السامية، والتوجيهات القويمة، والأخبار الصادقة، والتشريعات الحكيمة.
والمراد بدين الحق: دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.
وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان، والسيادة والسلطان.
والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.
والضمير في لِيُظْهِرَهُ يعود على الدين الحق أو الرسول ﷺ والمعنى: هو الله- سبحانه- الذي أرسل رسوله محمدا ﷺ بالقرآن الهادي للتي هي أقوم، وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة، ولإظهار رسوله ﷺ على أهل الأديان كلها، بما أوحى إليه- سبحانه- من هدايات، وعبادات، وتشريعات، وآداب... في اتباعها سعادة الدنيا والآخرة.
وختم- سبحانه- هذه الآية بقوله: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وختم التي قبلها بقوله:
وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ للإشعار بأن هؤلاء الذين قالوا: «عزير ابن الله والمسيح ابن الله» قد جمعوا بسبب قولهم الباطل هذا، بين رذيلتي الكفر والشرك، وأنه، سبحانه، سيظهر أهل دينه على جميع أهل الأديان الأخرى.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك، منها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض من مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها».
وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة».
وروى أيضا عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزا ويذل ذليلا، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر». وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الشرف والخير والعز، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.
265
وأخرج أيضا عن عدى بن حاتم قال: دخلت على رسول الله ﷺ فقال: «يا عدى أسلم تسلم»، فقلت يا رسول الله: إنى من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني منى؟ قال نعم، ألست من الركوسية «١»، وأنت تأكل مرباع قومك» «٢».
قلت: بلى. قال: «فإن هذا لا يحل لك في دينك».
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، ومن رمتهم العرب، أتعرف الحيرة» ؟
قلت: لم أرها وقد سمعت بها.
قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز».
قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم. كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد».
قال عدى بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد.
ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله ﷺ قد قالها «٣».
وإلى هنا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد كذبت أهل الكتاب في قولهم «عزير ابن الله والمسيح ابن الله»، وأرشدتهم إلى الطريق الحق الواضح المستقيم ليسيروا عليه، ووبختهم على تشبههم في هذه الأقوال الباطلة بمن سبقهم من الضالين، وعلى انقيادهم لأحبارهم ورهبانهم بدون تعقل أو تدبر، وبشرت المؤمنين بظهور دينهم الذي ارتضاه الله لهم على الأديان كلها.
ثم ختم- سبحانه- الحديث عن أهل الكتاب بتوجيه نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الرذائل التي انغمس فيها الأحبار والرهبان، وكيف جمعوا بين ضلال أنفسهم وإضلال أتباعهم، حيث أمروا هؤلاء الأتباع بالانقياد لهم فيما يأتون ويذرون... فقال- تعالى-:
(١) الركوسية «بفتح الراء المشددة» قوم لهم دين بين النصارى والصابئين.
(٢) المرباع بمعنى الربع، كالمعشار بمعن العشر. وكان الناس في الجاهلية يعطون رئيسهم ربع ما يغنمونه خالصا له دون أن يشاركه فيه أحد. وكان عدى رئيسا لقومه.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٩.
266

