تفسير سورة النّاس

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الناس من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ
استهلال :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله إن الحمد لله، نحمده ونشكره، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهد فما له من مضل.
ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تمهيد :
الأعمال الكسبية بين الخير والشر :
بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا، وأن يشتبها، وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته، فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بهما، دائرة بينهما، موصوفة بأحدهما. ولابد في ذلك من قدر الله، ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني.
وحكمته المبينة في وحيه هي ابتلاء خلقه، ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم، بعد أن وهبهم العقل والتمييز، وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلا منه تعالى ورحمته.
وحكمة أخرى : وهي تمرين هذا الإنسان في حياته العلمية والعملية، وتدريب فكره على اختيار الأنفع على النافع، والنافع على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب، وترويضها عليه.
مسئولية الإنسان :
والإنسان يكتسب القوة والدربة بتمرسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره.
وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة، وسائق لها، ومهيء لما يظهر أنه من بدواتها١.
وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح منها، وهو أهمها : التمييز بين الخير والشر، وأدق منه التمييز بين الخيرين، وشر الشرين ؛ فإن الخير درجات وأنواع ؛ والشر كذلك دركات وأنواع.
والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر، وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق، ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر، ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد.
وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طرق الغفلة، والمبصرات عند عروض الشبهة، والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان، وطواف طائفة٢.
ومن هذه المعوذات :
عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك، وهي شر.
وحقائق تقي صاحبها الوهم، وهو شر.
وعبادات تربي مقيمها على الخير، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر.
وأعمال تثبت فاعلها على الحق.
وأقوال يمليها القلب – العامر بتقوى الله، والخوف من مقامه – على الألسنة، لتكون شاهدة لها، أو عنوانا عليها، والألسنة تراجمة القلوب.
فكان مما شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل.
وأنزل الله عليه هاتين السورتين، وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن.
وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ باسم الله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة.
١ فالإنسان حر مختار، لا مقهور مسير كريشة في مهب الرياح..
٢ فتدخل الإسلام في حياة الإنسان وتنظيمها، لم يكن عبثا، وإنما كان لرعاية الإنسان، والأخذ بيده نحو الرشد والكمال الإنساني..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس ﴾.
تمهيد :
قال تعالى :﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾ قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها ( هي المعوذتان ). وعلمنا أنها تسمية نبوية، وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما.
أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو ( الناس )، كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى :( الفلق ).
والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف، وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام، ومن ثلاثة أنواع منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر١. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد، لكنه سبب في شرور كثيرة.
النفوس الشريرة :
المناسبة :
والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام :
١- قسم يصدر عنه الضرر ويعمله.
٢- وقسم لا يريد الخير، فيسعى في سلبه وانتزاعه، وهو شر من الأول.
٣- وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح، ومالك هديها، ٢وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
فهو يحسن له الأشياء القبيحة، ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح، وإرادة الخير.
ويزين للإنسان كل ما يرد به من القبائح، ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله قريبا منه متصلا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح، حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك.
ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرا، وأكثر شرا، وأخسر عاقبة، خصص التعوذ منه بسورة كاملة.
المفردات والتراكيب :
﴿ رب الناس ﴾ : هو مربيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود، وما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما من به عليهم فيما ينفعهم :" ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " ٣.
وأصله من ربه ربا إذ قام على شأنه وتعهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال، ولفظه لفظ المصدر، ولكن معناه معنى اسم الفاعل : كالعدل يراد به العادل.
﴿ ومالك الناس ﴾ : هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية.
﴿ وإله الناس ﴾ : هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية.
وبلاغة الترتيب، إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني.
فالأول : طور التربية والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية.
والثاني : طور القوة والتدبير، وهما من مظاهر الملك.
والثالث : طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية. ٤.
المستعاذ منه :
المستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره، وما شرع له لمنفعته وصلاحه. وتارة بما يفسد عليه عبوديته له، وهي أشرف علائقه به، وأقوى صلاته.
وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها، وبما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوة الموسوسة.
مثل قول تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء٥.
أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وبين خالقه، كقوله تعالى :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٦.
وكقوله تعالى :﴿ قال أرأتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٧.
وكقوله :﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله٨.
فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله ؛ بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها.
تخصيص الناس بالذكر :
( والرب ) : رب الناس وغيرهم ؛ بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر :
١- لأنهم هم هدفه، ومرمى وسوسته، ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجه الخطاب، وإليهم يساق التحذير.
وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما ؛ فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم، لتثبيت سنة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم.
٢- ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربوبين، وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال.
وقد ضلوا بالفعل في ربوبية الله وفي ألوهيته :
ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين، ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ويصدونهم بذلك عما شرع الله.
وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء.
اختيار لفظ الناس :
واختير لفظ الناس، من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية ؛ لأنه ينوس ويضطرب وينساق، وهي صفات يلزمها التوجه، ويسهل التوجيه، فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة، والتسديد فيها، ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسبا عليه، وما دامت هناك قوة مسلطة تنزع به إلى الشر.
