تفسير سورة النّاس

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الناس من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الفلق (١١٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
روى مسلم في صحيحه من حديث قيس بن حازم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: أعوذ برب الفلق. أعوذ برب الناس».
وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذون؟ قلت: بلى. قال:
قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس»
.
وفي الترمذي: حدثنا قتيبة أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة»
وقال: هذا حديث غريب.
وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود. عن عبد الله بن حبيب قال: «خرجنا في ليلة مطر وظلمة، نطلب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي لنا، فأدركناه، فقال:
قل. فلم أقل شيئا. ثم قال: قل. فلم أقل شيئا. ثم قال: قل. قلت:
599
يا رسول الله، ما أقول؟ قال: قل: قل هو الله أحد والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح، ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء».
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي الترمذي أيضا: من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعوذ من الجان وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان. فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما» قال: وفي الباب عن أنس.
وهذا حديث غريب.
وفي الصحيحين عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه. وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به».
قلت: هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة. ذكره البخاري.
ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث. فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عليه بيده، رجاء بركتها»
وكذلك
قال معمر عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها. فسألت ابن شهاب: كيف كان ينفث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه» ذكره البخاري
أيضا.
وهذا هو الصواب: أن عائشة كانت تفعل ذلك. والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك. وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى. فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه
600
كان يأمرها. وفرق بين الأمرين. ولا يلزم من كون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أقرها على رقيته أن يكون هو مسترقيا. فليس أحدهما بمعنى الآخر. ولعل الذي كان يأمرها به: إنما هو المسح على نفسه بيده. فيكون هو الراقي لنفسه ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه. ويكون هذا غير قراءتها هي عليه، ومسحها على بدنه. فكانت تفعل هذا وهذا. والذي أمرها به إنما هو نقل يده لا رقيته. والله أعلم.
والمقصود: الكلام على هاتين السورتين. وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما. وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس، فنقول والله المستعان:
قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول. وهي أصول الاستعاذة.
أحدها: نفس الاستعاذة.
والثانية: المستعاذ به.
والثالثة: المستعاذ منه.
فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين.
فنعقد لهما ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الاستعاذة. والثاني: في المستعاذ به. والثالث في المستعاذ منه.
الفصل الأول
اعلم أن لفظة «عاذ» وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة. وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.
ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا، كما يسمى: ملجأ ووزرا.
601
وفي الحديث «أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليها، قالت: أعوذ بالله منك. فقال لها. لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك».
فمعنى «أعوذ» ألتجئ وأعتصم، وأتحرز.
وفي أصله قولان. أحدها: أنه مأخوذ من الستر.
والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة.
فأما من قال: إنه من الستر فقال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها «عوّذ» بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها: سموه عوّذا. فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجنّ به منه.
ومن قال: هو لزوم المجاورة قال: العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلّص منه «عوّذ» لأنه اعتصم به، واستمسك به. فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به، ولزمه.
والقولان حق. والاستعاذة تنتظمهما معا. فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، مستمسك به، معتصم به. قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به، فهرب منه. فعرض له أبوه في طريق هربه. فإنه يلقي نفسه عليه، ويستمسك به أعظم استمساك. فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، والتجأ إليه.
وبعد، فمعنى الاستعاذة القائم بقلب المؤمن وراء هذه العبارات.
وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه:
أمر لا تحيط به العبارة.
602
ونظير هذا: التعبير عن معنى محبته وخشيته، وإجلاله ومهابته. فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، ولا تدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الوصف والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنّين لم تخلق له شهوة أصلا، فمهما قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به، لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه. فإذا وصفتها لمن خلقت الشهوة فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق.
وأصل هذا الفعل: «أعوذ» بتسكين العين وضم الواو، ثم أعلّ بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو. فقالوا: أعوذ على أصل هذا الباب، ثم طردوا إعلاله، فقالوا في اسم الفاعل: عائذ. وأصله: عاوذ. فوقعت الواو بعد ألف فاعل، فقلبوها همزة، كما قالوا: قائم، وخائف. وقالوا في المصدر: عياذا بالله. وأصله: عواذا كلوذ، فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها، ولم تحصنها حركتها. لأنها قد ضعفت بإعلالها في العمل. وقالوا:
مستعيذ. وأصله: مستعوذ، كمستخرج، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها، فلما كسرت العين قبلت قبلها كسرة، فقلبت ياء على أصل الباب.
فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل، كقوله:
١٦: ٩٨ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ولم تدخل في الماضي والمضارع، بل الأكثر أن يقال: أعوذ بالله، وتعوّذت، دون أستعيذ، واستعذت؟.
قلت: السين والتاء دالة على الطلب، فقوله: أستعيذ بالله، أي أطلب العياذ به. كما إذا قلت: أستخير الله: أي أطلب خيرته، وأستغفره.
أي أطلب مغفرته. وأستقيله. أي أطلب إقالته. فدخلت في الفعل إيذانا بطلب هذا المعنى من المعاذ. فإذا قال المأمور: أعوذ بالله. فقد امتثل ما طلب منه. لأنه طلب منه الالتجاء والاعتصام. وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك. فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما
603
بالله، أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله.
وهذا بخلاف ما إذا قيل: استغفر الله. فقال: أستغفر الله. فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله. فإذا قال: أستغفر الله، كان ممتثلا. لأن المعنى: أطلب من الله أن يغفر لي.
وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين والتاء، فيقول: أستعيذ بالله. أي أطلب منه أن يعيذني. ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب إليه.
فالأول: مخبر عن حاله وعياذه بربه. وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه.
والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه. كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني.
فحال الأول أكمل. ولهذا
جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في امتثال هذا الأمر «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». و «أعوذ بكلمات الله التامات». و «أعوذ بعزة الله وقدرته»
دون: أستعيذ، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ دون أستعيذ. فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ومعلوم أنه إذا قيل:
قل الحمد لله، وقل: سبحان الله فإن امتثاله أن يقول: الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول: قل سبحان الله.
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبيّ بن كعب على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعينه، وأجابه عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقد قال البخاري في صحيحه. حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن عاصم وعبدة عن زرّ بن حبيش قال: «سألت أبيّ بن كعب عن
604
المعوذتين؟ فقال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال. قيل لي، فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ثم قال: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش. وحدثنا عاصم عن زر قال «سألت أبيّ بن كعب. قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال: إني سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: قيل لي، فقلت: قل.
فنحن نقول كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»
.
قلت: مفعول القول محذوف، وتقديره: قيل لي قل، أو قيل لي هذا اللفظ. فقلت كما قيل لي.
وتحت هذا من السر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس له في القرآن إلا إبلاغه، لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه، بل هو المبلغ له عن الله. وقد قال الله له:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فكان مقتضى البلاغ التام أن يقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي
أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه بقوله «قيل لي، فقلت»
أي إني لست مبتدئا، بل أنا مبلغ، أقول كما يقال لي، وأبلغ كلام ربي كما أنزله إليّ.
فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وقال كما قيل له. فكفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القرآن العربي وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به. ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول، وأنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه، حتى إنه لما قيل له «قل» قال هو «قل» لأنه مبلغ محض. وما على الرسول إلا البلاغ.
الفصل الثاني
في المستعاذ. وهو الله وحده، رب الفلق. ورب الناس، ملك الناس، إله الناس. الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم. ويمنعهم من شر ما
605
استعاذوا من شره. وقد أخبر تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه: أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا. فقال حكاية عن مؤمني الجن: ٧٢: ٦ وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً جاء في التفسير: أنه «كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فيبيت في أمن وجوار منهم، حتى يصبح» أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا. يقولون: سدنا الانس والجن. و «الرهق» في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم. فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.
واحتج أهل السنة على المعتزلة، في أن كلمات الله غير مخلوقة: بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعاذ
بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات»
وهو صلّى الله عليه وسلّم لا يستعيذ بمخلوق أبدا.
ونظير ذلك:
قوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»
فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق. وكذلك
قوله: «أعوذ بعزة الله وقدرته»
وقوله: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات»
وما استعاذ به النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مخلوق، فإنه لا يستعيذ إلا بالله، أو بصفة من صفاته.
وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب، والملك، والإله.
وجاءت الربوبية فيهما مضافة إلى الفلق، وإلى الناس. ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة.
ويقتضى دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها.
وقد قررنا في مواضع متعددة: أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى.
فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في هاتين السورتين «أنه ما تعوذ المتعوذون بمثلهما»
فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به
606
مقتضيا للمطلوب. وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه.
وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث. وهو الشيء المستعاذ منه.
فتتبين المناسبة المذكورة. فنقول:
الفصل الثالث
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين:
إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها. فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه. ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها. وهو أعظم الشرين وأدومهما، وأشدهما اتصالا بصاحبه.
وإما شر واقع به من غيره. وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف، والمكلف إما نظيره، وهو الإنسان، أو ليس نظيره، وهو الجني. وغير المكلف: مثل الهوام وذوات الحمة «١» وغيرها.
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على المراد، وأعمه استعاذة، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة.
أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عموما.
الثاني: شر الغاسق إذا وقب.
الثالث: شر النفاثات في العقد.
الرابع شر الحاسد إذا حسد.
(١) الحمة: كثبة. وهو الإسم والإبرة التي يضرب بها العقرب والحية أو بلوغ بها ونحو ذلك.
607
فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد، والتحرز منها قبل وقوعها، وبماذا تدفع بعد وقوعها؟.
وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر: ما هو؟ وما حقيقته؟.
فنقول: الشر. يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضى إليه.
وليس له مسمى سوى ذلك. فالشرور: هي الآلام وأسبابها. فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم: هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور. لأنها أسباب للآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها. فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي تكون مفضية إلى مسبباتها، ولا بد، ما لم يمنع من السبية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظم الحسنات الماحية وكثرتها. فيزيد في كميتها أو كيفيتها على أسباب العذاب. فيدفع الأقوى الأضعف.
وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود: أن هذه الأسباب التي فيها لذة مّا هي شر، وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة. وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم، إذا تناوله الآكل لذّ لأكله وطاب له مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل. فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد، حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة والخاصة والعامة من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؟ فإن الله إذا أنعم على عبد نعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه ١٣: ١١ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ. وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.
608
٨: ٥٣ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.
ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه: إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله.
وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه. وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب، كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته. ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره. ولا زالت عن العبد نعمة بمثل معصيته لربه. فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس. ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
والمقصود: أن هذه الأسباب شرور ولا بد.
وأما كون مسبباتها شرورا: فلأنها آلام نفسية وبدنية. فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات. ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب. ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا، حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله. وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم، والإشراف والاطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول:
٨٩: ٢٤ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي و ٣٩: ٥٦ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها، كانت استعاذات النبي صلّى الله عليه وسلّم جميعها مدارها على هذين الأصلين. فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما
609
مؤلم، وإما سبب يفضى إليه، فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع. وأمر بالاستعاذة منهن وهي: «عذاب القبر، وعذاب النار» فهذان أعظم المؤلمات «وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» وهذان سبب العذاب المؤلم. فالفتنة سبب العذاب. وذكر الفتنة خصوصا. وذكر نوعي الفتنة.
لأنها إما في الحياة وإما بعد الموت. ففتنة الحياة: قد يتراخى عنها العذاب مدة، وأما فتنة بعد الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ.
فعادت الاستعاذة إلى الاستعاذة من الألم والعذاب وأسبابها.
وهذا من آكد أدعية الصلاة، حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير. وأوجبه ابن حزم في كل تشهد. فإن لم يأت به فيه بطلت صلاته.
ومن ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال»
فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان.
فالهم والحزن قرينان، وهما من آلام الروح ومعذّباتها. والفرق بينهما: أن الهم توقع الشر في المستقبل. والحزن: هو التألم على حصول المكروه في الماضي، أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح. فإن تعلق بالماضي سمي حزنا. وإن تعلق بالمستقبل سمى همّا.
والعجز والكسل قرينان، وهما من أسباب الألم. لأنهما يستلزمان فوات المحبوب. فالعجز يستلزم عدم القدرة. والكسل يستلزم عدم إرادته.
فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبن والبخل قرينان. لأنهما عدم النفع بالمال والبدن. وهما من أسباب الألم. لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة، لا تنال إلا بالبذل والشجاعة. والبخل يحول بينه وبينها. فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام.
610
وضلع الدين، وقهر الرجال: قرينان. وهما مؤلمان للنفس معذبان لها. أحدهما: قهر بحق، وهو ضلع الدين. والثاني: قهر بباطل، وهو غلبة الرجال.
وأيضا: فضلع الدين. قهر بسبب من العبد في الغالب. وغلبة الرجال قهر بغير اختياره.
ومن ذلك تعوذه صلّى الله عليه وسلّم «من المأثم والمغرم» فإنهما يسببان الألم العاجل.
ومن ذلك
قوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»
فالسخط: سبب الألم، والعقوبة: هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.

فصل


والشر المستعاذ منه نوعان.
أحدهما: موجود، يطلب رفعه. والثاني: معدوم، يطلب بقاؤه على العدم، وأن لا يوجد. كما أن الخير المطلق نوعان. أحدهما: موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه. والثاني: معدوم فيطلب وجوده وحصوله.
فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين. وعليها مدار طلباتهم.
وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ. فَآمَنَّا، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا فهذا الطلب لدفع الشر الموجود. فإن الذنوب والسيئات شر، كما تقدم بيانه. ثم قال:
وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه. فهذان قسمان.
611
ثم قال: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه. ثم قال: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم، وهو خزي يوم القيامة.
فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام، مرتبة أحسن ترتيب، قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا، وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت.
ثم أتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة، وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله، وأن لا يخزيهم يوم القيامة.
فإذا عرف هذا.
فقوله صلّى الله عليه وسلّم في تشهد الخطبة «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا»
يتناول الاستعاذة من شر النفس، الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة. فيسأل دفعه وأن لا يوجد.
وأما قوله: «من سيئات أعمالنا» ففيه قولان.
أحدهما: أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت. فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد، ومن الشر الموجود. فطلب دفع الأول ورفع الثاني.
والقول الثاني: أن سيئات الأعمال هي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها. وعلى هذا يكون من استعاذة الدفع أيضا دفع المسبب.
والأول دفع السبب. فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه.
وعلى الأول: تكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه. فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها.
وعلى الأول: تكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه. فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها.
وعلى الثاني: تكون من باب إضافة المسبب إلى سببه، والمعلول إلى علته. كأنه قال: من عقوبة عملي. والقولان محتملان.
612
فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به. فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح. فيترجح الأول بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس. فشر النفس يولد الأعمال السيئة، فاستعاذ من صفة النفس، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة. وهذان جماع الشر، وأسباب كل ألم. فمتى عوفي منهما عوفي من الشر بحذافيره.
ويترجح الثاني: بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل، وأسبابها شر النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها.
والقولان في الحقيقة متلازمان. والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر.