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر، أخذ أموال الناس بالباطل.
ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم، وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعى أنه لا يلتفت إلى الدنيا، ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله «١».
والمراد بالأكل في قوله لَيَأْكُلُونَ مطلق الأخذ والانتفاع.
وعبر عن ذلك بالأكل، لأنه المقصود الأعظم من جمع الأموال، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، على سبيل المجاز المرسل، بعلاقة العلية والمعلولية. وأكلهم أموال الناس بالباطل، يتناول ما كانوا يأخذونه من سفلتهم عن طريق الرشوة والتدليس أو التحايل أو الفتاوى الباطلة. كما يتناول ما سوى ذلك مما كانوا يأخذونه بغير وجه حق.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤١.
267
وأسند- سبحانه- هذه الجريمة- وهي أكل أموال الناس بالباطل- إلى كثير من الأحبار والرهبان ولم يسندها إلى جميعهم، إنصافا للعدد القليل منهم الذي لم يفعل ذلك، فإن كل طائفة أو جماعة لا تخلو من وجود أفراد من بينها يتعففون عن الحرام، ويقيدون أنفسهم بالحلال.
قال صاحب المنار: وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحرى الحق في عبارات الكتاب العزيز، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثنى منه.
فمن الأول قوله- تعالى- في اليهود: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ «١».
ومن الثاني قوله- تعالى- في اليهود أيضا: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ «٢».
ومن الثالث قوله- سبحانه- في شأن المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام من اليهود- أيضا-: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا «٣».
وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر وإنما نكرره لعظيم شأنه... » «٤».
وقوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ جريمة من جرائمهم الكثيرة.
والصد: المنع والصرف عن الشيء.. وسبيل الله: دينه وشريعته.
أى، أن هؤلاء الكثيرين من الأحبار والرهبان لا يكتفون بأكل أموال الناس بالباطل، بل إنهم يضيفون إلى ذلك جريمة ثانية من جرائمهم المتعددة وهي أنهم ينصرفون عن الدين الحق وهو دين الإسلام انقيادا لأحقادهم وشهواتهم، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل، كأن
(١) سورة المائدة الآيتان ٦٢، ٦٣.
(٢) سورة المائدة الآية ٥٩.
(٣) سورة النساء الآية ٤٦.
(٤) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٦٢- بتصرف يسير.
268
يصفوه لهم بأنه دين باطل، أو بأن رسوله ﷺ ليس هو الرسول الذي بشرت به الكتب السماوية السابقة إلى غير ذلك من وسائلهم المتنوعة في صرف الناس عن الحق.
والاسم الموصول في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. يرى بعضهم أن المراد به أولئك الأحبار والرهبان، لأن الكلام مسوق في ذمهم، وتكون هذه الجملة ذما لهم على رذيلة ثالثة هي الحرص والبخل، بعد ذمهم على رذيلتي أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله.
ويرى آخرون أن المراد بهم البخلاء من المسلمين، وأن الجملة مستأنفة لذم مانعي الزكاة بقرينة قوله: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويكون نظمهم مع أهل السوء من الأحبار والرهبان من باب التحذير والوعيد والإشارة إلى أن الأشحاء المانعين لحقوق الله، مصيرهم كمصير الأحبار والرهبان في استحقاق البشارة بالعذاب.
وترى طائفة ثالثة من العلماء أن المراد به كل من كنز المال، ولم يخرج الحقوق الواجبة فيه، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم، لأن اللفظ مطلق، فيجب إجراؤه على إطلاقه وعمومه، إذ لم يرد ما يقيده أو يخصصه.
وقوله: يَكْنِزُونَ من الكنز، وأصله في اللغة العربية: الضم والجمع.
يقال: كنزت التمر في الوعاء إذا جمعته فيه. وكل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض أو على ظهرها فهو كنز، وجمعه كنوز.
وخص الذهب والفضة بالذكر، لأنهما الأصل الغالب في الأموال ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما.
وقال الفخر الرازي ما ملخصه: ذكر- سبحانه- شيئين هما الذهب والفضة ثم قال:
وَلا يُنْفِقُونَها- وكان الظاهر أن يقول «ولا ينفقونهما» والجواب من وجهين:
الأول: أن الضمير عائد إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله- تعالى- وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..
أو أن يكون التقدير: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها في سبيل الله، فيكون الضمير عائد إلى الكنوز المدلول عليها بالفعل يَكْنِزُونَ.
الثاني: أن يكون الضمير عائد إلى اللفظ، ويكون ذكر أحدهما يغنى عن ذكر الآخر،
269
كقوله- تعالى- وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «١» جعل الضمير للتجارة... «٢».
وقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر الموصول.
والتعبير بالبشارة من باب التهكم بهم، والسخرية منهم، فهو كقولهم: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم.
وقوله: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ..
تفصيل لهذا العذاب الأليم، وبيان لميقاته، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم، والأشحاء عن شحهم...
والظرف يَوْمَ منصوب بقوله: بِعَذابٍ أَلِيمٍ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول.
أى: يعذبون يوم يحمى عليها، أو بفعل مقدر أى: اذكر يوم يحمى عليها.
وقوله يُحْمى يجوز أن يكون من حميت وأحميت- ثلاثيا ورباعيا- يقال: حميت الحديدة وأحميتها، أى: أوقدت عليها لتحمى.
وقوله: عَلَيْها جار ومجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا، أى: يحمى الوقود أو الجمر عليها.
قال الآلوسى: وأصله تحمى بالنار من قولك: حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة لأن النار في ذاتها ذات حمى، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها. ثم حذفت النار، وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت: رفع إلى الأمير، وقرأ ابن عامر تحمى بالتاء بإسناده إلى النار كأصله» «٣». والمعنى: بشر- يا محمد- أولئك الذين يكنزون الأموال في الدنيا ولا ينفقونها في سبيل الله، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار المشتعلة على تلك الأموال التي لم يؤدوا حق الله فيها فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ أى: فتحرق بها جباههم التي كانوا يستقبلون بها الناس، والتي طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز، وتحرق بها- أيضا- «جنوبهم» التي كثيرا ما انتفخت من شدة الشبع وغيرها جائع، وتحرق بها كذلك «ظهورهم» التي نبذت وراءها حقوق الله بجحود وبطر...
(١) سورة الجمعة الآية ١١.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤٧- بتصرف وتلخيص. [.....]
(٣) تفسير الآلوسى: ج ١٠ ص ٧٨.
270
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء بالكي؟
قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم- حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراض الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم، يتلقون بالجميل ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك، هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطر ببالهم قول رسول الله ﷺ «ذهب أهل الدثور بالأجر كله».
وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم..» «١».
وقوله: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ مقول لقول محذوف.
والتفسير: تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ، وهي تتولى حرق جباههم وجنوبهم وظهورهم: هذا العذاب الأليم النازل بكم في الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه في الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه. فذوقوا وحدكم وبال كنزكم. وتجرعوا غصصه، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم، لأنكم لم تشكروا الله على هذه الأموال. بل استعملتموها في غير ما خلقت له.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.
١- التحذير من الانقياد لدعاة السوء، ومن تقليدهم في رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما جاء به الإسلام من تعاليم وتشريعات...
ولذا قال ابن كثير عند تفسيره للآية الأولى: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى.
وفي الحديث الصحيح: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» ؟ وفي رواية: فارس والروم؟ قال: «فمن الناس إلا هؤلاء» والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم «٢».
هذا، ونص الحديث الصحيح الذي ذكره الإمام ابن كثير- كما رواه الشيخان- هكذا
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٥٠.
271
عن أبى سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟
قال: فمن؟ «١»
.
أما الحديث الذي جاء فيه حذو القذة بالقذة، فقد أخرجه الإمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه: «ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم. أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة» «٢».
٢- يرى جمهور العلماء أن المقصود بالكنز في قوله، تعالى، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها.. ألخ المال الذي لم تؤد زكاته، أما إذا أديت زكاته فلا يسمى كنزا، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذي اشتملت عليه الآية.
وقد وضح الإمام القرطبي هذه المسألة فقال: واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أولا؟.
فقال قوم: نعم. رواه أبو الضحى عن جعدة بن هبيرة عن على قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ،، ، ولا يصح.
وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز، قال ابن عمر: ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
ومثله عن جابر، وهو الصحيح.
وروى البخاري عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه- يعنى شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك..».
وفيه أيضا عن أبى ذر قال: انتهيت إلى النبي ﷺ فقال: «والذي نفسي بيده، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم، لا يؤدى حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس».
فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى. قال له أعرابى: أخبرنى عن قول الله. تعالى- وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ..
(١) أخرجه الترمذي في باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، ج ٤ ص ٢٠٦ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٤٥ هـ.
(٢) راجع المسند ج ٤ ص ١٢٥، طبعة عيسى الحلبي. تحقيق الأستاذ أحمد شاكر.
272
الآية فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ.. كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال ﷺ «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم» قال: فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» «١».
٣- أخذ بعض الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التي تفيض عن حاجات الإنسان الضرورية.
قال ابن كثير: كان من مذهب أبى ذر- رضى الله عنه- تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة- وهي بلدة قريبة من المدينة- وبها مات- رضى الله عنه- في خلافة عثمان.
وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبى ذر، فقلت له: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. فقال معاوية: ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال: قلت: إنها لفينا وفيهم.
ثم قال ابن كثير: وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال لأبى ذر: «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر على ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين» فهذا- والله أعلم- هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا» «٢».
وقال الشيخ القاسمى: قال ابن عبد البر: وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٢٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٢- بتصرف وتلخيص.
273
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابى حيث قال: هل على غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع» «١».
وحديث طلحة الذي أشار إليه ابن عبد البر، قد جاء في صحيح البخاري ونصه: عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام.
فقال رسول الله ﷺ «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل على غيرها؟:
قال: «لا.. إلا أن تطوع»
، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام رمضان» قال: هل على غيره؟
قال: «لا إلا أن تطوع»، قال. وذكر له رسول الله ﷺ الزكاة، قال. هل على غيرها؟ قال «لا إلا أن تطوع».
قال، فأدبر الرجل وهو يقول. والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال، رسول الله ﷺ «أفلح إن صدق» «٢».
هذا ومما استدل به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء، على عدم حرمة اقتناء الأموال التي تفيض عن الحاجة- مادام قد أدى حق الله فيها- ما يأتى:
(أ) أن قواعد الشرع لا تحرم ذلك، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة، لما كان لمشروعية المواريث فائدة.
(ب) ثبت في الحديث الصحيح أن سعد بن أبى وقاص عند ما كان مريضا، وزاره رسول الله ﷺ قال له: يا رسول الله: أأوصى بمالي كله؟ قال: «لا. قال سعد: فالشطر؟
قال: لا. قال سعد: فالثلث؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: فالثلث والثلث كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس... »
«٣».
ولو كان جمع المال واقتناؤه محرما، لأقر النبي ﷺ سعدا على التصدق بجميع ماله، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو سعد، ولكنه ﷺ لم يفعل ذلك، بل قال لسعد: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس..».
وقد كان في عهده ﷺ من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال- كعثمان بن
(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٣٧.
(٢) صحيح البخاري ج ١ ص ١٨ باب: الزكاة من الإسلام. من كتاب الإيمان.
(٣) صحيح البخاري ج ٤ ص ٣ باب «أن يترك ورثته أغنياء». من كتاب الوصايا.
274
عفان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما- ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية.
قال القرطبي: قرر الشرع ضبط الأموال وأداء حقها، ولو كان ضبط المال ممنوعا، لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم- رضوان الله عليهم- وأما ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له «١».
(ج) ما ورد من آثار في ذم الكنز والكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو في حق من امتنع عن أداء حق الله في ماله.
قال صاحب الكشاف. فإن قلت فما تصنع في قوله ﷺ «من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها».
قلت. كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرضيتها، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه.
ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، ولكل شيء حد «٢» ».
٤- أن الإسلام وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال- بعد أداء حق الله فيه- إلا أنه أمر أتباعه أن يكونوا متوسطين في حبهم لهذا الاقتناء، حتى لا يشغلهم حب المال عن طاعة الله.
ورحم الله الإمام الرازي، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه، اعلم أن الطريق الحق أن يقال، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع. فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى.
أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها:
أن كثرة المال سبب لكثرة الحرص في الطلب، والحرص متعب للروح والنفس والقلب..
والعاقل هو الذي يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه. وأن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣١.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٨.
275
في تعب الحفظ وأن كثرة الجاه والمال تورث الطغيان، كما قال- تعالى- إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «١».
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث في ذم التكثر من الذهب والفضة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حسان بن عطية قال:
كان شداد بن أوس- رضى الله عنه- في سفر، فنزل منزلا فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه ذلك. فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها عنى واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، واسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم. إنك أنت علام الغيوب «٢».
وبعد: فهذه سبع آيات عن أهل الكتاب، بدأت- بقوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وانتهت بقوله تعالى: فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.
وقد بينت هذه الآيات ما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين منهم، وكشفت عن أقوالهم الباطلة، وعن جحود رؤسائهم للحق، وعن انقياد: عامتهم للضلال، وعن استحلال كثير من أحبارهم ورهبانهم لمحارم الله...
ثم عادت السورة بعد ذلك إلى تكلمة الحديث عن أحوال المشركين السيئة، وعن وجوب مقاتلتهم، فقال تعالى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٤٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥١. [.....]
276
قال صاحب المنار، هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح، وسقوط عصبية الشرك، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين- في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم، وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعا..» «١».
والعدة- في قوله. إن عدة الشهور-: على وزن فعله من العدد وهي بمعنى المعدود. قال الراغب: العدة: هي الشيء المعدود، قال- تعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أى: وما جعلنا عددهم إلا فتنة للذين كفروا..
والشهور: جمع شهر. والمراد بها هنا: الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وهي شهور. المحرم. وصفر. وربيع الأول.. إلخ.
وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية، وبها يعتد المسلمون في عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم.
والمراد بقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: الوقت الذي خلقهما فيه، وهو ستة أيام كما جاء في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله- تعالى- إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «٢».
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٨.
(٢) سورة الأعراف الآية ٥٤.
277
والمعنى: إن عدد الشهور «عند الله» أى: في حكمه وقضائه اثْنا عَشَرَ شَهْراً هي الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية.
وقوله فِي كِتابِ اللَّهِ، أى: في اللوح المحفوظ.
قال القرطبي: وأعاده بعد أن قال عِنْدَ اللَّهِ لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله، كقوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «١».
وقيل معنى «في كتاب الله» أى فيما كتبه- سبحانه- وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السموات والأرض.
قال الجمل: وقوله. فِي كِتابِ اللَّهِ صفة لاثنى عشر، وقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار، أو بالكتاب، إن جعل مصدرا.
والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة «٢» أى: أن المقصود من هذه الآية الكريمة، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته- سبحانه- في اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع.. فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها، أو انتهاك حرمة المحرم منها.
وقوله، حُرُمٌ جمع حرام- كسحب جمع سحاب- مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى- أوجب على الناس احترام هذه الشهور، ونهى عن القتال فيها:
وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج البخاري عن أبى بكر عن النبي ﷺ أنه قال في خطبة حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «٣».
وسماه ﷺ رجب مضر، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٢.
(٢) حاشية الجمل ج ٢ ص ٢٨٠.
(٣) صحيح البخاري ج ٦ ص ٨٣- كتاب التفسير.
278
رجبا وكانت قبيلة مضر تحرم رجبا نفسه، لذا قال ﷺ فيه «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
قال ابن كثير. وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد. وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهرا وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون بأداء المناسك، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا «١».
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعود إلى ما شرعه الله- تعالى من أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا، ومن أن منها أربعة حرم.
والقيم: القائم الثابت المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج أى: ذلك الذي شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك، ومن كون منها أربعة حرم: هو الدين القويم، والشرع الثابت الحكيم، الذي لا يقبل التغيير أو التبديل.. لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم.
والضمير المؤنث في قوله فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى: فلا تظلموا في الشهور الاثنى عشر أنفسكم، بأن تفعلوا فيها شيئا مما نهى الله عن فعله، ويدخل في هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا.
ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم، لأنه إليها أقرب لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها.
وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها.
وعن قتادة: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم.. فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة.
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٤.
279
قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة: فخص الذنب فيهن، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف، وذلك نظير قوله- تعالى- حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى، ولكنه تعالى- زادها تعظيما، وعلى المحافظة عليها توكيدا، وفي تضييعها تشديدا، فكذلك في قوله مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه «١».
وقال القرطبي: لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول:
للباري- تعالى- أن يفعل ما شاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة، ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى «٢».
وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعة، وعزيمة صادقة.
وكلمة كَافَّةً مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في قاتِلُوا أو من المفعول وهو لفظ المشركين، ومعناها: جميعا.
وقالوا: وهذه الكلمة من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهي ملتزمة للإفراد والتأنيث مثل: عامة وخاصة «٣».
أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- المشركين جميعا، كما يقاتلونكم هم جميعا، بأن تكونوا في قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين، لا مختلفين ولا متخاذلين.
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم في قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به.
أى: واعلموا- أيها المؤمنون أن الله تعالى- مع عباده المتقين بالعون والنصر والتأييد، ومن كان الله معه فلن يغلبه شيء فكونوا- أيها المؤمنون من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه لتنالوا عونه وتأييده.
(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٢٧.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٦.
(٣) راجع تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٨٢. وتفسير المنار ج ١٠ ص ٤٨٤.
280
ثم نعى- سبحانه- على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم.. فقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ.. والنسيء: مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشيء إذا أخره. ومنه نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها عنه. ومنه: أنسأ الله في أجل فلان، أى: أخره والمراد به: تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال:
«كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر- وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها- حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين «١».
والمعنى: إنما النسيء الذي يفعله المشركون، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر، زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أى: زيادة في كفرهم لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا آخر، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة والكفر في التشريع.
قال القرطبي: وقوله: زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر، فإنها أنكرت وجود الباري- تعالى- فقالت: وَمَا الرَّحْمنُ في أصح الوجوه.
وأنكرت البعث فقالت مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، وأنكرت بعثة الرسل فقالوا:
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهوانها فأحلت ما حرمه الله: ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون» «٢».
وقوله يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول.
أى: يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسيء في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم.
وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو يضل بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل.
أى: يضل الله الذين كفروا، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسيء.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٠.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٩.
281
ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسيء الذي هو لون من ألوان استحلال محارم الله.
وقوله: يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً بيان وتفسير لكيفية ضلالهم.
والضمير المنصوب في يُحِلُّونَهُ ويُحَرِّمُونَهُ يعود إلى النسيء، أى الشهر المؤخر عن موعده.
والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم، وأنهم يحرمونه أى: يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر، إذا كانت مصلحتهم في ذلك.
والمواطأة: الموافقة. يقال: واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته.
والمعنى: فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم، ليوافقوا بما فعلوه عدة الأشهر الحرم، بحيث تكون أربعة في العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في شريعة الله.
قال ابن عباس: ما أحل المشركون شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الأشهر الحلال. وما حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام، لكي يكون عدد الأشهر الحرم أربعة. «١».
وقوله: فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ تفريع على ما تقدم.
أى: فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة، ما حرمه الله في شرعه. فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله في عدد الشهور المحرمة، إلا أنهم خالفوه في تخصيصها فقد كانوا- مثلا- يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر.
وقوله: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ذم لهم على انتكاس بصائرهم، وسوء تفكيرهم.
أى: زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا. وقوله:
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين.
أى: والله تعالى. اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا طريق الغي على طريق الرشاد..
فكان أمرهم فرطا.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٥٨- بتصرف يسير.
282
١- أن السنة اثنا عشر شهرا، وأن شهور السنة القمرية هي المعول عليها في الأحكام لا شهور السنة الشمسية.
قال الفخر الرازي، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهرا من الشهور القمرية، والدليل عليه هذه الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الآية، وقوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.. فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر.
وأيضا قوله. تعالى: (يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج..).
ثم قال، واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل. عليهما السلام. فأما عند اليهود والنصارى، فليس الأمر كذلك..) «١».
وقال الجمل: قوله (اثنا عشر شهرا) هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم. وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما. والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس في الفلك دورة تامة، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما.
وربع يوم. فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف) «٢».
هذا، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية، وعن سبب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت «٣».
٢- وجوب التقيد بما شرعه الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها.
قال القرطبي ما ملخصه: وضع- سبحانه- هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة، وهو معنى قوله:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً. وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها.
والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٥٨.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨. [.....]
(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٣٤.
283
ولذا قال ﷺ في خطبته في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات الأرض».
ثم قال القرطبي كانوا يحرمون شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. فهذا معنى قوله ﷺ «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» «١».
٣- أخذ بعضهم من قوله تعالى- فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعا.
قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها.
وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، بدليل أن الله- تعالى- بعد أن نهى المؤمنين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد بزمن فقال وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فدل ذلك على أن القتال في الأشهر الحرم مباح.
وبدليل أن النبي ﷺ حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة.
قال ابن كثير: ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم.. لجئوا إلى الطائف، فعمد ﷺ إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام- أى. في شهر ذي القعدة.
ثم قال ما ملخصه: وأما قوله- تعالى- وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف، ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم.. ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم-. أى من الأعداء: كما قال: - تعالى- الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وكما قال- تعالى- وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
وهكذا الجواب عن حصار رسول الله ﷺ أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها، فإنهم الذين بدءوا القتال للمسلمين.. فعند ذلك قصدهم رسول الله ﷺ فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٣٧.
284
من حصونهم فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة منهم.. واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوما، وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم، لأنه يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء، وهذا أمر مقرر «١».
ومن كلام ابن كثير. رحمه الله- نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهي عنه هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم، لا إتمام القتال فيها متى بدأ الأعداء ذلك وهو قريب من قول القائل: لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا أن يكون دفاعا.
وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، لأنه لم يثبت أن الرسول ﷺ بدأ أعداءه القتال في الأشهر الحرم، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدءوا قتال المسلمين فيها، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم:
٤- ذكر المفسرون روايات في أول من أخر حرمة شهر إلى آخر، فعن مجاهد قال: كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: أيها الناس: إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا رجل من بنى كنانة يقال له «القلمس» وكان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام. يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده. فلما كان هو قال لقوله: اخرجوا بنا- أى للقتال-. فقالوا له:
هذا المحرم. قال: ننسئه العام، هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا.. جعلناهما محرمين.
قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: لا تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان» «٢».
وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسيء، ومن ذلك قول شاعرهم:
ومنا ناسئ الشهر القلمس قال آخر:
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٥ بتصريف يسير.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٦.
285
وقد أبطل الإسلام كل ذلك، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها- سبحانه- عليه يوم خلق السموات والأرض.
وبعد: فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا، نراها- في مجموعها كما سبق أن بينا- قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، كما نراها قد أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكيم مؤثر، يقنع العقول، ويشبع العواطف.
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة.. وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين، والتحذير منهم.
وقد بدأت السورة حديثها عن غزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
286
قال الإمام ابن كثير: هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر، وحمارة القيظ، «١».
وتبوك: اسم لمكان معروف في أقصى بلاد الشام من ناحية الجنوب، ويبعد عن المدينة المنورة من الجهة الشمالية بحوالى ستمائة كيلو متر.
وكانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة، وهي آخر غزوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان السبب فيها أن الرسول ﷺ بلغه أن الروم قد جمعوا له جموعا كثيرة على أطراف الشام، وأنهم يريدون أن يتجهوا إلى الجنوب لمهاجمة المدينة.
فاستنفر ﷺ الناس إلى قتال الروم، وكان ﷺ قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها حتى يبقى الأمر سرا.
ولكنه في هذه الغزوة صرح للمسلمين بوجهته وهي قتال الروم، وذلك لبعد المسافة، وضيق الحال، وشدة الحر، وكثرة العدو.
وقد لبى المؤمنون دعوة رسولهم ﷺ لقتال الروم، وصبروا على الشدائد، والمتاعب وبذلوا الكثير من أموالهم، ولم يتخلف منهم إلا القليل.
أما المنافقون وكثير من الأعراب، فقد تخلفوا عنها، وحرضوا غيرهم على ذلك، وحكت السورة- في كثير من آياتها الآتية- ما كان منهم من جبن ومن تخذيل الناس عن القتال، ومن تحريض لهم على القعود وعدم الخروج.
وبعد أن وصل الرسول ﷺ والمؤمنون إلى تبوك، لم يجدوا جموعا للروم. فأقاموا
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩ بتصرف وتلخيص.
287
هناك بضع عشرة ليلة، ثم عادوا إلى المدينة» «١».
وقوله- سبحانه-: انْفِرُوا من النفر وهو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لسبب من الأسباب الداعية لذلك.
يقال: نفر فلان إلى الحرب ينفر وينفر نفرا ونفورا، إذا خرج بسرعة ويقال: استنفر الإمام الناس، إذا حرضهم على الخروج للجهاد. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: وإذا استنفرتم فانفروا أى: وإذا دعاكم الإمام إلى الخروج معه للجهاد فاخرجوا معه بدون تثاقل.
واسم القوم الذين يخرجون للجهاد: النفير والنفرة والنفر.
ويقال: نفر فلان من الشيء، إذا فزع منه، وأدبر عنه، ومنه قوله- تعالى- وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «٢».
وقوله: اثَّاقَلْتُمْ: من الثقل ضد الخفة. يقال: تثاقل فلان عن الشيء، إذا تباطأ عنه ولم يهتم به.. ويقال: تثاقل القوم: إذا لم ينهضوا لنجدة المستجير بهم. وأصل اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم، فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت فيها، ثم اجتلبت همزة الوصل من أجل التوصل للنطق بالساكن.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أى: ما الذي جعلكم تباطأتم عن الخروج إلى الجهاد، حين دعاكم رسولكم ﷺ إلى قتال الروم، وإلى النهوض لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه؟
وقد ناداهم- سبحانه- بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم، وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان الصادق من طاعة لله ولرسوله. والاستفهام في قوله:
ما لَكُمْ لإنكار واستبعاد صدور هذا التثاقل منهم، مع أن هذا يتنافى مع الإيمان والطاعة.
قال الجمل: و «ما» مبتدأ، و «لكم» خبر، وقوله «اثاقلتم» حال. وقوله: «إذا قيل لكم» ظرف لهذه الحال مقدم عليها.
والتقدير: أى شيء ثبت لكم من الأعذار. حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم: انفروا في سبيل الله «٣».
وقوله. «إلى الأرض» متعلق بقوله: «اثاقلتم» على تضمينه معنى الميل إلى الراحة،
(١) لمعرفة تفاصيل غزوة تبوك: راجع «سيرة ابن هشام» ج ٤ ص ١٥٩. طبعة الحلبي.
(٢) سورة الإسراء. الآية ٤٦.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٢.
288
والإخلاد إلى الأرض، ولذا عدى بإلى.
أى: اثاقلتم مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية، وإلى الإقامة بأرضكم ودياركم، وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإسلام.
وإن التعبير بقوله، سبحانه، اثَّاقَلْتُمْ لفي أسمى درجات البلاغة، وأعلى مراتب التصوير الصادق، لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذي استقر على الأرض.. والذي كلما حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم، وأخلد إلى الأرض.
وذلك لأن ما استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة وخيراتها.
وقوله، سبحانه،: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد، وتعجب من ركونهم إلى الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك.
وقوله. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة الدائم.
والمعنى: أى شيء حال بينكم، أيها المؤمنون، وبين المسارعة إلى الجهاد عند ما دعاكم رسولكم ﷺ إليه. أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها الناقصة.
إن كان أمركم كذلك، فقد أخطأتم الصواب، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب متاع الآخرة الباقي، ونعيمها الخالد.
قال الآلوسى ما ملخصه: «في» من قوله فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ تسمى بفي القياسية. لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به. وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها، ويستدعى الرغبة فيها، وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.
وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المستورد، أخى بنى فهر، قال:
قال رسول الله ﷺ «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع» «١».
وقال الفخر الرازي: اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال، لأنه،
(١) الآلوسى تفسير ج ١٠ ص ٨٥.
289
سبحانه، نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا. وليس لقائل أن يقول: الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه، لأنه عليه السلام، ما كان يخاف هجوم الروم عليه، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم..
وأيضا هو واجب على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. والخطاب في الآية للمؤمنين الذين تقاعسوا في الخروج إلى غزوة تبوك مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «١».
ثم هددهم، سبحانه، بالعذاب الأليم، إن لم ينفروا للجهاد في سبيله فقال إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً.
أى: إِلَّا تَنْفِرُوا، أيها المؤمنون، للجهاد كما أمركم رسولكم يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً في الدنيا بإنزال المصائب، بكم، وفي الآخرة بنار جهنم.
وقوله: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أى: ويستبدل بكم قوما يطيعون رسوله في العسر واليسر، والمنشط والمكره.. كما قال،: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.
قال صاحب المنار: قيل المراد بهؤلاء القوم: أهل اليمن، وقيل أهل فارس وليس في محله، فإن الكلام للتهديد، والله يعلم أنه لا يقع الشرط ولا جزاؤه.
وإنما المراد يطيعونه- سبحانه- ويطيعون رسوله، لأنه قد وعده بالنصر وإظهار دينه، فإن لم يكن هذا الإظهار بأيديكم. فلا بد أن يكون بأيدى غيركم وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.
وقد مضت سنته- تعالى- بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها وحفظ حقيقتها وسيادتها، ولا تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الإمام، فكيف إذا كان الإمام والقائد هو النبي الموعود من ربه بالنصر.. «٢».
والضمير في قوله وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً يعود إلى الله، تعالى.
أى: إن تباطأتم «أيها المؤمنون» عن الجهاد، يعذبكم الله عذابا أليما ويستبدل بكم قوما سواكم لنصرة نبيه، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب تقاعسكم. لأنكم أنتم الفقراء إليه، وهو، سبحانه، الغنى الحميد.
وقيل: الضمير يعود للرسول، ﷺ أى: ولا تضروا الرسول شيئا ما من الضرر بسبب تثاقلكم عن الجهاد، لأن الله قد وعده بالنصر ووعده كائن لا محاله.
(١) تفسير الفخر الرازي- بتصرف وتلخيص- ج ١٦ ص ٦٠.
(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٥٩٥- بتصرف وتلخيص.
290
وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما قبله.
أى: والله، تعالى: على كل شيء من الأشياء قدير، ولا يعجزه أمر، ولا يحول دون نفاذ مشيئته حائل، فامتثلوا أمره لتفوزوا برضوانه.
فأنت ترى أن هذه الآية وسابقتها قد اشتملت على أقوى الأساليب التي ترغب في الجهاد، وترهب من النكوص عنه، وتبعث على الطاعة لله ولرسوله.
ثم ذكرهم، سبحانه، بما يعرفونه من حال الرسول ﷺ حيث نصره الله. تعالى، على أعدائه بدون عون منهم، وأيده بجنود لم يروها فقال، إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ.
قال ابن جرير. هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله ﷺ أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه، وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة «١».
والمعنى: إنكم، أيها المؤمنون، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه. فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة، كما نصره، وأنتم تعلمون ذلك، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ثانِيَ اثْنَيْنِ أى: أحد اثنين.
والثاني: أبو بكر الصديق، رضى الله عنه.
يقال. فلان ثالث ثلاثة، أو رابع أربعة.. أى: هو واحد من الثلاثة أو من الأربعة.
فإذا قيل: فلان رابع ثلاثة أو خامس أربعة، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته إليهم، أو صير الأربعة خمسة.
وأسند سبحانه الإخراج إلى المشركين مع أن الرسول ﷺ قد خرج بنفسه بإذن من الله، تعالى، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك، بعد أن تآمروا على قتله.
قيل: وجواب الشرط في قوله، إِلَّا تَنْصُرُوهُ محذوف وقوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ تعليل لهذا المحذوف.
والتقدير: إلا تنصروه ينصره الله في كل حال. فَقَدْ نَصَرَهُ سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بلده ولم يكن معه سوى رجل واحد.
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت. كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جوابا للشرط؟.
قلت «فيه وجهان» أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل
(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٣٥.
291
واحد. ولا أقل من الواحد، فدل بقوله. فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت.
والثاني. أنه أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده، «١».
وقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ حال من الهاء في قوله أَخْرَجَهُ أى أخرجه الذين كفروا حال كونه منفردا عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق- رضى الله عنه-.
وقوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ.
والغار: النقب العظيم يكون في الجبل. والمراد به هنا: غار جبل ثور. وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.
وقوله: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بدل ثان من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ.
أى. إلا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار، ووقت أن كان ﷺ يقول لصاحبه الصديق: لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته.
وذلك أن أبا بكر وهو مع النبي ﷺ في الغار، أحس بحركة المشركين من فوق الغار، فخاف خوفا شديدا لا على حياته هو، وإنما على حياة النبي ﷺ فلما رأى النبي ﷺ منه ذلك، أخذ في تسكين روعه وجزعه وجعل يقول له: لا تحزن إن الله معنا.
أخرج الشيخان عن أبى بكر قال. نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رءوسنا، فقلت. يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال:
«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا» «٢».
وقوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها.. بيان لما أحاط الله به نبيه- صلى الله عليه وسلم- من مظاهر الحفظ والرعاية.
والسكينة: من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن- بالتحريك- وهو كل ما سكنت إليه نفسك، واطمأنت به من أهل وغيرهم.
والمراد بها هنا: الطمأنينة التي استقرت في قلب النبي ﷺ فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٢.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة التوبة ج ٦ ص ٨٣ وأخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة» ج ٧ ص ١٠٨. [.....]
292
والمراد بالجنود المؤيدين له. الملائكة الذين أرسلهم- سبحانه- لهذا الغرض: والضمير في قوله: عَلَيْهِ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أى. فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله ﷺ وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه.
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله عَلَيْهِ يعود إلى أبى بكر الصديق، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة. وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف.
وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الضمير فيه لا يصح إلا للنبي ﷺ وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله عَلَيْهِ عائدا إلى النبي ﷺ حتى لا يحصل تفكك في الكلام.
أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان، وللدلالة على علو شأنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أى. تأييده ونصره عليه أى. على الرسول ﷺ في أشهر القولين. وقيل. على أبى بكر.
قالوا: لأن الرسول ﷺ لم تزل معه سكينة. وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال، ولهذا قال: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أى: الملائكة «١».
وقوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة.
والمراد بكلمة الذين كفروا. كلمة الشرك، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهي اتفاقهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بكلمة الله: دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، وما يترتب على اتباع هذا الدين من نصر وحسن عاقبة، أى: كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى، أى. المقهورة الذليلة. وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإسلام هي العليا أى: هي الثابتة الغالبة النافذة.
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥٨.
293
وقراءة الجمهور برفع. كَلِمَةَ على الابتداء. وقوله هِيَ مبتدأ ثان: وقوله:
الْعُلْيا خبرها، والجملة خبر المبتدأ الأول.
ويجوز أن يكون الضمير هِيَ ضمير فصل، وقوله الْعُلْيا هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالنصب عطفا على مفعول جعل وهو كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أى: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وجعل كلمة الله هي العليا.
قالوا: وقراءة الرفع أبلغ وأوجه، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهي قوله: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا لأنها في ذاتها عالية ثابتة، بدون جعلها كذلك في حادثة معينة. بخلاف علو غيرها فهو غير ذاتى، وإنما هو علو مؤقت في حالة معينة، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك.
وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
أى: والله- تعالى- عَزِيزٌ لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، ولا ينصر من عاقبه ناصر، حَكِيمٌ في تصريفه شأن خلقه، لا قصور في تدبيره، ولا نقص في أفعاله.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية: الدلالة على فضل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- وعلى علو منزلته، وقوة إيمانه، وشدة إخلاصه لله- تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومما يشهد لذلك، أن الرسول ﷺ عند ما أذن الله له بالهجرة، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة.
ولقد أظهر الصديق- رضى الله عنه- خلال مصاحبته للرسول ﷺ الكثير من ألوان الوفاء والإخلاص وصدق العقيدة «١».
قال الآلوسى ما ملخصه: واستدل بالآية على فضل أبى بكر.. فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر.. فعن الحسن قال: عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ الآية.
(١) راجع قصة الهجرة في كتاب «السيرة النبوية» لابن هشام ج ٢ ص ٤٨٠ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٥٥.
294
ولأن فيها النص على صحبته للرسول ﷺ ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة: لأنه هو المراد بالصاحب في قوله إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ وهذا مما وقع عليه الإجماع.
ومن هنا قالوا: من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر، لإنكار كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة «١».
وقد ساق الإمام الرازي، والشيخ رشيد رضا، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجها في فضل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، فارجع إليهما إن شئت «٢».
وبعد هذا التذكير للمؤمنين بما كان منه- سبحانه- من تأييد لرسوله عند هجرته، أمرهم- جل شأنه- بالنفير في كل حال فقال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: اعلم أنه- تعالى- لما توعد من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وضرب له من الأمثال ما وصفنا، اتبعه بهذا الأمر الجازم فقال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
والمراد: انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها، أو على الصفة التي يثقل. وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة.
منها: خِفافاً في النفور لنشاطكم له، وثِقالًا عنه لمشقته عليكم.
ومنها: خِفافاً لقلة عيالكم، وثِقالًا لكثرتها.
ومنها: خِفافاً من السلاح، وثِقالًا منه.
والصحيح ما ذكرنا، إذ الكل داخل فيه، لأن الوصف المذكور وصف كلى يدخل فيه كل هذه الجزئيات» «٣».
والمعنى: انْفِرُوا- أيها المؤمنون- خِفافاً وَثِقالًا أى: في حال سهولة النفر عليكم، وفي حال صعوبته ومشقته.
وَجاهِدُوا أعداءكم ببذل أموالكم. وببذل أنفسكم فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى: في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ورسوله ﷺ فمن استطاع منكم الجهاد بالمال والنفس وجب عليه الجهاد بهما. ومن قدر على أحدهما
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٨٩.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٦ ص ٦٣. تفسير المنار ج ١٠ ص ٤١٧.
(٣) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٦٩.
295
دون الآخر، وجب عليه ما كان في قدرته منهما.
قال القرطبي روى أبو داود عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.
وهذا وصف لأكمل ما يكون الجهاد وأنفعه عند الله- تعالى- فقد حض- سبحانه- على كمال الأوصاف.
وقدم الأموال في الذكر، إذ هي أول مصرف وقت التجهيز، فرتب الأمر كما هو في نفسه «١».
واسم الإشارة في قوله: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعود إلى المذكور من الأمرين السابقين وهما: النفور والجهاد.
أى: ذلكم الذي أمرتم به من النفور والجهاد في سبيل الله، خير لكم في دنياكم وفي آخرتكم من التثاقل عنهما، إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم خالقكم ومربيكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد أدرك المؤمنون الصادقون هذا الخير فامتثلوا أمر ربهم، ونفروا للجهاد في سبيله خفاقا وثقالا، بدون تباطؤ أو تقاعس.
وقد ساق المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية كثيرا من الأمثلة التي تدل على محبة السلف الصالح للجهاد في سبيل الله، ومن ذلك.
ما جاء عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فقال: أى بنى، جهزوني جهزوني. فقال بنوه. يرحمك الله!! لقد غزوت مع النبي ﷺ حتى مات، ومع أبى بكر حتى مات. ومع عمر حتى مات. فنحن نغزو عنك.
فقال: لا، جهزوني. فغزوا في البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها، ولم يتغير- رضى الله عنه.
وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع «٢».
وأخرج ابن جرير عن حيان بن زيد الشرعبى قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥٣.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥١.
296
واليا على حمص، فلقيت شيخا كبيرا هرما، على راحلته فيمن نفر، فأقبلت عليه فقلت:
يا عماه لقد أعذر الله إليك.
قال: فرفع حاجبيه فقال. يا ابن أخى، استنفرنا الله خفافا وثقالا، من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلى الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله «١».
وعن أبى راشد الحبرانى قال. وافيت المقداد بن الأسود، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وهو يريد الغزو- وقد تقدمت به السن- فقلت له: لقد أعذر الله إليك.
فقال: أبت علينا سورة البعوث ذلك. يعنى هذه الآية: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «٢».
هذا، ومن العلماء من يرى أن هذه الآية تجعل الجهاد على الجميع حتى المريض والزمن والفقير.. وليس الأمر كذلك، فما معنى هذا الأمر؟.
قلت. من العلماء من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ بقوله- تعالى- لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى.. «٣».
ومنهم من حمل هذا الأمر على الندب.
والصحيح أنها منسوخة، لأن الجهاد من فروض الكفاية، ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك، وأن النبي ﷺ خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال، فدل ذلك على أن الجهاد من فروض الكفايات، وأنه ليس على الأعيان «٤».
ويرى بعض العلماء أن الآية ليست منسوخة، فقد قال الإمام القرطبي- ما ملخصه- واختلف في هذه الآية، فقيل إنها منسوخة بقوله- تعالى- لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى.
والصحيح أنها ليست بمنسوخة.
روى ابن عباس عن أبى طلحة في قوله- تعالى-: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال:
شبانا وكهولا. ما سمع الله عذر أحد. فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.
ثم قال- بعد أن ساق نماذج متعددة لمن خرجوا للجهاد خفافا وثقالا- فلهذا وما كان مثله مما روى عن الصحابة والتابعين قلنا. إن النسخ لا يصح.
(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١٤٠- بتصريف يسير.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٩٣- بتصريف يسير.
(٣) سورة التوبة الآية ٩١.
(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٥.
297
فقد تكون هناك حالة يجب فيها نفير الكل، وذلك إذا تعين الجهاد لغلبة العدو على قطر من الأقطار الإسلامية، أو بحلوله في العقر. ففي هذه الحالة يجب على جميع أهل الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا شبابا وشيوخا، كل على قدر طاقته. ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج.
فإن عجز أهل تلك البلدة عن صد عدوهم كان على من قاربهم أن يخرجوا معهم لصد العدو، وكذلك الشأن بالنسبة لكل من علم بضعفهم عن عدوهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم.
حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها، سقط الفرض عن الآخرين.
ثم قال- رحمه الله-: ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة، وهو إخراج الإمام طائفة.. لإظهار القوة، وإعزاز دين الله.
ثم قال: وقال ابن العربي، ولقد نزل بنا العدو- قصمه الله. سنة سبع وعشرين وخمسمائة: فجاس ديارنا، وأسر خيرتنا، وتوسط بلادنا.. فقلت للوالي والمولى عليه: عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس.. فيحاط به فيهلك.
فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوى إلى وجاره «١»، وإن رأى المكيدة بجاره.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله «٢».
والذي نراه. أن ما ذهب إليه الإمام القرطبي، من أن الآية الكريمة ليست منسوخة، أولى بالاتباع.
لأن الجهاد قد يكون فرض كفاية في بعض الحالات، وقد يكون فرض عين في حالات أخرى والآية الكريمة التي معنا تدعو المؤمنين إلى النفير العام في تلك الحالات الأخرى التي يكون الجهاد فيها فرض عين وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التي تدعو إلى النفير العام.
والآيات التي تعفى بعض الناس من مشاقه ومتاعبه.
ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن هذه الآيات الأربع قد عاتبت المؤمنين الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك عتابا شديدا وأنذرتهم بالعذاب الأليم إن لم ينفروا.. وذكرتهم بما كان من نصر الله لنبيه حين أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين.. وأمرتهم بالنفور إلى الجهاد خفافا وثقالا.
(١) الوجار بكسر الواو وفتحها- بيت الثعلب.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥٠.
298
وبمجاهدة المشركين بأموالهم وأنفسهم، فذلك هو الخير لهم في عاجلتهم وآجلتهم.
ثم أخذت السورة الكريمة في بيان قبائح المنافقين، ومعاذيرهم الواهية، ومسالكهم الخبيثة. وأيمانهم الفاجرة.. فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
قال الفخر الرازي هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. «١» والعرض.
ما يعرض للإنسان من منافع الدنيا وشهواتها.
والسفر القاصد: هو السفر القريب السهل الذي لا يصاحبه ما يؤدى إلى التعب الشديد. من القصد بمعنى التوسط والاعتدال في الشيء.
والشقة: المسافة التي لا تقطع إلا بعد تكبد المشقة والتعب، فهي مأخوذة من المشقة وشدة العناء.
قال القرطبي: حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة: السفر إلى أرض بعيدة. يقال: منه شقة شاقة. والمراد بذلك كله غزوة تبوك..» «٢».
والمعنى: لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد، متاعا من متع الحياة الدنيا، وسفرا سهلا قريبا، لاتبعوك فيما دعوتهم إليه، لأنه يوافق أهواءهم، ويشبع رغباتهم، ولكنهم حين عرفوا أن ما دعوتهم إليه هو الجهاد في سبيل الله وما يصحبه من أسفار شاقة. وتضحيات جسيمة.. تعلّلوا لك بالمعاذير الكاذبة، وتخلفوا عن الخروج معك، جبنا منهم، وحبا للراحة والسلام.
وشبيه بهذه الآية من حيث المعنى، قول الرسول ﷺ في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة «لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا، أو مرماتين «٣» حسنتين لشهد العشاء».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٢- المطبعة الشرقية سنة ١٣٢٤ هـ الطبعة الثانية. [.....]
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٥٤ طبعة دار الكاتب العربي سنة ١٩٤٧.
(٣) مرماتين: تثنية مرماة، وهي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفها من اللحم.
299
أى: لو يعلم أحد هؤلاء المتخلفين عن صلاة العشاء في جماعة، أنه يجد عند حضور صلاتها في جماعة شيئا من اللحم لحضرها.
ثم حكى- سبحانه- ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من الجهاد فقال:
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ.
أى. وسيحلف هؤلاء المنافقون بالله- كذبا وزورا- قائلين. لو استطعنا أيها المؤمنون أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا: فاننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين، فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف!! وأتى- سبحانه- بالسين في قوله: وَسَيَحْلِفُونَ لأنه من قبيل الإخبار بالغيب. فقد كان نزول هذه الآية قبل رجوعه ﷺ من تبوك. وحلفهم هذا كان بعد رجوعه منها.
قال الفخر الرازي: قالوا: الرسول ﷺ أخبر عنهم أنهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لما وقع كما أخبر كان هذا إخبارا عن الغيب فكان معجزا، «١».
والمراد بالاستطاعة في قوله: «لو استطعنا» : وجود وسائل للجهاد معهم، من زاد وعدة وقوة في البدن، وغير ذلك مما يستلزمه الجهاد في سبيل الله.
وقوله: لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ساد مسد جوابي القسم والشرط.
ثم بين- سبحانه- سوء مصيرهم بسبب كذبهم ونفاقهم فقال: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ:
أى. أن هؤلاء المتخلفين عن الجهاد يهلكون أنفسهم بسبب حلفهم الكاذب، وجرأتهم على الله. تعالى. في اختلاق المعاذير الباطلة، مع أنه. سبحانه. يعلم إنهم لكاذبون في أيمانهم، وفيما انتحلوه من أعذار.
قال ابن جرير قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم: لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال، مما يحتاج إليه الغازي في غزوة، وصحة الأبدان، وقوة الأجسام «٢».
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية، أن الأيمان الكاذبة تؤدى إلى الخسران والهلاك: وفي الحديث الشريف: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع؟؟؟».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٣.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٢٧١ طبعة دار المعارف. تحقيق محمود شاكر.
300
ثم عاتب الله: تعالى. نبيه ﷺ عتابا رقيقا لأنه أذن للمنافقين بالتخلف عن الجهاد حين طلبوا منه ذلك، دون أن يتبين أحوالهم فقال. تعالى.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٣]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
قال ابن كثير. قال مجاهد. نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله ﷺ فإن أذن لكم فاقعدوا. وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
والعفو: يطلق على التجاوز عن الذنب أو التقصير، كما يطلق على ترك المؤاخذة على عدم فعل الأولى والأفضل، وهو المراد هنا.
والمعنى: عفا الله عنك يا محمد، وتجاوز عن مؤاخذتك فيما فعلته مع هؤلاء المنافقين من سماحك لهم بالتخلف عن الجهاد معك في غزوة تبوك، حين اعتذروا إليك بالأعذار الكاذبة، وكان الأولى بك أن تتريث وتتأنى في السماح لهم بالتخلف، حتى يتبين لك الذين صدقوا في اعتذارهم من الذين كذبوا فيه، فقد كانوا- إلا قليلا منهم- كاذبين في معاذيرهم، وكانوا مصرين على القعود عن الجهاد حتى ولو لم تأذن لهم به.
وقدم سبحانه. العفو على العتاب. وهو قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ- للإشارة إلى المكانة السامية التي له ﷺ عند ربه.
قال بعض العلماء: هل سمعتم بعتاب أحسن من هذا؟ لقد خاطبه سبحانه بالعفو قبل أن يذكر المعفو عنه.
وقال العلامة أبو السعود ما ملخصه: وعبر- سبحانه- عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين، وبأن ما صدر من الآخرين، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة، ناشئ عن رسوخهم في الكذب.
وعبر عن ظهور الصدق بالتبين، وعما يتعلق بالكذب بالعلم، لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق، والكذب احتمال عقلي، فظهور صدق الخبر إنما هو تبين ذلك المدلول، وانقطاع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له احتمالا عقليا. وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة
301
للخبر عليه في الجملة حتى يكون ظهوره تبينا له، بل نقيض لمدلوله. فما يتعلق به يكون علما مستأنفا.. «١».
هذا، ومن الأمور التي تكلم عنها العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية ما يأتى:
١- أن النبي ﷺ كان يحكم بمقتضى اجتهاده في بعض الوقائع. وقد بسط القول في هذه المسألة صاحب المنار فقال ما ملخصه:
وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهادا منه ﷺ فيما لا نص فيه من الوحى، وهو جائز وواقع من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحى ببيانه والعمل به، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو أن يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل.
ويؤيده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم ﷺ يلقحونها فقال: «ما أظن يغنى ذلك شيئا» فأخذوا بذلك فتركوه ظنا منهم أن قوله هذا من أمر الدين، فنفضت النخل وسقط ثمرها. فأخبر بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فانى لن أكذب على الله عز وجل».
وقد صرح علماء الأصول بجواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء. عليهم الصلاة والسلام قالوا: ولكن لا يقرهم الله على ذلك، بل يبين لهم الصواب فيه..» «٢».
٢- أن من الواجب على المسلم التريث في الحكم على الأمور.
قال الفخر الرازي: دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأنى، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد «٣».
٣- أن المتتبع لآراء العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية يرى لهم ثلاثة أقوال:
أما القول الأول فهو لجمهور العلماء: وملخصه: أن المراد بالعفو في قوله سبحانه: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ عدم مؤاخذته: ﷺ في تركه الأولى والأفضل، لأنه كان من الأفضل له ألا يأذن للمنافقين في التخلف عن الجهاد حتى يتبين أمرهم.
وهذا القول هو الذي نختاره ونرجحه، لأنه هو المناسب لسياق الآية ولما ورد في سبب نزولها:
(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٧٢، طبعة صبيح.
(٢) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٥٣.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٤.
302
وأما القول الثاني فهو لصاحب الكشاف: وملخصه: أن العفو هنا كناية عن الجناية، فقد قال: قوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كناية عن الجناية لأن العفو مرادف لها، ومعناه. أخطأت وبئس ما فعلت، وقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كنى عنه بالعفو «١».
ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن العفو هنا كناية عن الجناية، ووصفوا ما ذهب إليه بالخطإ وإساءة الأدب.
قال أبو السعود: ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأت، وبئس ما فعلت.
هب أنه كناية، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العقاب؟: «٢».
وقال الشيخ أحمد بن المنير: ليس له- أى الزمخشري: - أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير، وهو بين أحد أمرين: إما أن لا يكون هو المراد وإما أن يكون هو المراد، ولكن قد أحل الله نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب، وخصوصا في حق المصطفى- عليه الصلاة والسلام- فالزمخشرى على كلا التقديرين ذهل عما يجب في حقه صلى الله عليه وسلم.
ولقد أحسن من قال في هذه الآية: إن من لطف الله- تعالى- بنبيه، أن بدأه بالعفو قبل العتب، ولو قال له ابتداء «لم أذنت لهم» لتفطر قلبه- عليه الصلاة والسلام. فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر- عليه الصلاة والسلام «٣».
وأما القول الثالث فهو للإمام الفخرى الرازي، ولمن حذا حذوه كالقرطبى وغيره، وملخص هذا القول أنه يجوز أن يكون المراد بالعفو هنا: المبالغة في تعظيم النبي ﷺ وتوقيره، أو أن قوله- سبحانه-: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ افتتاح كلام.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: لا نسلم أن قوله- تعالى- عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يوجب الذنب، ولم لا يجوز أن يقال: إن ذلك يدل على مبالغة الله، تعالى في تعظيمه وتوقيره، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده، عفا الله عنك ما صنعت في أمرى.. فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التبجيل والتعظيم.
ويؤيد ذلك قول على بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة تعوذ بعفوك أن أبعدا
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٢ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٦٦.
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٧٢.
(٣) حاشية تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٢.
303
ألم تر عبدا عدا طوره ومولى عفا ورشيدا هدى
أقلنى أقالك من لم يزل يقيك، ويصرف عنك الردى «١»
وقال القرطبي: قوله: - تعالى- عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قيل: هو افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا.. «٢».
والذي نراه أن القول الأول هو الراجح لما سبق أن بيناه.
ثم بين- سبحانه- الصفات التي يتميز بها المؤمنون الصادقون، عن غيرهم من ضعاف الإيمان، فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
أى: ليس من شأن المؤمنين الصادقين أن يستأذنوك- يا محمد- في أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سبيل إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه.. وإنما الذي من شأنهم وعادتهم- كما أثبته واقعهم وتاريخهم- أن ينفروا خفافا وثقالا عند ما يدعو الداعي إلى الجهاد، دون أن ينتظروا إذنا من أحد.
فهم لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، يسارعون إلى الجهاد بقلوب مشتاقة إليه، وبنفوس تتمنى الموت عن طريقه.
وهم في ذلك ممتثلون لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة- أى صيحة- وفزعا طار على متنه يبتغى
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٣.
(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١٥٤.
304
القتل أو الموت في مظانه» «١».
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ تحريض لهم على الاتصاف بهذه الصفة الكريمة، وهي صفة التقوى.
والمراد بالعلم هنا لازمه، وهو مجازاتهم بالثواب الجزيل على تقواهم.
أى: والله- تعالى- عليم بهؤلاء الذين ملأت خشيته قلوبهم. وسيثيبهم على ذلك ثوابا يرضيهم.
هذا، وقد استنبط العلماء من هذه الآية أنه ينبغي على المؤمن أن يقوم بأداء الأعمال الحسنة، والأفعال الجميلة بدون تردد أو استئذان.
قال صاحب الانتصاف عند تفسيره لهذه الآية: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدى له معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره. وصلوات الله وسلامه على خليله إبراهيم، فقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله- تعالى-: بهذه الخلة الجميلة، فقال:
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ.. أى: ذهب على خفاء منهم، كيلا يشعروا به.. «٢».
وقال صاحب المنار: وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، ولا في الفضائل والفواضل من العادات، كقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف.
ويعجبني قول بعض العلماء ما معناه: من قال لك أتأكل؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة مثلا؟ فقل له: لا فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك «٣».
ثم بين سبحانه- الصفات التي يعرف بها المنافقون، بعد بيانه للصفات التي يعرف بها المؤمنون الصادقون فقال: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ...
أى: إنما يستأذنك- يا محمد- في القعود عن الجهاد أولئك الذين من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بالله إيمانا كاملا، ولا يؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب إيمانا يقينيا.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٠.
(٢) حاشية الكشاف ج ٣ ص ٢٧٤- طبعة دار الكاتب العربي ببيروت. [.....]
(٣) تفسير المنار ج ١٠ ص ٤٥٤.
305
قال الآلوسى: وتخصيص الإيمان بهما- أى بالله واليوم الآخر- في الموضعين للإيذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما، فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه، وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم، ومن لم يؤمن كان بمعزل عن ذلك. على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به» «١».
وقوله: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ صفة ثالثة من صفاتهم الذميمة.
أى: أنهم بجانب عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، رسخ الريب في قلوبهم فصاروا يشكون في صحة ما جئت به- أيها الرسول الكريم-، ويقفون من تعاليمك وتوجيهاتك، موقف المكذب المرتاب لا موقف المصدق المذعن.
وأضاف الشك والارتياب إلى القلوب، لأنها محل المعرفة والإيمان. وأوثرت صيغة الماضي- ارتابت، للدلالة على تحقق الريب وتوبيخهم. وأصل معنى التردد: الذهاب والمجيء. والمراد به هنا التحير على سبيل المجاز، لأن المتحير لا يستقر في مكان، ولا يثبت على حال.
أى: فهم في شكهم الذي حل بهم يتحيرون، فنراهم كما وصفهم- سبحانه- في آية أخرى. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ.. «٢».
أى: متحيرين بين الكفر وبين الإيمان.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا السمات التي بها يتميز المؤمنون الصادقون عن- غيرهم من الذين قالوا آمنا وما هم بمؤمنين.
ثم حكى- سبحانه- بعض المسالك الخبيثة التي كان يتبعها هؤلاء المنافقون لمحاربة الدعوة الإسلامية، وكيف أنه- سبحانه- أحبط مكرهم فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٠.
(٢) سورة النساء الآية ١٤٣.
306
وقوله: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ.. كلام مستأنف لبيان المزيد من رذائل المنافقين. أو معطوف على قوله- سبحانه- قبل ذلك لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ.
وقوله: انْبِعاثَهُمْ أى: نهوضهم وانطلاقهم للخروج بنشاط وهمة. من البعث وهو إثارة الإنسان أو الحيوان وتوجيهه إلى الشيء بقوة وخفة.
تقول: بعثت البعير فانبعث إذا أثرته للقيام والسير بسرعة.
وقوله: «فثبطهم» أى: فمنعهم وحبسهم، من التثبيط «وهو رد الإنسان عن الفعل الذي هم به عن طريق تعويقه عنه ومنعه منه.
يقال: ثبطه تثبيطا، أى: قعد به عن الأمر الذي يريده ومنعه منه بالتخذيل ونحوه.
والمعنى: ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك- يا محمد- إلى تبوك لأعدوا لهذا الخروج عدته اللازمة له من الزاد والراحلة، وغير ذلك من الأشياء التي لا يستغنى عنها المجاهد في سفره الطويل، والتي كانت في مقدورهم وطاقتهم.
وقوله. وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ استدراك على ما تقدم.
أى: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته، ولكنهم لم يريدوا ذلك، لأن الله- تعالى- كره خروجهم معك، فحبسهم عنه، لما يعلمه- سبحانه- من نفاقهم وقبح نواياهم، وإشاعتهم للسوء في صفوف المؤمنين.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت. كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ معطيا معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو، قيل: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول.
ما أحسن إلى زيد ولكن أساء إلى، «١»
.
وقال الجمل. وهاهنا يتوجه سؤال، وهو أن خروج المنافقين مع رسول الله ﷺ إما
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٥.
307
أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة، فإن كان فيه مصلحة فلم قال: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وإن كان فيه مفسدة فلماذا عاتب نبيه ﷺ في إذنه لهم في القعود؟
والجواب عن هذا السؤال: أن خروجهم مع رسول الله ﷺ كان فيه مفسدة عظيمة: بدليل أنه- سبحانه- أخبر بتلك المفسدة بقوله لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا.
بقي أن يقال. فلم عاتب الله نبيه بقوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فنقول: إنه ﷺ أذن لهم قبل إتمام الفحص، وإكمال التدبير والتأمل في حالهم، فلهذا السبب قال- تعالى- لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه في أمرهم بالقعود «١».
وقوله. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تذييل المقصود منه ذمهم ووصفهم بالجبن الخالع، والهمة الساقطة، لأنهم بقعودهم هذا سيكونون مع النساء والصبيان والمرضى والمستضعفين الذين لا قدرة لهم على خوض المعارك والحروب.
قال الآلوسى. وقوله: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ: تمثيل لخلق الله داعية القعود فيهم، وإلقائه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة. ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو حكاية لإذن الرسول ﷺ لهم في القعود، فيكون القول على حقيقته «٢».
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية. أن الفعل يحسن بالنية ويقبح بها.
أيضا. ، وإن استويا في الصورة، لأن النفير واجب مع نية النصر. وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح، وذلك لأنه. تعالى. أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل من إرادة المكر بالمسلمين.
ومنها: أن للإمام أن يمنع من يتهم بمضرة المسلمين من الخروج للجهاد حماية لهم من شروره ومفاسده.
ومنها: أن إعداد العدة للجهاد أمر واجب، وقد قال- تعالى- في آية أخرى:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ «٣».
ثم بين- سبحانه- المفاسد المترتبة على خروج المنافقين في جيش المؤمنين فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وأصل الخبال. الاضطراب والمرض الذي يؤثر في العقل كالجنون ونحوه. أو هو الاضطراب في الرأى.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٧.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١١. بتصرف يسير.
(٣) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٦٧.
308
أى: لو خرج هؤلاء المنافقون معكم أيها المؤمنون إلى تبوك ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا اضطرابا في الرأى وفسادا في العمل، وضعفا في القتال، لأن هذا هو شأن النفوس المريضة التي تكره لكم الخير، وتحب لكم الشر.
قال الآلوسى. والاستثناء مفرغ متصل، والمستثنى منه محذوف، ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء.
وقال أبو حيان: إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد الخبال، فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب «١».
وقوله: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ معطوف على قوله: «ما زادوكم». والإيضاع. كما يقول القرطبي. سرعة السير قال الراجز.
يا ليتني فيها جذع... أخب فيها وأضع
يقال: وضع البعير. إذا أسرع في السير، وأوضعته. حملته على العدو «٢».
والخلل الفرجة بين الشيئين. والجمع الخلال، أى: الفرج التي تكون بين الصفوف وهو هنا ظرف مكان بمعنى بين، ومفعول الإيضاع محذوف، أى. ولأسرعوا بينكم ركائبهم بالوشايات والنمائم والإفساد.
ففي الكلام استعارة تبعية، حيث شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الراكب، ثم استعير لها الإيضاع وهو الإبل وأصل الكلام ولأوضعوا ركائبهم، ثم حذفت الركائب.
وجملة يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ في محل نصب على الحال من فاعل (أوضعوا).
أى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا شرا وفسادا، ولأسرعوا بينكم بالإشاعات الكاذبة، والأقوال الخبيثة، حال كونهم باغين وطالبين لكم الافتتان في دينكم، والتشكيك في صحة عقائدكم، والتثبيط عن القتال، والتخويف من قوة أعدائكم، ونشر الفرقة في صفوفكم.
فالمراد بالفتنة هنا: كل ما يؤدى إلى ضعف المسلمين في دينهم أو في دنياهم.
وقوله: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ بيان لأحوال المؤمنين في ذلك الوقت.
أى. وفيكم. في ذلك الوقت. يا معشر المؤمنين، أناس كثير والسماع لهؤلاء المنافقين، سريعو الطاعة لما يلقون إليهم من أباطيل.
قال ابن كثير. قوله: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أى: مطيعون لهم، ومستحسنون
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٢.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٥٧.
309
لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدى إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير، (وفيكم سماعون لهم) أى: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم.
وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جمع الأحوال.
والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق. وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
وقال محمد بن إسحاق: كان الذين استأذنوا، فيما بلغني، من ذوى الشرف، منهم عبد الله بن أبى بن سلول، والجد بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده. وكان في جنده قوم أهل محبة لهم، وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فقال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «١».
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تذييل المقصود منه وعيد هؤلاء المنافقين وتهديدهم بسبب ما قدمت أيديهم من مفاسد.
أى: والله- تعالى- لا تخفى عليه خافية من أحوال هؤلاء الظالمين، وسيعاقبهم بالعقاب المناسب لجرائمهم ورذائلهم.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وضحت أن هناك ثلاث مفاسد كانت ستترتب على خروج هؤلاء المنافقين مع المؤمنين إلى تبوك.
أما المفسدة الأولى: فهي زيادة الاضطراب والفوضى في صفوف المجاهدين.
وأما المفسدة الثانية: فهي الإسراع بينهم بالوشايات والنمائم والإشاعات الكاذبة.
وأما المفسدة الثالثة: فهي الحرص على تفريق كلمتهم، وتشكيكهم في عقيدتهم.
وهذه المفاسد الثلاث ما وجدت في جيش إلا وأدت إلى انهزامه وفشله.
ومن هنا كان تثبيط الله- تعالى- لهؤلاء المنافقين، نعمة كبرى للمؤمنين.
ومن هنا- أيضا- كانت الكثرة العددية في الجيوش لا تؤتى ثمارها المرجوة منها، إلا إذا كانت متحدة في عقيدتها، وأهدافها، واتجاهاتها.. أما إذا كانت هذه الكثرة مشتملة على عدد كبير من ضعاف الإيمان، فإنها في هذه الحالة يكون ضررها أكبر من نفعها.
ثم ذكر الله تعالى- نبيه ﷺ بطرف من الماضي المظلم لهؤلاء المنافقين فقال:
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦١.
310
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ.
أى: لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الشرور والمفاسد في صفوف المسلمين، من قبل ما حدث منهم في غزوة تبوك.
ومن مظاهر ذلك أنهم ساءهم انتصاركم في غزوة بدر، وامتنعوا عن مناصرتكم في غزوة أحد، متبعين في ذلك زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول، ثم واصلوا حربهم لكم سرا وجهرا حتى كانت غزوة تبوك التي فضح الله فيها أحوالهم.
فالمراد بقوله: مِنْ قَبْلُ أى: من قبل هذه الغزوة التي كانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى أن ما صدر عن هؤلاء المنافقين من مسالك خبيثة خلال غزوة تبوك ليس هو الأول من نوعه، بل هم لهم في هذا المضمار تاريخ مظلم بدأ منذ أوائل عهد الدعوة الإسلامية بالمدينة.
وقوله: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ بيان لتفننهم في وجوه الأذى للنبي ﷺ وتقليب الأمر: تصريفه، وترديده، وإجالة الرأى فيه، والنظر إليه من كل نواحيه: لمعرفة أى ناحية منه توصل إلى الهدف المنشود.
والمراد أن هؤلاء المنافقين قد ابتغوا الأذى للدعوة الإسلامية من قبل هذه الغزوة، ودبروا لصاحبها ﷺ المكايد، واستعملوا قصارى جهدهم، ومنتهى اجتهادهم، وخلاصة مكرهم، من أجل صد الناس عن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ.. غاية لمحذوف، والتقدير: أن هؤلاء المنافقين استمروا على حربهم للدعوة الإسلامية «حتى جاء الحق» أى: النصر الذي وعد الله عباده به «وظهر أمر الله» أى: دينه وشرعه «وهم» أى المنافقون وأشباههم «كارهون» لذلك لأنهم يكرهون انتصار دين الإسلام، ويحبون هزيمته وخذلانه، ولكن الله- تعالى- خيب آمالهم، وأحبط مكرهم.
قال الإمام ابن كثير: عند ما قدم النبي ﷺ المدينة، رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبى، وأصحابه: هذا أمر قد توجه، فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم وساءهم، ولهذا قال- تعالى-: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ «١».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦١.
311
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة، ومن أقوالهم الخبيثة.. فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
روى محمد بن إسحاق ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبى بكر، وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله ﷺ ذات يوم وهو في جهازه- أى لغزوة تبوك- للجد بن قيس أخى بنى سلمة: «هل لك يا جد في جلاد بنى الأصفر» ؟ - يعنى الروم- فقال الجد: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله ﷺ وقال قد أذنت لك».
ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي «١».
أى: ومن هؤلاء المنافقين الذين لم ينته الحديث عنهم بعد «من يقول» لك- يا محمد-
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٢.
312
«ائذن لي» في القعود بالمدينة، «ولا تفتني» أى ولا توقعني في المعصية والإثم بسبب خروجي معك إلى تبوك، ومشاهدتى لنساء بنى الأصفر.
وعبر- سبحانه- عن قول هذا المنافق بالفعل المضارع، لاستحضار تلك الحال لغرابتها، فإن مثله في نفاقه وفجوره لا يخشى إثم الافتتان بالنساء إذ لا يجد من دينه مانعا من غشيان الشهوات الحرام.
وقوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا رد عليه فيما قال، وذم له على ما تفوه به.
أى: ألا إن هذا وأمثاله في ذات الفتنة قد سقطوا، لا في أى شيء آخر مغاير لها.
وبدأ- سبحانه- الجملة الكريمة بأداة التنبيه «ألا»، لتأكيد الخبر، وتوجيه الأسماع إلى ما اشتمل عليه من توبيخ لهؤلاء المنافقين.
وقدم الجار والمجرور على عامله للدلالة على الحصر. أى فيها لا في غيرها قد سقطوا وهووا إلى قاع سحيق.
قال الآلوسى: وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين «١».
وقال الفخرى الرازي ما ملخصه: «وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فالله- تعالى- بيّن أنهم في عين الفتنة واقعون، لأن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله وبرسوله، والتمرد على قبول التكاليف التي كلفنا الله بها..» «٢».
وقوله: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وعيد وتهديد لهم على أقوالهم وأفعالهم.
أى: وإن جهنم لمحيطة بهؤلاء الكافرين بما جاء من عند الله، دون أن يكون لهم منها مهرب أو مفر.
وعبر عن إحاطتها بهم باسم الفاعل الدال على الحال، لإفادة تحقيق ذلك حتى لكأنه واقع مشاهد.
قالوا: ويحتمل أنها محيطة بهم الآن، بأن يراد بجهنم الأسباب الموصلة إليها من الكفر والنفاق وغير ذلك من الرذائل التي سقطوا فيها.
وقوله: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.. بيان لنوع آخر من خبث نواياهم، وسوء بواطنهم.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٤.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٨. [.....]
313
أى: «إن تصبك» يا محمد حسنة من نصر أو نعمة أو غنيمة- كما حدث يوم بدر- «تسؤهم» تلك الحسنة، وتورثهم حزنا وغما، بسبب شدة عداوتهم لك ولأصحابك.
«وإن تصبك مصيبة» من هزيمة أو شدة- كما حدث يوم أحد- «يقولوا» باختيال وعجب وشماتة «قد أخذنا أمرنا من قبل».
أى: قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحزم والتيقظ، من قبل وقوع المصيبة التي حلت بالمسلمين، ولم نلق بأيدينا إلى التهلكة كما فعل هؤلاء المسلمون.
وقوله: وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ تصوير لحالهم، ولما جبلوا عليه من شماتة بالمسلمين.
أى: عند ما تصيب المسلمين مصيبة أو مكروه، ينصرف هؤلاء المنافقون إلى أهليهم وشيعتهم- والفرح يملأ جوانحهم- ليبشروهم بما نزل بالمسلمين من مكروه.
قال الجمل: فإن قلت: فلم قابل الله الحسنة بالمصيبة، ولم يقابلها بالسيئة كما قال في سورة آل عمران: «وإن تصيبكم سيئة يفرحوا بها» ؟.
قلت: لأن الخطاب هنا للنبي ﷺ وهي في حقه مصيبة يثاب عليها، لا سيئة يعاتب عليها، والتي في آل عمران خطاب للمؤمنين» «١».
وقوله: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا.. إرشاد للرسول ﷺ إلى الجواب الذي يكبتهم ويزيل فرحتهم.
أى: «قل» يا محمد- لهؤلاء المنافقين الذين يسرهم ما يصيبك من شر، ويحزنهم ما يصيبك من خير، والذين خلت قلوبهم من الإيمان بقضاء الله وقدره، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت. لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وقدره علينا «هو مولانا» الذي يتولانا في كل أمورنا، ونلجأ إليه في كل أحوالنا. وعليه وحده- سبحانه نكل أمورنا وليس على أحد سواه.
وقوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ.. إرشاد آخر للرسول ﷺ إلى الجواب الذي يخرس ألسنة هؤلاء المنافقين ويزيل فرحتهم.
وقوله: تَرَبَّصُونَ التربص بمعنى الانتظار في تمهل. يقال: فلان يتربص بفلان الدوائر، إذا كان ينتظر وقوع مكروه به.
والحسنيان: مثنى الحسنى. والمراد بهما: النصر أو الشهادة.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٨.
314
أى: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين- أيضا- إنكم ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما أحسن من جميع العواقب، وهما إما النصر على الأعداء، وفي ذلك الأجر والمغنم والسلامة، وإما أن نقتل بأيديهم وفي ذلك الشهادة والفوز بالجنة والنجاة من النار.
قال الآلوسى: والحاصل أن ما تنتظرونه بنا- أيها المنافقون- لا يخلو من أحد هذين الأمرين، كل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزو سوء، ولذلك سررتم به.
وصح من حديث أبى هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «تكفل الله- تعالى- لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته أن يدخله الجنة. أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة» «١».
وقوله: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا بيان لما ينتظر المؤمنون وقوعه بالمنافقين.
أى: ونحن معشر المؤمنين نتربص بكم أيها المنافقون إحدى السوءيين من العواقب: إما «أن يصيبكم الله بعذاب» كائن «من عنده» فيهلككم كما أهلك الذين من قبلكم، وإما أن يصيبكم بعذاب كائن «بأيدينا» بأن يأذن لنا في قتالكم وقتلكم.
والفاء في قوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ للإفصاح.
أى إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا، فإنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم، وسترون أن عاقبتنا على كل حال هي الخير، وأن عاقبتكم هي الشر.
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة، قد حكت طرفا من رذائل المنافقين ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية، وردت عليهم بما يكبتهم، ويفضحهم على رءوس الأشهاد.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المنافقين نفقاتهم غير مقبولة، لأن قلوبهم خالية من الإيمان.
ولأن عباداتهم ليست خالصة لوجه الله، وأن ما ينفقونه سيكون عليهم حسرة فقال- تعالى-:
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١١٦.
315

