تفسير سورة النّاس

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الناس من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الناس (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ (القراء على ترك الإمالة في "الناس" (٢)، وروي عن الكسائي: الإمالة إذا كان في موضع الخفض (٣)، ولا إشكال في حسن ذلك وجوازه، وذلك أنه لو كان مكان الناس نحو: المال، والعاب (٤) لجازت إمالة "الألف" فيه لكسره الإعراب، فإذا كان "الناس" كان أحسن، لأن هذا (٥) الحرف قد أميل في الموضع الذي لا يوجب القياس إمالته، كما أميل الحجاج إذا كان علمًا، لأنهما كثرا في الكلام
(١) فيها قولان:
أحدهما: أنها مدنية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها مكية. رواه أبو كريب عن ابن عباس، وقتادة، و"المحرر الوجيز" ٥/ ٥٤٠، و"زاد المسير" ٨/ ٣٣٥.
(٢) انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص ٧٠٣، و"القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٨١١، و"الحجة" ٦/ ٤٦٧، و"المهذب في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٥.
(٣) وأيضًا كان لا يميلها في موضع الرفع والنصب. المراجع السابقة.
(٤) في (أ): (العار).
(٥) في (أ): (هذه).

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة معالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور/ سليمان بن عبد الله أبا الخيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين أما بعد: فقد دأبت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- على دعم الجامعات السعودية، لتقوم بدورها الرائد في خدمة هذا البلد على أفضل صورة وأرقاها، ولتنافس الجامعات العالمية بجهودها وأعمالها المتميزة، ودعمه -رعاه الله- لجامعة الإِمام محمد بن سعود يذكر بأسطر من نور، ويسجل بمداد من ذهب. والجامعة تسعى بكل طاقاتها وإمكاناتها لتحقق هذه الأهداف السامية ومنها خدمة البحث العلمي، ونشر العلم والمعرفة على أوسع مجال، وأكثره نفعاً، في مختلف مناحي الحياة.
وقد زخرت الجامعة بأعمال علمية كبيرة في مجالات كثيرة من تخصصاتها العلمية المختلفة، ومن هذه الأعمال تحقيق كتاب (البسيط في التفسير للإمام الواحدي) وقد حقِّق في الجامعة في خمس عشرة رسالة، وهو من الأعمال الكبيرة، فبعد الطباعة وصلت أجزاؤه إلى خمسة وعشرين جزءاً مع الفهارس، وتجاوزت صفحاته أربعة عشر ألفاً، مما دل على ضخامة العمل وصعوبة نشره.
وقد كوَّنت لجنة لمتابعة ما بدئ به من هذا العمل برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور عبد العزيز بن سطَّام بن عبد العزيز آل سعود لما أعرفه عن سموَّه من جدٍّ ونشاط وعلميَّةٍ متميَّزةٍ، وحرصٍ على العلمِ، مع اهتمامه البالغ بنشر هذا الكتاب، وقد قام بهذه المسؤولية خير قيام، وبذل من جهده ووقته وفكره وخبرته، بل وماله ما سدَّد العمل، وأنجزه بوقتٍ قياسيٍّ، وجعل هذا الكتاب يخرج بهذه الصورة الرائعة والثوب
- أ -
3
القشيب، والحلة الجميلة، شكلاً ومضموناً، فجزاه الله خيراً على جهوده المتواصلة، وأعماله الخيرة، فمثله في علمه وخلقه أهل لكل خير.
كما أنَّني كلّفت الأستاذ الدكتور تركي بن سهو العتيبي صاحب الخبرة الطويلة والعمق العلمي والمعرفي والإتقان المعروف -عميد البحث العلمي السابق- بأن يكون نائباً للرئيس، لمعرفتي أنه هو الذي قد بدأ هذا المشروع قبل ثلاث سنوات من نهاية مدَّته الأخيرة التي انتهت في نهاية شهر ربيع الآخر من عام ١٤٢٧ هـ، ولأنه من أعرف الناس بالكتاب ومراحل طباعته، وبالشروط التي اشترطت لإخراجه ولخبرته في هذا المجال، وقد قبل مشكوراً بالأمر وأسهم إسهاماً كبيراً في متابعته ليرى النور.
أما هذا الكتاب فهو التفسير البسيط للإمام أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي المتوفى سنة ٤٦٤هـ، فهو من علماء القرن الخامس، وكتابه هذا من أشهر كتب التفسير بالمأثور، وهو واحد من كتبه الثلاثة في التفسير؛ البسيط وهو هذا الكتاب الذي أقدِّم له وهو أكبر تفاسيره وأقدمها تأليفاً، واسمه دليل على مراد مصنفه منه، وكتابه الثاني الوسيط، واسمه دل على أنه بين البسيط والمختصر، والثالث كتاب الوجيز.
هذا العمل العلمي الكبير يعدُّ بحقٍّ مفخرة من مفاخر الجامعة التي سعت إلى تحقيقه أولاً، ثم وفّق الله سبحانه وتعالى إلى إخراجه، فهو عملٌ علميٌّ ضخم أفنى فيه الباحثون سنين مهمة من أعمارهم لو قيست برأس المال المعرفي لوجدت أن متوسط سنوات إعداد كل رسالة ثلاث سنوات علماً بأن إعداد بعض هذه الرسائل قد تجاوز ثلاث سنوات من تاريخ التسجيل حتى المناقشة، ومنها ما أنجز في حدود السنتين، وليست هناك رسالة تتم في أقل من هذا، فهذا الكتاب بذل فيه ما يزيد على ثلاثين سنة عملٍ، واستغرقت الطباعة والإخراج ما زاد على خمس سنوات، إن الجهود الكبيرة التىِ بذلت وتبذل لهي عنوان كبير على قيمة هذا العمل، وهذا فضل الله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء.
- ب -
4
وفي الختام أشكر رئيس اللجنة التي قامت على إخراج هذا العمل العلمي الكبير صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور/ عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز، وسعادة نائبه الأستاذ الدكتور/ تركي بن سهو العتيبي والعاملين معهم في اللجنة على ما قدموه من خدمة عظيمة لكتاب الله، ولهذا الكتاب الأصيل، ولطلاب العلم والباحثين في كل مكان.
وأخيراً أسجَّل شكري وتقديري للأخوة الباحثين أصحاب الرسائل الجامعية الذين قاموا بالتحقيق، ونالوا به درجاتهم العلمية، وأشكر المراجعين والمصححين الذين قاموا على أعمال الطباعة والإخراج، ولكلِّ من قدَّم جهداً في نشر هذا العمل الموسوعي.
وفي الختام أحمد الله أن قيَّض لهذا البلد الطاهر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وصاحب السمو الملكي، الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الذين يحرصون على العلم النافع والعمل الصالح، فلم يدخروا وسعاً في دعم البحث العلمي وتشجيعه ونشره، وخدمة الإِسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أ. د. سليمان بن عبد الله أبا الخيل
مدير جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية
- جـ -
5

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز آل سعود
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، أما بعد:
فمن نعم الله الكثيرة أن هيَّأ سبل السعي إلى طلب العلم وتحصيله، وذلَّلَ طرقه، وفتح آفاقاً من المعرفة كثيرة، ينهل منها أهل العلم وطلابه في مجال من مجالاته المختلفة.
ومن خير الأعمال التي تبذل فيها الأوقات نشر الكتب ولا سيما كتب العلوم الشرعية في مختلف تخصصاتها، وجميع ما يتصل بنشرها وتوزيعها، ودون شكٍّ أن من أشرف العلوم ما كان متَّصلاً بكتاب الله سبحانه وتعالى، تفسيراً وقراءات وإعراباً وتوجيهاً، ومنها هذا المشروع الكبير المتصل بتفسير كتاب الله وإعرابه، فقد سجَّل خمسة عشر طالباً من قسم القرآن وعلومه رسائلهم لنيل درجة الدكتوراه في كتاب التفسير البسيط للواحدي، وهو يستحقُّ كل هذا العدد الكبير من الرسائل لكونه من كتب التفسير والإعراب الواسعة، وكما نصَّ على هذا مؤلفه فوافقت حقيقته واقع الكتاب، وجاءت هذه الرسائل لتلبي الحاجة الملحة للعمل في هذا السفر الكبير، وقد بذل المحققون جهوداً كبيرة في إخراج رسائلهم التي أمضوا في إعدادها سنوات مهمة من أعمارهم لينالوا الدرجات العلمية التي سجلوا الكتاب من أجل الحصول عليها، وقد حصلوا عليها بفضل الله سبحانه وتعالى، وبقي هذا العمل حبيس الأدراج حتى قيَّضَ له الأخ الزميل الدكتور تركي بن سهو العتيبي عميد البحث العلمي السابق ليبذل جهده لإخراج الكتاب مع إدراكه أن هناك عقبات كثيرة تحول دون نشره، ومن أصعبها تعدد الرسائل في هذا الكتاب، وتباعد الباحثين، وضخامة العمل، ولزوم إخراجه كاملاً في وقت واحدٍ.
- هـ -
6
وبدأ العمل في الكتاب منذ ست سنوات، وكان عملاً متواصلاً لا ينفك البتة، مما جعل اللجنة المشكلة تبذل جهوداً متواصلة لإخراجه وطباعته، ومحاولة توحيد عمل المحققين، والسعي لتوحيد الإخراج، ليكون الكتاب كله على نسق متقارب.
وقد أخذت اللجنة العلمية على عاتقها تطبيق ملحوظات الفاحصين على جميع الرسائل، من خلال المراجعين الذين كلفوا بالمراجعة والتصحيح والتدقيق، كما قررت اللجنة أن تدوِّن أسماء الباحثين على الأجزاء التي حقّقوها، وبذلت خطوات علمية وعملية حيث قامت اللجان بمقابلة النص كاملاً على إحدى النسخ الخطية للتأكد من خلوه من الأسقاط، والالتزام برسم المصحف، والضبط بالشكل للمشكل من الكلمات، أو ما يستدعي السياق ضبطه، ورفع الإبهام عن النصِّ، والتخلص من تراجم المشهورين، ومحاولة عدم تكرار التخريج للنصوص، وعدم تكرار توثيق الشواهد ما أمكن، إلا ما دعت الحاجة إلى تكراره، وبعد هذا كلِّه الإشراف على الفهرسة العلمية الكاملة لهذا الكتاب.
هذا جهد استمر من منتصف عام ١٤٢٥ هـ، حتى الآن، وبعد جهود متواصلة، ومتابعة متلاحقة خرج هذا العمل الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عملاً صالحاً مقبولاً، وأن يجزي الباحثين أصحاب الرسائل كل خير.
وأخيراً أشكر الله سبحانه وتعالى على ما أعان ويسر وتمَّم، وأثني بالشكر والعرفان لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية على ما أولوه للعلم والمعرفة من عناية ورعاية واهتمام، وما قدموه وما يقدمونه للجامعات السعودية من جهود مباركة.
- و -
7
وأشكر معالي مدير الجامعة الأخ الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الله أبا الخيل اهتمامه بهذا الكتاب، ومباركته هذا التوجه وتأييده له، وحرصه الشديد على الإسراع بنشره، وتأكيده الدائم بأن الجامعة ستدعم هذا المشروع بكلِّ ما تستطيع.
وأسجِّل عرفاني وتقديري لأعضاء اللجنة جميعاً على صبرهم وتحملهم هذا العمل، مع مشاغلهم الكثيرة، وبذلهم جهوداً متواصلة من غير كللٍ ولا مللٍ، كان العمل متواصلاً طيلة هذه السنوات، وقد ظنَّ الكثيرون بأن العمل توقَّف، لكنه لم يتوقف بحمد الله، لكن رغبة في الإنجاز حرص أعضاء اللجنة على العمل الدائم بصمتٍ تامٍّ حتى يتحقَّق إنجازه وقد تمَّ بفضل الله سبحانه وتعالى.
وأشكر كذلك لجان المتابعة والمراجعين، وجميع من ضرب مع اللجنة بسهم في العمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز آل سعود
- ز -
8
مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمدَ لله، نَحْمده، ونَستعينه، ونستغفره، ونعوذُ بالله مِنْ شرورِ أنفسنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾ [آل عمران: ١٠٢]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أما بعد:
فإن أجل ما صرفت فيه الأعمار، وقضيت فيه الأيام، الاشتغال بكتاب الله جل وعلا، قراءة وتعلُّماً وتعليماً وتفسيراً، فهو الحجة البالغة والصراط المستقيم، وه و"كتابه الدالُّ عليه لمن أراد معرفته، وطريقه الموصلة لسالكها إليه، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول، فلا يغلق إذا أغلقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تُقْلِع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر
9
فيه تأملاً وتفكيرًا زادتْ هداية وتبصيرًا، وكلما بَجَسَتْ (١) مَعينه فجّر لها ينابيع الحكمة تفجيرًا، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها (٢)، وحياة القلوب. ، ولذة النفوس" (٣).
ولذلك عكف العلماء على مائدة القرآن منذ نزوله، تلاوةً وحفظاً، وتدبراً واستنباطاً، وتفسيراً وبياناً، وتأليفاً وبحثًا عن أسراره وعجائبه التي لا تنفد ولا تنقضي، لذلك تعددت الدراسات حول القرآن؛ فمنهم من عُني بقراءاته وعللها، ومنهم من عُني بغريبه ومعانيه، ومنهم من عني بإعرابه وبلاغته، ومنهم من عني بأحكامه وتشريعاته، ومنهم من عني بمشكله ومتشابهه، ومنهم من عُني بأسباب نزوله وناسخه ومنسوخه، وقد استأثر التفسير بالنصيب الأوفى من هذِه الدراسات، حيث أُلفت في هذا الباب كتبٌ عديدة ومصنفاتٌ عجيبة، ما بين مطيل متوسع، ومختصر موجز، ومتوسط مقتصد.
وممن وفقهم الله لذلك العلامة المفسّر اللغوي: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، حيث ألف في التفسير فأكثر ولوّن، وبسط وأوجز، وجمع وحقق، وزيَّن ونمَّق، واشتهر بين الناس بمصنفاته في التفسير، وسارت بها الركبان، وتداولها شُداة العلم، وأفادوا منها، وأثنوا عليها غاية الثناء، وذلك أنه كما قال عن نفسه: "وأظنني لم آلُ جهداً في إحكام أصول هذا العلم، على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سنو عمري، على قلة
(١) بجست: فجرت. ينظر: "اللسان" ١/ ٢١٢.
(٢) جواها: الجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن، والجوى السل وتطاول المرض. انظر: "اللسان" ٢/ ٧٣٠٤.
(٣) "مدارج السالكين" ١/ ٣.
10
أعدادها، فقد وفق الله تعالى، وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه، وأخذته من معادنه". فجاءت مؤلفاته مليئة بالفوائد، جامعة للعلوم والمعاني، حسنة في الألفاظ والمباني. ومع قناعة أبي الحسن الواحدي بأن الأول لم يترك للآخر شيئاً، إلا أنه اعتذر لنفسه بقوله: "إن المتأخر بلطيف حيلته، ودقيق فطنته، يلتقط الدرر، ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدر الكعاب (١)، يروق (٢) المتأملين، ويؤنق (٣) الناظرين، فيستحق به في الأولى حمد الحامدين، وفي العقبي ثواب رب العالمين".
وكان -رحمه الله- تحدثه نفسه أن يعلق في تفسير القرآن فِقَراً (٤) في الكشف عن غوامض معانيه، ونكتاً في الإشارة إلى علل القراءات فيه، في ورقات يصغر حجمها، ويكثر غُنْمها، والأيام تَمْطله بصروفها، على اختلاف صنوفها، إلى أن شدد عليه خناق التقاضي قوم لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قَرُوْنَتُه بعد الإباء، وذلت صعوبته بعد النفرة والالتواء.
قال: "وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه وحسن تيسيره، حتى أبرزه كالقمر انجاب سحابه، والزلال صفا متنه واطرد حُبابه، يؤدي إلى المتأمل نُضرة الكلم العِذاب، ورونق الذهب
(١) الكعاب: الجارية التي نهد ثديها. ينظر "اللسان" ٧/ ٣٨٨٨.
(٢) يروق: يعجب. ينظر: "اللسان" ٣/ ١٧٧٩.
(٣) يؤنق: يعجب. ينظر: "اللسان" ١/ ١٥٣.
(٤) الفِقَر: خرزات الظهر، الواحدة: فِقْرة. والفِقْرة: جملة من كلام، أو جزء من موضوع. ينظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ١١٧، "والمعجم الوسيط" ٢/ ٦٩٧.
11
المذاب، سألكٌ نهج الإعجاز في الإيجاز، مشتمل على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، خالٍ عما يكسب المستفيد مَلالة، ويتصور عند المتصفح إطالة، لا يدع لمن تأمله حازة في صدره، حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين إلى نور العلم وثَلَج اليقين".
ولما كان الكتاب بهذه المثابة، ومؤلفه بهذه المنزلة، فقد ظل الكتاب مغموراً محبوساً بين المخطوطات في خزائن كتب التراث في الخافقين، حتى قيض الله له من ينفض عنه الغبار، وهم مجموعة من الأساتذة الافاضل، نالوا بها درجة الدكتوراه وهم:
١ - الدكتور/ محمد بن صالح بن عبد الله الفوزان.
من أول الكتاب إلى آخر الآية رقم ٧٤ من سورة البقرة.
٢ - الدكتور/ محمد بن عبد العزيز الخضيري.
من آية ٧٥ حتى آية من سورة البقرة إلى آخر السورغ
٣ - الدكتور/ أحمد بن محمد بن صالح الحمادي.
سورة آل عمران كلها.
٤ - الدكتور/ محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد.
من أول سورة النساء إلى آخر سورة المائدة.
٥ - الدكتور/ محمد بن منصور الفايز.
من أول سورة الأنعام إلى آخر سورة الأعراف.
٦ - الدكتور/ إبراهيم بن علي الحسن.
من أول سورة الأنفال إلى آخر سورة يونس.
٧ - الدكتور/ عبيد الله بن إبراهيم الريس.
من أول سورة هود إلى آخر سورة الرعد.
12
٨ - الدكتور/ عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي.
من أول سورة إبراهيم إلى آخر سورة الإسراء.
٩ - الدكتور/ عبد العزيز بن محمد اليحيى.
من أول سورة الكهف إلى آخر سورة طه.
١٠ - الدكتور/ عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المديميغ.
من أول سورة الأنبياء إلى آخر سورة النور.
١١ - الدكتور/ سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين.
من أول سورة الفرقان إلى آخر سورة الروم.
١٢ - الدكتور/ محمد بن عبد الله بن سايح الطيار.
من أول سورة لقمان إلى آخر سورة (ص).
١٣ - الدكتور/ علي بن عمر السحيباني.
من أرل سورة الزمر إلى آخر سورة الحجرات.
١٥ - الدكتور/ فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري.
من أول سورة (ق) إلى آخر سورة القلم.
١٥ - الدكتورة/ نورة بنت عبد الله بن عبد العزيز الورثان.
من أول سورة الحاقة إلى آخر الكتاب.
فجزاهم الله خير الجزاء
13
أهمية هذا الكتاب وسبب اختياره:
يُبَيِّن أهمية هذا الكتاب ما للمؤلف من مكانة علمية عالية وما لكتابه "البسيط" من قيمة علمية كبيرة، فقد برز الواحدي في علوم كثيرة كالتفسير والعربية وتصدر للتدريس في زمانه، يقول الحافظ الذهبي عنه: "الإِمام، العلامة، الأستاذ... صاحب التفسير، وإمام علماء التأويل... كان طويل الباع في العربية.. تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه" (١). وقد أثنا عليه وأشاد بمؤلفاته كثيرٌ من العلماء (٢).
فالواحدي قد بلغ مرتبة الإمامة في كثير من العلوم الشرعية. أما كتابه "البسيط" فإن له قيمة علمية كبيرة في مجال التفسير التحليلي للآيات بذكر معاني المفردات وما يتعلق بها من حيث اللغة والنحو، والعناية بالقراءات وبيان أوجهها وعللها، وسياق الأقوال والأوجه في التفسير مع الموازنة بينها أو الترجيح في كثير من الأحيان، وذكر أسباب النزول واستنباط ما تدل عليه الآيات من أحكام، فهذا الكتاب يعتبر من التفاسير الجامعة.
من جهة أخري فإن "البسيط" قد امتاز بمراجعه الأصيلة في التفسير والعربية، كما أنه يعتبر مصدراً مهماً لنصوص كثيرة من كتب مفقودة كـ"المصادر" للفراء و"نظم القرآن" للجرجاني وبعض كتب ابن الأنباري،
(١) "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٣٩ - ٣٤١.
(٢) انظر: "المنتخب من السياق" ص ٣٨٧، و"إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣، "ومعجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٨، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣، و"إشارة التعيين" ص ٢٠٩، و"طبقات الشافعية الكبرى" ٣/ ٢٨٩، هـ ٢٩، و"البداية والنهاية" ١٢/ ١٢١، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ٣٩٤.
14
وغيرها، حيث اعتمد الواحدي كثيراً على هؤلاء في تفسيره، وكان حسن الانتقاء للنقول، وإجادة الربط بين الكلام ولو كان من مصادر متعددة. ومن أهمية هذا التفسير أن الواحدي تصدى فيه للرد على الفرق الضالة -خاصة القدرية- كلما سنحت له فرصة، فيبين بُعد منهجهم عن الصواب، ومجانبتهم لما دلت عليه الآيات القرآنية والسنة المطهرة.
كما يعتبر "البسيط" مصدراً أصيلاً قديماً من تفاسير القرن الخامس الهجري نقل منه كثير ممن جاء بعده من المفسرين، وكذلك غزارة مادة "البسيط" العلمية وتنوعها، ففيه مادة لغوية ونحوية، وفيه كثير من الأقوال والآثار التي لم يعثر عليها في كتب التفسير الأخري.
كما أن الواحدي يتصف بدقة البحث للمسائل وتحريرها وحسن ترجيحها مما جعل كثيراً من المفسرين يتبنى آراءه ويستشهد بها في مواطن الخلاف.
كما يعتبر "البسيط" من كتب التفسير الكبيرة الجامعة لمختلف العلوم، وكذلك المكانة العلمية البارزة لمؤلف هذا الكتاب وهو الإِمام الواحدي فهو من كبار العلماء بالتفسير والعربية.
صحيح أن المؤلف -رحمه الله- وقع فيما أُخذ عليه، وانتُقِد بسببه، لكن تلك المآخذ لا تقلل كثيراً من شأن الكتاب، ولا تطمس محاسنه ومزاياه؛ ولهذا فإن المكتبة القرآنية بحاجة إلى نشر هذا الكتاب محققًا، لتعم به الفائدة، ويكثر به النفع، وأسأل الله أن يوفقنا إلى إبراز هذا وإخراجه بالصورة التي تليق به.
15
خطة العمل:
يتكون هذا الكتاب من: مقدمة، وقسمين، وفهارس.
المقدمة: أشرنا فيها إلى أهمية الكتاب المحقق، وسبب اختياره.
