تفسير سورة يونس

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة يونس من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ قال الليث: القدم السابقة قال ذو الرمة:
وأنت امرؤٌ من أهل بيت ذُؤَابةٍ... لهم قدمٌ معروفةٌ ومفاخر
وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شر فهو قدم وقال الأخفش: سابقة إخلاص ﴿يُدَبِّرُ﴾ التدبير القضاء والتقدير على حسب الحكمة ﴿القسط﴾ العدل ﴿حَمِيمٍ﴾ الحميم: الماء الحار الذي سخن بالنار حتى انتهى حره ﴿يُفَصِّلُ﴾ التفصيل: التبيين والتوضيح ﴿مَأْوَاهُمُ﴾ مثواهم ومقامهم ﴿طُغْيَانِهِمْ﴾ الطغيان العلو والارتفاع ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتحيَّرون ﴿خَلاَئِفَ﴾ جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شئونه.
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنكرت الكفار وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، أما وجد الله من يرسله إِلا يتيم أبي طالب؟ فأنزل الله ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿الر﴾ إِشارة إِلى أن هذا الكلام البليغ المعجز، مكوّن من جنس الأحرف التي يتكون منها كلامكم، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب الحكيم، وهي في متناول أيديهم ثم يعجزون عن الإِتيان بمثل آية واحدة منه ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ أي هذه آيات القرآن المُحكْم المبين الذي لا يدخله شك، ولا يعتريه كذب ولا تناقض ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ أي أكان عجباً لأهل مكة إِيحاؤنا إِلى رجلٍ منهم هو محمد عليه السلام؟ والهمزة للإِنكار أي لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة أوحى إِلى رسلهم ليبلغوهم رسالة الله ﴿أَنْ أَنذِرِ الناس﴾ أي أوحينا إِليه بأن خوِف الكفار عذاب النار ﴿وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي وأنْ بَشّرٍ المؤمنين بأنَّ لهم سابقةً ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموا من صالح الأعمال ﴿قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ومع ضوح صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال المشركون: إٍِنَّ محمداً لساحرٌ ظاهر السحر، مبطلٌ فيما يدَّعيه قال البيضاوي: وفيه اعترافٌ من حيث لا يشعرون بأن ما جاء به خارجٌ عن طوق البشر ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أي إنَّ ربكم ومالك أمركم الذي ينبغي أن تفردوه بالعبادة هو الذي خلق الكائنات في مقدار سته أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهنَّ في لمحة ولكنه أراد تعليم العباد التأني والتثبت في الأمور {ثُمَّ استوى عَلَى
533
العرش} استواءً يليق بجلاله من غير تكييفٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل قال ابن كثير: نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، وهو إِمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، والمتبادر إِلى أذهان المشبِّهين منفيٌ عن الله، فإِن الله لا يشبهه شيءٌ من خلقه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، فقد سلك سبيل الهدى وقال أبو السعود: استوى على العرش على الوجه الذي عناه، وهو صفة له سبحانه بلا كيف، منزهاً عن التمكن والاستقرار، وهذا بيانٌ لجلالة ملكه وسلطانه، بعد بيان عظمة شأنه ﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾ أي يدبّر أمر الخلائق على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة قال ابن عباس: لا يشغله في تدبير خلقه أحد ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ أي لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إِلا بعد أن يأذن له في الشفاعة، وفي هذا ردٌّ على المشركين في زعمهم أن الأصنام تشفع لهم ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه﴾ أي ذلكم العظيم الشأن هو ربكم وخالقكم لا ربَّ سواه، فوحّدوه بالعبادة ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي أفلا تتعظون وتعتبرون؟ تعلمون أنه المتفرد بالخلق ثم تعبدون معه غيره ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ أي إِلى ربكم مرجعكم أيها الناس يوم القيامة جميعاً ﴿وَعْدَ الله حَقّاً﴾ أي وعداً من الله لا يتبدّل، وفيه ردٌّ على منكري البعث حيث قالوا
﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي كما ابتدأ الخلق كذلك يعيده ﴿لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط﴾ أي ليجزي المؤمنين بالعدل، ونوفيّهم أجورهم بالجزاء الأوفى ﴿والذين كَفَرُواْ﴾ أي والذين جحدوا بالله وكذبوا رسله ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ أي لهم في جهنم شرابٌ من حيمم، بالغ النهاية في الحرارة ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ أي ولهم عذاب موجع بسبب كفرهم وإِشراكهم قال البيضاوي: والآية كالتعليل لما سبق فإِنه لما كان المقصود من البدء والإِعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إِليه لا محالة ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً﴾ الآية للتنبيه على دلائل القدرة والوحدانية أي هو تعالى بقدرته جعل الشمس مضيئة ساطعة بالنهار كالسراج الوهّاج ﴿والقمر نُوراً﴾ أي وجعل القمر منيراً بالليل وهذا من كمال رحمته بالعباد، ولما كانت الشمس أعظم جرماً خُصَّت بالضياء، لأنه هو الذي له شطوعٌ ولَمعان قال الطبري: المعنى أضاء الشمس وأنار القمر ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ أي قدَّر سيره في منازل وهي البروج ﴿لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ أي لتعلموا أيها الناس حساب الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تُعرف الشهور والأعوام ﴿مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق﴾ أي ما خلق تعالى ذلك عبثاً بل لحكمة عظيمة، وفائدة جليلة ﴿يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي يبيّن الآيات الكونيّة ويوضحها لقوم يعلمون قدرة الله، ويتدبرون حكمته قال أبو السعود: أي يعلمون الحكمة في إِبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على شئون مبدعها جل وعلا ﴿إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار﴾ أي في تعاقبهما يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار
534
فيذهب الليل ﴿وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض﴾ أي وما أوجد فيهما من أصناف المصنوعات ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ أي لآيات عظيمة وبراهين جليلة، على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، لقومٍ يتقون الله ويخافون عذابه ﴿إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي لا يتوقعون لقاء الله أصلاً ولا يخطر ببالهم، فقد أعمتهم الشهوات عن التصديق لما بعد الممات ﴿وَرَضُواْ بالحياة الدنيا﴾ أي رضوا بالدنيا عوضاً من الآخرة، وآثروا الخسيس على النفيس ﴿واطمأنوا بِهَا﴾ أي فرحوا بها وسكنوا إِليها ﴿والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾ أي وهم عن الأدلة المنبثّة في صحائف الأكوان غافلون، لا يعتبرون فيها ولا يتفكرون ﴿أولئك مَأْوَاهُمُ النار﴾ أي مثواهم ومقامهم النار ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي بسبب كفرهم وإِجرامهم، وبعد أن ذكر الله حال الأشقياء أردفه بذكر حال السعداء فقال ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ أي يهديهم إِلى طريق الجنة بسبب إِيمانهم ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ أي تجري من تحت قصورهم الأنهار أو من تحت أسرَّتهم وهم مقيمون في جنات النعيم ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم﴾ أي دعاؤهم في الجنة سبحانك اللهم وفي الحديث
«يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النّفس» أي كلامهم في الجنة تسبيح الله ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ أي وتحية بعضهم بعضاً سلامٌ عليكم كما تحيِّيهم بذلك الملائكة ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤] ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله ربّ العالمين ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير﴾ قال مجاهد: هو دعءا الرجل على نفسه أو ولده إِذا غضب، اللهم أهلكْه، اللهم لا تبارك فيه قال الطبري: المعنى لو يعجل الله إِجابة دعاء الناس في الشر وفيما عليهم فيه مضرَّة، كاستعجاله لهم في الخير بالإِجابة إِذا دعوه به ﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ أي لهلكوا وعُجِّل لهم الموت ﴿فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي فنترك المكذبين بلقائنا الذين لا يؤمنون بالبعث ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي في تمردهم وعتوهم يتردَّدون تحيراً والمعنى: نترك المجرمين ونمهلهم ونفيض عليهم النعم مع طغيانهم لتلزمهم الحجة ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر﴾ أي وإِذا أصاب الإِنسان الضرُّ من مرضٍ أو فقراً ونحو ذلك ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ أي دعانا في جميع الحالات: مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لكشف ذلك الضُر عنه ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ أي فلما أزلنا ما به من ضرّ استمرَّ على عصيانه، ونسي ما كان فيه من الجَهْد والبلاء أو تناساه، وهو عتابٌ لمن يدعو الله عند الضر، ويغفل عنه عند العافية ﴿كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي كما زُيّن لذلك الإِنسان الدعاء عند الضرِّ والإِعراضُ عند الرخاءِ، كذلك زُيّن للمسرفين المتجاوزين الحد في الإِجرام، ما كانوا يعملون من الإِعراض عن الذكر، ومتابعة الشهوات ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ أي ولقد أهلكنا الأمم من قبلكم أيها المشركون لما كفروا وأشركوا وتمادَوا في الغيِّ والضلال ﴿وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ أي جاءوهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقهم {وَمَا