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
روى أن بعض المنافقين قال للنبي ﷺ عند ما دعاهم إلى الخروج معه إلى تبوك:
ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به، فنزل قوله- تعالى-: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ...
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء أنفقوا ما شئتم من أموالكم في وجوه الخير حالة كونكم طائعين، أى: من غير إجبار أحد لكم، أو كارهين، أى بأن تجبروا على هذا الإنفاق إجبارا، فلن يقبل منكم ذلك الإنفاق.
والكلام وإن كان قد جاء في صورة الأمر، إلا أن المراد به الخبر وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله.
فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ؟
قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله- تعالى- قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها، ونحوه قوله- تعالى-:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وقول الشاعر.
أسيئى بنا أو أحسني لا ملومة... لدينا ولا مقلية إن تقلت
أى: لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم.. أم لم تستغفر لهم. ولا نلومك سواء أسأت إلينا أم أحسنت... «١».
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٩.
316
وجاء الكلام في صورة الأمر، للمبالغة في تساوى الأمرين، وعدم الاعتداد بنفقتهم سواء أقدموها عن طواعية أم عن كراهية.
وقوله: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ بيان لثمرة إنفاقهم. أى: لن يتقبل منكم ما أنفقتموه، ولن تنالوا عليه ثوابا.
وقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ تعليل لعدم قبول نفقاتهم.
أى: لن تقبل منكم نفقاتكم بسبب عتوكم في الكفر، وتمردكم على تعاليم الإسلام وخروجكم عن الطاعة والاستقامة.
قال القرطبي ما ملخصه. وفي الآية دليل على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة، وجبر الكسير، وإغاثة الملهوف، لا يثاب عليها، ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يطعم بها في الدنيا.
دليله ما رواه مسلم عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟
قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وروى عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» «١».
وقال الجمل: وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين، فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله، بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه «٢».
ثم بين- سبحانه- على سبيل التفصيل لمظاهر فسقهم- أن هناك ثلاثة أسباب أدت إلى عدم قبول نفقاتهم.
أما السبب الأول فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ...
أى: وما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله- تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالاستثناء من أهم الأشياء. والضمير في «منعهم» هو المفعول الأول للفعل، وقوله:
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٦١.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٨٩.
317
أَنْ تُقْبَلَ هو المفعول الثاني، لأن الفعل «منع» يتعدى لمفعولين تارة بنفسه كما هنا، وتارة يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف الجر وهو حرف «من» أو «عن».
والفاعل ما في حيز الاستثناء وهو قوله: إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا...
وأما السبب الثاني فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى.
ولفظ «كسالى». جمع كسلان، مأخوذ من الكسل بمعنى التثاقل عن الشيء، والفتور عن أدائه. وفعله بزنة فرح.
أى: ولا يأتون الصلاة التي كتبها الله عليهم في حال من الأحوال، إلا في حال كونهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان، فصاروا لا يرجون من وراء أدائها ثوابا ولا يخشون من وراء تركها عقابا، وإنما يؤدونها رياء أو تقية للمسلمين.
وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله- تعالى- في سورة النساء: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى، يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا.
وأما، السبب الثالث فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ.
أى. ولا ينفقون نفقة في سبيل الله إلا وهم كارهون لها لأنهم يعدونها مغرما، ويعتبرون تركها مغنما، وما حملهم على الإنفاق إلا الرياء أو المخادعة أو الخوف من انكشاف أمرهم، وافتضاح حالهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الكراهية خلاف الطواعية، وقد جعلهم الله- تعالى- طائعين في قوله «طوعا» ثم وصفهم هنا بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون فكيف ذلك؟
قلت: المراد بطوعهم أنهم يبذلون نفقتهم من غير إلزام من رسول الله ﷺ أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار «١».
أى: أن نفقتهم في جميع الأحوال لا يقصد بها الاستجابة لشرع الله، وإنما يقصد بها الرياء أو المخادعة، أو خدمة مصالحهم الخاصة.
ثم نهى الله- تعالى- المؤمنين في شخص نبيهم ﷺ عن التطلع إلى ما في أيدى هؤلاء المنافقين فقال. فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ...
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٠.
318
والإعجاب بالشيء معناه: أن تسر به سرورا يجعلك راضيا به ومتمنيا له، والفاء في قوله:
فَلا تُعْجِبْكَ للإفصاح.
أى إذا كان هذا هو شأن المنافقين، فلا تستحسن. أيها العاقل. ما أعطيناهم إياه من أموال وأولاد، فإنه نوع من الاستدراج.
وقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تعليل للنهى عن الإعجاب بما أعطاهم الله من أموال وأولاد.
أى: إنما يريد الله بعطائهم تلك الأموال والأولاد أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا، وقد بسط الإمام الرازي مظاهر تعذيب المنافقين في الدنيا بالأموال والأولاد فقال ما ملخصه:
المنافقون يعذبهم الله بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا من وجوه:
أحدها: أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر، علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا، وبهذا العلم يفتر حبه للدنيا، وأما المنافق فإنه لما اعتقد أنه لا سعادة له إلا في هذه الخيرات العاجلة، عظمت رغبته فيها، واشتد حبه لها، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه.. فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب الأموال والأولاد.
وثانيا: أن النبي ﷺ كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات، ويكلفهم.
إرسال أولادهم إلى الجهاد والغزو، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل، وهم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس صادقا في كونه رسول، وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة، ولا شك أن هذا كله تعذيب لهم.
وثالثا: أنهم كانوا يبغضون محمدا ﷺ بقلوبهم، ثم إنهم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم في خدمته. ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة عليهم.
ورابعا: أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار. وحينئذ يتعرض الرسول ﷺ لهم بالقتل وسبى الأولاد.. وكل ذلك يوجب ألمهم وقلقهم.
وخامسا: أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبى عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبى.. وكانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق، ويقدحون فيهم.
والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به، واستيحاشه منه، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم.. «١».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٣.
319
وقوله: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ بيان لسوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان عذابهم في الدنيا.
وزهوق النفس: خروجها من الجسد بصعوبة ومشقة. يقال: زهقت نفسه تزهق إذا خرجت، وزهق الشيء إذا هلك واضمحل، ومنه قوله- تعالى-: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ....
والمعنى: لا تعجبك- أيها العاقل- أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، ويريد كذلك أن تخرج أرواحهم من أجسادهم وهم كافرون، فيعذبهم بسبب كفرهم عذابا أليما.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت المنافقين بسوء المصير في الآخرة ولن يحسد إنسان مصيره كهذا المصير.
قال الإمام الرازي: ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه، فإنه- سبحانه- لما بين قبائح أفعالهم، وفضائح أعمالهم، بين ما لهم في الآخرة من العذاب الشديد، وما لهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة ألبتة ثم بين في هذه الآية أن ما يظنونه من منافع الدنيا، فهو في حقيقته سبب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم، وعند ذلك يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدنيا والدين، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا... » «١».
وبعد أن بينت السورة الكريمة أن هؤلاء المنافقين قد خسروا الدنيا والآخرة، أتبعت ذلك بالحديث عن رذائلهم وقبائحهم التي على رأسها الجبن والكذب فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
أى: أن هؤلاء المنافقين يحلفون بالله لكم- أيها المؤمنون- «إنهم لمنكم» أى: في الدين والملة، والحق أنهم ما هم منكم، لأنهم يظهرون الإسلام ويخفون الكفر، فهم كما وصفهم- سبحانه- في قوله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٢.
320
وقوله: وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ استدراك للرد عليهم فيما قالوه وأقسموا عليه كذبا وزورا.
وقوله: يَفْرَقُونَ من الفرق، بمعنى الفزع الشديد من أمر يتوقع حصوله.
يقال: فرق فرقا إذا اشتد خوفه وهلعه.
أى: أن هؤلاء المنافقين لشدة خوفهم وهلعهم- أيها المؤمنون- يحلفون لكم كذبا وزورا بأنهم منكم، والحق أنهم ما هم منكم، ولكنهم قوم جبناء. لا يستطيعون مصارحتكم بالعداوة، ولا يجرؤون على مجابهتكم بما تخفيه قلوبهم لكم من بغضاء.
وقوله- سبحانه-:
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ تأكيد لما كان عليه أولئك المنافقون من جبن خالع.
والملجأ: اسم للمكان الذي يلجأ إليه الخائف ليحتمى به سواء أكان حصنا أو قلعة أو غيرهما.
والمغارات: جمع مغارة وهي المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل. قال بعضهم:
والغور- بفتح الغين- من كل شيء قعره. يقال: غار الرجل غورا إذا أتى الغور وهو المنخفض من الأرض «١».
والمدخل- بتشديد الدال اسم للموضع الذي يدخلون فيه، بصعوبة ومشقة لضيقه، كالنفق في الأرض.
وقوله: يَجْمَحُونَ أى: يسرعون أشد الإسراع مأخوذ من الجموح وهو أن يغلب الفرس صاحبه في سيره وجريه. يقال: جمح الفرس براكبه جموحا، إذا استعصى عليه حتى غلبه.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لو يجدون حصنا يلتجئون إليه أو مغارات يستخفون فيها. أو سردابا في الأرض ينجحرون فيه، لأقبلوا نحوه مسرعين أشد الإسراع دون أن يردهم شيء، كالفرس الجموح الذي عجز صاحبه عن منعه من النفور والعدو.
فالآية الكريمة تصوير معجز لما كان عليه أولئك المنافقون من خوف شديد من المؤمنين،
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٩٠.
321
ومن بغض دفين لهم، حتى إنهم لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة- التي هي منفور منها- لأسرعوا نحوها إسراعا شديدا.
ثم تمضى السورة بعد ذلك في الكشف عن الأقوال المنكرة، والأفعال القبيحة التي كانت تصدر عن المنافقين فتقول.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
قال الإمام الرازي: اعلم أن المقصود من هذا، شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم، وهو طعنهم في الرسول ﷺ بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء، ويقولون إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعى العدل، «١».
هذا، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها:
ما أخرجه البخاري والنسائي عن أبى سعيد الخدري- رضى الله عنه- قال: بينما النبي ﷺ يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل» ؟، فقال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-:
ائذن لي فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية... ».
قال أبو سعيد، فنزلت فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ...
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود- رضى الله عنه- قال: «لما قسم النبي ﷺ غنائم حنين سمعت رجلا يقول: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٥.
322
فذكرت له ذلك فقال: «رحمة الله على موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر». ونزل وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ «١».
وقوله: يَلْمِزُكَ أى: يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وغيرها من الأموال، مأخوذ من اللمز وهو العيب. يقال لمزة وهمزة يلمزه ويهمزه إذا عابه وطعن عليه، ومنه قوله- تعالى-: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ.
وقيل: اللمز ما كان يحضره الملموز، والهمز ما كان في غيابه.
والمعنى: ومن هؤلاء المنافقين- يا محمد- من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات والغنائم، زاعمين أنك لست عادلا في قسمتك.
وقوله: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا... بيان لفساد لمزهم وطعنهم، وأن الدافع إليه إنما هو الطمع والشره في حطام الدنيا، وليس الغضب من أجل إحقاق الحق: أو من أجل نشر العدالة بين الناس.
أى: أن هؤلاء المنافقين إن أعطيتهم. يا محمد. من تلك الصدقات، رضوا عنك، وحكموا على هذا العطاء بأنه عدل حتى ولو كان ظلما، وإن لم تعطهم منها سخطوا عليك، واتهموك بأنك غير عادل، حتى ولو كان عدم عطائهم هو الحق بعينه، فهم لا يقولون ما يقولونه فيك غضبا للعدل، ولا حماسة للحق، ولا غيرة على الدين.. وإنما يقولون ما يقولون من أجل مطامعهم الشخصية، ومنافعهم الذاتية.
قال الجمل. وقوله إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ إذا هنا فجائية، قائمة مقام فاء الجزاء في الربط على حد قوله: «وتخلف الفاء إذا المفاجأة». والأصل. فهم يسخطون، وغاير.
سبحانه. بين جوابي الجملتين، للاشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم «٢».
وقال صاحب المنار. وقد عبر- سبحانه- عن رضاهم بصيغة الماضي: للدلالة على أنه كان يكون لأجل العطاء في وقته وينقضي، فلا يعدونه نعمة يتمنون دوام الإسلام لدوامها، وعبر عن سخطهم بإذا الفجائية وبالفعل المضارع، للدلالة على سرعته واستمراره. وهذا دأب المنافقين وخلقهم في كل زمان ومكان، كما نراه بالعيان حتى من مدعى كمال الإيمان، والعلم والعرفان «٣».
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٥٦٦.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٩١.
(٣) تفسير المنار ج ١٠ ص ٥٦٧.
323
ثم وضح- سبحانه-: المنهج الذي يليق بأصحاب العقيدة السليمة فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...
أى. ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يلمزونك. يا محمد. في الصدقات، رضوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء، وقالوا- على سبيل الشكر والقناعة- «حسبنا الله» أى: كفانا فضله وما قسمه لنا، «سيؤتينا الله من فضله ورسوله» أى: سيعطينا الله في المستقبل الكثير من فضله وإحسانه، وسيعطينا رسوله من الصدقات وغيرها «إنا إلى الله راغبون» أى: إنا إلى الله راغبون في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقات وغيرها من أموال الناس ومن صلاتهم، لأنه- سبحانه- له خزائن السموات والأرض.
وجواب «لو» محذوف. والتقدير: ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: والآية تدل على أن من طلب الدنيا- بطمع وشراهة- آل أمره في الدين إلى النفاق، وأما من طلب الدنيا بتوسط وبغرض التوسل إلى مصالح الدين، فهذا هو الطريق الحق، والأصل في هذا الباب أن يكون راضيا بقضاء الله.
ألا ترى أنه- سبحانه- ذكر هنا في هذه الآية مراتب أربعة:
أولها: الرضا بما آتاهم الله ورسوله، لعلمه بأنه- تعالى- حكم منزه عن العبث، وكل ما كان حكما له وقضاء كان حقا وصوابا ولا اعتراض عليه.
وثانيها: أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم: «حسبنا الله» يعنى: أن غيرنا أخذ المال، ونحن قد رضينا بحكم الله وقضائه. وفزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية.
وثالثها: وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ تلك الدرجة العالية التي عندها يقول: «حسبنا الله»، نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول: «سيؤتينا الله من فضله ورسوله».
ورابعها: أن يقول: «إنا إلى الله راغبون» فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال، وإنما نطلب اكتساب سعادات الآخرة.. «١».
وبعد أن بين- سبحانه- المنهج اللائق بأصحاب العقيدة السليمة في طلب الدنيا عقب ذلك ببيان المستحقين للصدقات فقال- تعالى-.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٥٦ طبعة المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ هـ- الطبعة الثانية. [.....]
324

[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
قال الإمام ابن كثير. لما ذكر الله- تعالى- اعتراض المنافقين الجهلة على النبي ﷺ ولمزهم إياه في قسم الصدقات. بين- سبحانه- أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين، كما رواه أبو داود في سنته عن زياد بن الحارث الصدائى قال. أتيت النبي ﷺ فبايعته، فأتى رجل فقال. أعطنى من الصدقة فقال له. «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره. في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» «١».
والمراد بالصدقات هنا- عند كثير من العلماء- الزكاة المفروضة.
ولفظ الصدقات. مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: إنما الصدقات مصروفة للفقراء والمساكين... إلخ.
والفقراء. جمع فقير، وهو من له أدنى شيء من المال. أو هو من لا يملك المال الذي يقوم بحاجاته الضرورية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.
يقال فقر الرجل يفقر- من باب تعب- إذا قل ماله.
قالوا: وأصل الفقير في اللغة: الشخص الذي كسر فقار ظهره، ثم استعمل فيمن قل ماله لانكساره بسبب احتياجه إلى غيره.
أو هو من الفقرة بمعنى الحفرة، ثم استعمل فيما ذكر لكونه أدنى حالا من أكثر الناس، كما أن الحفرة أدنى من مستوى سطح الأرض المستوية.
والمساكين: جمع مسكين، وهو من لا شيء له، فيحتاج إلى سؤال الناس لسد حاجاته ومطالب حياته.
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٤.
325
وهو مأخوذ من السكون الذي هو ضد الحركة، لأن احتياجه إلى غيره أسكنه وأذله.
وقيل. المسكين هو الذي له مال أو كسب ولكنه لا يكفيه، وعلى هذا يكون قريب الشبه بالفقير.
وقوله: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها بيان للصنف الثالث من الأصناف الذين تجب لهم الزكاة.
والمراد بهم. من كلفهم الإمام بجمع الزكاة وتحصيلها ممن يملكون نصابها.
ويدخل فيهم العريف، والحاسب، والكاتب، وحافظ المال، وكل من كلفه الإمام أو نائبه بعمل يتعلق بجمع الزكاة أو حفظها، أو توزيعها.
وقوله. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بيان للصنف الرابع.
والمراد بهم الأشخاص الذين يرى الإمام دفع شيء من الزكاة إليهم تأليفا لقلوبهم، واستمالة لنفوسهم نحو الإسلام، لكف شرهم، أو لرجاء نفعهم، وهم أنواع:
منهم قوم من الكفار، كصفوان بن أمية، فقد أعطاه النبي ﷺ من غنائم حنين، وكان صفوان يومئذ كافرا، ثم أسلم وقال: والله لقد أعطانى النبي ﷺ وكان أبغض الناس إلى، فما زال يعطيني. حتى أسلمت وإنه لأحب الناس إلى.
ومنهم قوم كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا من ذوى الشرف في أقوامهم فكان النبي ﷺ يعطيهم، ليثبت إيمانهم، وليدخل معهم في الإسلام أتباعهم.
ومن أمثلة ذلك ما فعله الرسول ﷺ مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، فقد أعطاهم ﷺ لمكانتهم في عشيرتهم، ولشرفهم في أقوامهم.
وليدخل معهم في الإسلام غيرهم.
ومنهم قوم كانوا ضعاف الإيمان، فكان ﷺ يعطيهم تأليفا لقلوبهم، وتقوية لإيمانهم.
لكي لا يسرى ضعف إيمانهم إلى غيرهم.
ومن أمثلة هذا الصنف العباس بن مرداس السلمى، فقد أعطاه النبي ﷺ تأليفا لقلبه، وتثبيتا لإيمانه.
والخلاصة أن النبي ﷺ كان يتألف قلوب بعض الناس بالعطاء، دفعا لشرهم، أو أملا في نفعهم، أو رجاء هدايتهم.
وقوله: وَفِي الرِّقابِ بيان لنوع خامس من مصارف الزكاة. وفي الكلام مجاز بالحذف، والتقدير: وتصرف الصدقات أيضا في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها
326
على أداء بدل الكتابة لكن يصيروا أحرارا. أو بأن يشترى بجزء منها عددا من العبيد لكي يعتقوا من الرق.
وذلك لأن الإسلام يحبب أتباعه في عتق الرقاب، وفي مساعدة الأرقاء على أن يصيروا أحرارا.
وقوله: «والغارمين» من الغرم بمعنى الملازمة للشيء ومنه قوله. تعالى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أى: عذاب جهنم كان ملازما لأهلها من الكافرين.
والمراد بالغارمين: من لزمتهم الديون في غير معصية لله، ولا يجدون المال الذي يدفعونه لدائنيهم، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على سداد ديونهم.
وقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بيان لنوع سابع من مصارف الزكاة.
والسبيل: الطريق الذي فيه سهولة، وجمعه سبل. وأضيف إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه هو السبيل الحق الذي لا يحوم حوله باطل، وهو الذي يوصل السائر فيه إلى مرضاة الله ومثوبته.
أى: وتصرف الصدقات في سبيل الله، يدفع جزء منها لمساعدة المجاهدين والغزاة والفقراء الذين خرجوا لإعلاء كلمة الله.
قال بعض العلماء ما ملخصه: قال أبو حنيفة ومالك والشافعى. يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة.. ، لأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله هو الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك.
وقال الإمام أحمد: يجوز صرف سبيل الله إلى مريد الحج.
وقال بعضهم. يجوز صرف سبيل الله إلى طلبة العلم.
وفسره بعضهم بجميع القربات. فيدخل فيه جميع وجوه الخير، مثل تكفين الموتى، وبناء القناطر، والحصون، وعمارة المساجد «وفي سبيل الله» عام في الكل.. «١».
وقوله: وَابْنِ السَّبِيلِ بيان للصنف الثامن والأخير من الأصناف الذين هم مصارف الزكاة.
والمراد بابن السبيل: المسافر المنقطع عن ماله في سفره. ولو كان غنيا في بلده، فيعطى من الزكاة ما يساعده على بلوغ موطنه.
وقد اشترط العلماء لابن السبيل الذي يعطى من الصدقة، أن يكون سفره في غير معصية
(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٤٢ لفضيلة الشيخ محمد على السائس.
327
الله. فإن كان في معصية لم يعط: لأن إعطاءه يعتبر إعانة له على المعصية، وهذا لا يجوز.
وقد ألحقوا بابن السبيل، كل من غاب عن ماله، ولو كان في بلده.
وقوله. فريضة من الله، منصوب بفعل مقدر أى: فرض الله لهم هذه الصدقات فريضة، فلا يصح لكم أن تبخلوا بها عنهم، أو تتكاسلوا في إعطائها لمستحقيها.
فالجملة الكريمة زجر للمخاطبين عن مخالفة أحكامه. سبحانه.
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييل قصد به بيان الحكمة من فرضية الزكاة.
أى: والله- تعالى- عليم بأحوال عباده، ولا تخفى عليه خافية من تصرفاتهم، حكيم في كل أوامره ونواهيه، فعليكم. أيها المؤمنون. أن تأتمروا بأوامره، وأن تنتهوا عن نواهيه لتنالوا رضاه.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
١- أن المراد بالصدقات هنا ما يتناول الزكاة المفروضة وغيرها من الصدقات المندوبة، وذلك لأن اللفظ عام فيشمل كل صدقة سواء أكانت واجبة أم مندوبة، ولأن لفظ الصدقة في عرف الشرع وفي صدر الإسلام، كان يشمل الزكاة المفروضة، والصدقة المندوبة، ويؤيده قوله- تعالى-: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالصدقات في الآية: الزكاة المفروضة، لأن (أل) في الصدقات للعهد الذكرى والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار إليها القرآن. بقوله قبيل هذه الآية. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية كبناء المساجد والمدارس.
ويبدو لنا أن لفظ الصدقات في الآية عام بحيث يتناول كل صدقة، إلا أن الزكاة المفروضة تدخل فيه دخولا أوليا.
٢- قال بعض العلماء: ظاهر الآية يقضى بالقسمة بين الثمانية الأصناف، ويؤيد هذا وجهان.
الأول. ما يقتضيه اللفظ اللغوي، إن قلنا. الواو للجمع والتشريك.
والثاني. ما رواه أبو داود في سنته من قوله ﷺ «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء».
وقد ذهب إلى هذا الشافعى وعكرمة والزهري، إلا إن استغنى أحدهما فتدفع إلى الآخرين بلا خلاف.
328
وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد. منهم عمر وابن عباس وعطاء وابن جبير ومالك وأبو حنيفه.
قال في التهذيب: وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر بوجوه:
الأول: أن الله- تعالى- قال في سورة البقرة: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «١» فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها.
الثاني: الخبر، وهو قوله ﷺ لمعاذ: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم.
الثالث: حديث سلمة بن صخر. فإنه ﷺ جعل له صدقة بنى زريق.
الرابع: أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه «٢»
.
٣- يرى جمهور العلماء أن الفقراء والمساكين صنفان من مصارف الزكاة لأن الله.
- تعالى- قد ذكر كل صنف منهما على حدة، إلا أنهم اختلفوا في أيهما أسوأ حالا من الآخر.
فالشافعية يرون أن الفقير أسوأ حالا من المسكين.
ومن أدلتهم على ذلك، أن الله. تعالى. بدأ في الآية بالفقراء، وهذا البدء. يشير إلى أنهم أشد حاجة من غيرهم، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم.
ولأن لفظ الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره فلا يستطيع التكسب، ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال.
ولأن الله. تعالى. وصف بالمسكنة من كانت له سفينة من سفن البحر فقال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ.. «٣».
أما الأحناف والمالكية فيرون أن المسكين أسوأ حالا من الفقير.
ومن أدلتهم على ذلك: أن علماء اللغة عرفوا المسكين بأنه أسوأ حالا من الفقير، وإلى هذا ذهب يعقوب بن السكيت، والقتبى، ويونس بن حبيب.
ولأن الله- تعالى- وصف المسكين وصفا يدل على البؤس والفاقة فقال: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أى: مسكينا ذا حاجة شديدة، حتى لكأنه قد لصق بالتراب من شدة الفاقة، ولم يصف الفقير بذلك.. «٤».
(١) الآية ٢٧١.
(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٨٢.
(٣) سورة الكهف. الآية ٧٩.
(٤) راجع تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٦٨.
329
قال بعض العلماء: وأنت إذا تأملت أدلة الطرفين وجدت أنها متعارضة ومحل نظر، وأياما كان فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان.
وروى عن أبى يوسف ومحمد أنهما صنف واحد واختاره الجبائي، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به، ومن قال إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك «١».
٤- ظاهر الآية يدل على أن الزكاة يجوز دفعها لكل من يشمله اسم الفقير والمسكين، إلا أن هذا الظاهر غير مراد لأن الأحاديث الصحيحة قد قيدت هذا الإطلاق.
قال القرطبي: اعلم أن قوله- تعالى-: لِلْفُقَراءِ مطلق ليس فيه شرط وتقييد، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء، سواء أكانوا من بنى هاشم أم من غيرهم، إلا أن السنة وردت باعتبار شروط، منها: ألا يكونوا من بنى هاشم، وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته، وهذا لا خلاف فيه.
وشرط ثالث ألا يكون قويا على الاكتساب لأنه ﷺ قال: «لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذي مرة سوى».
ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي ﷺ ولا لبنى هاشم ولا لمواليهم.. «٢».
وكذلك لا يصح أن تعطى لغير المسلمين، ففي الصحيحين عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن النبي ﷺ قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» فاقتضى ذلك ان الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين.
إلا أنه نقل عن أبى حنيفة جواز دفع صدقة الفطر إلى الذمي.
٥- أخذ بعض العلماء من قوله- تعالى- وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أنه يجب على الإمام أن يرسل من يراه أهلا لجمع الزكاة ممن تجب عليهم.
وقد تأكد هذا الوجوب بفعل النبي ﷺ فقد ثبت في أحاديث متعددة أنه أرسل بعض الصحابة لجمع الزكاة.
(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٣٤ للأستاذ محمد على السائس- بتصرف وتلخيص-
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٩١.
330
روى البخاري عن أبى حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله ﷺ رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه «١».
٦- أخذ بعض العلماء- أيضا- من قوله- تعالى- وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أن حكمهم باق، لأنهم قد ذكروا من بين مصارف الزكاة، ولأن الرسول ﷺ قد أعطاهم، فيعطون عند الحاجة.
قال الإمام القرطبي ما ملخصه: واختلف العلماء في بقاء المؤلفة قلوبهم.
فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره.
وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأى.
قال بعض علماء الحنفية. لما أعز الله الإسلام وأهله، أجمع الصحابة في خلافة أبى بكر على سقوط سهمهم.
وقال جماعة من العلماء: هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.
وقال ابن العربي. الذي عندي أنه إن قوى الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله ﷺ يعطيهم، فإن في الصحيح «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» «٢».
والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن العربي أقرب الأقوال إلى الصواب لأن مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم تختلف باختلاف الأحوال فإن كان الإمام يرى أن من مصلحة الإسلام إعطاءهم أعطاهم، وإن كانت المصلحة في غير ذلك لم يعطهم.
٧- دلت الآية الكريمة على أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، لقوله تعالى «فريضة من الله».
قال بعض العلماء ما ملخصه، تلك هي فريضة الزكاة. ليست أمر الرسول وإنما هي أمر الله وفريضته وقسمته وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين.
وهذه الزكاة تؤخذ من الأغنياء على أنها فريضة من الله، وترد على الفقراء على أنها فريضة من الله، وهي محصورة في طوائف من الناس عينهم القرآن وليست متروكة لاختيار أحد حتى ولا اختيار الرسول نفسه.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٧٧.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٨١.
331
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة الله، ومكانها في النظام الإسلامى، لا تطوعا ولا تفضلا ممن فرضت عليهم، فهي فريضة محتمة، ولا منحة ولا جزافا من القاسم الموزع فهي فريضة معلومة. إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدى بها خدمة اجتماعية محدودة. وهي. ليست إحسانا من المعطى، وليست شحاذة من الآخذ، كلا فما قام النظام الاجتماعى في الإسلام على التسول ولن يقوم.
إن قوام الحياة في النظام الإسلامى هو العمل- بكل صنوفه وألوانه- على الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه.
والزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع، متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح، منفذا شريعة الله لا يبتغى له شرعا ولا منهجا سواه.
إن فريضة الزكاة تؤدى في صورة عبادة إسلامية، ليطهر الله بها القلوب من الشح، وليجعلها شرعة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة.
إنها فريضة من الله، الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، ويدير أمرها بالحكمة وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «١».
وبعد هذا الحديث عن الصدقات التي كان المنافقون يلمزون الرسول ﷺ فيها، أخذت السورة في مواصلة حديثها عن رذائل المنافقين، وعن سوء أدبهم.. فقال تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن السدى أنها نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد بن صامت ورفاعة ابن عبد المنذر،
(١) في ظلال القرآن ج ١٠.
332
ووديعة بن ثابت وغيرهم، قالوا مالا ينبغي في حقه صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل منهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا ما تقولونه فيقع فينا. فقال الجلاس:
بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا أذن «١».
فمرادهم بقولهم «هو أذن» أى: كثير الاستماع والتصديق لكل ما يقال له.
قال صاحب الكشاف: الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمى بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للربيئة- أى الطليعة- عين» «٢».
وقال بعضهم: «الأذن» الرجل المستمع القابل لما يقال له. وصفوا به الذكر والأنثى والواحد والجمع. فيقال: رجل أذن، وامرأة أذن ورجال ونساء أذن، فلا يثنى ولا يجمع. إنما سموه باسم العضو تهويلا وتشنيعا فهو مجاز مرسل أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته- لفرط استماعه- آلة السماع، كما سمى الجاسوس عينا لذلك» «٣».
والمعنى: ومن هؤلاء المنافقين قوم يؤذون النبي ﷺ فيقولون عنه أنه كثير السماع والتصديق لكل ما يقال له بدون تمييز بين الحق والباطل.
وقوله: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ رد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويكبت أنفسهم وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على سبيل المبالغة في المدح كقولهم رجل صدق أى قد بلغ النهاية في الصدق والاستقامة.
والمعنى: قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتبكيت: سلمنا. كما تزعمون. أنى كثير السماع والتصديق لما يقال، لكن هذه الكثرة ليست للشر والخير بدون تمييز وإنما هي للخير ولما وافق الشرع فحسب.
ويجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى «في»، أى هو أذن في الخير والحق، وليس بأذن في غير ذلك من وجوه الباطل والشر.
وهذه الجملة الكريمة من أسمى الأساليب وأحكمها في الرد على المرجفين والفاسقين، لأنه- سبحانه- صدقهم في كونه ﷺ أذنا، وذلك بما هو مدح له، حيث وصفه بأنه أذن خير لا شر.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٢٥.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٤.
(٣) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣١٨٦. [.....]
333
قال صاحب الإنصاف: لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة ثم كر على طمعهم بالحسم، وأعقبهم في تنقصه باليأس، منه، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه «١».
وقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ تفسير وتوضيح لكونه ﷺ أذن خير لهم لا أذن شر عليهم.
أى: أن من مظاهر كونه ﷺ أذن خير، أنه «يؤمن بالله» إيمانا حقا لا يحوم حوله شيء من الرياء، أو الخداع أو غيرهما من ألوان السوء «ويؤمن للمؤمنين» أى: يصدقهم فيما يقولونه من أقوال توافق الشرع لأنهم أصحابه الذين أطاعوه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فهم أهل للتصديق والقبول. دون غيرهم من المنافقين والفاسقين.
قال الفخر الرازي: فإن قيل لماذا عدى الإيمان إلى الله بالباء، وإلى المؤمنين باللام؟
قلنا: لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء.
والإيمان المعدى إلى المؤمنين المراد منه الاستماع منهم، والتسليم لقولهم فعدى باللام، كما في قوله وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا. أى بمصدق لنا. وقوله: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وقوله: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ «٢».
وقوله: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ معطوف على قوله: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ.
أى: أن هذا الرسول الكريم بجانب أنه أذن خير لكم هو رحمة للذين آمنوا منكم- أيها المنافقون- إيمانا صحيحا، لأنه عن طريق إرشاده لهم إلى الخير، واتباعهم لهذا الإرشاد يصلون إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.
وعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا من المنافقين: أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وأخلصوا لله قلوبهم، وتركوا النفاق والرياء.
أو أن المراد بالذين آمنوا منهم: أولئك الذين أظهروا الإيمان، فيكون المعنى:
أن هذا الرسول الكريم رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم- أيها المنافقون- حيث إنه ﷺ عاملهم بحسب الظاهر، دون أن يكشف أسرارهم، أو يهتك أستارهم لأن الحكمة تقتضي ذلك.
وعلى هذا المعنى سار صاحب الكشاف فقد قال: وهو رحمة لمن آمن منكم، أى: أظهر
(١) حاشية الكشاف لابن المنبر ج ٢ ص ١٩.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٦٥.
334
الإيمان- أيها المنافقون-، حيث يسمع منكم، ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم... «١».
وقوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم عن التعرض لرسول الله ﷺ بأية إساءة.
أى: والذين يؤذون رسول الله بأى لون من ألوان الأذى، لهم عذاب أليم في دنياهم وآخرتهم لأنهم بإيذائهم له يكونون قد استهانوا بمن أرسله الله رحمة للعالمين.
ثم حكى القرآن بعد ذلك لونا من جبنهم وعجزهم عن مصارحة المؤمنين بالحقائق، فقال- سبحانه-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
قال القرطبي: روى أن قوما من المنافقين اجتمعوا، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه وتكلموا فقالوا: إن كان ما يقوله محمد حقا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقوله محمد ﷺ لحق، ولأنتم شر من الحمير. ثم أخبر النبي ﷺ بقولهم فحلفوا إن عامرا كاذب.
فقال عامر: هم الكذبة، وحلف على ذلك وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله هذه الآية «٢».
فقوله- سبحانه-: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ خطاب للمؤمنين الذين كان المنافقون يذكرونهم بالسوء، ثم يأتون إليهم بعد ذلك معتذرين.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٩٩.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ١٩٣- بتصرف يسير-
335
أى: إن هؤلاء المنافقين يحلفون بالله لكم- أيها المؤمنون- ليرضوكم، فتطمئنوا إليهم، وتقبلوا معاذيرهم.
قال أبو السعود: وإفراد إرضائهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول ﷺ للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه، وأنه- عليه الصلاة والسلام- إنما لم يكذبهم رفقا بهم، وسترا لعيوبهم، لا عن رضا بما فعلوا، وقبول قلبي لما قالوا.. «١».
وقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ جملة حالية في محل نصب من ضمير «يحلفون» جيء بها لتوبيخهم على إيثارهم رضا الناس على رضا الله ورسوله.
أى: هم يحلفون لكم. والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء منكم لأن الله- تعالى- هو خالقهم ورازقهم ومالك أمرهم، وهو العليم بما ظهر وبطن من أحوالهم. ولأن رسوله ﷺ هو المبلغ لوحيه- عز وجل- قال صاحب المنار ما ملخصه: وكان الظاهر أن يقال: «يرضوهما» ونكتة العدول عنه إلى «يرضوه» : الإعلام بأن إرضاء رسوله عين إرضائه سبحانه... وهذا من بلاغة القرآن في نفس الإيجاز. ولو قال «يرضوهما» لما أفاد هذا المعنى إذ يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر، وهو خلاف المراد هنا، وكذلك لو قيل:
«والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه» لا يفيد هذا المعنى أيضا وفيه ما فيه من الركاكة والتطويل...
وقد خرجه علماء النحو على قواعدهم... وأقرب الأقوال إلى قواعدهم قول سيبويه: إن الكلام جملتان حذف خبر إحداهما لدلالة خبر الأخرى عليه، كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف.
فهذا لا تكلف فيه من ناحية التركيب العربي، ولكن تفوت به النكتة التي ذكرناها... «٢».
وقوله: إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ تذييل قصد به بيان أن الإيمان الحق لا يتم إلا بإرضاء الله ورسوله عن طريق طاعتهما والانقياد لأوامرهما.
أى: إن كانوا مؤمنين حقا، فليعملوا على إرضاء الله ورسوله، بأن يطيعوا أوامرهما،
(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٧٩.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٩.
336
ويجتنبوا نواهيهما، وإلا كانوا كاذبين في دعواهم الإيمان ثم توعدهم- سبحانه- بسوء المصير بسبب مخالفتهم لله ورسوله فقال:
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها...
وقوله: يُحادِدِ من المحادة بمعنى المخالفة والمجانبة والمعاداة، مأخوذة من الحد بمعنى الجانب، كأن كل واحد من المتخاصمين في جانب غير جانب صاحبه. ويقال: حاد فلان فلانا، إذا صار في غير حده وجهته بأن خالفه وعاداه.
والاستفهام في الآية الكريمة للتوبيخ والتأنيب وإقامة الحجة.
والمعنى: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين مردوا على الفسوق والعصيان أنه من يخالف تعاليم الله ورسوله، فجزاؤه نار جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها؟! إن كانوا لا يعلمون ذلك- على سبيل الفرض- فأعلمهم يا محمد بسوء مصيرهم إذا ما استمروا على نفاقهم ومعاداتهم لله ولرسوله.
قال الجمل ما ملخصه: «من» شرطية مبتدأ. وقوله: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ في موضع المبتدأ المحذوف الخبر، والتقدير. فحق أن له نار جهنم، أى: فكون نار جهنم له أمر حق ثابت. وهذه الجملة جواب من الشرطية، والجملة الشرطية، أى مجموع اسم الشرط وفعله والجزاء خبر أن الأولى، وهي أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وجملة أن الثانية واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي يعلم إن لم يكن بمعنى العرفان، ومسد مفعوله أى الواحد إن كان بمعنى العرفان «١».
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يعود على ما ذكر من العذاب أى: ذلك الذي ذكرناه من خلودهم في النار يوم القيامة هو الذل العظيم، الذي يتضاءل أمامه كل خزي وذل في الدنيا.
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا جانبا من رذائل المنافقين وأكاذيبهم، وتوعدتا كل مخالف لأوامر الله ورسوله بسوء المصير.
ثم واصلت السورة حملتها على المنافقين، فكشفت عن خباياهم، وهتكت أستارهم، وأبطلت معاذيرهم، وتوعدتهم بسوء المصير فقال- تعالى-:
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٩٥.
337