فصل


ولما كان الشر له سبب: هو مصدره، وله مورد ومنتهى. وكان السبب إما من ذات العبد، وإما من خارج. ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره: كان هنا أربعة أمور: شر مصدره من نفسه، ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى. وشر مصدره من غيره، وهو السبب فيه. ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى-
جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق رضي الله عنه: أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه «اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن اقترف على نفسي سوءا، أو أجرّه إلى مسلم»
فذكر مصدري الشر، وهما النفس والشيطان وذكر مورديه ونهايتيه وهما عوده على النفس، أو على أخيه المسلم. فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظ وأحضره وأجمعه وأبينه.
613

فصل


فإذا عرف هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
الشر الأول: العام في قوله مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ و «ما» هاهنا موصولة ليس إلا. والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شرفيه بوجه ما. فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى. فإن ذاته لها الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلا، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستق العقوبة منهم: هو خير محض إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم. فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى. ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر.
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال.
أحدهما: أن ما هو شر، أو متضمن للشر، فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا له، ولا فعلا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه. فله وجهان، هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن
614
مبادئ معرفتها، فضلا عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد، وفاعل الشر لا يفعله إلا لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده. فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا.
وإن كان هو الخالق للخير والشر.
فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه. فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته. ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء.
وقد بسطت هذا في كتاب «التحفة المكية» وكتاب «الفتح القدسي» وغيرهما.
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة.
أحدهما: أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضرّ بهم. فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده، والثناء عليه والمحبة له.
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، وجلد من يصول عليهم في أعراضهم. فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم، ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله وجعله سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟ أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان إلى العبيد؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي.
615
فالشر: ما قام به من تلك العقوبة. وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة.
فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم. والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله، ومعرفة حكمته ورحمته، وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه: كما أنه البر الرحيم الودود المحسن، فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته. بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا أن يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته.
ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: إن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه الرب نفسه عنها، كقوله تعالى:
٦٨: ٣٥، ٣٦ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ وقوله: ٤٥: ٢١ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
وقوله:
٣٨: ٢٨ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ فأنكر سبحانه على من ظن به هذا الظن السيء، ونزه نفسه عنه.
فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلهيته لا إله إلا هو، تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع
616
الرحمة والإحسان، ومكافأة الصنع الجميل بمثلة وزيادة. فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان.
وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمه غاية الإكرام، ورفعه وكرمه. فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها، وأحقها بالعقوبة؟ وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها، ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة، كما قال الشاعر:
نعمة الله لا تعاب، ولكن ربما استقبحت على أقوام
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله الساعين في خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره. فهم مضادون له في كل ما يريد، يحبون ما يبغضه، ويدعون إليه. ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه، ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله: كما قال تعالى: ٢٥: ٥٥ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً وقال: ١٨: ٥٠ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟.
فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره باخبارنا: أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك، فطرده
617
ولعنه، وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني.
وقد لعنته وطردته، إذ لم يسجد لأبيكم، وجعلته عدوا لكم ولأبيكم، فواليتموه وتركتموني. أفليس هذا من أعظم الغبن، وأشد الحسرة عليكم؟
ويوم القيامة يقول تعالى «أليس عدلا مني أن أولّي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا؟».
فليعلمن أولياء الشيطان: كيف حالهم يوم القيامة: إذا ذهبوا مع أوليائهم، وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ويقول «ألا تذهبون حيث ذهب الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده. فيقول: هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، إنه لا مثل له. فيتجلى لهم ويكشف عن ساق، فيخرون له سجدا».
فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم، وبقوا مع مولاهم الحق. فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه ٨: ٣٤ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
ولا تستطل هذا البسط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله، ونزولها منه منازلها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

فصل


إذا عرفت هذا عرفت معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك»
وأن معناه أجل وأعظم من قول من قال: والشر لا يتقرب به إليك، وقول من قال: والشر لا يصعد إليك، وأن هذا الذي قالوه- وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب
618
به إليه- فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر. بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق. فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما، لا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه.
وإن دخل في مخلوقاته كقوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ.
وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به. كقوله:
٢: ٢٥٤ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقوله: ٥: ١١١ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وقوله: ٤: ١٦٠ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وقوله:
٦: ١٤٦ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وقوله: ٤٣: ٧٦ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره. وإنما المقصود التمثيل.
وتارة بحذف فاعله. كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن ٧٢: ١٠ وَأَنَّا لا نَدْرِي: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ. أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً؟ فحذفوا فاعل الشر ومريده، وصرحوا بمريد الرشد.
ونظيره في الفاتحة: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه، والضلال منسوبا إلى من قام به، والغضب محذوفا فاعله.
ومثله قول الخضر في السفينة ١٨: ٧٩ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفي الغلامين ١٨: ٨٢ فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ومثله قوله: ٤٩: ٧ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ فنسب هذا التزيين المحبوب إليه. وقال: ٣: ١٤ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ فحذف الفاعل المزين. ومثله قول الخليل صلّى الله عليه وسلّم: ٢٦: ٧٨- ٨٢ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ
619
فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها، وهو المرض والخطيئة.
وهذا كثير في القرآن ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية وبينا هناك السر في مجيء ٢: ١٢١ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ٢: ١٠١ والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ والفرق بين الموضعين، وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح. وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما. وذلك من أسرار القرآن.
ومثله ٣٥: ٣٢ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وقال:
٤٢: ١٤ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وقال: ٧: ١٦٨ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى.
وبالجملة: فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة، وعدل. والشر ليس إليه.

فصل


وقد دخل في قوله تعالى: «من شر ما خلق» الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر: من حيوان، أو غيره، إنسيا كان أو جنيا، أو هامة أو دابة أو ريحا، أو صاعقة، أي نوع كان من أنواع البلاء.
فإن قلت: فهل في «ما» هاهنا عموم؟.
قلت: فيها عموم تقييدي وصفي، لا عموم إطلاقي. والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر. فعمومها من هذا الوجه. وليس المراد الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله. فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر. وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض. والخير كله حصل على أيديهم، فالاستعاذة من شر ما خلق: تعم شر كل مخلوق فيه شر. وكل شر في الدنيا والآخرة، وشر
620
شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوام، وشر النار والهواء، وغير ذلك.
وفي الصحيح: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء، حتى يرتحل منه» رواه مسلم.
وروى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سافر فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك وشر ما خلق فيك، وشر ما يدبّ عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد».
وفي الحديث الآخر «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر: من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن».

فصل


الشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب. فهذا خاص بعد عام. وقد قال أكثر المفسرين: إنه الليل.
قال ابن عباس: الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق، ودخل في كل شيء وأظلم والغسق: الظلمة. يقال: غسق الليل، وأغسق: إذا أظلم.
ومنه قوله تعالى: ١٧: ٧٨ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وكذلك قال الحسن ومجاهد: الغاسق إذا وقب: الليل إذا أقبل ودخل.
والوقوب: الدخول، وهو دخول الليل بغروب الشمس. وقال مقاتل: يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار.
وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر: أنه من البرد، والليل أبرد من النهار، والغسق: البرد. وعليه حمل ابن عباس قوله تعالى: ٣٨: ٥٧ فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وقوله: ٧٨: ٢٤، ٢٥ لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا
621
شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً
قال: هو الزمهرير يحرقهم ببرده. كما تحرقهم النار بحرها. وكذلك قال مجاهد ومقاتل: هو الذي انتهى برده.
ولا تنافي بين القولين. فإن الليل بارد مظلم. فمن ذكر برده فقط، أو ظلمته فقط: اقتصر على أحد وصفيه.
والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة. فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل. ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور: من شر الغاسق، الذي هو الظلمة. فناسب الوصف المستعاذ به المعنى المطلوب بالاستعاذة. كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله.
فإن قيل: فما تقولون فيما
رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة قالت: «أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فنظر إلى القمر، فقال: يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا. فإن هذا هو الغاسق إذا وقب»
قال الترمذي: هذا حسن صحيح. وهذا أولى من كل تفسير. فيتعين المصير إليه؟.
قيل: هذا التفسير حق، ولا يناقض التفسير الأول، بل يوافقه، ويشهد لصحته. فإن الله تعالى قال: ١٧: ١٢ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً
فالقمر هو آية الليل، وسلطانه فيه. فهو أيضا غاسق إذا وقب، كما أن الليل غاسق إذا وقب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب. وهذا خبر صدق. وهو أصدق الخبر، ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب. وتخصيص النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره.
ونظير هذا: قوله في المسجد الذي أسس على التقوى- وقد سئل عنه-
فقال: «هو مسجدي هذا»
ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قباء مؤسسا على التقوى مثل ذاك.
622
ونظيره أيضا:
قوله في على وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين «اللهم هؤلاء أهل بيتي»
فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت، ولكن هؤلاء أحق من دخول في لفظ أهل بيته.
ونظير هذا:
قوله: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يعطن له فيتصدّق عليه»
وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف، بل ينفي اختصاص الاسم به، وتناول المسكين لغير السائل أولى من تناوله له.
ونظير هذا:
قوله: «ليس الشديد بالصّرعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب»
فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرع الرجال، ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب أولى.
ونظيره: الغسق، والوقوب، وأمثال ذلك.
فكذلك
قوله في القمر «هذا هو الغاسق إذا وقب»
لا ينفي أن يكون الليل غاسقا، بل كلاهما غاسق.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم: أن المراد به القمر إذا خسف واسودّ. وقوله: «وقب» أي دخل في الخسوف، أو غاب خاسفا؟.
قيل: هذا القول ضعيف. ولا نعلم به سلفا. والنبي صلّى الله عليه وسلّم لما أشار إلى القمر،
وقال: «هذا الغاسق إذا وقب»
لم يكن خاسفا إذ ذاك. وإنما كان مستنيرا، ولو كان خاسفا لذكرته عائشة. وإنما
قالت «نظر إلى القمر، وقال: «هذا هو الغاسق»
ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه. فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها، لما فيه من التلبيس.
وأيضا: فإن اللغة لا تساعد على هذا. فلا نعلم أحدا قال: الغاسق:
623
القمر في حال خسوفه.
وأيضا: فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة: إنه الخسوف، وإنما هو الدخول، من قولهم: وقبت العين: إذا غارت، وركية وقباء: غار ماؤها. فدخل في أعماق التراب. ومنه الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور. وتقول العرب وقب يقب وقوبا إذا دخل.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم: أن الغاسق هو الثريا إذا سقطت، فإن الأسقام تكثر عند سقوطها وغروبها، وترتفع عند طلوعها؟.
قيل: إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل. وإن أراد: أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما: فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه. وأما أن يختص به اللفظ به فباطل.

فصل


والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو: أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة. وفيه تنتشر الشياطين.
وفي الصحيح «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين» ولهذا قال: «فاكفتوا صبيانكم، واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء»
وفي حديث آخر «فإن الله يبث من خلقه ما يشاء».
والليل هو محل الظلام. وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار. فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، وعلى أهل الظلمة.
وروى أن سائلا سأل مسيلمة: كيف يأتيك؟ فقال: في ظلماء حندس.
وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم «كيف يأتيك؟ فقال: في مثل ضوء النهار»
624
فاستدل بهذا على نبوته، وأن الذي يأتيه ملك من عند الله، وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان.
ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار، فالسحر الليلي عندهم: هو السحر القوي التأثير. ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها، وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه. وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن.

فصل


ومن هاهنا: تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع.
فإن الفلق: هو الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام، وعسكر المفسدين في الليل. فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب أو كنّ أو غار، وتأوي الهوام إلى أجحرتها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها. فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويقهر عسكرها وجيشها.
ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب: أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور، ويدع الكفار في ظلمات كفرهم. قال الله تعالى: ٢: ٢٥٧ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ وقال تعالى: ٦: ١٢٢ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟ وقال في أعمال الكفار ٢٤: ٤٠ أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم ٢٤: ٣٦ اللَّهُ نُورُ
625
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ، نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ.
فالإيمان كله نور، ومآله إلى نور، ومستقره في القلب المضيء المستنير، والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة. والكفر والشرك كله ظلمة، ومآله إلى الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة، والمقترن بأهله الأرواح المظلمة.
فتأمل الاستعاذة برب الفلق من شر الظلمة، ومن شر ما يحدث فيها ونزّل هذا المعنى على الواقع يشهد بأن القرآن، بل هاتان السورتان، من أعظم أعلام النبوة، وبراهين صدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومضادته لما جاء به الشياطين من كل وجه، وأن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون فما فعلوه، ولا يليق بهم، ولا يتأتى منهم، ولا يقدرون عليه.
وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي قصّر المتكلمون غاية التقصير في دفعها، وما شفوا في جوابها.
وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها. فلم يحوجنا إلى متكلم، ولا إلى أصولي، ولا إلى نظّار. فله الحمد والمنّة، لا نحصي ثناء عليه.

فصل


واعلم أن الخلق كله فلق. وذلك أن «فلقا» فعل بمعنى مفعول، كقبض وسلب، وقنص: بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص. والله عز وجل ٦: ٩٦ فالِقُ الْإِصْباحِ و ٦: ٩٥ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن
626
الأجنّة، والظلام عن الإصباح. ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة: فلقا وفرقا. يقال: هو أبيض من فرق الصبح وفلقه.
وكما أن في خلقه فلقا وفرقا. فكذلك أمره كله فرقان، يفرق بين الحق والباطل. فيفرق ظلام الباطل بالحق، كما يفرق ظلام الليل بالإصباح. ولهذا سمى كتابه «الفرقان» ونصره فرقانا، لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه. ومنه فلقه البحر لموسى، وسماه فلقا.
فظهرت حكمة الاستعاذة برب الفلق في هذه المواضع. وظهر بهذا إعجاز القرآن، وعظمته وجلالته، وأن العباد لا يقدرون قدره، وأنه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

فصل


الشر الثالث: شر النّفاثات في العقد.
وهذا الشر هو شر السحر. فإن النفاثات في العقد: هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر. والنفث: هو النفخ مع ريق. وهو دون التّفل. وهو مرتبة بينهما.
والنفث: فعل الساحر. فإذا تكيّف نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك. وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور. فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري. لا الأمري الشرعي.
فإن قيل: فالسحر يكون من الذكور والإناث، فلم خص الاستعاذة من الإناث دون الذكور؟.
قيل في جوابه: إن هذا خرج على السبب الواقع، وهو أن بنات لبيد
627
ابن الأعصم سحرن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
هذا جواب أبي عبيدة وغيره. وليس هذا بسديد. فإن الذي سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم هو لبيد بن الأعصم، لا بناته، كما جاء في الصحيح.
والجواب المحقق: أن النفاثات هنا: هن الأرواح والأنفس النفاثات لا النساء النفاثات. لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة وسلطانه إنما يظهر منها. فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث، دون التذكير. والله أعلم.
ففي الصحيح: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طبّ، حتى إنه ليخيّل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه، وإنه دعا ربه، ثم قال:
أشعرت أن الله قد أفتاني فيما أستفتيه فيه؟ فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال فيما ذا؟ قال: في مشط ومشاطة، وجفّ طلع ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في ذروان، بئر في بني زريق. قالت عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين. قالت: فقلت له:
يا رسول الله، هلّا أخرجته؟ قال: أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا. فأمر بها، فدفنت»