535
كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي وما آمنوا بما جاءتهم به الرسل، أي أنهم ظلموا وما آمنوا فكان سبب إِهلاكهم شيئان: ظلمهم، وعدم إِيمانهم ﴿كذلك نَجْزِي القوم المجرمين﴾ أي مثل ذلك الجزاء - يعني الإِهلاك - نجزي كل مجرم، وهو وعيدٌ لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم﴾ أي ثم استخلفناكم في الأرض يا أهل مكة من بعد إِهلاك أولئك القرون، التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ أي لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنجازيكم على حسب عملكم قال القرطبي: والمعنى: يعاملكم معاملة المختبر إِظهاراً للعدل وقال في التسهيل: معناه ليظهر في الوجود عملكم فتقوم عليكم به الحجة والغرض أن الله تعالى عالمٌ بأعمالهم من قبل ذلك ولكن يختبرهم ليتبيَّن في الوجود ما علمه تعالى أزلاً ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، حال كونها واضحات لا لَبْس فيها ولا إِشكال ﴿قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، ولا يرجون الأجر والثواب ﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ﴾ أي ائت يا محمد بكتابٍ آخر غير هذا القرآن، ليس فيه ما نكرهه من عيب آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، ﴿أَوْ بَدِّلْهُ﴾ بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان سب آلهتنا مدحهم، ومكان الحرام حلالا، وإِنما قالوه على سبيل الاستهزاء والسخرية قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا يا محمد: ائتنا بقرآن غير هذا فيه ما نسألك ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي﴾ أي قل لهم يا محمد ما ينبغي ولا يصح لي أن أغيرّ أو أبدّل شيئاً من قبل نفسي ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ أي لا أتّبع إِلا ما يوحيه إِليَّ ربي، فأنا عبد مأمور، ورسولٌ مبلِّغ، أبلغكم رسالة الله ﴿إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي إِني أخشى إِن خالفت أمره، وبدَّلتُ وحيه، عذاب يومٍ شديد الهَوْل هو يوم القيامة، وهذا كالتعليل لما سبق ﴿قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي قل لهم يا محمد لو شاء الله ما تلوتُ هذا القرآن عليكم، وما تلوته إِلا بمشيئته تعالى، لأنه من عنده وما هو من عندي ﴿وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ أي ولا أعلَمكم به على لساني ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ﴾ أي فقد مكثتُ بين أظهركم زمنا طويلاً، مدة أربعين سنة من قبل القرآن لا أعلمه أنا ولا أتلوه عليكم ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب المعجز ليس إِلا من عند الله؟ قال الإِمام الفخر، إِن الكفار شاهدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أول عمره إِلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله، وأنه طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، ولا تعلَّم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب العظيم، المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وعجز عن معارضته العلماء، والفصحاء، والبلغاء، وكلُّ من له عقل سليم يعلم أن مثل هذا لا يكون إِلا على سبيل الوحي والتنزيل ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ استفهام انكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب والمقصود منه نفي الكذب عن مقامه الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث زعم المشركون أن هذا القرآن من صنع محمد ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ أي كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ
536
المجرمون} أي لا يفوز بالسعادة من ارتكب الإِجرام وكذّب الرسل الكرام ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ بيانٌ لقبائح المشركين أي ويعبدون الأوثان التي هي جمادات لا تقدر على جلب نفعٍ أو دفع ضر ﴿وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله﴾ أي يزعمون أن الأصنام تشفع لهم مع أنها حجارة لا تبصر ولا تسمع ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ ؟ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أتخبرون الله تعالى بشريكٍ أو شفيعٍ كائنٍ في السماوات أو الأرض لا يعلمه جلَّ وعلا، وهو علاّم الغيوب الذي أحاط علمه بجميع الكائنات؟ والاستفهام للتهكم والهزء بهم ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون، وينسبه إِليه المشركون ﴿وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا﴾ أي وما كان الناس إِلا على دين واحد هو الإِسلام من لدن آدم إِلى نوح فاختلفوا في دينهم وتفرقوا شيعاً وأحزاباً قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإِسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعُبدت الأوثان والأصنام فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ أي ولولا قضاء الله بتأخير الجزاء إِلى يوم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي لعُجِّل عقابهم في الدنيا باختلافهم في الدين ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي ويقول هؤلاء الكفرة المعاندون هلاّ أنزل على محمد معجزة من ربه كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ﴾ أي قل لهم أمر الغيب لله وحده ولا يأتي بالآيات إِلا هو وإِنما أنا مبلّغ ﴿فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾ أي فانتظروا قضاء الله بيننا فأنا ممن ينتظر ذلك.
البَلاَغَة: ١ - ﴿الكتاب الحكيم﴾ فعيل بمعنى مفعول أي المُحْكم الذي لا يتطرق إِليه الفساد ولا يعتريه الكذب والتناقض.
٢ - ﴿أَنذِرِ.... وَبَشِّرِ﴾ بينهما طباقٌ.
٣ - ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ كناية عن المنزلة الرفيعة، والعبارةُ غايةٌ في البلاغة لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعطى بها.
٤ - ﴿يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بين كلمتي البدء والإِعادة طباقٌ.
٥ - ﴿لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ فيه التفاتٌ مع الإِضافة إِلى ضمير الجلالة لتعظيم الأمر وتهويله.
٦ - ﴿الشر استعجالهم بالخير﴾ أي كاستعجالهم أو مثل استعجالهم بالخير ففيه تشبيه مؤكد مجمل، وبين الشر والخير طباقٌ.
٧ - ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ في الكلام استعارة تمثيلية حيث شبّه حال العباد مع ربهم بحال رعية مع سلطانها في إِمهالهم للنظر في أعمالهم، واستعير الاسم الدال على المشَّبه به للمشبَّه على سبيل التمثيل والتقريب، ولله المثل الأعلى.
٨ - ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ.
537
فَائِدَة: قال السيوطي في قوله تعالى ﴿جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً﴾ إِن هذه الآية أصلٌ في علم المواقيت، والحساب، والتاريخ، ومنازل القمر.
لطيفَة: قال الحافظ ابن كثير: من قال مقالة صادقاً أو كاذباً فلا بدَّ أن يُنْصَب عليه من الأدلة على برِّه أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإِن الفرق بين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين الضحى وحنْدس الظلماء، قال عبد الله بن سلام: «لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة انجفل الناس (أي تفرق اليهود عنه) فكنت فيمن انجفل، فلما رأيتُه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول» يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلو الجنة بسلام «فقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى من الدلائل قال حسان:
538
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأدلة على فساد عبادة الأوثان، وشبهات المشركين حول الرسالة والقرآن، ذكر هنا أن عادة هؤلاء الأشقياء المكرُ، والجحودُ، والعِنَاد، فإن أصابتهم الشدة تضرّعوا، وإن جاءتهم الرحمة بطروا وكفروا، ثم ضرب تعالى المثل بالحياة الدنيا في الزوال والفناء، ثم عاد إِلى ذكر الأدلة والبراهين، على وحدانية الله ربّ العالمين.
اللغَة: ﴿عَاصِفٌ﴾ العاصف: الريح الشديدة التي تعصف بالأوراق والأشجار، قال الفراء: يقال عصفت الريح وأعصفت أي اشتدت قال الشاعر:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبيِّنةٌ لكان منظرهُ يُنْبيك بالخبر
إِن الرياح إذا ما أعصَفَتْ قَصَفَتْ عيدانَ نجدٍ ولا يَعْبأنَ بالرّتم
﴿الموج﴾ ما ارتفع من الماء فوق البحر، سُمّي موجاً لاضطرابه ﴿زُخْرُفَهَا﴾ الزخرف: كمالُ حسنِ الشيء ونضارتهُ، سُمّي زخرفاً لبهجته ونضارته ﴿تَغْنَ﴾ غني بالمكان إِذا أقام به وعَمره ﴿يَرْهَقُ﴾ يغشى ويعلو يقال: رهقه الذل أي غشيه ﴿قَتَرٌ﴾ القَتر والقترة: الغبار الذي معه سواد قال تعالى ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٤١] أي تعلوها غَبَرة جهنم، وقيل: القَتَر الغبارُ وإن لم يكن معه سواد قال الفرزدق:
متوّجٌ برداء الملك يتبعه موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقَتَرا
﴿زَيَّلْنَا﴾ فرَّقنا وميّزنا ﴿تُؤْفَكُونَ﴾ تصرفون عن الحق إِلى الباطل.