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
قال صاحب المنار: هذه الآيات في بيان شأن آخر من شئون المنافقين التي كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك. أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله- تعالى-: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ...
قال: كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون: عسى أن لا يفشى علينا هذا.
وعن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة. فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة. أنبأت بمثالبهم وعوراتهم «١».
والضمير في قوله: عَلَيْهِمْ وفي قوله: تُنَبِّئُهُمْ يعود على المنافقين. فيكون المعنى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ ويخافون من أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أى: في شأنهم وحالهم «سورة من سور القرآن الكريم»، تنبئهم بما في قلوبهم. أى: تخبرهم بما انطوت عليه قلوبهم من أسرار خفية، ومن أقوال كانوا يتناقلونها فيما بينهم، ويحرصون على إخفائها عن المؤمنين.
وفي التعبير بقوله: تُنَبِّئُهُمْ مبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم، حتى أنها تعلم من أحوالهم الباطنة مالا يعلمونه هم عن أنفسهم، فتنبئهم بهذا الذي لا يعلمونه، وتنعى عليهم قبائحهم ورذائلهم. وتذيع على الناس ما كانوا يخشون ظهوره من أقوال ذميمة، وأفعال أثيمة.
(١) تفسير المنار ج ١ ص ٦١٠.
338
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله عَلَيْهِمْ وقوله: تُنَبِّئُهُمْ يعود على المؤمنين، فيكون المعنى: يحذر المنافقون ويخشون من أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين من أضغان وأحقاد وفسوق عن أمر الله.
وقد ذكر هذين الوجهين صاحب الكشاف فقال: والضمير في «عليهم» و «تنبئهم» للمؤمنين، و «في قلوبهم» للمنافقين. وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه.
ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين: لأن السورة إذا نزلت في معناهم- أى في شأنهم وأحوالهم- فهي نازلة عليهم. ومعنى «تنبئهم بما في قلوبهم» كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت: يعنى أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها» «١».
وقال الإمام الرازي. فإن قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحى على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلنا فيه وجوه؟
قال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول ﷺ يذكر كل شيء، ويدعى أنه عن الوحى، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، وفي قوله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا دلالة على ما قلناه.
٢- أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول ﷺ إلا أنهم شاهدوا أنه ﷺ كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
٣- قال الأصم. إنهم كانوا يعرفون كون الرسول ﷺ صادقا، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا...
٤- معنى الحذر: الأمر بالحذر. أى: ليحذر المنافقون ذلك.
٥- أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته، وما كانوا قاطعين بفسادها، والشاك خائف، فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم «٢». والذي نراه أن الرأى الخامس أقرب الآراء إلى الصواب، لأن المنافقين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر: فهم كما وصفهم الله- تعالى- مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ....
ومن شأن هذا التذبذب أن يغرس الخوف والحذر في القلوب.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٨.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٤٨.
339
أى أن هذا الحذر والإشفاق. كما يقول بعض العلماء. أثر طبيعي للشك والارتياب، لأنهم لو كانوا موقنين بتكذيب الرسول ﷺ لما خطر لهم هذا الخوف على بال، ولو كانوا موقنين بتصديقه، لما كان هناك محل لهذا الحذر «لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان» «١».
وقوله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ تهديد ووعيد لهم على نفاقهم وسوء أدبهم.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين المذبذبين بين الحق والباطل، قل لهم، على سبيل التهديد والتبكيت: افعلوا ما شئتم من الاستخفاف بتعاليم الإسلام إن الله- تعالى- مظهر ما تحذرونه من إنزال الآيات القرآنية التي تفضحكم على رءوس الأشهاد، والتي تكشف عن أسراركم، وتهتك أستاركم، وتظهر للمؤمنين ما أردتم إخفاءه عنهم.
وأسند الإخراج إلى الله- تعالى- للإشارة إلى أنه- سبحانه- يخرج ما يحذرونه إخراجا لا مزيد عليه من الكشف والوضوح، حتى يحترس منهم المؤمنون ولا يغتروا بأقوالهم المعسولة.
وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.. بيان للون آخر من معاذيرهم الكاذبة، وجبنهم عن مواجهة الحقائق.
وأصل الخوض- كما يقول الآلوسى- الدخول في مائع مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وأذى «٢».
أى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عن سبب استهزائهم بتعاليم الإسلام ليقولن لك على سبيل الاعتذار، إنما كنا نفعل ذلك على سبيل الممازحة والمداعبة لا على سبيل الجد.
وقوله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ إبطال لحجتهم، وقطع لمعاذيرهم، وتبكيت لهم على جهلهم وسوء أخلاقهم.
أى: قل لهم يا محمد- على سبيل التوبيخ والتجهيل- ألم تجدوا ما تستهزءون به في مزاحكم ولعبكم- كما تزعمون- سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور؟
فالاستفهام للإنكار والتوبيخ، ودفع ما تذرعوا به من معاذير واهية.
وقوله- سبحانه-:
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تأكيد لإبطال ما أظهروه من معاذير.
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٦١٠.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٣١.
340
والاعتذار معناه محاولة محو أثر الذنب، مأخوذ من قولهم: اعتذرت المنازل إذا اندثرت وزالت، لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين المستهزئين بما يجب إجلاله واحترامه وتوقيره: قل لهم على سبيل التوبيخ والتجهيل أيضا- لا تشتغلوا بتلك المعاذير الكاذبة فإنها غير مقبولة، لأنكم بهذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أى: قد ظهر كفركم وثبت، بعد إظهاركم الإيمان على سبيل المخادعة، فإذا كنا قبل ذلك نعاملكم معاملة المسلمين بمقتضى نطقكم بالشهادتين فنحن الآن نعاملكم معاملة الكافرين بسبب استهزائكم بالله وآياته ورسوله ﷺ لأن الاستهزاء بالدين. كما يقول الإمام الرازي. يعد من باب الكفر، إذ أنه يدل على الاستخفاف، والأساس الأول في الإيمان تعظيم الله- تعالى- بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال «١».
وقوله- تعالى-: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ بيان لمظهر من مظاهر عدله- سبحانه- ورحمته.
أى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ- أيها المنافقون- بسبب توبتهم وإقلاعهم عن النفاق، نُعَذِّبْ طائِفَةً أخرى منكم بسبب إصرارهم على النفاق، واستمرارهم في طريق الفسوق والعصيان.
هذا، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها:
ما جاء عن زيد بن أسلم: أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك:
ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء!! فقال له عوف:
كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله ﷺ فذهب عوف إلى رسول الله ﷺ ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه.
قال زيد: قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه- أى إلى المنافق- متعلقا بحقب «٢» ناقة رسول الله ﷺ تنكبه «٣» الحجارة يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له الرسول ﷺ «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون» «٤».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٦٠.
(٢) الحقب- بفتحتين- حبل يشد به الرحل في بطن البعير.. [.....]
(٣) تنكبه الحجارة: تصيبه وتؤذيه.
(٤) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٣٣ طبعة دار المعارف.
341
وعن قتادة قال: بينما رسول الله ﷺ يسير في غزوته إلى تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها!! هيهات هيهات!.
فأطلع الله نبيه ﷺ على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «احبسوا على الركب» فأتاهم فقال لهم. قلتم كذا، قلتم كذا. فقالوا: «يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب» فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون «١».
وقال ابن إسحاق: كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت.. ومنهم رجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له «مخشى بن حمير» يسيرون مع رسول الله ﷺ وهو منطلق إلى تبوك- فقال بعضهم- أتحسبون جلاد بنى الأصفر- أى الروم- كقتال العرب بعضهم؟
والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين.
فقال مخشى بن حمير: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة، وأننا ننجو أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله ﷺ فيما بلغني- لعمار بن ياسر- أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله ﷺ يعتذرون إليه.
فقال وديعة بن ثابت- ورسول الله ﷺ واقف على راحلته- يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب.
فقال مخشى بن حمير: يا رسول الله، قعد بن اسمى واسم أبى، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا، لا يعلم مكانه.
فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر «٢».
هذه بعض الآثار التي وردت في سبب نزول هذه الآيات، وهي توضح ما كان عليه المنافقون من كذب في المقال، وجبن عن مواجهة الحقائق.
ثم مضت السورة الكريمة بعد ذلك في تقرير حقيقة المنافقين، وفي بيان جانب من صفاتهم، والمصير السيئ الذي ينتظرهم فقال سبحانه وتعالى:
(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٣٤.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٧.
342

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]

الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
قال الإمام الرازي: اعلم أن هذا شرح لنوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم، والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة فقال:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أى: في صفة النفاق، وذلك كما يقول إنسان لآخر: أنت منى وأنا منك. أى: أمرنا واحد لا مباينة فيه ولا مخالفة... «١».
وقوله: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ تفصيل لجانب من رذائلهم، ومن مسالكهم الخبيثة.
أى: يأمرون غيرهم بكل ما تستنكره الشرائع، وتستقبحه العقول، وينهونه عن كل أمر دعت إليه الأديان، وأحبته القلوب السليمة.
وقوله: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ كناية عن بخلهم وشحهم، لأن الإنسان السخي يبسط يده بالعطاء، بخلاف الممسك القتور فإنه يقبض يده عن ذلك.
أى: أن من صفات هؤلاء المنافقين أنهم بخلاء أشحاء عن بذل المال في وجوهه المشروعة.
وقوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ كناية عن رسوخهم في الكفر، وانغماسهم في كل ما يبعدهم عن الله- تعالى-.
والمقصود بالنسيان هنا لازمه، وهو الترك والإهمال لأن حقيقة النسيان محالة على الله- تعالى-، كما أن النسيان الحقيقي لا يذم صاحبه عليه لعدم التكليف به.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٧٠.
343
أى: تركوا طاعة الله وخشيته ومراقبته، فتركهم- سبحانه- وحرمهم من هدايته ورحمته وفضله.
وقوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ تذييل قصد به المبالغة في ذمهم.
أى: إن المنافقين هم الكاملون في الخروج عن طاعة الله، وفي الانسلاخ عن فضائل الإيمان، ومكارم الأخلاق.
وقوله- سبحانه-:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ بيان لسوء مصيرهم، بعد بيان جانب من صفاتهم الذميمة.
أى: وعد الله- تعالى- المنافقين والمنافقات والكفار المجاهرين بكفرهم «نار جهنم خالدين فيها» خلودا أبديا.
وقوله: هِيَ حَسْبُهُمْ أى: إن تلك العقوبة الشديدة كافية لإهانتهم وإذلالهم بسبب فسوقهم عن أمر ربهم.
وقوله: وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أى: طردهم وأبعدهم من رحمته ولطفه.
وقوله: وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أى: ولهم عذاب دائم لا ينقطع فهم في الدنيا يعيشون في عذاب القلق والحذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم، وفي الآخرة يذوقون العذاب الذي هو أشد وأبقى، بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان.
وبذلك نرى الآيتين الكريمتين قد بينتا جانبا من قبائح المنافقين، ومن سوء مصيرهم في عاجلتهم وآجلتهم.
ثم ساقت السورة الكريمة- لهؤلاء المنافقين- نماذج لمن حبطت أعمالهم بسبب غرورهم، وضربت لهم الأمثال بمن هلك من الطغاة السابقين بسبب تكذيبهم لأنبيائهم، فقال- تعالى-:
344

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
وقوله- تعالى-:
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً جاء على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين، وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار والاتعاظ.
والكاف في قوله: كَالَّذِينَ للتشبيه، وهي في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.
والتقدير: أنتم- أيها المنافقون- حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة في الانحراف عن الحق، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين، يمتازون عنكم بأنهم «كانوا أشد منكم قوة» في أبدانهم، وكانوا «أكثر» منكم «أموالا وأولادا».
وقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله- تعالى- والخلاق: مشتق من الخلق بمعنى التقدير. وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه.
أى: كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الحياة الدنيا، استمتاع الجاحدين الفاسقين.
والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب في قوله: فَاسْتَمْتَعُوا للإشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم، قد استعملوها في غير ما خلقت له، وسخروها لإرضاء شهواتهم الخسيسة، وملذاتهم الدنيئة.
وقوله: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم لانتهاجهم جميعا طريق الشر والبطر.
أى: فأنتم- أيها المنافقون- قد استمتعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا، وشهواتها الباطلة، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم في ذلك.
345
وقوله: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا معطوف على ما قبله.
أى: وخضتم- أيها المنافقون- في حمأة الباطل وفي طريق الغرور والهوى، كالخوض الذي خاضه السابقون من الأمم المهلكة.
قال الآلوسى قوله: «وخضتم» أى: دخلتم في الباطل «كالذي خاضوا».
أى: كالذين فحذفت نونه تخفيفا، كما في قول الشاعر:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
ويجوز أن يكون «الذي» صفة لمفرد اللفظ، مجموع المعنى، كالفوج والفريق، فلوحظ في الصفة اللفظ. وفي الضمير المعنى، أو هو صفة لمصدر محذوف، أى: كالخوض الذي خاضوه، ورجح بعدم التكلف فيه «١».
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فائدة في قوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وقوله: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مغن عنه كما أغنى قوله: كَالَّذِي خاضُوا عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟
قلت: فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع، ويهجن أمر الرضا به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون: كان يقتل بغير جرم، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله.
وأما «وخضتم كالذي خاضوا» فمعطوف على ما قبله مستند إليه، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة» «٢».
وقوله: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ بيان لسوء مصيرهم في الدارين.
واسما الإشارة يعودان على المتصفين بتلك الصفات القبيحة من السابقين واللاحقين.
أى: أولئك المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم في الشهوات الخسيسة، والخائضون في الشرور والآثام «حبطت أعمالهم» أى: فسدت وبطلت أعمالهم التي كانوا يرجون منفعتها «في الدنيا والآخرة» لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص، وإنما كان معها الرياء
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٣٤.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٨.
346
والنفاق، والفسوق والعصيان، والله- تعالى- لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.
وقوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أى: الكاملون في الخسران، الجامعون لكل ما من شأنه أن يؤدى إلى البوار والهلاك.
ثم ساق لهم- سبحانه- من أخبار السابقين ما فيه الكفاية للعظة والاعتبار لو كانوا يعقلون، فقال- تعالى-: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ....
والاستفهام للتقرير والتحذير. والمراد بنبإ الذين من قبلهم: أخبارهم التي تتناول أقوالهم وأعمالهم، كما تتناول ما حل بهم من عقوبات، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم.
والمعنى: ألم يصل إلى أسماع هؤلاء المنافقين، خبر أولئك المهلكين من الأقوام السابقين بسبب عصيانهم لرسلهم، ومن هؤلاء الأقوام «قوم نوح» الذين أغرقوا بالطوفان، وقوم «عاد» الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية، وقوم «ثمود» الذين أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، «وقوم إبراهيم» الذين سلب الله نعمه عنهم، وأذل غرور زعيمهم الذي حاج إبراهيم في ربه، «وأصحاب مدين» وهم قوم شعيب الذين أخذتهم الصيحة، «والمؤتفكات» وهم أصحاب قرى قوم لوط، التي جعل الله عاليها سافلها...
والائتفاك: معناه الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله. يقال: أفكه يأفكه إذا قلبه رأسا على عقب.
وذكر- سبحانه- هنا هذه الطوائف الست، لأن آثارهم باقية، ومواطنهم هي الشام والعراق واليمن، وهي مواطن قريبة من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها في أسفارهم، كما كانوا يعرفون الكثير من أخبارهم.
قال- تعالى-: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«١».
وقوله: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ كلام مستأنف لبيان أنبائهم وأخبارهم.
أى: أن هؤلاء الأقوام المهلكين السابقين، قد أتتهم رسلهم بالحجج الواضحات الدالة على وحدانية الله وعلى وجوب إخلاص العبادة له..
والفاء في قوله: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ للعطف على كلام مقدر يدل عليه المقام.
أى: أتتهم رسلهم بالبينات، فكذبوا هؤلاء الرسل، فعاقبهم الله- تعالى- على هذا التكذيب. وما كان من سنته- سبحانه- ليظلمهم، لأنه لا يظلم الناس شيئا «ولكن كانوا
(١) سورة الصافات. الآيتان ١٣٧ ١٣٨.
347
أنفسهم يظلمون» بسبب كفرهم وجحودهم، واستحبابهم العمى على الهدى، وإيثارهم الغي على الرشد.
هذا، ومن هاتين الآيتين الكريمتين نرى بوضوح، أن الغرور بالقوة، والافتتان بالأموال والأولاد، والانغماس في الشهوات والملذات الخسيسة. والخوض في طريق الباطل، وعدم الاعتبار بما حل بالطغاة والعصاة..
كل ذلك يؤدى إلى الخسران في الدنيا والآخرة، وإلى التعرض لسخط الله وعقابه.
كما نرى منهما أن من سنة الله في خلقه، أنه- سبحانه- لا يعاقب إلا بذنب، ولا يأخذ العصاة والطغاة أخذ عزيز مقتدر، إلا بعد استمرارهم في طريق الغواية، وإعراضهم عن نصح الناصحين، وإرشاد المرشدين. وصدق الله إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن أحوال المنافقين، وصفاتهم، وسوء عاقبتهم..
أتبعت ذلك بالحديث عن المؤمنين الصادقين، وعما أعده الله لهم من نعيم مقيم، فقال- سبحانه-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
قال الإمام ابن كثير: لما ذكر- سبحانه- صفات المنافقين الذميمة، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
348
أى: يتناصرون ويتعاضدون كما جاء في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». وفي الصحيح- أيضا-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» «١».
وقال- سبحانه- هنا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بينما قال في المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ للإشعار بأن المؤمنين في تناصرهم وتعاضدهم وتراحمهم مدفوعون بدافع العقيدة الدينية التي ألفت بين قلوبهم، وجعلتهم أشبه ما يكونون بالجسد الواحد، أما المنافقون فلا توجد بينهم هذه الروابط السامية، وإنما الذي يوجد بينهم هو التقليد واتباع الهوى، والسير وراء العصبية الممقوتة، فهم لا ولاية بينهم، وإنما الذي بينهم هو التقليد وكراهية ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بيان للآثار التي تترتب على تلك الولاية الخالصة، وتفصيل للصفات الحسنة التي تحلى بها المؤمنون والمؤمنات.
أى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين جمعتهم العقيدة الدينية على التناصر والتراحم.. من صفاتهم أنهم يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أى يأمرون بكل خير دعا إليه الشرع، وينهون عن كل شر تأباه تعاليم الإسلام الحنيف.
وقوله: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أى: يؤدونها في أوقاتها بإخلاص وخشوع..
وقوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أى: يعطونها لمستحقيها بدون منّ أو أذى..
وقوله: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى: في سائر الأحوال بدون ملل أو انقطاع أو تكاسل..
وقوله: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ بيان للجزاء الطيب الذي ادخره الله- تعالى- لهم.
أى: أولئك المؤمنون والمؤمنات المتصفون بتلك الصفات السامية، سيرحمهم الله- تعالى- برحمته الواسعة، إنه- سبحانه- «عزيز» لا يعجزه شيء «حكيم» في كل أفعاله وتصرفاته.
قال صاحب الكشاف: «والسين هنا مفيدة لوجود الرحمة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد كما في قولك: سأنتقم منك يوما، تعنى أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «٢»
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦٩.
(٢) تفسير الكشاف- بتصرف يسير- ج ٢ ص ٢٨٩.
349
ثم فصل- سبحانه- مظاهر رحمته للمؤمنين والمؤمنات أصحاب تلك الصفات السابقة فقال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
أى: وَعَدَ اللَّهُ بفضله وكرمه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى: من تحت بساتينها وأشجارها وقصورها خالِدِينَ فِيها في تلك الجنات خلودا أبديا.
ووعدهم كذلك «مساكن طيبة» أى: منازل حسنة، تنشرح لها الصدور وتستطيبها النفوس.
وقوله: «في جنات عدن» أى في جنات ثابتة مستقرة. يقال: فلان عدن بمكان كذا، إذا استقر به وثبت فيه، ومنه سمى المعدن معدنا لاستقراره في باطن الأرض.
وقيل: إن كلمه «عدن» علم على مكان مخصوص في الجنة، أى في جنات المكان المسمى بهذا الاسم وهو «عدن».
ثم بشرهم- سبحانه- بما هو أعظم من كل ذلك فقال: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ.
أى أن المؤمنين والمؤمنات ليس لهم هذه الجنات والمساكن الطيبة فحسب وإنما لهم ما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو رضا الله- تعالى- عنهم، وتجليه عليهم، وتشرفهم بمشاهدة ذاته الكريمة، وشعورهم بأنهم محل رعاية الله وكرمه.
والتنكير في قوله: وَرِضْوانٌ للتعظيم والتهويل، وللإشارة إلى أن الشيء اليسير من هذا الرضا الإلهى على العبد، أكبر من الجنات ومن المساكن الطيبة، ومن كل حطام الدنيا.
روى الشيخان عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله- عز وجل- يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك.
فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟
فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا»
.
وروى البزار في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله- تعالى-: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟
قالوا: يا ربنا وما خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر»
«١».
وقوله: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى: ذلك الذي وعد الله به المؤمنين والمؤمنات في جنات ومساكن طيبة، ومن رضا من الله عنهم، هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز، ولا يدانيه
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٧٠.
350
نعيم، ولا يسامى شرفه شرف..
وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بشرتا المؤمنين والمؤمنات بأعظم البشارات، ووصفتهم بأشرف الصفات، وقابلت بين جزائهم وبين جزاء الكفار والمنافقين، بما يحمل العاقل على أن يسلك طريق المؤمنين، وعلى أن ينهج نهجهم، ويتحلى بأوصافهم... وبذلك يفوز بنعيم الله ورضاه كما فازوا، ويسعد كما سعدوا، وينجو من العذاب الذي توعد الله به المنافقين والكافرين، بسبب إصرارهم على الكفر والنفاق، وإيثارهم الغىّ على الرشد.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ بمجاهدة الكفار والمنافقين بكل وسيلة، لأنهم جميعا لا يريدون الانتهاء عن المكر السيئ بالدعوة الإسلامية فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
وقوله- سبحانه- جاهِدِ من المجاهدة، بمعنى بذل الجهد في دفع ما لا يرضى، سواء أكان ذلك بالقتال أم بغيره.
وقوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ من الغلظة التي هي نقيض الرقة والرأفة. يقال أغلظ فلان في الأمر إذا اشتد فيه ولم يترفق.
ونحن عند ما نقرأ السيرة النبوية، نجد أنه ﷺ بعد هجرته إلى المدينة، ظل فترة طويلة يلاين المنافقين، ويغض الطرف عن رذائلهم. ويصفح عن مسيئهم.. إلا أن هذه المعاملة الحسنة لهم زادتهم رجسا إلى رجسهم.. لذا جاءت هذه السورة- وهي من أواخر ما نزل من القرآن لتقول للنبي ﷺ لقد آن الأوان لإحلال الشدة والحزم، محل اللين والرفق، فإن للشدة مواضعها وللين مواضعه..
والمعنى: عليك- أيها النبي الكريم- أن تجاهد الكفار بالسيف إذا كان لا يصلحهم سواه، وأن تجاهد المنافقين- الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر- بما تراه مناسبا لردهم وزجرهم وإرهابهم، سواء أكان ذلك باليد أم باللسان أم بغيرهما، حتى تأمن شرهم.
قال الإمام ابن كثير، أمر الله رسوله ﷺ بجهاد الكفار والمنافقين، كما أمره أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين.. وقد تقدم عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أنه قال:
بعث رسول الله ﷺ بأربعة أسياف. سيف للمشركين فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ... وسيف للكفار أهل الكتاب قاتِلُوا الَّذِينَ
351
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ...
وسيف للمنافقين جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وسيف للبغاة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ وهذا يقتضى أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن مسعود في قوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قال: بيده، فإن لم يستطع فليكشر في وجهه- أى فليلق المنافق بوجه عابس لا طلاقة فيه ولا انبساط.
وقال ابن عباس: أمره الله- تعالى- بجهاد المنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم.
وقد يقال أنه لا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا على حسب الأحوال... «١».
والضمير المجرور في قوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يعود على الفريقين: الكفار والمنافقين أى: جاهدهم بكل ما تستطيع مجاهدتهم به، مما يقتضيه الحال، واشدد عليهم في هذه المجاهدة بحيث لا تدع مجالا معهم للترفق واللين، فإنهم ليسوا أهلا لذلك، بعد أن عموا وصموا عن النصيحة، وبعد أن لجوا في طغيانهم.
وقوله: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تذييل قصد به بيان سوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان ما يجب على المؤمنين نحوهم في الدنيا.
أى: عليك- أيها النبي- أن تجاهدهم وأن تغلظ عليهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن جهنم هي دارهم وقرارهم.
والمخصوص بالذم محذوف والتقدير: وبئس المصير مصيرهم، فانه لا مصير أسوأ من الخلود في جهنم.
ومن هذه الآية الكريمة نرى أن على المؤمنين- في كل زمان ومكان- أن يجاهدوا أعداءهم من الكفار والمنافقين بالسلاح الذي يرونه كفيلا بأن يجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
ثم بين- سبحانه- ما كان عليه المنافقون من كذب وفجور، ومن خيانة وغدر، وفتح أمامهم باب التوبة، وأنذرهم بالعذاب الأليم إذا ما استمروا في نفاقهم فقال- سبحانه-:
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨١.
352

[سورة التوبة (٩) : آية ٧٤]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما رواه ابن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: نزلت هذه الآية: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا. الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت. أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء. فقال الجلاس: إن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها!! فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله ﷺ بما قلت: قال مصعب:
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم. وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة.. فقلت يا رسول الله:
أقبلت أنا والجلاس من قباء. فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك.
قال مصعب: فدعا رسول الله ﷺ الجلاس فقال له: أقلت الذي قال مصعب؟
فحلف الجلاس بأنه ما قال ذلك. فأنزل الله الآية» «١».
وأخرج ابن إسحاق وابن أبى حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن وفيه ذكر المنافقين قال الجلاس بن سويد: والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير.
فسمعه عمير بن سعد فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلى. وأحسنهم عندي أثرا.
ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن سكت عنها هلكت، ولإحداهما أشد على من الأخرى.
(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٦٢ بتصرف يسير. طبعة دار المعارف.
353
فمشى عمير إلى رسول الله ﷺ فذكر ما قال الجلاس. فسأل رسول الله ﷺ الجلاس عما قاله عمير، فحلف بالله ما قال ذلك، وزعم أن عميرا كذب عليه فنزلت هذه الآية «١».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبى الطفيل.
قال: لما أقبل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مناديه فنادى إن رسول الله ﷺ أخذ طريق العقبة- وهو مكان مرتفع ضيق- فلا يأخذها أحد.
قال: فبينما رسول الله ﷺ يقود ركابه حذيفة ويسوقه عمار، إذا أقبل رهط ملثمون على الرواحل، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل. فقال رسول الله ﷺ لحذيفة: «قد، قد». أى حسبك حسبك. حتى هبط رسول الله ﷺ ورجع عمار.
فقال رسول الله ﷺ يا عمار: «هل عرفت القوم» ؟ فقال: لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون. قال: «هل تدرى ما أرادوا» ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال:
«أرادوا أن ينفروا برسول الله ﷺ راحلته فيطرحوه».. «٢».
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية وهي تكشف عن كذب المنافقين وغدرهم.
وقوله. سبحانه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا... استئناف مسوق لبيان جانب مما صدر عنهم من جرائم تستدعى جهادهم والإغلاظ عليهم.
أى: يحلف هؤلاء المنافقون بالله كذبا وزورا أنهم ما قالوا هذا القول القبيح الذي بلغك عنهم يا محمد.
والحق أنهم قد قالوا «كلمة الكفر» وهي تشمل كل ما نطقوا به من أقوال يقصدون بها إيذاءه. صلى الله عليه وسلم، كقولهم: «هو أذن» وقولهم. «لئن كان ما جاء به حقا فنحن أشر من حمرنا... » وغير ذلك من الكلمات القبيحة التي نطقوا بها.
وأنهم قد «كفروا بعد إسلامهم» أى: أظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام.
وأنهم قد «هموا بما لم ينالوا» أى: حاولوا إلحاق الأذى برسول الله ﷺ ولكنهم لم يستطيعوا ذلك، لأن الله تعالى. عصمه من شرورهم.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٣٨. [.....]
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٢. بتصرف وتلخيص.
354
وقوله: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ توبيخ لهم على جحودهم وكنودهم ومقابلتهم الحسنة بالسيئة.
ومعنى: نقموا: كرهوا وعابوا وأنكروا، يقال نقم منه الشيء إذا أنكره، وكرهه وعابه، وكذا إذا عاقبه عليه.
أى: وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام شيئا، إلا أنهم بسببه أغناهم الله ورسوله من فضله بالغنائم وغيرها من وجوه الخيرات التي كانوا لا يجدونها قبل حلول الرسول ﷺ وأصحابه بينهم.
وهذه الجملة الكريمة جاءت على الأسلوب الذي يسميه علماء البلاغة: تأكيد المدح بما يشبه الذم.
قال الجمل: كأنه قال- سبحانه- ليس له ﷺ صفة تكره وتعاب، سوى أنه ترتب على قدومه إليهم وهجرته عندهم، إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة، وهذه ليست صفة ذم- بل هي صفة مدح- فحينئذ ليس له صفة تذم أصلا» «١».
وشبيه بهذا الأسلوب قول الشاعر يمدح قوما بالشجاعة والإقدام.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بترغيبهم وترهيبهم فقال: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..
أى: فإن يتب هؤلاء المنافقون عن نفاقهم وشقاقهم وقبائح أقوالهم وأفعالهم، يكن المتاب خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم. «وإن يتولوا» ويعرضوا عن الحق: ويستمروا في ضلالهم «يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة».
أما عذاب الدنيا فمن مظاهره: حذرهم وخوفهم من أن يطلع المؤمنون على أسرارهم وجبنهم عن مجابهة الحقائق، وشعورهم بالضعف أمام قوة المسلمين، وإحساسهم بالعزلة والمقاطعة من جانب المؤمنين ومعاقبة الرسول ﷺ إياهم بالعقوبة المناسبة لجرمهم..
وأما عذاب الآخرة، فهو أشد وأبقى، بسبب إصرارهم على النفاق، وإعراضهم عن دعوة الحق.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٠- بتصرف يسير-
355
وقوله: وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ تذييل قصد به تيئيسهم من كل معين أو ناصر.
أى: أن هؤلاء المنافقين ليس لهم أحد في الأرض يدفع عنهم عذاب الله، أو يحميهم من عقابه، لأن عقاب الله لن يدفعه دافع إلا هو، فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى ربهم قبل أن يحل بهم عذابه.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك نماذج أخرى من جحودهم، ونقضهم لعهودهم، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله فقال- سبحانه-.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري، أن سبب نزول هذه الآيات أن ثعلبة بن حاطب الأنصارى قال لرسول الله ﷺ يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم قال له مرة أخرى: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تصير الجبال معى ذهبا وفضة لصارت».
فقال ثعلبة، والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزق ثعلبة مالا».
356
فاتخذ ثعلبة غنما فنمت، ثم ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم ترك الجمعة..
وأنزل الله- تعالى- قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها فبعث الرسول ﷺ رجلين على الصدقة من المسلمين.. وقال لهما: «مرا على ثعلبة وعلى فلان. رجل من بنى سليم. فخذا صدقاتهما».
فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله. فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدرى ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلى.
فانطلقا وسمع بهما السلمى «فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة. ثم استقبلهم بها.
فلما رأوها قالوا له: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال: بل خذوها فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذاها منه ومرا على ثعلبة فقال لهما: أرونى كتابكما فقرأه فقال: ما هذه إلا جزية... انطلقا حتى أرى رأيى.
فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال: «يا ويح ثعلبة»
قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمى بالبركة. فأخبراه بالذي صنعه ثعلبة معهما..
فأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ.. الآيات.
فسمع رجل من أقارب ثعلبة هذه الآيات فذهب إليه وأخبره بما أنزل فيه من قرآن.
فخرج ثعلبة حتى أتى النبي ﷺ وسأله أن يقبل منه صدقته فقال له: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك..
ثم لم يقبلها منه بعد ذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان «١».
هذا، وقد ضعف بعض العلماء هذا الحديث، لأسباب تتعلق بسنده، وبصاحب القصة وهو ثعلبة بن حاطب.
والذي نراه أن هذه الآيات الكريمة تحكى صورة حقيقية وواقعية لبعض المنافقين المعاصرين للعهد النبوي. والذين عاهدوا الله فنقضوا عهودهم معه، وقابلوا ما أعطاهم من نعم بالبخل والجحود..
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٤- بتصرف وتلخيص.
357
وتلك الصورة قد تكون لثعلبة بن حاطب وقد تكون لغيره، لأن المهم هو حصولها فعلا من بعض المنافقين.
وهذه الآيات- أيضا- تنطبق في كل زمان ومكان على من يقابل نعم الله بالكفران، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله: هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجئون إلى الله- تعالى- في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم. فإذا استجاب لهم نكسوا على رءوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق وهذا مثل من شر أمثالهم» «١».
ومعنى الآيات الكريمة: ومن المنافقين قوم «عاهدوا الله» وأكدوا عهودهم بالأيمان المغلظة فقالوا: «لئن آتانا» الله- تعالى- من فضله مالا وفيرا، لنصدقن منه على المحتاجين، ولنعطين كل ذي حق حقه ولنكونن من عباده «الصالحين» الذين يؤدون واجبهم نحو الله والناس، والذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
قال الجمل وقوله: مَنْ عاهَدَ اللَّهَ فيه معنى القسم، وقوله: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ تفسير لقوله: عاهد الله. واللام موطئة لقسم مقدر. وقد اجتمع هنا قسم وشرط، فالمذكور وهو قوله: «لنصدقن».. جواب القسم، وجواب الشرط محذوف... واللام في قوله «لنصدقن»... واقعة في جواب القسم «٢».
وقوله:
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ بيان لموقفهم الجحودى من عطاء الله وكرمه.
أى: فلما أعطى الله- تعالى- من فضله هؤلاء المنافقين ما تمنوه من مال وفير «بخلوا به» أى: بخلوا بهذا المال، فلم ينفقوا منه شيئا في وجوهه المشروعة، ولم يعترفوا فيه بحقوق الله أو حقوق الناس، ولم يكتفوا بذلك بل «تولوا وهم معرضون».
أى: أدبروا عن طاعة الله وعن فعل الخير، وهم قوم دأبهم التولي عن سماع الحق، وشأنهم الانقياد للهوى والشيطان.
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٦٤٦.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠١.
358
وقوله:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ تصوير للآثار الذميمة التي ترتبت على بخلهم وإعراضهم عن الحق والخير.
أى: فجعل الله- تعالى- عاقبة فعلهم نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم إلى يوم يلقونه للحساب، فيجازيهم بما يستحقون على بخلهم وإعراضهم عن الحق.
فالضمير المستتر في «أعقب» لله- تعالى- وكذا الضمير المنصوب في قوله:
«يلقونه».
ويصح أن يكون الضمير في «أعقب» يعود على البخل والتولي والإعراض، فيكون المعنى: فأعقبهم وأورثهم ذلك البخل والتولي والإعراض عن الحق والخير، نفاقا راسخا في قلوبهم، وممتدا في نفوسهم إلى اليوم الذي يلقون فيه ربهم، فيعاقبهم عقابا أليما على سوء أعمالهم.
والباء في قوله: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ للسببية.
أى: أن النفاق قد باض وفرخ في قلوبهم إلى يوم يلقون الله- تعالى-، بسبب إخلافهم لوعودهم مع خالقهم، وبسبب استمرارهم على الكذب، ومداومتهم عليه.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة، بتوبيخهم على إصرارهم على المعاصي، مع علمهم بأنه- عز وجل- عليم رقيب عليهم، ومطلع على أحوالهم فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
أى: ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله- تعالى- يعلم ما يسرونه في أنفسهم من نفاق، وما يتناجون به فيما بينهم من أقوال فاسدة، وأنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ بلى إنهم ليعلمون ذلك علم اليقين، ولكنهم لاستيلاء الهوى والشيطان عليهم، لم ينتفعوا بعلمهم.
فالاستفهام في قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا.. للتوبيخ والتهديد والتقرير، وتنبيهم إلى أن الله عليم بأحوالهم، وسيجازيهم عليها.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
١- وجوب الوفاء بالعهود، فإن نقض العهود، وخلف الوعد، والكذب كل ذلك يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.
ومذهب الحسن البصري- رحمه الله- أنه يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية
359
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» «١».
٢- أن للإمام أن يمتنع عن قبول الصدقة من صاحبها إذا رأى المصلحة في ذلك، اقتداء بما فعله الرسول ﷺ مع ثعلبة، فإنه لم يقبل منه الصدقة بعد أن جاء بها.
قال الإمام الرازي: فإن قيل إن الله- تعالى- أمره- أى ثعلبة- بإخراج الصدقة فكيف يجوز من الرسول ﷺ أن لا يقبلها منه؟
قلنا: لا يبعد أن يقال أنه- تعالى- منع رسوله عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له، ليعتبر غيره به، فلا يمتنع عن أداء الصدقات.
ولا يبعد- أيضا- أنه إنما أتى بها على وجه الرياء لا على وجه الإخلاص وأعلم الله رسوله بذلك، فلم يقبل تلك الصدقة لهذا السبب.
ويحتمل- أيضا- أنه- تعالى- لما قال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقة، فلهذا السبب امتنع رسول الله ﷺ عن أخذ تلك الصدقة «٢».
٣- أن النفس البشرية ضعيفة شحيحة- إلا من عصم الله.
وأن مما يعين الإنسان على التغلب على هذا الضعف والشح، أن يوطن نفسه على طاعة الله، وأن يجبرها إجبارا على مخالفة الهوى والشيطان، وأن يؤثر ما عند الله على كل شيء من حطام الدنيا...
أما إذا ترك لنفسه أن تسير على هواها، فإنها ستورده المهالك، التي لن ينفع معها الندم، وستجعله أسير شهواته وأطماعه ونفاقه إلى أن يلقى الله، وصدق- سبحانه- حيث يقول:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
ثم حكى- سبحانه- موقف هؤلاء المنافقين من المؤمنين الصادقين الذين كانوا يبذلون أموالهم في سبيل الله، فقال- سبحانه:
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٧٨. طبعة المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ هـ.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٧٦. طبعة المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ هـ.
360