قال البخاري: وقال الليث وابن عيينة عن هشام «في مشط ومشاقة».
ويقال: إن المشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاقة: من مشاقة الكتان.
قلت: هكذا في هذه الرواية: أنه لم يخرجه، اكتفاء بمعافاة الله له.
وشفائه إياه.
628
وقد روى البخاري من حديث ابن عيينة قال: «أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل عروة عن عروة. فسألت هشاما عنه؟ فحدثنا عن أبيه عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر، إذا كان كذا. فقال:
يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي. فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، رجل من بني زريق حليف ليهود. وكان منافقا. قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاقة. قال: وأين؟ قال في جفّ طلع ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان.
قال: فأتي البئر حتى استخرجه. فقال: هذه البئر التي أريتها، وكأنّ ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين. قال: فاستخرج. قالت.
فقلت: أفلا- أي تنشّرت-؟ قال: أمّا الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا»
.
ففي هذا الحديث: أنه استخرجه. وترجم البخاري عليه: باب هل يستخرج السحر. وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طبّ، ويؤخذ عن امرأته أيحلّ عنه وينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح. فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه.
فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما. فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه: الأول فيه: أنه لم يستخرجه. وحديث ابن جريج عن هشام فيه «أنه استخرجه» ولا تنافي بينهما. فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه، ثم دفنه بعد أن شفي. وقول عائشة «هلا استخرجته؟» أي هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه؟ فأخبرها بالمانع له من ذلك، وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك، فيقع الإنكار، ويغضب للساحر قومه، فيحدث الشر. وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة. فأمر بها
629
فدفنت، ولم يستخرجها للناس. فالاستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة.
والذي يدل عليه: أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه ولم يجيء لينظر إليها ثم ينصرف، إذ لا غرض له في ذلك. والله أعلم.
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقّى بالقبول بينهم.
لا يختلفون في صحته. وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم، وأنكروه أشد الإنكار. وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا، حمل فيه على هشام. وكان غاية ما أحسن القول فيه: أن قال: غلط، واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء. قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يجوز أن يسحر. فإنه يكون تصديقا لقول الكفار ١٧: ٤٧ ٢٥: ٨ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً.
قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى ١٧: ١٠١ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً وكما قال قوم صالح له ٢٦: ١٥٣ إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وكما قال قوم شعيب له ٢٦: ٨٥ إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ.
قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا. فإن ذلك ينافي حماية الله لهم، وعصمتهم من الشياطين.
وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم. فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه. فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة. وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة. والقصة مشهورة عن أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء. وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن
630
حباب عن زيد بن أرقم قال «سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما. قال: فأتاه جبريل، فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، وعقد لذلك عقدا. فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا. فاستخرجها، فجاء بها، فجعل كلّما حلّ عقدة وجد لذلك خفّة. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال. فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط»
وقال ابن عباس وعائشة «كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فدنت إليه اليهود. فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعدّة أسنان من مشطه. فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولّى ذلك لبيد بن الأعصم: رجل من اليهود. فنزلت هاتان السورتان فيه».
قال البغوي: وقيل «كانت مغروزة بالأبر. فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين. وهما أحد عشر آية: سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات فكلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها. فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنما أنشط من عقال» قال: وروى أنه لبث فيه ستة أشهر، واشتد عليه ثلاثة أيام فنزلت المعوذتان.
قالوا: والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه. ولا نقص في ذلك، ولا عيب بوجه ما. فإن المرض يجوز على الأنبياء. وكذلك الإغماء. فقد أغمى عليه صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ووقع حين انفكّت قدمه وجحش شقّه وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته.
ونيل كرامته. وأشد الناس بلاء الأنبياء. فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به: من القتل، والضرب، والشتم، والحبس. فليس ببدع أن يبتلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتلى بالذي رماه فشجّه. وابتلى بالذي ألقى على ظهره السّلا «١» وهو ساجد، وغير ذلك. فلا نقص عليهم. ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم، وعلو درجاتهم عند الله.
(١) السلاما يخرج من بطن الناقة ونحو ما مع الولد. مما علن في الرحم لحفظه. [.....]
631
قالوا:
وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري «أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: نعم. فقال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك»
فعوّذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد، لما اشتكى. فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشاكيته صلّى الله عليه وسلّم، وإلّا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره.
وقالوا: وأما الآيات التي استدللتم بها فلا حجة لكم فيها.
أما قوله تعالى عن الكفار: إنهم قالوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً وقول قوم صالح وشعيب لهما إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فقيل: المراد به من له سحر، وهي الرّثة، أي إنه بشر مثلهم، يأكل ويشرب، ليس بملك، وليس المراد به السحر.
وهذا جواب غير مرض. وهو في غاية البعد. فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور، ولا يعرف هذا في لغة من اللغات. وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر، فقالوا: ٣٦: ١٥ ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا و ٢٣: ٤٨ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا و ١٧: ٩٤ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا. وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السّحر، وهي الرئة. وأيّ مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع؟.
ثم كيف يقول فرعون لموسى إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً؟
أفتراه ما علم أن له سحرا، وأنه بشر؟.
ثم كيف يجيبه موسى بقوله: ١٧: ١٠٢ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ولو أراد بالمسحور: أنه بشر لصدّقه موسى، وقال: نعم، أنا بشر أرسلني الله إليك، كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم ١٤: ١٠ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فقالوا: ١٤: ١١ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ولم ينكروا ذلك.
632
فهذا الجواب في غاية الضعف.
وأجابت طائفة، منهم ابن جرير وغيره: بأن المسحور هنا هو معلّم السحر الذي قد علمه إياه غيره. فالمسحور عنده: بمعنى ساحر، أي عالم بالسحر.
وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة. وهو أن من علّم السحر يقال له مسحور. ولا يكاد هذا يعرف في الاستعمال، ولا في اللغة. وإنما المسحور من سحره غيره، كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه. وأما من علّم السحر فإنه يقال له: ساحر، بمعنى أنه عالم بالسحر، وإن لم يسحر غيره. كما قال قوم فرعون لموسى ٧: ١٠٩ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ففرعون قذفه بكونه مسحورا، وقومه قذفوه بكونه ساحرا.
فالصواب: هو الجواب الثالث. وهو جواب صاحب الكشاف وغيره:
أن «المسحور» على بابه. وهو من سحر حتى جنّ. فقالوا: مسحور، مثل مجنون أي زائل العقل، لا يعقل ما يقول. فإن المسحور الذي لا يتّبع: هو الذي فسد عقله، بحيث لا يدرى ما يقول. فهو كالمجنون. ولهذا قالوا فيه ٤٤: ١٤ مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ فأما من أصيب في بدنه بمرض من الأمراض يصاب به الناس، فإنه لا يمنع ذلك من اتّباعه. وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان، وإنما قذفوهم بما يحذّرون به سفهاءهم من أتباعهم. وهو أنهم قد سحروا، حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون، بمنزلة المجانين.
ولهذا قال تعالى: ١٧: ٤٨ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ؟ فَضَلُّوا. فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا مثّلوك بالشاعر مرة، والساحر أخرى، والمجنون مرة، والمسحور أخرى. فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيّره طريقا يسلكه، فلا يقدر عليه. فإنه أيّ طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة. فهو متحير في أمره، لا يهتدي سبيلا، ولا يقدر على سلوكها.
فهكذا حال أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه، حتى ضربوا له أمثالا، برّأه الله منها.
633
وهو أبعد الله عنها. وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان.
وأما قولكم: إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء، صبروا ورضوا، وتأسّوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعدّ لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة، فيمحقهم بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم. فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم. وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة لا إله غيره، ولا رب سواه.
وقد دل قوله: مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وحديث عائشة المذكور على تأثير السحر، وأن له حقيقة.
وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.
وقالوا: إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض، ولا قتل، ولا حل، ولا عقد.
قالوا: وإنما ذلك تخييل لأعين الناظرين، لا حقيقة له سوى ذلك.
وهذا خلاف ما تواترت به الآراء عن الصحابة والسلف، واتفق عليه الفقهاء، وأهل التفسير والحديث. وما يعرفه عامة العقلاء.
والسحر الذي يؤثر مرضا وثقلا وعقدا وحبا وبغضا ونزيفا وغير ذلك من الآثار موجود، تعرفه عامة الناس. وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به منه، وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا، كما يقوله هؤلاء. لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه.
وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم
634
حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به، مع أن هذا تغيير في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم؟ وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير الواقع في صفة أخرى من صفات النفس والبدن؟ فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا، والمتصل منفصلا، والميت حيا، فما المحيل لأن يغير صفات نفسه، حتى يجعل المحبوب إليه بغيضا، والبغيض محبوبا، وغير ذلك من التأثيرات. وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم ٧: ١٥٥ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فبين سبحانه أن أعينهم سحرت. وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي، وهو الحبال والعصيّ، مثل أن يكون السحرة استغاثت بأرواح حركتها، وهي الشياطين. فظنوا أنها تحركت بأنفسها. وهذا كما إذا جرّ من لا تراه حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر، ولا ترى الجار له، مع أنه هو الذي يجره، فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين، فقلبتها كتقليب الحية. فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها، والشياطين هم الذين يقلبونها. وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي. حتى رأى الحبال والعصي تتحرك، وهي ساكنة في أنفسها. ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا، فتارة يتصرف في نفس الرائي وإحساسه، حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به، وتارة يتصرف في المرئي باستغاثته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها.
وأما ما يقوله المنكرون: من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها، مثل الزئبق وغيره، حتى سعت. فهذا باطل من وجوه كثيرة. فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالا، بل حركة حقيقية. ولم يكن ذلك سحرا لأعين الناس، ولا يسمى ذلك سحرا، بل صناعة من الصناعات المشتركة. وقد قال تعالى: ٢٠: ٦٦ فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ولو كانت تحركت بنوع حيلة- كما يقوله المنكرون- لم يكن هذا من السحر في شيء. ومثل هذا لا يخفى.
635
وأيضا لو كان ذلك بحيلة- كما قال هؤلاء- لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزيبق. وبيان ذلك المحال ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها.
وأيضا: فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة، بل يكفي فيها حذاق الصاع. ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة، وخضوعه لهم، ووعدهم بالتقريب والجزاء.
وأيضا: فإنه لا يقال في ذلك ٢٠: ٧١، ٢٦: ٤٩ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها.
وبالجملة: فبطلان هذا أظهر أن يتكلف رده، فلنرجع إلى المقصود.

فصل


الشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد. وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود. فنفس حسده شر متصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه. فإن الله تعالى قال: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ فحقق الشر منه عند صدور الحسد. والقرآن ليس فيه لفظة مهملة.
ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد، كالضارب، والشاتم، والقاتل ونحو ذلك. ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود، لاه عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعث نار الحسد من قلبه إليه، وتوجهت إليه سهام الحسد من قبله. فيتأذى المحسود بمجرد ذلك. فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد.
فقوله تعالى: إِذا حَسَدَ بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل.
636
وقد تقدم في حديث أبي سعيد الصحيح: رقية جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها «بسم الله أرقيك. من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك» فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد.
ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها، إذا لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه، كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره، لم يؤثر فيه شيئا، وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيّفت نفسه الخبثة وانسمّت، واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد. فربما أعطبه وأهلكه، بمنزلة من فوّق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا. وربما صرعه وأمرضه. والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر.
وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة. وهي في ذلك بمنزلة الحيّة التي إنما يؤثر سمها إذا عضّت واحتدت فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية السمّ، فتؤثر في اللديغ، وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى تؤثر بمجرد نظرة. فتطمس البصر، وتسقط الحبل. كما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأبتر، وذي الطّفيتين منها.
فقال «اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل»
فإذا كان هذا في الحيات فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، وانسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها؟ فلله كم من قتيل؟ وكم من سليب؟ وكم من معافى عاد مضنى على فراشه، يقول طبيبه: لا أعلم داءه ما هو؟ فصدق. ليس هذا الداء من علم الطبائع. هذا من علم الأرواح وصفاتها. وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع، وانفعال الأجسام عنها.
وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس، والمحجوبون منكرون له. ولا يعلم تأثير ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه.
وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى؟ وهل الانفعال والتأثير، وحدوث ما
637
يحدث عنها من الأفعال العجيبة، والآثار الغريبة إلا من الأرواح، والأجسام آلتها بمنزلة الصانع؟ فالصنعة في الحقيقة له، والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع.
ومن له أدنى فطنة وتأمل لأحوال العالم وقد لطفت روحه، وشاهدت أحوال الأرواح وتأثيرتها، وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها. وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، خالق الأسباب والمسببات- رأى عجائب في الكون، وآيات دالة على وحدانية الله، وعظمة ربوبيته، وأن ثم عالما آخر تجرى عليه أحكام أخر، تشهد آثارها. وأسبابها غيب عن الأبصار.
فتبارك الله رب العالمين. وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع، وأحسن كل شيء خلقه.
ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر وآياته أعجب.
وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح، كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم؟ فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل، وتلك الصنائع الغريبة، وتلك الأفعال العجيبة، وتلك الأفكار والتدبيرات؟
كيف ذهبت كلها مع الروح، وبقي الهيكل سواء هو والتراب؟ وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك، أو يعاديك، ويخفّ عليك أو يثقل، ويؤنسك أو يوحشك إلا ذلك الأمر الذي هو وراء الهيكل المشاهد بالبصر؟.
فرب رجل عظيم الهيولى كبير الجثة. خفيف على قلبك، حلو عندك. وآخر لطيف الخلقة، صغير الجثة، أثقل على قلبك من جبل. وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها، وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها.
وبالجملة: فالعلق والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد:
إنما هي للأرواح أصلا والأشباح تبعا.
638

فصل


والعاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء.
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه.
فالعائن: تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته.
والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضا.
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده، من جماد أو حيوان، أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه. وربما أصابت عينه نفسه. فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية: تؤثر في العين.
وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى: ٥٨: ٥١ وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ: إنه الإصابة بالعين. أرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فنظر إليه قوم من العائنين، وقالوا: ما رأينا مثله، ولا مثل حجته. وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من لحمها. فما تبرح حتى تقع. فتنحر.
وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه، فتمر به الإبل، فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه. فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها طائفة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعين، ويفعل به كفعله في غيره. فعصم الله رسوله وحفظه. وأنزل عليه وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ هذا قول طائفة.
وقالت طائفة أخرى، منهم ابن قتيبة: ليس المراد: أنهم يصيبونك
639
بالعين، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وإنما أراد: أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك. قال الزجاج: يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك.
وهذا مستعمل في الكلام. يقول القائل: نظر إليّ نظرا كاد يصرعني.
قال: ويدل على صحة هذا المعنى: أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهم كانوا يكرهون ذلك أشدّ الكراهية، فيحدّون إليه النظر بالبغضاء.
قلت: النظر الذي يؤثر في المنظور: قد يكون سببه شدة العداوة والحسد فيؤثر نظره فيه، كما تؤثر نفسه بالحسد، ويقوى تأثير النفس عند المقابلة. فإن العدو إذا غاب عن عدوه فقد يشغل نفسه عنه. فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه، وتوجهت النفس بكليتها إليه. فيتأثر بنظره، حتى إن من الناس من يسقط، ومنهم من يحمّ، ومنهم من يحمل إلى بيته. وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا.
وقد يكون سببه الإعجاب. وهو الذي يسمونه: بإصابة العين. وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام، فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين. وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين. فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه، فيصاب بذلك.
قال عبد الرزاق: عن معمر عن هشام بن قتيبة قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «العين حق. ونهى عن الوشم».
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن عروة عن عامر عن عبيد بن رفاعة «أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم؟ قال: نعم. فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين».
فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العداوة. فهو نظر يكاد يزلقه.
640
لولا حفظ الله وعصمته. فهذا أشد من نظر العائن، بل هو جنس من نظر العائن فمن قال: إنه من الإصابة بالعين أراد: هذا المعنى. ومن قال: ليس به. أراد: أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب. فالقرآن حق.
وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوذ من عين الإنسان»
فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها.
وفي الترمذي من حديث على بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير حدثني حابس بن حبة التميمي حدثني أبي: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لا شيء في الهام. والعين حق».
وفيه أيضا من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا»
وفي الباب عن عبد الله بن عمرو. وهذا حديث صحيح.
والمقصود: أن العائن حاسد خاص. وهو أضر من الحاسد. ولهذا- والله أعلم- إنما جاء في السورة ذكر الحساد دون العائن. لأنه أعم. فكل عائن حاسد ولا بد. وليس كل حاسد عائنا. فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن. وهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته.
وأصل الحسد: هو بغض نعمة الله على المحسود، وتمني زوالها.
فالحاسد عدو النعم. وهذا الشر هو من نفسه وطبعها. ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها، بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر. فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية. فلهذا- والله أعلم- قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر. لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن. فالحسد من شياطين الإنس والجن، والسحر من النوعين.
641
وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن، وهو الوسوسة في القلب. فذكره في السورة الأخرى، كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله. فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه. بل هو أذى من أمر عنه. ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق.
والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له، وقبوله منه.
ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال، والعزم الجازم. لأن ذلك بسعيه وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه. إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته. فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة، وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة. وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة. ولهذا كان اليهود أسحر الناس وأحسدهم. فإنهم لشدة خبثهم: فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم. وقد وصفهم الله في كتابه بهذا وهذا. فقال: ٢: ١٠٢ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا، يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَلا تَكْفُرْ. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر، وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الالتباس. وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما- في موضع غير هذا.
وإذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما، وأنه لا يقوم غيرهما مقامهما.
642
وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن. كقوله تعالى: ٤: ٥٥ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وفي قوله: ٢: ١٠٩ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.
والشيطان يقارن الساحر والحاسد، ويحادثهما ويصاحبهما. ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان. لأن الحاسد شبيه بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه. لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس، وزوال نعم الله عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدا. فالحاسد من جند إبليس. وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه. وربما يعبده من دون الله، حتى يقضي له حاجته، وربما يسجد له.
وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب. ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ. وكان سحر عباد الأصنام أقوى من أهل الكتاب، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام. وهم الذين سحروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفي الموطأة عن كعب قال: «كلمات أحفظهن من التوراة، لولاها لجعلتني يهود حمارا: أعوذ بوجه الله العظيم، الذي لا شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى، ما علمت منها وما لم أعلم: من شر ما خلق، وذرأ، وبرأ».
والمقصود: أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه، ويزين له حسده، ويأمره بموجبه. والساحر بعلمه، وكسبه، واستعانته بالشياطين.
643