ففي تخصيص الناس بالذكر، تنبيه إلى أنهم أحوج المربوبين إلى تأييد الله، وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد.
في الفظ ضعفهم :
ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه، لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم، وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جنة من استعباد الأقوياء.
ويجوز - إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها – أن تحمل كلمة ( الناس ) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل، والأخيار، منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب : فإنهم كثيرا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد، أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم، وقد حملوا على هذا المعنى، قوله تعالى :﴿ آمنوا كما آمن الناس ﴾.
تكرير اللفظ :
ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس توضيح المعنى، وإلفات النفس إليه، وإيقاظ شعورها به، والتسجيل على الناس بأن لهم ربا هو مالكهم وإلههم.
١ أي شر ما خلق، وشر الغاسق، والنفث، والحسد..
٢ من لطائف الإمام في التسمية والوصف للقلب..
٣ سورة طه، الآية....
٤ فالإنسان في طوره محتاج لتربية، وفي حياته محتاج لمشرع، ولدين يهديه الطريق، ولعل في هذا كفاية في الرد على من ادعى أن في تكرير لفظ الناس ركاكة في الأسلوب، ألا ساء ما يزعمون..
٥ البقرة الآية : ٢٦٨..
٦ سور ص – الآية ٨٢..
٧ الإسراء – الآية : ٦٢..
٨ سورة النساء، الآية ١١٤..
المفردات والتراكيب :
﴿ رب الناس ﴾ : هو مربيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود، وما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما من به عليهم فيما ينفعهم :﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾١.
وأصله من ربه ربا إذ قام على شأنه وتعهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال، ولفظه لفظ المصدر، ولكن معناه معنى اسم الفاعل : كالعدل يراد به العادل.
﴿ ومالك الناس ﴾ : هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية.
﴿ وإله الناس ﴾ : هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية.
وبلاغة الترتيب، إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني.
فالأول : طور التربية، والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية.
والثاني : طور القوة والتدبير، وهما من مظاهر الملك.
والثالث : طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية. ٢.
المستعاذ منه :
المستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه. وتارة بما يفسد عليه عبوديته له، وهي أشرف علائقه به، وأقوى صلاته.
وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها، وبما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوة الموسوسة.
مثل قول تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء٣.
أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وبين خالقه، كقوله تعالى :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٤.
وكقوله تعالى :﴿ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٥.
وكقوله :﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله٦.
فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله ؛ بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها.
تخصيص الناس بالذكر :
( والرب ) : رب الناس وغيرهم ؛ بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر :
٣- لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته، ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجه الخطاب، وإليهم يساق التحذير.
وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما ؛ فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم، لتثبيت سنة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم.
٤- ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربوبين، وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال.
وقد ضلوا بالفعل في ربوبية الله وفي ألوهيته :
ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين، ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ويصدونهم بذلك عما شرع الله.
وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء.
اختيار لفظ الناس :
واختير لفظ الناس، من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية ؛ لأنه ينوس ويضطرب وينساق. وهي صفات يلزمها التوجه، ويسهل التوجيه، فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة، والتسديد فيها، ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسبا عليه، وما دامت هناك قوة مسلطة تنزع به إلى الشر.
ففي تخصيص الناس بالذكر، تنبيه إلى أنهم أحوج المربوبين إلى تأييد الله، وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك، وله الحمد.
في اللفظ ضعفهم :
ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه، لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم، وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جنة من استعباد الأقوياء.
ويجوز – إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها – أن تحمل كلمة ( الناس ) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل، والأخيار، منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب : فإنهم كثيرا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد، أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم، وقد حملوا على هذا المعنى، قوله تعالى :﴿ آمنوا كما آمن الناس ﴾.
تكرير اللفظ :
ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس توضيح المعنى، وإلفات النفس إليه، وإيقاظ شعورها به، والتسجيل على الناس بأن لهم ربا هو مالكهم وإلههم.
١ سورة طه، الآية....
٢ فالإنسان في طوره محتاج لتربية، وفي حياته محتاج لمشرع، ولدين يهديه الطريق، ولعل في هذا كفاية في الرد على من ادعى أن في تكرير لفظ الناس ركاكة في الأسلوب، ألا ساء ما يزعمون..
٣ البقرة الآية : ٢٦٨..
٤ سور ص – الآية ٨٢..
٥ الإسراء – الآية : ٦٢..
٦ سورة النساء، الآية ١١٤..
من شر الوسواس :
﴿ ن شر الوسواس ﴾.
( الوسواس ) : هنا صفة الموسوس، وإن خالف المعهود في أبنية الصفات، أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال والزلزلة.
وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء١، والعرب تسمي حركة الحلي وسواسا، وهذا المعنى واضح في المراد هنا : فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والمسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع، ويحكم الحيلة في ذلك، ولا يرمي رميته إلا في الخلوات.
وإن الناس ليعرفون عرفانا ضروريا من الفرق بين المصلحين والمفسدين :
أن الأولين يصدعون بكلمة الحق مجلجلة، ويرسلون صيحته داوية، ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق.
وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا، ويستترون إذا فعلوا، ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية، ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات.
الخناس :
( الخناس ) : وصف مبالغة في الخانس من الخنوس، وهو التأخر بعد التقدم، ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس : أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقا في الكيد، وتقصيا في التطور، حتى يبلغ مراده.
فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرا وفرا، وهجوما وانتهازا. واستطرادا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه :
﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ﴾.
يرشدنا بذلك لنعد لكل حالة من حالاته عدتها، ولنضيق عليه المسالك التي يسلكها.
كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد ؛ لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب : تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية، ثم دواليك حتى تمل أو يمل.
الخناس ضعيف :
وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد، فهو مبالغة في التحذير منه ؛ لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره.
١ من دوران اللفظ حول المعنى، والشيخ حض " بفقه اللغة " وهو علم جدير بالاعتناء والدراسة لأصول اللغة العربية..
الوسوسة ومحلها :
﴿ الذي يوسوس في صدور الناس ﴾ :
قال : يوسوس بالمضارع إشعارا بتجدد الوسوسة منه، وعدم انقطاعها.
وقال :﴿ في صدور الناس ﴾ والصدر ملتقى حنايا الأضلع، ومستودع القوى التي كان الإنسان إنسانا بها، ومجمع المضغ التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، وذلك قال :
﴿ ولكن تعمى القلوب في الصدور ﴾.
الصدر ليس ماديا فقط :
ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردا وجمعا والحكم عليها بالشرح، والحرج، والضيق، والشفاء، والإخفاء، والإكنان، ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية، ولا أجزاءها المادية، وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس، يوجه كيده ووسوسته دائما إلى هذه القلعة التي هي الصدر ؛ لأنها مجمع القوى.
وقال :﴿ في صدور الناس ﴾، ولم يقل في قلوب الناس ؛ لأن القلب مجلى العقل، ومقر الإيمان١، وقد يكون محصنا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره، ولا يستطيع له نقبا.
١ وليس المراد بالقلب أيضا هذه المصنفة المادية، وإنما ما يسميه علماء النفس بمنطقة ما وراء الحس والشعور..
﴿ من الجنة والناس ﴾ :
الجن :
( الجنة ) : جماعة الجن، وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس ؛ لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين١.
واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون، في قوله تعالى :﴿ ما بصاحبكم من جنة ﴾.
ولما كان الموسوسون فريقين٢متعاونين على الشر، ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة، ليلتئم طرفا الكلام، ويحصل التقصي الوصفي المستعاذ به والمستعاذ منه.
أقسام الشياطين :
وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة إلى قسمين : شياطين الإنس، وشياطين الجن، وذكر أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول. وشيطان الجن ميسر للشر. فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله.
ومن شياطين الإنس بطانة السوء، وقرين السوء.
القرين :
وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينا من الجن. وقال تعالى :﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين٣، وقال :﴿ وقيضنا لهم قرناء٤. وهو من باب توزيع الجمع على الجمع : أي لكل واحد قرين.
النجاة من القرناء :
فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن، ثم لا يخلوا من قرين أو قرناء من الإنس، يزينون له ما بين يديه وما خلفه، ويصدونه عن ذكر الله.
فماذا يصنع ؟
ما عليه إلا أن يلتجئ إلى الله، ويستعيذ به ويتذكر، فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ، وإنما يؤخذ إذا كان غافلا، قال تعالى :﴿ وإنما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله٥، وقال تعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون٦.
دقائق بلاغية :
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة، أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى، لسر آخر : فيقدم السماء على الأرض في مقام، ويؤخرها عليها في مقام آخر.
ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن، في آية الأنعام ؛ لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء، وهي من الإنس أظهر، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح.
شياطين الإنس أخطر :
وفي آية " الناس " قدم الجنة على الناس ؛ لأن الحديث عن الوسوسة، وهي من شياطين الجن أخفى وأدق، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر : فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد، فيربى عليه ويكون شرا منه ؛ لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به ؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي، ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولد منها فتن، ويتمادى شره من قرن إلى قرن، ومن جيل إلى جيل.
الإنسان يعلو أو يتسفل :
وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفل كان شرا محضا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى، وأوشك أن يكون خيرا محضا، لولا أن العصمة لم تكتب إلا لطائفة منه، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فالإنسان إذا انحط يكون شرا من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك – أعني جنس الإنسان – ومن هذا الجنس، كان محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال٧.
وأخيرا﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ﴾.
١ لقوله تعالى في صورة الجن :" وإنا منا المسلمون وإنا منا القاسطون " أي العادلون عن الإسلام إلى غيره..
٢ الجنة والناس..
٣ الزخرف، الآية ٦٧..
٤ الزخرف، الآية ٦٧..
٥ سورة فصلت، الآية ٣٦..
٦ سورة الأعراف الآية ٢٠١..
٧ من ذوق الإمام رحمه الله رحمة واسعة- في البدء والختام. " خاتمه مسك "..
Icon