[سورة التوبة (٩) : آية ٧٩]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم. إن جاء أحد منهم بمال جزيل، قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغنى عن صدقة هذا، كما روى البخاري عن أبى مسعود- رضى الله عنه- قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا- أى: نؤاجر أنفسنا في الحمل- فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا هذا يقصد الرياء، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغنى عن صدقة هذا، فنزلت هذه الآية «١».
وأخرج ابن جرير عن عمر بن أبى سلمة عن أبيه: أن رسول الله ﷺ قال:
«تصدقوا فإنى أريد أن أبعث بعثا، - أى إلى تبوك- قال: فقال عبد الرحمن بن عوف:
يا رسول الله.. إن عندي أربعة آلاف: ألفين أقرضهما الله، وألفين لعيالي.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت»
؟! فقال رجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمر، صاعا لربي، وصاعا لعيالي، قال: فلمز المنافقون وقالوا: ما أعطى أبو عوف هذا إلا رياء!! وقالوا: أو لم يكن الله غنيا عن صاع هذا!! فأنزل الله- تعالى- الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ... «٢».
وقال ابن إسحاق: كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدى- أخا بني عجلان- وذلك أن رسول الله ﷺ رغب في الصدقة وحض عليها. فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدى وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما، وقالوا: ما هذا إلا رياء. وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل- أخا بني أنيف- أتى بصاع من تمر، فأفرغها في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل» «٣».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٥.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٨٦. طبعة دار المعارف.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٥.
361
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية، وهناك روايات أخرى، قريبة في معناها بما ذكرناها.
وقوله: «يلمزون» من اللمز، يقال: لمز فلان فلانا إذا عابه وتنقصه.
والمراد بالمطوعين: أغنياء المؤمنين الذين قدموا أموالهم عن طواعية واختيار، من أجل إعلاء كلمة الله.
والمراد بالصدقات: صدقات التطوع التي يقدمها المسلم زيادة على الفريضة.
والمراد بالذين لا يجدون إلا جهدهم: فقراء المسلمين. الذين كانوا يقدمون أقصى ما يستطيعونه من مال مع قلته، إذ الجهد: الطاقة، وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان.
والمعنى: إن من الصفات القبيحة- أيضا- للمنافقين، أنهم كانوا يعيبون على المؤمنين، إذا ما بذلوا أموالهم لله ورسوله عن طواعية نفس، ورضا قلب، وسماحة ضمير....
وذلك لأن هؤلاء المنافقين- لخلو قلوبهم من الإيمان- كانوا لا يدركون الدوافع السامية، والمقاصد العالية من وراء هذا البذل..
ومن أجل هذا كانوا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياء، وكانوا يقولون عن المقل: إن الله غنى عن صدقته، فهم- لسوء نواياهم وبخل نفوسهم، وخبث قلوبهم- لا يرضيهم أن يروا المؤمنين يتنافسون في إرضاء الله ورسوله.
وقوله: وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ معطوف على قوله: الْمُطَّوِّعِينَ.
أى: أن هؤلاء المنافقين يلمزون الأغنياء المطوعين بالمال الكثير، ويلمزون الفقراء الباذلين للمال القليل لأنه هو مبلغ جهدهم، وآخر طاقتهم.
وقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ بيان لموقفهم الذميم من المؤمنين.
أى: إن هؤلاء المنافقين يستهزئون بالمؤمنين عند ما يلبون دعوة رسول الله ﷺ إلى الإنفاق في سبيل الله.
وجاء عطف فَيَسْخَرُونَ على يَلْمِزُونَ بالفاء، للإشعار بأنهم قوم يسارعون إلى الاستهزاء بالمؤمنين، بمجرد أن يصدر عن المؤمنين أى عمل من الأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله.
وقوله: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بيان لجزائهم وسوء عاقبتهم.
أى: إن هؤلاء الساخرين من المؤمنين جازاهم الله على سخريتهم في الدنيا، بأن فضحهم وأخزاهم، وجعلهم محل الاحتقار والازدراء...
362
أما جزاؤهم في الآخرة فهو العذاب الأليم الذي لا يخف ولا ينقطع.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت جانبا من طبائع المنافقين وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ويبشرهم بالعذاب الأليم.
ثم عقب الله- تعالى- هذا الحكم عليهم بالعذاب الأليم، بحكم آخر وهو عدم المغفرة لهم بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق، فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٠]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
قال الجمل: قال المفسرون: لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين، وفي بيان نفاقهم، وظهر أمرهم للمؤمنين، جاءوا إلى رسول الله ﷺ يعتذرون إليه، ويقولون: استغفر لنا فنزلت هذه الآية.
وهذا كلام خرج مخرج الأمر ومعناه الخبر، والتقدير: استغفارك وعدمه لهم سواء «١».
وإنما جاء هذا الخبر هنا في صورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما.
وقد جاء هذا الحكم في صورة الخبر في موضع آخر هو قوله- تعالى- سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «٢».
والمقصود بذكر السبعين في قوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً إرادة التكثير، والمبالغة في كثرة الاستغفار، فقد جرت عادة العرب في أساليبهم على استعمال هذا العدد للتكثير لا للتحديد، فهو لا مفهوم له.
ونظيره قوله- تعالى- ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً.. «٣».
أى: مهما استغفرت لهم يا محمد فلن يغفر الله لهم.
وقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ بيان للأسباب التي أدت إلى عدم مغفرة الله لهم.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٤.
(٢) سورة «المنافقون» الآية ٦.
(٣) سورة الحاقة الآية ٣٢.
363
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى امتناع المغفرة لهم، المفهوم من قوله: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
أى: ذلك الحكم الذي أصدرناه عليهم بعدم مغفرة ذنوبهم مهما كثر استغفارك لهم، سببه:
أنهم قوم «كفروا بالله ورسوله» ومن كفر بالله ورسوله، فلن يغفر الله له، مهما استغفر له المستغفرون، وشفع له الشافعون.
وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل مؤكد لما قبله، أى والله- تعالى- لا يهدى إلى طريق الخير أولئك الذين فسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، ولم يستمعوا إلى نصح الناصحين، وإرشاد المرشدين، وإنما آثروا الغواية على الهداية.
هذا، ويؤخذ من هذه الآية الكريمة، شدة شفقته ﷺ بأمته، وحرصه على هدايتها، وكثرة دعائه لها بالرحمة والمغفرة، وأنه مع إيذاء المنافقين له كان يستغفر لهم- أملا في توبتهم- إلى أن نهاه الله عن ذلك.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية، قال الرسول ﷺ أسمع ربي قد رخص لي فيهم، فو الله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة، فلعل الله أن يغفر لهم، فقال الله- تعالى- من شدة غضبه عليهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ... «١».
وعن قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقد خيرنى ربي فلأزيدنهم على السبعين» فقال الله- تعالى-: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ... «٢».
وهكذا أصدر الله حكمه العادل في هؤلاء المنافقين، بعدم المغفرة لهم، بسبب كفرهم به وبرسوله...
وبعد هذا الحديث الطويل المتنوع عن أحوال المنافقين ومسالكهم الخبيثة، أخذت السورة الكريمة في الحديث عن حال المنافقين الذين تخلفوا في المدينة، وأبوا أن يخرجوا مع الرسول ﷺ إلى تبوك، فقال- تعالى-:
(١، ٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٣٩٧. [.....]
364