فصل


وقوله: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ يعم الحاسد من الجن والإنس.
فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. كما حسد إبليس أبانا آدم، وهو عدو لذريته، كما قال تعالى: ٣٥: ٦ إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس. والوسواس يعمهما، كما سيأتي بيانهما.
والحسد يعمهما أيضا. فكلا الشيطانين حاسد موسوس. فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعا.
فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم.
وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها: شرا عاما. وهو شر ما خلق. وشر الغاسق إذا وقب. فهذان نوعان.
ثم ذكر شر الساحر والحاسد، وهما نوعان أيضا. لأنهما من شر النفس الشريرة. وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده، وهو الساحر. وقلّما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرب إليه: إما بذبح باسمه، أو بذبح يقصد به هو، فيكون ذبحا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق.
والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان. فهو عبادة له، وإن سماه بما سماه به. فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه. فمن سجد لمخلوق، وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة، كما أقبّلها بالنعم، أو هذا إكرام: لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله فليسمه بما يشاء.
وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به، وتقرب إليه بما يحب.
فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخداما، وصدق. هو استخدام من الشيطان له. فيصير من خدم الشيطان وعابديه. وبذلك يخدمه
644
الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة. فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده، كما يفعل هو به.
والمقصود: أن هذا عبادة منه للشيطان. وإنما سماه استخداما. قال تعالى: ٣٦: ٦٠ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وقال تعالى: ٣٤: ٤٠، ٤١ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ قالُوا: سُبْحانَكَ، أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ.
فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين. وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة. ولبئس المولى، ولبئس العشير. فهذا أحد النوعين.
والنوع الثاني: من يعينه الشيطان، وإن لم يستعن هو به. وهو الحاسد. لأنه نائبة وخليفته. لأن كليهما عدو نعم الله، ومنغصها على عباده.

فصل


وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله «إذا حسد» لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه، ولا بلسانه، ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله. فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله.
وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك لإخوة يوسف.
لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر بها، بل يعصيها طاعة الله وخوفا وحياء منه، وإجلالا له. أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله، ومحبة لما يبغضه. فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها بالدعاء للمحسود، وتمنى زيادة الخير له، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسده، ورتب على حسده مقتضاة: من الأذى بالقلب، واللسان والجوارح فهذا الحسد المذموم. هذا كله حسد
645
تمنى الزوال.
وللحسد ثلاث مراتب: إحداها هذه.
والثانية: تمنى استصحاب عدم النعمة. فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله، أو فقره، أو ضعفه، أو شتات قلبه عن الله، أو قلة دينه. فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب. فهذا حسد على شيء مقدر. والأول حسد على شيء محقق.
وكلاهما حاسد، عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله تعالى، وعند الناس. ولا يسود أبدا، ولا يواسى فإن الناس لا يسوّدون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم. فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسوّدونه باختيارهم أبدا إلا قهرا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها. فهم يبغضونه وهو يبغضهم.
والحسد الثالث: حسد الغبطة، وهو تمنى أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه. فهذا لا بأس به، ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة، وقد قال تعالى: ٨٣: ٢٦ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، وسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة. فهو يقضى بها ويعلمها الناس»
فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأن يكون من سبّاقهم وعليتهم ومصلّيهم لا من فساكلهم «١» فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، وتمنى دوام نعمة الله عليه. فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
فهذه السورة من أكبر أدوية الحسد. فإنها تتضمن التوكل على الله،
(١) الفسكل بوزن قنفذ وذبرج الفرس الذي يجيء في حلبة السباق آخر الخيل.
646
والالتجاء إليه، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة. فهو مستعيذ بولي النعم وموليها. كأنه يقول: يا من أولاني نعمته وأسداها إليّ أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني، ويزيلها عني. وهو حسب من توكل عليه، وكافى من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستعير. وهو نعم المولى ونعم النصير. فمن تولاه واستنصر به، وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه، تولاه وحفظه وحرسه وصانه. ومن خافه واتقاه أمّنه مما يخاف ويحذر.
وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع ٦٥: ٢، ٣ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته. فإن الله بالغ أمره. وقد جعل الله لكل شيء قدرا. لا يتقدم عنه ولا يتأخر. ومن لم يخفه أخافه من كل شيء، وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله. قال تعالى: ١٦: ٩٨، ٩٩ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وقال: ٣: ١٧٥ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. فَلا تَخافُوهُمْ، وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي يخوفكم بأوليائه، ويعظمهم في صدوركم. فلا تخافوهم، وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم.

فصل


ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب.
أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجأ إليه. وهو المقصود بهذه السورة، والله تعالى سميع لاستعاذته، عليم بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به: سمع الإجابة، لا السمع العام. فهو مثل قوله: «سمع الله لمن حمده» وقول الخليل صلّى الله عليه وسلّم: ١٤: ٣٩ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ومرة يقرنه بالعلم، ومرة بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ
647
ذلك. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي مجيب عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، لينبسط أمل المستعيذ، ويقبل بقلبه على الدعاء.
وتأمل حكمة القرآن، كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ «السميع العليم» في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ «السميع البصير» في سورة حم المؤمن. فقال: ٤٠: ٥٦ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر. وأما نزغ الشيطان فوساوس، وخطرات يلقيها في القلب، يتعلق بها العلم. فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر، ويدرك بالرؤية. والله أعلم.
السبب الثاني: تقوى الله، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتقى الله تولّى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: ٣: ١٢١ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن عباس «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»
فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه. ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف؟ ومن يحذر؟.
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا. فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغى عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه. وهو لا يشعر. فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه. ولو رأى المبغى عليه ذلك لسرّه بغيه عليه.
ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي، دون آخره ومآله. وقد قال تعالى: ٢٢: ٦٠ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ
648
اللَّهُ
فإذا كان الله قد ضمن له النصر، مع أنه قد استوفى حقه أولا، فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه، بل بغى عليه وهو صابر؟ وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وقد سبقت سنة الله: أنه لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.
السبب الرابع: التوكل على الله. فمن يتوكل على الله فهو حسبه.
والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك. فإن الله حسبه، أي كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد، والجوع والعطش، وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا.
وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف:
جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: ٦٥: ٣ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه، وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجا من ذلك، وكفاه ونصره.
وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده، وعظم منفعته، وشدة حاجة العبد إليه في «كتاب الفتح القدسي» وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة، وأنه من مقامات العوام. وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة. وبينا أنه من أجلّ مقامات العارفين، وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجته إلى التوكل أعظم وأشد، وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله.
وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد، والعائن، والساحر، والباغي.
649
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له. فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.
وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه لم يقدر عليه. فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه، حصل الشر وهكذا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبّثها به، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما، لا يفتر عنه، وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا. فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار. ودام الشر، حتى يهلك أحدهما. فإذا جبذ روحه منه، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به، وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به. بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا. فإن الحسد كالنار، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا.
وهذا باب عظيم النفع لا يلقّاه إلّا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية، وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه، وتعلق روحه به، ولا يرى شيئا آلم لروحه من ذلك، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها. فوثقت بالله، وسكنت إليه، واطمأنت به، وعلمت أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلا.
فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم، وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصر مخلوق مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس:
وهو الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والانابة
650
إليه في محل خواطر نفسه، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئا فشيئا، حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية. فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب، والتقرب إليه وتملقه وترضيه، واستعطافه وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة محبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه. فلا يستطيع قلبه انصرافا عن ذكره، ولا روحه انصرافا عن محبته. فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه، والطريق إلى الانتقام منه، والتدبير عليه؟ هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله، وطلب مرضاته. بل إذا مسّه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج، ناداه حرس قلبه: إياك وحمى الملك. اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حلّ فيها، ونزل بها. مالك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك وأدار عليه الحرس، وأحاطه بالسور، قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس: أنه قال:
٣٨: ٨٢، ٨٣ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فقال تعالى: ١٥: ٤٢ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وقال:
١٦: ٩٩، ١٠٠ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وقال في حق الصديق يوسف صلّى الله عليه وسلّم: ١٢: ٢٤ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن، وصار داخل اليزك، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصّن به. ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. فإن الله تعالى يقول: ٤٢: ٣٠ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
651
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وقال لخير الخلق، وهم أصحاب نبيه دونه صلّى الله عليه وسلّم: ٣:
١٦٥ أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ: أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها. وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره.
وفي الدعاء المشهور «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم.
واستغفرك لما لا أعلم»
.
فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه. فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك. فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه. ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليّ.
وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلّا الذنوب وموجباتها. فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنقع له من التوبة النصوح.
وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها. فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه. والله يتولى نصرته وحفظه، والدفع عنه ولا بد. فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به. وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله. لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. فما كل أحد يوفق لهذا. لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
652
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه. فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد. ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد. وكانت له فيه العاقبة الحميدة.
فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جنّة واقية، وحصن حصين.
وبالجملة: فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها.
ومن أقوى الأسباب: حسد الحاسد والعائن. فإنه لا يفتر ولا يني، ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود. فحينئذ يبرد أنينه، وتتطفئ ناره، لا أطفأها الله. فما حرس العبد نعمة الله بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله. وهو كفران النعمة. وهو باب إلى كفران المنعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه. فمن لم يكن له جند ولا عسكر، وله عدو. فإنه يوشك أن يظفر به عدوه، وإن تأخرت مدة الظفر. والله المستعان.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله- وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا، وله نصيحة، وعليه شفقة. وما أظنك تصدّق بأن هذا يكون، فضلا عن أن تتعاطاه.
فاسمع الآن قوله عز وجل: ٤١: ٣٤- ٣٦ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
653
وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وقال: ٢٨: ٥٤ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
وتأمل حال النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ ضربه قومه حتى أدموه. فجعل يسلت الدم عنه،
ويقول «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؟.
أحدها: عفوه عنهم. والثاني: استغفاره لهم. والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون. والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه.
فقال «اغفر لقومي»
كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به. هذا ولدي: هذا غلامي. هذا صاحبي، فهبه لي.
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس، ويطيبه إليها وينعمها به.
اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة، حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هذا من ربك، وتحب أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم؟ ليعاملك الله تلك المعاملة. فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك، جزاء وفاقا. فانتقم بعد ذلك، أو اعف، وأحسن أو اترك. فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك.
فمن تصور هذا المعنى، وشغل به فكره. هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه.
654
وهذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة. كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم، وهم يسيئون إليه.
فقال «لا يزال معك من الله ظهير، ما دمت على ذلك».
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه. فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير، وهو مسيء إليه.
وجد قلبه وداءه وهمته مع المحسن على المسيء. وذلك أمر فطري، فطر الله عليه عباده. فهو بهذا الإحسان، قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبزا.
هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملكه بإحسانه، فيستعبده وينقاد له، ويذل له، ويبقى الناس إليه. وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره، إن أقام على إساءته إليه. فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة. والله هو الموفق والمعين. بيده الخير كله، لا إله غيره، وهو المسؤول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه.
وفي الجملة: ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة. سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه. فهو الذي يحسن عبده بها.
وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى: ١٠: ١٠٧ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على
655
أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك».
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله، بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه. وخرج من قلبه اهتمامه به، واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلا، واشتغالا به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فإن كان مؤمنا بالله فالله يدافع عنه ولا بد. وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه.
فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج، مزج له. وإن كان مرة الله عليه جملة. ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة. ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة.
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: من خاف الله خافه كل شيء. ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء.
هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه، وتوكله عليه، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه. ولا يرجو إلا إياه. ومتى علّق قلبه بغيره ورجاه وخافه: وكل إليه وخذل من جهته، فمن خاف شيئا غير الله سلّط عليه. ومن رجا شيئا سوى الله خذل من جهته وحرم خيره. هذه سنة الله في خلقه. ولن تجد لسنة الله تبديلا.