التفسِير: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ﴾ المراد بالناس كفار مكة رُوي أن الله سلّط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإِيمان فلما رحمهم الله بإنزال المطر رجعوا إلى الكفر والعناد والمعنى: وإذا أذقنا هؤلاء المشركين رخاءً بعد شدة، وخصباً بعد جدب أصابهم ﴿إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا﴾ قال مجاهد: استهزاءٌ وتكذيب ﴿قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً﴾ أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ أي إنَّ الملائكة الحفظة يكتبون مكركم ويسجّلون إجرامكم، وفيه تنبيهٌ على أن ما دبَّروه غير خاف على
539
الحفظة فضلاً عن العليم الخبير ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر﴾ أي هو تعالى بقدرته الذي يحملكم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن التي تسير على وجه الماء ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾ أي حتى إذا كنتم في البحر على ظهور هذه السفن ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ فيه التفات أي وجرين بهم بالريح الليِّنة الطرية التي تسيَّر السفن ﴿وَفَرِحُواْ بِهَا﴾ أي فرح الركاب بتلك الريح الطيبة ﴿جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ أي وفجأةً جاءتها الريح الشديدة العاصفة المدمّرة ﴿وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي وأحاطت بهم أمواج البحار من كل جهة ﴿وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أي أيقنوا بالهلاك ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي أخلصوا الدعاء لله وتركوا ما كانوا يعبدون، قال القرطبي: وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إِلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، لانقطاع الأسباب، ورجوعه إلى ربّ الأرباب ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي لئن أنقذتنا من هذه الشدائد والأهوال لنكونن من الشاكرين لك على نعمائك، والعاملين بطاعتك ومرضاتك قال في البحر: ومعنى الإِخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام وغيرها وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان ولكن لأجل العلم بأنهم لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإِيمان الاضطراري ﴿فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي فلما خلّصهم وأنقذهم إذا هم يعملون في الأرض بالفساد والمعاصي قال ابن عباس: يبغون بالدعاء فيدعون غير الله ويعملون بالمعاصي قال تعالى رداً عليهم ﴿ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ﴾ أي وبالُ البغي عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم ﴿مَّتَاعَ الحياة الدنيا﴾ أي تتمتعون في هذه الحياة بالشهوات الفانية، التي تعقبها الحسرات الباقية ﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي مرجعكم بعد الموت إلينا فنجازيكم عليها، وفي هذا وعيدً وتهديد.
والآية الكريمة تمثيلٌ لطبيعة الإِنسان الجحود، لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يرجع إليه إلا وقت الكرب والشدة، فإِذا نجّاه الله من الضيق، وكشف عنه الكرب، رجع إلى الكفر والعصيان، وتمادى في الشرِّ والطغيان. ثم ضرب تعالى مثلاً للحياة الدنيا الزائلة الفانية وقصِّر مدة التمتع بها فقال ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض﴾ أي صفة الحياة الدنيا وحالها العجيبة في فنائها وزوالها، وذهاب نعيمها واغترار الناس بها كمثل مطر نزل من السماء فنبت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض قال ابن عباس: اختلط فنبت بالماء كلُّ لون ﴿مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام﴾ أي مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، والأنعامُ من الكلأ والتبن والشعير ﴿حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا﴾ أي أخذت حسنها وبهجتها ﴿وازينت﴾ أي تزينت بالحبوب والثمار والأزهار، وهو تمثيلٌ بالعروس إِذا تزينت بالحلي والثياب ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ أي وظنَّ أصحابها أنهم متمكنون من الانتفاع بها، محصّلون لثمرتها وغلّتها ﴿أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً﴾ أي جاءها قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إمّا ليلاً وإمّا نهاراً ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً﴾ أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها
540
كالذي حصد بالمناجل ﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس﴾ أي كأنها لم تكن عامرة قائمة على ظهر الأرض قبل ذلك ﴿كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي مثل ما بينا هذا المثل الرائع للحياة الدنيا نبيّن الآيات ونضرب الأمثال لقوم يتفكرون فيعتبرون بهذه الأمثال قال الألوسي: وتخصيصُهم بالذكر لأنهم المنتفعون ﴿والله يدعوا إلى دَارِ السلام﴾ أي يدعو إلى الجنة دار السرور والإِقامة ﴿وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي يوصل من شاء هدايته إلى الطريق المستقيم وهو دين الإِسلام ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ أي للذين أحسنوا بالإِيمان والعمل الصالح لهم الحسنى أي الجنة ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ وهي النظر إلى وجه الله الكريم ﴿وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ أي ولا يغشى وجوههم غبار ولا سواد كما يعتري وجوه أهل النار ﴿وَلاَ ذِلَّةٌ﴾ أي هوانٌ وصغار ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ أي والذين عملوا السيئات في الدنيا فعصوا الله وكفروا فسيجزون على السيئةِ بمثلها لا يزادون على ذلك، فالحسنات مضاعفة بفضل الله، والسيئات جزاؤها بالمثل عدلاً منه تعالى ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أي تغشاهم ذلة وهوان ﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ أي ليس لهم أحد يعصمهم أو يمنعهم من سخط الله تعالى وعقابه ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً﴾ أي كأنما أُلبست وجوههم من فرط السواد والظلمة قطعاً من ظلام الليل ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي لا يخرجون منها أبداً ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ أي نجمع الفريقين للحساب: المؤمنين والكافرين ثم نقول للذين أشركوا الله ﴿مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ﴾ أي الزموا مكانكم أنتم والذين عبدتموهم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ أي ففرقنا وميزنا بينهم وبين المؤمنين كقوله
﴿وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون﴾ [يس: ٥٩] ﴿وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ أي تبرأ منهم الشركاء وهم الأصنام الذين عبدوهم من دون الله قال مجاهد: يُنطق الله الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون وما أمرناكم بعبادتنا كقوله ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ [البقرة: ١٦٦] ﴿فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي تقول الشركاء للمشركين يوم القيامة: حسبنا الله شاهداً بيننا وبينكم ﴿إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾ أي ما كنا عن عبادتكم لنا إِلا غافلين، لا نسمع ولا نبصر ولا تعقل، لأنا كنا جماداً لا روح فينا ﴿هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ﴾ أي في ذلك الوقت تُختبر كلُّ نفسٍ بما قدمت من خير أو شر، وتنال جزاء ما عملت ﴿وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق﴾ أي ردّوا إلى الله تعالى المتولي جزاءهم بالعدل والقسط ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي ضاع وذهب عنهم ما كانوا يزعمونه م أن الأوثان تشفع لهم، وفي الآية تبكيتٌ شديدٌ للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنهم شيئاً ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض﴾ في هذه الآيات الأدلةُ على وحدانية الله وربوبيته أي قل يا محمد
541
لهؤلاء المشركين من ينزل لكم الغيث والقطر، ويخرج لكم الزروع والثمار؟ ﴿أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار﴾ أي من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم، التي تسمعون وتبصرون بها؟ ومن يستطيع أن يردها لكم إذا أراد الله أن يسلبكموها؟ كقوله