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨١ الى ٨٣]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
وقوله: «المخلفون» اسم مفعول مأخوذ من قولهم خلف فلان فلانا وراءه إذا تركه خلفه.
والمراد بهم: أولئك المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك بسبب ضعف إيمانهم، وسقوط همتهم، وسوء نيتهم..
قال الجمل: وقوله خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر مدلول عليه بقوله «مقعدهم» لأنه في معنى تخلفوا أى: تخلفوا خلاف رسول الله. الثاني: أن خلاف مفعول لأجله والعامل فيه إما فرح وإما مقعد. أى: فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله ﷺ حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه. أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ: «خلف رسول الله» - بضم الخاء واللام، الثالث: أن ينتصب على الظرف. أى بعد رسول الله، يقال:
أقام زيد خلاف القوم، أى: تخلف بعد ذهابهم، وخلاف يكون ظرفا، وإليه ذهب أبو عبيدة وغيره، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس، وأبى حيوه، وعمرو بن ميمون، «خلف رسول الله» - بفتح الخاء وسكون اللام «١».
والمعنى: فرح المخلفون: من هؤلاء المنافقين، بسبب قعودهم في المدينة، وعدم خروجهم إلى تبوك للجهاد مع الرسول ﷺ والمؤمنين، وكرهوا أن يبذلوا شيئا من أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٤.
365
وإنما فرحوا بهذا القعود، وكرهوا الجهاد لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان بالله واليوم الآخر، وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالى الأمور، وآثروا الدنيا وشهواتها الزائلة على الآخرة ونعيمها الباقي.
وفي التعبير بقوله: الْمُخَلَّفُونَ تحقير لهم، وإهمال لشأنهم، حتى لكأنهم شيء من سقط المتاع الذي يخلف ويترك ويهمل لأنه لا قيمة له، أو لأن ضرره أكبر من نفعه.
قال الآلوسى: وإيثار ما في النظم الكريم على أن يقال، وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله ﷺ إيذان بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون، قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه» «١».
وقوله: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ حكاية لأقوالهم التي تدل على ضعفهم وجبنهم، وعلى أنهم قوم لا يصلحون للأعمال التي يصلح لها الرجال.
أى. وقال هؤلاء المنافقون المخلفون لغيرهم، اقعدوا معنا في المدينة، ولا تخرجوا للجهاد مع المؤمنين، فإن الحر شديد، والسفر طويل، وقعودكم يريحكم من هذه المتاعب، ويحمل غيرنا وغيركم على القعود معنا ومعكم، وبذلك ننال بغيتنا من تثبيط همة المجاهدين عن الجهاد في سبيل الله.
وقوله: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا رد على أقولهم القبيحة، وأفعالهم الخبيثة، أى، قل يا محمد لهؤلاء المنافقين على سبيل التهكم بهم، والتحقير من شأنهم: نار جهنم أشد حرا من هذا الحر الذي تخشونه وترونه مانعا من النفير بل هي أشد حرا من نار الدنيا...
روى الإمام مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:
«نار بنى آدم التي توقدونها. جزء من سبعين جزءا من نار جهنم.. «٢».
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: وقوله: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا استجهال لهم، لأن من تصون مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل، ولبعضهم:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب «٣»
(١) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٥١.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٦ فقد ساق هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى.
(٣) الأحقاب: الأزمان الطويلة. والأرى: السل والصاب نبات مر.
366
أى: أن حزن يوم واحد يجعل المسرات الطويلة قبله تتحول إلى ما يشبه الصاب مرارة، فكيف يكون الحال إذا كانت المسرات ساعة واحدة تعقبها أحقاب طويلة من المساءات؟!!.
وقوله: لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ تذييل قصد به الزيادة في توبيخهم وتحقيرهم.
أى: لو كانوا يفقهون أن نار جهنم أشد حرا ويعتبرون بذلك، لما فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، ولما كرهوا الجهاد، ولما قالوا ما قالوا، بل لحزنوا واكتأبوا على ما صدر منهم، ولبادروا بالتوبة والاستغفار، كما فعل أصحاب القلوب والنفوس النقية من النفاق والشقاق.
وقوله: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً.. وعيد لهم بسوء مصيرهم، وإخبار عن عاجل أمرهم وآجله، من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الآخرة.
والمعنى: إنهم وإن فرحوا وضحكوا طوال أعمارهم في الدنيا، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية، والمنقطع الفاني قليل بالنسبة إلى الدائم الباقي.
قال صاحب المنار: وفي معنى الآية قوله ﷺ «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» متفق عليه، بل رواه الجماعة إلا أبا داود من حديث أنس، ورواه الحاكم من حديث أبى هريرة بلفظ «لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا».
ثم قال: وإنما كان الأمر في الآية بمعنى الخبر، لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف وقد قيل في فائدة هذا التعبير عن الخبر بالإنشاء، إنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما هو شأن الخبر لذاته في احتمالها، لأن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب وهو حتم..» «١».
وقوله: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ تذييل قصد به بيان عدالته، سبحانه، في معاملة عباده.
أى: أننا ما ظلمناهم بتوعدنا لهم بالضحك القليل وبالبكاء الكثير، وإنما هذا الوعيد جزاء لهم على ما اكتسبوه من فنون المعاصي، وما اجترحوه من محاربة دائمة لدعوة الحق.
وقوله: جَزاءً مفعول للفعل الثاني. أى: ليبكوا جزاء، ويجوز أن يكون مصدرا حذف ناصبه. أى: يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء.
وجمع- سبحانه- في قوله بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بين صيغتي الماضي والمستقبل، للدلالة على الاستمرار التجددي ماداموا في الدنيا.
ثم بين- سبحانه- ما يجب على الرسول نحو هؤلاء المخلفين الكارهين للجهاد، فقال:
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ٦٦٠.
367
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا...
قوله: رَجَعَكَ من الرجع بمعنى تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه أولا. والفعل رجع أحيانا يستعمل لازما كقوله- تعالى-: فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً...
وفي هذه الحالة يكون مصدره الرجوع، وأحيانا يستعمل متعديا كالآية التي معنا، وكقوله- تعالى-: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.. وفي هذه الحالة يكون مصدره الرجع لا الرجوع.
قال الآلوسى: و «رجع» هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع، وقد يكون لازما ومصدره الرجوع، وأوثر هنا استعمال المتعدى- وإن كان استعمال اللازم كثيرا- إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه إلى تأييد إلهى، ولذا أوثرت كلمة «إن» على «إذا» «١».
والمعنى: فإن ردك الله- تعالى- من سفرك هذا- أيها الرسول الكريم- إلى طائفة من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك إلى تبوك «فاستأذنوك للخروج» معك في غزوة أخرى بعد هذه الغزوة «فقل» لهم على سبيل الإهانة والتحقير «لن تخرجوا معى أبدا» مادمت على قيد الحياة «ولن تقاتلوا معى عدوا» من الأعداء الذين أمرنى الله بقتالهم، والسبب في ذلك «إنكم» أيها المنافقون «رضيتم بالقعود» عن الخروج معى وفرحتم به في «أول مرة» دعيتم فيها إلى الجهاد، فجزاؤكم وعقابكم أن تقعدوا «مع الخالفين» أى: مع الذين تخلفوا عن الغزو لعدم قدرتهم على تكاليفه كالمرضى والنساء والصبيان. أو مع الأشرار الفاسدين الذين يتشابهون معكم في الجبن والنفاق وسوء الأخلاق.
قال الإمام الرازي ما ملخصه، ذكروا في تفسير الخالف وجوها:
الأول: قال أبو عبيدة الخالفون جمع، واحدهم خالف، وهو من يخلف الرجل في قومه، ومعناه: فاقعدوا مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت فلا يبرحونه.
الثاني: أن الخالفين فسر بالمخالفين، يقال: فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم، وقوم خالفون أى: كثير والخلاف لغيرهم.
الثالث: أن الخالف هو الفاسد. قال الأصمعى: يقال: خلف عن كل خير يخلف خلوفا إذا فسد، وخلف اللبن إذا فسد.
(١) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٥٢.
368
إذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها، لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات السيئة... » «١».
وقال- سبحانه- فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ... ولم يقل فإن رجعك الله إليهم، لأن جميع الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول ﷺ إلى تبوك، لم يكونوا من المنافقين، بل كان هناك من تخلف بأعذار مقبولة، كالذين أتوا إلى الرسول ﷺ ليحملهم معه، فقال لهم: «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا «وأعينهم تفيض من الدمع حزنا».
وسيأتى الحديث عنهم بعد قليل.
وقوله: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إخبار في معنى النهى للمبالغة وجمع- سبحانه- بين الجملتين زيادة في تبكيتهم، وفي إهمال شأنهم، وفي كراهة مصاحبتهم...
وذلك، لأنهم لو خرجوا مع المؤمنين ما زادوهم إلا خبالا، ولو قاتلوا معهم، لكان قتالهم خاليا من الغاية السامية التي من أجلها قاتل المؤمنون وهي إعلاء كلمة الله، وكل قتال خلا من تلك الغاية كان مآله إلى الهزيمة..
هذا، وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على أسوأ صفات المنافقين، كما اشتملت على أشد ألوان الوعيد لهم في الدنيا والآخرة «جزاء بما كانوا يكسبون».
قال الجمل: وفي قوله- تعالى- فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ... الآية دليل على أن الشخص إذا ظهر منه مكر وخداع وبدعة، يجب الانقطاع عنه، وترك مصاحبته، لأنه- سبحانه- منع المنافقين من الخروج مع الرسول ﷺ إلى الجهاد، وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات «٢».
وبعد أن بين- سبحانه- ما يجب أن يفعله الرسول ﷺ معهم في حياتهم، أتبع ذلك ببيان ما يجب أن يفعله معهم بعد مماتهم فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٤]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٤٨٢.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٥.
369
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: «أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ أن يبرأ من المنافقين، وأن لا يصلى على أحد منهم إذا مات، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له، أو يدعو له لأنهم كفروا بالله ورسوله، وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبى بن سلول رأس المنافقين.
فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله ﷺ فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه إياه، ثم سأله أن يصلى عليه، فقام رسول الله ﷺ ليصلى عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله ﷺ وقال: يا رسول الله، تصلى عليه، وقد نهاك ربك أن تصلى عليه؟ فقال الرسول ﷺ «وإنما خيرنى الله»
فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وسأزيده على السبعين. قال: إنه منافق- قال: فصلى عليه رسول الله ﷺ فأنزل الله- تعالى- قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً.. الآية:
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفى عبد الله ابن أبى دعى رسول الله ﷺ للصلاة عليه، فقام عليه «فلما وقف عليه- يريد الصلاة- تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله، أعلى عدو الله: عبد الله بن أبى القائل يوم كذا، كذا وكذا، - وأخذ يعدد أيامه. قال: ورسول الله ﷺ يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال: تأخر عنى يا عمر. إنى خيرت فاخترت، قد قيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ... الآية. لو أعلم أنى لو زدت على السبعين غفر له لزدت، قال: ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبت من جرأتى ﷺ رسول الله ﷺ والله ورسوله أعلم. قال: فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية. قال: فما صلى رسول الله ﷺ بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله- عز وجل» «١».
والمعنى: «لا تصل» - أيها الرسول الكريم- «على أحد» من هؤلاء المنافقين «مات أبدا ولا تقم على قبره» أى: ولا تقف على قبره عند الدفن أو بعده بقصد الزيارة أو الدعاء له، وذلك لأن صلاتك عليهم، ووقوفك على قبورهم شفاعة لهم، ورحمة بهم، وتكريم لشأنهم. وهم ليسوا أهلا لذلك.
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٨ ففيه جملة من الأحاديث في هذا المعنى.
370
وقوله: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ تعليل للنهى عن الصلاة عليهم، والوقوف على قبورهم.
أى: نهيناك- يا محمد- عن ذلك، لأن هؤلاء المنافقين قد عاشوا حياتهم كافرين بالله ورسوله، ومحاربين لدعوة الحق، وماتوا وهم خارجون عن حظيرة الإيمان.
وجمع- سبحانه- بين وصفهم بالكفر ووصفهم بالفسق زيادة في تقبيح أمرهم، وتحقير شأنهم فهم لم يكتفوا بالكفر وحده، وإنما أضافوا إليه الفسق، وهو الخروج عن كل قول طيب، وخلق حسن، وفعل كريم.
قال بعضهم: فإن قلت: الفسق أدنى حالا من الكفر، فما الفائدة في وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر؟ قلت إن الكافر قد يكون عدلا بأن يؤدى الأمانة، ولا يضمر لأحد سوءا، وقد يكون خبيثا كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير، وهذا أمر مستقبح عند كل أحد، ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة، وصفهم الله- تعالى- بكونهم فاسقين بعد أن وصفهم بالكفر» «١».
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
١- تحريم الصلاة على الكافر، والوقوف على قبره، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ومشروعية الوقوف على قبره، والدعاء له.
قال الإمام ابن كثير: ولما نهى الله- تعالى- عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم، كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين، فشرع ذلك وفي فعله الأجر الجزيل، كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، من شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان، قال: «أصغرهما مثل أحد». وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات، فروى أبو داود عن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله ﷺ إذا فرغ من الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل».
٢- وجوب منع كل مظهر من مظاهر التكريم- في الحياة وبعد الممات عن الذين يحاربون دعوة الحق، ويقفون في وجه انتشارها وظهورها:
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٦- بتصرف يسير.
371
أما منع تكريمهم في حياتهم فتراه في قوله- تعالى- في الآية السابقة:
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا.
وأما منع تكريمهم بعد مماتهم فتراه في هذه الآية: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.
ولا شك أن حجب كل تكريم عن أولئك المنافقين في العهد النبوي، كان له أثره القوى في انهيار دولتهم، وافتضاح أمرهم، وذهاب ريحهم، وتهوين شأنهم..
هذا، وما فعله الرسول ﷺ مع عبد الله بن أبى من الصلاة عليه، والقيام على قبره إنما كان قبل نزول هذه الآية..
أو أنه ﷺ فعل ذلك تطييبا لقلب ابنه الذي كان من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما.
فقد سبق أن ذكرنا ما رواه البخاري عن ابن عمر أنه قال: لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله ﷺ فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه إياه ثم سأله أن يصلى عليه.. الحديث.
ثم نهى الله- تعالى- كل من يصلح للخطاب عن الاغترار بما عند هؤلاء المنافقين من مال وولد، فقال- تعالى:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٥]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
أى: عليك- أيها العاقل- أن لا تغتر بما عند هؤلاء المنافقين من أموال وأولاد، وأن لا يداخل قلبك شيء من الإعجاب بما بين أيديهم من نعم، فإن هذه النعم- التي من أعظمها الأموال والأولاد- إنما أعطاهم الله إياها، ليعذبهم بسببها في الدنيا عن طريق التعب في تحصيلها، والحزن عند فقدها وهلاكها.
وقوله: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ بيان لسوء مصيرهم في الآخرة، بعد بيان عذابهم في الدنيا، وزهوق النفس: خروجها من الجسد بمشقة وتعب.
أى: أنهم في الدنيا تكون النعم التي بين أيديهم، مصدر عذاب لهم، وأما في الآخرة
فعذابهم أشد وأبقى، لأن أرواحهم قد خرجت من أبدانهم وهم مصرون على الكفر والضلال.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المنافقين بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، ومن كان مصيره كهذا المصير، لا يستحق الإعجاب أو التكريم وإنما يستحق الاحتقار والإهمال.
وهذه الآية الكريمة، قد سبقتها في السورة نفسها آية أخرى شبيهة بها. وهي قوله- تعالى-: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ «١».
وقد أشار صاحب الكشاف إلى سر هذا التكرار فقال: «وقد أعيد قوله وَلا تُعْجِبْكَ... لأن تجدد النزول له شأنه في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه، ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه» «٢».
ثم بين- سبحانه- موقف المنافقين وموقف المؤمنين بالنسبة للجهاد، كما بين عاقبة كل فريق فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
(١) الآية رقم ٥٥ وراجع تفسيرنا لها.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٩٩.
373
والمراد بالسورة في قوله- سبحانه- وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ: كل سورة ذكر الله- تعالى- فيها وجوب الإيمان به والجهاد في سبيله.
أى: أن من الصفات الذميمة لهؤلاء المنافقين، أنهم كلما نزلت سورة قرآنية، تدعو في بعض آياتها الناس إلى الإيمان بالله والجهاد في سبيله، ما كان منهم عند ذلك إلا الجبن والاستخذاء والتهرب من تكاليف الجهاد...
وقوله: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ... بيان لحال هؤلاء المنافقين عند نزول هذه السورة.
والطول- بفتح الطاء- يطلق على الغنى والثروة، مأخوذ من مادة الطول بالضم التي هي ضد القصر.
والمراد بأولى الطول: رؤساء المنافقين وأغنياؤهم والقادرون على تكاليف الجهاد.
أى: عند نزول السورة الداعية إلى الجهاد، يجيء هؤلاء المنافقون أصحاب الغنى والثروة، إلى الرسول ﷺ ليستأذنوا في القعود وعدم الخروج... وليقولوا له بجبن واستخذاء ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ.
أى: اتركنا يا محمد مع القاعدين في المدينة من العجزة والنساء والصبيان، واذهب أنت وأصحابك إلى القتال.
وإنما خص ذوى الطول بالذكر، تخليدا لمذمتهم واحتقارهم لأنه كان المتوقع منهم أن يتقدموا صفوف المجاهدين، لأنهم يملكون وسائل الجهاد والبذل، لا ليتخاذلوا ويعتذروا، ويقولوا ما قالوا مما يدل على جبنهم والتوائهم.
وقوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ زيادة في تحقيرهم وذمهم.
والخوالف: جمع خالفة، ويطلق على المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال لضعفها، كما يطلق لفظ الخالفة- أيضا- على كل من لا خير فيه.
والمعنى: رضى هؤلاء المنافقون لأنفسهم، أن يبقوا في المدينة مع النساء، ومع كل من لا خير فيه من الناس، ولا يرضى بذلك إلا من هانت كرامته، وسقطت مروءته، وألف الذل والصغار.
وقوله وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ بيان لما ترتب على استمرارهم في النفاق، وعدم رجوعهم إلى طريق الحق.
أى: أنه ترتب على رسوخهم في النفاق، وإصرارهم على الفسوق والعصيان أن ختم الله
374
على قلوبهم، فصارت لا تفقه ما في الإيمان والجهاد من الخير والسعادة، وما في النفاق والشقاق من الشقاء والهلاك.
وقوله- سبحانه- لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ استدراك لبيان حال الرسول ﷺ والمؤمنين، بعد بيان حال المنافقين.
أى: إذا كان حال المنافقين كما وصفنا من جبن وتخاذل وهوان... فإن حال المؤمنين ليس كذلك، فإنهم قد وقفوا إلى جانب رسولهم ﷺ فجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله، وأطاعوه في السر والعلن، وآثروا ما عند الله على كل شيء في هذه الحياة...
وقد بين- سبحانه- جزاءهم الكريم فقال: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ أى: أولئك المؤمنون الصادقون لهم الخيرات التي تسر النفس، وتشرح الصدر في الدنيا والآخرة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بسعادة الدارين.
«أعد الله» - تعالى- لهؤلاء المؤمنين الصادقين «جنات تجرى من» تحت ثمارها وأشجارها ومساكنها «الأنهار خالدين» في تلك الجنات خلودا أبديا، و «ذلك» العطاء الجزيل، هو «الفوز العظيم» الذي لا يدانيه فوز، ولا تقاربه سعادة.
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذمت المنافقين لجبنهم، وسوء نيتهم، وتخلفهم عن كل خير... ومدحت الرسول ﷺ والمؤمنين، الذين نهضوا بتكاليف العقيدة، وأدوا ما يجب عليهم نحو خالقهم وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمته- سبحانه.
وبعد أن بين- سبحانه- أحوال المنافقين من سكان المدينة، أتبع ذلك بالحديث عن المنافقين من الأعراب سكان البادية فقال- تعالى:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قرأ الأعرج والضحاك المعذرون مخففا، ورواها أبو كريب عن أبى بكر عن عاصم... وهي من
375
أعذر، ومنه قد أعذر من أنذر، أى: قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك، وأما، «المعذرون» بالتشديد- وهي قراءة الجمهور- ففيها قولان:
أحدهما: أنه يكون المحق، فهو في المعنى المعتذر، لأن له عذرا، فيكون «المعذرون» على هذه أصله المعتذرون، ثم أدغمت التاء في الذال...
وثانيهما: أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له.
والمعنى، أنهم اعتذروا بالكذب...
قال الجوهري: وكان ابن عباس يقول: لعن الله المعذرين، كان الأمر عنده أن المعذر- بالتشديد- هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر... » «١».
ومن هذه الأقوال التي نقلناها عن القرطبي يتبين لنا أن من المفسرين من يرى أن المقصود من المعذرين: أصحاب الأعذار المقبولة.
وقد رجح الإمام ابن كثير هذا الرأى فقال: بين الله- تعالى- حال ذوى الأعذار في ترك الجهاد، وهم الذين جاءوا رسول الله ﷺ يعتذرون إليه، ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة.
قال الضحاك عن ابن عباس: إنه كان يقرأ «وجاء المعذرون» - بالتخفيف، ويقول:
هم أهل العذر... وهذا القول أظهر في معنى الآية لأنه- سبحانه- قال بعد هذا: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أى: لم يأتوا فيعتذروا... » «٢».
وعلى هذا الرأى تكون الآية قد ذكرت قسمين من الأعراب: قسما جاء معتذرا إلى رسول الله ﷺ وقسما لم يجئ ولم يعتذر، وهذا القسم هو الذي توعده الله بسوء المصير.
ومنهم من يرى أن المقصود بالمعذرين: أصحاب الأعذار الباطلة، وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف فقال: «المعذرون» من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد فيه، وحقيقته أنه يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له.
أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله، يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم...
وقرئ «المعذرون» بالتخفيف: وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه. قيل هم أسد
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٢٤.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨١. [.....]
376
وغطفان. قالوا: إن لنا عيالا، وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف.
وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا ومواشينا، فقال ﷺ «سيغنيني الله عنكم» وعن مجاهد: نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله- تعالى- وعن قتادة: اعتذروا بالكذب... «١».
وعلى هذا الرأى تكون الآية الكريمة قد ذكرت قسمين- أيضا- من الأعراب، إلا أن أولهما قد اعتذر بأعذار غير مقبولة، وثانيهما لم يعتذر، بل قعد في داره مصرا على كفره، ولذا قال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان سيئا: قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله- تعالى. بقوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ، وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله وهم المنافقون، فتوعدهم الله بقوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
والذي يبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب لتناسقه مع ما يفيده ظاهر الآية، لأن الآية الكريمة ذكرت نوعين من الأعراب، أحدهما: المعذرون.
أى أصحاب الأعذار، وثانيهما: الذين قعدوا في بيوتهم مكذبين لله ولرسوله، فتوعدهم- سبحانه- بالعذاب الأليم، ولأنه لا توجد قرينة قوية تجعلنا نرجح أن المراد بالمعذرين هنا، أصحاب الأعذار الباطلة، لأن التفسير اللغوي للكلمة- كما نقلنا عن القرطبي- يجعلها صالحة للأعذار المقبولة، فكان الحمل على حسن الظن أولى، والله، تعالى، بعد ذلك هو العليم بأحوال العباد، ما ظهر منها وما بطن.
وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة: وعند ما استنفر النبي ﷺ الناس إلى غزوة تبوك، جاءه أصحاب الأعذار من الأعراب ليستأذنوه في عدم الخروج معه، فقبل ﷺ ما هو حق منها.
وقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بيان للفريق الثاني من الأعراب وهو الذي لم يجئ إلى الرسول ﷺ معتذرا.
أى: وقعد عن الخروج إلى تبوك، وعن المجيء إلى رسول الله ﷺ للاعتذار، أولئك الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإيمان، وهم الراسخون في النفاق والعصيان من الأعراب سكان البادية.
وقوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وعيد لهم بسوء العاقبة في الدارين.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٠٠.
377
أى: سيصيب الذين أصروا على كفرهم ونفاقهم من هؤلاء الأعراب، عذاب أليم في الدنيا والآخرة، أما الذين رجعوا عن كفرهم ونفاقهم منهم، وتابوا إلى الله- تعالى- توبة صادقة، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا.
ثم ذكر- سبحانه- الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله، والتي تجعل صاحبها لا حرج عليه إذا ما قعد معها عن القتال، فقال، تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات، منها ما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال كنت أكتب لرسول الله ﷺ فكنت أكتب «براءة»، فإنى لواضع القلم على أذنى، إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله ﷺ ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى... الآية.
وروى العوفى عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه.
فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مقرن المزني، فقالوا: يا رسول الله، احملنا.
فقال لهم: «والله لا أجد ما أحملكم عليه»، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملا، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله، أنزل عذرهم في كتابه فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى... الآية.
وقال محمد بن إسحاق- في سياق غزوة تبوك-: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله ﷺ وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم... فاستحملوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.»
378
والضعفاء: جمع ضعيف، وهو من ليس عنده القوة على القيام بتكاليف الجهاد، كالشيوخ والنساء والصبيان...
والمرضى: جمع مريض، وهم الذين عرضت لهم أمراض حالت بينهم وبين الاشتراك في القتال، وهؤلاء عذرهم ينتهى بزوال أمراضهم.
والمعنى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم، أو لشيخوخة أقعدتهم، وَلا عَلَى الْمَرْضى الذين حالت أمراضهم بينهم وبين الجهاد وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ وهم الفقراء القادرون على الحرب، ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه في مطالب الجهاد، ولا يجدون الرواحل التي يسافرون عليها إلى أرض المعركة، ليس على هؤلاء جميعا حَرَجٌ أى: إثم أو ذنب بسبب عدم خروجهم مع النبي ﷺ إلى تبوك لقتال الكافرين...
وقوله: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: بيان لما يجب عليهم في حال قعودهم.
قال الجمل: ومعنى النصح- هنا- أن يقيموا في البلد، ويحترزوا عن إنشاء الأراجيف، وإثارة الفتن، ويسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو، ويقوموا بمصالح بيوتهم، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ويتابعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فجملة هذه الأمور تجرى مجرى النصح لله ورسوله، «١».
وقوله: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ استئناف مقرر لمضمون ما قبله.
والمحسنون. جمع محسن، وهو الذي يؤدى ما كلفه الله به على وجه حسن.
والسبيل: الطريق السهل الممهد الموصل إلى البغية. ومن، زائدة لتأكيد النفي.
أى: ليس لأحد أى طريق يسلكها لمؤاخذة هؤلاء المحسنين، بسبب تخلفهم عن الجهاد، بعد أن نصحوا لله ولرسوله، وبعد أن حالت الموانع الحقيقية بينهم وبين الخروج للجهاد.
قال الآلوسى: والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه: وألطف سبك، وهو من بليغ الكلام، لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، أى: لا يمر بهم العاتب، ولا يجوز في أرضهم، فما أبعد العتاب عنهم، وهو جار مجرى المثل.
ويحتمل أن يكون تعليلا لنفى الحرج عنهم والْمُحْسِنِينَ على عمومه. أى: ليس عليهم حرج، لأنه ما على جنس المحسنين سبيل، وهم من جملتهم «٢».
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ١٥٨.
379
وقال صاحب المنار: «والشرع الإلهى يجازى المحسن بأضعاف إحسانه، ولا يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته، فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح المذكور. انقطعت طرق المؤاخذة دونهم والإحسان أعم من النصح المذكور فالجملة الكريمة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم مقرونا بالدليل، فكل ناصح لله ورسوله محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج، وهذه المبالغة في أعلى مكانة من أساليب البلاغة «١».
وقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: والله تعالى- واسع المغفرة، كثير الرحمة، يستر على عباده المخلصين ما يصدر عنهم من تقصير تقتضيه طبيعتهم البشرية.
وقوله: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ... معطوف على ما قبله، من عطف الخاص على العام، اعتناء بشأنهم، وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل ذلك «لا يجدون ما ينفقون».
أى: لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا ما تخلفوا عن الجهاد، وكذلك لا حرج ولا إثم- أيضا- على فقراء المؤمنين، الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل التي يركبونها لكي يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل قلت لهم يا محمد «لا أجد ما أحملكم عليه».
وفي هذا التعبير ما فيه من تطييب قلوب هؤلاء السائلين فكأنه ﷺ يقول لهم إن ما تطلبونه أنا أسأل عنه، وأفتش عليه فلا أجده، ولو وجدته لقدمته إليكم.
وقوله: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ بيان للآثار التي ترتبت على عدم وجود ما يحملهم من رواحل: لكي يخرجوا مع الرسول ﷺ إلى تبوك.
أى: أن هؤلاء المؤمنين الفقراء، عند ما اعتذرت لهم بقولك: «لا أجد ما أحملكم عليه» انصرفوا من مجلسك، وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في مطالب الجهاد، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك.
فالجملة الكريمة تعطى صورة صادقة مؤثرة للرغبة الصادقة في الجهاد، وللألم الشديد للحرمان من نعمة أدائه.
وبمثل هذه الروح ارتفعت راية الإسلام، وعزت كلمته، وانتشرت دعوته.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي نستطيع أن نأخذها من هاتين الآيتين ما يأتى:
(١) تفسير المنار ج ١٠ ص ١٥٨.
380
١- أن التكاليف الإسلامية تقوم على اليسر ورفع الحرج، ومن مظاهر ذلك: أن الجهاد. وهو ذروة سنام الإسلام، قد أعفى الله- تعالى- منه الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون وسائله ومتطلباته.
قال الإمام القرطبي «١» : قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى.. هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء مسقط عنه، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال. ونظير هذه الآية قوله. تعالى-:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «٢» وقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ «٣».
٢- أنه متى وجدت النية الصادقة في فعل الخير. حصل الثواب وإن لم يكن هناك عمل، بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر شرعي، بشرهم النبي ﷺ بأنهم مشاركون لمن خرج في الأجر.
قال الإمام ابن كثير: في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال. «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم قالوا: وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر».
وروى الإمام أحمد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة رجالا، ما قطعتم واديا، ولا سلكتم طريقا، إلا شاركوكم في الأجر، حبسهم المرض» «٤».
٣- أن الصحابة- رضى الله عنهم- ضربوا أروع الأمثال في الحرص على الجهاد والاستشهاد وأن أعذارهم الشرعية لم تمنع بعضهم من المشاركة في القتال...
فهذا عبد الله بن أم مكتوم وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء. وهذا عمرو ابن الجموح- وكان أعرج- يخرج في مقدمة الجيوش فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد عذرك» فيقول: «والله لأحفرن بعرجتي هذه الجنة» - أى لأتركن آثار أقدامى فيها.
ومن كان يؤتى به وهو يمشى بين الرجلين معتمدا عليهما من شدة ضعفه» ومع ذلك يقف في صفوف المجاهدين.
وبهذه القلوب السليمة، والعزائم القوية والنفوس النقية التي خالط الإيمان شغافها..
(١) تفسير القرطبي- بتصرف يسير ج ٨ ص ٢٢٦.
(٢) سورة البقرة الآية ٢٨٦.
(٣) سورة الفتح الآية ١٧.
(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٢٦.
381
ارتفعت كلمة الحق، وعزت كلمة الإسلام.
وبعد أن بين- سبحانه- أحكام أصحاب الأعذار المقبولة، أتبع ذلك ببيان أحكام الأعذار الكاذبة، والصفات القبيحة، فقال تعالى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٣ الى ٩٦]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
فهذه الآيات الكريمة بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين قعدوا في المدينة بدون عذر، بعد أن يرجع الرسول ﷺ إليهم والمؤمنون من تبوك.
والمعنى: إذا كان الضعفاء والمرضى ومن في حكمهم، لا إثم ولا عقوبة عليهم بسبب تخلفهم عن الجهاد، فإن «السبيل» أى الإثم والعقوبة «على الذين يستأذونك» في التخلف «وهم أغنياء» أى يملكون كل وسائل الجهاد من مال وقوة وعدة.
وقوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استئناف تعليلى مسبوق لمزيد مذمتهم.
382
أى: استأذنوك في القعود مع غناهم وقدرتهم على القتال، لأنهم لخلو قلوبهم من الإيمان، ولسقوط همتهم وجبنهم، رضوا لأنفسهم أن يقبعوا في المدينة مع الخوالف من النساء والصبيان والعجزة.
وقوله: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بيان لسوء مصيرهم.
أى: وبسبب هذا الإصرار على النفاق، والتمادي في الفسوق والعصيان، ختم الله- تعالى- على قلوبهم، فصارت لا تعلم ما يترتب على ذلك من مصائب دينية ودنيوية وأخروية.
وقوله: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ، إخبار عما سيقولونه للمؤمنين عند لقائهم بهم.
أى: أن هؤلاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد مع قدرتهم عليه، سيعتذرون إليكم- أيها المؤمنون- إذا رجعتم إليهم من تبوك، بأن يقولوا لكم مثلا: إن قعودنا في المدينة وعدم خروجنا معكم كانت له مبرراته القوية. فلا تؤاخذنا.
وهذه الجملة الكريمة من الأنباء التي أنبأ الله بها نبيه ﷺ عن أحوال المنافقين وعما سيقولونه له وللمؤمنين بعد عودتهم إليهم، وهذا يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة، وقبل وصول الرسول وأصحابه إلى المدينة من تبوك.
وقوله: قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ، إبطال لمعاذيرهم، وتلقين من الله- تعالى- لرسوله بالرد الذي يخرس ألسنتهم.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- عند ما يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم، قل لهم:
دعوكم من هذه المعاذير الكاذبة، ولا تتفوهوا بها أمامنا، فإننا «لن نؤمن لكم» ولن نصدق أقوالكم، فإن الله، تعالى. قد كشف لنا عن حقيقتكم ووضح لنا أحوالكم، وبين لنا ما أنتم عليه من نفاق وفسوق وعصيان، وما دام الأمر كذلك، فوفروا على أنفسكم هذه المعاذير الكاذبة.
وقال، سبحانه. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ ولم يقل قد نبأنى، للإشعار بأن الله- تعالى- قد أمر رسوله ﷺ أن يبلغ المؤمنين بأحوال هؤلاء المنافقين حتى يكونوا على بينة من أمرهم.
وقوله: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ تهديد لهم على نفاقهم وكذبهم.
أى: دعوا عنكم هذه الأعذار الباطلة، فإن الله- تعالى- مطلع على أحوالكم، وسيعلم سركم وجهركم علما يترتب عليه الجزاء العادل لكم، ويبلغ رسوله ﷺ بأخباركم، هذا
383
في الدنيا، أما في الآخرة، فأنتم «ستردون» يوم القيامة «إلى عالم الغيب والشهادة» الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء «فينبئكم بما كنتم تعملون» أى: فيخبركم بما كنتم تعملونه في الدنيا من أعمال قبيحة، وسيجازيكم عليها بما تستحقونه من عقاب.
ثم أخبر- سبحانه- رسوله ﷺ بأن هؤلاء المنافقين، سيؤكدون أعذارهم الكاذبة بالأيمان الفاجرة فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ....
أى: أنهم سيحلفون بالله لكم- أيها المؤمنون- إذا ما رجعتم إليهم من تبوك وذلك لكي تعرضوا عنهم فلا توبخوهم على قعودهم، ولا تعنفوهم على تخلفهم.
وقوله فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ تعليل لوجوب الإعراض عنهم، لا على سبيل الصفح والعفو، بل على سبيل الإهمال والترك والاحتقار.
أى: فأعرضوا- أيها المؤمنون- عن هؤلاء المنافقين المتخلفين، لأنهم «رجس».
أى: قذر ونجس لسوء نواياهم، وخبث طواياهم.
وقد جعلهم- سبحانه- نفس الرجس، مبالغة في نجاسة أعمالهم، وقبح بواطنهم.
وقوله: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بيان لسوء مصيرهم في الآخرة.
أى: أنهم في الدنيا محل الاحتقار والازدراء لنجاسة بواطنهم، أما في الآخرة فمستقرهم وموطنهم جهنم بسبب ما اكتسبوه من أعمال قبيحة، وما اجترحوه من أفعال سيئة.
وقوله: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بدل مما قبله.
ولم يذكر- سبحانه- المحلوف به لظهوره أى: يحلفون بالله لترضوا عنهم، ولتصفحوا عن سيئاتهم...
وقوله: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بيان لحكم الله- تعالى- فيهم، حتى يكون المؤمنون على حذر منهم.
أى: إن هؤلاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد يحلفون بالله لكم بأنهم ما تخلفوا إلا لعذر، لكي تصفحوا عنهم، أيها المؤمنون، فإن صفحتم عنهم على سبيل الفرض فإن الله- تعالى- لا يصفح ولا يرضى عن القوم الذين فسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته.
وقال الآلوسى، «والمراد من الآية الكريمة، نهى المخاطبين عن الرضا عنهم، وعن الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده، فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله- تعالى- مما لا يكاد يصدر عن المؤمنين، والآية نزلت على ما روى عن ابن عباس في جد بن قيس،
384
ومعتب بن قشير، وأصحابهما من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلا، أمر النبي ﷺ المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة ألا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا» «١».
وقال- سبحانه- فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ولم يقل فإن الله لا يرضى عنهم، لتسجيل الفسق عليهم، وللإيذان بشمول هذا الحكم لكل من كان مثلهم في الفسوق وفي الخروج عن طاعة الله، تعالى.
وجواب الشرط في قوله: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ محذوف، والتقدير: فإن ترضوا عنهم على سبيل الفرض، فإن رضاكم عنهم لن ينفعهم، لأن الله تعالى. لا يرضى عن القوم الذين خرجوا عن طاعته.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت جانبا آخر من الأحوال القبيحة للمنافقين، وردت على معاذيرهم الكاذبة، وأيمانهم الفاجرة بما يفضحهم ويخزيهم، وتوعدتهم بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ثم بعد الحديث الطويل عن النفاق والمنافقين، أخذت السورة الكريمة. في الحديث عن طوائف أخرى منها الصالح، ومنها غير الصالح، وقد بدأت بالحديث عن الأعراب سكان البادية، فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٤.
385
قال صاحب المنار: قوله، سبحانه: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً. بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين، لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى.
والأعراب: اسم جنس لبدو العرب، واحده: أعرابى، والأنثى أعرابية، والجمع أعاريب، والعرب: اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة، بدوه وحضره، واحده:
عربي..» «١».
والمراد بالأعراب هنا: جنسهم لا كل واحد منهم، بدليل أن الله. تعالى. قد ذم من يستحق الذم منهم، ومدح من يستحق المدح منهم، فالآية الكريمة من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده.
وقد بدأ، سبحانه، بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم، إلحاقا لهم بمنافقى المدينة الذين تحدثت السورة عنهم قبل ذلك مباشرة حديثا مستفيضا، وبهذا الترتيب الحكيم تكون السورة الكريمة قد واصلت الحديث عن منافقي الحضر والبدو.
والمعنى: «الأعراب» سكان البادية «أشد كفرا ونفاقا» من الكفار والمنافقين الذين يسكنون الحضر والقرى.
وذلك، لأن ظروف حياتهم البدوية، وما يصاحبها من عزلة وكر وفر في الصحراء، وخشونة في الحياة كل ذلك جعلهم أقسى قلوبا، وأجفى قولا، وأغلظ طبعا، وأبعد عن سماع ما يهدى نفوسهم إلى الخير من غيرهم سكان المدن.
وقوله: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ معطوف على ما قبله لتعديد صفاتهم الذميمة.
قال القرطبي: قوله: «وأجدر» عطف على «أشد» ومعناه: أخلق، وأحق، يقال:
فلان جدير بكذا، أى: خليق به. وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون، وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء فقوله: هو أجدر بكذا، أى: أقرب إليه وأحق به «٢».
والمعنى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين، وهم كذلك أحق وأخلق من أهل الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، بسبب ابتعادهم عن مجالس رسول الله ﷺ وعدم مشاهدتهم لما ينزل عليه ﷺ من شرائع وآداب وأحكام.
(١) تفسير المنار ج ١١ ص ٨.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٣٣.
386
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أى: «عليم» بأحوال عباده الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء من صفاتهم وطباعهم «وحكيم» في صنعه بهم، وفي حكمه عليهم، وفيما يشرعه لهم من أحكام، وفيما يجازيهم به من ثواب أو عقاب.
هذا، وقد ذكر المفسرون هنا أمثلة متعددة لجفاء الأعراب وجهلهم، ومن ذلك قول الإمام ابن كثير:
قال الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابى إلى زيد بن صوهان، وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم «نهاوند» فقال الأعرابى: والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبنى!! فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال!! فقال الأعرابى: والله ما أدرى اليمين يقطعون أو الشمال!! فقال زيد: صدق الله إذ يقول: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ...
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن».
وروى الإمام مسلم عن عائشة قال: قدم ناس من الأعراب على رسول الله ﷺ فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقال ﷺ نعم. فقالوا: لكنا والله ما نقبل!! فقال ﷺ «وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» «١».
ثم بين- سبحانه- حال فريق آخر من منافقي الأعراب فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً.
أى: ومن الأعراب قوم آخرون يعتبرون ما ينفقونه في سبيل الله غرامة وخسارة عليهم لأنهم لا ينفقون ما ينفقونه طمعا في ثواب، أو خوفا من عقاب وإنما ينفقونه تقية ورياء ومداراة للمسلمين، لا مساعدة للغزاة والمجاهدين، ولا حبا في انتصار المؤمنين.
قال الجمل: وقوله: «من يتخذ ما ينفق مغرما» «من» مبتدأ، وهي موصولة أو موصوفة، و «مغرما». مفعول ثان، لأن «اتخذ» هنا بمعنى صير، والمفعول الأول قوله: «ما ينفق».
والمغرم: الخسران، مشتق من الغرم وهو الهلاك لأنه سببه، وقيل أصله الملازمة، ومنه الغريم للزومه من يطالبه» «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٨٣ بتصرف وتلخيص.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢١١.
387
وقوله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ معطوف على ما قبله، والتربص: الانتظار والترقب والدوائر: جمع دائرة. وهو ما يحيط بالإنسان من مصائب ونكبات، كما تحيط الدائرة بالشيء الذي بداخلها.
أى: أنهم بجانب اعتبارهم ما ينفقونه غرامة وخسارة، ينتظرون بكم- أيها المؤمنون- صروف الدهر ونوائبه التي تبدل حالكم من الخير إلى الشر ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الصحة إلى المرض والأسقام، ومن الأمان والاطمئنان إلى القلق والاضطراب..
وقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ جملة معترضة، جيء بها للدعاء عليهم.
أى: عليهم لا عليكم- أيها المؤمنون- تدور دائرة السوء، التي يتبدل بها حالهم إلى الهلاك والفساد.
والسوء- بفتح السين- مصدر ساءه يسوءه سوءا، إذا فعل به ما يكره، والسوء- بالضم- اسم منه. وقيل المفتوح بمعنى الذم، والمضموم بمعنى العذاب والضرر.
وإضافة الدائرة إلى السوء من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة، كما في قولهم: رجل صدق.
وفي هذا التعبير ما فيه من الذم لهؤلاء المنافقين، لأنه- سبحانه- جعل السوء كأنه دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم، وتدور بهم فلا تدع لهم مهربا أو منجاة من عذابها وضررها.
وقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل قصد به تهديدهم وتحذيرهم بما ارتكسوا فيه من نفاق وكفر وشقاق.
والله تعالى- «سميع» لكل ما يتفوهون به من أقوال، «عليم» بكل ما يظهرونه وما يبطنونه من أحوال، وسيحاسبهم على ما صدر منهم حسابا عسيرا يوم القيامة: وينزل بهم العقاب الذي يناسب جرائمهم..
وبعد أن ذكر- سبحانه- حال هؤلاء الأعراب المنافقين، أتبعه ببيان حال المؤمنين الصادقين منهم فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أى: ومن الأعراب قوم آخرون من صفاتهم أنهم يؤمنون بالله إيمانا صادقا، ويؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب.
وقوله: وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ مدح لهم على إخلاصهم وسخائهم وطاعتهم...
والقربات: جمع قربة وهي ما يتقرب به الإنسان إلى خالقه من أعمال الخير، والمراد
388
بصلوات الرسول: دعواته للمتقربين إلى الله بالطاعة.
أى: ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقا، ويعتبر كل ما ينفقه في سبيل الله وسيلة للتقرب إليه- سبحانه- وتعالى بالطاعة، ووسيلة للحصول على دعوات الرسول ﷺ له بالرحمة والمغفرة، وبحسنات الدنيا والآخرة.
ولقد كان من عادة النبي ﷺ أن يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله ﷺ دعا لآل أبى أوفى عند ما تقدموا إليه بصدقاتهم فقال: «اللهم صل على آل أبى أوفى» أى: ارحمهم وبارك لهم في أموالهم..
وقوله: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ شهادة لهم منه سبحانه- بصدق إيمانهم، وخلوص نياتهم، وقبول صدقاتهم.
والضمير في قوله إِنَّها يعود على النفقة التي أنفقوها في سبيل الله وأَلا أداة استفتاح جيء بها لتأكيد الخبر والاهتمام به. أى: ألا إن هذه النفقات التي تقربوا بها إلى الله، مقبولة عنده- سبحانه- قبولا مؤكدا، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من أجر جزيل...
وقوله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة رحمته بهم. والسين للتحقيق والتأكيد.
أى: أن هؤلاء المؤمنين بالله واليوم الآخر، والمتقربين إليه سبحانه بالطاعات، سيغمرهم الله تعالى برحمته التي لا شقاء معها.
قال صاحب الكشاف: وقوله: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفى التنبيه والتحقيق المؤذنتين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك قوله:
سَيُدْخِلُهُمُ وما في السين من تحقيق الوعد. وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها «١».
وقوله: «إن الله غفور رحيم» تذييل مقرر لما قبله على سبيل التعليل.
أى: إن الله تعالى- واسع المغفرة، كثير الرحمة للمخلصين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذمت من يستحق الذم من الأعراب ومدحت من يستحق المدح منهم، وبينت مصير كل فريق ليكون عبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٤. [.....]
389
وبعد هذا التقسيم للأعراب، انتقلت السورة للحديث عن المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأطاعوه في السر والعلن، فقال تعالى:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
فهذه الآية الكريمة قد مدحت ثلاث طوائف من المسلمين المعاصرين للعهد النبوي.
الطائفة الأولى «السابقون الأولون من المهاجرين» وهم الذين تركوا ديارهم وأموالهم بمكة، وهاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة من أجل إعلاء كلمة الله واستمروا في المدينة مع رسول الله ﷺ إلى أن تم الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا.
وقيل المراد بهم: الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: الذين شهدوا غزوة بدر.
والطائفة الثانية: السابقون الأولون من الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي ﷺ قبل أن يهاجر إليهم إلى المدينة بيعة العقبة الأولى والثانية.
وكانت بيعة العقبة الأولى في السنة الحادية عشرة من البعثة، وكان عدد المشتركين فيها سبعة أفراد.
أما بيعة العقبة الثانية فكانت في السنة الثانية عشرة من البعثة، وكان عدد المشركين فيها سبعين رجلا وامرأتين.
ثم يلي هؤلاء أولئك المؤمنون من أهل المدينة الذين دخلوا في الإسلام على يد مصعب بن عمير، قبل وصول الرسول ﷺ إليها.
ثم يلي هؤلاء جميعا أولئك الذين آمنوا بالنبي ﷺ بعد مقدمه إلى المدينة.
والطائفة الثالثة: «الذين اتبعوهم بإحسان» أى: الذين اتبعوا السابقين في الإسلام من المهاجرين والأنصار، اتباعا حسنا في أقوالهم وأعمالهم وجهادهم ونصرتهم لدعوة الحق.
قال الآلوسى ما ملخصه: وكثير من الناس ذهب إلى أن المراد بالسابقين الأولين، جميع المهاجرين والأنصار. ومعنى كونهم سابقين: أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين.
390
روى عن حميد بن زياد قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي، ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم من الفتن؟ فقال لي: إن الله- تعالى- قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، فقلت له: وفي أى موضع أوجب لهم الجنة، فقال: سبحان الله!! ألم تقرأ قوله. تعالى-: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ.. الآية فقد أوجب. سبحانه لجميع الصحابة الجنة وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءا.. «١».
وقوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ بيان لسمو منزلتهم، وارتفاع مكانتهم.
أى: رضى الله عنهم في إيمانهم وإخلاصهم، فتقبل أعمالهم، ورفع درجاتهم وتجاوز عن زلاتهم، ورضوا عنه، بما أسبغه عليهم من نعم جليلة، وبما نالوه منه. سبحانه. من هداية وثواب.
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة ببيان ما هيأه لهم في الآخرة من إكرام فقال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أى: أنه- سبحانه- بجانب رضاه عنهم ورضاهم عنه في الدنيا، قد أعد لهم- سبحانه- في الآخرة جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها خلودا أبديا وذلك الرضا والخلود في الجنات من الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز، ولا تدانيه سعادة.
قال الإمام ابن كثير: أخبر الله- تعالى- في هذه الآية «أنه قد رضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. فيا ويل من أبغضهم، أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول، وخيرهم وأفضلهم أعنى الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبى قحافة، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة، ويبغضونهم ويسبونهم، عياذا بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضى الله عنهم؟
وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضى الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالى الله، ويعادون من يعادى الله، وهم متبعون لا مبتدعون، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون، وعباده المؤمنون «٢»
.
وبهذا نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٧.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧١.
391
تبعهم بإحسان، وذلك لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم وإيثارهم ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها..
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن أصناف أخرى من الناس، منهم قوم. أجادوا النفاق، ومرنوا عليه، ولجوا فيه. ومنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ومنهم قوم موقوف أمرهم إلى أن يظهر الله حكمه فيهم فقال تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠١ الى ١٠٦]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
قال القرطبي: ومعنى: «مردوا على النفاق» أقاموا عليه ولم يتوبوا منه، أو لجوا فيه وأبوا غيره وأصل الكلمة من اللين والملاسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء
392
أى لا نبت فيها، وغصن أمرد. أى: لا ورق له... ويقال: مرد يمرد مرودا ومرادة» «١».
والمعنى: اذكروا أيها المؤمنون أنه يسكن من حول مدينتكم قوم من الأعراب منافقون، فاحترسوا منهم، واحترسوا- أيضا- من قوم آخرين يسكنون معكم داخل المدينة، مردوا على النفاق، أى: مرنوا عليه، وأجادوا فنونه، حتى بلغوا فيه الغاية.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد بالموصول. في قوله «وممن حولكم». قبائل:
جهينة، ومزينة وأشجع، وأسلم وكانت منازلهم حول المدينة وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين.
واستشكل ذلك بأن النبي ﷺ مدح بعض هذه القبائل ودعا لبعضها فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أنه قال: «قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع وأسلم، وغفار، موالي الله- تعالى- ورسوله لا والى لهم غيره».
وأجيب ذلك باعتبار الأغلب منهم «٢».
وقوله: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ بيان لتمردهم في النفاق وتمهرهم فيه.
أى: أنت أيها الرسول الكريم. لا تعرف هؤلاء المنافقين. مع كمال فطنتك، وصدق فراستك لأنك تعامل الناس بظواهرهم، وهم قد أجادوا النفاق وحذقوه، واجتهدوا في الظهور بمظهر المؤمنين، أما نحن فإننا نعلمهم لأننا لا يخفى علينا شيء من ظواهرهم أو بواطنهم..».
قال الإمام ابن كثير:
وقوله تعالى لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ لا ينافي قوله تعالى وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين، وقد كان ﷺ يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء.
وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال: «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول الله ﷺ برأسه فقال: «إن في أصحابى منافقين» : ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين بما لا صحة له من الكلام، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم.
(١) تفسير القرطبي بتصرف وتلخيص ج ٨ ص ٢٤٠.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٠.
393
ثم قال: وقد تقدم في تفسير قوله- تعالى- وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أنه ﷺ أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا. وهذا تخصيص لا يقتضى أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم.
وروى الحافظ بن عساكر عن أبى الدرداء، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي ﷺ فقال: الإيمان ها هنا وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق ها هنا وأشار بيده إلى قلبه فقال رسول الله ﷺ «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وارزقه حبى، وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير».
فقال الرجل يا رسول الله: إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ فقال: صلى الله عليه وسلم: «ومن أتانا استغفرنا له، ومن أصر فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد سترا» «١».
وقال الآلوسى. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى معرفة الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها، فقد أخرج عبد الرازق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة: أنه قال:
ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون: فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدرى. لعمري لأنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي. فقد قال نوح عليه السلام «وما علمي بما كانوا يعملون» وقال شعيب عليه السلام «وما أنا عليكم بحفيظ»، وقال الله تعالى لنبيه محمد ﷺ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.
وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب، وتجرد النفس عن الشواغل.
ثم قال: والجملة الكريمة «لا تعلمهم نحن نعلمهم» تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أى: لا يقف على سرائرهم المذكورة فيهم، إلا من لا تخفى عليه خافية، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص «٢».
وقوله: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وعيد لهم بسوء المصير في الدنيا والآخرة.
أى: هؤلاء المنافقون الذين مردوا على النفاق، سنعذبهم في الدنيا مرتين، مرة عن طريق فضحيتهم وهتك أستارهم وجعلهم يعيشون في قلق وهم دائم، والأخرى عن طريق ضرب
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٤.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١١.
394
الملائكة لوجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم وما يتبع ذلك من عذابهم في قبورهم إلى أن تقوم الساعة، فيجدون العذاب الأكبر الذي عبر عنه- سبحانه- بقوله ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ.
أى: ثم يعودون ويرجعون إلى خالقهم- سبحانه- يوم القيامة فيعذبهم عذابا عظيما بسبب إصرارهم على النفاق، ورسوخهم في المكر والخداع.
قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، كما في قوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ «١» أى: كرة بعد أخرى «٢».
ثم بين- سبحانه- حال طائفة أخرى من المسلمين فقال: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً..
قال الآلوسى: قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم... بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين، ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم «٣».
والمعنى: ويوجد معكم أيها المؤمنون قوم آخرون من صفاتهم أنهم اعترفوا بذنوبهم أى أقروا بها ولم ينكروها.
وقوله: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً أى خلطوا عملهم الصالح وهو جهادهم في سبيل الله قبل غزوة تبوك، بعمل سيئ وهو تخلفهم عن الخروج إلى هذه الغزوة.
وقوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أى عسى الله تعالى: أن يقبل توبتهم، ويغسل، حوبتهم، ويتجاوز عن خطاياهم.
وعبر- سبحانه- بعسى للإشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه، حتى لا يتكل الشخص، بل يكون على خوف وحذر.
وقد قالوا إن كلمة عسى متى صدرت عن الله تعالى- فهي متحققة الوقوع، لأنها صادرة من كريم، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدا في شيء لا يعطيه إياه.
وقوله: إن الله غفور رحيم، تعليل لرجاء قبول توبتهم، إذ معناه، إن الله تعالى كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين.
(١) سورة الملك الآية ٣.
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٣٩٣.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١١.
395
هذا، وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية ولعل أرجح هذه الروايات ما رواه ابن جرير من أن هذه الآية نزلت في أبى لبابة وأصحابه، وكانوا تخلفوا عن النبي ﷺ في غزوة تبوك، فلما قفل رسول الله ﷺ من غزوته، وكان قريبا من المدينة ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا: نكون في الظلال والأطعمة والنساء ونبي الله في الجهاد واللأواء. والله لنوثقن أنفسنا بالسوارى، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله هو الذي يطلقنا.
وأوثقوا أنفسهم. وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسوارى فقدم رسول الله ﷺ من غزوته فمر بالمسجد فأبصرهم فسأل عنهم، فقيل له: إنه أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين»، فأنزل الله تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً الآية، فأطلقهم رسول الله ﷺ وعذرهم «١».
ثم أمر الله تعالى- نبيه ﷺ أن يأخذ الصدقات من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم ومن غيرهم، فقال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما أطلق رسول الله ﷺ أبا لبابة وأصحابه جاءوا بأموالهم إلى رسول الله ﷺ فقالوا له يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا».
فأنزل الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً.... الآية «٢».
وقال الإمام ابن كثير: أمر الله تعالى- رسوله أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها. وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.
ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون، وإنما كان هذا خاصا بالرسول ﷺ ولهذا احتجوا بقوله: - تعالى-: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً..... الآية.
وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى
(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ١٠٥ طبعة دار المعارف.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ١٠٢.
396
أدوا الزكاة الى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ حتى قال الصديق: «والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه «١» ».
والمعنى: خذ- أيها الرسول الكريم- من أموال هؤلاء المعترفين بذنوبهم، ومن غيرهم من أصحابك «صدقة» معينة، كالزكاة المفروضة، أو غير معينة كصدقة التطوع.
وقوله: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها بيان للفوائد المترتبة على هذه الصدقة.
أى: من فوائد هذه الصدقة أنها تطهر النفوس من رذائل الشح والبخل والطمع.. وتزكى القلوب من الأخلاق الذميمة، وتنمى الأموال والحسنات قال بعضهم: قوله: «تطهرهم» قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر. وقرئ. مرفوعا على أنه حال من ضمير المخاطب في قوله: «خذ» أو صفة لقوله «صدقة» والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده أى: تطهرهم بها...
وقوله: «وتزكيهم» لم يقرأ إلا بإثبات الياء، على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه. أى: وأنت تزكيهم بها.
هذا على قراءة الجزم في «تطهرهم»، وأما على قراءة الرفع فيكون قوله «وتزكيهم بها» معطوف على قوله «تطهرهم» حالا أو صفة «٢».
وقوله: وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أى: وادع لهم بالرحمة والمغفرة، وقبول التوبة، فإن دعاءك لهم تسكن معه نفوسهم، وتطمئن به قلوبهم، ويجعلهم في ثقة من أن الله- تعالى- قد قبل توبتهم، فأنت رسوله الأمين، ونبيه الكريم.
فالمراد بالصلاة هنا: الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.
قال بعضهم: «وظاهر» قوله: «وصل عليهم» أنه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق. وبهذا أخذ داود وأهل الظاهر.
وأما سائر الفقهاء فقد حملوا الأمر هنا على الندب والاستحباب، لأن الرسول ﷺ قال لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» ولم يأمره بالدعاء..
أما صيغة الدعاء فلم يرد فيها تعيين إلا ما رواه الستة- غير الترمذي من قوله ﷺ «اللهم صل على آل أبى أوفى» - عند ما أخذ منهم الزكاة-.
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٦.
(٢) تفسير القاسمى- بتصرف وتلخيص- ج ٨ ص ٣٢٥٢.
397
ومن هنا قال الحنابلة وداود وأهل الظاهر لا مانع من أن يقول آخذ الزكاة: اللهم صل على آل فلان.
وقال باقى الأئمة لا يجوز أن يقال: اللهم صل على آل فلان، وإن ورد في الحديث، لأن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء- صلوات الله عليهم-، كما أن قولنا:
- عز وجل- صار مخصوصا بالله- تعالى-.
قالوا: وإنما أحدث الصلاة على غير الأنبياء مبتدعو الرافضة في بعض الأئمة، والتشبه بأهل البدع منهى عنه.
ولا خلاف في أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته.. لأن السلف استعملوا ذلك، وأمرنا به في التشهد، ولأن الصلاة على التابع تعظيم للمتبوع..» «١».
وقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أى: سميع لاعترافهم بذنوبهم وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، وعليم بندمهم وتوبتهم، وبكل شيء في هذا الكون، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم حرضهم- سبحانه- على التوبة النصوح، وحثهم على بذل الصدقات فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ....
أى: ألم يعلم هؤلاء التائبون من ذنوبهم، أن الله- تعالى- وحده، هو الذي يقبل التوبة الصادقة من عباده المخلصين، وأنه- سبحانه- هو الذي «يأخذ الصدقات».
أى: يتقبلها من أصحابها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله: فالتعبير بالأخذ للترغيب في بذل الصدقات، ودفعها للفقراء. والاستفهام للتقرير والتحضيض على تجديد التوبة وبذل الصدقة.
وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تذييل قصد به تقرير ما قبله وتأكيده.
أى: وأن الله وحده هو الذي يقبل توبة عباده المرة بعد الأخرى، وأنه هو الواسع الرحمة بهم، الكثير المغفرة لهم:
قال ابن كثير: قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ.. هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها، وأخبر- تعالى- أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله
(١) تفسير آيات الأحكام- بتصرف وتلخيص ج ٣ ص ٤٨. [.....]
398
يتقبلها بيمينه، فيربيها لصاحبها حتى تصير الثمرة مثل أحد، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ. وقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إن الصدقة تقع في يد الله- تعالى- قبل أن تقع في يد السائل، ثم قرأ هذه الآية. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ... «١».
ثم أمر- سبحانه- بالتزود من العمل الصالح، وحذر من الوقوع في العمل السيئ، فقال- تعالى-: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
أى: وقل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء التائبين وغيرهم، قل لهم: اعملوا ما تشاءون من الأعمال، فإن الله مطلع عليها، وسيطلع رسوله والمؤمنون عليها كذلك.
وخص- سبحانه- رسوله والمؤمنين بالذكر، لأنهم هم الذين يهتم المخاطبون باطلاعهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ... تعليل لما قبله، أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب، والسين للتأكيد.. والمراد من رؤية الله العمل- عند جمع- الاطلاع عليه، وعلمه علما جليا، ونسبة ذلك للرسول ﷺ والمؤمنين، باعتبار أن الله- تعالى- لا يخفى ذلك عنهم، بل يطلعهم عليه... » «٢».
وقوله: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بيان لما سيكون عليه حالهم في الآخرة.
أى: وسترجعون بعد موتكم إلى الله- تعالى- الذي لا يخفى عليه شيء، فينبئكم بما كنتم تعملونه في الدنيا من خير أو شر، وسيجازيكم بما تستحقونه من ثواب أو عقاب.
ثم بين- سبحانه- حال قسم آخر من أقسام المتخلفين عن غزوة تبوك، فقال- تعالى-: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ...
قال الجمل: قوله: «وآخرون مرجون... » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عمر وأبو بكر عن عاصم «مرجؤون» بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. وقرأ الباقون «مرجون» دون
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٦.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦.
399
تلك الهمزة.. وهما لغتان، يقال أرجأته وأرجيته..» «١».
وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً...
والمعنى: ومن المتخلفين عن الخروج معك إلى تبوك- يا محمد- قوم آخرون موقوف أمرهم إلى أن يحكم الله فيهم بحكمه العادل، فهو- سبحانه- «إما يعذبهم» بأن يميتهم بلا توبة «وإما يتوب عليهم» أى: يقبل توبتهم.
وهذا الترديد الذي يدل عليه لفظ «إما»، إنما هو بالنسبة للناس، وإلا فالله- تعالى- عليم بما هو فاعله بهم.
والحكمة من إيهام أمرهم، إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم لأن التوبة عند ما تجيء بعد ندم شديد، وتأديب نفسي.. تكون مرجوة القبول منه- سبحانه-.
وقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ أى: والله- تعالى- عليم بأحوال خلقه وبما يصلحهم في أمورهم، حكيم فيما يشرعه لهم من أحكام.
قال الآلوسى: والمراد بهؤلاء «المرجون لأمر الله..» كما جاء في الصحيحين: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، كانوا قد تخلفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، وهموا باللحاق به فلم يتيسر لهم ذلك- فقعدوا في المدينة كسلا وميلا إلى الدعة- ولم يكن تخلفهم عن نفاق، فلما قدم النبي ﷺ وكان ما كان من أمر المتخلفين- قالوا:
لا عذر لنا إلا الخطيئة، ولم يعتذروا كما اعتذر غيرهم، فأمر رسول الله ﷺ باجتنابهم.. إلى أن نزل قوله- تعالى- بعد ذلك: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ... وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. فأمر ﷺ بمخالطتهم، وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف، إذ كانت مدة غيبته ﷺ عن المدينة خمسين ليلة، فلما تمتعوا بالراحة في تلك المدة مع تعب إخوانهم في السفر، عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة..» «٢».
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد ذكرت ثلاث طوائف من المتخلفين عن غزوة تبوك.
أما الطائفة الأولى فهي التي مردت على النفاق، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله:
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ...
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣١٦.
(٢) تفسير الآلوسى- بتصرف- ج ١١ ص ١٧.
400
وأما الطائفة الثانية فهي التي سارعت إلى الاعتذار والاعتراف بالذنب، فقبل الله توبتهم، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.
وأما الطائفة الثالثة فهي التي لم تجد عذرا تعتذر به، فأوقف الله أمرهم إلى أن حكم بقبول توبتهم بعد خمسين ليلة، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ...
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين، بالحديث عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ليكون مكانا للإضرار بالإسلام والمسلمين، فقال- تعالى-.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
قال الإمام ابن كثير: سبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله ﷺ إليها، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في
401
الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله ﷺ مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز العداوة، وظاهر بها، وخرج فارا إلى كفار مكة ليمالئهم على حرب المسلمين فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام «أحد» فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله- تعالى- وكانت العاقبة للمتقين.
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله ﷺ وأصيب في ذلك اليوم، فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى والسفلى وشج رأسه. وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم، واستمالهم إلى نصره وموافقته. فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله لك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه.
وكان رسول الله ﷺ قد دعاه إلى الله قبل فراره- إلى مكة- وقرأ عليه القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد. فدعا عليه رسول الله ﷺ أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة.
وذلك أنه لما فرغ الناس من «أحد» ورأى أمر الرسول ﷺ في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم، فوعده ومناه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم، أنه سيقدم بجيش ليقاتل به النبي ﷺ ويغلبه، ويرده عما هو فيه. وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليه بعد ذلك.
فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله ﷺ إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يأتى إليهم فيصلى في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم، وأهل العلة في الليلة الشاتية!! فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر ولكنا إذا رجعنا- إن شاء الله- أتيناكم فصلينا لكم فيه».
فلما قفل راجعا إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر، والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم. مسجد قباء. الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله ﷺ إلى مسجد الضرار من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة «١».
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٨٢.
402
وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ منصوب على الذم.
أى: وأذم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.. أو معطوف على ما سبق من أحوال المنافقين، والتقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.
وقوله «ضرارا» مفعول لأجله أى: اتخذوا هذا المسجد لا من أجل العبادة والطاعة لله تعالى. وإنما اتخذوه من أجل الإضرار بالمؤمنين. وإيقاع الأذى بهم.
وقوله «وكفرا» معطوف على «ضرارا» وهو علة ثانية لاتخاذ هذا المسجد.
أى: اتخذوه للإضرار بالمؤمنين، وللازدياد من الكفر الذي يضمرونه ومن الغل الذي يخفونه.
وقوله: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ علة ثالثة.
أى: واتخذوه أيضا للتفريق بين جماعة المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد هو مسجد قباء، فأراد هؤلاء المنافقون من بناء مسجد الضرار إلى جوار مسجد قباء، أن يفرقوا وحدة المؤمنين، بأن يجعلوهم يصلون في أماكن متفرقة. حسدا لهم على نعمة الإخاء والتآلف والاتحاد التي غرسها الإسلام في قلوب أتباعه.
وقوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ علة رابعة لاتخاذ هذا المسجد.
أى: واتخذوه ليكون مكانا يرقبون فيه قدوم «من حارب الله ورسوله» وهو أبو عامر الراهب، الذي أعلن عداوته لدعوة الإسلام «من قبل» بناء مسجد الضرار.
فقد سبق أن ذكرنا في أسباب نزول هذه الآيات، أن أبا عامر هذا، كتب إلى جماعة من قومه. وهو عند هرقل. يعدهم ويمنيهم، ويطلب منهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه فشرعوا في بناء هذا المسجد.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد ذكرت أربعة من الأغراض الخبيثة التي حملت المنافقين على بناء هذا المسجد، وهي: مضارة المؤمنين، وتقوية الكفر، وتفريق كلمة أهل الحق وجعله معقلا لالتقاء المحاربين لله ولرسوله.
وقد خيب الله تعالى مسعاهم وأبطل كيدهم، بأن أمر نبيه ﷺ بهدمه وإزالته.
وقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ذم لهم على أيمانهم الفاجرة، وأقوالهم الكاذبة.
أى: أن هؤلاء المنافقين قد بنوا مسجد الضرار لتلك المقاصد الخبيثة. ومع ذلك فهم يقسمون بأغلظ الأيمان بأنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة الحسنى التي عبروا عنها قبل ذلك.
403
كذبا. بقولهم: «إننا بنيناه للضعفاء، وأهل العلة في الليلة الشاتية».
وقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ زيادة في مذمتهم وتحقيرهم.
أى: والله- تعالى- يعلم ويشهد أن هؤلاء المنافقين لكاذبون في أيمانهم بأنهم ما أرادوا من بناء مسجدهم إلا الحسنى، فإنهم في الحقيقة لم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا تلك الأغراض القبيحة السابقة، وهي مضارة المؤمنين، وتفريق كلمتهم.
ثم نهى الله- تعالى- رسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكدا فقال- سبحانه-: لا تَقُمْ فِيهِ، أَبَداً.
أى: لا تصل. أيها الرسول الكريم. في هذا المسجد في أى وقت من الأوقات لأنه لمن يبن لعبادة الله، وإنما بنى للشقاق والنفاق.
قال القرطبي: قوله- تعالى- لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً يعنى مسجد الضرار. لا تقم فيه للصلاة، وقد يعبر عن الصلاة بالقيام. يقال: فلان يقوم الليل أى: يصلى، ومنه الحديث الصحيح: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وقد روى أن رسول الله ﷺ لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها هذا المسجد، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار... » «١».
وقوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ جملة مسوقة لمدح مسجد قباء وتشريفه.
أى: لمسجد بنى أساسه، ووضعت قواعده على تقوى الله وإخلاص العبادة له منذ أول يوم بدئ في بنائه. أحق أن تقوم للصلاة فيه من غيره.
قال الآلوسى ما ملخصه: واللام في قوله «لمسجد» إما للابتداء أو للقسم، أى: والله لمسجد، وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ، والجملة بعده صفته، وقوله «أحق أن تقوم فيه» خبر المبتدأ: «وأحق» أفعل تفضيل، والمفضل عليه كل مسجد. أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير، أو على زعمهم، وقيل إنه بمعنى حقيق، أى: ذلك المسجد بأن تصلى فيه..» «٢».
وقوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ جملة مسوقة لتكريم رواد هذا المسجد ومديحهم.
أى: في هذا المسجد رجال أتقياء الظاهر والباطن، إذ هم يحبون الطهارة من كل رجس
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٥٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٩.
404
حسى ومعنوي، ومن كان كذلك أحبه الله ورضى عنه.
ثم بين- سبحانه- أنه لا يستوي من أسس بنيانه على الحق، ومن أسس بنيانه على الباطل فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ...
قال صاحب الكشاف: قرئ أسّس بنيانه، وأسّس بنيانه على البناء للفاعل والمفعول.
والشفا: الحرف والشفير. وحرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول، فيبقى واهيا، والهار وهو المتصدع الذي أوشك على التهدم- وهار صفة لجرف، أى جرف موصوف بأنه هائر أى متساقط.
والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه «خير أم من» أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل «شفا جرف هار» في قلة الثبات والاستمساك. وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى.
فإن قلت: فما معنى قوله: «فانهار به في نار جهنم».
قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل، قيل: فانهار به في نار جهنم، على معنى:
فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليتصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم. فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام، ولا أدل منه على حقيقة الباطل وكنه أمره» «١».
وقال صاحب المنار ما ملخصه: والمراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته، ودوامه، وسعادة أهله به، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله وجماعها التقوى، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله وقرب زواله، وخيبة صاحبه، وسرعة انقطاع آماله.
وقد ذكر في وصف بنيان الفريق الأول وهم المؤمنون المشبه دون المشبه به لأنه هو المقصود بالذات وذكر من وصف الفريق الثاني- وهم المنافقون- الهيئة المشبه بها دون المشبه، لأنه ذكر قبل ذلك مقاصدهم الخبيثة من بناء مسجد الضرار. وهذا من دقائق إيجاز القرآن» «٢».
وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أى مضت سنة الله- تعالى- في خلقه أنه- سبحانه- لا يهدى إلى طريق الخير أولئك الذين استحبوا العمى على الهدى وظلموا
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٠- بتصرف وتلخيص.
(٢) تفسير المنار ج ١١ ص ٤٥.
405
أنفسهم بوضعهم الأمور في غير مواضعها.
ثم بين- سبحانه- الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال- تعالى- لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
الريبة: اسم من الريب بمعنى الشك والقلق والحيرة، وتقطع- بفتح التاء- أصلها تتقطع فحذفت إحدى التاءين، من التقطع بمعنى التمزق. وقرأ بعضهم. «تقطع» - بضم التاء- من التقطيع بمعنى التفريق والتمزيق.
والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال، والمستثنى منه محذوف، والتقدير: لا يزال ما بناه هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفوسهم في كل وقت وحال إلا في وقت واحد وهو وقت أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى: أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق، ويجدون مصيرهم الأليم.
والسبب في أن هذا البناء كان مثار ريبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه، أنهم بنوه بنية سيئة، ولتلك المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى... فكانوا يخشون أن يطلع الله نبيهم على مقاصدهم الذميمة، فهذه الخشية أورثتهم القلق والريبة، فلما أطلع الله- تعالى- نبيه على أغراضهم، وتم هدم مسجد الضرار، وانهار الجرف المتداعي المتساقط، استمر قلقهم وريبهم لأنهم لا يدرون بعد ذلك ماذا سيفعل المؤمنون بهم.
وهكذا شأن الماكرين في كل زمان ومكان، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف مكرهم، ويظهر خداعهم.
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم.
أى: والله- تعالى- عليم بكل شيء في هذا الكون، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا: حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفي صنعه بهم، وسيجازيهم يوم القيام بما يستحقونه من عقاب.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
١- وجوب بناء المساجد على تقوى من الله ورضوان، لأنها إذا بنيت على هذا الأساس، كانت محل القبول والثواب من الله، أما إذا بنيت لأى مقصد يتنافى مع آداب الإسلام وأحكامه وتشريعاته، فإنها تكون بعيدة عن رضا الله- تعالى- وقبوله.
قال بعض العلماء، دلت الآيات على أن كل مسجد بنى على ما بنى عليه مسجد الضرار، أنه لا حكم له ولا حركة، ولا يصح الوقف عليه. وقد حرق الراضي بالله- الخليفة
406
العباسي- كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة «١».
وقال الزمخشري: قيل كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن عطاء: لما فتح الله. تعالى. الأمصار على عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضار أحدهما صاحبه «٢».
٢- أن مسجد قباء هو المقصود بقوله- تعالى-:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ وذلك لأن سياق الآيات في الحديث عنه، وفي بيان أحقية الصلاة فيه، وقد كان رسول الله ﷺ يزوره راكبا وماشيا ويصلى فيه ركعتين.
ولا منافاة بين كون مسجد قباء هو المقصود هنا، وبين الأحاديث التي وردت في أن المسجد الذي أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان، هو المسجد النبوي، لأن كليهما قد أسس على ذلك.
قال الإمام ابن كثير: وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس، وعروة بن الزبير، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وقتادة.
وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله ﷺ الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح.
ولا منافاة بين الآية وبين هذا، أنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله ﷺ بطريق الأولى والأحرى» «٣».
٣- أن المحافظة على الطهارة من الصفات التي يحبها الله- تعالى- فقد قال- تعالى-: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها: ما جاء عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية، بعث رسول الله ﷺ إلى عويم بن مساعدة فقال له: «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به» ؟.
فقال: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه.
فقال صلى الله عليه وسلم: «هو هذا» «٤» ».
(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٢٦٧.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٠.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٧٩.
(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨٩.
407
٤- كذلك يؤخذ من الآيات الكريمة، استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحة، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات «١».
وبعد أن بين- سبحانه- أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك، أتبع ذلك بالترغيب في الجهاد وفي بيان فضله فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١١]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
قال الفخر الرازي: اعلم أن الله- تعالى- لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع كل قسم ما كان لائقا به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... الآية «٢».
وقال القرطبي: نزلت هذه الآية في البيعة الثانية، وهي بيعة العقبة الكبرى وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله ﷺ عند العقبة، فقال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فإذا فعلنا فما لنا؟ قال:
«لكم الجنة» قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية «٣».
ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد ﷺ إلى يوم القيامة.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ تمثيل للثواب الذي منحه الله- تعالى- للمجاهدين في سبيله.
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩٠. [.....]
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٠٦.
(٣) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٦٧.
408
فقد صور- سبحانه- جهاد المؤمنين، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه، وإثابته- سبحانه- لهم على ذلك بالجنة، صور كل ذلك بالبيع والشراء.
أى: أن الله- تعالى- وهو المالك لكل شيء، قد اشترى من المجاهدين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله، وأعطاهم في مقابل ذلك الجنة.
قال أبو السعود: الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين في الجهاد... وقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبّر عن قبول الله- تعالى- من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله- تعالى- وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية. ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد: أنفس المؤمنين وأموالهم، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة: الجنة.
ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها، إيذانا بتعليق كمال العناية بهم وبأموالهم.
ثم إنه لم يقل «بالجنة» بل قال: «بأن لهم الجنة» مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم «واختصاصه بهم» فكأنه قيل: بالجنة الثابتة لهم، المختصة بهم «١».
وقوله: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ جملة مستأنفة جيء بها لبيان الوسيلة التي توصلهم إلى الجنة وهي القتال في سبيل الله.
أى: أنهم يقاتلون في سبيل الله، فمنهم من يقتل أعداء الله، ومنهم من يقتل على أيدى هؤلاء الأعداء، وكلا الفريقين القاتل والمقتول جزاؤه الجنة.
وقرأ حمزة والكسائي «فيقتلون ويقتلون» بتقديم الفعل المبنى للمفعول على الفعل المبنى للفاعل.
وهذه القراءة فيها إشارة إلى أن حرص هؤلاء المؤمنين الصادقين على الاستشهاد أشد من حرصهم على النجاة من القتل لأن هذا الاستشهاد يوصلهم إلى جنة عرضها السموات والأرض، وإلى الحياة الباقية الدائمة..
وقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ تأكيد للثمن الذي وعدهم الله به.
أى: أن هذه الجنة التي هي جزاء المجاهدين، قد جعلها- سبحانه- تفضلا منه وكرما،
(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٩١.
409
حقا لهم عليه، وأثبت لهم ذلك في الكتب السماوية التي أنزلها على رسله.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: «وعدا عليه» مصدر مؤكد لمضمون الجملة وقوله «حقا» نعت له، وقوله «عليه» في موضع الحال من قوله «حقا» لتقدمه عليه، وقوله:
«في التوراة والإنجيل والقرآن» متعلق بمحذوف وقع نعتا لقوله «وعدا» أيضا.
أى: وعدا مثبتا في التوراة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن، فالمراد إلحاق مالا يعرف بما يعرف. إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن. ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أن أمة محمد ﷺ اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بذلك، أو أن من جاهد بنفسه وماله. من حقه ذلك، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن... » «١».
وقوله: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ جملة معترضة مسوقة لتأكيد مضمون ما قبلها من حقية الوعد وتقريره: والاستفهام للنفي.
أى: لا أحد أوفى بعهده من الله- تعالى- لأنه إذا كان خلف الوعد لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم، فكيف يكون الحال من جانب الخالق- عز وجل- المنزه عن كل نقص، المتصف بكل كمال.
وقوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تحريض على القتال، وإعلام لهم بأنهم رابحون في هذه الصفقة.
والاستبشار: الشعور بفرح البشرى، شعورا تنبسط له أسارير الوجه.
أى: إذا كان الأمر كذلك فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به غاية الفرح، وارضوا به نهاية الرضى، فإن ذلك البيع هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه.
قال بعض العلماء: ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية لأنه أبرزه في صورة عقد عقده رب العزة، وثمنه مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانوا قاتلين أيضا لإعلاء كلمته، ونصر دينه، وجعله مسجلا في الكتب السماوية، وناهيك به من صك. وجعل وعده حقا، ولا أحد أوفى من وعده فنسيئته أقوى من نقد غيره، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم.
وهو استعارة تمثيلية، حيث صور جهاد المؤمنين، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله لهم على ذلك الجنة، بالبيع والشراء وأتى بقوله: «يقاتلون».. بيانا لمكان التسليم وهو المعركة، وإليه الإشارة بقوله ﷺ «الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم أمضاه بقوله «وذلك هو الفوز العظيم» «٢».
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٩.
(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٢٧٣.
410
ويروى عن الحسن البصري أنه قرأ هذه الآية فقال: انظروا إلى كرم الله. تعالى. أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها، ثم يكافئنا عليها متى بذلناها في سبيله بالجنة.
ثم وصف الله- تعالى- هؤلاء المؤمنين الصادقين بجملة من الأوصاف الكريمة، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٢]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
قال الجمل ما ملخصه: ذكر الله- تعالى- في هذه الآية تسعة أوصاف للمؤمنين، الستة الأولى منها تتعلق بمعاملة الخالق، والوصفان السابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق، والوصف التاسع يعم القبيلين.
وقوله: التَّائِبُونَ فيه وجوه من الإعراب منها: أنه مرفوع على المدح. فهو خبر لمبتدأ محذوف وجوبا للمبالغة في المدح أى: المؤمنون المذكورون التائبون، ومنها أن الخبر هنا محذوف، أى: التائبون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة....» «١».
والمعنى: «التائبون» عن المعاصي وعن كل ما نهت عنه شريعة الله، «العابدون» لخالقهم عبادة خالصة لوجهه، «الحامدون» له- سبحانه- في السراء والضراء، وفي المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، «السائحون» في الأرض للتدبر والاعتبار وطاعة الله.
والعمل على مرضاته «الراكعون الساجدون» لله- تعالى- عن طريق الصلاة التي هي عماد الدين وركنه الركين «الآمرون» غيرهم «بالمعروف» أى: بكل ما حسنه الشرع «والناهون» له «عن المنكر» الذي تأباه الشرائع والعقول السليمة، «والحافظون لحدود الله» أى: لشرائعه وفرائضه وأحكامه وآدابه.. هؤلاء المتصفون بتلك الصفات الحميدة، بشرهم. يا محمد. بكل ما يسعدهم ويشرح صدورهم، فهم المؤمنون حقا، وهم الذين أعد الله- تعالى- لهم الأجر الجزيل، والرزق الكريم.
(١) حاشية الجمل على الجلالين بتصريف وتلخيص ج ٢ ص ٣٢١.
411
ولم يذكر- سبحانه- المبشر به في قوله: «وبشر المؤمنين»، للإشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به الوصف، ولا تحده العبارة.
ولم يذكر- سبحانه- في الآية لهذه الأوصاف متعلقا، فلم يقل «التائبون» من كذا، لفهم ذلك من المقام، لأن المقام في مدح المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا نفوسهم لله، تعالى.
فصاروا ملتزمين طاعته في كل أقوالهم وأعمالهم.
وعبر عن كثرة صلاتهم وخشوعهم فيها بقوله. «الراكعون الساجدون» للإشارة إلى أن الصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم، وكأن الركوع والسجود طابع مميز لهم بين الناس. وإنما عطف النهى عن المنكر على الأمر بالمعروف للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب، أو لما بينهما من تباين إذ الأمر بالمعروف طلب فعل، والنهى عن المنكر طلب ترك أو كف.
وكذلك جاء قوله. «والحافظون لحدود الله» بحرف العطف ومما قالوه في تعليل ذلك. أن سر العطف هنا التنبيه على أن ما قبله مفصل للفضائل وهذا مجمل لها، لأنه شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفا، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه «١».
هذا، وما ذكرناه من أن المراد بقوله: «السائحون» أى: السائرون في الأرض للتدير والاعتبار والتفكر في خلق الله، والعمل على مرضاته.. هذا الذي ذكرناه رأى لبعض العلماء.
ومنهم من يرى أن المراد بهم الصائمون ومنهم من يرى أن المراد بهم: المجاهدون.
قال الآلوسى: وقوله: «السائحون» أى الصائمون. فقد أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة أن النبي ﷺ سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين. وجاء عن عائشة: «سياحة هذه الأمة الصيام».
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون، وليس في أمة محمد ﷺ سياحة إلا الهجرة.
وعن عكرمة أنهم طلبة العلم، لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه.
وقيل: هم المجاهدون في سبيل الله، لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما، عن أبى أمامة أن رجلا استأذن رسول الله ﷺ في السياحة فقال: إن سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله «٢».
(١) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٣٠٨٠.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٠ ص ٣١.
412
والذي نراه أقرب إلى الصواب أن المراد بالسائحين هنا: السائرون في الأرض لمقصد شريف، وغرض كريم. كتحصيل العلم، والجهاد في سبيل الله، والتدبر في ملكوته- سبحانه- والتفكر في سنته في كونه، والاعتبار بما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب.
ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ «السائحون» معناه السائرون، لأنه مأخوذ من السيح وهو الجري على وجه الأرض، والذهاب فيها. وهذه المادة تشعر بالانتشار، يقال: ساح الماء أى جرى وانتشر.
وما دام الأمر كذلك فمن الأولى حمل اللفظ على ظاهره، مادام لم يمنع مانع من ذلك، وهنا لا مانع من حمل اللفظ على حقيقته وظاهره.
أما الأحاديث والآثار التي استشهد بها من قال بأن المراد بالسائحين الصائمون فقد ضعفها علماء الحديث.
قال صاحب المنار: وأقول: وروى ابن جرير من حديث أبى هريرة مرفوعا وموقوفا حديث: «السائحون هم الصائمون» لا يصح رفعه.. «١».
وفضلا عن كل هذا، فإن تفسير السائحين بأنهم السائرون في الأرض لكل مقصد شريف، وغرض كريم.. يتناول الجهاد في سبيل، كما يتناول الرحلة في طلب العلم، وغير ذلك من وجوه الخير.
وما أكثر الآيات القرآنية التي حضت على السير في الأرض، وعلى التفكر في خلق الله، ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ «٢».
وقوله تعالى. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «٣».
قال الإمام الرازي: للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأن الإنسان يلقى الأكابر من الناس، فيحتقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله. تعالى. في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين «٤».
ثم بين- سبحانه- أنه لا يصح للنبي ﷺ ولا للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين مهما بلغت درجة قرابتهم، لأن رابطة العقيدة هي الوشيجة الأساسية فيما بينهم فقال- تعالى:
(١) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٥٤.
(٢) سورة الأنعام الآية ١١.
(٣) سورة الحج الآية ٤٦.
(٤) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٠٩.
413