فصل


فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة
656
المهمة التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه، ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير، وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر والنّفث في العقد.
وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق.
ففرقة: أنكرت تأثير هذا وهذا. وهم فرقتان.
فرقة: اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجن، وأنكرت تأثيرهما البتة.
وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقوى والتأثيرات.
وفرقة أنكرت وجودهما بالكلية. وقالت: لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس، وصفاته وأعراضه فقط. ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به. وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام. وهو قول شذاذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف، وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة.
الفرقة الثانية: أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن، وأقرت بوجود الجن والشياطين، وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم.
الفرقة الثالثة: بالعكس، أقرت وجود النفس الناطقة المفارقة البدن، وأنكرت وجود الجن والشياطين. وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها. وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم.
وهؤلاء يقولون إن ما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهو من تأثيرات النفس، ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها، بغير واسطة شيطان منفصل، وابن سينا وأتباعه على هذا القول، حتى إنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب.
ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولى العالم.
وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل. ليسوا من أتباع الرسل جملة.
657
الفرقة الرابعة: وهم أتباع الرسل، وأهل الحق: أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن، وأقروا بوجود الجن والشياطين، وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما، وشرهما، واستعاذوا بالله منه. وعلموا أنه لا يعيذهم منه، ولا يجيرهم إلّا الله.
فهؤلاء أهل الحق. ومن عداهم مفرط في الباطل، أو معه باطل وحق. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فهذا ما يسر الله من الكلام على سورة الفلق.
658
سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الناس (١١٤) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
قد تضمنت أيضا استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه.
فالاستعاذة تقدمت.
وأما المستعاذ به: فهو الله بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ.
فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم، وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم.
فذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث. ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة، فنقول:
الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمنة لحقهم وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر
659
عنهم، وحفظهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم. وذلك يتضمن قدرته التامة. ورحمته الواسعة، وإحسانه، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم، وكشف كرباتهم.
الإضافة الثانية: إضافة الملك: فهو ملكهم المتصرف فيهم: وهم عبيده ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق: الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجأهم. فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.
الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية. فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره. فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم. فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة.
وإذا كان وحده هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه.
ولا ملجأ لنا منه إلا إليه. ولا معبود لنا غيره. فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى، ولا يحب سواه، ولا يذلّ لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكّل إلا عليه، لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه: إما أن يكون مربّيك والقيم بأمورك، ومتولي شأنك وهو ربك، فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه.
660
فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم، ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟.
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة: من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا.
ثم إنه سبحانه كرر الإسم الظاهر، ولم يوقع المضر موقعه. فيقول:
رب الناس وملكهم وإلههم: تحقيقا لهذا المعنى، وتقوية له. فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات، حتى كأنها صفة واحدة.
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.
وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها. فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه. وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن المشرك ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره باطلا.
ووسّط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره. فهو المطاع إذا أمر. وملكه لهم تابع لخلقه إياهم. فملكه من كمال ربوبيته. وكونه إلههم الحق من كمال ملكه. فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه.
وملكه يستلزم إلهيته: يقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته وقهرهم بملكه. واستعبدهم بإلهيته.
فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة، التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق «رب الناس، ملك الناس، إله الناس».
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان،
661
وتضمنت معاني أسمائه الحسنى.
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى. فإن الرب هو القادر الخالق، البارئ المصور، الحي القيوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم، الجواد المعطي. المانع، الضار النافع، المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء- إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى.
وأما الملك: فهو الآمر الناهي، المعز المذل، الذي يصرّف أمور عباده كما يحب، ويقلّبهم كما يشاء. وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى، كالعزيز، الجبار المتكبر، الحكم العدل، الخافض الرافع، المعز المذل، العظيم الجليل الكبير، الحسيب المجيد، الوالي المتعالي، مالك الملك، المقسط الجامع- إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
وأما الإله: فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال. فيدخل في هذا الإسم جميع الأسماء الحسنى. ولهذا كان القول الصحيح: أن «الله» أصله الإله. كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه، إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى. فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ، ويمنع من الوسواس الخناس ولا يسلط عليه.
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر. وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وأن نسبة باديه إلى الخافي يسير.
662

فصل


وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها. وهو الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
فسورة الفلق: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد. وهو شر من خارج.
وسورة الناس: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل.
فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه.
لأنه ليس من كسبه.
والشر الثاني في سورة الناس: يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي. فهذا شر المعائب. والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب. ولا ثالث لهما.
فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات. وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.

فصل


إذا عرف هذا، فالوسواس: فعلال من وسوس.
وأصل الوسوسة: الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه.
فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يسوس الشيطان إلى العبد.
663
ومن هذا: وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن.
والظاهر- والله أعلم- أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس. وهو الإذن. فقيل: وسوسة الحلي.
لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له.
ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها. فقالوا: وسوس وسوسة. فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه.
ونظير هذا: ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه، كالدوران، والغليان، والنزوان، وبابه.
ونظير ذلك: زلزل، ودكدك، وقلقل، وكبكب الشيء. لأن الزلزلة حركة متكررة. وكذلك الدكدكة، والقلقلة. وكذلك كبكب الشيء: إذا كبه في مكان بعيد، فهو يكبّ فيه كبا بعد كب كقوله تعالى: ٢٦: ٩٤ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ومثله: رضرضه إذا كرر رضّة مرة بعد مرة.
ومثله: ذرذره. إذا ذره شيئا بعد شيء. ومثله صرصر: الباب: إذا تكرر صريره. ومثله: مطمط الكلام: إذا مططه شيئا بعد شيء. ومثله: كفكف الشيء: إذا كرر كفّه، وهو كثير.
وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب. لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر، فإذا قلت: ذرّ الشيء وصر الباب، وكفّ الثوب، ورض الحبّ: لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر، وصرصر، ورضرض، ونحوه.
فتأمله. فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني.
وقد تقدم التنبيه على ذلك. فلا وجه لإعادته.
664
وكذلك قولهم: عج العجل: إذا صوت. فإن تابع صوته، قالوا:
عجعج. وكذلك. ثجّ الماء إذا صبّ. فإن تكرر ذلك قيل: ثجثج.
والمقصود: أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها، قيل:
وسوس.

فصل


إذا عرف هذا. فاختلف الن
حاة في لفظ الوسواس: هل هو وصف، أو مصدر؟ على قولين. ونحن نذكر حجة كل قول. ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله وفضله.
فأما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه فعلل، والوصف من فعلل إنما مفعلل، كمدحرج، ومسرهف، ومبيطر، ومسيطر. وكذلك هو من فعل بوزن مفعل، كمقطع، ومخرج، وبابه. فلو كان بالوسواس صفة لقيل:
موسوس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل: مزلزل، لا زلزال. وكذلك من دكدك: مدكدك. وهو مطرد. فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة. أو يكون على حذف مضاف، تقديره: ذو الوسواس.
قالوا: والدليل عليه أيضا قول الشاعر:
تسمع للحلى بها وسواسا
فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.
قال أصحاب القول الآخر: الدليل على أنه وصف: أن فعلل ضربان.
أحدهما: صحيح لا تكرار فيه، كدحرج، وسرهف، وبيطر. وقياس مصدر هذا الفعللة، كالدحرجة والسّرهفة، والبيطرة، والفعلان- بكسر الفاء- كالسّرهاف والدحراج. والوصف منه: مفعلل كمدحرج ومبيطر.
والثاني: فعّل الثنائي المكرر كزلزل، ودكدك ووسوس. وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار. لأن الأصل السلامة من التكرار. ومصدر
665
هذا النوع والوصف منه: مساو لمصدر الأول ووصفه. فمصدره يأتي على الفعللة، كالوسوسة، والزلزلة، والفعلان كالزلزال.
وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل: الفعلان. لأمرين.
أحدهما: أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع وسكون الثاني. فجعل إفعال مصدر أفعل، وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفعلان. فكان الفعلال أولى بهذا الوزن من الفعللة.
الثاني: أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله، ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له. فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة، أو تساويا في الاطراد، مع أن فعللة أرجح في الاستعمال وأكثر. هذا هو الأصل.
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء.
فقالوا: وسوس الشيطان وسواسا، ووعوع الكلب وعواعا. إذا عوى، وعظعظ السهم «١» عظعاظا. والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة. وهذا المفتوح نادر. لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح، مع كونه أصلا، إلا على فعللة وفعلال بالكسر. فلم يحسن بالرباعي المكرر، لفرعيته، أن يكون مصدره إلا كذلك. لأن الفرع لا يخالف أصله، بل يحتذي فيه حذوه. وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال بالفتح. فإن شذ حفظ ولم يزد عليه.
قالوا: وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر، ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي. لأنهما متشاركان وزنا.
فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب، كما لم يكن لفعال
(١) في القاموس عظعظ السهم عظعظة وعظ بالكسر ارتعش في مضيه والتوى.
666
فيها نصيب. فلذلك استندروا وقوع وسواس، ووعواع، وعظعاظ مصادر.
وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا: وإذا ثبت هذا: فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب، وتجنبا للشاذ.
فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا. فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب.
ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران.
أحدهما: أن كل مصدر أضيف إليه «ذو» تقديرا، فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به. كرضى وصوم وفطّر، وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط: وسواس، ووعواع، وعظعاظ، على أن منع المصدرية في هذا ممكن. لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم: وسوس إليه الشيطان وسواسا. وهذا لا يتعين للمصدرية، لاحتمال أن يراد به الوصفية: وينتصب وسواسا على الحال، ويكون حالا مؤكدة. فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى، كقوله تعالى: ٤: ٧٩ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا و ١٦: ١٢ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.
نعم، إنما تتعين مصدرية الوسواس إذا سمع: أعوذ بالله من وسواس الشيطان ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله، كما سمع ذلك في الوسوسة. ولكن أين لكم ذلك؟ فهاتوا شاهده. فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا لا بانتصابه بعد الفعل.
الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن «وسواسا» مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا: أن المصدر المضاف إليه «ذو» تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. بل يلزم طريقة واحدة، ليعلم أصالته في المصدرية، وأنه عارض
667
الوصفية فيقال: امرأة صوم، وامرأتان صوم، ونساء صوم لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم، وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فنقول: رجل ثرثار، وامرأة ثرثارة، ورجال ثرثارون، وفي الحديث «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» وقالوا: ريح رقراقة، أي تحرك الأشجار، وريح سفسافة أي تنخل التراب، ودرع فضفاضة أي متسعة، والفعل من ذلك كله فعلل، والمصدر فعللة وفعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح وكذلك قالوا: تمتام وفأفاء، ولضلاض، أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثير الكلام وهرهار أي ضحاك، وكهكاه، ووطواط أي ضعيف، وحشحاش، وعسعاس أي خفيف. وهو كثير. ومصدره كله الفعللة، والوصف فعلال بالفتح، ومثله هفهاف أي خميص، ومثله دحداح، أي قصير، ومثله: بجباج أي جسيم، وتختاج:
أي ألكن، وشمشام: أي سريع، وشيء خشخاش أي مصوت، وقعقاع مثله، وأسد قضقاض: أي كاسر، وحيّة نضناض: تحرك لسانها.
فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا. فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه؟.
فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر، كثرثار، وتمتام، ودحداح وبابه.
ويدل عليه وجه آخر: وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا، بل هو متعين في الوصفية، وهو «الخناس» فالوسواس، والخناس: وصفان لموصوف محذوف. وهو الشيطان.
وحسّن حذف الموصوف هاهنا غلبة الوصف، حتى صار كالعلم عليه.
والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا. فيقع اللبس كالطويل والقبيح، والحسن ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره.
فأما إذا غلب الوصف واختص، ولم يعرض فيه اشتراك. فإنه يجرى
668
مجرى الاسم، ويحسن حذف الموصوف: كالمسلم والكافر، والبر، والفاجر، والقاصي، والداني، والشاهد والوالي، ونحو ذلك. فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.
وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل.
ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر: أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم. فلو أريد المصدر لأتى بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية. فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرينه تدل على تعيين أحدهما. فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية؟.
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما، فإنهما مصادر لا تلتبس بالأوصاف.
فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف، أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف، مبالغة، على الطريقتين في ذلك.
فتعين أن «الوسواس» هو الشيطان نفسه. وأنه ذات لا مصدر. والله أعلم.

فصل


وأما الخناس: فهو فعّال، من خنس يخنس: إذا توارى واختفى.
ومنه قول أبي هريرة «لقيني النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة، وأنا جنب. فانخنست منه».
وحقيقة اللفظ: اختفاء بعد ظهور. فليست لمجرد الاختفاء. ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى: ٨١: ١٥ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى. وكذلك قال علي رضي الله عنه: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى.
669
وقالت طائفة: الخنّس: هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعة السيارة.
قالوا: وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء. و «الخناس» مأخوذ من هذين المعنيين. فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر. فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان. وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها. فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به، انخنس وانقبض، كما ينخنس الشيء ليتوارى. وذلك الانخناس والانقباض: هو أيضا تجمّع ورجوع، وتأخر عن القلب إلى خارج. فهو تأخر ورجوع معه اختفاء.
وخنس وانخنس: يدل على الأمرين معا. قال قتادة: الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان. فإذا ذكر العبد ربه خنسه.
ويقال: رأسه كرأس الحية. وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدثه. فإذا ذكر الله خنس. وإذا لم يذكره عاد، ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه.
وجيء من هذا الفعل بوزن فعّال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس: إيذانا بشدة هروبه ورجوعه، وعظم نفوره عند ذكر الله. وأن ذلك دأبه وديدنه لا أنه يعرض له ذلك ذكر الله أحيانا. بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر. فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها، كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصىّ ونحوها. فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها.
ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به من ذكر الله وطاعته.
وفي أثر عن بعض السلف: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر. لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر، والتوجه
670
والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة. ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا.
فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار. فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء «الوسواس» مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا، حتى يعزم عليها العبد. وجاء بناء «الخناس» على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل. لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.

فصل


وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ صفة ثالثة للشيطان.
فذكر وسوسته أولا. ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس ثالثا.
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره.
فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا. فحدثته. ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار. فلما رأيا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرعا. فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم:
على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا- أو قال- شيئا»
.
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط. فإذا قضى
671
أقبل. فإذا ثوب بها أدبر. فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا- لما لم يكن يذكر- حتى لا يدري: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فإذا لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ سجد سجدتي السهو».
ومن وسوسته: ما
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول:
من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته»
.
وفي الصحيح: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: «يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
ومن وسوسته أيضا: أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله. ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه. قال تعالى: حكاية عن صاحب موسى إنه قال: ١٨: ٦٣ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه «الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس» ولم يقل: من شر وسوسته: لتعم الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعم كل شره. ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا، وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا. وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة. فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله، حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة. ثم لا يزال يمثل له ويخيل ويمنى ويشهى وينسى علمه بضررها، ويطوى عنه سوء عاقبتها. فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط. وينسى ما وراء ذلك. فتصير الإرادة عزيمة جازمة. فيشتد الحرص عليها من القلب. فيبعث
672
الجنود في الطلب. فيبعث الشيطان معهم مددا لهم وعونا. فإن فتروا حرّكهم. وإن ونوا أزعجهم. كما قال تعالى: ١٩: ٨٣ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزّتهم وأثارتهم. فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. وقد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم. وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم. فلا بتلك النخوة والكبر ولا برضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله. كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه... وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة... وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء: إنما هو الوسوسة. فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه. وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.
فمن شره: أنه لص سارق لأموال الناس. فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف. وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم. فيدخل سارقا ويخرج مغيرا. ويدل على عوراتهم. فيأمر العبد بالمعصية. ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا: أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به.
فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله. ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته. وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.
673
ومن شره: أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة.
كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم- إذا هو نام- ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلّت عقدة. فإن توضأ انحلت عقدة. فإن صلى انحلت عقده كلها.
فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»
.
ومن شره: أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح. فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه» رواه البخاري.
ومن شره: أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها. فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه. فإن خالفه وسلكه ثبّطه فيه وعوّقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع. فإن عمله وفرغ منه قيّض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته.
ويكفي من شره: أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم.
وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
ولقد بلغ شره: أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة. ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة للنار، من كل ألف:
تسعمائة وتسعة وتسعين. ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له، وأن يعبد هو من دون الله. فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله، وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض.
ويكفي من شره: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار. فرد الله كيده عليه. وجعل النار على خليله بردا وسلاما.
674
وتصدى للمسيح صلّى الله عليه وسلّم حتى أراد اليهود قتله وصلبه. فرد الله كيده.
وضان المسيح ورفعه إليه.
وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا.
واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض، ودعوى أنه ربهم الأعلى.
وتصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وظاهر الكفار على قتله بجهده. والله تعالى يكبته ويرده خاسئا.
وتفلّت على النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به. وهو في الصلاة.
فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألعنك بلعنة الله».
وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته؟.
ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها. إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه. ولكن ينحصر شره في ستة أجناس. لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر.
الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله. فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه. وهو أول ما يريد من العبد.
فلا يزال به حتى يناله منه. فإذا نال ذلك صيّره من جنده وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليس ونوّابه. فإن يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر.
وهي البدعة، وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي. لأن ضررها في نفس الدين. وهو ضرر متعد. وهي ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به. وهي باب الكفر والشرك. فإذا نال
675
منه البدعة، وجعله من أهلها صار أيضا نائبه، وداعيا من دعاته.
فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر. وهي الكبائر على اختلاف أنواعها. فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها. ولا سيما إن كان عالما متبوعا. فهو حريص على ذلك، لينفر الناس عنه، ثم يشيع ذنوبه ومعاصيه في الناس، ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليس ولا يشعر. فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها. فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها، لا نصيحة منهم، ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه. كل ذلك لينفر الناس عنه، وعن الانتفاع به.
وذنوب هذا- ولو بلغت عنان السماء- هي أهون عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلم منه لنفسه، إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته، وبدّل سيئاته حسنات.
وأما ذنوب أولئك: فظلم للمؤمنين، وتتبع لعوراتهم، وقصد لفضيحتهم. والله سبحانه بالمرصاد، لا تخفى عليه كمائن الصدر، ودسائس النفوس.
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة: وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها. كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «إياكم ومحقّرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض»
وذكر حديثا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعود حطب، حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا.
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها. فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه.
676
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة: وهي اشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته، شحيحا به، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب: نقله إلى المرتبة السادسة وهي: أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه. وقلّ من يتنبه لهذا من الناس. فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة. فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله.
وهو معذور. ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوّت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله.
وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولعبادة المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونوابه في الأمة، وخلفائه في الأرض. وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك. فلا يخطر ذلك بقلوبهم. والله يمنّ بفضله على من يشاء من عباده.
فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيي عليه: سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفاءه ليشوش عليه قلبه. ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس
677
من الانتفاع به. فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه، لا يفتر ولا يني. فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب، ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
فتأمل هذا الفصل. وتدبر موقعه، وعظيم منفعته، واجعله ميزانك تزن به الناس، وتزن به الأعمال. فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق. والله المستعان، وعليه التكلان.
ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه.