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦] الآية ﴿وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ ؟ أي من يخرج الإِنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحبة، والنبات من الأرض، والمؤمن من الكافر؟ ﴿وَمَن يُدَبِّرُ الأمر﴾ أي ومن يدبّر أمر الخلائق، ويصرِّف شئون الكائنات؟ ﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾ أي فسيقرون بأن فاعل ذلك كلِّه هو الله ربُّ العالمين، إذ لا مجال للمكابرة والعناد لغاية وضوحه ﴿فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي قل لهم يا محمد أفلا تخافون عقابه ونقْمته بإِشراككم وعبادتكم غير الله؟ ﴿فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق﴾ أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو ربكم الحق، الثابت ربوبيتُه ووحدانيتُه بالبراهين القاطعة ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ استفهام انكاري أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ أي فكيف تُصرفون عن عبادة الله، إلى عبادة ما لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت؟ ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي كذلك وجب قضاء الله وحكمه السابق ﴿عَلَى الذين فسقوا﴾ أي على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لأنهم لا يصدّقون بوحدانية الله ورسالة نبيّه، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب لشقاوتهم وضلالتهم ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي قل لهم يا محمد على جهة التوبيخ والتقريع: هل من الأوثان والأصنام من ينشيء الخلق من العدم ثم يفنيه، ثم يعيده ويحييه؟ قال الطبري: ولما كانوا لا يقدرون على دعوى ذلك، وفيه الحجة القاطعة، والدلالة الواضحة على أنهم في دعوى الأرباب كاذبون مفترون، أُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجواب ﴿قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ويبدأ ويُعيد، وليس أحدٌ من هؤلاء الآلهة المزعومة يفعل ذلك ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟ ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق﴾ توبيخٌ آخر في صورة استفهام أي قل لهؤلاء المشركين هل من هذه الآلهة التي تعبدونها من يرشد ضالاً؟ أو يهدي حائراً؟ أو يدل على طريق الحق وسبيل الاستقامة؟ ﴿قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ أي فقل لهم: إن عجزتْ آلهتكم عن ذلك فالله هو القادر على هداية الضالّ، وإنارة السبيل، وبيان الحق ﴿أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى﴾ أي أفمن يرشد إِلى الحق وهو سبحانه وتعالى أحقُّ بالاتباع أم هذه الأصنام التي لا تهدي أحداً؟ ولا تستطيع هداية نفسها فضلاً عن هداية غيرها؟ ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ أي ما لكم أيها المشركون تسوّون بين الأصنام وبين ربّ الأرباب، وتحكمون بهذا الباطل الصُراح؟ وهو استفهام معناه التعجب والإِنكار، ثم بيّن تعالى فساد نحلتهم بعد أن أفحمهم بالبراهين النيرة التي توجب التوحيد وتبطل التقليد فقال ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً﴾ أي وما يتبعون في اعتقادهم ألوهية الأصنام، إلا اعتقاداً غير
542
مستند لدليل أو برهان، بل مجرد أوهام باطلة، وخرافات فاسدة ﴿إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ أي ومثل هذا الاعتقاد المبني على الأوهام والخيالات، ظنٌ كاذب لا يغني من اليقين شيئاً، فليس الظنُّ كاليقين ﴿إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أي عالمٌ بما هم عليه من الكفر والتكذيب، وهو وعيدٌ على اتباعهم للظنّ، وإعراضهم عن البرهان، ثم بيَّن تعالى صدق النبوة والوحي فقال ﴿وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله﴾ أي لا يصح ولا يعقل، ولا يستقيم لذي عقل سليم، أن يزعم أن هذا القرآن مفترى مكذوب على الله، لأنه فوق طاقة البشر ﴿ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي ولكنّه جاء مصدقاً لما قبله من الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل ﴿وَتَفْصِيلَ الكتاب﴾ أي وفيه تفصيلُ وتبيينُ الشرائع والعقائد والأحكام ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين﴾ أي لا شك في أنه تنزيل ربّ العالمين ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرآن من قبل نفسه؟ وهو استفهام معناه التقريع ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ أي إِن كان كما زعمتم فجيئوا بسورةٍ مثل هذا القرآن، وهو تعجيزٌ لهم وإقامة حجة عليهم ﴿وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله﴾ أي ادعوا من دونه تعالى من استطعتم من خلقه، من الإِنس والجن للاستعانة بهم ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي إن كنتم صادقين في أن محمداً افتراه قال الطبري: والمراد أنك إن لم تفعلوا فلا شك أنكم كذبة، لأن محمداً لن يَعْدو أن يكون بشراً مثلكم، فإذا عجز الجميعُ من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثلِه، فالواحد منهم أن يأتي بجميعه أعجز، قال تعالى ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ﴾ أي بل كذب هؤلاء المشركون بالقرآن العظيم، وساروا إلى الطعن به قبل أن يفقهوه ويتدبروا ما فيه، والناس دائماً أعداء لما جهلوا ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي والحال لم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الوعيد ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي مثل تكذيب هؤلاء كذبت الأمم الخالية قبلهم ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين﴾ أي فانظر يا محمد كيف أخذهم الله بالعذاب والهلاك بسبب ظلمهم وبغيهم، فكما فعل بأولئك يفعل بهؤلاء الظالمين الطاغين.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَسْرَعُ مَكْراً﴾ تسمية عقوبة اله مكراً من باب «المشاكلة».
٢ - ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وحكمته زيادة التقبيح والتشنيع على الكفار لعدم شكرهم النعمة.
٣ - ﴿أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا﴾ هذا من بديع الاستعارة شبّه الأرض حينما تتزين بالنبات والأزهار بالعروس التي تتزين بالحليّ والثياب واستعير لتلك البهجة والنضارة لفظ الزخرف.
٤ - ﴿أَتَاهَآ أَمْرُنَا﴾ الأمر هاهنا كناية عن العذاب والدمار.
٥ - ﴿أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ بينهما جناس الإِشتقاق.
٦ - ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل﴾ فيه تشبيه مرسلٌ مجمل.
٧ - ﴿يَبْدَأُ... ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بينهما طباقٌ.
٨ - ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ الاستفهام للتوبيخ، ومثله ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾.
543
٩ - ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ استعارة لطيفة والمراد لما سبقه من التوراة والإِنجيل فإِنها قد بشرت به.
لطيفَة: يقول شهيد الإِسلام «سيد قطب» في تفسيره الظلال: «ما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزقٍ بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحياناً في الخير، ويستخدمونه أحياناً في الشر، حسبما تَسْلَم عقائدهم أو تعتل، وكلُّه من رزق الله المسخّر للإِنسان، فمن سطح الأرض أرزاق، ومن جوفها أرزاق، ومن سطح الماء أرزاق، ومن أعماقه أرزاق، ومن أشعة الشمس أرزاق، ومن ضوء القمر أرزاق، حتى عفن الأرض كشف فيه العلم عن دواء وترياق» وصدق الله ﴿مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض﴾ ؟
544
ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ ﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡﰢﰣﰤ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﰿ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن الكافرين طعنهم في أمر النبوة والوحي، ذكر هنا أنَّ منهم من يصدِّق بأن القرآن كلام الرحمن، ولكنه يكابر ويعاند، ومنهم من لا يصدّق به أصلاً لفرط غباوته، وسخافة عقله، واختلال تمييزه... ثم ذكر تعالى أن القرآن شفاء لما في الصدور، وأعقبه بذكر مآل المشركين في الآخرة.
اللغَة: ﴿الصم﴾ جمع أصمّ وهو الذي لا يسمع ﴿بَيَاتاً﴾ ليلاً ﴿تُفِيضُونَ﴾ يقال أفاض فلانٌ في الحديث إذا اندفع فيه ﴿يَعْزُبُ﴾ يخْفى ويغيب ﴿مِّثْقَالِ﴾ وزن ﴿سُلْطَانٍ﴾ حجة وبرهان ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيهٌ لله جل وعلا عن النقائص.