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضوع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه، بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات، والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب «١».
والمعنى: ما كان من شأن النبي ﷺ ولا من شأن أصحابه المؤمنين، أن يدعوا الله- تعالى- بأن يغفر للمشركين في حال من الأحوال. ولو كان هؤلاء المشركون من أقرب أقربائهم «من بعد ما تبين لهم» أى: للرسول ﷺ ولأصحابه، أن هؤلاء المشركين من أصحاب الجحيم، بسبب موتهم على الكفر، وإصرارهم عليه، وعدم اعترافهم بدين الإسلام.
قال الآلوسى ما ملخصه: والآية على الصحيح نزلت في أبى طالب، فقد أخرج الشيخان
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥١٠.
414
وغيرهما عن المسيب بن حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية فقال النبي ﷺ أى عم، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله ﷺ يعرضها عليه. وأبو جهل وعبد الله بن أمية يعاودانه بتلك المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله ﷺ لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.. الآية.
ثم قال. واستبعد بعضهم ذلك، لأن موت أبى طالب كان قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة.
وهذا الاستبعاد مستبعد، لأنه لا بأس من أن يقال: كان النبي ﷺ يستغفر لأبى طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية وعليه فلا يراد من قوله «فنزلت» في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول فحسب. فتكون الفاء للسببية لا للتعقيب «١».
وقال القرطبي: هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين. فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. ، وقال كثير من العلماء. بأنه لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ما داما حيين، فأما من مات على الكفر فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعى له «٢».
ثم بين- سبحانه- السبب الذي حمل إبراهيم على الاستغفار لأبيه، ثم على ترك هذا الاستغفار فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ..
قال القرطبي: روى النسائي عن على بن أبى طالب قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان. فقلت: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه.
فأتيت النبي ﷺ فذكرت له ذلك فنزلت وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ الآية.
والمعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم، لأبيه، لأن استغفاره له إنما كان بسبب وعد صدر له بذلك. فلما أصر «آزر» أبو إبراهيم على كفره، ومات مشركا بالله،
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٣٣. [.....]
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٧٣.
415
تبرأ إبراهيم منه ومن عمله.
والمراد بهذا الوعد ما جاء في القرآن من قوله له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «١».
وقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «٢».
وقوله: «إن إبراهيم لأواه حليم» جملة مستأنفة مسوقة لبيان الداعي الذي دعا إبراهيم إلى الاستغفار لأبيه قبل التبين.
أى: إن إبراهيم لكثير التأوه والتوجع من خشية الله، وكثير الحلم والصفح عمن آذاه.
قال الآلوسى: قوله «إن إبراهيم لأواه حليم» أى لكثير التأوه، وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين.. وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة. ورقة القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهما عن عبد الله بن شداد. قال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟
قال: «الخاشع المتضرع الكثير الدعاء» «٣».
ويؤخذ من هاتين الآيتين، أنه لا يجوز لمسلم أن يستغفر لمشرك بعد موته على الشرك مهما بلغت درجة قرابته له.
ثم بين- سبحانه- سنة من سننه العامة في خلقه، وهي تدل على سعة رحمته، ووافر عدله فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ...
أى: وما كان من شأن الله- تعالى- في لطفه وعدله.. أن يصف قوما بالضلال عن طريق الحق «بعد إذ هداهم» إلى الإسلام، لمجرد قول أو عمل صدر عنهم عن طريق الخطأ في الاجتهاد.
وإنما يصفهم بذلك بعد أن يبين لهم ما يجب اتقاؤه من الأقوال والأفعال، فلا يطيعون أمره، ولا يستجيبون لتوجيهه- سبحانه- قال صاحب الكشاف: يعنى- سبحانه- أن ما أمر باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيرها مما نهى عنه وبين أنه محظور، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالا، إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم، وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر، ولا ببيع الصاع بصاعين قبل التحريم.
(١) سورة مريم الآية ٤٧.
(٢) سورة الممتحنة الآية ٤.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٣٥- بتصرف وتلخيص.
416
وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها: وهي أن المهدى للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله صار داخلا في حكم الإضلال» «١».
وقال صاحب المنار: أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن مسعود كان يخطب أصحابه كل عشية خميس ثم يقول: فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل، ولا يغدو لسوى ذلك، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير. أيها الناس: إنى والله لا أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم، وقد قال- تعالى- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ.. «٢».
وقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعليل لما قبله، أى إن الله- تعالى- عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أقوال الناس وأفعالهم، وسيحاسبهم يوم القيامة على ذلك، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات ببيان أنه- سبحانه- هو المالك لكل شيء، والخالق لكل شيء، فقال: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أى: إن الله- تعالى- هو المالك للسموات والأرض وما بينهما، ولا شريك له في خلقهما، ولا في تدبير شئونهما، وهو- سبحانه- الذي يحيى من يريد إحياءه، ويميت من يريد إماتته، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أى: وليس لكم- أيها الناس- أحد سوى الله يتولى أمركم وينصركم على أعدائكم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين عن الاستغفار للمشركين المصرين على شركهم، كما بشرتهم بأنه- سبحانه- لا يؤاخذهم على استغفارهم لهم قبل نهيهم عن ذلك.
كما أخبرتهم بأن ملك هذا الكون إنما هو لله وحده، فعليهم أن يستجيبوا لأمره، لكي ينالوا رحمته ورضاه.
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على عباده المؤمنين، حيث تقبل توبتهم، وتجاوز عن زلاتهم، فقال- تعالى-:
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٦.
(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٣١٦.
417

[سورة التوبة (٩) : آية ١١٧]