فصل


وتأمل السر في قوله تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل:
في قلوبهم والصدر: هو ساحة القلب وبيته. فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب. فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: ٣: ١٥٤ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ.
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو موسوس في الصدر. ووسوسته واصلة إلى القلب. ولهذا قال تعالى: ٢٠: ١٢٠ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ولم يقل «فيه» لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك، وأوصله إليه. فدخل في قلبه.

فصل


وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور: بم يتعلق؟.
678
فقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم.
والمعنى: يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس، أي الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن. فالوسواس يوسوس للجني، كما يوسوس للانسي.
وعلى هذا القول: فيكون «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» نصب على الحال.
لأنه مجرور بعد معرفة، على قول البصريين. وعلى قول الكوفيين: نصب بالخروج من المعرفة. هذه عبارتهم. ومعناها: أنه لما لم يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها. فكان موضعه نصبا.
والبصريون يقدرونه حالا. أي كائنين من الجنة والناس. وهذا القول ضعيف جدا، لوجود:
أحدها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني.
ويدخل فيه، كما يدخل في إنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي. فأي دليل يدل على هذا، حتى يصح حمل الآية عليه؟.
الثاني: أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا. فإنه قال: «الذي يوسوس في صدور الناس» فكيف يبين الناس بالناس. فإن معنى الكلام على قوله:
يوسوس في صدور الناس الذين هم، أو كائنين، من الجنة والناس. أفيجوز أن يقال: في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم؟ هذا ما لا يجوز، ولا هو في الاستعمال فصيح.
الثالث: أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين: جنة، وناس. وهذا غير صحيح. فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه.
الرابع: أن «الجنة» لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه، لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا. ولفظهما يأبى ذلك. فإن الجن إنما سمو جنّا من الاجتنان، وهو الاستتار. فهم مستترون عن أعين البشر. فسمو جنّا لذلك،
679
من قولهم جنّة الليل وأجنّة: إذا ستره. وأجن الميت: إذا ستره في الأرض.
قال:
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي وعباس وآل أبي بكر
يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه. قال تعالى:
٥٣: ٣٢ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ومنه المجن: لاستتار المحارب به من سلاح خصمه. ومنه الجنة: لاستتار داخلها بالأشجار. ومنه الجنة- بالضم لما يقي الإنسان من السهام والسلاح. ومنه المجنون: لاستتار عقله.
وأما الناس: فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط. وهو عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد.
والإنس والإنسان: مشتق من الإيناس، وهو الرؤية والإحساس. ومنه قوله: ٢٨: ٢٩ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رآها ومنه ٤: ٦ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي أحسستموه ورأيتموه.
فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس، أي بالعين يرى. والناس فيه قولان.
أحدهما: أنه مقلوب من أنس، وهو بعيد. والأصل عدم القلب.
والثاني: وهو الصحيح، أنه من النوس، وهو الحركة المتتابعة.
فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة، كما سمي الرجل حارث وهمام، وهما أصدق الأسماء كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أصدق الأسماء: حارث وهمام»
لأن كل أحد له هم وإرادة، هي مبدأ، وحرث وعمل، هو منتهي.
فكل أحد حارث وهمام. والحرث والهم: حركتا الظاهر والباطن. وهو حقيقة النّوس.
وأصل ناس: نوس، تحركت الواو، وقبلها: فتحة. فصارت ألفا.
هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق «الناس».
680
وأما قول بعضهم: إنه من النسيان، وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه.
وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم: فليس هذا القول بشيء. وأين النسيان، الذي مادته ن س ى إلى الناس الذي مادته ن وس؟ وكذلك أين هو من الأنس الذي مادته أن س؟.
وأما إنسان فهو فعلان من أن س. والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوز فيه غير هذا ألبتة. إذ ليس في كلامهم: أنسن، حتى يكون إنسانا إفعالا منه. ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين، إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا.
فإن قلت: فهلا جعلته افعلالا. وأصله إنسيان، كليلة إضحيان، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا؟
قلت: يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم، وحذف الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له. وذلك كله فاسد، على أن «الناس» قد قيل: إن أصله الأناس. فحذفت الهمزة. فقيل: الناس. واستدل بقول الشاعر:
إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلينا ولا ريب أن أناسا فعال. ولا يجوز فيه غير ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسا، فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس، ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق.
ويكون وزن ناس- على هذا القول-: عال. لأن المحذوف فاؤه.
وعلى القول الأول: يكون وزنه: فعل. لأنه من النوس.
وعلى القول الضعيف: يكون وزنه: فلع. لأنه من نسى. فنقلت لامه إلى موضع العين، فصار ناسا وزنه فلعا.
681
والمقصود: أن «الناس» اسم لبني آدم. فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» بيانا لقوله: فِي صُدُورِ النَّاسِ وهذا واضح لا خفاء فيه.
فإن قيل: لا محذور في ذلك. فقد أطلق على الجن اسم الرجال.
كما في قوله تعالى: ٧٢: ٦ وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم:
الناس؟.
قلت: هذا هو الذي غرّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية.
وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس. ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.
وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك:
لم يلزم من ذلك: وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس. وذلك لأن الناس والجنة متقابلان. وكذلك الإنس والجن. فالله سبحانه يقابل بين اللفظين كقوله: ٥٥: ٣٣امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وهو كثير في القرآن. وكذلك قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يقتضى أنهما متقابلان. فلا يدخل أحدهما في الآخر، بخلاف الرجال والجن. فإنهما لم يستعملا متقابلين. فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال: الجن والإنس.
وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ «الناس» لأنه قابل بين الجنة والناس. فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر.
682
فالصواب: القول الثاني. وهو أن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان إنس وجن. فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس.
فالموسوس نوعان: إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب. وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة. لأنه يدخل في ابن آدم، ويجرى منه مجرى الدم. على أن الجني قد يتمثل له، ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي، كما
في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان- والعنان الغمام- بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».
فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة: اشتراكهما في الوحي الشيطاني.
قال تعالى: ٦: ١١٢ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسى مثله.
فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني. ويشتركان في الوسوسة.
وعلى هذا: تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول. وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس، وشياطين الجن.
وعلى القول الأول: إنما تكون استعاذة من شر شياطين الجن فقط.
فتأمله فإنه بديع جدا.
683
فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين. وله الحمد والمنة. وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط. فما ذلك على الله بعزيز. والحمد لله رب العالمين. ونختم الكلام على السورتين بذكر:
684
قاعدة نافعة
فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره، ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب.
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان. قال تعالى: ٤١: ٣٦ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفي موضع آخر ٧: ٢٠٠ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقد تقدم: أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.
وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة «هو» الدال على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في سورة الأعراف، لاستغناء المقام عنه. فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس. وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه. وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم. كما قال الله تعالى.
والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا. بل يريه أن هذا ذلّ وعجز، ويسلّط
685
عليه عدوه، فيدعوه إلى الانتقام، ويزينه له. فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن، فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظه العاجل. فكان المقام مقام تأكيد وتحريض. فقال فيه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وأما في سورة الأعراف: فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين. وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان، بل بالإعراض. وهذا سهل على النفوس، غير مستعصى عليها. فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان، فقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين. وبين قوله في حم المؤمن: ٤٠: ٥٦ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وفي صحيح البخاري عن عدى بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: «كنت جالسا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجلان يستبّان. فأحدهما احمرّ وجهه، وانتفخت أوداجه. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد».
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين. فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه. ولهذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما»
وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة.
وتقدم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي، وثلاثا حين يصبح، كفته من كل شيء».
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
ففي الصحيح من حديث محمد بن
686
سيرين عن أبي هريرة قال: «وكّلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتى آت، فجعل يحثو من الطعام. فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فذكر الحديث، إلى أن قال- فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان».
وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان، واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة:
ففي الصحيح من حديث سهل بن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا.
وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان»
.
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.
فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «١».
وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» «٢».
الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مع آية الكرسي.
ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم المؤمن إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح
(١) أخرجه الترمذي برقم ٢٨٨١.
(٢) أخرجه الترمذي بلفظ: قبل أن يخلق الخلق. برقم ٢٨٨٢.
687
حفظ بهما حتى يسمي. ومن قرأهما حين يسمي حفظ بهما حتي يصبح»
وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلّم فيه من قبل حفظه. فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع:
«لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»
مائة مرة.
ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد. وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت له عدل عشر رقاب. وكتبت له مائة حسنة. ومحيت عنه مائة سيئة. وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»
فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله عز وجل
ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات: أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه عاد أن يبطئ بها. فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها. فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم.
فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب. فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ، وقعدوا على الشرف. فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأدّ إليّ. فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده. فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة. فإذا صليتم فلا تلتفتوا. فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام. فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة
688
معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها. وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة. فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه. فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا الله. فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا، حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم. كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة. والجهاد.
والهجرة. والجماعة. فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع. ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم. فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام. فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة. وله غير هذا الحديث.
فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله. وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس، وتجمع وانقبض. وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله. فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة. وهذا من أعظم ما يتحرز به منه، ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة. فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم.
كما
في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحسّ بشيء من ذلك فليلصق بالأرض».
وفي أثر آخر «إن الشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء»
فما
689
أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة. فإنها نار والوضوء يطفئها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله. وهذا أمر تجربته تغنى عن إقامة الدليل عليه.
الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام، ومخالطة الناس. فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم، وينال منه غرضه: من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب، والاشتغال به، والفكرة في الظفر به.
فمبدأ الفتنة من فضول النظر، كما
في المسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه»
أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم.
فالحوادث العظام إنما هي كلها من فضول النظر. فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة؟ كما قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر؟
وقال الآخر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
وقال المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب، والقتيل القاتل؟
ولي من أبيات:
690
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي، فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقّه، إنه يرتد بالعطف
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض فهل سمعت ببرء جاء من عطب؟
ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهبا عمره في مثل ذا سفها لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ماله خطر بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفو عيش كله كدر أمامك الورد صفوا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا لكل داهية تدنى من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها والضي في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار وقد سارت ركائب من تهواه للصب من سكنى ولا أرب
فأفرش الخد ذياك التراب، وقل ما قاله صاحب الأشواق في الحقب
ما ربع مية محفوفا يطوف به غيلان أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من ضرج أشهى إلى ناظري من خدك الترب
منازلا كان يهواها ويألفها أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له يهوى إليها هوى الماء في صبب
أحيا له الشوق تذكار العهود بها فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل في الأرض يألفه وما له في سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك إن بثثته بعض شأن الحب، فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتديا بنفحة الطيب لا بالنار والحطب
وعاد كل أخي جبن ومعجزة وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نورا تستضيء به يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
فالجسر ذو ظلمات ليس يقطعه إلا بنور ينجي العبد في الكرب
والمقصود: أن فضول النظر أصل البلاء.
691
وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها. وكم من حرب جرتها كلمة واحدة.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»
وفي الترمذي «أن رجلا من الأنصار توفّي فقال بعض الصحابة: طوبى له. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فما يدريك؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه».
وأكثر المعاصي: إنما يولدها فضول الكلام والنظر. وهما أوسع مداخل الشيطان. فإن جارحتيهما لا يملان، ولا يسأمان، بخلاف شهوة الباطن. فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام.
وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام، فجنايتهما متسعة الأطراف، كثيرة الشعب، عظيمة الآفات.
وكان السلف يحذرون من فضول النظر، كما يحذرون من فضول الكلام، كانوا يقولون: ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.
وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات. وحسبك بهذين شرا. فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام؟ وكم من طاعة حال دونها؟.
فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما.
والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام.
ولهذا جاء في بعض الآثار «ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن».
ولو لم يكن في الامتلأ من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده، ومنّاه وشهّاه، وهام به في كل واد. فإن النفس إذا شبعت تحركت
692
وجالت، وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.
وأما فضول المخالطة: فهي الداء العضال الجالب لكل شر. وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة. وكم زرعت من عداوة. وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات، وهي في القلوب لا تزول، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة. وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة.
ويجعل الناس فيها أربعة أقسام: متي خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة. فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام. وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه. فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض. فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من.
القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.
فمنهم من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا. ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا
693
أو أحدهما. فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك، فإذا فارقك سكن الألم.
ومنهم من مخالطته حمى الروح. وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس. وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض. ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر.
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إليّ وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة. أو كما قال.
وبالجملة: فمخالطة كل مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة. ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب. وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم.
فإن اتفق لآكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء. وما أكثر هذا الضرب في الناس لأكثرهم الله. وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الداعون إلى خلافها، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا.
694
إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين.
وإن جردت المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين.
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلوّ ولا تقصير قالوا: أنت من المشبهين.
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر، قالوا: أنت من المفتنين.
وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين.
وإن انقطعت إلى الله تعالى، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا، قالوا:
أنت من الملبسين.
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم، فأنت عند الله من الخاسرين، وعندهم من المنافقين.
فالحزم كل الحزم: التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل بإعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم. فإنه عين كمالك كما قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقال آخر:
وقد زادني حبا لنفسي أنني بغيض إلى كل امرئ غير طائل
فمن أيقظ بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم، وهي فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة. واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان. فقد أخذ بنصيبه من التوفيق. وسد على نفسه أبواب جهنم، وفتح عليها أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء. فعند الممات يحمد القوم التقى. وفي الصباح يحمد القوم السّرى. والله الموفق لا رب غيره، ولا إله سواه.
695
سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الناس (١١٤) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
قد تضمنت أيضا استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه.
فالاستعاذة تقدمت.
وأما المستعاذ به: فهو الله بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ.
فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم، وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم.
فذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث. ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة، فنقول:
الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمنة لحقهم وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر
659
عنهم، وحفظهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم. وذلك يتضمن قدرته التامة. ورحمته الواسعة، وإحسانه، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم، وكشف كرباتهم.
الإضافة الثانية: إضافة الملك: فهو ملكهم المتصرف فيهم: وهم عبيده ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق: الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجأهم. فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.
الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية. فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره. فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم. فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة.
وإذا كان وحده هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه.
ولا ملجأ لنا منه إلا إليه. ولا معبود لنا غيره. فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى، ولا يحب سواه، ولا يذلّ لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكّل إلا عليه، لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه: إما أن يكون مربّيك والقيم بأمورك، ومتولي شأنك وهو ربك، فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه.
660
فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم، ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟.
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة: من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا.
ثم إنه سبحانه كرر الإسم الظاهر، ولم يوقع المضر موقعه. فيقول:
رب الناس وملكهم وإلههم: تحقيقا لهذا المعنى، وتقوية له. فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات، حتى كأنها صفة واحدة.
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.
وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها. فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه. وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن المشرك ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره باطلا.
ووسّط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره. فهو المطاع إذا أمر. وملكه لهم تابع لخلقه إياهم. فملكه من كمال ربوبيته. وكونه إلههم الحق من كمال ملكه. فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه.
وملكه يستلزم إلهيته: يقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته وقهرهم بملكه. واستعبدهم بإلهيته.
فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة، التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق «رب الناس، ملك الناس، إله الناس».
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان،
661
وتضمنت معاني أسمائه الحسنى.
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى. فإن الرب هو القادر الخالق، البارئ المصور، الحي القيوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم، الجواد المعطي. المانع، الضار النافع، المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء- إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى.
وأما الملك: فهو الآمر الناهي، المعز المذل، الذي يصرّف أمور عباده كما يحب، ويقلّبهم كما يشاء. وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى، كالعزيز، الجبار المتكبر، الحكم العدل، الخافض الرافع، المعز المذل، العظيم الجليل الكبير، الحسيب المجيد، الوالي المتعالي، مالك الملك، المقسط الجامع- إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
وأما الإله: فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال. فيدخل في هذا الإسم جميع الأسماء الحسنى. ولهذا كان القول الصحيح: أن «الله» أصله الإله. كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه، إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى. فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ، ويمنع من الوسواس الخناس ولا يسلط عليه.
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر. وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وأن نسبة باديه إلى الخافي يسير.
662