التفسِير: ﴿وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ أي ومن هؤلاء الذين بعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أُرسلت به ﴿وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ بل يموت على ذلك ويُبعث عليه ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين﴾ أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ أي وإن كذَّبك هؤلاء المشركون فقل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً ﴿أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ أي يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وقلوبهم لا تعي شيئاً مما تقرؤه وتتلوه ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم﴾ ؟ أي أنت يا محمد لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع ﴿وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي ولو كانوا من الصمم لا يعقلون ولا يتدبرون؟ قال ابن كثير: المعنى ومن هؤلاء من يسمعون كلام الحسن، والقرآن النافع، ولكنْ
545
ليس أمر هدايتهم إليك، فكما لا تقدر على إسماع الأصم فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ أي ومن هؤلاء من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة، ولكنّهم عميٌ لا ينتفعون بما رأوا، أفأنت يا محمد تقدر على هدايتهم ولو كانوا عُمي القلوب؟ شبّههم بالعُمْي لتعاميهم عن الحق، قال القرطبي: والمراد تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفّق هؤلاء للإِيمان ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾ أي لا يعاقب أحداً بدون ذنب، ولا يفعل بخلقه ما لا يستحقون ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي ومخالفة أمر الله قال الطبري: وهذا إعلامٌ من الله بأنه لم يسلب هؤلاء الإِيمان ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم، وإنما سلبهم ذلك لذنوب اكتسبوها، فحقَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار﴾ أي اذكر يوم نجمع هؤلاء المشركين للحساب كأنهم ما أقاموا في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، لهول ما يرون من الأهوال ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ أي يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدنيا، وهو تعارف توبيخ وافتضاح، يقول الواحد للآخر: أنت أغويتني وأضللتني، وليس تعارف محبة ومودّة ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي لقد خسر حقاً هؤلاء الظالمون الذين كذبوا بالبعث والنشور، وما كانوا موفَّقين للخير في هذه الحياة ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ أي إن أريناك يا محمد بعض عذابهم في الدنيا لتقرَّ عينك منهم فذاك، وإن توفيناك قبل ذلك فمرجعهم إلينا في الآخرة، ولا بدَّ من الجزاء إن عاجلاً أو آجلاً ﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ﴾ أي هو سبحانه شاهدٌ على أفعالهم وإجرامهم ومعاقبهم على ما اقترفوا ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾ أي ولكل أمة من الأمم رسولٌ أُرسل لهدايتهم ﴿فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط﴾ قال مجاهد: يعني يوم القيامة قُضِي بينهم بالعدل قال ابن كثير: فكلُّ أمة تُعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر شاهدٌ عليها، وحفظتُهم من الملائكة شهود أيضاً ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي لا يُعذبون بغير ذنب ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي ويقول كفار مكة متى هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت صادقاً؟ وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ أي لا استطيع أن أدفع عن نفسي ضراً، ولا أجلب إليها نفعاً، وليس ذلك لي ولا لغيري ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي إِلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم به من العذاب! ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ أي لكل أمة وقتٌ معلوم لهلاكهم وعذابهم ﴿إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي فإِذا جاء أجل هلاكهم فلا يمكنهم أن يستأخروا عنه ساعة فيمهلون ويؤخرون، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن قضاء الله واقع في حينه ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً﴾
546
أي قل لأولئك المكذبين أخبروني إن جاءكم عذاب الله ليلاً أو نهاراً فما نفعكم فيه؟ ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ استفهام معناه التهويل والتعظيم أي ما أعظم ما يستعجلون به؟ كما يقال لمن يطلب أمراً وخيماً: ماذا تجني على نفسك ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ في الكلام حذفٌ تقديره: أتؤخرون إلى أن تؤمنوا بها وإذا وقع العذاب وعاينتموه فما فائدة الإِيمان وما نفعكم فيه، إذا كان الإِيمان لا ينفع حينذاك، قال الطبري: المعنى أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيه التصديق ﴿الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي يقال لكم أيها المجرمون: الآن تؤمنون وقد كنتم قبله تهزءون وتسخرون وتستعجلون نزول العذاب؟ ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد﴾ أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا زوال له ولا فناء ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أي هل تُجزون إلا جزاء كفركم وتكذيبكم؟ ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾ أي ويستخبرونك يا محمد فيقولون: أحقٌ ما وعدتنا به من العذاب والبعث؟ ﴿قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ أي قل نعم والله إنه كائن لا شك فيه ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي لستم بمعجزين الله بهربٍ أو امتناع من العذاب بل أنتم في قبضته وسلطانه ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض﴾ أي لو أن لكل نفسٍ كافرةٍ ما في الدنيا جميعاً من خزائنها وأموالها، ومنافعها قاطبة ﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ أي لدفعته فدية لها من عذاب الله ولكنْ هيهات أن يُقبل كما قال تعالى
﴿فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١] ثم قال تعالى مخبراً عن أسفهم وندمهم ﴿وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ أي أخفى هؤلاء الظلمة الندم لما عاينوا العذاب قال الإِمام الجلال: أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعبير ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط﴾ أي قُضي بين الخلائق بالعدل ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً، ولا يُعاقبون إلا بجريرتهم ﴿ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ «أَلاَ» كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام أي انتبهوا لما أقول لكم فكل ما في السماوات والأرض ملكٌ لله، لا شيء فيها لأحدٍ سواه، هو الخالق وهو المالك ﴿أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي إن وعده بالبعث والجزاء حقٌ كائن لا محالة ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ولكنَّ أكثر الناس لقصور عقولهم، واستيلاء الغفلة عليهم، لا يعلمون ذلك فيقولون ما يقولون ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي هو سبحانه المحيي والمميتُ، وإِليه مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم ﴿ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ خطابٌ لجميع البشر أي قد جاءكم هذا القرآن العظيم الذي هو موعظةٌ لكم من خالقكم ﴿وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور﴾ أي يشفي ما فيها من الشك والجهل ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وهداية من الضلال ورحمة لأهل الإِيمان قال صاحب الكشاف: المعنى قد جاءكم كتابٌ جامعٌ لهذه الفوائد العظيمة من الموعظة، والتنبيه على
547
التوحيد، ودواء الصدور من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق، ورحمة لمن آمن به منكم ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ قال ابن عباس: فضل الله القرآن، ورحمته الإِسلام والمعنى: ليفرحوا بهذا الذي جاءهم من الله، من القرآن والإِسلام، فإِنه أولى ما يفرحون به ﴿هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي هو خيرٌ مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية، والنعيم الزائل، فإِن الدنيا بما فيها لا تساوي جناح بعوضة كما ورد به الحديث الشريف ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ﴾ خطابٌ لكفار العرب والمعنى: أخبروني أيها المشركون عما خلقه الله لكم من الرزق الحلال ﴿فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً﴾ أي فحرَّمتم بعضه وحلَّلتم بعضه كالبحيرة، والسائبة، والميتة قال ابن عباس: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب، والحرث والأنعام ﴿قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾ أي قل لهم يا محمد أخبروني: أحصل إذنٌ من الله لكم بالتحليل والتحريم، فأنتم فيه ممتثلون لأمره، أم هو مجرد افتراء وبهتان على ذي العزة والجلال؟ ﴿وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة﴾ أي وما ظنُّ هؤلاء الذين يتخرصون على الله الكذب فيحلون ويحرمون من تلقاء أنفسهم، أيحسبون أن الله يصفح عنهم ويغفر يوم القيامة؟ كلاَّ بل سيصليهم سعيراً، وهو وعيدٌ شديد للمفترين ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ أي لذو إنعام عظيم على العباد حيث رحمهم بترك معاجلة العذاب، وبالإِنعام عليهم ببعثة الرسل وإنزال الكتب ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي لا يشكرون النعم بل يجحدون ويكفرون ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ الخطابُ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي ما تكون يا محمد في أمر من الأمور، ولا عملٍ من الأعمال ﴿وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ﴾ أي وما تقرأ من كتاب الله شيئاً من القرآن ﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾ أي ولا تعملون أيها الناس من خير أو شر ﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي إلا كنا شاهدين رقباء، نحصي عليكم أعمالكم حين تندفعون وتخوضون فيها ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ﴾ أي ما يغيب ولا يخفى على الله ﴿مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ أي من وزن هباءة أو نملة صغيرة في سائر الكائنات أو الموجودات ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إلا وهو معلوم لدينا ومسجَّل في اللوح المحفوظ قال الطبري: والآية خبرٌ منه تعالى أنه لا يخفى عليه أصغر الأشياء وإن خفَّ في الوزن، ولا أكبرها وإن عظم في الوزن، فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربكم، فإنّا محصوها عليكم ومجازوكم بها ﴿ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي انتبهوا أيها الناس واعلموا أن أحباب الله وأولياءه لا خوف عليهم في الآخرة من عذاب الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا، ثم بيّن تعالى هؤلاء الأولياء فقال ﴿الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ أي الذين صدّقوا الله ورسوله، وكانوا يتقون ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالوليُّ هو المؤمن التقيُّ وفي الحديث
«إن لله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداءَ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلَّنا نحبُّهم، قال: هم قومٌ تحابّوا
548
في الله، على غير أرحامٍ بيْنهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى منابرَ من نور، لا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ﴿ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله....﴾ »
﴿لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة﴾ أي لهم ما يسرهم في الدارين، حيث تبشرهم الملائكة عند الاحتضار برضوان الله ورحمته، وفي الآخرة بجنان النعيم والفوز العظيم كقوله ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠] ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ أي لا إخلاف لوعده ﴿ذلك هُوَ الفوز العظيم﴾ أي هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والظفر بالمقصود الذي لا يُضاهى ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ أي لا يحزنك ولا يؤلمك يا محمد تكذيبهم لك وقولهم: لستَ نبياً مرسلاً، ثم ابتدأ تعالى فقال ﴿إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ أي القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، لله وحده، فهو ناصرك ومانعك ومعينك، وهو المنفرد بالعزّة يمنحها أولياءه، ويمنعها أعداءه ﴿هُوَ السميع العليم﴾ أي السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم ﴿ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض﴾ أي الجميع له سبحانه عبيداً وملكاً وخلقاً ﴿وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ﴾ أي وما يتبع هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله آلهة على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع، وهي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ أي ما يتبعون إلا ظناً باطلاً ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١١٦] أي يَحدْسون ويكذبون، يظنون الأوهام حقائق ﴿هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ تنبيهٌ على القدرة الكاملة والمعنى من دلائل قدرته الدالة على وحدانيته، أن جعل لكم أيها الناس الليل راحةً لأبدانكم تستريحون فيه من التعب والنصب في طلب المعاش ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ أي وجعل النهار مضيئاً تبصرون فيه الأشياء لتهتدوا إلى حوائجكم ومكاسبكم ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي لعلامات ودلالات على وحدانيَّة الله، لقوم يسمعون سمع اعتبار، ثم نبّه تعالى على ضلال اليهود والنصارى والمشركين فقال ﴿قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ أي نسب اليهود والنصارى لله ولداً فقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، كما قال كفار مكة: الملائكة بناتُ الله ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ الغني﴾ أي تنزَّه الله وتقدّس عما نسبوا إليه فإِنه المستغني عن جميع الخلق، فإن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتفٍ عنه ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي الجميع خلقه وملكه ﴿إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ﴾ أي ما عندكم من حجة بهذا القول ﴿أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أتفترون على الله وتكذبون بنسبه الشريك والولد؟ وهو توبيخ وتقريع على جهلهم.