القسم الأول: الدراسة:
وتنقسم إلى فصلين:
الفصل الأول: التعريف بالمؤلف.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف.
وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، وأسرته.
المطلب الثاني: ولادته ووفاته.
المطلب الثالث: موطنه.
المطلب الرابع: طلبه للعلم، ورحلاته في طلب العلم، والعلوم التي برز فيها.
المطلب الخامس: عقيدته ومذهبه.
المطلب السادس: شيوخه وتلاميذه مع تعريف لكل واحد منهم.
المطلب السابع: مؤلفاته.
المطلب الثامن: مكانته.
المطلب التاسع: أقوال العلماء فيه، وما كتبه العلماء عن الواحدي ثناءً أو نقداً له، والصواب من ذلك.
المبحث الثاني: الأوضاع السياسية في عصر الواحدي، وأثرها على
16
الناحية العلمية.
الفصل الثاني: دراسة عن كتاب "البسيط".
وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: اسم الكتاب.
المبحث الثاني: ثبوت نسبة الكتاب للوحدي.
المبحث الثالث: الباعث على إنشائه.
المبحث الرابع: تاريخ البدء فيه والانتهاء منه.
المبحث الخامس: مصادر الواحدي في "البسيط"، ثم التعريف بهذِه المصادر وطريقته في الأخذ منها، وما هي المادة التي أخذها.
المبحث السادس: منهج الواحدي في البسيط.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: منهجه إجمالاً كما وصفه في مقدمة كتابه.
المطلب الثاني: منهجه تفصيلاً.
وفيه تسع مسائل:
المسألة الأولى: منهجه في تفسير القرآن بالقرآن.
المسألة الثانية: منهجه في تفسير القرآن بالسنة.
المسألة الثالثة: منهجه في تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين.
المسألة الرابعة: منهجه في ذكر الإسرائيليات.
المسألة الخامسة: منهجه في القراءات.
المسألة السادسة: منهجه في علوم القرآن.
١ - أسباب النزول.
٢ - الوقف والابتداء.
17
٣ - الناسخ والمنسوخ.
٤ - الربط بين الآيات.
المسألة السابعة: منهجه في مسائل العقيدة، والرد على الفرق.
المسألة الثامنة: منهجه في المسائل الفقهية والأصولية.
المسألة التاسعة: منهجه في اللغة وفنونها.
المطلب الثالث: مقارنة بين تفاسير الواحدي الثلاثة.
المبحث السابع: قيمة البسيط العلمية.
المبحث الثامن: أثر الواحدي فيمن بعده من خلال كتابه "البسيط" وفيه ذكرت أهم الذين تأثروا بتفسير "البسيط" وأفادوا منه، فمن المفسرين:
١ - الفخر الرازي في تفسيره: "مفاتيح الغيب".
٢ - أبو حيان في تفسيره: "البحر المحيط".
٣ - السمين الحلبي في تفسيره: "الدر المصون".
٤ - الجمل في تفسيره: "الفتوحات الإلهية".
٥ - الألوسي في تفسيره: "روح المعاني".
ومن المؤلفين في علوم القرآن:
١ - الزركشي في "البرهان".
٢ - السيوطي في "الإتقان".
ومن الفقهاء:
الطحطاوي في "حاشية على المراقي"، والنووي في "المجموع شرح المهذب"، والخطيب في "مغني المحتاج"، والشوكاني في "نيل الأوطار"، والصنعاني في "سبل السلام".
ومن شرح الحديث: النووي في "شرح مسلم"، والحافظ في
18
"الفتح"، وبدر العيني في "عمدة القاري"، والسيوطي في "تنوير الحوالك"، وشرح "سنن النسائي"، والمناوي في "فيض القدير".
المبحث التاسع: منهج تحقيق الكتاب
المبحث العاشر: النسخ الخطية لتفسير البسيط.
القسم الثاني: تحقيق نص الكتاب.
الفهارس: تم عمل فهارس متنوعة، تذليلاً للبحث في الكتاب، وتيسيراً على الباحثين وهي كالتالي:
١ - فهرس الآيات التي ورد بها أسباب نزول.
٢ - فهرس الأحاديث.
٣ - فهرس الآثار.
٤ - فهرس الأعلام المترجم لهم.
٥ - فهرس الأبيات الشعرية.
٦ - فهرس الكلمات اللغوية.
٧ - فهرس الكلمات النحوية.
٨ - فهرس البلدان والمواضع.
٩ - فهرس الطوائف والفرق والقبائل.
١٠ - فهرس المصادر والمراجع.
١١ - فهرس المحتويات.
19
المبحث الأول
التعريف بالواحدي
حياته وآثاره
وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، وأسرته.
المطلب الثاني: ولادته ووفاته.
المطلب الثالث: طلبه للعلم، ورحلاته في طلب العلم، والعلوم التي برز فيها.
المطلب الرابع: موطنه.
المطلب الخامس: عقيدته ومذهبه.
المطلب السادس: شيوخه وتلاميذه مع تعريف لكل واحد منهم.
المطلب السابع: مؤلفاته.
المطلب الثامن: مكانته.
المطلب التاسع: أقوال أهل العلم فيه، وما كتبه العلماء عن الواحدي ثناءً أو نقداً له، والصواب من ذلك.
21
المطلب الأول
اسمه ونسبه، وكنيته، وأسرته
أولاً: اسمه ونسبه:
هو علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري الشافعي. هذا نسبه في أكثر المصادر التي وردت فيها ترجمته (١).
وزاد بعضهم في نسبه فذكر "متويه" أحد أجداده ونسبه له، فقال ابن خلكان (٢): "المتُّوي" وقال ابن الأثير (٣): "المتويي".
أما ابن كثير فقال في نسبه: "علي بن حسن بن أحمد بن بويه الواحدي" (٤).
ولم يذكر أحد غيره أن اسم أبيه "حسن" بل أجمعت المصادر على أنه "أحمد" فلعله تصحيف. وقعت كنيته "أبو الحسن" مكان اسم أبيه.
أما قوله: "ابن بويه" فلعلها كذلك تصحيف "متويه" (٥).
و"الواحدي" بفتح الواو، وبعد الألف حاء مهملة مكسورة، وهذه
(١) انظم: "دمية القصر وعصرة أهل العصر" للباخرزي ٢/ ١٠١٧، و"معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٧، و"إنباه الروة" ٢/ ٢٢٣، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٣٩، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي ٣/ ٢٨٩، والإسنوي ٢/ ٥٣٨، و"غاية النهاية في طبقات القراء" ١/ ٥٢٣، و"النجوم الزاهرة" ٥/ ١٠٤، و"بغية الوعاة" ١٢/ ١٤٥، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص ٦٦، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ٣٩٤، و"إشارة التعيين" ص ٢٠٩.
(٢) انظر: "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣، ٣٠٤
(٣) انظر: "اللباب" ٣/ ١٦٣.
(٤) "البداية والنهاية" ١٢/ ١١٤.
(٥) انظر: الواحدي ومنهجه في التفسير، د/ جودة محمد، ص ٥٦.
23
النسبة إلى الواحد بن الدين (١) بن مهرة، ذكره ابن خلكان عن أبي أحمد العسكري.
وقال أبو الفداء: "الواحدي"، نسبة إلى الواحد بن ميسرة (٢).
و"بنو مهرة" قبيلة عربية مشهورة ترجع إلى قضاعة (٣).
وشهرته بالواحدي هي المعروفة المذكورة في المصادر.
أما "المتوي" فنسبة إلى "مَتُّويه" بفتح الميم والتاء المشددة المضمومة، أحد أجداده المنسوب له، قاله ابن خلكان (٤)، وذكر هذا النسب السمعاني (٥) فقال: "المتويي"، ولم يذكر الواحدي ضمن من ذكر فيمن نسب لهذا الجد، وتعقبه ابن الأثير (٦) فذكر الواحدي ونسبه إلى هذا الجد، فقال: "المتوبي". و"النيسابوري" نسبة إلى موطنه "نيسابور" كما سبق.
ثانيًا: كنيته:
يكنى "أبا الحسن" على هذا أكثر المصادر، سوى القفطي في "إنباه الرواة" فإنه قال: "الحسين" (٧). ولعله تصحيف عن "الحسن" وهذا يحصل كثيراً في كتب التراجم بين اسم "الحسن" و"الحسين".
(١) كذا في "وفيات الأعيان " بتحقيق د/ إحسان عباس حيث قال في الحاشة: كذا في المسودة، وفي التصحيف ص ٥٠٦ "الدثن"، "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٤. وفي الأعلام "الديل" ٤/ ٢٥٥، واختاره مؤلف "الواحدي وبمنهجه في التفسير" ص ٥٨.
(٢) "المختصر في أخبار البشر" ٢/ ٢١٩.
(٣) انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص ٤٤٠، ٤٨٥.
(٤) انظر: "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٤
(٥) انظر: "الأنساب" ١٢/ ٨٢.
(٦) انظر: "اللباب" ٣/ ١٦٣.
(٧) انظر. "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
24
ثالثًا: أسرته:
لم تذكر المصادر شيئاً كثيراً عن أسرة الواحدي، وكل ما قيل عنها:
أن أباه يعد من التجار (١)، فالواحدي نشأ في أسرة ذات يسار، وهذا يهيئ لطالب العلم التفرغ له، فلا ينشغل بطلب قوته غالباً.
ومما ذكر عن أسرته أن له أخوين:
أحدهما: عبد الرحمن، ذكره في "المنتخب من السياق" فقال: عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن علي بن متُّويه الواحدي، أبو القاسم، مستور صالح، أخو الإِمام علي الواحدي، الأكبر منه، وأصلهم من ساوة من أولاد التجار سمع من الزيادي وابن يوسف ومن بعدهم من أصحاب الأصم، وعقد له مجلس الإملاء في الجامع المنيعي.. وتوفي يوم الأربعاء غرة شهر ربيع الآخر سنة سبع وثمانين وأربعمائة، روى عنه أبو الحسن (٢).
والثاني: سعيد، قال في المنتخب: "سعيد بن أحمد بن محمد السمسار، أبو بكر الواحدي، أخو الإِمام المفسر علي الواحدي، شيخ ثقة مستور عفيف كان يحترف السمسرة سمع من أصحاب الأصم" (٣).
(١) انظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٧، و"طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ٢٨٩، و"طبقات الشافعية" للأسنوي ٢/ ٥٣٩، و"النجوم الزاهرة" ٥/ ١٠٤، وغيرها من الكتب التي ترجمت له.
(٢) "المنتخب من السياق" لتاريخ نيسابور ل ٩١ ب، وترجم له في "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٢، وانظر "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٨، و"طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ١٨٩، و"النجوم الزاهرة" ٥/ ١٠٤.
(٣) "المنتخب من السياق" ل ٦٨ أ، و"أسباب النزول" للواحدي، مقدمة السيد أحمد صقر ص ٥ وذكر اسمه "سعد".
25
المطلب الثاني
ولادته
لم يذكر أحد ممن ترجم للواحدي تاريخ ميلاده، وهذا واقع في تراجم أغلب العلماء، ذلك أن العالم حين ولادته لم يظهر له نبوغ يذكر، ولا أثر يستحق التسجيل، وربما كان لبعض الأسر دور في تسجيل تاريخ ميلاد أبنائهم.
والواحدي لم ينص أحد على تاريخ ميلاده، وإنما ذكر تاريخ وفاته.
وفاته:
توفي أبو الحسن الواحدي سنة ٤٦٨ في جمادى الآخرة بنيسابور (١)، بعد مرض ألم به طويل (٢)، خلافاً لما ذكره بعضهم (٣) من أن مرضه لم يدم طويلاً.
وذكر بعضهم (٤) قولاً: إنه توفي سنة ٤٦٩ ثم رجح الأول وقد ذكروا أنه شاخ (٥) وكان عند وفاته من أبناء السبعين (٦).
(١) ينظر مثلاً: "المنتخب من السياق" ص ٣٨٧، و"معجم الأدباء" ١١/ ٢٥٨ و"إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٤، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٤.
(٢) ينظر: المراجع السابقة، و"المختصر في أخبار البشر" ٢/ ١٩٢، و"تاريخ ابن الوردي" ١/ ٣٨٧، و"طبقات الشافعية" للإسنوي ٢/ ٥٣٩.
(٣) وهو القفطي في "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٤ وقد تكون كلمة (غير) مقحمة في قوله: ومرض مرضة غير طويلة، واكتفى ابن كثير في "البداية والنهاية" ١٢/ ١١٤ بقوله: وقد مرض مدة.
(٤) هو ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" ٥/ ١٠٤
(٥) ينظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٢.
(٦) تقدم ذكر ذلك.
26
المطلب الثالث
موطنه
أصل الواحدي من "ساوة" كما قال ذلك ياقوت وغيره (١)، ولكن أسرته انتقلت منها واستقرت في "نيسابور" حيث ولد الواحدي وتوفي فيها (٢)، و"نيسابور" إحدى مدن "خراسان" الهامة. فهو خراساني نيسابوري. أما "ساوة" فقد قال عنها ياقوت: "مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط.. وبقربها مدينة يقال لها "آوة" فـ"ساوة" سنية شافعية، و"آوة" أهلها شيعة إمامية وبينهما نحو فرسخين، ولا يزال يقع بينهما عصبية.. " (٣) ولا نقف عندها كثيراً حيث تركتها أسرة الواحدي قبل ولادته (٤)، فأثرها على حياته قليل.
أما "خراسان" وهو الإقليم الذي عاش الواحدي في إحدى مدنه، فهو منطقة واسعة قال ياقوت في بيان حدودها: "خراسان: بلاد واسعة أول حدودها مما يلي العراق "أزاذوار" قصبة جوين "وبيهق"، وآخر حدودها مما يلي الهند "طخارستان" و"غزنة" و"سجستان" و"كرمان"، وليس ذلك منها، إنما هو أطراف حدودها" (٥). وفي خراسان أمهات البلاد منها: بلخ
(١) انظر: "معجم البلدان" ١٢/ ٢٥٧، و"طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ٢٨٩، و"شذرات الذهب" ٣/ ٣٣٠.
(٢) انظر المراجع السابقة.
(٣) "معجم البلدان" ٣/ ١٧٩.
(٤) انظر: "شذرات الذهب" ٣/ ٣٣٠.
(٥) "معجم البلدان" ٢/ ٣٥٠.
27
ونيسابور وبوشنج ومرو وهراة وطالقان وغيرها (١)، فتحت خراسان في أيام عثمان -رضي الله عنه- بإمارة عبد الله بن عامر بن كريز (٢).
وقد وصف المقدسي إقليم خراسان فقال: "اعلم أن لهذا الإقليم فضائل تنسب إلى هذا الجانب ويشركه في أكثرها جانب هيطل" (٣)، إلا أن هذا لما كان أقدم في الاختطاط والفتح في الإِسلام، وأقرب إلى أقاليم العرب خص بالذكر وعرف عند النسبة، يحكى عن ابن قتيبة أنه قال: "أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة.. " قال: "ويقال: إن محمد بن (٤) عبد الله قال لدعاته: أما الكوفة وسوادها فشيعة علي، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وأما الجزيرة فحرورية صادقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون غير معاوية، وطاعة بني أمية وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهم أبو بكر
(١) انظر: "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي ص ٣٩٥، و"معجم البلدان" ٢/ ٣٥٠.
(٢) انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٣٥٠.
(٣) بلاد ما وراء نهر جيحون، يقال نزلها هيطل بن عالم بن سام بن نوح فسميت به. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٣٥٠.
(٤) كذا ورد اسمه عند المقدسي، ولعله تصحيف من النساخ، وإنما هو محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس، داعية العباسيين، انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٣٥٢، و"تاريخ الإِسلام السياسي" ٢/ ١٢، وقد وقع د/ جودة محمد مهدي صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" في وهم فاحش، حيث نقل مقاطع من كلام المقدسي وأضاف الصلاة على النبي - ﷺ - وقال في الحاشية: "لم يذكر المقدسي لفظ السيادة، ولم يصل على النبي - ﷺ - مع ذكر اسمه الشريف فأضفت ذلك بين الأقوال وفاء بحق ذكر اسمه الشريف". انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص ٤٩، فجعل كلام محمد بن علي داعية العباسيين لرسول الله - ﷺ -.
28
وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق".
وقال المقدسي (١): ".. واعلم أن هذا الجانب في الحقيقة خراسان وهو أجل الجانبين لأن به المصر الأعظم وأهله أظرف وأحلم وبالخير والشر أعلم إلا أقاليم العرب ورسومهم أقرب.. " (٢).
وكانت خراسان موطن العلم والعلماء قال ياقوت (٣): ".. فأما العلم فهم فرسانه وساداته وأعيانه، ومن أين لغيرهم مثل محمد بن إسماعيل البخاري (٤)،
(١) محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء، المقدسي، ولقال له: البشاري، رحالة جغرافي، ولد في القدس عام ٣٣٦، تعاطى التجارة وتجشم أسفاراً تعرف من خلالها على أحوال البلاد، وصنف كتابه: "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم". توفي نحو سنة ٣٨٠ هـ ينظر: "أحسن التقاسيم" ص ٤٣، "الأعلام" ٥/ ٣١٢.
(٢) "أحسن التقاسيم" ص ٢٩٣، ٢٩٤
(٣) هو شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الرومي الجنس والمولد، الحموي المولى، البغدادي الدار، ولد سنة ٥٧٤هـ، له تآليف كثيرة، منها: "معجم البلدان"، و"معجم الأدباء" وغيرها، توفي سنة ٦٢٦. ينظر: "وفيات الأعيان" ٦/ ١٢٧ - ١٣٩، و"سير أعلام النبلاء" ٢٢/ ٣١٢.
(٤) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبد الله، أمير المؤمنين في الحديث، الإِمام الكبير، صاحب "الصحيح"، ولد سنة ١٩٤ وله تآليف غير "الصحيح"، منها "التاريخ الكبير" و"الأدب المفرد" و"الضعفاء" وغيرها، مات سنة ٢٥٦. ينظر: "سير أعلام النبلاء" ١٢/ ٣٩١، و"تهذيب التهذيب" ٩/ ٤٧.
29
ومثل مسلم بن الحجاج (١)، وأبي عيسى الترمذي (٢)، وإسحاق بن راهويه (٣)، وأحمد بن حنبل وأبي حامد الغزالي (٤)، والجويني إمام الحرمين (٥) والحاكم
(١) هو مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري أبو الحسين: الإِمام الحافظ صاحب "الصحيح"، ولد بنيسابور عام ٢٠٤ ورحل في طلب الحديث، وألف الصحيح، وبه اشتهر، ومن كتبه: "المسند الكبير"، و"الجامع"، و"التمييز"، وغيرها، توفي سنة ٢٦١ ينظر: "تاريخ بغداد" ١٣/ ١٠٠ و"سير أعلام النبلاء" ١٢/ ٥٥٧.
(٢) محمد بن عيسى بن سورة بن موسى السلمي الترمذي، أبو عيسى، أحد أئمة الحديث وحفاظه، صاحب "السنن" المشهورة، ولد سنة ٢٠٩ وهو تلميذ البخاري، وقد رحل في طلب الحديث من كتبه: "الشمائل" و"التاريخ" و"العلل"، مات سنة ٢٧٩. ينظر: "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٢٧٠، و"تهذيب التهذيب" ٩/ ٣٨٧.
(٣) هو إسحاق بن إبراهيم التميمي المروزي أبو يعقوب، عالم خراسان في عصره، قال فيه الخطيب: "اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد" روى عنه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم توفي سنة ٢٣٨. ينظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ٢٠٩، و"السير" ١١/ ٣٥٨.
(٤) محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد فيلسوف متصوف فقيه أصولي ولد سنة ٤٥٠ بخراسان، رحل إلى نيسابور وغيرها في طلب العلم، من كتبه: "إحياء علوم الدين"، و"المستصفى"، و"تهافت الفلاسفة"، توفي، سنة ٥٠٥. ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٤٦٣، و"سير أعلام النبلاء" ١٩/ ٣٢٢.
(٥) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي، إمام الحرمين، من فقهاء الشافعية ولد في جوين من نواحي نيسابور عام ٤١٩، ورجل وجاور بمكة سنين وذهب إلى المدينة فأفتى ودرس ثم عاد إلى نيسابور قبنى له نظام الملك المدرسة النظامية فيها من كتبه: "غياث الأمم" و"الإرشاد" و"الورقات"، توفي عام ٤٧٨. ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٢٨٧، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٤٦٨.
30
أبي عبد الله النيسابوري (١) وغيرهم من أهل الحديث والفقه، ومثل الأزهري (٢) والجوهري (٣) وعبد الله بن المبارك.. " (٤) هذا عن خراسان.
أما "نيسابور" موطن الواحدي وبلده، فهي كما وصفها ياقوت حين قال: "نيسابور" بفتح أوله والعامة يسمونه: "نشاوور" وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها.. " (٥).
واختلف في سبب تسميتها بذلك، فقيل: إنها سميت بذلك لأن سابور
(١) محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم الضبي الشهير بالحاكم ويعرف بابن البَيِّع أبو عبد الله من أكابر حفاظ الحديث والمصنفين فيه ولد سنة ٣٢١ في نيسابور، رحل في طلب العلم، وبرع، وولي قضاء نيسابور، من كتبه: "المستدرك على الصحيحين" و"المدخل" و"معرفة علوم الحديث". توفي سنة ٤٠٥. ينظر: "تاريخ بغداد" ٥/ ٤٧٣، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ١٦٢.
(٢) هو: أبو منصور محمد بن أحمد بن الأظهر بن طلبة الأزهري الهروي، العلامه اللغوي الشافعي، صاحب: "تهذيب اللغة" المشهور، توفي سنة ٣٧٠ هـ ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ٦٣، و"بغية الوعاة" ١/ ١٩، و"السير" ١٦/ ٣١٥.
(٣) إمام اللغة، أبو نصر إسماعيل بن حمّاد التركي الأُتراري، صاحب "الصحاح" واحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، وفي الخط المنسوب، توفي بنيسابور سنة ٣٩٣.
ينظر: "السير" ١٧/ ٨٠، و"إنباه الرواة" ١/ ٢٢٩.
(٤) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم التميمي، المروزي، أبو عبد الرحمن، الإِمام الحافظ شيخ الإِسلام المجاهد التاجر، محدث فقيه زاهد، ولد سنة ١١٨ من مصنفاته: "الجهاد" وهو أول من صنف فيه، وله "الزهد"، ومات سنة ١٨١. ينظر: "تذكرة الحفاظ" ١/ ٢٥٣، و"حلية الأولياء" ٨/ ١٦٢.
(٥) "معجم البلدان" ٥/ ٣٣١.
31
مر بها، وفيها قصب كثير، فقال: يصلح أن يكون ههنا مدينة، فسميت نيسابور وقيل: إن سابور خرج من مملكته لقول المنجمين فخرجوا يطلبونه فبلغوا "نيسابور" فقالوا: نيست سابور، أي ليس سابور (١).