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك، وبين أحوال المتخلفين عنها، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه فيما سبق، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله ﷺ ما يجرى مجرى ترك الأولى، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة، فذكر- سبحانه- أنه تفضل عليهم، وتاب عليهم، في تلك الزلات، فقال- تعالى-: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ.. «١».
وللعلماء أقوال في المراد بالتوبة التي تابها الله على النبي ﷺ وعلى المهاجرين والأنصار: فمنهم من يرى أن المراد بها قبول توبتهم، وغفران ذنوبهم، والتجاوز عن زلاتهم التي حدثت منهم في تلك الغزوة أو في غيرها، وإلى هذا المعنى أشار القرطبي بقوله:
قال ابن عباس: كانت التوبة على النبي ﷺ لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود، بدليل قوله- سبحانه- قبل ذلك: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ...
وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه- أى: إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك «٢».
ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها، والحض على تجديدها، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال: «تاب الله على النبي» كقوله: «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر» وكقوله: «واستغفر لذنبك». وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرين والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح.. «٣».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥١٥.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٨٧.
(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١١٦.
418
ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا: دوامها لا أصلها، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله: لقد تاب الله على النبي..» أى: أدام توبته على النبي والمهاجرين والأنصار. وهذا جواب عما يقال: من أن النبي معصوم من الذنب، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا في هذه القضية، بل اتبعوه من غير تلعثم، قلنا: المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها..» «١».
ومنهم من يرى أن ذكر النبي هنا إنما هو من باب التشريف، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات. وقد وضح هذا المعنى الإمام الآلوسى فقال: قال أصحاب المعاني: المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار، إلا أنه جيء في ذلك بالنبي ﷺ تشريفا لهم، وتعظيما لقدرهم، وهذا كما قالوا في ذكره- تعالى- في قوله:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ.. الآية أى: عفا- سبحانه- عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين... » «٢».
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله- تعالى- على رسوله وعلى المؤمنين، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية، وبمقتضى الاجتهاد في أمور لم يبين الله- تعالى- حكمه فيها، فهي لا تنقص من منزلة الرسول ﷺ ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم.
والمعنى، لقد تقبل الله- تعالى- توبة النبي ﷺ كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص في ساعة العسرة. أى في وقت الشدة والضيق، وهو وقت غزوة تبوك، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت.
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة، كما كان الجيش الذي اشترك فيها يسمى بجيش العسرة، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها في سنة مجدبة، وحر شديد، وفقر في الزاد والماء والراحلة.
قال ابن كثير: قال مجاهد وغير واحد: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر، في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر في الزاد والماء.
وقال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر- أى شدته- على ما يعلم الله من
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٢٤- بتصرف يسير.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٣٩.
419
الجهد، أصابهم فيها تعب شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما «١».
وقال الحسن: كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحدا، يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يشرب عليها جرعة من الماء..
ومضوا مع النبي ﷺ على صدقهم ويقينهم- رضى الله عنهم «٢».
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بيان لتناهى الشدة، وبلوغها الغاية القصوى.
أى: تاب- سبحانه- على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار، من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب.
وفي ذكر «فريق منهم» إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار، مضوا معه ﷺ إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد في قوة إيمانهم وصدق يقينهم، ومضاء عزيمتهم، وشدة إخلاصهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وفي «كاد» ضمير الشأن و «قلوب» فاعل «يزيغ» والجملة في موضع الخبر لكاد.. وهذا على قراءة «يزيع» بالياء، وهي قراءة حمزة، وحفص، والأعمش. وأما على قراءة «تزيغ» بالتاء، وهي قراءة الباقين. فيحتمل أن يكون «قلوب» اسم كاد «وتزيغ» خبرها، وفيه ضمير يعود على اسمها» «٣».
وقوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم. ولطفه بهم.
أى: ثم تاب عليهم- سبحانه- بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس. إنه بهم رءوف رحيم.
قال بعضهم: فإن قلت: قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانيا فما فائدة التكرار؟
قلت: إنه- سبحانه- ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى، تعظيما لشأنهم، وليعلموا أنه- تعالى- قد قبل توبتهم، وعفا عنهم، ثم أتبعه بقوله- سبحانه- إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تأكيدا
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩٦.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٢٤.
(٣) راجع تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٤٠. [.....]
420
لذلك. والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع، «١».
وقال القرطبي: قوله «ثم تاب عليهم» قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق- سبحانه- مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم.
قال الشاعر:
منك أرجو ولست أعرف ربا يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأر ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجو ع، وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لي سواك ربي ملاذ فتيقنت أننى بك أنجو
وكما تقبل الله- تعالى- توبة المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسولهم ﷺ في ساعة العسرة.. فقد تقبل توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن الاشتراك في غزوة تبوك، فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٨]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
هذه الآية الكريمة معطوفة على الآية السابقة لها. والمعنى: لقد تقبل الله- تعالى- بفضله وإحسانه توبة النبي والمهاجرين والأنصار، وتقبل كذلك توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن هذه الغزوة كسلا وحبا للراحة، والذين سبق أن أرجأ الله حكمه فيهم بقوله وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.. «٢».
وقوله:
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٢٥.
(٢) راجع تفسير الآية رقم ١٠٦ من هذه السورة ص ٣٩٩.
421
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ كناية عن شدة تحيرهم، وكثرة حزنهم، واستسلامهم لحكم الله فيهم.
أى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض على سعتها، بسبب إعراض الناس عنهم، ومقاطعتهم لهم، وضاقت عليهم أنفسهم، بسبب الهم والغم الذي ملأها واعتقدوا أنهم لا ملجأ ولا مهرب لهم من حكم الله وقضائه إلا إليه.
حتى إذا كان أمرهم كذلك، جاءهم فرج الله، حيث قبل توبتهم، وغفر خطأهم وعفا عنهم.
وقوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أى: بعد هذا التأديب الشديد لهم، تقبل- سبحانه- توبتهم، ليتوبوا إليه توبة صادقة نصوحا، لا تكاسل معها بعد ذلك عن طاعة الله وطاعة رسوله، إن الله- تعالى- هو الكثير القبول لتوبة التائبين، وهو الواسع الرحمة بعباده المحسنين.
هذا، والمقصود بهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار.
وقد ذكرت قصتهم في الصحيحين وفي غيرهما من كتب السنة والسيرة، وهاك خلاصة لها:
قال الإمام ابن كثير: روى الإمام أحمد أن كعب بن مالك قال، لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها قط إلا في تبوك.
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك. أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه في تلك الغزوة.
وغزا رسول الله ﷺ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز لها المؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم. فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا.. فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت.. ولم يزل ذلك شأنى حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم- وليتني فعلت- ولكن لم يقدر لي ذلك.
ولم يذكرني رسول الله ﷺ حتى بلغ تبوك فقال: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بنى سلمة: حبسه برداه والنظر في عطفيه.
فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلا من تبوك، حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟.
422
وعند ما عاد الرسول ﷺ إلى المدينة جاءه المتخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه..
وجئت إليه فقال: تعال.. ما خلفك؟! ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟
فقلت يا رسول الله إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر. والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كاذب ترضى به عنى، ليوشكن الله أن يسخطك على. ولئن حدثتك بصدق تغضب على فيه، إنى لأرجو عقبى ذلك من الله- تعالى- والله ما كان لي من عذر.
قال ﷺ أما هذا فقد صدق. فقم حتى يقضى الله فيك. وكان هناك رجلان قد قالا مثل ما قلت هما مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.
قال: ونهى رسول الله ﷺ كلامنا، فاعتزلنا الناس وتغيروا لنا.. ولبثنا على ذلك خمسين ليلة.. ثم أمرنا أن نعتزل نساءنا ففعلنا.
قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتها فبينا أنا على الحال التي ذكرها الله عنا، قد ضاقت على نفسي.. سمعت صارخا يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك.
وذهبت إلى رسول الله ﷺ فقال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال:
وأنزل الله- تعالى- وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. الآية.
قال الإمام ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث بتمامه: هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها» «١».
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا جانبا من فضل الله على عباده، حيث قبل توبتهم، وغسل حوبتهم. إنه بهم رءوف رحيم.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بأن يتقوا الله حق تقاته وأن يكونوا مع الصادقين، وأوجب عليهم الغزو مع رسول الله ﷺ ووعدهم عليه بجزيل الثواب، وتوعد المتخلفين عنه بشديد العقاب فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٩ الى ١٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
(١) راجع الحديث بتمامه في تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩٧.
423
والمعنى: يا من آمنتم بالله واليوم الآخر.. اتقوا الله حق تقاته، بأن تفعلوا ما كلفكم به.
وتتركوا ما نهاكم عنه، «وكونوا مع الصادقين» في دين الله نية وقولا وعملا وإخلاصا فإن الصدق ما وجد في شيء إلا زانه، وما وجد الكذب في شيء إلا شانه.
قال القرطبي: حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى ربنا الغفار.
قال ﷺ «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا».
والكذب على الضد من ذلك. قال ﷺ «إياكم والكذب فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار. وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا».
فالكذب عار، وأهله مسلوبو الشهادة، وقد رد ﷺ شهادة رجل في كذبة كذبها.
وسئل شريك بن عبد الله فقيل له: يا أبا عبد الله، رجل سمعته يكذب متعمدا، أصلى خلفه؟ قال: لا «١».
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٩٢٨.
424
ثم أوجب- سبحانه- على المؤمنين مصاحبة رسولهم ﷺ في غزواته فقال:
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ....
والمراد بالنفي هنا النهى. أى: ليس لأهل المدينة أو لغيرهم من الأعراب سكان البادية الذين يسكنون في ضواحي المدينة، كقبائل مزينة وجهينة وأشجع وغفار.
ليس لهؤلاء جميعا أن يتخلفوا عن رسول الله ﷺ إذا ما خرج للجهاد، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، لأن هذا التخلف يتنافى مع الإيمان بالله ورسوله.
وليس لهم كذلك «أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه» أى ليس لهم أن يؤثروا أنفسهم بالراحة على نفسه، بأن يتركوه يتعرض للآلام والأخطار. دون أن يشاركوه في ذلك، بل من الواجب عليهم أن يكونوا من حوله في البأساء والضراء، والعسر واليسر والمنشط والمكره.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها، فإذا تعرضت- مع كرامتها وعزتها- للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت- أى تتساقط- فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيمون لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وهذا نهى بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية» «١».
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. يعود على ما دل عليه الكلام من وجوب مصاحبته وعدم التخلف عنه.
أى: ذلك الذي كلفناهم به من وجوب مصاحبته ﷺ والنهى عن التخلف عنه، سببه أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أى عطش وَلا نَصَبٌ أى: تعب ومشقة وَلا مَخْمَصَةٌ أى: مجاعة شديدة تجعل البطون خامصة ضامرة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى: في جهاد أعدائه وإعلاء كلمة الحق وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أى: ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بأرجلهم أو بحوافر خيولهم من أجل إغاظتهم وإزعاجهم.. وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أى: ولا يصيبون من عدو من أعدائهم إصابة كقتل أو أسر أو غنيمة.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢١.
425
إنهم لا يفعلون شيئا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أى: إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح، ينالون بسببه الثواب الجزيل من الله، لأنه- سبحانه- لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وإنما يكافئهم على إحسانهم بالأجر العظيم.
وقوله: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً.. معطوف على ما قبله.
أى: وكذلك لا يتصدقون بصدقة صغيرة، كالتمرة ونحوها، ولا كبيرة كما فعل عثمان- رضى الله عنه- في هذه الغزوة، فقد تصدق بالكثير.
وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً من الوديان في مسيرهم إلى عدوهم، أو في رجوعهم عنه.
لا يفعلون شيئا من ذلك أيضا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أى: إلا كتب لهم ثوابه في سجل حسناتهم.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: أمرهم بمصاحبة نبيهم في كل غزواته، وكلفهم بتحمل مشاق الجهاد ومتاعبه. ليجزيهم على ذلك أحسن الجزاء وأعظمه، فأنت ترى أن الله- تعالى- قد حرض المؤمنين على الجهاد في هاتين الآيتين، وبين لهم أن كل ما يلاقونه في جهادهم من متاعب له ثوابه العظيم، وما دام الأمر كذلك فعليهم أن يصاحبوا رسولهم ﷺ في جميع غزواته، لأن التخلف عنه لا يليق بالمؤمنين الصادقين، فضلا عن أن هذا التخلف- بدون عذر شرعي- سيؤدي إلى الخسران في الدنيا والآخرة.
وبعد أن حرض الله- تعالى- المؤمنين على الجهاد في سبيله، وحذرهم من التخلف عن الخروج مع رسوله ﷺ أتبع ذلك بالحديث عما يجب عليهم إذا لم تكن المصلحة تقتضي النفير العام، فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
قال الجمل: وسبب نزول هذه الآية أن النبي ﷺ لما بالغ في الكشف عن عيوب المنافقين، وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك. قال المسلمون: والله لا نتخلف عن رسول
426
الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن سرية بعثها، فلما قدم ﷺ المدينة من تبوك، وبعث السرايا، أراد المسلمون أن ينفروا جميعا للغزو وأن يتركوا النبي ﷺ وحده فنزلت هذه الآية «١».
والمعنى، وما كان من شأن المؤمنين، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد، ويتركوا الرسول ﷺ وحده بالمدينة، وإنما يجب عليهم النفير العام إذا ما دعاهم ﷺ إلى ذلك.
وقوله:
فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ معطوف على كلام محذوف، ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا.
أى: فحين لم يكن هناك موجب لنفير الكافة، فهلا نفر من كل فرقة من المؤمنين طائفة للجهاد، وتبقى طائفة أخرى منهم «ليتفقهوا في الدين» أى: ليتعلموا أحكامه من رسولهم ﷺ «ولينذروا قومهم» أى: وليعلموهم ويخبروهم بما أمروا به أو نهوا عنه «إذا رجعوا إليهم» من الغزو «لعلهم يحذرون» أى: لعل هؤلاء الراجعين إليهم من الغزو يحذرون ما نهوا عنه.
أى: أن على المسلمين في حالة عدم النفير العام، أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين.
قسم يبقى مع الرسول ﷺ ليتفقه في دينه، وقسم آخر يخرج للجهاد في سبيل الله، فإذا ما عاد المجاهدون، فعلى الباقين مع الرسول ﷺ أن يبلغوا العائدين ما حفظوه عن الرسول ﷺ من أحكام.
وبذلك يجمع المسلمون بين المصلحتين: مصلحة الدفاع عن الدين بالحجة والبرهان، ومصلحة الدفاع عنه بالسيف والسنان.
وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور العلماء يكون الضمير في قوله «ليتفقهوا ولينذروا» يعود إلى الطائفة الباقية مع الرسول ﷺ أما الضمير في قوله «لعلهم يحذرون» فيعود على الطائفة التي خرجت للجهاد ثم عادت.
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله «ليتفقهوا، ولينذروا» يعود على الطائفة التي خرجت للجهاد.
وقد رجح هذا الاتجاه الإمام ابن جرير فقال: وأما قوله «ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لتتفقه الطائفة
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٢٩- بتصرف يسير.
427
النافرة بما تعاين من نصر الله لأهل دينه ولأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام، وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، «ولينذروا قومهم» فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله، مثل الذي نزل بمن شاهدوا، ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك، إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم «لعلهم يحذرون» أى:
لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذرا من أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم... » «١».
وقد علق صاحب المنار على رأى ابن جرير هذا بقوله: وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم، فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر- وهو غير مضمون ولا مطرد- لا يسمى تفقها في الدين، وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه، فإن التفقه هو التعلم الذي يكون بالتكلف والتدرج، والمتبادر من الدين علمه، ولا يصح هذا المعنى في ذلك العهد إلا في الذين يبقون مع النبي ﷺ فيزدادون في كل يوم علما وفقها بنزول القرآن... » «٢».
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية: وجوب طلب العلم، والتفقه في دين الله وتعليم الناس إياه.
قال القرطبي: هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي ﷺ مقيم لا ينفر فيتركوه وحده «فلولا نفر» بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم «من كل فرقة منهم طائفة» وتبقى بقيتها مع النبي ﷺ ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوه وعلموه، وفي هذا إيجاب التفقه، في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان..» «٣».
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن الجهاد في سبيل الله، بدعوة المؤمنين إلى قتال أعدائهم بشدة وغلظة فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٥٧٣- طبعة دار المعارف.
(٢) تفسير المنار ج ١١ ص ٨٠.
(٣) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٩٣.
428
وقوله: يَلُونَكُمْ من الولي بمعنى القرب، تقول جلست مما يلي فلان أى: يقاربه.
قال ابن كثير: أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا، الأقرب فالأقرب، إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ الرسول ﷺ بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة واليمن.. وغير ذلك من أقاليم العرب، دخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل كتاب، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس، وجدب البلاد، وضيق الحال، ذلك سنة تسع من الهجرة، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية- صلوات الله وسلامه عليه- بعد حجة الوداع بأحد وثمانين يوما وسار خلفاؤه الراشدون من بعده على نهجه.
وقوله وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أى: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا بأخيه المؤمن، غليظا على عدوه الكافر. قال- تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال: «أنا الضحوك القتال» يعنى: أنه ضحوك في وجه وليه المؤمن، قتال لهامة عدوه الكافر» «١».
وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به حض المؤمنين على التسلح بسلاح الإيمان والتقوى حتى ينالوا نصر الله وعونه.
أى: واعلموا أن الله- تعالى- مع المتقين بنصره ومعونته، فاحرصوا على هذه الصفة ليستمر معكم نصره- سبحانه- وعونه.
وإنما أمر الله- تعالى- المؤمنين أن يبدءوا قتالهم مع الأقرب فالأقرب من ديارهم، لأن القتال شرع لتأمين الدعوة الإسلامية، وقد كانت دعوة الإسلام موجهة إلى الأقرب فالأقرب، فكان من الحكمة أن يبدءوا قتالهم مع المجاورين لهم حتى يأمنوا شرهم، ولأنه من المعلوم أنه ليس في طاقة المسلمين قتال جميع الكفار، وغزو جميع البلاد في زمان واحد، فكان من قرب أولى ممن بعد.
ثم ختمت السورة- أيضا- حديثها الطويل المتنوع عن المنافقين ببيان موقفهم من نزول الآيات القرآنية على الرسول صلى الله عليه وسلم
(١) تفسير ابن كثير- بتصرف وتلخيص- ج ٢ ص ٤٠١.
429
فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
والمعنى: وإذا ما أنزلت سورة من سور القرآن عليك يا محمد: تساءل المنافقون عنها في حذر وريبة «فمنهم من يقول» لأشباهه في الكفر والنفاق على سبيل الاستهزاء والتهوين من شأن القرآن الكريم «أيكم زادته هذه إيمانا» أى: أى واحد منكم زادته هذه السورة النازلة إيمانا؟
وهنا يجيء الرد الحاسم الذي يخرس ألسنتهم، من جهته- تعالى- فيقول: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
أى: فأما الذين آمنوا فزادهم نزول السورة القرآنية، إيمانا على إيمانهم، وثباتا على ثباتهم، ويقينا على يقينهم، «وهم» فوق ذلك «يستبشرون» ويفرحون بنزولها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية.
هذا شأن المؤمنين بالنسبة لنزول السورة القرآنية، وأما المنافقون، فقد صور القرآن حالهم بقوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ.
أى: وأما الذين في قلوبهم شك ونفاق وارتياب، فزادهم نزول السورة كفرا على كفرهم السابق.
430
وسمى- سبحانه- الكفر رجسا، لأنه أقبح الأشياء وأسوؤها.
وقوله: وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان سوء أعمالهم في الدنيا.
أى: لقد قضى هؤلاء المنافقون حياتهم في الكفر والفسوق والعصيان، ثم لم يتوبوا عن ذلك ولم يرجعوا عنه، بل ماتوا على الكفر والنفاق.
وقوله: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ.. توبيخ لهم على قسوة قلوبهم، وانطماس بصيرتهم، وغفلتهم عما يدعو إلى الاعتبار والاتعاظ.
أى: أبلغ الجهل والسفه وعمى البصيرة بهؤلاء، أنهم صاروا لا يعتبرون ولا يتعظون بما حاق من فتن واختبارات وابتلاءات، تنزل بهم في كل عام مرة أو مرتين؟
ومن هذه الفتن والامتحانات: كشف مكرهم عن طريق اطلاع رسول الله ﷺ على ما يضمرونه من سوء، وما يقولونه من منكر، وما يفعلونه من أفعال خبيثة، وحلول المصائب والأمراض بهم، ومشاهدتهم لانتصار المؤمنين وخذلان الكافرين.
قال الآلوسى: والمراد من المرة والمرتين- على ما صرح به بعضهم- مجرد التكثير، لا بيان الوقوع على حسب العدد المذكور.
وقوله: ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ بيان لرسوخهم في الجهل والجحود.
أى: ثم بعد كل هذه الفتن النازلة بهم، لا يتوبون من نفاقهم «ولا هم يذكرون» ويتعظون، بل يصرون على مسالكهم الخبيثة، وأعمالهم القبيحة، مع أن من شأن الفتن والمصائب والمحن، أنها تحمل على الاعتبار والاتعاظ، والرجوع عن طريق الشر إلى طريق الخير.
ثم تصور السورة الكريمة تصويرا معجزا، مشهدهم عند ما تنزل السورة القرآنية على الرسول ﷺ وهم حاضرون في مجلسه فتقول: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أو آيات منها، على الرسول ﷺ وهم موجودون في مجلسه نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ في ريبة ومكر، وتغامزوا بعيونهم وجوارحهم في لؤم وخسة ثم تساءلوا: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أى:
هل يراكم من أحد من المسلمين إذا ما قمتم من هذا المجلس، قبل أن يتلو الرسول ﷺ هذه السورة أو الآيات التي قد تفضحكم وتكشف عما أسررتموه فيما بينكم.
ثُمَّ انْصَرَفُوا من مجلس الرسول ﷺ متسللين في حذر حتى لا يراهم أحد من المسلمين.
431
وقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ذم لهم لإيثارهم الغي على الرشد، والضلالة على الهداية.
أى: صرف الله قلوبهم عن الهداية والرشاد، بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما فيه خيرهم ونفعهم. وإنما يفقهون ما فيه شقاؤهم وتعاستهم.
هذا، وإن الناظر في هذه الآيات الكريمة بتدبر وإمعان، ليراها قد صورت أحوال المنافقين وأخلاقهم وحركاتهم تصويرا دقيقا معجزا، حتى إنه ليخيل إلى القارئ لهذه الآيات الكريمة أو السامع لها، أنه يشاهد المنافقين مشاهدة حسية وهم على تلك الحالة من التحرك المريب والنظرات الخبيثة، والخروج من مجلس النبي ﷺ في حذر وريبة..
وهذا كله مما يشهد بأن هذا القرآن إنما هو من عند الله العليم بخفايا الصدور، وبطوايا النفوس.
ثم ختم- سبحانه سورة التوبة، بآيتين كريمتين، اشتملتا على أسمى النعوت، وأكرم الصفات للرسول ﷺ فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
وجمهور المفسرين على أن الخطاب في قوله- سبحانه-: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ للعرب: فهو كقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.
أى: لقد جاءكم- يا معشر العرب- رسول كريم «من أنفسكم» أى: جنسكم، ومن نسبكم، فهو عربي مثلكم، فمن الواجب عليكم أن تؤمنوا به وتطيعوه.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ترغيب العرب في الإيمان بالنبي ﷺ وفي طاعته وتأييده، فإن شرفهم قد تم بشرفه، وعزهم بعزه، وفخرهم بفخره، وهم في الوقت نفسه قد شهدوا له في صباه بالصدق والأمانة والعفاف وطهارة النسب، والأخلاق الحميدة.
432
قال القرطبي: قوله «من أنفسكم» يقتضى مدحا لنسب النبي ﷺ وأنه من صميم العرب وخالصها، وفي صحيح مسلم عن وائلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قرش بنى هاشم، واصطفاني من بنى هاشم» وعنه ﷺ أنه قال: «إنى من نكاح ولست من سفاح» «١».
وقال الزجاج إن الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم، ومعنى كونه ﷺ «من أنفسكم» أنه من جنس البشر.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح لأن الآية الكريمة ليست مسوقة لإثبات رسالته ﷺ وعمومها، وإنما هي مسوقة لبيان منته وفضله- سبحانه- على العرب، حيث أرسل خاتم أنبيائه منهم، فمن الواجب عليهم أن يؤمنوا به، لأنه ليس غريبا عنهم، وإذا لم يؤمنوا به تكون الحجة عليهم ألزم، والعقوبة لهم أعظم.
وقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أى: شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم، لكونه بعضا منكم فهو يخاف عليكم سوء العاقبة، والوقوع في العذاب.
يقال: عزّ عليه الأمر أى صعب وشق عليه، والعنت المشقة والتعب ومنه قولهم: أكمة عنوت، إذا كانت شاقة مهلكة، والفعل عنت بوزن فرح.
وقوله: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أى: حريص على إيمانكم وهدايتكم وعزتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة.
والحرص على الشيء معناه: شدة الرغبة في الحصول عليه وحفظه.
وقوله: «بالمؤمنين رءوف رحيم» أى: شديد الرأفة والرحمة بكم- أيها المؤمنون- والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع، فهو ﷺ يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين، وفي إزالة كل مكروه عنهم.
قال بعضهم: لم يجمع الله- تعالى- لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي ﷺ فإنه قال «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال عن ذاته- سبحانه- إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
«٢».
ثم انتقل- سبحانه- من خطاب المؤمنين إلى خطابه ﷺ فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ...
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٠١.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٠٢.
433
أى: فإن أعرضوا عن الإيمان بك، وتركوا طاعتك، فلا تبتئس ولا تيأس، بل قل «حسبي الله» أى: هو كافينى ونصيرى «لا إله إلا هو» - سبحانه- «رب العرش العظيم» الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا الله- عز وجل-.
ففي هاتين الآيتين الكريمتين بيان للصفات التي منحها- سبحانه- لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة له ﷺ إلى أن يفوض أمره إلى خالقه فهو- سبحانه- كافيه وناصره.
وبعد فهذه سورة التوبة.
السورة التي احتوت على بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع الإسلامى، والمجتمعات الأخرى.
السورة التي حرضت المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وساقت لهم من وسائل الترغيب في ذلك، ما يجعلهم يقدمون على قتال أعدائهم بصبر وثبات واستبشار.
السورة التي أوجبت على المؤمنين أن تكون محبتهم لله ولرسوله، ولإعلاء كلمة الحق، فوق محبة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال.
السورة التي ذكرت المؤمنين بنصر الله لهم في مواطن كثيرة، وحذرتهم من الغرور بأنفسهم.
والعجب بقوتهم، وأمرتهم بنصرة رسوله في السراء والضراء والعسر واليسر، والمنشط والمكره.
السورة التي أمرت المؤمنين بأن يخلصوا في دفاعهم عن دين الله وعن حرماته وعن مقدساته. وبشرتهم بأنهم إذا فعلوا ذلك، فسوف يغنيهم الله من فضله.
السورة التي فضحت المنافقين، وكشفت عن أساليبهم الخبيثة، ومسالكهم القبيحة، وأقوالهم المنكرة، وأفعالهم الأثيمة، وسجلت عليهم الخزي والعار وحذرت المؤمنين من شرورهم...
السورة التي رسمت أسس التكافل الاجتماعى بين أفراد الأمة الإسلامية، عن طريق مشروعية الزكاة، ووجوب أدائها لمستحقيها.
السورة التي ساقت ألوانا من فضل الله على عباده المؤمنين، حيث تقبل سبحانه توبتهم، وغسل حوبتهم، وتجاوز عن خطئهم.
السورة التي صنفت المجتمع الإسلامى في أواخر العهد النبوي تصنيفا دقيقا.
434
فهناك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهناك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وهناك المرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
وهناك الأعراب المنافقون، وهناك الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة.
وقد بينت السورة الكريمة ما يستحقه كل قسم من الأقسام من ثواب أو عقاب.
السورة التي أوجبت على المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على أساس العقيدة الدينية لا على أساس القرابة الجسدية، فنهتهم أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.
هذا جانب من المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة ونسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا وأن يرزقنا الإخلاص والتوفيق في القول والعمل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد السيد طنطاوى
435
فهرس إجمالى لتفسير سورة الأنفال
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة المقدمة ٥ تمهيد بين يدي السورة ٧ ١ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ٢٣ ٢ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ ٢٩ ٣ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ٣١ ٤ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ٣٢ ٥ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ٣٧ ٦ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ٣٩ ٧ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ٤٠ ٨ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ ٤٢ ٩ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ٤٣ ١٠ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى ٤٨ ١١ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ ٤٨ ١٢ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ ٥٢ ١٣لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
٥٣ ١٤ ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ ٥٤ ١٥ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ٦٠ ١٦ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ٦١ ١٧ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ٦٤ ١٨ ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ٦٦ ١٩ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ٦٧ ٢٠ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ٦٩ ٢١ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا ٧٠ ٢٢ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ٧٠ ٢٣ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً ٧١ ٢٤ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ٧٢ ٢٥ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ٧٥ ٢٦ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ٧٨
437
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٢٧ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ ٨٠ ٢٨ وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
٨٢ ٢٩ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا ٨٣ ٣٠ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ٨٥ ٣١ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ٨٨ ٣٢ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ ٨٩ ٣٣ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ٩١ ٣٤ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ٩٢ ٣٥ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ٩٣ ٣٦ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ ٩٤ ٣٧ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ٩٦ ٣٨ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ ٩٦ ٣٩ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ٩٧ ٤٠ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا ٩٨ ٤١ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ٩٩ ٤٢ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا ١٠٥ ٤٣ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ ١٠٨ ٤٤ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ ١١٠ ٤٥ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً ١١٢ ٤٦ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ١١٢ ٤٧ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا ١١٤ ٤٨ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ١١٦ ٤٩ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ١٢٢ ٥٠ وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ١٢٤ ٥١ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ١٢٥ ٥٢ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ١٢٧ ٥٣ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً ١٣٠ ٥٤ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ١٣١ ٥٥ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ ١٣٢ ٥٦ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ١٣٤ ٥٧ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ١٣٥
438
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٥٨ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ١٣٦ ٥٩ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ١٣٧ ٦٠ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ١٣٨ ٦١ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ١٤٤ ٦٢ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ ١٤٧ ٦٣ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ١٤٨ ٦٤ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ١٤٩ ٦٥ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ١٥١ ٦٦ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ١٥٢ ٦٧ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ ١٥٤ ٦٨ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ١٥٨ ٦٩ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ١٦٠ ٧٠ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ ١٦١ ٧١ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ ١٦٢ ٧٢ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ١٦٥ ٧٣ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ ١٦٨ ٧٤ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ١٦٩ ٧٥ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ ١٦٩
439
فهرس إجمالى لتفسير آيات سورة التوبة
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة/ مقدمة ١٧٦/ تمهيد بين يدي السورة ١٧٧ ١ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ١٩٤ ٢ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ١٩٧ ٣ وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ٢٠١ ٤ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٢٠٣ ٥ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ٢٠٥ ٦ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ٢٠٨ ٧ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ٢١٢ ٨ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ٢١٤ ٩ اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا ٢١٧ ١٠ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ ٢١٧ ١١ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ٢١٨ ١٣ أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا ٢٢١ ١٤ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ٢٢٣ ١٥ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ٢٢٤ ١٦ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ٢٢٥ ١٧ ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ٢٢٦ ١٨ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ ٢٢٨ ١٩ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ٢٣١ ٢٠ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ٢٣٣ ٢١ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ٢٣٤ ٢٢ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ٢٣٤ ٢٣ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ٢٣٥ ٢٤ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ ٢٣٦ ٢٥ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ٢٣٩ ٢٦ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ ٢٤٢ ٢٧ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ٢٤٢
440
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٢٨ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ٢٤٤ ٢٩ قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ٢٤٩ ٣٠ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ٢٥٦ ٣١ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ ٢٦١ ٣٢ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا ٢٦٣ ٣٣ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ٢٦٥ ٣٤ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً ٢٦٧ ٣٥ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ٢٧٠ ٣٦ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ ٢٧٦ ٣٧ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ٢٨١ ٣٨ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا ٢٨٦ ٣٩ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً ٢٩٠ ٤٠ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ٢٩١ ٤١ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا ٢٩٥ ٤٢ لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً ٢٩٩ ٤٣ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ٣٠١ ٤٤ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ٣٠٤ ٤٥ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ٣٠٥ ٤٦ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا ٣٠٦ ٤٧ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ ٣٠٨ ٤٨ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ٣١١ ٤٩ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ٣١٢ ٥٠ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ٣١٣ ٥١ قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا ٣١٤ ٥٢ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا ٣١٤ ٥٣ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ٣١٦ ٥٤ وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ ٣١٧ ٥٥ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ ٣١٨ ٥٦ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ٣٢٠ ٥٧ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ ٣٢١ ٥٨ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ٣٢٢
441
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٥٩ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ٣٢٤ ٦٠ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ٣٢٥ ٦١ ومنهم الذين يؤذون النبي ٣٣٢ ٦٢ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ٣٣٥ ٦٣ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ٣٣٧ ٦٤ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ ٣٣٨ ٦٥ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٣٤٠ ٦٦ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ ٣٤٠ ٦٧ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ ٣٤٣ ٦٨ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ٣٤٤ ٦٩ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا ٣٤٤ ٧٠ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ٣٤٧ ٧١ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ ٣٤٨ ٧٢ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ٣٥٠ ٧٣ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ٣٥١ ٧٤ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ٣٥٣ ٧٥ وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ٣٥٦ ٧٦ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ٣٥٨ ٧٧ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ٣٥٩ ٧٨ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ٣٥٩ ٧٩ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٣٦١ ٨٠ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ٣٦٣ ٨١ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ ٣٦٤ ٨٢ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ٣٦٧ ٨٣ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ ٣٦٨ ٨٤ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ٣٦٩ ٨٥ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ٣٧٢ ٨٦ وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا ٣٧٣ ٨٧ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ ٣٧٤ ٨٨ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ٣٧٥
442
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٨٩ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٣٧٥ ٩٠ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ٣٧٥ ٩١ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ٣٧٨ ٩٢ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ٣٨٠ ٩٣ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ٣٨٢ ٩٤ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ٣٨٣ ٩٥ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ٣٨٤ ٩٦ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ٣٨٤ ٩٧ الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ٣٨٥ ٩٨ وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ٣٨٧ ٩٩ وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ٣٨٨ ١٠٠ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ ٣٩٠ ١٠١ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ٣٩٢ ١٠٢ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ٣٩٥ ١٠٣ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ٣٩٦ ١٠٤ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٣٩٨ ١٠٥ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ٣٩٩ ١٠٦ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ٣٩٩ ١٠٧ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ٤٠١ ١٠٨ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ ٤٠٤ ١٠٩ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى ٤٠٥ ١١٠ لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا ٤٠٦ ١١١ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٤٠٨ ١١٢ التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ ٤١١ ١١٣ ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ٤١٤ ١١٤ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ٤١٥ ١١٥ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ٤١٦ ١١٦ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ٤١٧ ١١٧ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ ٤١٨ ١١٨ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ٤٢١
443
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ١١٩ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا ٤٢٣ ١٢٠ ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ ٤٢٥ ١٢١ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ٤٢٦ ١٢٢ وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ٤٢٦ ١٢٣ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ ٤٢٨ ١٢٤ وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ٤٣٠ ١٢٥ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ٤٣٠ ١٢٦ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي ٤٣١ ١٢٧ وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ ٤٣١ ١٢٨ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ٤٣٢ ١٢٩ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ٤٣٣ تم
بحمد الله
444

[المجلد السابع]

سورة يونس
بسم الله الرّحمن الرّحيم رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) صدق الله العظيم
3

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته الى يوم الدين.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة «يونس» - عليه السلام- حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية وآداب عالية، وهدايات جامعة، وإرشادات حكيمة، وحجج باهرة، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق..
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها، تكون بمثابة التعريف بها، وبمقاصدها الإجمالية.
وأحمد الله- تعالى- أجزل الحمد وأوفاه، أن وفقني قبل ذلك لتفسير سور: الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة»...
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، إنه أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم المؤلف د. محمد سيد طنطاوى
5
تمهيد بين يدي السورة
١- سورة يونس- عليه السلام- هي السورة العاشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور: «الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة».
٢- وكان نزولها بعد سورة «الإسراء».
٣- وعدد آياتها: تسع ومائة آية عند الجمهور. وفي المصحف الشامي مائة وعشر آيات.
٤- وسميت بهذا الاسم تكريما ليونس- عليه السلام- ولقومه الذين آمنوا به واتبعوه قبل أن ينزل بهم العذاب، وفي ذلك تقول السورة الكريمة: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ «١».
٥- وسورة يونس من السور المكية، وعلى هذا سار المحققون من العلماء.
وقيل إنها مكية سوى الآية الأربعين منها وهي قوله- تعالى- وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ والآيتين الرابعة والتسعين، والخامسة والتسعين وهما قوله- تعالى-: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ.
قال صاحب المنار: وقال السيوطي في الإتقان: استثنى منها الآيات ٤٠، ٩٤، ٩٥، فقيل إنها مدنية نزلت في اليهود. وقيل: من أولها إلى رأس أربعين آية مكي، والباقي مدني، حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء.
ثم قال صاحب المنار: وأقول إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية، وهو مما لم نثبت به رواية، وكون المراد بالذين يقرءون الكتاب في الآية (٩٤) اليهود لا يقتضى أن تكون نزلت بالمدينة، وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: أن المراد بالشك فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة، ولذلك قال الرسول
(١) الآية ٩٨.
7
صلى الله عليه وسلم: «لا أشك ولا أسأل»، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري.
وثانيهما: أن هذا المعنى نزل في سورة مكية أخرى، كقوله- تعالى- في سورة الإسراء:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ «١».
وقوله- سبحانه- في سورة الأنبياء: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «٢».
والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة يونس جميعها مكية، كما قال المحققون من العلماء، لأن الذين قالوا بوجود آية أو آيات مدنية فيها لم يأتوا برواية صحيحة تصلح مستندا لهم، ولأن السورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية، فهي تهتم بإثبات وحدانية الله، وبإثبات صدق النبي ﷺ وبإثبات أن هذا القرآن من عند الله، وأن البعث حق، وأن ما أورده المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية، قد تولت السورة الكريمة دحضه بأسلوب منطقي رصين..
والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وخشوع، يراها في مطلعها تتحدث عن سمو القرآن الكريم في هدايته وإحكامه، وعن موقف المشركين من النبي ﷺ ودعوته، وعن الأدلة على وحدانية الله وقدرته.
قال- تعالى-: الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
ثم نراها في الربع الثاني منها تصور بأسلوب حكيم طبيعة الإنسان فتقول وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ الآية ١٢.
ثم تحكى مصارع الظالمين، وأقوالهم الفاسدة، ورد القرآن عليهم فتقول: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.
وبعد أن تمضى السورة الكريمة في دحض أقوال المشركين، وفي بيان الطبائع البشرية، نراها في مطلع الربع الثالث. تصور لنا حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة الضالين، فتقول:
(١) الآية ١٠١. [.....]
(٢) الآية ٧ تفسير المنار ج ١١ ص ١٤١ الطبعة الرابعة- مكتبة القاهرة.
8
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ثم تأمر السورة الكريمة النبي ﷺ أن يسأل المشركين بأسلوب توبيخي عمن يرزقهم من السموات والأرض، وعمن يبدأ الخلق ثم يعيده، وعمن يهدى إلى الحق، فتقول: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.
وبعد أن تتحدى السورة الكريمة المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم. وتعلن عن عجزهم على رءوس الأشهاد، تأخذ في تسلية الرسول ﷺ وفي تصوير جانب من أحوالهم في حياتهم وبعد مماتهم فتقول:
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ...
ثم نراها في الربع الرابع توجه نداء إلى الناس كافة تدعوهم فيه إلى الإقبال على ما جاء به الرسول ﷺ من مواعظ فيها الشفاء لما في الصدور، وفيها الهداية لما في النفوس فتقول:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
ثم تسوق جانبا من مظاهر قدرة الله النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، فتقول: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
وفي مطلع الربع الخامس منها تحكى لنا جانبا من قصة نوح- عليه السلام- مع قومه، وكيف أنه نصحهم، وذكرهم بآيات الله، ولكنهم لم يستمعوا إليه، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان قال- تعالى-:
9
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ.
ثم تحكى لنا جانبا من قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون، ومن المحاورات، والمجادلات التي دارت بينهما، ومن الدعوات المستجابة التي توجه بها موسى إلى خالقه، فتقول: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
ثم نراها في الربع السادس والأخير منها، تحكى لنا ما قاله فرعون عند ما أدركه الغرق، كما تخبرنا عن النهاية الطيبة التي لقوم يونس- عليه السلام- بسبب إيمانهم، ثم تسوق ألوانا من مظاهر قدرة الله، ومن حكمه العادل بين عباده، ومن رعايته لأوليائه ورسله فتقول:
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثم تختم السورة الكريمة بتوجيه نداء إلى الناس تبين لهم فيه أن من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، وأن من ضل فإنما يضل عليها فتقول: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
تلك أهم المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السورة الكريمة، ومنها نرى بوضوح أن السورة الكريمة قد عنيت عناية بارزة بإثبات وحدانية الله وقدرته النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، تارة عن طريق مخلوقاته التي يشاهدونها كما في قوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ....
وتارة عن طريق اعترافهم بأن الله وحده هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما في قوله- تعالى-: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ.
وتارة عن طريق لجوئهم إليه وحده لا سيما عند الشدائد والمحن، كما حدث من فرعون عند ما أدركه الغرق.
كذلك نرى السورة الكريمة قد عنيت بدعوة الناس إلى التدبر والتفكر وإلى الاعتبار بمصارع الظالمين، وإلى عدم التعلق بزخرف الحياة الدنيا..
10
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ. إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
كذلك نرى السورة الكريمة قد اهتمت بالرد على الشبهات التي أثارها المشركون حول القرآن الكريم، وحول البعث وما فيه من ثواب وعقاب...
فأثبتت أن هذا القرآن من عند الله، وتحدتهم أن يأتوا بسورة من مثله فقالت: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
كما أثبتت أن يوم القيامة حق، وأنهم لن ينجيهم من عذاب الله في ذلك اليوم ندمهم أو ما يقدمونه من فداء فقالت: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
هذا، والسورة الكريمة بعد كل ذلك تمتاز بأنها قد عرضت ما عرضت من هدايات وتوجيهات بأسلوب بليغ مؤثر، تقشعر منه الجلود، وتلين منه القلوب، وتخشع له النفوس..
مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم د. محمد سيد طنطاوى
11
Icon