﴿قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ﴾ أي كل من كذب على الله لا يفوز ولا ينجح ﴿مَتَاعٌ فِي الدنيا﴾ أي متاعٌ قليل في الدنيا يتمتعون به مدة حياتهم {ثُمَّ إِلَيْنَا
549
مَرْجِعُهُمْ} أي ثم معادهم ورجوعهم إلينا للجزاء والحساب ﴿ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ أي ثم في الآخرة نذيقهم العذاب الموجع الأليم بسبب كفرهم وكذبهم على الله.
البَلاَغَة: ١ - ﴿مَّن يُؤْمِنُ بِهِ.... ومَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ بينهما طباقٌ السلب.
٢ - ﴿تُسْمِعُ الصم... تَهْدِي العمي﴾ الصُّمُ والعميُ مجازٌ عن الكافرين شبههم بالصُّم والعمي لتعاميهم عن الحق.
٣ - ﴿ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ بينهما طباقٌ وكذلك بين ﴿بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً﴾ وبين ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وبين ﴿يَسْتَقْدِمُونَ... ويَسْتَأْخِرُونَ﴾.
٤ - ﴿شِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور﴾ مجاز مرسل أطلق المحلَّ وأراد الحالَّ أي شفاءٌ للقلوب لأن الصدور محلُّ القلوب.
٥ - ﴿حَرَاماً وَحَلاَلاً﴾ بينهما طباق.
٦ - ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ قال في تلخيص البيان: هذه استعارة عجيبة، سمّى النهار مبصراً لأن الناس يبصرون فيه، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له على طريق المبالغة كما قالوا: ليلٌ أعمى وليلةٌ عمياء إذا لم يبصر الناس فيها شيئاً لشدة إظلامها.
٧ - ﴿أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ استفهام توبيخ وتقريع.
فَائِدَة: أمر تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في هذه السورة ﴿قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ وفي سورة سبأ ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ ﴿زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [الآية: ٧] ذكره ابن كثير.
تنبيه: كلمة «أرأيتَ» تستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية، أو العلمية، وهذا أصل وضعها ثم استعملت بمعنى «أخبرني» فيقولون: أرأيت ذلك الأمر أي أخبرني عنه، والرؤية إما بصرية أو علمية والتقدير: أأبصرت حالته العجيبة، أو أعرفت أمره العجيب؟ فأخبرني عنها، ولذا لم تستعمل في غير الأمر العجيب، ﴿أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين﴾ ؟ ﴿أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى﴾ [العلق: ٩ - ١٠] ؟ وهكذا.
550
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكفار مكة، ذكر هنا بعض قصص الأنبياء، تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأسى بهم فيهون عليه ما يلقاه من الشدائد والمكاره، وقد ذكر تعالى هنا ثلاث قصص: ١ - قصة نوح عليه السلام مع قومه ٢ - قصة موسى وهارون مع الطاغية فرعون ٣ - قصة يونس مع قومه، وفي كل قصة عبرةٌ لمن اعتبر، وذكرى لمن تدبر.
اللغَة: ﴿كَبِرَ﴾ قال الواحدي: كَبِرَ يكْبَرُ كِبَراً في السنِّ، وكبُر الأمرُ والشيءُ يكبُرُ كُبْراً وكُبَارةً إِذا عَظُم ﴿غُمَّةً﴾ الإِجماع: الإِعداد والعزيمة على الأمر وأنشد الفراء:
يا ليتَ شعري والمُنَى لا ينفعُ هلْ أغدْونْ يوماً وأمري مُجْمعُ
﴿فأجمعوا﴾ مبهماً من قولهم غُمَّ علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس واستتر قال طَرفة:
لعمرك ما أمري عليَّ بِغُمَّةٍ نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَد
﴿نَطْبَعُ﴾ نختم ﴿تَلْفِتَنَا﴾ تصرفنا وتلوينا واللفت: الصرف عن أمر وأصله الليُّ يقال لفت عنقه إِذا لواها ﴿الكبريآء﴾ العظمة والملك والسلطان ﴿عَالٍ﴾ عاتٍ متكبر ﴿المسرفين﴾ المجاوزين الحد
551
في الضلال والطغيان ﴿اطمس﴾ الطمسُ: المسخ قال الزجاج: طمسُ إِذهابه عن صورته ومنه عينٌ مطموسة.