قال ياقوت: ".. وأكثر شرب أهل نيسابور من قنى تجري تحت الأرض ينزل إليها في سراديب مهيأة لذلك، فيوجد الماء تحت الأرض، ليس صادق الحلاوة، وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات.. " (٢).
وذكر ياقوت أنها فتحت أيام عثمان -رضي الله عنه - وقد فتحها الأمير عبد الله بن كريز في سنة ٣٠ هـ صلحا وبنى بها جامعا. وقيل: فتحت أيام عمر -رضي الله عنه - على يد الأحنف بن قيس، وانتقضت أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن كريز ففتحها ثانية (٣).
ومما يجدر ذكره أن نيسابور أصابها ما أصاب الدولة الإِسلامية في العهد الثاني للعباسيين فتقلبت بين السامانيين والغزنويين والسلاجقة فكانت تحت ولاية السامانيين، فحاول محمود الغزنوي أخذها سنة (٣٨٨ هـ) فاحتلها ولكن لما علم بمسير الأمير منصور بن نوح إليه سار عنها وتركها، ثم عاد إليها سنة (٣٨٩هـ) واحتلها (٤)، وبقيت تحت الدولة الغزنوية إلى سنة (٤٣٢هـ) حيث احتلها السلاجقة.
قال ابن الأثير عن حادثة احتلال السلاجقة لها: ".. وسار طغرلبك إلى نيسابور وملكها ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين وأول سنة اثنتين
(١) المصدر السابق.
(٢) المصدر السابق.
(٣) المصدر السابق.
(٤) انظر: "الكامل في التاريخ" ٧/ ١٩٠، ١٩٦.
32
وثلاثين ونهب أصحابه الناس.. وكان العيارون قد عظم ضررهم واشتد أمرهم وزادت البلية بهم على أهل نيسابور فهم ينهبون الأموال ويقتلون النفوس ويرتكبون الفروج الحرام.. فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون وكفوا عما كانوا يفعلون وسكن الناس واطمأنوا.. " (١) وحصلت لها بلية أخري على يد الغز سنة (٥٤٨ هـ)، ثم خربت مرة أخري على يد التتر سنة (٦١٨ هـ) (٢).
أما العلم بها فهو كما قال عنها ياقوت في كلامه السابق: "معدن الفضلاء ومنبع العلماء.. " وقد اشتهرت بمدارسها العامرة، وذكر السبكي بعض مدارسها، وذلك لما تحدث عن المدارس في عهد "نظام الملك" فذكر منها المدرسة "البيهقية" و"السعدية" بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود، ومدرسة بناها أبو إسماعيل بن علي الاستراباذى الواعظ، ومدرسة "أبي إسحاق الإسفراييني" ثم بني "نظام الملك" المدرسة "النظامية" بها (٣)، هذا شيء عن المدارس وبيوت العلم التي قامت بنيسابور، فتخرج فيها فحول العلماء.
وقد ألف في أسماء علماء نيسابور ومشايخها كتب، وأول من كتب في هذا "الإِمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم" المتوفى سنة (٤٠٥ هـ)، قال السمعاني: "والمنتسب إليها جماعة لا يحصون وقد جمع الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ البيع، تاريخ علمائها في ثمان
(١) "الكامل في التاريخ" ٨/ ٢٦.
(٢) انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٣٣٢.
(٣) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ١٣٧.
33
مجلدات.. " (١) وذيَّله عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، المتوفى سنة (٥٢٩ هـ) في كتاب اسمه "السباق في ذيل تاريخ نيسابور" (٢)، وذكر الثعالبي (ت ٤٢٩ هـ) في "يتيمة الدهر" باباً في ذكر النيسابوريين، وباباً آخر في ذكر الطارئين على نيسابور من بلاد شتى (٣).
ومن مشاهير العلماء المنسوبين لنيسابور، الإِمام مسلم بن الحجاج، مؤلف "الصحيح"، ومنهم: "أبو بكر عبد الله بن محمد النيسابوري الشافعي، مولى أبان بن عثمان" توفي سنة (٣٢٤ هـ) (٤)، وسيأتي ذكر عدد منهم في شيوخ الواحدي وتلامذته.
ومما ينبغي ذكره عن نيسابور وبلاد خراسان عامة أوضاع الفرق والطوائف والتعصب فيها، وقد وصف المقدسي ذلك فقال عن خراسان عامة: "وبه يهود كثيرة ونصارى قليلة، وأصناف المجوس، وليس فيه مجذومون، ولا يعرفون الجذام، وأولاد علي -رضي الله عنه - فيه على غاية الرفعة، ولا تري به هاشميا إلا غريبا ومذاهبهم مستقيمة غير أن الخوارج "بسجستان" ونواحي "هراة" و"كروخ" و"استربيان" كثيرة، وللمعتزلة بنيسابور ظهور بلا غلبة، وللشيعة والكرامية بها جلبة، والغلبة في الإقليم أصحاب أبي حنيفة، إلا في كورة "الشاش" و"إيلاق" و"طوس" و"نسا" و"أبيورد" و"طراز" و"ضنغاج" وسواد "بخارى" و"سنج" و"الدَّنْدَانَقَان" و"أسفراين" و"جويان" فإنهم شفعوية كلهم والعمل في هذه المواضع على مذهبهم.. و"نيسابور"-
(١) "الأنساب" ١٣/ ٢٣٥.
(٢) انظر: "كشف الظنون" ٢/ ١٠١١.
(٣) انظر: "يتيمة الدهر" الباب التاسع والعاشر ٤/ ٤٤١ - ٥٢٠
(٤) انظر: "اللباب" ٣/ ٣٤١.
34
أيضًا - شفعوية.. وأهل ترمذ جهمية، وأهل "الرقة" شيعة، وأهل "غندر" قدرية.. " (١).
هذا الوصف من المقدسي يصور لنا حالة تلك البلاد التي عاش بها الواحدي فهي معدن العلم والعلماء وهي مع ذلك موطن اضطراب وتقلبات سياسية، ومواطن الفرق والصراع بينها، وما حصلت تلك المحن على تلك البلاد وعلى الأمة جميعها إلا بسبب ظهور المعاصي والتفرق في الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(١) "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" ص ٣٢٣.
35
المطلب الرابع
طلبه للعلم، ورحلاته في طلب العلم، والعلوم التي برز فيها
لقد نشأ الواحدي في تلك المدينة العامرة بالعلم والعلماء نيسابورَ، مع سعة الرزق التي هيأت له أسباب التحصيل والطلب، وكان الكُتَّاب (١) هو المدرسة الابتدائية التي تلقا فيها أبو الحسن الواحديُّ تعليمه، حيث دخل كتاب الشيخ أبي عمرو سعيد بن هبة الله البسطامي (٢).
ثم شرع في السماع من العلماء، والأخذ عنهم، حيث سمع من شيخه أبي طاهر محمد بن محمد بن مَحْمِش الزيادي (٣) محدث نيسابور وفقيهها، وكان ذلك عام (٤٠٩) (٤) فيكون سماعه منه، وهو في الثانية عشرة من عمره تقريباً، أو فوق ذلك بقليل.
ثم انضم الواحدي إلا دار السُّنة -وهي مدرسة يدرِّس فيها كبار العلماء والمحدثين- ليتلقى العلم عن أجلَّة علمائها، وكان منهم: القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري في سنة (٤١٠) وهذا وما قبله يدلان على شغف الواحدي بالعلم ولزوم حلق العلماء منذ نعومة أظفاره، ومَيْعة (٥) صباه (٦).
ولعل الواحدي رحمه الله أحب أن يتقن علوم الآلة التي يتوصل بها إلى فهم القرآن والسنة، قبل أن يخوض في علوم المقاصد، ليكون على
(١) الكتاب -كرمان-: موضع تعليم الكتاب، وجمعه كتاتيب، "الصحاح" للجوهري ١/ ٢٠٨.
(٢) ينظر: "دمية القصر" للباخرزي ٢/ ١٠١٨ وتأتي ترجمته لاحقًا في مبحث شيوخه.
(٣) المصدر السابق.
(٤) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٣٨٧ و"الوجيز" ١/ ٨٦.
(٥) ميعة الصبا: أوله.
(٦) ينظر: "أسباب النزول" ص ٢٤٤
36
فهم تام بها، ومعرفة بحقائقها، يحدث عن ذلك فيقول: "وأما النحو فإني لما كنت في مَيعة صباي، وشرخ شبيبتي، وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد الضرير رحمه الله... ولعله تفرَّس فيّ وتوسم أثر الخير لديّ فتجرد لتخريجي وصرف وَكْده (١) إلى تأديبي،... وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل.. " (٢).
ولم يقض نهمته من علم اللغة والأدب اللذين لا يستغنى عنهما في فهم النصوص، يقول الواحدي: "ولئن استغنى علم عن الأدب فمن ضرورة التفسير وعلم القرآن: الأدب ومعرفة اللغة العربية" (٣)، فانقطع لتعلم اللغة على شيخ اللغة في وقته: أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي، حيث لازمه ملازمة الظل لصاحبه، يدخل عليه عند طلوع الشمس، ويخرج من عنده غروبها، يسمع ويعلق ويبحث، ويذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأ عليه كثيراً من دواوين الشعر وكتب اللغة، قال: ولم أغب عن زيارته يوماً من الأيام إلى أن حال بيننا الحمام (٤).
ثم لما توفي الشيخ أبو الفضل العروضي عام (٤١٦) تنقل الواحدي في مساجد البلد ومدارسه، بين العلماء والعلوم (٥)، يحدثنا أبو الحسن الواحدي عن تلقيه للقرآن ولعلم القراءات، فيقول: "وأما القرآن وقراءات
(١) الوكد: القصد.
(٢) مقدمة "البسيط" ص ٤٢٠ - ٤٢١.
(٣) مقدمة "البسيط" ص ٤١٠.
(٤) مقدمة "البسيط" ص ٤١٧ - ٤١٩.
(٥) ينظر: "الوسيط" للواحدي ١/ ٣٠١، ٢/ ٣٢، ٢٢٣، ٣/ ٧١.
37
أهل الأمصار، واختيارات الأئمة، فإني اختلفت أولاً إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي -رحمه الله (١) - وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ: أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران -رحمه الله (٢) - ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد ابن محمد الحيري، وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي -رحمهما الله (٣) - فقرأت عليهما وأخذت من كل منهما حظّاً وافراً بعون الله وحسن توفيقه.
وقرات على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي (٤) عنه، وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج (٥) في "المعاني" (٦).
(١) تأتي ترجمته لاحقاً في مبحث شيوخه.
(٢) هو أحمد بن الحسين بن مهران أبو بكر الأصبهاني ثم النيسابوري، إمام عصره في القراءات، كان ثقة محققاً عابداً صنف في القراءات مصنفات منها: "الغاية"، و"الشامل"، و"المبسوط" وغيرها توفي سنة ٣٨١، ينظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٣٤٧، و"غاية النهاية" ١/ ٤٩.
(٣) تأتي ترجمتهما لاحقاً في مبحث شيوخه.
(٤) هو: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي، ويعرف بالفسوي نسبة إلى فسا، واحد زمانه في علم العربية، أخذ عن الزجاج وابن السراج، وطوف بلاد الشام، كان أعلم من المبرد، كان معتزلياً، وقد ذكر الدكتور حسن فرهود في مقدمة "الإيضاح" أكثر من ٣٠ كتاباً للفارسي، توفي سنة ٣٧٧ هـ.
ينظر: "بغية الوعاة" ١/ ٤٩٦ - ٤٩٧، و"إنباه الرواة" ١/ ٣٠٨ - ٣١٠، و"معجم الأدباء" ٧/ ٢٣٢ - ٢٦١.
(٥) هو: إبراهيم بن محمد بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج النحوي، صاحب كتاب "معاني القرآن" كان من أهل الفضل والدين حسن الاعتقاد، وله مؤلفات حسان في الأدب، توفي سنة ٣١١هـ، أو نحوها.
ينظر: "السير" ١٤/ ٣٦٠، و"إنباه الرواة" ١/ ١٩٠٤
(٦) "مقدمة البسيط" ص (٤٣٢).
38
لقد كانت كل تلك الدراسات تهيئة من الواحدي لنفسه، وتدرجاً للوصول إلى علوم المقاصد، وهذا يظهر من حديثه عن نفسه في آخر تفسيره "البسيط"، حين قال: "وقد كنت تعبت دهراً طويلاً، من عنفوان صباي إلى تناهي أيام شبيبتي في إحكام مقدمات هذا العلم" (١).
كما يظهر لنا من خلال حديث الواحدي مع شيخه أبي الفضل العروضي حين قال: "وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة حتى عاتبني شيخي -رحمه الله- يوماً من الأيام، وقال: إنك لم تبق ديواناً من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز، تقرأه على هذا الرجل الذي يأتيه البعداء من أقاصي البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار؟ يعني: الأستاذ الإِمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي -رحمه الله (٢) - فقلت يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب لم أَرْمِ في غرض التفسير عن كثب.. " (٣).
ولقد رضي عن جهده في هذا الباب حين قال: "وأظنني لم آل جهداً في إحكام أصول هذا العلم على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سِنُو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه، وأخذته من معادنه" (٤).
ثم تفرغ من بعد ذلك -تبعًا-، لخطته، ومنهجيته التي ارتضاها لنفسه، وإنفاذاً لوصية شيخه - للقراءة على الإِمام: أبي إسحاق أحمد بن حمد بن
(١) "تفسير البسيط" ٥/ ٣٣٧ ب من نسخة عاطف أفندي.
(٢) ستأتي ترجمته لاحقاً في مبحث شيوخه.
(٣) مقدمة "البسيط" ص ٤١٩.
(٤) مقدمة "البسيط" ص ٤١٧.
39
إبراهيم الثعلبي، وقرأ عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء، وتفسيره الكبير "الكشف والبيان" وكتابه "الكامل في علم القرآن" وغيرها، ولشدة ملازمته إياه عرف في الأوساط العلمية آنذاك بتلميذ الثعلبي.
رحلاته:
ولقد رحل الواحدي. بعد ذلك في طلب العلم، يبحث عن أساطينه فيتلقى عنهم، وقد عبر عن تلك الرحلات بقوله: ".. ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال الخطب ومل الناظر.. " (١).
ولم تذكر المصادر البلاد التي رحل إليها الواحدي، ولكن صرح هو في بعض رواياته بمكان التلقي، فمثلا قال في "أسباب النزول": "قال الشيخ: أشهد بالله لقد أخبرنا أبو الحارث محمد بن عبد الرحيم الحافظ بجرجان قال: أشهد بالله لقد أخبرنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزاز.. " (٢).
فهذا يدل على أنه رحل إلى جرجان (٣) وأخذ عن شيوخها.
العلوم التي برز فيها:
لقد تنوعت مشارب الواحدي العلمية، وتعددت، وأخذ من كل فن بطرف، ذلك لأن من خصائص العلوم الشرعية أنها مترابطة، فبعضها غايات وبعضها وسائل كاللغة والأصول ونحوهما، ولابد لمن أراد تعلم الغايات أن يدرس الوسائل، فالمفسر مثلاً: يلزمه معرفة السنة حتى يميز بها بين ما صح
(١) مقدمة "البسيط" ص ٤٢٥.
(٢) "أسباب النزول" ص ٤٢٥.
(٣) جرجان: مدينة عظيمة بين طبرستان وخراسان. انظر "معجم البلدان" ٢/ ١١٩.
40
وما ليس كذلك، كما أن فهم اللفظ القرآني متوقف على معرفة اللغة والنحو وأصول كلام العرب، ولا بد أن يعرف القراءات وعلوم القرآن وهكذا.
ولقد كان ذلك دافعاً قوياً للواحدي ليحكم الأصول كما قال في مقدمة كتابه "البسيط": "... وأظنني لم آل جهدًا في إحكام أصول هذا العلم على حسب ما يليق بزماننا هذا ويسعه سنو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى، وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه وأخذته من معادنه، أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي، رحمه الله.. " (١).
وتحدث بعد ذلك عن أخذه النحو والقراءات والتفسير.
ويؤكد كلامه بقوله: ".. ولئن استغنى علم عن الأدب فمن ضرورة التفسير وعلم القرآن: الأدب، ومعرفة اللغة العربية.. " (٢).
وكان للواحدي مشاركة في سائر العلوم. ففي السنة أخذ عن كبار المحدثين وأدرك الإسناد العالي (٣)، وقال عنه ابن تغري بردي: "كان إماماً عالماً بارعاً محدثاً" (٤)، وكتابه "أسباب النزول" يشهد بمكانته في هذا الفن. على أنه لم يصل فيها إلى المستوى الذي وصل إليه في اللغة والتفسير، ولهذا روى بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند الحديث عن منهجه في التفسير في كتابه "البسيط".
أما الفقه فيعتبر أحد أعلام مذهب الإِمام الشافعي وتوجد ترجمته في
(١) مقدمة "البسيط" ص ٤١٧.
(٢) مقدمة "البسيط" ص ٤١٠.
(٣) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤ أ، و"إنباه الرواة" ٢/ ١٢٣.
(٤) انظر: "النجوم الزاهرة" ٥/ ١٠٤.
41
جميع كتب تراجم طبقات علماء الشافعية (١)، وله آراء فقهية ذكرها في "البسيط" معتمدة في مذهبهم، نقل منها النووي في "المجموع شرح المهذب" (٢).
ومع هذه المشاركات من الواحدي في السنة والفقه فقد برز في علوم "التفسير" و"النحو"، "واللغة" وشهر بها وصار من أعلامها. وصفه بعض المترجمين له بإمامته فيها، قال في "المنتخب من السياق": "الإِمام المصنف المفسر النحوي" (٣)، وقال ابن خلكان: "كان أستاذ عصره في النحو والتفسير" (٤)، وقال القفطي: "الإِمام المصنف المفسر النحوي.. " (٥)، وقال أبو الفداء: "وكان أستاذ عصره في النحو والتفسير" (٦).
وقال الأسنوي: "كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما شاعرًا، وأستاذ عصره في التفسير.. " (٧)، وقال الفيروزابادي: "الإِمام المفسر النحوي اللغوي.. " (٨).
أما عن إمامته في علم التفسير فيشهد بذلك كتبه الثلاثة في التفسير "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" ويأتي الحديث عنها في مؤلفاته، وأكبرها "البسيط"، كذلك كتابه "أسباب النزول"، وقد ترجم له السيوطي والداودي
(١) ترجم له السبكي ٣/ ٢٨٩، والأسنوي ٢/ ٥٣٨، وابن قاضي شهبة ١/ ٢٥٦.
(٢) انظر: "المجموع شرح المهذب" ٣/ ٣٧١ - ٣٧٣.
(٣) "المنتخب من السياق" ل ١١٤ أ، وانظر "معجم الأدباء" ٢٥٨/ ١٢.
(٤) "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣.
(٥) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٦) تاريخ أبي الفداء" ٢/ ١٩٢.
(٧) "طبقات الشافعية" للأسنوي ٢/ ٥٣٩.
(٨) "البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" ص ١٤٦.
42
في "طبقات المفسرين" (١).
أما عن إمامته في النحو واللغة فإن الواحدي قد تحدث عن ذلك في مقدمة "البسيط" وبين سبب اتجاهه للنحو واللغة حيث إن معرفة ذلك هو طريق لمعرفة كلام الله وتفسيره فيقول: "فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب فإنهما عمدتاه.. " (٢). ويعتبر النحو واللغة من علم الوسائل الواجبة فيقول: ".. فعلينا أن نجتهد في تعلم ما يتوصل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب.. " (٣)، ثم يقول "فإن من جهل لسان العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها جهل جمل علم الكتاب.. " (٤).
لقد أدرك الواحدي منذ صغره أهمية اللغة والنحو والأدب لفهم كتاب الله والتصدي لتفسيره؛ لأن هذا الكتاب منزل بلسان عربي مبين، فلا بد لمن رام فهم معانيه أو تصدى لتفسيره أن يكون متضلعاً من هذه اللغة التي نزل بها.
فكان ذلك دافعاً قوياً له أن يتجه إلى بحار اللغة ليغرف منها. يقول الباخرزي عنه: "وقد خبط ما عند أئمة الأدب من أصول كلام العرب خبط عصا الراعي فروع الغَرَب (٥)، وألقى الدلاء في بحارهم حتى نزفها، ومد البنان إلى ثمارهم إلا أن قطفها" (٦).
وقد تحدث الواحدي عن مقدار ما بذل في هذا المجال فيذكر تتلمذه
(١) انظر: "طبقات المفسرين" للسيوطي ص ٦٦، وللداودي ١/ ٣٩٤
(٢) مقدمة "البسيط" ص ٣٩٥.
(٣) مقدمة "البسيط" ص ٣٩٨.
(٤) مقدمة "البسيط" ص ٣٩٨.
(٥) نوع من الشجر.
(٦) "دمية القصر" ٢/ ١٠١٨.
43
في اللغة على العروضي (١) فيقول: "وكنت لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها أسمع، وأقرأ، وأعلق، وأحفظ، وأبحث، وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة" (٢)، ويذكر تتلمذه في النحو على "أبي الحسن الضرير" (٣)، فيقول: "وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل.. " (٤)، كذلك تتلمذ على "أبي الحسن عمران بن موسى المغربي" (٥) يقول: "ولقد صحبته مدة مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده.. " (٦).
ولقد تضلع الواحدي في علم اللغة والنحو ومما يشهد لذلك كتابه الذي بين أيدينا "البسيط" فلقد بسط فيه من المسائل النحوية ما عُدّ خروجاً عن منهج التفسير، من كثرة ما حواه الكتاب من المسائل النحوية، قال السيوطي وهو يتكلم عن طبقات المفسرين: "فالنحوي تراه ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في "البسيط" وأبي حيان في "البحر" و"النهر" (٧).
قال القفطي: "وصنف التفسير الكبير وسماه "البسيط" وأكثر فيه من
(١) هو أبو الفضل أحمد بن محمد العروضي أحد شيوخ الواحدي، تأتي ترجمته.
(٢) مقدمة "البسيط" ص ٤١٩.
(٣) مقدمة "البسيط" ص ٤٢٠.
(٤) مقدمة "البسيط" ص ٤٢٠ - ٤٢١.
(٥) وأبو الحسن علي بن محمد الضرير أحد شيوخ الواحدي، تأتي ترجمته.
(٦) أحد شيوخ الواحدي، يأتي ذكره في شيوخه.
(٧) "الإتقان" ٢/ ٢٤٣.
44
الإعراب والشواهد واللغة ومن رآه علم مقدار ما عنده من علم العربية.. " (١) ويأتي مزيد بسط لهذِه المسألة -إن شاء الله - عند دراسة الكتاب.
كما تشهد مؤلفاته الأخرى بتضلعه في علم اللغة والنحو فله في هذه الميادين عدة كتب منها "شرح ديوان المتنبي" و"الإغراب في الإعراب" و"شرح أسماء الله الحسنى" و"تفسير أسماء النبي - ﷺ -" و"شرح قصيدة للنابغة الذبياني" ويأتي الحديث عنها -إن شاء الله- مع مؤلفاته.