فصل


وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها. وهو الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
فسورة الفلق: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد. وهو شر من خارج.
وسورة الناس: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل.
فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه.
لأنه ليس من كسبه.
والشر الثاني في سورة الناس: يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي. فهذا شر المعائب. والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب. ولا ثالث لهما.
فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات. وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.

فصل


إذا عرف هذا، فالوسواس: فعلال من وسوس.
وأصل الوسوسة: الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه.
فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يسوس الشيطان إلى العبد.
663
ومن هذا: وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن.
والظاهر- والله أعلم- أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس. وهو الإذن. فقيل: وسوسة الحلي.
لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له.
ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها. فقالوا: وسوس وسوسة. فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه.
ونظير هذا: ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه، كالدوران، والغليان، والنزوان، وبابه.
ونظير ذلك: زلزل، ودكدك، وقلقل، وكبكب الشيء. لأن الزلزلة حركة متكررة. وكذلك الدكدكة، والقلقلة. وكذلك كبكب الشيء: إذا كبه في مكان بعيد، فهو يكبّ فيه كبا بعد كب كقوله تعالى: ٢٦: ٩٤ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ومثله: رضرضه إذا كرر رضّة مرة بعد مرة.
ومثله: ذرذره. إذا ذره شيئا بعد شيء. ومثله صرصر: الباب: إذا تكرر صريره. ومثله: مطمط الكلام: إذا مططه شيئا بعد شيء. ومثله: كفكف الشيء: إذا كرر كفّه، وهو كثير.
وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب. لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر، فإذا قلت: ذرّ الشيء وصر الباب، وكفّ الثوب، ورض الحبّ: لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر، وصرصر، ورضرض، ونحوه.
فتأمله. فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني.
وقد تقدم التنبيه على ذلك. فلا وجه لإعادته.
664
وكذلك قولهم: عج العجل: إذا صوت. فإن تابع صوته، قالوا:
عجعج. وكذلك. ثجّ الماء إذا صبّ. فإن تكرر ذلك قيل: ثجثج.
والمقصود: أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها، قيل:
وسوس.

فصل


إذا عرف هذا. فاختلف الن
حاة في لفظ الوسواس: هل هو وصف، أو مصدر؟ على قولين. ونحن نذكر حجة كل قول. ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله وفضله.
فأما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه فعلل، والوصف من فعلل إنما مفعلل، كمدحرج، ومسرهف، ومبيطر، ومسيطر. وكذلك هو من فعل بوزن مفعل، كمقطع، ومخرج، وبابه. فلو كان بالوسواس صفة لقيل:
موسوس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل: مزلزل، لا زلزال. وكذلك من دكدك: مدكدك. وهو مطرد. فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة. أو يكون على حذف مضاف، تقديره: ذو الوسواس.
قالوا: والدليل عليه أيضا قول الشاعر:
تسمع للحلى بها وسواسا
فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.
قال أصحاب القول الآخر: الدليل على أنه وصف: أن فعلل ضربان.
أحدهما: صحيح لا تكرار فيه، كدحرج، وسرهف، وبيطر. وقياس مصدر هذا الفعللة، كالدحرجة والسّرهفة، والبيطرة، والفعلان- بكسر الفاء- كالسّرهاف والدحراج. والوصف منه: مفعلل كمدحرج ومبيطر.
والثاني: فعّل الثنائي المكرر كزلزل، ودكدك ووسوس. وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار. لأن الأصل السلامة من التكرار. ومصدر
665
هذا النوع والوصف منه: مساو لمصدر الأول ووصفه. فمصدره يأتي على الفعللة، كالوسوسة، والزلزلة، والفعلان كالزلزال.
وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل: الفعلان. لأمرين.
أحدهما: أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع وسكون الثاني. فجعل إفعال مصدر أفعل، وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفعلان. فكان الفعلال أولى بهذا الوزن من الفعللة.
الثاني: أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله، ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له. فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة، أو تساويا في الاطراد، مع أن فعللة أرجح في الاستعمال وأكثر. هذا هو الأصل.
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء.
فقالوا: وسوس الشيطان وسواسا، ووعوع الكلب وعواعا. إذا عوى، وعظعظ السهم «١» عظعاظا. والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة. وهذا المفتوح نادر. لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح، مع كونه أصلا، إلا على فعللة وفعلال بالكسر. فلم يحسن بالرباعي المكرر، لفرعيته، أن يكون مصدره إلا كذلك. لأن الفرع لا يخالف أصله، بل يحتذي فيه حذوه. وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال بالفتح. فإن شذ حفظ ولم يزد عليه.
قالوا: وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر، ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي. لأنهما متشاركان وزنا.
فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب، كما لم يكن لفعال
(١) في القاموس عظعظ السهم عظعظة وعظ بالكسر ارتعش في مضيه والتوى.
666
فيها نصيب. فلذلك استندروا وقوع وسواس، ووعواع، وعظعاظ مصادر.
وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا: وإذا ثبت هذا: فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب، وتجنبا للشاذ.
فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا. فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب.
ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران.
أحدهما: أن كل مصدر أضيف إليه «ذو» تقديرا، فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به. كرضى وصوم وفطّر، وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط: وسواس، ووعواع، وعظعاظ، على أن منع المصدرية في هذا ممكن. لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم: وسوس إليه الشيطان وسواسا. وهذا لا يتعين للمصدرية، لاحتمال أن يراد به الوصفية: وينتصب وسواسا على الحال، ويكون حالا مؤكدة. فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى، كقوله تعالى: ٤: ٧٩ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا و ١٦: ١٢ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.
نعم، إنما تتعين مصدرية الوسواس إذا سمع: أعوذ بالله من وسواس الشيطان ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله، كما سمع ذلك في الوسوسة. ولكن أين لكم ذلك؟ فهاتوا شاهده. فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا لا بانتصابه بعد الفعل.
الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن «وسواسا» مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا: أن المصدر المضاف إليه «ذو» تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. بل يلزم طريقة واحدة، ليعلم أصالته في المصدرية، وأنه عارض
667
الوصفية فيقال: امرأة صوم، وامرأتان صوم، ونساء صوم لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم، وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فنقول: رجل ثرثار، وامرأة ثرثارة، ورجال ثرثارون، وفي الحديث «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» وقالوا: ريح رقراقة، أي تحرك الأشجار، وريح سفسافة أي تنخل التراب، ودرع فضفاضة أي متسعة، والفعل من ذلك كله فعلل، والمصدر فعللة وفعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح وكذلك قالوا: تمتام وفأفاء، ولضلاض، أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثير الكلام وهرهار أي ضحاك، وكهكاه، ووطواط أي ضعيف، وحشحاش، وعسعاس أي خفيف. وهو كثير. ومصدره كله الفعللة، والوصف فعلال بالفتح، ومثله هفهاف أي خميص، ومثله دحداح، أي قصير، ومثله: بجباج أي جسيم، وتختاج:
أي ألكن، وشمشام: أي سريع، وشيء خشخاش أي مصوت، وقعقاع مثله، وأسد قضقاض: أي كاسر، وحيّة نضناض: تحرك لسانها.
فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا. فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه؟.
فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر، كثرثار، وتمتام، ودحداح وبابه.
ويدل عليه وجه آخر: وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا، بل هو متعين في الوصفية، وهو «الخناس» فالوسواس، والخناس: وصفان لموصوف محذوف. وهو الشيطان.
وحسّن حذف الموصوف هاهنا غلبة الوصف، حتى صار كالعلم عليه.
والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا. فيقع اللبس كالطويل والقبيح، والحسن ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره.
فأما إذا غلب الوصف واختص، ولم يعرض فيه اشتراك. فإنه يجرى
668
مجرى الاسم، ويحسن حذف الموصوف: كالمسلم والكافر، والبر، والفاجر، والقاصي، والداني، والشاهد والوالي، ونحو ذلك. فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.
وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل.
ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر: أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم. فلو أريد المصدر لأتى بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية. فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرينه تدل على تعيين أحدهما. فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية؟.
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما، فإنهما مصادر لا تلتبس بالأوصاف.
فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف، أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف، مبالغة، على الطريقتين في ذلك.
فتعين أن «الوسواس» هو الشيطان نفسه. وأنه ذات لا مصدر. والله أعلم.

فصل


وأما الخناس: فهو فعّال، من خنس يخنس: إذا توارى واختفى.
ومنه قول أبي هريرة «لقيني النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة، وأنا جنب. فانخنست منه».
وحقيقة اللفظ: اختفاء بعد ظهور. فليست لمجرد الاختفاء. ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى: ٨١: ١٥ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى. وكذلك قال علي رضي الله عنه: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى.
669
وقالت طائفة: الخنّس: هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعة السيارة.
قالوا: وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء. و «الخناس» مأخوذ من هذين المعنيين. فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر. فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان. وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها. فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به، انخنس وانقبض، كما ينخنس الشيء ليتوارى. وذلك الانخناس والانقباض: هو أيضا تجمّع ورجوع، وتأخر عن القلب إلى خارج. فهو تأخر ورجوع معه اختفاء.
وخنس وانخنس: يدل على الأمرين معا. قال قتادة: الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان. فإذا ذكر العبد ربه خنسه.
ويقال: رأسه كرأس الحية. وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدثه. فإذا ذكر الله خنس. وإذا لم يذكره عاد، ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه.
وجيء من هذا الفعل بوزن فعّال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس: إيذانا بشدة هروبه ورجوعه، وعظم نفوره عند ذكر الله. وأن ذلك دأبه وديدنه لا أنه يعرض له ذلك ذكر الله أحيانا. بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر. فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها، كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصىّ ونحوها. فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها.
ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به من ذكر الله وطاعته.
وفي أثر عن بعض السلف: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر. لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر، والتوجه
670
والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة. ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا.
فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار. فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء «الوسواس» مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا، حتى يعزم عليها العبد. وجاء بناء «الخناس» على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل. لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.

فصل


وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ صفة ثالثة للشيطان.
فذكر وسوسته أولا. ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس ثالثا.
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره.
فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا. فحدثته. ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار. فلما رأيا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرعا. فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم:
على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا- أو قال- شيئا»
.
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط. فإذا قضى
671
أقبل. فإذا ثوب بها أدبر. فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا- لما لم يكن يذكر- حتى لا يدري: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فإذا لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ سجد سجدتي السهو».
ومن وسوسته: ما
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول:
من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته»
.
وفي الصحيح: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: «يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
ومن وسوسته أيضا: أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله. ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه. قال تعالى: حكاية عن صاحب موسى إنه قال: ١٨: ٦٣ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه «الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس» ولم يقل: من شر وسوسته: لتعم الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعم كل شره. ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا، وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا. وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة. فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله، حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة. ثم لا يزال يمثل له ويخيل ويمنى ويشهى وينسى علمه بضررها، ويطوى عنه سوء عاقبتها. فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط. وينسى ما وراء ذلك. فتصير الإرادة عزيمة جازمة. فيشتد الحرص عليها من القلب. فيبعث
672
الجنود في الطلب. فيبعث الشيطان معهم مددا لهم وعونا. فإن فتروا حرّكهم. وإن ونوا أزعجهم. كما قال تعالى: ١٩: ٨٣ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزّتهم وأثارتهم. فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. وقد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم. وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم. فلا بتلك النخوة والكبر ولا برضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله. كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه... وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة... وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء: إنما هو الوسوسة. فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه. وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.
فمن شره: أنه لص سارق لأموال الناس. فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف. وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم. فيدخل سارقا ويخرج مغيرا. ويدل على عوراتهم. فيأمر العبد بالمعصية. ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا: أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به.
فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله. ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته. وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.
673
ومن شره: أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة.
كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم- إذا هو نام- ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلّت عقدة. فإن توضأ انحلت عقدة. فإن صلى انحلت عقده كلها.
فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»
.
ومن شره: أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح. فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه» رواه البخاري.
ومن شره: أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها. فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه. فإن خالفه وسلكه ثبّطه فيه وعوّقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع. فإن عمله وفرغ منه قيّض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته.
ويكفي من شره: أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم.
وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
ولقد بلغ شره: أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة. ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة للنار، من كل ألف:
تسعمائة وتسعة وتسعين. ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له، وأن يعبد هو من دون الله. فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله، وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض.
ويكفي من شره: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار. فرد الله كيده عليه. وجعل النار على خليله بردا وسلاما.
674
وتصدى للمسيح صلّى الله عليه وسلّم حتى أراد اليهود قتله وصلبه. فرد الله كيده.
وضان المسيح ورفعه إليه.
وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا.
واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض، ودعوى أنه ربهم الأعلى.
وتصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وظاهر الكفار على قتله بجهده. والله تعالى يكبته ويرده خاسئا.
وتفلّت على النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به. وهو في الصلاة.
فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألعنك بلعنة الله».
وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته؟.
ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها. إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه. ولكن ينحصر شره في ستة أجناس. لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر.
الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله. فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه. وهو أول ما يريد من العبد.
فلا يزال به حتى يناله منه. فإذا نال ذلك صيّره من جنده وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليس ونوّابه. فإن يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر.
وهي البدعة، وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي. لأن ضررها في نفس الدين. وهو ضرر متعد. وهي ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به. وهي باب الكفر والشرك. فإذا نال
675
منه البدعة، وجعله من أهلها صار أيضا نائبه، وداعيا من دعاته.
فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر. وهي الكبائر على اختلاف أنواعها. فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها. ولا سيما إن كان عالما متبوعا. فهو حريص على ذلك، لينفر الناس عنه، ثم يشيع ذنوبه ومعاصيه في الناس، ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليس ولا يشعر. فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها. فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها، لا نصيحة منهم، ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه. كل ذلك لينفر الناس عنه، وعن الانتفاع به.
وذنوب هذا- ولو بلغت عنان السماء- هي أهون عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلم منه لنفسه، إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته، وبدّل سيئاته حسنات.
وأما ذنوب أولئك: فظلم للمؤمنين، وتتبع لعوراتهم، وقصد لفضيحتهم. والله سبحانه بالمرصاد، لا تخفى عليه كمائن الصدر، ودسائس النفوس.
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة: وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها. كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «إياكم ومحقّرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض»
وذكر حديثا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعود حطب، حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا.
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها. فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه.
676
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة: وهي اشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته، شحيحا به، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب: نقله إلى المرتبة السادسة وهي: أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه. وقلّ من يتنبه لهذا من الناس. فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة. فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله.
وهو معذور. ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوّت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله.
وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولعبادة المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونوابه في الأمة، وخلفائه في الأرض. وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك. فلا يخطر ذلك بقلوبهم. والله يمنّ بفضله على من يشاء من عباده.
فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيي عليه: سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفاءه ليشوش عليه قلبه. ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس
677
من الانتفاع به. فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه، لا يفتر ولا يني. فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب، ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
فتأمل هذا الفصل. وتدبر موقعه، وعظيم منفعته، واجعله ميزانك تزن به الناس، وتزن به الأعمال. فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق. والله المستعان، وعليه التكلان.
ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه.