التفسِير: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾ أي اقرأ يا محمد على المشركين من أهل مكة خبر أخيك نوحٍ مع قومه المكذبين ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ﴾ أي حين قال لقومه الجاحدين المعاندين يا قوم إِن كان عظمُ وشقَّ عليكم ﴿مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله﴾ أي طولُ مقامي ولبثي فيكم، وتخويفي إِياكم بآيات ربكم، وعزمتم على قتلي طردي ﴿فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ﴾ أي على الله وحده اعتمدت، وبه وثقت فلا أبالي بكم ﴿فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ أي فاعزموا أمركم وادعوا شركاءكم، ودبّروا ما تريدون لمكيدتي ﴿ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ أي لا يكن أمركم في شأني مستوراً بل مكشوفاً مشهوراً، ﴿ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ﴾ أي أَنْفذوا ما تريدونه في أمري ولا تؤخروني ساعة واحدة، قال أبو السعود: وإِنما خاطبهم بذلك إِظهاراً لعدم المبالاة، وثقةً بالل وبوعده من عصمته وكلاءته ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ﴾ أي فإِن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري فليس لأني طلبت منكم أجراص حتى تمتنعوا، بل لشقاوتكم وضلالكم ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ أي ما أطلب ثواباً أو جزاءً على تبليغ الرسالة إِلا من الله، وما نصحتكم إلا لوجه الله لا لغرضٍ من أغراض الدنيا ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ أي من الموحدين لله تعالى ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك﴾ أي فأصروا واستمروا على تكذيب نوح فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ﴾ أي جعلنا من معه من المؤمنين سكان الأرض وخلفاً ممن غرق ﴿وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي أغرقنا المكذبين بالطوفان ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ أي انظر يا محمد كيف كان نهاية المكذبين لرسلهم؟ والغرض: تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتحذير لكفار مكة أن يحل بهم ما حلَّ بالسابقين ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ﴾ أي أرسلنا من بعد نوح رسلاً إِلى قومهم يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإِبراهيم وشعيباً ﴿فَجَآءُوهُمْ بالبينات﴾ أي بالمعجزات الواضحات ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾ أي ما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به الرسل، ولم يزجرهم عقاب السابقين ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين﴾ أي كذلك نختم على قلوب المجاوزين الحدَّ في الكفر والتكذيب والعناد ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي بعثنا من بعد أولئك الرسل والأمم موسى وهارون إِلى فرعون وأشراف قومه ﴿بِآيَاتِنَا﴾ أي بالبراهين والمعجزات الباهرة، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف
﴿فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٣٣] أي تكبروا عن الإِيمان بها وكانوا مفسدين، تعوّدوا الإِجرام وارتكاب الذنوب العظام ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي فلما وضح لهم الحق الذي جاءهم به موسى من اليد والعصا قالوا لفرط عتوهم وعنادهم: هذا سحرٌ ظاهرٌ بيِّن أراد به موسى أن يسحرنا ﴿قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتقولون عن هذا الحق إِنه سحرٌ؟ ثم أنكر عليهم أيضاً باستفهام آخر ﴿أَسِحْرٌ هذا﴾ أي أسحرٌ هذا الذي جئتكم به؟ ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون﴾ أي والحال أنه لا
552
يفوز ولا ينجح الساحرون ﴿قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أي أجئتنا لتصرفنا وتلوينا عن دون الآباء والأجداد؟ ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض﴾ أي يكون لك ولأخيك هارون العظمة والملك والسلطان في أرض مصر ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي ولسنا بمصدقين لكما فيما جئتما به ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ أي ائتوني بكل ساحر ماهر، عليمٍ بفنون السحر ﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ في الكلام محذوف تقديره فأتوه بالسحرة فلما جاءوا قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم ﴿فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾ أي ما جئتم به الآن هو السحرُ لا ما اتهمتموني به ﴿إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ أي سيمحقه وسيذهب به ويظهر بطلانه للناس ﴿إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين﴾ أي لا يصلح عمل من سعى بالفساد ﴿وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ﴾ أي يثبت الله الحق ويقوّيه بحججه وبراهينه ﴿وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾ أي ولو كره ذلك الفجرة الكافرون ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ أي فما آمن مع موسى ولا دخل في دينه، مع مشاهدة تلك الآيات الباهرة إِلا نفرٌ قليلٌ من أولاد بني إِسرائيل قال مجاهد: هم أولاد الذين أُرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم ﴿على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ أي على تخوف وحذر من فرعون وملأه أن يعذبهم ويصرفهم عن دينهم ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض﴾ أي عاتٍ متكبر مفسد في الأرض ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين﴾ أي المتجاوزين الحدَّ بادعاء الربوبية ﴿وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله﴾ أي قال لقومه لما رأى تخوف المؤمنين من فرعون يا قوم إِن كنتم صدقتم بالله وبآياته ﴿فَعَلَيْهِ توكلوا﴾ أي على الله وحده اعتمدوا فإِنه يكفيكم كل شرٍّ وضُرّ ﴿إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ أي إِن كنتم مستسلمين لحكم الله منقادين لشرعه ﴿فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا﴾ أي أجابوا قائلين: على ربنا اعتمدنا وبه وثقنا ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ أي لا تسلّطهم علينا حتى يعذبونا ويفتتنوا بنا فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين﴾ أي خلِّصنا وأنقذنا بفضلك وإِنعامك من كيد فرعون وأنصاره الجاحدين ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً﴾ أي اتخذا لهم بيوتاً للصلاة والعبادة ﴿واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ اي اجعلوها مصلّى تصلون فيها عند الخوف قال ابن عباس: كانوا خائفين فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ أي أدوا الصلاة المفروضة في أوقاتها، بشروطها وأركانها على الوجه الأكمل ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ أي بشّر يا موسى أتباعك المؤمنين بالنصر والغلبة على عدوهم ﴿وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا﴾ أي قال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم، زينةً من متاع الدنيا وأثاثها، وأنواعاً كثيرة من المال ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ﴾ اللام لامُ العاقبة أي آتيتهم تلك الأموال الكثيرة لتكون عاقبة أمرهم إِضلال الناس عن
553
دينك، ومنعهم عن طاعتك وتوحيدك ﴿رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ﴾ دعاءٌ عليهم أي أهلكْ أموالهم يا ألله وبدِّدْها ﴿واشدد على قُلُوبِهِمْ﴾ أي قسِّ قلوبهم واطبع عليها حتى لا تنشرح للإِيمان قال ابن عباس: أي امنعهم الإِيمان ﴿فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ دعاءٌ عليهم بلفظ النفي أي اللهمَّ فلا يؤمنوا حتى يذوقوا العذاب المؤلم ويوقنوا به حيث لا ينفعهم ذلك، وإِنما دعا عليهم موسى لطغيانهم وشدة ضلالهم، وقد علم بطريق الوحي أنهم لن يؤمنوا فدعا عليهم قال ابن عباس: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن فنسبت الدعوة إِليهما ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ أي قال تعالى قد استجبتُ دعوتكما على فرعون وأشراف قومه ﴿فاستقيما﴾ أي اثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة إِلى الله وإِلزام الحجة ﴿وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا تسلكا سبيل الجهلة في الاستعجال أو عدم الاطمئنان بوعد الله تعالى، قال الطبري: رُوي أنه مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ثم أغرق الله فرعون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ﴾ تقديم ما حقه التأخير لإِفاده الحصر أي على الله لا على غيره.
٢ - ﴿وَيُحِقُّ الحق﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٣ - ﴿لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ عبَّر عن الالتباس والستر بالغُمة بطريق الاستعارة أي لا يكن أمركم مغطّى تغطية حيرة ومبهما فيكون كالغمة العمياء.
٤ - ﴿واشدد على قُلُوبِهِمْ﴾ الشدُّ استعارةٌ عن تغليظ العقاب، ومضاعفة العذاب.
تنبيه: قال ابن كثير: دعوة موسى على فرعون كانت غضباً لله ولدينه كما دعا نوح على قومه فقال ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧] ولهذا استجاب الله لموسى دعوته التي شاركه فيها أخوه هارون، كما استجاب دعوة نوح عليه السلام.
554
المنََاسَبةَ: لّما ذكر تعالى دعاء موسى على فرعون لطغيانه، ذكر هنا ما حدث لفرعون وجنوده من الإِغراق في البحر نتيجة البغي والعدوان، وأن إِيمانه لم ينفعه لأنه إِيمان المضطر، ثم ذكر قصة يونس وتوبة الله تعالى على قومه، وختم السورة الكريمة ببيان حقيقة التوحيد، وأن الإِنسان لا ينجيه عند الله إِلا الإِيمان.
اللغَة: ﴿بَوَّأْنَا﴾ أنزلنا وأسكنّا ﴿الممترين﴾ الشاكّين، امترى: شكَّ وارتاب ﴿فَلَوْلاَ﴾ لولا للتحضيض بمعنى هلاّ ﴿الرجس﴾ العذاب أو السخط ﴿حَنِيفاً﴾ مائلاً عن الأديان الباطلة كلِّها ﴿يَمْسَسْكَ﴾ يصبك ﴿كَاشِفَ﴾ دافع ومزيل يقال: كشف السوء أي أزاله ﴿بِوَكِيلٍ﴾ بحفيظ موكول إِليَّ أمركم.