الواحدي والشعر:
ليس غريباً على الواحدي الذي تضلع في علم اللغة والأدب والنحو، وقرأ دواوين الشعر وأكثر منها حتى عاتبه شيخه العروضي كما حكى عنه فقال: "حتى عاتبني شيخي - رحمه الله - يوماً من الأيام وقال: إنك لم تبق ديواناً من الشعر إلا قضيت حقه" (٢)، ليس غريباً عليه أن تتفتح قريحته بالقريض، خصوصاً وأن الموهبة والملكة كان يتمتع بهما منذ الصغر، فلقد بدأت محاولة نظم القريض وهو في الكتاب حيث أنشد للباخرزي وهو في الكتاب قوله:
إنَّ الربيعَ بحسنِه وبهائِه يحكيهِما خطُّ الرئيسِ أبي عُمرْ
فكأنَّه في الدَّرج (٣) يرقُم كاتبًا أَولى (٤) لِطاف بنانِه فتْقَ الزهرْ
خطٌّ غدا ملءَ العيونِ ملاحةٌ متنزَّهاً لِلَّحْظِ قيداً للبصرْ
(١) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٢) مقدمة "البسيط" ص ٤١٩.
(٣) ما يكتب فيه. القاموس "درج" ص ٢٠٤
(٤) الولي: المطر بعد المطر. القاموس "ولى" ص ١٧٣٢.
45
أخزَتْ نقوشَ الصِّينِ بدعَةُ صُنعهِ فتَعطَّلت ورقومَ مَوشِيِّ الحِبَرْ (١)
قال الذهبي: "له شعر رائق" (٢)، وقال الأسنوي: "كان فقيهاً إماما في النحو واللغة وغيرهما شاعراً.. " (٣).
وقد أنشد ياقوت شيئاً من شعره ومنه قوله:
أَيا قَادِماً مِنْ طُوسَ أَهْلاً وَمَرْحَباً بَقيِتَ عَلَى الأَيَّامِ مَا هَبَّتِ الصِّبا
لعَمْرِي لَئِنْ أَحْياَ قُدُومُك مُدْنَفاً بِحُبِّكَ صَبّاً في هَوَاكَ مُعَذَّبَا
الأبيات.
وقوله:
تَشَوَّهت الدُّنْياَ وَأَبْدَت عَوَارَهَا وَضَاقَتْ عَليَّ الأَرْضُ بِالرُحْبِ وَالسَّعَهْ
وَأَظلَمَ في عَيْنِي ضِيَاءُ نَهَارِهَا لِتَوْدِيع مَنْ قَدْ بَانَ عَنِّي بِأَرْبَعَهْ
فؤَادِي وَعَيْشِي وَالمَسرّة والكرى فَإنْ عَادَ عَادَ الكُلُّ والأُنْسُ والدَّعَهْ (٤)
(١) انظر: "دمية القصر" ٢/ ٢٥٩ (طبعة دار العروبة بالكويت ١٤٠٥ هـ)، و"إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٤.
(٢) "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤١.
(٣) "طبقات الشافعية" ٢/ ٥٣٩.
(٤) "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٦١ - ٢٦٢.
46
المطلب الخامس
مذهبه وعقيدته:
مذهبه: لقد كان سائدًا في موطن الواحدي نيسابور مذهب الشافعي في الفقه، ومذهب الأشعرية (١) في العقيدة، وكانت هناك علاقة وثيقة بين المذهبين في نهاية القرن الرابع وأول الخامس، وهو العصر الذي عاش فيه الواحدي، وسبب تلك العلاقة والارتباط أن حاملي عقيدة الأشعرية معظمهم من الشافعية، خصوصاً في المشرق الإِسلامي، خلافاً لما كان
(١) الأشعرية نسبة لأبي الحسن، علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري ولد سنة ٢٦٠، وكان في أول أمره على مذهب المعتزلة، ثم تركه وتحول إلى هذا المذهب الذي ينسب إليه، ووقع الخلاف بين العلماء في رجوعه إلى مذهب السلف بعد ذلك، ومن كتبه: "اللمع"، و"مقالات الإِسلاميين"، و"الإبانة عن أصول الديانة"، توفي عام ٣٢٤.
والمنتسبون إليه يُسمون: الأشعرية والأشاعرة، أو أن الأشعرية تطلق على المذهب، والأشاعرة على المنتسبين إليه، ومن أهم أصولهم: أن التوحيد عندهم هو توحيد الربوبية، ولا فرق بينه وبين توحيد الألوهية، والإيمان عندهم هو التصديق، وكلام الله تعالى معنى واحد أزلي، ويفرقون بين اللفظ والمعنى، ويقولون بالكسب في القدر، ويجمعون على إثبات سبع صفات، ويؤولون ما عداها، والسبع هي: الحياة والقدرة والعلم والإرادة والكلام والسمع والبصر، ومنهم من يضيف إلى السبع: اليد فقط، ويزيد بعضهم: البقاء، ومنهم من يتوقف في نفي ما سوى السبع، وغلاتهم يقطعون بنفي ما سواها. ينظر: "الملل والنحل" للشهرستاني ١/ ٩٤ - ٩٧ و"مجموع الفتاوى" ٦/ ٣٥٨ و"معتقد الإِمام الأشعري" للأشقر ص ١٧ و"الرسالة التدمرية" ص ٣١، ١٧٩، ١٨٥، و"الأشاعرة" لمحمود صبحي. وينظر في ترجمة أبي الحسن الأشعري: "تاريخ بغداد" ١١/ ٣٤٦، و"سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٨٥، و"طبقات الفقهاء الشافعية" لابن كثير ١/ ٢١٠، والمراجع السابقة.
47
عليه الحنفية في تلك البلاد إذ أغلبهم ماتريدية (١)، بينما غلب على الحنابلة في بغداد التمسك بمذهب السلف (٢).
تلك هي البيئة التي عاشها الواحدي، والغالب أن الإنسان لا يكاد ينفك عما عهد الناس عليه، وما كان سائدًا في بيئته، ومن ثم فإن الواحدي -رحمه الله- كان شافعياً أشعرياً بغير خلاف بين كافة مترجميه، فكونه شافعياً أظهر من أن يُشهر، ويدل له أمور:
منها: تلقيب بعض مترجميه له بالشافعي، كالذهبي وابن العماد (٣).
ومنها: أن كتب طبقات الشافعية قد عدته ضمن علمائهم (٤).
ومنها: أن كتب الفقه الشافعي كانت تنقل أقواله مبينة أنه من أصحابهم (٥).
(١) نسبة للماتريدي محمد بن محمد بن محمود، أبي منصور الماتريدي السمرقندي، والماتريدي نسبة إلى (ماتريد) محلة قرب سمرقند، يلقب بإمام الهدى وإمام المتكلمين، وهو معاصر للأشعري، ومذهبه قريب من مذهبه، وهو في الفقه على مذهب أبي حنيفة، من كتبه: "تأويلات أهل السنة"، وكتاب "التوحيد"، وكتاب "المقالات"، توفي سنة ٣٣٣ على الأرجح. ينظر في ترجمته: "الجواهر المضية" للقرشي ٣/ ٣٦٠ ومفتاح السعادة لطاش كبري زاده ٢/ ٩٦، ١٥١ وكتاب "الماتريدية" للحربي ص ٩٣ وما بعدها. وينظر في الفرق بين الأشعرية والماتريدية: "تاريخ المذاهب الإِسلامية" لأبي زهرة ١/ ١٩٥ - ٢١٠ وكتاب "نشأة الأشعرية وتطورها" لجلال موسى: ٣٠٧ وكتاب "الماتريدية دراسة وتقويماً" لأحمد الحربي ص ١٣٣.
(٢) ينظر: "التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإِسلامي" ص ١٢٨.
(٣) ينظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٣٩ و"شذرات الذهب" ٣/ ٣٣٠.
(٤) ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٥/ ٢٤٠، و"طبقات الشافعية" للإسنوي ٢/ ٥٣٨ و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة ١/ ٢٧٧ وغيرهم.
(٥) ينظر: "روضة الطالبين" للنووي ١٠/ ٢٢٧ و"المجموع" له ٣/ ٣٧١ وقال في "الأذكار" ص ٢٣٩: قال الإِمام أبو الحسن الواحدي من أصحابنا.
48
ومنها: أنه يقول في كثير من المواضع في تفسيره هذا: وقال أصحابنا، يعني بهم الشافعية (١).
ومنها: أنه يقتصر في الغالب على قول الشافعي، ويُعْنى بذكره، من بين المذاهب (٢).
عقيدته:
وأما أشعريته: فهي واضحة من خلال كتبه، فالمتتبع لمواضع الاختلاف بين أهل السنة والأشاعرة، أو بين المعتزلة والأشاعرة، يجده يقرر بكل وضوح عقيدة الأشاعرة، ولا غرو فهي العقيدة الغالبة على أهل بلده، وفي أشياخه أعلام كبار من حملة لواء العقيدة الأشعرية، ممن قرروا قواعده وأصّلوا أصوله، كأبي إسحاق الإسفراييني (٣) الذي أخذ عند عامة شيوخ نيسابور الأصول وعلم الكلام (٤)، وعبد القاهر البغدادي (٥) الذي يعَدّ -كذلك- من أئمة الشافعية الأشاعرة والمبرزين فيهم (٦).
ولعلي أضرب أمثلة من خلال تفسيريه "البسيط" و"الوسيط" تدل على، ذلك وتؤكده:
١ - فعند قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] قال: "قال أصحابنا: حقيقة الواحد في وصف الباري سبحانه
(١) ينظر: مبحث منهجه في آيات الأحكام.
(٢) ينظر: مبحث منهجه في آيات الأحكام.
(٣) ينظر ترجمته في مبحث شيوخه.
(٤) ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٤/ ٢٥٧. وينظر ترجمة أبي إسحاق في مبحث شيوخه.
(٥) ستأتي ترجمته لاحقاً في مبحث شيوخه.
(٦) انظر ترجمته في مبحث شيوخه.
49
أنه واحد لا قسيم له في ذاته ولا بعض له في وجوده بخلاف الجملة التي يطلق عليها لفظ الواحد مجازًا كقوله: دار واحدة، وشخص واحد، وعبَّر بعض أصحابنا عن التوحيد فقال: هو نفي الشريك والقسيم والشبيه فالله واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في إثبات المصنوعات وواحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا يشبه الخلق فيها.. " (١).
ويقول أيضاً: وعند متكلمي أصحابنا: أن الإله من له الإلهية، والإلهيه القدرة على اختراع الأعيان.. " (٢) وهذا الذي قرره الواحدي هنا هو قول متكلمي الأشاعرة (٣)، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن التوحيد عند المتكلمين: ".. حتى يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع" (٤)، ثم قال بعد ذلك: "وليس المراد بـ"الإله" هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن "الإلهية" هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أنه لا إلله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه، بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد فهو إله بمعنى: مألوه، لا إله بمعنا آله.. " (٥).
ثم قال في موضع آخر (٦): وكثير من أهل الكلام يقول: التوحيد له
(١) انظر: "البسيط" (٣/ ٤٥٩).
(٢) انظر: "البسيط" عند تفسير البسملة ١/ ٤٦٣.
(٣) ينظر: "الاقتصاد في الاعتقاد" للغزالي ص ٤٥، "نهاية الإقدام" للشهرستاني ص ٩٠.
(٤) "الرسالة التدمرية" ص ١٨٠.
(٥) "الرسالة التدمرية" ص ١٨٥، ١٨٦.
(٦) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله النميري الحراني الدمشقي أبو العباس، شيخ الإِسلام ولد بحران سنة ٦٦١ طلب العلم وتبحر وفاق أهل عصره =
50
ثلاث معان -ثم ذكر ما قرره الواحدي- ثم قال: وهذا المعنى الذي تتناوله هذه العبارة، فيها ما يوافق ما جاء به الرسول - ﷺ - وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول، وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول - ﷺ -، بل التوحيد الذي أمَرَ به أمْرٌ يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى، فهذا من الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل، وكتم الحق، وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً بل ولا مؤمناً، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله بمعنى: المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى: القادر على الخلق، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى: القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا هو أخص وصف الإله، وجَعَل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه، لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله. فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كلِّ شيء، وكانوا مع هذا مشركين" (١).
كما أنه سار على مذهب الأشعرية في باب: صفا الله وذلك عند
= وألف فأكثر وأبدع، ومن كتبه: "منهاج السنة"، و"تلبيس الجهمية"، وجمعت فتاواه ورسائله مراراً. مات في سجن القلعة بدمشق فخرجت دمشق كلها في جنازته سنة ٧٢٨، وألفت في سيرته كتب. ينظر: "البداية والنهاية" ١٤/ ١٣٥ و"الدرر الكامنة" ١/ ١٤٤.
(١) "درء تعارض العقل والنقل" ١/ ٢٢٥، وينظر: أيضاً ٣/ ٩٨ - ١٠٢ و"الرسالة التدمرية" ص ١٨٥ - ١٨٦.
51
تعرضه لها من خلال الآيات التي وردت فيها، فيؤوِّلها، ومذهب السلف في ذلك أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الصفات وما أثبته له رسوله دون تأويل أو تحريف أو تعطيل، ولا يلزم من إثباتهم للصفات أي لازم باطل: من تشبيه الله بخلقه أو غير ذلك، فكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء فكذلك صفاته.
٢ - فمن الآيات التي تعرض لها قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: ٢١٠]. ذكر الواحدي في تفسيرها وجهين:
أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف، أن يأتيهم عذاب الله، أو أمر الله، أو آيات الله، فجعل مجيء الآيات والعذاب مجيئاً له، تفخيماً لشأن العذاب، وتعظيماً له.
والثاني: المعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من العذاب والحساب، فحذف ما يأتي به تهويلاً عليهم.. (١). وهذا منه -رحمه الله- تأويل وصرف للفظ عن ظاهره، مخالف لما كان عليه السلف الصالح من إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات، من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، وذلك جرياً على مذهب الأشاعرة في تأويك الصفات الخبرية.
٣ - وفي قوله تعالى: ﴿وَهُوَ العَلىُّ العَظِيُم﴾ [البقرة: ٢٥٥] قال: فمعنى العلو في صفة الله تعالى: اقتداره وقهره واستحقاقه صفات المدح (٢). وهذا مخالف لمذهب السلف الذين يثبتون العلو لله بكل أنواعه.
(١) انظر: "البسيط" ٤/ ١٠٠، ١٠١.
(٢) المصدر السابق ٤/ ٣٧١.
52
علو الذات وعلو القدر، وعلو القهر. وعلو ذاته ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف وبالفطرة والعقل (١)، وليس هذا موضع بسط الأدلة في ذلك.
٤ - وقال أيضًا في "تفسير البسيط": قال النحويون: وذكر اليد في قوله: ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] تحقيق للإضافة، وإن كانت الكتابة لا تقع إلا باليد، وقد أُكدّت الإضافة بذكر اليد فيما لا يُرادُ باليد فيه الجارحة، كقوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] وقوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ [يس: ٧١]. ومعناه: مما تولينا عمله، ولما توليت خلقه.
والأصل في هذا: أنه قد يضاف الفعل إلى الفاعل وغير الفاعل له، كقوله: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ [القصص: ٤] والمراد بذلك: أنه يأمر بالذبح فَيُمتثل أمره.
فلما كان الفعلُ قد يُضاف إلى غير الفاعل أُكِّدَت الإضافة بذكر اليد؛ ليتحقق وينتفي الاحتمال، ثم استعمل هذا التأكيد أيضاً في فعل الله تعالى وإن لم يجز في وصفه يد الجارحة؛ لأن المراد بذكر اليد تحقيق الإضافة على ما بيّنا (٢). اهـ.
٥ - وقال أيضًا عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩]. نقل أقوال بعض العلماء في ذلك ثم قال: ".. والأصل في الاستواء الاستقامة وإنما قيل للقصد إلى الشيء استواء؛ لأن الاستواء يسمى قصدا.. "، ثم قال: "وأما استوى بمعنى
(١) ينظر: "الفتاوى" ١٦/ ١١٩، ١٢٣، ٣٥٨ و"مختصر الصواعق المرسلة" للموصلي ١/ ٧٥ و"شرح الواسطية" ص ٣٠٤
(٢) انظر: "البسيط" ٣/ ٩٢، ٩٣.
53
استولى فقد يكون، وكأنه يقول: استوت له الأمور فاستولى ثم وضع "استوى" موضع "استولى"... ". ويظهر رأيه وهو يتحدث عن آخر الآية ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فيقول: "وقيل إنه لما ذكر ما يدل على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بوصفه بالعلم.. " (١).
ومذهب السلف في هذا إثبات الاستواء لله على وجه يليق بجلاله فهو مستو على عرشه بائن من خلقه، عال عليهم بذاته علوا يليق بجلاله، ولا يلزم من هذا أي لازم باطل مما يلزم لاستواء البشر ليس كمثله شيء (٢).
والحاصل أن هذا منهجه في تفسيره، كلما مر بآية من آيات العقائد تبع عقيدةَ الأشاعرة، ولينظر زيادة على ذلك ما قرره في الآيات التالية:
١ - ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣] حيث أوَّل صفة الرحمة (٣).
٢ - وقوله تعالى ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] حيث أوَّل صفة الغضب لله (٤).
٣ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: ٢] حيث فسر الإيمان بالتصديق على طريقة الأشاعرة (٥).
٤ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال:
(١) انظر: "البسيط" ٢/ ٣٠٠، ٣٠١.
(٢) انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ٥/ ١٤٤، ٢٠٨، و"شرح الطحاوية" ص ٢١٨، و"التدمرية" ص ٨١.
(٣) "تفسير الوسيط" ١/ ٦٥.
(٤) "تفسير الوسط" ١/ ٧٠.
(٥) "تفسير الوسيط" ١/ ٧٩ و ٢/ ٥٣٥
54
١٧] حيث فسر الآية على طريقة الأشاعرة القائلين بالكسب في باب القدر (١).
٥ - وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الرعد: ٢] حيث أوّل الاستواء بالاستيلاء والاقتدار ونفوذ السلطان (٢).
٦ - وقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] حيث أوّل اليد بالقدرة (٣).
٧ - وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)﴾ [الفجر: ٢٢] حيث أوّل المجيء، بمجيء أمره وقضائه (٤).
(١) "تفسير البسيط" تفسير سورة الأنفال.
(٢) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣.
(٣) "تفسير الوسيط" ٣/ ٥٩٣
(٤) "تفسير الوسيط" ٤/ ٤٨٤
55
المطلب السادس
شيوخه وتلاميِذه
شيوخه:
عاش الواحدي في نيسابور معدن الفضلاء ومنبع العلماء، كما قال عنها ياقوت (١). وتنقل في أرجاء العالم الإِسلامي يتبع معين العلم، ويلقي الدلاء في بحار علماء اللغة والنحو والأدب والتفسير وقد أدرك الإسناد (٢)، وقرأ الحديث على المشايخ، لهذا كثر شيوخه وعز حصرهم، قال الواحدي متحدثاً عن ذلك: "ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال الخطب ومل الناظر.. " (٣).
وأذكر -إن شاء الله- بعض شيوخه، وأقرب مصدر لذلك الواحدي نفسه حيثما ذكر في مقدمة كتابه "البسيط" بعض شيوخه الذين أخذ عنهم فأتحدث عنهم أولاً، ثم أعقبهم بذكر بعض الشيوخ الذين وردت تراجمهم في بعض المصادر التي ترجمت له، أو ثبت أخذه عنهم بأي طريق.
أولاً: شيوخه الذين ذكرهم في مقدمة كتابه "البسيط":
١ - الشيخ أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي المعروف بـ"الصَّفَّار" الشافعي (٣٣٤ - ٤١٦ هـ) (٤)، قال الثعالبي: "إمام في
(١) انظر: "معجم الأدباء" ١/ ٥.
(٢) انظر: "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٣) مقدمة " البسيط" ص ٤٩٥.
(٤) انظر: "معجم الأدباء" ٤/ ٢٦١، و"إنباه الرواة" ١/ ١٥٤
56
الأدب خنق التسعين في خدمة الكتب وأنفق عمره على مطالعة العلوم وتدريس متأدبي نيسابور.. " (١)، وقد أخذ عنه الواحدي اللغة حيث قال: "أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي -رحمه الله-، وكان قد خَنَّق (٢) التسعين في خدمة الأدب وأدرك المشايخ الكبار وقرأ عليهم وروي عنهم كأبي منصور الأزهري، روى عنه كتاب "التهذيب".. " (٣)، ثم قال: "وكنت قد لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها أسمع وأقرأ وأعلق وأحفظ وأبحث وأذكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة.. " (٤).
وقد ورد ذكر أبي الفضل العروضي في "البسيط"، حيث روى عنه في مواضع عن الأزهري من كتاب "تهذيب اللغة" و"التهذيب" أحد مصادره الهامة، ويأتي ذكر ذلك عند الكلام على مصادره.
٢ - علي بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله القُهُنْدزي (٥) الضرير، أبو الحسن، نحوي أديب، قرأ عليه الأئمة وتخرجوا به (٦)، أخذ عنه الواحدي
(١) "تتمة يتيمة الدهر" ٥/ ٢٠٥.
(٢) أي كاد يبلغها، انظر القاموس المحيط "خنق" ص ١١٣٨.
(٣) انظر: مقدمة "البسيط" للمؤلف.
(٤) انظر: مقدمة "البسيط" للمؤلف.
(٥) قال السمعاني: "القهندزي" بضم القاف والهاء وسكون النون والدال المهملة وفي آخرها الزاي، وهذه النسبة إلا قُهندز بلاد شتى، وهي المدينة الداخلة المسورة. "الأنساب" ١٠/ ٥٢٣. والمقصود هنا قهندز نيسابور.
(٦) انظر: "معجم الأدباء" ١٥/ ٥٧، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣١٠، و"نكْت الهِمْيان في نكت العُميان" للصفدي ص ٢١٥، و"بغية الوعاة" ٢/ ١٨٦.
57
النحو حيث قال: "وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير -رحمه الله- وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه وأعلمهم بمضايق طرق العربية ودقائقها، ولعله تفرَّس فيّ وتوسم أثر الخير لديّ فتجرد لتخريجي وصرف وَكْده (١) إلى تأديبي.. " (٢)، ثم قال: "... وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريباً من مائة جزء في المسائل المشكلة.. " (٣).
٣ - أبو الحسن عمران بن موسى المغربي، ذكره الواحدي مع شيوخه فقال: "ثم ورد علينا الشيخ الإِمام أبو الحسن عمران بن موسى المغربي المالكي وكان واحد عصره وباقعة دهره في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده" (٤)، ذكره السيوطي ناقلاً عن السياق فقال: "شيخ فاضل نحوي كبير كثير الحفظ قدم نيسابور وأفاد واستفاد، وطاف البلاد، ولقي الكبار وله اتنظم الفائق، وكان من أفاضل العصر، مات قريباً من الخمسمائة" (٥)، وذكر السيد أحمد صقر في مقدمة "أسباب النزول" أن وفاته سنة ٤٣٠ هـ (٦) ولم أصل إلى ما اعتمد عليه في ذلك.