فصل


وتأمل السر في قوله تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل:
في قلوبهم والصدر: هو ساحة القلب وبيته. فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب. فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: ٣: ١٥٤ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ.
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو موسوس في الصدر. ووسوسته واصلة إلى القلب. ولهذا قال تعالى: ٢٠: ١٢٠ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ولم يقل «فيه» لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك، وأوصله إليه. فدخل في قلبه.

فصل


وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور: بم يتعلق؟.
678
فقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم.
والمعنى: يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس، أي الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن. فالوسواس يوسوس للجني، كما يوسوس للانسي.
وعلى هذا القول: فيكون «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» نصب على الحال.
لأنه مجرور بعد معرفة، على قول البصريين. وعلى قول الكوفيين: نصب بالخروج من المعرفة. هذه عبارتهم. ومعناها: أنه لما لم يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها. فكان موضعه نصبا.
والبصريون يقدرونه حالا. أي كائنين من الجنة والناس. وهذا القول ضعيف جدا، لوجود:
أحدها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني.
ويدخل فيه، كما يدخل في إنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي. فأي دليل يدل على هذا، حتى يصح حمل الآية عليه؟.
الثاني: أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا. فإنه قال: «الذي يوسوس في صدور الناس» فكيف يبين الناس بالناس. فإن معنى الكلام على قوله:
يوسوس في صدور الناس الذين هم، أو كائنين، من الجنة والناس. أفيجوز أن يقال: في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم؟ هذا ما لا يجوز، ولا هو في الاستعمال فصيح.
الثالث: أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين: جنة، وناس. وهذا غير صحيح. فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه.
الرابع: أن «الجنة» لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه، لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا. ولفظهما يأبى ذلك. فإن الجن إنما سمو جنّا من الاجتنان، وهو الاستتار. فهم مستترون عن أعين البشر. فسمو جنّا لذلك،
679
من قولهم جنّة الليل وأجنّة: إذا ستره. وأجن الميت: إذا ستره في الأرض.
قال:
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي وعباس وآل أبي بكر
يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه. قال تعالى:
٥٣: ٣٢ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ومنه المجن: لاستتار المحارب به من سلاح خصمه. ومنه الجنة: لاستتار داخلها بالأشجار. ومنه الجنة- بالضم لما يقي الإنسان من السهام والسلاح. ومنه المجنون: لاستتار عقله.
وأما الناس: فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط. وهو عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد.
والإنس والإنسان: مشتق من الإيناس، وهو الرؤية والإحساس. ومنه قوله: ٢٨: ٢٩ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رآها ومنه ٤: ٦ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي أحسستموه ورأيتموه.
فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس، أي بالعين يرى. والناس فيه قولان.
أحدهما: أنه مقلوب من أنس، وهو بعيد. والأصل عدم القلب.
والثاني: وهو الصحيح، أنه من النوس، وهو الحركة المتتابعة.
فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة، كما سمي الرجل حارث وهمام، وهما أصدق الأسماء كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أصدق الأسماء: حارث وهمام»
لأن كل أحد له هم وإرادة، هي مبدأ، وحرث وعمل، هو منتهي.
فكل أحد حارث وهمام. والحرث والهم: حركتا الظاهر والباطن. وهو حقيقة النّوس.
وأصل ناس: نوس، تحركت الواو، وقبلها: فتحة. فصارت ألفا.
هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق «الناس».
680
وأما قول بعضهم: إنه من النسيان، وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه.
وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم: فليس هذا القول بشيء. وأين النسيان، الذي مادته ن س ى إلى الناس الذي مادته ن وس؟ وكذلك أين هو من الأنس الذي مادته أن س؟.
وأما إنسان فهو فعلان من أن س. والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوز فيه غير هذا ألبتة. إذ ليس في كلامهم: أنسن، حتى يكون إنسانا إفعالا منه. ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين، إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا.
فإن قلت: فهلا جعلته افعلالا. وأصله إنسيان، كليلة إضحيان، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا؟
قلت: يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم، وحذف الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له. وذلك كله فاسد، على أن «الناس» قد قيل: إن أصله الأناس. فحذفت الهمزة. فقيل: الناس. واستدل بقول الشاعر:
إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلينا ولا ريب أن أناسا فعال. ولا يجوز فيه غير ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسا، فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس، ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق.
ويكون وزن ناس- على هذا القول-: عال. لأن المحذوف فاؤه.
وعلى القول الأول: يكون وزنه: فعل. لأنه من النوس.
وعلى القول الضعيف: يكون وزنه: فلع. لأنه من نسى. فنقلت لامه إلى موضع العين، فصار ناسا وزنه فلعا.
681
والمقصود: أن «الناس» اسم لبني آدم. فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» بيانا لقوله: فِي صُدُورِ النَّاسِ وهذا واضح لا خفاء فيه.
فإن قيل: لا محذور في ذلك. فقد أطلق على الجن اسم الرجال.
كما في قوله تعالى: ٧٢: ٦ وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم:
الناس؟.
قلت: هذا هو الذي غرّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية.
وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس. ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.
وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك:
لم يلزم من ذلك: وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس. وذلك لأن الناس والجنة متقابلان. وكذلك الإنس والجن. فالله سبحانه يقابل بين اللفظين كقوله: ٥٥: ٣٣امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وهو كثير في القرآن. وكذلك قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يقتضى أنهما متقابلان. فلا يدخل أحدهما في الآخر، بخلاف الرجال والجن. فإنهما لم يستعملا متقابلين. فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال: الجن والإنس.
وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ «الناس» لأنه قابل بين الجنة والناس. فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر.
682
فالصواب: القول الثاني. وهو أن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان إنس وجن. فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس.
فالموسوس نوعان: إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب. وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة. لأنه يدخل في ابن آدم، ويجرى منه مجرى الدم. على أن الجني قد يتمثل له، ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي، كما
في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان- والعنان الغمام- بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».
فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة: اشتراكهما في الوحي الشيطاني.
قال تعالى: ٦: ١١٢ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسى مثله.
فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني. ويشتركان في الوسوسة.
وعلى هذا: تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول. وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس، وشياطين الجن.
وعلى القول الأول: إنما تكون استعاذة من شر شياطين الجن فقط.
فتأمله فإنه بديع جدا.
683
فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين. وله الحمد والمنة. وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط. فما ذلك على الله بعزيز. والحمد لله رب العالمين. ونختم الكلام على السورتين بذكر:
684
قاعدة نافعة
فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره، ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب.
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان. قال تعالى: ٤١: ٣٦ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفي موضع آخر ٧: ٢٠٠ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقد تقدم: أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.
وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة «هو» الدال على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في سورة الأعراف، لاستغناء المقام عنه. فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس. وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه. وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم. كما قال الله تعالى.
والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا. بل يريه أن هذا ذلّ وعجز، ويسلّط
685
عليه عدوه، فيدعوه إلى الانتقام، ويزينه له. فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن، فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظه العاجل. فكان المقام مقام تأكيد وتحريض. فقال فيه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وأما في سورة الأعراف: فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين. وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان، بل بالإعراض. وهذا سهل على النفوس، غير مستعصى عليها. فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان، فقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين. وبين قوله في حم المؤمن: ٤٠: ٥٦ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وفي صحيح البخاري عن عدى بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: «كنت جالسا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجلان يستبّان. فأحدهما احمرّ وجهه، وانتفخت أوداجه. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد».
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين. فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه. ولهذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما»
وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة.
وتقدم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي، وثلاثا حين يصبح، كفته من كل شيء».
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
ففي الصحيح من حديث محمد بن
686
سيرين عن أبي هريرة قال: «وكّلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتى آت، فجعل يحثو من الطعام. فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فذكر الحديث، إلى أن قال- فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان».
وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان، واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة:
ففي الصحيح من حديث سهل بن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا.
وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان»
.
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.
فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «١».
وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» «٢».
الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مع آية الكرسي.
ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم المؤمن إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح
(١) أخرجه الترمذي برقم ٢٨٨١.
(٢) أخرجه الترمذي بلفظ: قبل أن يخلق الخلق. برقم ٢٨٨٢.
687
حفظ بهما حتى يسمي. ومن قرأهما حين يسمي حفظ بهما حتي يصبح»
وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلّم فيه من قبل حفظه. فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع:
«لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»
مائة مرة.
ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد. وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت له عدل عشر رقاب. وكتبت له مائة حسنة. ومحيت عنه مائة سيئة. وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»
فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله عز وجل
ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات: أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه عاد أن يبطئ بها. فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها. فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم.
فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب. فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ، وقعدوا على الشرف. فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأدّ إليّ. فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده. فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة. فإذا صليتم فلا تلتفتوا. فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام. فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة
688
معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها. وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة. فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه. فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا الله. فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا، حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم. كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة. والجهاد.
والهجرة. والجماعة. فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع. ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم. فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام. فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة. وله غير هذا الحديث.
فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله. وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس، وتجمع وانقبض. وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله. فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة. وهذا من أعظم ما يتحرز به منه، ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة. فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم.
كما
في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحسّ بشيء من ذلك فليلصق بالأرض».
وفي أثر آخر «إن الشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء»
فما
689
أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة. فإنها نار والوضوء يطفئها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله. وهذا أمر تجربته تغنى عن إقامة الدليل عليه.
الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام، ومخالطة الناس. فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم، وينال منه غرضه: من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب، والاشتغال به، والفكرة في الظفر به.
فمبدأ الفتنة من فضول النظر، كما
في المسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه»
أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم.
فالحوادث العظام إنما هي كلها من فضول النظر. فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة؟ كما قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر؟
وقال الآخر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
وقال المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب، والقتيل القاتل؟
ولي من أبيات:
690
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي، فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقّه، إنه يرتد بالعطف
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض فهل سمعت ببرء جاء من عطب؟
ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهبا عمره في مثل ذا سفها لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ماله خطر بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفو عيش كله كدر أمامك الورد صفوا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا لكل داهية تدنى من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها والضي في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار وقد سارت ركائب من تهواه للصب من سكنى ولا أرب
فأفرش الخد ذياك التراب، وقل ما قاله صاحب الأشواق في الحقب
ما ربع مية محفوفا يطوف به غيلان أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من ضرج أشهى إلى ناظري من خدك الترب
منازلا كان يهواها ويألفها أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له يهوى إليها هوى الماء في صبب
أحيا له الشوق تذكار العهود بها فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل في الأرض يألفه وما له في سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك إن بثثته بعض شأن الحب، فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتديا بنفحة الطيب لا بالنار والحطب
وعاد كل أخي جبن ومعجزة وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نورا تستضيء به يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
فالجسر ذو ظلمات ليس يقطعه إلا بنور ينجي العبد في الكرب
والمقصود: أن فضول النظر أصل البلاء.
691
وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها. وكم من حرب جرتها كلمة واحدة.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»
وفي الترمذي «أن رجلا من الأنصار توفّي فقال بعض الصحابة: طوبى له. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فما يدريك؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه».
وأكثر المعاصي: إنما يولدها فضول الكلام والنظر. وهما أوسع مداخل الشيطان. فإن جارحتيهما لا يملان، ولا يسأمان، بخلاف شهوة الباطن. فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام.
وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام، فجنايتهما متسعة الأطراف، كثيرة الشعب، عظيمة الآفات.
وكان السلف يحذرون من فضول النظر، كما يحذرون من فضول الكلام، كانوا يقولون: ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.
وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات. وحسبك بهذين شرا. فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام؟ وكم من طاعة حال دونها؟.
فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما.
والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام.
ولهذا جاء في بعض الآثار «ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن».
ولو لم يكن في الامتلأ من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده، ومنّاه وشهّاه، وهام به في كل واد. فإن النفس إذا شبعت تحركت
692
وجالت، وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.
وأما فضول المخالطة: فهي الداء العضال الجالب لكل شر. وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة. وكم زرعت من عداوة. وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات، وهي في القلوب لا تزول، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة. وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة.
ويجعل الناس فيها أربعة أقسام: متي خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة. فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام. وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه. فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض. فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من.
القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.
فمنهم من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا. ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا
693
أو أحدهما. فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك، فإذا فارقك سكن الألم.
ومنهم من مخالطته حمى الروح. وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس. وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض. ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر.
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إليّ وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة. أو كما قال.
وبالجملة: فمخالطة كل مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة. ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب. وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم.
فإن اتفق لآكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء. وما أكثر هذا الضرب في الناس لأكثرهم الله. وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الداعون إلى خلافها، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا.
694
إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين.
وإن جردت المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين.
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلوّ ولا تقصير قالوا: أنت من المشبهين.
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر، قالوا: أنت من المفتنين.
وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين.
وإن انقطعت إلى الله تعالى، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا، قالوا:
أنت من الملبسين.
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم، فأنت عند الله من الخاسرين، وعندهم من المنافقين.
فالحزم كل الحزم: التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل بإعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم. فإنه عين كمالك كما قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقال آخر:
وقد زادني حبا لنفسي أنني بغيض إلى كل امرئ غير طائل
فمن أيقظ بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم، وهي فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة. واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان. فقد أخذ بنصيبه من التوفيق. وسد على نفسه أبواب جهنم، وفتح عليها أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء. فعند الممات يحمد القوم التقى. وفي الصباح يحمد القوم السّرى. والله الموفق لا رب غيره، ولا إله سواه.
695
Icon