التفسِير: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر﴾ أي قطعنا وعدَّينا ببني إِسرائيل البحر «بحر السويس» حتى جاوزوه ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً﴾ أي لحقهم فرعونُ مع جنوده ظلماً وعدواناً وطلباً للاستعلاء بغير حق ﴿حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق﴾ أي حتى إِذا أحاط به الغرق وأيقن بالهلاك ﴿قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ﴾ أي قال عندئذٍ أقررتُ وصدقتُ بأنه لا إِله إِلا اللهُ ربُّ العالمين، الذي آمنت وأقرت به بنو إِسرائيل ﴿وَأَنَاْ مِنَ المسلمين﴾ تأكيدٌ لدعوى الإِيمان أي وأنا ممَّن
555
أسلم نفسه لله، وأخلص في إِيمانه قال ابن عباس: جعل جبريل عليه السلام في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين﴾ أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة، وقد عصيت الله قبل نزول نقمته بك، وكنتَ من الغالين في الضلال والإِضلال والصدِّ عن دين الله؟ ﴿فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ أي فاليوم نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ أي لتكون عبرةً لمن بعدك من الناس، ومن الجبابرة والفراعنة، حتى لا يطغوا مثل طغيانك قال ابن عباس: إِن بعض بني إِسرائيل شكّوا في موت فرعون، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح ليتحققوا موته وهلاكه ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ أي معرضون عن تأمل آياتنا لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ أي أنزلنا وأسكنا بني إِسرائيل بعد إِهلاك أعدائهم منزلاً صالحاً مرضياً ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات﴾ أي اللذائذ الطيبة النافعة ﴿فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي فما اختلفوا في أمر الدين إِلا من بعد ما جاءهم العلم وهو التوراة التي فيها حكم الله، وهذا ذمٌ لهم لأن اختلافهم كان بسبب الدين، والدينُ يجمع ولا يفرّق، ويوحّد ولا يشتت وقال الطبري: كانوا قبل أن يُبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مجمعين على نبوته، والإِقرار بمبعثه، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم، وآمن البعض، فذلك اختلافهم ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾ هذا على سبيل الفرض والتقدير: أي إِن فرض أنك شككت فاسأل قال ابن عباس: لم يشك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يسأل وقال الزمخشري: هذا على الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإِن وقع شكٌ مثلاً، وخيَّل لك الشيطان خيالاً تقديراً فسل علماء أهل الكتاب، وفرقٌ عظيم بين قوله
﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [فصلت: ٤٥] بإِثبات الشك على سبيل التأكيد والتحقيق وبين قوله ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ﴾ بمعنى الفرض والتمثيل وقال بعضهم: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره ﴿فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ﴾ أي اسأل أهل الكتاب الذين يعرفون التوراة والإِنجيل، فإِن ذلك محقَّق عندهم كما قصصنا عليك، والغرضُ دفع الشك عن قصص القرآن ﴿لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ أي جاءك يا محمد البيانُ الحق، والخبر الصادق، الذي لا يعتريه شك ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي فلا تكن من الشاكين المرتابين ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾ أي لا تكذّبْ بشيءٍ من آيات الله ﴿فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين﴾ أي فتصبح ممن خسر دنياه وآخرته، قال البيضاوي: وهذا من باب التهييج والتثبيت وقطع أطماع المشركين عنه وقال القرطبي: الخطابُ في هاتين الآيتين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي وجبت عليهم كلمة العذاب بإِرادة الله الأزلية ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ أي لا يصدقون ولا يؤمنون أبداً ولو جاءتهم البراهين والمعجزات ﴿حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ أي فحينئذٍ يؤمنون كما آمن فرعون ولكن لا ينفعهم الإِيمان {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ
556
إِيمَانُهَا} أي فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها، ثابتْ عن الكفر وأخلصت الإِيمان عند معاينة العذاب فنفعها إِيمانها في ذلك الوقت ﴿إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ﴾ أي غير قوم يونس ﴿لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا﴾ أي لما تابوا عن الكفر وآمنوا بالله رفعنا عنهم العذاب المخزي المهين في الحياة الدنيا ﴿وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ أي أخرناهم إِلى انتهاء آجالهم قال قتادة: روي أن يونس أنذرهم بالعذاب ثم خرج من بين أظهرهم، فلما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المُسُوح، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندم على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ أي لو أراد الله لآمن الناس جميعاً، ولكنْ لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للحكمة، فإِنه تعالى يريد من عباده إِيمان الاختيار، لا إِيمان الإِكراه والاضطرار ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ ؟ أي أفأنت يا محمد تُكره الناس على الإِيمان، وتضطرهم إِلى الدخول في دينك؟ ليس ذلك إِليك، والآية تسليةٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وترويحٌ لقلبه مما كان يحرص عليه من إِيمانهم قال ابن عباس: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة في الذكّر الأول، ولا يضلُّ إِلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي ما كان لأحدٍ أن يؤمن إِلا بإِرادته تعالى وتوفيقه ﴿وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي ويجعل العذاب على الذين لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم فيما ينفع ﴿قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار: انظروا نظر تفكر واعتبار، ما الذي في السماوات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته سبحانه؟ ﴿وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ أي وما تنفع الآيات والإِنذارات قوماً سبق لهم من الله الشقاء ﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي فهل ينتظر مشركو مكة إِلا مثل أيام أسلافهم، وما حلَّ بهم من العذاب والنكال؟ ﴿قُلْ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾ أي قل لهم يا محمد: انتظروا عاقبة البغي والتكذيب إِني من المنتظرين هلاككم ودماركم ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ كَذَلِكَ﴾ أي ثم إِذا نزل العذاب بالمكذبين نُنجّي الرسل والمؤمنين إنجاءً مثل ذلك الإِنجاء ﴿حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين﴾ أي حقاً ثابتاً علينا من غير شك قال الربيع بن أنس: خوَّفهم عذابه ونقمته، ثم أخبرهم أنه إِذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه ﴿قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِن كنتم في شك من حقيقة ديني وصحته ﴿فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي فلا أعبد ما تعبدون من الأوثان والأصنام التي لا تنفع ولا تضر ﴿ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ أي ولكني أعبد الله الذي يتوفاكم، وبيده محياكم ومماتكم، قال الطبري: وهذا تعريضٌ ولحنٌ من الكلام لطيف، وكأنه يقول: لا ينبغي لكم أن تشكّوا في ديني، وإِنما ينبغي أن تشكّوا في عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فأما إِلهي الذي أعبده فهو الذي يقبض الخلق وينفع
557
ويضر ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ أي وأنا مأمور بأن أكون مؤمناً موحّداً لله لا أشرك معه غيره ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ أي وأمرتُ بالاستقامة في الدين، على الحنيفية السمحة ملةِ إِبراهيم ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ أي ولا تكوننَّ ممن يشرك في عبادة ربه ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ﴾ تأكيدٌ للنهي المذكور أي ولا تعبدْ غير الله ممّا لا ينفع ولا يضر كالآلهة والأصنام ﴿فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين﴾ أي فإِن عبدتَ تلك الآلهة المزعومة كنت ممن ظلم نفسه لأنك عرضتها لعذاب الله، والخطابُ هنا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره كما تقدم ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ أي وإِن أراد الله إِصابتك بضرُ فلا دافع له إِلا هو وحده ﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ﴾ أي وإِن أراد إِصابتك بنعمة أو رخاء فلا يمنعه عنك مانع ﴿يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي يصيب بهذا الفضل والإِحسان من شاء من العباد ﴿وَهُوَ الغفور الرحيم﴾ أي هو سبحانه الغفور لذنوب العباد، الرحيم بأهل الرشاد ﴿قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ﴾ أي جاءكم القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام ﴿فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي من اهتدى بالإِيمان فمنفعة اهتدائه لها خاصة ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أي ومن ضلَّ بالكفر والإِعراض فوبال الضلال مقصور عليها ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أي ولست بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم إِنما أنا بشيرٌ ونذير ﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ أي اتّبعْ يا محمد في جميع شئونك ما يوحيه إِليك ربك ﴿واصبر حتى يَحْكُمَ الله﴾ أي اصبر على ما يعتريك من مشاقّ التبليغ حتى يقضي الله بينك وبينهم ﴿وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ أي هو سبحانه خير من يفصل في الحكومة، والآية تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيدٌ للمشركين.
البَلاَغة: ١ - ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ الاستفهام للتوبيخ والإِنكار.
٢ - ﴿بَوَّأْنَا... مُبَوَّأَ﴾ يبنهما جناس الاشتقاق.
٣ - ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ كناية عن القضاء والحكم الأزلي بالشقاوة.
٤ - ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾ صيغة المضارع حكاية عن الماضي لتهويل أمرها باستحضار صورتها.
٥ - ﴿مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ﴾ بينهما طباق.
٦ - ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ... وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ بين الجملتين مقابلة لطيفة وهي من المحسنات البديعية.
٧ - ﴿فَمَنِ اهتدى... وَمَن ضَلَّ﴾ بينهما طباقٌ.
٨ - ﴿يَحْكُمَ الله... الحاكمين﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
فَائِدَة: قال الإِمام الفخر: آمن فرعون ثلاث مرات: أولها قوله ﴿آمَنتُ﴾ وثانيها قوله ﴿لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين﴾ وثالثها قوله ﴿وَأَنَاْ مِنَ المسلمين﴾ فما السبب في عدم قبول إِيمانه؟ والجواب: أنه إِنما آمن عند نزول العذاب، والإِيمانُ في هذا الوقت غير مقبول،
558
لأنه يصير الحال حال الإِلجاء فلا ينفع التوبة ولا الإِيمان قال تعالى ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].
تنبيه: قال المفسرون: إِنما نجّى الله بدن فرعون بعد الغرق، لأن قوماً اعتقدوا فيه الإِلهية، وزعموا أن مثله لا يموت، فأراد الله أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة، ليتحققوا موته، ويعرفوا أن الذي كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة قد آل أمره إِلى الذل والهوان، فيكون عبرة للخلق، وزجراً لأهل الطغيان.
559
Icon