(١) اي: مراده وقصده "اللسان" "وكد" ٣/ ٤٦٧.
(٢) مقدمة "البسيط" ص ٤٢٠.
(٣) المصدر السابق ص ٤٢١.
(٤) المصدر السابق ص ٤٢١.
(٥) "بغية الوعاة" ٢/ ٢٣٣.
(٦) مقدمة "أسباب النزول" ص ١٠، ونقل صاحب "الواحدي ومنهجه في التفسير" عن =
58
٤ - أبو القاسم علي بن أحمد البستي وهو أحد شيوخه في القراءات ما ذكر ذلك فقال: "وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني أختلفت أولاً إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي -رحمه الله- وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران (١)... " (٢).
ذكره الذهبي فيمن أخذ عن ابن مهران فقال: ".. وأبو القاسم علي بن أحمد البستي شيخ الواحدي.. " (٣) ونحوه قال ابن الجزري، وذكره في ترجمة الواحدي ضمن شيوخه في القراءات (٤).
٥ - أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم المقرئ الزعفراني الحيري قال في المنتخب من السياق: "شيخ كبير ثقة صالح كثير السماع كثير الحديث والشيوخ عالم بالقرآن مقصود في علم القراءات سمع بنيسابور والعراق والحجاز.. قال أبو الحسن: قرأت من خط أبي صالح الحافظ أنه تغير بعض التغير في آخر أمره، وحكى عن بعض الثقات أنه خلط في بعض
= "النجوم الزاهرة" أنه أثبت وفاته سنة ٤٣٠ هـ وعاد فأثبتها في وفيات سنة ٤٥٨ هـ ظنا منه أنه المترجم له، والذي في "النجوم الزاهرة": "موسى بن عيسى بن أبي حاج الفاسي المقرئ الإِمام أبو عمران الفاسي الدار الغَفَجُوميّ البربري المالكي" ويظهر أنه شخص غيره لاختلاف الاسم. انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص ٦٧، و"النجوم الزاهرة" ٥/ ٣٠، ٧٧.
(١) هو أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري المقرئ، صاحب كتاب "الغاية في القراءات العشر" ويأتي ذكره في "حاشية البسيط" ص ٢٣١.
(٢) انظر: مقدمة "البسيط" ص ٤٢١ - ٤٢٢.
(٣) "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٨٠.
(٤) انظر: "غاية النهاية" ١/ ٥٠، ٥٢٣.
59
مسموعاته، والله أعلم به توفي في جماد الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة.. " (١).
وذكره الذهبي في "المشتبه" (٢) وقال: "أبو عثمان سعيد بن محمد الحيري عن أبي عمرو بن مطر، وعنه الواحدي" وذكره الذهبي فيمن أخذ عن ابن مهران (٣)، وكذا ابن الجزري (٤)، وقد أخذ عنه الواحدي القراءات فقال: "وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت أولاً إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي.. ".
ثم قال بعد ذلك: ".. ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي -رحمهما الله- وكانا قد انتهت إليهما الرئاسة في هذا العلم وأشير إليهما بالأصابع في علو السن ورؤية المشايخ، وكثرة التلامذة، وغزارة العلوم، وارتفاع الأسانيد، والوثوق فيها، فقرأت عليهما وأخذت من كل منهما حظّاً وافراً بعون الله وحسن توفيقه". وخص أبا عثمان سعيد بن محمد، فقال: "وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي (٥) عنه، وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج في "المعاني" (٦) روايته عن ابن مقسم
(١) "المنتخب من السياق" ل ٦٧ ب.
(٢) "المتشبه" ١/ ١٨٦.
(٣) انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٨٠.
(٤) انظر: "غاية النهاية" ١/ ٥٥.
(٥) هو أبو علي الفارسي. انظر ترجمته في مصادر الواحدي وأسماء كتبه في حاشية مقدمة "البسيط".
(٦) المراد كتاب الزجاج المشهور "معاني القرآن" والتعريف بالزجاج وكتابه يأتي في مصادر الواحدي.
60
عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير" (١). وبهذا يتضح مكانة أبي عثمان سعيد ابن محمد الحيري في شيوخ الواحدي، ومقدار ما أخذ عنه من العلم، ولقد صرح بروايته عنه في مواضع من "البسيط"، قال في مقدمة "البسيط": ".. وقرأت على الأستاذ سعيد بن محمد المقرئ فقلت: حدثكم طلحة بن محمد الشاهد ببغداد.. " (٢).
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] قال: "وأقرأني سعيد بن محمد الحيري رحمه الله عن أبي الحسن بن مقسم.. ".
٦ - أبو الحسن علي بن محمد الفارسي، ذكره الواحدي مع سعيد بن محمد الحيري كما سبق وذكر أخذه عنه، تكلم عنه ابن الجزري فقال: "إمام مقرئ حاذق أخذ القراءات عرضاً وسماعاً عن أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران روى القراءات عنه عرضاً وسماعاً أحمد بن أبي عمر صاحب كتاب "الإيضاح" (٣)، توفي سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (٤).
٧ - أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المفسر صاحب التفسير المشهور بـ"الكشف والبيان" توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، ذكره ياقوت في "معجم الأدباء" فيما نقله عن "السياق لتاريخ نيسابور" وقال: سمع منه الواحدي التفسير (٥).
(١) مقدمة "البسيط " ص ٤٢٢ - ٤٢٤
(٢) "مقدمة البسيط" ص ٤٠٩.
(٣) "غاية النهاية" ١/ ٥٧٢.
(٤) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٢أ، وستأتي ترجمته في مصادر الواحدي.
(٥) "معجم الأدباء" ٥/ ٣٦ - ٣٨، وانظر "وفيات الأعيان" ١/ ٧٩، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ٣٩٤، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص ٦٦.
61
قال ابن الأثير يقال له: "الثعلبي والثعالبي" (١). وكانت له منزلة خاصة لدى الواحدي تحدث عنه فقال: ".. ثم فرغت للأستاذ الإِمام أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي -رحمه الله- وكان حبر العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم.. "، ثم ذكر كتابه في التفسير وبالغ في مدحه، ويأتي التعريف به في مصادر الواحدي في تفسيره، حيث إنه أحد مصادره الهامة.
قرأ عليه من مصنفاته كثيراً فقال: ".. وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء وتفسيره الكبير، وكتابه المعنون بـ (الكامل في علم القرآن) (٢). وقد أكثر الواحدي النقل من "الكشف والبيان"، ويلاحظ أنه لم يذكر اسمه ولم يعز له إلا عندما يروي عنه بالسند ومن أمثلة ذلك، قال في مقدمة "البسيط": "ولقد أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم -رحمه الله- قال أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن.. " (٣)، وقال في موضع آخر: "ولقد سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم يقول: سمعت الحسن بن محمد يقول.. " (٤).
هؤلاء هم الشيوخ الذين ذكرهم الواحدي في مقدمة تفسيره "البسيط" وللواحدي شيوخ غيرهم كثر. قال: ".. ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال
(١) "اللباب" ١/ ٢٣٨.
(٢) انظر: مقدمة "البسيط" ص ٤٩٥.
(٣) انظر: "البسيط" ص ٣٩٨.
(٤) انظر: "البسيط" ص ٤١٠.
62
الخطب ومل الناظر" (١).
وقد ذكر بعض من ترجم للواحدي عددًا من شيوخه ومنهم:
٨ - الشيخ الإِمام أبو عمر سعيد بن هبة الله الموفق البسطامي، قال في "المنتخب من السياق": "من سلالة الإمامة والذي انتهى إليه أمر الزعامة لأصحاب الشافعي، رُبّي في حجر الرئاسة، وغذي بلبان الإمامة... توفي عصر يوم عرفة سنة اثنين وخمسمائة" (٢). وقد تلقى عنه الواحدي في الكُتَّاب حيث اجتمع هو والباخرزي في كُتَّابه كما ذكر ذلك الباخرزي في "دمية القصر" (٣) ويظهر أن الإِمام أبا عمر قد عُمِّر طويلاً.
٩ - الإِمام محمد بن محمد بن مَحْمِش بن علي بن أيوب أبو طاهر، المعروف بالزيادي، سمي بذلك لأنه كان يسكن ميدان زياد بن عبد الرحمن. إمام أصحاب الحديث بخراسان وفقيههم ومفتيهم توفي سنة عشر وأربعمائة أخذ عن كبار المشايخ كأبي بكر بن القطان وغيره (٤)، وأخذ الواحدي عنه، ذكر ذلك صاحب "السياق" (٥)، والسبكي (٦)، والذهبي (٧)،
(١) مقدمة "البسيط" ص ٤٢٥.
(٢) "المنتخب من السياق" ل ٧٠ أ.
(٣) انفر: "دمية القصر" ٢/ ١٠١٨.
(٤) انظر: "المنتخب من السياق" ل ٢ ب، وانظر "الأنساب" ٦/ ٣٦٠، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٢٧٦.
(٥) انظر: "المنتخب من السياق " ل ١١٤أ.
(٦) انظر: "طبقات الشافعية" ٣/ ٢٨٩.
(٧) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠، و"العبر" ٢/ ٣٢٤.
63
والسيوطي (١)، والداودي (٢)، وغيرهم.
١٠ - الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن جعفر الكَنْجَرُوذِي (٣) أبو سعد، مسند خراسان، له معرفة بالطب والفروسية وأدب السلاح، استجمع فنون العلم وأدرك المشايخ الكبار كأبي بكر بن مهران وغيره، توفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة (٤)، ذكر أخذ الواحدي عنه عبد الغافر في "السياق" (٥).
١١ - الإِمام محمد بن أحمد بن جعفر المُولْقَابَاذِي أبو حسان المُزَكِّي مسند نيسابور وأحد الثقات، كان إليه التزكية بنيسابور، حدث عن جماعة منهم الصِّبْغِي، توفي سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة (٦)، ذكر أخذ الواحدي عنه عبد الغافر في "السياق" (٧)، والذهبي (٨).
١٢ - الإِمام أبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحَرَشِيُّ الحيريُّ النيسابوري مسند خراسان، قلد قضاء نيسابور مدة، حدَّث عن أبي العباس
(١) انظر: "طبقات المفسرين" ص ٦٦.
(٢) انظر: "طبقات المفسرين" ١/ ٣٩٠٤
(٣) قال السمعاني: "الكنجروذي" بفتح الكاف وسكون النون وفتح الجيم وضم الراء بعدها واو وفي آخرها الذال المعجمة، هذه النسبة إلا كَنْجَرُوذ، وهي قرية على باب نيسابور. "الأنساب" ١١/ ١٥٥.
(٤) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١٠ أ، و"الأنساب" ١١/ ١٥٥، و"إنباه الرواة" ٣/ ١٦٥، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ١٠١.
(٥) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤أ.
(٦) انظر: "المنتخب من السياق" ل ٧ أ، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٥٩٦، و"العبر" ٢/ ٢٦٧.
(٧) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤ أ.
(٨) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠، وفيه محمد بن إبراهيم المُزَكيِّ.
64
الأصم وغيره (٣٢٥ - ٤٢١ هـ) مات وله ست وتسعون سنة (١)، ذكر أخذ الواحدي عنه، الذهبي (٢)، والسبكي (٣)، والسيوطي (٤)، والداودي (٥)، وابن العماد (٦).
١٣ - الشيخ الجليل المحدث عبد الرحمن بن حمدان بن محمد بن نصرويه النَّصرُويي (٧) النيسابوري، رحل إلى بلاد كثيرة فسمع في الحجاز والعراق، وأخذ عن كبار المشايخ كأبي بكر القطيعي وغيره، مات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة (٨). ذكر في المنتخب من السياق أخذ الواحدي عنه (٩)، وكذا الذهبي (١٠)، والسبكي (١١).
١٤ - الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمد، النَّصْرَابَاذِي (١٢) الواعظ
(١) انظر: "المنتخب من السياق" ل ٢٢/، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٣٥٦، و"الأنساب" ٤/ ١٢٢، ٣٢٧.
(٢) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠، و"العبر" ٢/ ٣٢٤.
(٣) انظر: "طبقات الشافعية" ٣/ ٢٨٩.
(٤) انظر: "طبقات المفسرين" ص ٦٦.
(٥) انظر: "طبقات المفسرين" ١/ ٣٩٤.
(٦) انظر: "شذرات الذهب" ٣/ ٣٢٩.
(٧) بفتح النون وسكون الصاد وضم الراء في آخرها ياء تحتها نقطتان، نسبة إلى نَصْرُوَيه، جد المنتسب إليه."اللباب" ٣/ ٣١١.
(٨) انظر: "المنتخب من السياق" ل ٨٩ ب، والأنساب ١٣/ ١٠٩، و"اللباب" ٣/ ٣١١، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٥٥٣، و"العبر" ٢/ ٢٦٨.
(٩) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤أ.
(١٠) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠.
(١١) انظر: "طبقات الشافعية" ٣/ ٢٩٠.
(١٢) "النصراباذي" بفتح النون وسكون الصاد وفتح الراء المهملتين وسكون الألفين وبينهما الباء الموحدة وفي آخرها الذال المعجمة، هذه النسبة إلى محلة بنيسابور، من أعالي البلد. انظر: "الأنساب" ١٣/ ١٠٧.
65
أبو إبراهيم، أبوه شيخ خراسان وخلف أبيه في ذلك، سمع الكثير في خراسان ونيسابور والجبل والعراق والحجاز وروى عن أبي بكر القطيعي وغيره، توفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة (١)، ذكر أخذ الواحدي عنه، صاحب "المنتخب من السياق" (٢)، والذهبي (٣)، والسبكي (٤).
١٥ - الشيخ عمر بن أحمد بن محمد بن مسرور النيسابوري، أبو حفص مسند خراسان سمع من جماعة منهم الحافظ أبو أحمد الحاكم وغيره، كان كثير العبادة، عاش تسعين سنة، وتوفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة (٥). ذُكر في "المنتخب" ممن أخذ عنه الواحدي (٦).
١٦ - عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد الفارسي ثم النيسابوري، سمع من الخطابي وغيره، وكان من المعمرين، ولد سنة نيف وخمسين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة بنيسابور وهو جد عبد الغافر بن إسماعيل، صاحب "السياق" (٧)، وذُكر في "المنتخب من السياق" أنه من مشايخ الواحدي (٨).
١٧ - الإِمام المحدث الواعظ إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد
(١) انظر. "المنتخب من السياق" ل ٣٨ أ، و"الأنساب" ١٣/ ١٠٧.
(٢) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤أ.
(٣) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٨٠.
(٤) "طبقات الشافعية" ٣/ ٢٨٩.
(٥) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ١٠، و"العبر" ٢/ ٢٩٢.
(٦) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤أ.
(٧) انظر: "المنتخب من السياق" ١٠٦أ، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ١٩، و"العبر" ٢/ ٣٢٤.
(٨) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤أ.
66
الصابوني أبو عثمان كان أبوه من كبار الواعظين بنيسابور فَفُتِك به من أجل التعصب، فتولى مهمة الوعظ بعد أبيه وعمره عشر سنوات، وكان يحضر مجلسه كبار الأئمة مثل أبي إسحاق الإسفراييني وأبو بكر بن فورك، وكان صاحب عبادة وعفة، وكان من أئمة الأثر، له مصنف في السنة واعتقاد السلف (٣٧٣ - ٤٤٩ هـ) (١). ذُكر في "المنتخب" من مشايخ الواحدي (٢).
١٨ - أبو سعد محمد بن علي بن أحمد الحيري الخفاف، أخذ عن أبي عمرو بن مطر وأخذ عنه الواحدي. ذكر ذلك الذهبي (٣).
١٩ - أبو عثمان سعيد بن العباس بن محمد بن علي القرشي الهروي، الإِمام المسند العدل، كان من سروات الرجال بهراة (٤)، وتخرج به أئمة، ت ٤٣٣ هـ (٥).
٢٠ - إبراهيم من محمد أبو إسحاق الإسفراييني، أحد أئمة الشافعية، يمانع حد الاجتهاد؛ لتبحره في العلوم، واستجماعه شروط الإمامة في العلوم، عقد له مجلس الإملاء بعد أبي طاهر الزيادي سنة ٤١٠ هـ، وحضر دروسه الحفاظ والمشايخ وأهل العلم، وأملى سنين، ت ٤١٨ (٦).
(١) انظر: "المنتخب من السياق" ل ٣٨ ب، و"تتمة يتيمة الدهر" ٥/ ٣١٦، و"الأنساب" ٨/ ٢٤٧، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٤٠.
(٢) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤أ.
(٣) انظر: "المشتبه" ١/ ١٨٦.
(٤) هراه: مدينة عظيمة من أمهات مدن خُراسان، وكان فيها بساتين كثيرة ومياه غزيرة وخيرات، وكانت مليئة بالعلماء وأهل الفضل. انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٣٩٦.
(٥) انظر: "الأنساب" ٤/ ٤٧٠، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٥٥٢، "شذرات الذهب" ٣/ ٢٥٠، وقد أخذ عنه الواحدي في تفسير الآية (٣) من سورة النساء.
(٦) انظر: "المنتخب من السياق" ١٢٠ - ١٢١، "طبقات الشافعية" لابن الصلاح =
67
وقد تتلمذ عليه الواحدي وقال في "الوسيط" (١): حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني إملاء في مسجد عقيل سنة سبع عشرة وأربعمائة.
٢١ - أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحارث التميمي أبو بكر الأصبهاني النيسابوري، إمام ثقة مقرئ نحوي محدث زاهد ت ٤٣٠ هـ، وله ٨١ سنة (٢) أخذ عنه الواحدي (٣).
٢٢ - عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي، أبو منصور البغدادي، من كبار أئمة الشافعية، عظيم القدر، متقن في علوم كثيرة، درَّس في سبعة عشر نوعاً من العلوم، ورد نيسابور مع أبيه، وأنفق أمواله على طلبه العلم حتى افتقر، من تصانيفه المشهورة: "الفرق بين الفرق" ت ٤٢٩ هـ (٤).
٢٣ - المفضل بن إسماعيل بن شيخ الإِسلام أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني، عالم جرجان ومفتيها، كان مضرب المثل في الذكاء؛ فقد حفظ القرآن وجملة من الفقه وهو ابن سبع سنين، ثم رحل به أبوه فأكثر من سماع
= ١/ ٣١٢، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي ٢/ ١٦٩، "طبقات الشافعية" ٤/ ٢٥٦، "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٣٥٣.
(١) "الوسيط" ٢/ ٢٢٣ تحقيق: عادل عبد الموجود وزملائه.
(٢) انظر: "المنتخب من السياق" ص ٨٩، "إنباه الرواة" ١/ ١٦٥، و"اللباب" ١/ ٣٣٠، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٥٣٨، و"شذرات الذهب" ٣/ ٢٤٥.
(٣) روى عن الواحدي في "البسيط"، "الوسيط" ١/ ٧٠، ٣٨٦، ٤١٠، ٤٤٣، "أسباب النزول" ص ٧، ٢٤، ٢٧، ٤٥.
(٤) انظر: "طبقات الفقهاء الشافعية" لابن كثير ١/ ٣٩٧، "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي ٥/ ١٣٦، والأسنوي ١/ ٩٦.
68
الحفاظ ت ٤٣١ هـ (١).
وقد رحل إليه الواحدي، وسمع منه في بلده كما قال في "الوسيط": حدثنا الشيخ أبو معمر اليفضل بن إسماعيل إملاء بجرجان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (٢).
وقال في "أسباب النزول": حدثنا أبو معمر بن إسماعيل إملاء بجرجان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (٣).
هؤلاء أبرز شيوخ الواحدي الذين ذُكر أنه أخذ عنهم، أو ورد ذكرهم في المصادر التي ترجمت له، ولو أردنا تتبع أسماء الشيوخ الذين أخذ الرواية عنهم في كتبه، كـ"أسباب النزول" أو"الوسيط" لطال الأمر ومل الناظر، كما قال ذلك الواحدي (٤).
تلاميذه:
إن هذا العلم ميراث النبوة، يأخذه كل جيل عمن سبقه ويسلمه لمن بعده، والواحدي أحد العلماء المشاهير جلس إلى كبار الشيوخ وأخذ عنهم حتى صار إماما، وقعد للإفادة والتدريس، فقصده الطلاب، وصار له تلامذة كثيرون.
قال في "معجم الأدباء" ناقلا عن "السياق": ".. وقعد للإفادة والتدريس سنين وتخرج به طائفة من الأئمة سمعوا منه وقرؤوا عليه، وبلغوا
(١) انظر: "العبر" ٢/ ٢٦٦، "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٥١٨، "طبقات السبكي" ٥/ ٣٣١.
(٢) "الوسيط" ١/ ٢٩٠.
(٣) "أسباب النزول" ص ٤٥٤، "الوسيط" ١/ ٢٧٩، ٢/ ٥١.
(٤) انظر مقدمة "البسيط" للمؤلف.
69
محل الإفادة.. " (١).
وقال القفطي: ".. وسار الناس إلى علمه واستفادوا من فوائده.. " (٢).
وقال الذهبي: "تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه.. " (٣) ولقد مدحه الباخرزي (٤) قائلاً: يشتغل بما يَعْنيه، وإن كان استهدافه للمختلفة إليه يُعنّيه.
وهذا يدل على عناية الواحدي بقاصديه، والناهلين من علمه، تعليمًا وتربية وإفادة وتخرجًا (٥).
وأذكر بعض تلاميذه الذين ورد ذكرهم في ترجمة الواحدي أو ذُكر في تراجمهم أنهم أخذوا عنه منهم:
١ - عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخُواري (٦)، أبو محمد، كان إماماً مفتياً متواضعاً، سمع جماعة منهم أبو بكر البيهقي وغيره، توفي سنة ثلاث أو أربع وثلاثين وخمسمائة (٧)، وذكر أخذه عن الواحدي السمعاني
(١) "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٩، وانظر "روضات الجنات" ٥/ ٢٤٤
(٢) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٣) "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤١.
(٤) علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي أبو الحسن: أديب من الشعراء الكتاب من أهل باخرز من نواحي نيسابور، وتعلم بها وبنيسابور وقام برحلة واسعة في بلاد فارس والعراق اشتهر بكتابه "دمية القصر" وعصره أهل العصر، مات مقتول سنة ٤٦٧ هـ ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٣٦٠، "شذرات الذهب" ٣/ ٣٢٧.
(٥) انظر: "دمية القصر" ٢/ ١٠١٧.
(٦) "الخواري" بضم الخاء المنقوطة والراء بعد الواو والألف. هذه النسبة إلى خوار الري، وقرية ببيهق، والمذكور من الأخيرة. انظر: "الأنساب" ٥/ ٢١٥.
(٧) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١٠٨ أ، و"الأنساب" ٥/ ٢١٥، و"طبقات الشافعية" للسبكي ٤/ ٣٤٣.
70
في "الأنساب" (١)، والسبكي (٢)، والسيوطي (٣)، والداودي (٤). وقال الذهبي: إنه أكبر تلاميذه (٥).
٢ - أبو نصر محمد بن عبد الله الأَرْغياني (٦) الرَّاوَنِيرِيِ (٧) الفقيه الشافعي، مفتي نيسابور، تفقه على أبي المعالي الجويني، وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة (٨)، وقد ورد أخذه عن الواحدي عند السمعاني في "الأنساب" وابن خلكان والسبكي (٩).
٣ - أبو العباس عمر بن عبد الله الأَرْغياَني الراونيري، أخو أبي نصر السابق وكان أكبر منه بعشر سنين ونيف، كان شيخاً صالحًا سمع من جماعة منهم الواحدي وهو من رواة "أسباب النزول" للواحدي، قا ل السمعاني: سمعت منه "أسباب النزول"، توفي سنة أربع وثلاثين وخمسمائة (١٠).
(١) انظر: "الأنساب" ٥/ ٢١٥.
(٢) انظر: "طبقات الشافعية" ٣/ ٢٩٠، ٤/ ٢٤٣.
(٣) انظر: "طبقات المفسرين" ص ٦٧.
(٤) انظر: "طبقات المفسرين" ١/ ٣٩٤
(٥) "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠.
(٦) الأرغياني: بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الغين المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها، نسبة إلى "أرغيان" ناحية من نواحي نيسابور بها عدة قرى. انظر: "الأنساب" ١/ ١٦٧.
(٧) "الراونيري" بفتح الراء والنون المكسورة بعد الألف والواو، والياء المنقوطة من تحتها، وفي آخرها الراء الأخرى، نسبة إلى إحدى قرى "أرغيان" الأنساب ٦/ ٥٢.
(٨) انظر: "الأنساب" ٦/ ٥٢، و"وفيات الأعيان" ٤/ ٢٢١، و"طبقات الشافعية" للسبكي ٤/ ٧٠.
(٩) انظر المراجع السابقة.
(١٠) انظر: "الأنساب" ٦/ ٥٣، و"طبقات الشافعية" للسبكي ٤/ ٢٨٧، ومقدمة "أسباب النزول"، إعداد السيد أحمد صقر ص ٣٤.
71
٤ - أبو بكر يحيى بن عبد الرحيم بن محمد المقرئ المقبري اللبيكي من أهل نيسابور (٤٣٨ - ٥٢٢ هـ)، سمع من أبي حفص بن مسرور والصابوني، والبيهقي وغيرهم، قال السمعاني: "وسمعت منه حضورا سنة تسع وخمسمائة وأجاز لي جميع مسموعاته ومن جملتها التفاسير الثلاثة عن الإِمام علي بن أحمد الواحدي "الوسيط بين المقبوض والبسيط"، و"الوجيز" و"تفسير النبي - ﷺ -"، قال: بروايتي عنه" (١).
٥ - أحمد بن محمد بن أحمد الميداني (٢) النيسابوري، أديب فاضل، عالم باللغة والأمثال، صنف كتاب "مجمع الأمثال" وغيره، وتوفي سنة ثماني عشرة وخمسمائة بنيسابور، تخصص بصحبة أبي الحسن الواحدي وقرأ عليه (٣).
٦ - أبو الحسن علي بن سهل بن العباس المفسر النيسابوري، نشأ في طلب العلم، سمع من أبي عثمان الصابوني، وأبي القاسم القشيري، وتوفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة (٤). قال في "المنتخب": من تلامذة الواحدي (٥).
وقال في "روضات الجنات" في ترجمة الواحدي: "ومن جملة أهل
(١) "التحبير في المعجم الكبير" للسمعاني ٢/ ٣٧٧.
(٢) سمي الميداني لأنه سكن بأعلى ميدان زياد بن عبد الرحمن بنيسابور. انظر: "الأنساب" ١٢/ ٥٢٠.
(٣) انظر: "إنباه الرواة" ١/ ١٥٦، و"معجم الأدباء" ٥/ ٤٥، و"وفيات الأعيان" ١/ ١٤٨.
(٤) انظر: "المنتخب من السياق" ل١١٦ أ، و"طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ٢٩٩.
(٥) "المنتخب" ل ١١٦ أ.
72
نيسابور سمي هذا الرجل وتلميذه الفاضل أبو الحسن علي بن سهل بن العباس المفسر النيسابوري" (١).
٧ - يوسف بن علي بن جبارة الهذلي، أبو القاسم، الإِمام المقرئ من وجوه القراء، وصفه عبد الغافر بقوله: الضرير، قال ابن الجزري يحتمل أنه عمي في آخر عمره. كثير الرحلة في طلب القراءات، قال: "وجملة من لقيت في هذا العلم ثلاثمائة وخمسة وستون شيخاً من آخر المغرب إلى باب "فرغانة" يميناً وشمالاً وجبلاً وبحراً ولو علمت أحداً تقدم علي في هذه الطبقة في جميع بلاد الإِسلام لقصدته.. ". ألف كتاب "الكامل" وذكر فيه شيوخه، مات سنة خمس وستين وأربعمائة، عدَّ ابن الجزري جميع شيوخه وذكر منهم الواحدي (٢).
٨ - محمد بن الفضل بن أحمد الفُراوي، أبو العباس الصاعدي، أحد العلماء الكبار، اجتمع فيه علو الإسناد، وموفور العلم وحسن الخلق، وقد وصفه الذهبي بقوله: الشيخ الإِمام، الفقيه المفتي، مسند خراسان، فقيه الحرم (٣).
وهو معدود في تلاميذ الواحدي وممن روى كتابه "الوجيز" (٤).
(١) "روضات الجنات" ٥/ ٢٤٥.
(٢) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١٤٤ب، و"غاية النهاية" ١/ ٥٢٣، ٢/ ٣٩٧ - ٤٠١.
(٣) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٩/ ٦١٥، "تبيين كذب المفتري" ص ٣٢٤، "العبر" ٢/ ٤٣٨، "طبقات السبكي" ٦/ ١٦٦.
(٤) انظر: "الوجيز" ١/ ٢٠، ٨٥.
73
٩ - عبد الكريم بن علي بن أحمد بن محمد الخشنامي (١)، أبو نصر الأديب، إمام سليم الجانب من المختلفة إلى الإِمام الواحدي كتب تصانيفه وقرأ عليه، ت ٤٩٢ هـ (٢).
١٠ - الحسين بن محمد بن محمود بن سورة أبو سعيد سبط شيخ الإِسلام أبي عثمان الصابوني، فاضل عالم، سمع الكثير من مشايخ عصره وسمع من الواحدي التفسير وغيره توفي كهلاً ت ٥٠٦ هـ (٣).
١١ - محمد بن أحمد الماهياني أبو الفضل المروزي، إمام فاضل زاهد ورع حسن السيرة جميل الأخلاق فقيه شافعي، مبرز عارف بالمذهب رحال أدرك الأئمة الكبار وتفقه عليهم وسمع الحديث من الواحدي وغيره توفي سنة ٥٢٥ هـ من نحو ٩٠ سنة.
قال السمعاني: سمع الحديث من الواحدي وسمعت منه جميع التفسير المعروف بـ"الوسيط" للواحدي (٤).
١٢ - عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد الفارسي أبو الحسن، كان إماماً في الحديث والعربية، سمع من جدّه لأمه أبي القاسم القشيري، وتفقه على أبي المعالي الجويني، ورحل في طلب العلم، ثم رجع إلى نيسابور وولي الخطابة بها، وأملى في مسجد عقيل، وصنف كتباً
(١) الخشنامي، بضم الخاء وسكون الشين وفتح النون نسبة إلى جده خشنام، انظر: "أنساب" ٢/ ٣٧٢، "اللباب" ١/ ٤٤٧.
(٢) "المنتخب من السياق" ص ٣٣٦.
(٣) المصدر السابق ص ٢٠٤
(٤) انظر: "الأنساب" ٥/ ١٨٣، "المنتخب من السياق" ص ٧٣، "طبقات الشافعية" لابن الصلاح/٨٠، و"اللباب" لابن الأثير ٣/ ١٥٧، "طبقات الشافعية" للأسنوي ٢/ ٤٢٤.
74
عدة، منها: "المفهم بشرح غريب صحيح مسلم"، و"السياق لتاريخ نيسابور" و"مجمع الغرائب في غريب الحديث". ت (٥٢٩) بنيسابور، وكانت ولادته سنه ٤٥١ هـ في شهر ربيع الآخر (١).
قال في "السياق": قد أجازني بجميع مسموعاته ومصنفاته (٢).
١٣ - أبو إسماعيل بن أبي صالح، المؤذن الشافعي، كان إماماً في الأصول والفقه، وهو ممن تتلمذ على يد الإِمام الواحدي، ت ٥٣٢ (٣).
١٤ - إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروروذي، قرأ الوسيط على الإِمام الواحدي، ولد في ذي القعدة سنة ٤٥٣، وكان أحد الأئمة المسلمين، ومن كبار العلماء، قتل في فتنة خوارزم شاه سنة ٥٣٣ هـ (٤).
١٥ - أحمد بن طاهر بن سعيد الميهيي (٥) الخراساني الصوفي، شيخ صالح، رحل كثيراً في طلب العلم، ت ٥٤٩ هـ.
قال الذهبي: له إجازة من المفسر أبي الحسن الواحدي روى بها تفاسير (٦).
(١) انظر: "تذكرة الحفاظ" ٤/ ١٢٧٥، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٢٢٥، "التحبير في معجم الكبير" ١/ ٥٠٧، "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة ١/ ٣١٣.
(٢) "المنتخب من السياق" ص ٣٨٧.
(٣) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" ٧/ ٤٤، "العبر" ٢/ ٤٤١، "تذكرة الحفاظ" للذهبي ٤/ ١٢٧٧.
(٤) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٤/ ١٩٩، "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" تحقيق صفوان داودي ١/ ٢٠.
(٥) نسبة إلى قرية ميهنة وهي من قرى خابران، بين أبيورد وسرخس. انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٢٤٧.
(٦) انظر: "سير أعلام النبلاء" ٢٠/ ١٩٦، ١٩٧.
75
المطلب السابع
مؤلفاته:
الناظر في حياة أبي الحسن الواحدي يجد أنه قد انقطع للعلم منذ نشأته، وقد هيأ الله له أسباب التحصيل، فأدرك حظّاً وافراً من العلم، واتجهت أنظار الطالبين إليه، وكثر المستفيدون حوله، القابسون من نور علمه، ولذا كان لزاماً أن تلبى حاجة الناس بتصنيف المصنفات والتي يقرؤها الطلاب على شيخهم، ومن ثم ينقلونها إلى طلابهم وبلادهم، ليعم النفع، وليبقى العلم قد اجتمعت له أسباب الدوام من التلقي والتدوين، والسماع والكتاب.
وقد ألّف الإِمام أبو الحسن كتباً، طار صيتها، واشتهر ذكرها، وتداولها الناس، وتلقاها أهل العلم بالقبول والاستحسان.
قال ابن خلكان (١): ورزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها، وذكرها المدرسون في دروسهم (٢).
وقد قال تلميذه عبد الغافر: أحسن كل الإحسان في البحث والتنقير (٣).
(١) أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي، أبو العباس، المؤرخ الأديب صاحب أشهر كتاب في التراجم وهو "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، ولد في إربل سنة ٦٠٨، تولى القضاء بمصر ثم بالشام، وولي التدريس في دمشق، توفي سنة ٦٨١. ينظر: "مقدمة وفيات الأعيان"، و"النجوم الزاهرة" ٧/ ٣٥٣.
(٢) "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣.
(٣) نشله عن عبد الغافر ياقوت في "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٩.
76
وقال الفيروزابادي (١): ومصنفاته كثيرة مشهورة.
وبما أن الواحدي برع في علمي التفسير واللغة فإن غالب تصانيفه تحوم حول هذين العلمين.
وفيما يلي ثبت بأسماء مؤلفاته المنسوبة إليه مع بيان المطبوع منها والمخطوط وقد قسمتها إلى قسمين:
القسم الأول: ما يقطع بنسبته إليه.
القسم الثاني: ما لا يقطع بنسبته إليه، وإليك البيان.
القسم الأول:
المؤلفات التي يقطع بنسبتها للواحدي.
أولاً: كتبه المعروفة:
وهي التي وصلت إلينا منها ما طبع ومنها ما لا يزال مخطوطًا:
وهي المؤلفات التي ذكرها الواحدي في كتبه، أو ذكرها العلماء الأثبات سواء في تراجمهم له، أو كتبهم نقلاً عنها.
١ - " البسيط":
وهو أكبر كتبه في التفسير ويعدّ مع كتابيه الآخرين "الوسيط" و"الوجيز" -وكلها في التفسير- أشهر كتبه، بل أصبحت علماً عليه،
(١) هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم، أبو طاهر، مجد الدين، الشيرازي الفيروزابادي، من أئمة اللغة والأدب، ولد سنة ٧٢٩، رحل في طلب العلم حتى استقر به المقام في زبيد وتولى قضاءها، وأكرمه ملكها الأشرف، ومن أشهر كتبه: "القاموس المحيط"، وله "بصائر ذوي التمييز"، وغيرها. توفي سنة ٨١٧ ينظر: "البدر الطالع" ٢/ ٢٨٠، و"الضوء اللامع" ١٠/ ٧٩.
77
فيقال: الواحدي صاحب "البسيط" و"والوسيط" و"الوجيز" في، التفسير، ولا يترجم له أحد إلا ويذكر كتبه الثلاثة فذكرها القفطي (١)، وياقوت (٢)، وابن خلكان (٣) وقال: منها أخذ أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة، ومثله قال الذهبي (٤)، وذكرها ابن كثير (٥) والسبكي (٦) وغيرهم (٧).
و"البسيط" أول هذه الكتب وأكبرها، بل هو أصلها كما سيأتي، قال عنه القفطي: "وصنف التفسير الكبير وسماه "البسيط" وأكثر فيه من الإعراب والشواهد واللغة، ومن رآه علم مقدار ما عنده من علم العربية.. " (٨). وذكر ابن قاضي شهبة (٩) وابن العماد (١٠): أنه يقع في ستة عشر مجلدًا.
٢ - " الوسيط":
وهو في التفسير، والكتاب يعتبر وسطًا بين "البسيط" و"الوجيز" ولهذا قال في مقدمته: "... وقديماً كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط ينحط عن درجة "البسيط" الذي تجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة
(١) انظر: "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٢) انظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ١٥٩.
(٣) انظر: "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣.
(٤) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠.
(٥) انظر: "البداية والنهاية" ١٢/ ١١٤
(٦) انظر: "طبقات الشافعية" ٣/ ٢٩٠.
(٧) كابن الأثير في "الكامل" ٨/ ١٢٣، والأسنوي في "طبقات الشافعية" ٢/ ٥٣٩، وابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية" ١/ ٢٥٧، وابن العماد في "الشذرات" ٣/ ٣٣٠، وطاش كبرى زاده في "مفتاح السعادة" ٢/ ٦٦.
(٨) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٩) انظر: "طبقات الشافعية" ١/ ٢٥٧.
(١٠) انظر: "شذرات الذهب" ٣/ ٣٣٠.
78
"الوجيز" الذي اقتصر فيه على الإقلال" (١).
قال القفطي: "وهو مختار من "البسيط" -أيضًا- غاية في بابه" (٢)، والحقيقة أن ما في الكتاب من مسائل لغوية ونحوية وتفسيرية مختصر من "البسيط" ويزيد عن "البسيط" في الإكثار من الرواية، وسيأتي مزيد من الإيضاح عن الفرق بين الكتابين عند الحديث عن "البسيط". ويظهر أن هذا الكتاب نال الشهرة أكثر من "البسيط" ولهذا كثرت مخطوطاته (٣)، وطبع الجزء الأول من الكتاب ويشمل من أول القرآن إلى نهاية سورة "البقرة" بتحقيق: "محمد حسن أبو العزم الزفيتي"، طبعته "لجنة إحياء التراث" التابعة لوزارة الأوقاف المصرية، كما قام قسم القرآن بتحقيقه في رسائل علمية، وتم إنجاز أغلبه، نأمل أن تتبنى الجامعة طباعة هذا الجهد العلمي حتى يخرج متكاملاً.
٣ - "الوجيز"، وهذا الكتاب كاسمه وجيز في التفسير. قال القفطي: "وهو عجيب" (٤).
وقال الواحدي في مقدمته: "فإني كنت قد ابتدأت بإبداع كتاب في التفسير لم أسبق إلى مثله وطال علي الأمر في ذلك لشرائط تقلدتها
(١) مقدمة "الوسيط" ١/ ٦ تحقيق محمد حسن أبو العزم الزفيتي.
(٢) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٣) ذكر الزفيتي أنه اعتمد على ثلاث نسخ في تحقيق الكتاب: نسخة دار الكتب المصرية (٨٨٧ تفسير)، ونسخة أخرى بدار الكتب المصرية رقم (٢٧١)، ونسخة ثالثة بمعهد المخطوطات في القاهرة رقم (٢٩٢ تفسير) مصور عن أحمد الثالث بإستانبول.
(٤) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
79
ومواجب لحق النصيحة لكتاب الله تحملتها، ثم استعجلني قبل إتمامه والتفصي عما لزمني من عهدة إحكامه نفر متقاصرو الرغبات منخفضو الدرجات، أولو البضائع المزجاة إلى إيجاز كتاب في التفسير يقرب على من يتناوله ويسهل على من يتأمله من أوجز ما عمل في بابه وأعظم عائدة على متحفظيه.. " (١)، وقد وفي بذلك فخرج الكتاب موجزًا، وقد طبع في مصر سنة ١٣٠٥ هـ على هامش تفسير "مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد" للشيخ محمد نووي الجاوي، ويقع الكتاب في جزأين ولو طبع مستقلاً لم يتجاور أربعمائة صفحة تقريبًا، والكتاب بحاجة إلى طباعة محققة خصوصاً مع كثرة مخطوطاته، وقد اعتمده السيوطي (٢) في تكملته للتفسير المشهور بـ"تفسير الجلالين" (٣)، وقد طبع أكثر من مرة.
٣ - " تفسير النبي - ﷺ -":
ذكره ياقوت (٤)، والذهبي (٥)
(١) "مقدمة الوجيز" ١/ ٢ "على هامش تفسير مراح لبيد".
(٢) هو الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال السيوطي أبو بكر، صاحب التصانيف المشهورة، ولد عام ٨٤٩ وتوفي عام ٩١١: ينظر "حسن المحاضرة" ١/ ٣٣٥.
(٣) ينظر "بغية الوعاة" ١/ ٤٠١، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ١٠١.
(٤) سبقت ترجمته ص ٢٩.
(٥) هو شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، أبو عبد الله، المؤرخ، المحدث، الناقد، ولد في شهر ربيع الآخر سنة ٦٧٣ هـ، وكان من أسرة تركمانية الأصل، سمع من علماء دمشق وحلب ونابلس، ومكة، توفي بدمشق ليلة الاثنين ثالث من ذي القعدة سنة ٧٤٨ هـ، ودفن بمقبرة الباب الصغير. من أشهر مصنفاته -رحمه الله-: "تاريخ الإِسلام الكبير"، و"سير أعلام النبلاء"، =
80
والسبكي (١) والداودي (٢) والسمعاني (٣)، وذكره ابن القاضي شهبة (٤)، وابن العماد (٥)، بعنوان:
= "طبقات الحفاظ"، "ميزان الاعتدال" وغيرها من مصنفاته رحمه الله تعالى. ينظر ترجمته في "طبقات الشافعية" للأسنوي ١/ ٩٨، "طبقات الشافعية" للسبكي ٥/ ٢١٦ - ٢٢٦.
(١) هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، أبو نصر، القاضي المؤرخ الفقيه الشافعي، ولد بالقاهرة سنة ٧٢٧، وانتقل إلى الشام وتولى قضاءها، ثم عزل، وجرت عليه محن لم تجر على قاض مثله.
من كتبه: "طبقات الشافعية الكبرى"، و"ومعيد النعم ومبيد النقم"، و"جمع الجوامع". توفي بالطاعون سنة ٧٧١. ينظر: "الدرر الكامنة" ٢/ ٤٢٥ و"مقدمة طبقات الشافعية".
(٢) هو محمد بن علي بن أحمد، شمس الدين الداودي المالكي، محدث مصري، من تلاميذ السيوطي.
من كتبه: "طبقات المفسرين" و"ذيل طبقات الشافعية" للسبكي و"ترجمة الحافظ السيوطي"، توفي سنة ٩٤٥.
ينظر: "شذرات الذهب" ٨/ ٢٦٤، و"الأعلام" ٦/ ٢٩١.
(٣) هو عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي أبو سعد، مؤرخ رحالة، ولد بمرو سنة ٥٠٦، رحل في طلب العلم، من كتبه: "الأنساب"، و"أدب الإملاء الاستملاء" توفي بمرو سنة ٥٦٢. ينظر: "طبقات الشافعية" ٤/ ٢٥٩ و"وفيات الأعيان" ١/ ٣٠١.
(٤) هو أحمد بن محمد بن عمر بن محمد، تقي ابن قاضي شهبة الدمشقي، أبو بكر، عالماً بالفرائض، جلس للتدريس بالجامع الأموي مدة، وكان كريم النفس كثير "الإحسان" ولد في رجب سنة ٧٣٧هـ وتوفي سنة ٧٩٠هـ ومن مؤلفاته: "الفرائض" وغيرها من المؤلفات.
ينظر: "شذرات الذهب" ٦/ ٣١٢، ٣١٣.
(٥) هو عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد، العكري الدمشقي، أبو الفلاح، فقيه، أديب، أخباري، حنبلي المذهب، ولد في الصالحية بدمشق في =
81
تفسير أسماء النبي - ﷺ - (١).
٤ - " أسباب النزول":
وهو من أشهر ما صنف في هذا الفن (٢) ومن أول الكتب التي وردت إلينا شيه. وفيه يذكر سبب النزول من حديث أو أثر مسنداً، وقد يذكره بدون سند. ولتوسعه وشهرته بني عليه الحافظ ابن حجر (٣) كتابه المشهور في أسباب النزول المسمى: "العجاب في بيان الأسباب" واختصره أبو إسحاق الجعبري (٤) (ت
= ٨ رجب (١٠٣٢ هـ)، وأقام في القاهرة مدة طويلة، وتوفي بمكة في ١٦ من ذي القعدة (١٠٨٩هـ) من تصانيفه رحمه الله:- "شذرات الذهب"، و"بغية أولي النهى في شرح المنتهى" وغيرها من تصانيفه رحمه الله.
ينظر ترجمته: "معجم المؤلفين" ٢/ ٦٧.
(١) ينظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٩، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤١، و"طبقات الشافعية" ٥/ ٢٤١، و"طبقات المفسرين" للداوودي ١/ ٣٩٥، و"التحبير في المعجم الكبير" ٢/ ٣٧٧. وذكره ابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية" ١/ ٢٧٨، باسم تفسير أسماء النبي - ﷺ -، وتبعه ابن العماد في "شذرات الذهب" ٣/ ٣٣٠، ورجح ذلك جودة المهدي في كتابه الواحدي ومنهجه في التفسير ص ٩٦، بحجة أنه لم يرد في ثبت تفاسير الواحدي هذا الاسم، ولم تنوه به التراجم في سياق إنتاجه التفسيري. وهذا غير صحيح كما تبيّن عند مراجعة المصادر التي ترجمته.
(٢) انظر: "البرهان" ١/ ٢٢، و"الإتقان" ١/ ٣٨، و"كشف الظنون" ١/ ٧٦.
(٣) هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين، ابن حجر، من أئمة الحديث والفقه والرجال والتاريخ، وإذا أطلق الحافظ لم يرد به غيره، ولد بالقاهرة سنة ٧٧٣، رحل في طلب العلم، وتولى القضاء في مصر مرات، وكتبه كثيرة اشتهرت في حياته، منها "فتح الباري" وهو أجلها و"تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" وغيرها. توفي سنة ٨٥٢.
ينظر: "الضوء اللامع" ٢/ ٣٦، و"البدر الطالع" ١/ ٨٧.
(٤) هو إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبري، أبو إسحاق، عالم بالقراءات، =
82
٧٣٢هـ) فحذف أسانيده، وقد طبع الكتاب طبعات كثيرة (١).
٥ - " قتلى القرآن":
ذكره الحافظ ابن رجب (٢) في لطائف المعارف ناقلاً عنه (٣).
٦ - " فضائل القرآن":
ذكره حاجي خليفة (٤) عند ذكره للمصنفات في علم فضائل القرآن
= من فقهاء الشافعية، ولد بقلعة جعبر على نهر الفرات سنة ٦٤٠، وتلقى العلم ببغداد، واستقر بالخليل إلى أن مات، من كتبه: شرح الشاطبية "كنز المعاني شرح حرز الأماني". توفي سنة ٧٣٢. ينظر: "الدرر الكامنة" ١/ ٥٠، و"غاية النهاية" ١/ ٢١.
(١) طبع كتاب "أسباب النزول" عدة طبعات أولها سنة ١٣١٦ هـ بالقاهرة، على هامشه "الناسخ والمنسوخ" لأبي القاسم بن هبة الله بن سلامة. ثم أعيد طبعه سنة ١٣٧٩ هـ في مطبعة الحلبي، ثم طبع سنة ١٣٩٥ هـ في بيروت دار الكتب العلمية، ثم طبع بتحقيق "السيد أحمد صقر" سنة ١٣٨٩ هـ صدر عن دار الجديد، ثم خرجت طبعة أخرى بتحقيق السيد أحمد صقر عن دار القبلة سنة ١٤٠٤هـ، وطبعة بتحقيق عصام الحميدان من إصدار دار الإصلاح.
(٢) عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي أبو الفرج زين الدين، محدث فقيه إمام، ولد ببغداد ونشأ وتوفي في دمشق، من كتبه: "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، و"جامع العلوم والحكم"، توفي سنة ٧٩٥. ينظر: "شذرات الذهب" ٦/ ٣٣٩، و"الدرر الكامنة" ٢/ ٣٢١.
(٣) "لطائف المعارف" ص ٣٥٨، وذكر باسم (مقاتل القرآن) في مقدمة "أسباب النزول" للسيد أحمد صقر ص ٢١ وفي كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص ٩٤.
(٤) هو مصطفى بن عبد الله كاتب حلبي، المعروف بالحاج خليفة: مؤرخ بحاثة، تركي الأصل مستعرب، ولد سنة ١٠١٧ في القسطنطينية، تولى أعمالاً كتابية في الجيش العثماني، انقطع للتدريس آخر عمره من كتبه: "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" وهو أفضل ما كتب في فنه توفي سنة ١٠٦٧ ينظر: مقدمة كشف الظنون و"الإعلام" ٧/ ٢٣٦.
83
قائلاً: ولأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة ٤٦٨ مختصر فيه، أخذ شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي (١) أربعين حديثا منه (٢).
٧ - " مسند التفسير":
أشار إليه الواحدي في "الوسيط" حيث قال: وحديث انشقاق القمر رواه جماعة من الصحابة... روينا عن جميعهم ذلك في مسند التفسير (٣)، وقال في مقدمة "الوسيط" أيضاً: وقد سبق لي قبل هذا الكتاب -بتوفيق الله وحسن تيسيره- مجموعات ثلاث في هذا العلم: معاني التفسير، ومسند التفسير، ومختصر التفسير (٤).
وعلى صراحة هاتين الإحالتين من الواحدي لم يشر أحد ممن ترجم له إلى هذا الكتاب ضمن ثبت كتبه، ويحتمل أن يكون المقصود به كتاب تفسير النبي - ﷺ - المتقدم ذكره.
٨ - " نفي التحريف عن القرآن الشريف":
ذكره أكثر من ترجم له (٥).
(١) هو شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن علي بن خمارويه بن طولون الدمشقي الحنفي، مؤرخ عالم بالتراجم والفقه ولد سنة ٨٨٠، له مشاركة في فنون متعددة وكتبه كثيرة منها: "ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر" و"الغرف العلية في تراجم متأخري الحنفية". توفي سنة ٩٥٣. ينظر "الكواكب السائرة" ٢/ ٥٢، و"شذرات الذهب" ٨/ ٢٩٨.
(٢) "كشف الظنون" ٢/ ١٢٧٧، ولعله الموجود في مكتبة كوبرلي بتركيا مجموعة ر قم (١٦٣١) باسم فضائل السور، ينظر: فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلي ٢/ ٣٩٥.
(٣) "الوسيط" ٤/ ٢٠٧.
(٤) "الوسيط" ١/ ٥٥.
(٥) ينظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٩، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤١، و"طبقات =
84
٩ - " شرح ديوان المتنبي" (١):
ذكره أكثر من ترجم له، قد أثنى عليه العلماء قال فيه ابن خلكان: "وليس في شروحه مع كثرتها مثله" (٢) وقال القفطي: وهو غاية في بابه (٣)، وقال حاجي خليفة بعد أن ذكر أربعين شرحًا لديوان المتنبي: فأجلها نفعاً وأكثرها فائدة: شرح الإِمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي (٤). والكتاب مطبوع متداول (٥).
١٠ - " الإغراب في الإعراب":
ذكره بهذا الاسم أكثر من ترجم له (٦)، بينما سماه السبكي: الإعراب في علم الإعراب (٧)، وسماه السيوطي: الإغراب في علم
= الشافعية" ٥/ ٢٤١، و"الفلاكة والمفلوكون" للدلجي ص ١٥٣، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة ١/ ٢٧٨، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص ٧٩ وغيرهم.
(١) هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب المتنبي الشاعر الحكيم، علم في باب الشعر والأدب، ولد بالكوفة سنة ٣٠٣ ونشأ بالشام، تنقل في البادية يطلب العربية وقال الشعر صبياً، ثم تنبأ فتبعه خلق فسجن فتاب، أشهر أعماله: "ديوانه"، قتل سنة ٣٥٤ وقد كُتب في سيرته كتب كثيرة. ينظر: "معاهد التنصيص" ١/ ٢٧ و"وفيات الأعيان" ١/ ٣٦.
(٢) "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣.
(٣) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٣٢.
(٤) "كشف الظنون" ١/ ٨٠٩.
(٥) طبع عام ١٢٧١ في الهند طبعة حجرية ثم طبع بعناية فريدرخ ديتريصي في برلين عام ١٢٧٦ ثم صورته دار المثنى ببغداد. ينظر: "معجم المطبوعات" ٢/ ١٦١٦.
(٦) ينظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٩، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤١ و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة ١/ ٢٧٨ و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ٣٩٥ و"شذرات الذهب" ٣/ ٣٠٣.
(٧) "طبقات الشافعية" ٥/ ٢٤١.
85
الإعراب (١)، وسماه في موطن آخر: الإعراب عن الإعراب (٢).
١١ - " التحبير في شرح أسماء الله تعالى الحسنى":
ذكره أكثر من ترجم له (٣) مع اختلافات يسيرة في الاسم (٤).
١٢ - " الدعوات":
ذكره أكثر من ترجم له (٥).
١٣ - " المغازي":
ذكره أكثر من ترجم له (٦).
القسم الثاني: المؤلفات التي لا يقطع بنسبتها للواحدي
ثمة مؤلفات لا يقطع بنسبتها للواحدي:
إما لأنها وردت على طرة بعض المخطوطات، أو في فهارس خزائن الكتب، لكن لم يذكرها أحد ممن ترجموا للواحدي ضمن ثبت كتبه،
(١) "بغية الوعاة" ٢/ ١٤٥.
(٢) "طبقات المفسرين" ص ٧٩.
(٣) "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي ٣١/ ٢٥٩، و"طبقات الشافعية" ٥/ ٢٤١، و"البداية والنهاية" ١٢/ ٢٤١، و"طبقات المفسرين" للسيوطي ص ٧٩، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة ١/ ٢٧٨.
(٤) بعضهم قال: "التجيز في شرح الأسماء الحسنى" وبعضهم قال: "التحبير في الأسماء الحسنى"، وبعضهم سماه: "شرح الأسماء الحسنى"، وأما ابن قاضي شهبة فقال: "التنجيز بدلاً من التحبير" وهو تصحيف.
(٥) ينظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٩، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤١ و"طبقات الشافعية" ٥/ ٢٤١، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة ١/ ٢٧٨ و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ٣٩٥ و"شذرات الذهب" ٣/ ٣٠٣.
(٦) ينظر: المراجع السابقة. وسماه السمعاني في "الأنساب" ٣/ ٤٧٩ "طراز المغازي".
86
فضلاً عن الواحدي نفسه، إذ لا يعرف عنه أنه نسبها إلا نفسه، أو عدها ضمن كتبه.
وإما لتوهم أن تكون له، وليست كذلك،
وإما أن يذكر واحد من كتبه باسم مغاير للمشهور فيظن أنهما كتابان، والحقيقة أنهما اسمان لكتاب واحد. وهذا بيان لجميع ذلك.
١ و ٢ - "معاني التفسير"، و"مختصر التفسير":
ذكر الواحدي في مقدمة تفسيره الوسيط هذين الاسمين، ووقع الخلاف بين الباحثين هل مراده بهما كتابان آخران غير البسيط والوجيز، أو أنهما اسمان لذينك الكتابين على عادة بعض المؤلفين في تعديد أسماء الكتاب الواحد، ولإيضاح الأمر أسوق عبارته في مقدمة الوسيط، حيث يقول: "وقد سبق لي قبل هذا الكتاب -بتوفيق الله وحسن تيسيره- مجموعات ثلاث في هذا العلم: "فمعاني التفسير" و"مسند التفسير" و"مختصر التفسير"، وقديماً كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط، ينحط عن درجة البسيط، الذي تجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة الوجيز الذي اقتصر فيه على الإقلال" (١) فأخذ بعض الباحثين من هذا النص الصريح أن هذين اسمان لكتابين غير البسيط والوجيز، وعدهما ضمن كتبه (٢)، والظاهر - أنهما اسمان للكتابين نفسيهما ويدل لذلك:
أ- أنهما لو كانا كتابين مستقلين لقال: وقد سبق لي مجموعات خمس، خاصة وأنه صرح في آخر كلامه الآنف الذكر باسم: البسيط والوجيز.
(١) "الوسيط" ١/ ٥٠.
(٢) ذكر ذلك د/جودة المهدي في كتابه الواحدي ومنهجه في التفسير ص ٩٢.
87
ب- جاء في نهاية الجزء الثالث من النسخة الأزهرية ما نصه: آخر الجزء الثالث من كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط للإمام أبي الحسن علي الواحدي -رحمه الله- ومثله جاء في نهاية الجزء الثاني من نسخة جستربتي.
ج- لم يذكرهما أحد ممن ترجم للواحدي على أنهما كتابان مستقلان، غير ذينك الكتابين.
٣ - " الحاوي لجميع المعاني":
ورد هذا الكتاب منسوباً إلى الواحدي في فهارس بعض خزائن الكتب (١) بيد أن حاجي خليفة بين أن هذا الاسم يراد به كتبه الثلاثة في التفسير، فقال: تفسير الواحدي ثلاثة: البسيط والوسيط والوجيز، وتسمى هذه الثلاثة: الحاوي لجميع المعاني (٢).
وقال أيضاً: الحاوي لجميع المعاني، وهو اسم البسيط والوسيط والوجيز للواحدي (٣). وما ذكره حاجي أظهر؛ لأنه لو كان كتاباً مستقلاً لذكره المترجمون للواحدي، خصوصاً وأنه كتاب كبير يصعب تجاهله ونسيانه، لكن الجزم بذلك يتوقف على الاطلاع على تلك النسخ في خزائن الكتب، ودراستها، والتحقق منها.
٤ - " جامع البيان في تفسير القرآن":
(١) كالمكتبة الآصفية بحيدر اباد بالهند برقم (١٢٤) ومكتبة أصفهان العامة بإيران برقم (٢٦٩٣) وخزانة قاسم الرجب ببغداد برقم (٣٤٠) وعنوانها الحاوي في تفسير القرآن، والخزانه الحسينية بالقصر الملكي بالرباط، برقم (٥٥٥١). ينظر: "الفهرس الشامل للتراث العربي الإِسلامي" ١/ ١١٣، ١١٤.
(٢) "كشف الظنون" ١/ ٦٢٩.
(٣) "كشف الظنون" ١/ ٦٢٩.
88
ورد هذا الكتاب منسوباً للواحدي في إحدى خزائن الكتب (١)، ولم يذكره أحد ممن ترجموا للواحدي.
٥ و ٦ - "رسالة في البسملة"، و"حاشية على شرح البسملة":
ورد هذان العنوانان في فهرس المكتبة الخالدية بالقدس (٢)، ولم يذكرهما أحد ممن ترجم للواحدي.
٧ - " رسالة في شرف علم التفسير":
ذكرها الدكتور جودة المهدي (٣)، وأشار إلى وجودها مخطوطة في دار الكتب المصرية (٤) ولم يذكرها أحد ممن ترجم للواحدي.
٨ - " شرح معلقة النابغة الذبياني" (٥)، أو"شرح قصيدة النابغة":
ورد في فهارس بعض خزائن الكتب (٦)، ولم يذكره أحد ممن ترجموا للواحدي.
(١) وهي مكتبة مراد ملا الوطنية تحت رقم (١٩١). ينظر: "الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي" ١/ ١٣١.
(٢) برقم (٤٨) و (٤٩)، ينظر: الفهرس الشامل ١/ ١١٤.
(٣) الواحدي ومنهجه في التفسير ص ٩٥.
(٤) برقم ٢٢٠ مجاميع.
(٥) هو: الذبياني أبو أمامة زياد بن معاوية بن ضباب، من الطبقة الأولى، من فحول شعراء الجاهلية، كان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ ويفاضل بينهم. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٥٦، و"جمهرة أشعار العرب" ١/ ٣٠٣
(٦) منه نسخة في مكتبة الأكاديمية العلمية بجامعة ليدن بهولندا برقم (١٠٦/ ٢)، ونسخة أخرى في مكتبة حسين علي محفوظ بالكاظمية، ونسخة في مكتبة المتحف العراقي ببغداد برقم (١٨٩٤/ ٢) ونسخة في مكتبة جامعة الملك سعود ضمن مجموع (٢١٤ - ٢٢٣) برقم (٨٣٨/ ٢) ينظر: تاريخ التراث العربي (مج ٢، جـ٢/ ٩) ومجلة المخطوطات ٦/ ٤٧ و"مخطوطات الأدب في المتحف العراقي" ص ٣٨٦.
89
٩ - " الوسيط في الأمثال":
حققه الدكتور عفيف محمد عبد الرحمن (١)، ونسبه إلى الواحدي معتمداً على نسخة وحيدة، وجدها في الخزانة العامة في الرباط بالمغرب (٢)، وقد بذل المحقق جهدًا في إثبات نسبة الكتاب إلى الواحدي، واستدل على ذلك بورود أسماء من كتبه في ثنايا الكتاب ثم ذكرها (٣)، ولا يعرف منها شيء تصح نسبته إليه، والذي يظهر أن الكتاب لا تصح نسبته إلى الواحدي، لعدم وجود دليل صحيح صريح، يدل على صحة نسبة الكتاب إليه، ولا ذكر أحد ممن ترجموا له هذا الاسم في ثبت كتبه، ولا أحال هو عليه في ثنايا مؤلفاته، ولم يجد المحقق إلا نسخة واحدة اعتمد عليها.
ويزاد على ذلك أنه في الكتاب استشهد ببيت للأخطل (٤) ثم قال: "هكذا رواه الشيخ أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي (٥)، وقرأت ديوانه على الفصيحي (٦) في سنة إحدى وتسعين... " والفصيحي هذا توفي سنة ٥١٠ أو
(١) نشرته مؤسسة دار الكتب الثقافية بالكويت ١٣٩٥هـ
(٢) برقم (١٠٢ت) كتبت في القرن السادس الهجري.
(٣) منها: "البسيط في الأمثال"، و"الوجيز في الأمثال"، و"المترجم المنيح في شرح الكتاب الفصيح"، و"نزهة الأنفس" وغيرها.
(٤) هو غياث بن غوث بن الصلت التغلبي النصراني، أحد شعراء زمانه، كان معاصراً لجرير والفرزدق، مهاجياً لهما، مدح خلفاء بني أمية فأكثر. قيل: إنه توفي سنة ٩٠ هـ ينظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٢٩٨ و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٥٨٩.
(٥) هو أبو زكريا، يحيى بن علي بن محمد الشيباني، المعروف بالخطيب التبريزي، أحد أئمة اللغة والنحو والأدب، توفي عام ٥٠٢ هـ. ينظر: "معجم الأدباء" ٢٠/ ٢٥ و"سير أعلام النبلاء" ١٩/ ٢٦٩.
(٦) هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الفصيحي لقب بذلك لكثرة دراسته كتاب الفصيح لثعلب، درس في النظامية ببغداد، وكان يظهر التشيع فعزل عن التدريس. =
90
(٥١٦)، وكانت القراءة سنة (٤٩١)، والواحدي توفي سنة (٤٦٨) بلا خلاف فكيف يكون هذا؟
١٠ - " الناسخ والمنسوخ":
نسبه إليه محقق الوجيز (١)، وذكر أن الزركشي نقل منه في كتاب البرهان (٢)، والحقيقة أن النقل كان عن الواحدي من تفسيره البسيط، عند قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦] ولا تشير عبارة الزركشي إلى كتاب بهذا الاسم، ولم ينسبه إليه أحد ممن ترجم له.
١١ - " بانت سعاد":
ذكره: الدكتور عفيف محمد عبد الرحمن في مقدمته على الوسيط في الأمثال، وقال: منها نسخة في جستربتي كتب في القرن التاسع الهجري (٣)، ولم يذكر مترجمو الواحدي شيئاً عنه، ولم أجده في فهرس الكتب المختارة من جستربتي المترجم.
١٢ - " منظومة في الوعظ":
ورد هذا الكتاب منسوباً للواحدي في إحدى خزائن الكتب (٤)، ولم يذكره له من ترجموه.
= ينظر: "معجم الأدباء" ١٥/ ٦٦ و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٠٦.
(١) "مقدمة الوجيز" لصفوان داودي ١/ ٣٦.
(٢) "البرهان" ٢/ ٤١ ونص كلامه: "وقسمه -أي النسخ- الواحدي أيضاً إلى نسخ ما ليس بثابت التلاوة كعشر رضعات، قال نسخ ما هو ثابت.... ".
(٣) "الوسيط في الأمثال"، مقدمة المحقق ص ١٤.
(٤) ضمن مخطوطات جامعة الملك سعود برقم (٢٤٢٩/ ٦/م)
91
١٣ - "إيضاح الناسخ والمنسوخ في القرآن".
١٤ - "البيان لأسباب نزول القرآن".
١٥ - "البسيط في الأمثال".
١٦ - "الوجيز في الأمثال".
١٧ - "المترجم المنيح في شرح كتاب الفصيح".
١٨ - "نزهة الأنفس"، أو"زينة الأنفس".
١٩ - "الحاوي في شرح المقصورة الدريدية".
هذا الكتب السبعة عدها الدكتور عفيف محمد عبد الرحمن في تحقيقه الوسيط في الأمثال - من كتب الواحدي، واستدل بورودها في ثنايا الوسيط على صحة نسبة الوسيط إلى الواحدي، وقال: "إنها حقًّا له" (١).
ولكن الصحيح أن شيئاً منها لا تثبت نسبته إلى الواحدي، ولا ذكره آحد ممن ترجموا له، فكيف تكون ثابتة له حقًّا. وبما أن الوسيط على الصحيح لا يثبت، ولم يقم دليل على نسبته للواحدي، فما استنبط منه من كتب، وما أحال إليه كاتب الوسيط من مؤلفاته ليست من مصنفات الواحدي.
(١) مقدمة "الوسيط في الأمثال" ص ٢٠ وينظر: ص ٢٤٠ أيضاً.
92
المطلب الثامن: مكانته
الواحدي كغيره من العلماء المشهورين، الذين لهم مصنفات، ولهما آراء وأقوال اجتهدوا فيها، أصابوا في بعضها وجانبهم الصواب في البعض الآخر. وهذه طبيعة الإنسان فهو عرضة للخطأ، والكمال لله وحده، لذا فإن المكانة التي وصل إليها المؤلف في العلم والأدب تتجلى من خلال الأمور الآتية:
١ - كثرة شيوخه الذين أخذ عنهم العلم، وتلقى منهم الحكمة والأدب، وطول باعهم، وعلو إسنادهم، وشهرتهم، وتلقي الأمة لهم بالقبول، وقد تقدم ذكر طرف منهم.
٢ - كثرة تلاميذه والآخذين عنه، وما ذاك إلا لما كان عليه أبو الحسن الواحدي من علو الكتب في العلم، وتقدم المنزلة، وتنوع المعارف، وقد سبق التعريف ببعضهم.
٣ - كتبه التي تشهد له بالتمكن والبسطة في العلم، وسعة المعرفة، حيث تداولها العلماء، وسارت بين الناس مسير الشمس، وشرَّقت بها الركبان وغرَّبت، وتنافس الطلاب على نسخها واقتنائها.
٤ - ثناء أهل العلم المعاصرين واللاحقين، وتتابعهم على تزكيته ومدحه، والإشادة بجهوده، والتعريف بفضله وبيان تميزه، حتى قال فيه أحد معاصريه:
قد جمع العالم في واحد عالمنا المعروف بالواحدي (١)
(١) نقل ذلك الحسن بن المظفر النيسابوري المتوفى سنة ٤٤٢ هـ، -وهو معاصر للواحدي- كما في "معجم الأدباء" لياقوت الحموي ١١/ ٢٦٠.
93
المطلب التاسع
أقوال العلماء فيه، وما كتبه العلماء عن الواحدي ثناءً أو نقداً له، والصواب من ذلك.
ولقد تناول العلماء الواحدي بالمدح والثناء لما له من المكانة العلمية ولما تركه من أثر لمن بعده، من مصنفات قيمة، ولم يسلم الواحدي من بعض الأخطاء التي تناولها العلماء من بعده بالبيان والنقد. وأذكر بعضا من أقوال العلماء في الجانبين:
أما في جانب المدح والثناء عليه فقد أثنى عليه أكثر الذين ترجموا له بعبارات تدل على إمامته، وعلى مقدار ما وصل إليه من مكانة علمية عالية.
١ - قال عبد الغافر صاحب السياق وهو من أقدم من كتب عن الواحدي: "الإِمام المصنف المفسر النحوي، أستاذ عصره وواحد دهره وكان حقيقاً بكل احترام وإعظام" (١).
٢ - أما الذهبي إمام علماء التاريخ والرجال والتراجم والسير فقد مدحه بقوله: الإِمام، العلامة الأستاذ، إمام علماء التأويل، المفسر أحد من برع في العلم، وأنه كان رأساً في العربية واللغات، طويل الباع في علم اللغة، وأنه واحد عصره في التفسير.
وقال عنه -أيضًا -: "تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه.. " (٢).
(١) "المنتخب من السياق" (٣٨٧)، "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٨ - ٢٦٠.
(٢) ينظر: "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٣٩ - ٣٤١، و"تاريخ الإِسلام" ٣١/ ٢٥٨ - ٢٥٩، و"العبر" ٢/ ٣٢٤.
95
٣ - وأثنى عليه ابن الأثير بأنه: إمام مفسر مشهور (١).
٤ - وقال فيه الباخرزي صاحبه: مشتغل بما يعنيه، وإن كان استهدافه للمختلفة إليه يُعَنِّيه، وقد خبط ما عند أئمة الأدب من أصول كلام العرب خبْطَ عصا الراعي فروع الغَرَب، وألقَى الدلاء في بحارهم حتى نزفها، ومد البنان إلى ثمارهم إلا أن قطفها، وله في علم القرآن، وشرح غوامض الأشعار تصنيفات، بيديه لأَعِنَّتِها تصريفات (٢).
٥ - ومدحه كل من: الوزير القفطي وابن خلكان والسبكي والإسنوي (٣) وابن الجزري (٤) بأنه واحد عصره في التفسير، بعد أن وصفوه بأنه الإِمام العلامة الكبير البارع في العلم، المصنف المفسر النحوي اللغوي، الأصولى الفقيه، صاحب الإسناد العالي، الشاعر، لذا تجد هذه العبارات تتردد في كتب الذين ترجموا له (٥).
(١) "الكامل" ٨/ ١٢٣، و"اللباب" ٣/ ١٦٣.
(٢) "دمية القصر" ٢/ ١٠١٧.
(٣) عبد الرحيم بن الحسين بن علي جمال الدين، الإسنوي، إمام مبرز في الفقه والأصول والعربية، انتهت إليه رياسة الشافعية بمصر، من مؤلفاته: "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول"، و"نهاية السول في شرح منهاج الوصول". توفي سنة ٧٧٢. ينظر: "الدرر الكامنة" ٢/ ٤٦٣ و"البدر الطالع" ١/ ٣٥٢.
(٤) هو أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري إمام القراء في عصره، ولد بدمشق سنة ٧٥١ ثم اشتغل بجمع القراءات وإقرائها ودرس وأفتى وتولى القضاء ومن كتبه النشر في القراءات العشر، وغاية النهاية، وغيرها توفي سنة ٨٣٣. ينظر: "مقدمة النشر"، و"الضوء اللامع" ٩/ ٢٥٥ طبعة دار مكتبة الحياة.
(٥) ينظر: "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣ و"طبقات الشافعية" ٥/ ٢٤٠ و"طبقات الشافعية" للإسنوي ٢/ ٥٣٩، و"غاية النهاية" ١/ ٥٢٣.
96
المآخذ عليه:
تلك هي عبارات الأئمة في الثناء على الإِمام الواحدي لكن الكمال في البشر عزيز،
ومن ذا الذي ترضى سجاياه... كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقد قيل:
من ذا الذي ماساء قط... ومن له الحسنى فقط
ومن هنا فإن الواحدي لم يسلم من انتقاداتٍ وجهت إليه من بعض العلماء في ثلاث قضايا، إليك خلاصتها:
الأول: عدم السلامة من البدع، ذكرها شيخ الإِسلام ابن تيمية.
الثانية: ضعف البضاعة في علم الحديث، ذكرها ابن الجوزي وشيخ الإِسلام ابن تيمية والكتاني (١)، وأشار إليها ابن الصلاح (٢).
الثالثة: غمز الأئمة المتقدمين، ذكرها تلميذه عبد الغافر الفارسي، وأبو سعد السمعاني (٣).
وسيتبين بعد البحث والمناقشة صحة النقد في الأوليين دون الثالثة:
(١) أحمد بن جعفر بن إدريس أبو العباس الكتاني، من علماء القرويين، ولد بفاس سنة ١٢٩٣، كان واسع المعرفة بالحديث له ٧٠ كتاباً ورسالة، توفي بفاس سنة ١٣٤٠. ينظر: "الأعلام" للزركلي ١/ ١٠٨.
(٢) عثمان بن عبد الرحمن صلاح الدين بن عثمان بن موسى الشهرزوري الكردي، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح حدث فقيه شافعي ولد سنة ٥٧٧ ومن كتبه: معرفة أنواع علم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، ولاه الملك الأشرف التدريس بدار الحديث في دمشق وتوفي فيها سنة ٦٤٣. ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٣١٢ و"طبقات الشافعية" ٥/ ١٣٧.
(٣) سبقت ترجمته ص ٨١.
97
وإليك البيان.
القضية الأولى: عدم السلامة من البدع، والبعد عن اتباع منهج السلف في الاعتقاد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطبَ ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية، لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف" (١).
وفي موضع آخر قال: وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليدًا لغيره (٢).
وقال في منهاج السنة النبوية: والبغوي (٣) اختصر تفسيره من تفسير الثعلبي والواحدي، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه، والواحدي أعلم بالعربية من هذا وهذا، والبغوي أتبع للسنة منهما (٤).
والناظر في كتب الواحدي يجد أنه على مذهب الأشاعرة في الاعتقاد وقد تقدم بيان ذلك وتفصيله في مبحث عقيدته.
القضية الثانية: ضعف البضاعة في علم الحديث
معرفة الحديث وسماعه وروايته شيء، والدراية به وتمييز صحيحه من
(١) "مجموع الفتاوى" ١٣/ ٣٥٤.
(٢) "مجموع الفتاوى" ١٣/ ٣٨٦.
(٣) هو الحسين بن مسعود بن محمَّد الفراء أو ابن الفراء، أبو محمَّد، ويلقب بمحيي السنة، البغوي، فقيه شافعي محدث مفسر، نسبته إلا بغا من قرى خراسان، من كتبه: تفسيره "معالم التنزيل" و"شرح السنة"، و"مصباح السنة"، توفي سنة ٥١٠ وقيل ٥١٦. ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ١٤٥، ومقدمة تفسيره.
(٤) "منهاج السنة" ٧/ ٣١٢.
98
سقيمه شيء آخر، وقد كان أبو الحسن الواحدي راويًا كثير السماع، من أصحاب الأسانيد العالية (١)، بيد أنه كان ضعيف العناية في علم الحديث، ينقل الضعيف والموضوع منها في كتبه دون بيان أو تنبيه؛ ولذا قال ابن الجوزي: وقد فرَّق هذا الحديث -يعني الحديث الموضوع في فضائل سور القرآن سورة سورة- أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره فذكر عند كل سورة ما يخصها، وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك، ولا أعجب منهما، لأنهما ليسا من أهل الحديث (٢).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وهؤلاء -يعني الثعلبي والواحدي وأمثالهما- من عادتهم يروون ما رواه غيرهم، وكثير من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف؟، ويروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر، لأن وظيفتهم النقل لما نقل، أو حكاية أقوال الناس، وإن كان كثير من هذا وهذا باطلاً، وربما تكلموا على صحة بعض المنقولات وضعفها، ولكن لا يطردون هذا ولا يلتزمونه (٣).
ويقول الكتاني: ولم يكن له -أي الواحدي- ولا لشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما -وخصوصًا الثعلبي- أحاديث موضوعة وقصص باطلة (٤).
وعندما ناقش كثير من العلماء بطلان حديث فضائل القرآن سورةً
(١) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٣٨٧ و"النجوم الزاهرة" ٥/ ١٠٤، و"إشارة التعيين" ص ٢٠٩.
(٢) "الموضوعات" ١/ ٢٣٩.
(٣) "منهاج السنة" ٧/ ١٧٧.
(٤) "الرسالة المستطرفة" ص ٥٩.
99
سورةً أشاروا إلى من رووه في كتبهم من المفسرين، وبينوا خطأهم في ذكره وعدم بيان أمره (١)، قال ابن الصلاح: "ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم" (٢).
القضية الثالثة: غمزه الأئمة المتقدمين
ليس في كتب الواحدي التي بين أيدينا، ولا في كلامه ما يدل على اتصافه بهذه التهمة، كما أني لم أر من أهل العلم من انتقد الواحدي بذلك عدا اثنين:
أولهما: تلميذه عبد الغافر الفارسي.
والثاني: أبو سعد السمعاني فيما نقله عنه الذهبي.
أما الأول فأبهم ولم يبين حيث قال: ".... وكان حقيقًا بكل احترام وإعظام، لولا ما كان فيه من غمزه وإزرائه على الأئمة المتقدمين، وبسطه اللسان فيهم بغير ما يليق بما فيهم، عفا الله عنا وعنه" (٣).
وأما الثاني: ففي كلامه ما يدل عل نوع الغمز والمعني به، حيث نقل عنه الذهبي أنه قال: وكان -أي الواحدي- حقيقًا بكل احترام وإعظام، لكن كان فيه بسط اللسان في الأئمة المتقدمين، حتى سمعت أبا بكر أحمد بن محمد بن بشار بنيسابور مذاكرة يقول: "كان علي بن أحمد الواحدي يقول: صنف أبو عبد الرحمن السلمي (٤) كتاب "حقائق التفسير"
(١) ينظر: "مجموع الفتاوى" ١٣/ ٣٥٤ و"منهاج السنة النبوية" ٧/ ١٢، ٣١١، ٤٣٤، و"تدريب الراوي" للسيوطي ١/ ٢٨٩.
(٢) "مقدمة علوم الحديث " لابن الصلاح ص ٤٨.
(٣) نقله عنه ياقوت في "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٦٠.
(٤) هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي، شيخ الصوفية في زمنه،=
100
ولو قال: إن ذلك تفسير للقرآن لكفر به" (١).
قال الذهبي بعد هذا: صدق والله (٢). وقال في موضع آخر: الواحدي معذور مأجور (٣).
إن هذه التهمة الموجهة لأبي الحسن الواحدي إن كانت بسبب كلمته تلك فما أصاب من أتهمه، ولقد عاد نقده عليه، وحارت التهمة إليه، فهذا الذهبي يعد تلك الكلمة منقبة للواحدي فيقول: "وقد قال الواحدي كلمة تدل على حسن نقيته".
وذلك أن جماعة من الأئمة انتقدوا أبا عبد الرحمن السلمي في كتابه هذا، وبينوا غلطه فيما فعل، وحذروا من كتابه ومنهجه.
فهذا ابن الجوزي يقول: وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير القرآن من كلامهم -أي الصوفية- الذي أكثره هذيان لا يحل نحو مجلدين سماها: حقائق التفسير.. ، ثم ذكر ابن الجوزي أمثلة مما جاء في الكتاب منها: ".. قالوا: إنما سميت فاتحة الكتاب لأنها أوائل ما فاتحناك به من خطابنا، فإن تأدبت بذلك وإلا حُرمت لطائف ما بعد... "، "وقال في قوله: ﴿وَإِن يَأتُوكُم أُسَرَى﴾ [البقرة: ٨٥]. "قال أبو عثمان: غرقى في الذنوب،
= له تصانيف كثيرة بلغت المائة أو أكثر، كتب الحديث بنيسابور وغيرها من البلاد، وهو حافظ زاهد لكن ليس بعمدة في الرواية، توفي سنة ٤١٢، ينظر: "المنتخب من السياق" ص ١٩ و"لسان الميزان" ٥/ ١٤٠.
(١) "تاريخ الإسلام" ٣١/ ٢٦٠. وينظر "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٢، و"طبقات الشافعية" ٥/ ٢٤١.
(٢) "تاريخ الإسلام" ٣١/ ٢٦٠.
(٣) "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٢.
101
وقال الواسطي: غرقى في رؤية أفعالهم، وقال الجنيد: أسارى في أسباب الدنيا تغدوهم إلى قطع العلائق.. ". ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء: ٣٦]: "النفس.. ". "وقال في قوله: ﴿فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: ٤٢]: قال الحسين: لا مكر أبين من مكر الحق بعباده حيث أوهمهم أن لهم سبيلا إليه بحال.... "، قال ابن الجوزي: "ومن تأمل معنا هذا علم أنه كفر محض، لأنه يشير إلى أنه كالهزء واللعب، ولكن الحسين هذا هو الحلاج وهذا يليق بذاك... "، ثم قال - بعد أن ذكر مثالا آخر: "وجميع الكتاب من هذا الجنس ولقد هممت أن أثبت منه هاهنا كثيرا فرأيت أن الزمان يضيع في كتابه شيء بين الكفر والخطأ والهذيان.. " (١).
هذا كلام ابن الجوزي عن "حقائق التفسير" فماذا قال غيره، قال ابن تيمية في "منهاج السنة": "وكذلك جعفر الصادق قد كُذِب عليه من الأكاذيب ما لا يعلمه إلا الله... وحتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية، كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "حقائق التفسير" فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل مراد الله تعالى من الآيات بغير مراده، وكل ذي علم بحاله يعلم أنه كان بريئًا من هذه الأقوال والكذب على الله في تفسير كتابه العزيز" (٢).
وتكلم عنه كذلك في الفتاوى حين سئل عن كلام الواحدي في "حقائق التفسير" فأجاب بالتفصيل والشرح، وتكلم عن كتاب السلمي بنحو
(١) "تلبيس إبليس" ١/ ٤٠٣ وما بعدها.
(٢) "منهاح السنة النحوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" ٤/ ١٤٦.
102
ما ذكر في "منهاج السنة" تركت نقله خشية الإطالة (١).
وقال الذهبي في ذلك: "ألف حقائق التفسير فأتى فيه بمصائب وتأويلات الباطنية نسأل الله العافية" (٢). وقال: "وفي "حقائق تفسيره" أشياء لا تسوغ أصلا، عدها بعض الأئمة من زندقة الباطنية، وعدها بعضهم عرفانا وحقيقة، نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى.. " (٣)، وقال: "وحقائقه قرمطة وما أظنه يتعمد الكذب، بلى يروي عن محمد بن عبد الله الرازي الصوفي أباطيل وعن غيره.. " (٤).
بل نجد السبكي -وهو ممن نافح عن السلمي وحاول أن يدفع أقوال الذهبي (٥) - يقول: وكتاب "حقائق التفسير" المشار إليه قد كثر الكلام فيه من قبل أنه أقتصر فيه على ذكر تأويلات ومحال للصوفية ينبو عنها ظاهر اللفظ" (٦).
وبعد: فماذا سيقول الواحدي غير هذا في مثل هذا الكلام، وقد وافقه في ذلك أئمة وأعلام، ولقد أصاب الذهبي فإنه لما ذكر كلام الواحدي في السلمي قال: "فهو معذور" (٧)، وقال في موضع آخر: "قلت: الواحدي معذور مأجور.. " (٨)، ويتضح بهذا أن المقولة على الواحدي: أن فيه بسط اللسان في الأئمة لا تقوم لها حجة ولا مستند.
(١) "مجموع الفتاوى" ١٣/ ٢٣١، ٢٤٠، ٢٤٢.
(٢) "تذكرة الحفاظ" للذهبي ٣/ ١٠٤٦.
(٣) "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٢٥٢.
(٤) "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٢٥٥.
(٥) انظر كلامه في "طبقات الشافعية" ٣/ ٦٢.
(٦) "طبقات الشافعية" ٣/ ٦٢.
(٧) "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤١.
(٨) "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٢.
103
ولقد حاول مؤلف "الواحدي ومنهجه في التفسير" أن يدافع عن أبي عبد الرحمن السلمي، بل يدافع عن منهج الصوفية في التفسير، وأصدر حكمه على الواحدي بقوله:
"والواحدي متجن في حكمه -أيضا- لأن أبا عبد الرحمن لم يدع أن الظاهر غير مراد. ومن ثم كان موقف الواحدي من التفسير الصوفي من المآخذ التي تؤخذ عليه " (١). أقول بل هي من المآثر التي تحتسب له، كيف وقد وافقه جهابذة من العلماء ممن يتحرون في منهجنهم مسلك السلف الصالح من هذه الأمة.
وإذا تبينت حقيقة كتاب السلمي بذلك فما على الواحدي في كلامه من معتب، وكلامه فيه إنما هو بحق وعدل، وهو عين النصح لكتاب الله عز وجل، لا يسع الواحدي ولا غيره أن يكتم ما علمه من ذلك الكتاب، إبراءً للذمة ونصحًا للأمة، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٨٧].
(١) الواحدي ومنهجه في التفسير ص ٤٠٠.
104
المبحث الثاني
الأوضاع السياسية في عصر المؤلف وأثرها على الناحية العلمية
إن للأوضاع السياسية التي تحيط بالعالم أكبر الأثر على حياته، وعلى نوع التربية التي تشكل أنماط حياته، وعلى الأفكار والعقائد السائدة في عصره، ومن ثم على حصيلته وإنتاجه العلمي، لهذا لا بد قبل دراسة منهج أي عالم من العلماء من التعرف على الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في عصره.
لقد عاش المؤلف في القرن الخامس الهجري (٣٩٥ هـ تقريباً - ٤٦٨ هـ) ولهذه الفترة سمة خاصة في تاريخ الخلافة العباسية.. لذلك نجد كثيراً من الدارسين لها يقسمونها إلا قسمين (١):
العصر العباسي الأول، والعصر العباسي الثاني.
فإذا كانت أبرز سمات العصر العباسي الأول: القوة والاستقرار والتقدم الحضاري بشتى أنواعه كما تظهر ذلك الدراسات عنه، فما هي سمات العصر العباسي الثاني؟ لا أستطيع أن ألم بذلك في هذا المختصر، وإنما أبرز أهم السمات وخصوصا ما يمس البيئة القريبة من المؤلف.
إن السمة الرئيسية للعصر العباسي الثاني هي: ضعف الدولة العباسية وتفككها الذي ترتب عليه تفرق وحدة الأمة، وقد أدرك المؤلف ثلاثة من خلفاء بنى العباس وهم:
١ - القادر بالله: أبو العباس، أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدي بالله
(١) كما فعل الدكتور حسن إبراهيم حسن في "تاريخ الإسلام السياسي" الجزء الثاني والثالث.
105
العباسي (١) وكانت ولايته من عام ٣٨١ إلى عام ٤٢٢ وقد أدرك المؤلف من خلافته قرابة الثلاثين عاماً.
٢ - القائم بأمر الله: عبد الله بن الخليفة القادر بالله (٢) وكانت ولايته من وفاة أبيه ٤٢٢ إلى سنة ٤٦٧. وقد أدرك المؤلف من خلافته قرابة الأربعين عاماً.
٣ - المقتدي بأمر الله: أبو القاسم عبد الله بن محمد، حفيد القائم بأمر الله (٣)، وكانت ولايته من عام ٤٦٧ إلى عام ٤٨٧ ولم يدرك المؤلف من خلافته إلا عاماً واحداً.
وفي عصر هؤلاء ضعف أمر الخليفة، ولم يكن له إلا ذكر اسمه في الخطبة، ونقش اسمه على السكة، وإنما الدولة وتصريف الأمور بيد الدويلات الحاكمة المستحوذة التي تملك القوة والنفوذ، وكانت تلك أهم سمات ذلك العصر، فالتفرق سائد، والتناحر قائم (٤).
(١) ولد رحمه الله سنة ٣٣٦، كان ديناً عالماً وقوراً، يحب الخير وأهله، ويأمر به، ويبغض الشر وأهله، وكان حسن الاعتقاد، وصنف كتاباً فيه، وكان من أحسن الخلفاء سيرة، وأطولهم مدة في الخلافة توفي سنة ٤٢٢. ينظر: "تاريخ بغداد" ٤/ ٣٧ و"المنتظم" ٧/ ١٦٠ و"الكامل" ٧/ ٣٥٤ و"سير أعلام النبلاء" ١٥/ ١٢٧.
(٢) ولد -رحمه الله- سنة ٣٩١، وكان ديناً ورعاً متصدقاً، له يد في الكتابة والأدب، وفيه عدل وسماحة، وإحسان إلى الناس، وهو من خير بني العباس ديناً واعتقاداً ودولة. توفي سنة ٤٦٧. ينظر: "تاريخ بغداد" ٩/ ٣٩٩، و"المنتظم" ٨/ ٢٩٥ و"الكامل" ٨/ ١٢٠، و"سير أعلام النبلاء" ١٥/ ١٣٨.
(٣) ولد -رحمه الله- سنة ٤٤٨، وتولى الخلافة بعهد من جده، وكان حسن السيرة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، أمر بنفي الخواطىء والمغنيات من بغداد، وكان فيه ديانة وقوة وعلو همة، وهو من نجباء بني العباس. توفي سنة ٤٨٧. ينظر: "المنتظم" ٨/ ٢٩١، و"الكامل" ٨/ ١٧٠، و"سير أعلام النبلاء" ٨/ ٣١٨.
(٤) تعدّ هذِه الفترة جزءاً من العصر العباسي الثاني، والذي يمتد من عام ٢٤٧ إلى =
106
أهم مظاهر هذا العصر
أولاً: تعدد الخلافة:
لقد ظلت عاصمة الدولة في القرون الثلاثة الأولى واحدة هي: المدينة أو دمشق أو بغداد، وهي المركز الذي تصدر منه التوجيهات والأوامر ولا يستطيع أحد من الولاة مخالفتها، ولا شك أن هذا مصدر قوة الأمة إذ إن قوتها في وحدتها، لكن في هذِه الفترة اختلفت الأمور عما سبقها فأصبح هناك عدد من الخلفاء، فبالإضافة للخليفة العباسي في بغداد وجد خليفة في الأندلس حيث تلقب عبد الرحمن الناصر الأموي (٣٠٠ - ٣٥٠ هـ) بأمير المؤمنين (١) لما رأى ضعف الخليفة العباسي في بغداد.
= سقوط الدولة ٦٥٦. ومن أهم ما يميز هذِه المرحلة:
١ - ضعف الخلفاء، وسيطرة العسكريين على مركز الخلافة.
٢ - نشوء دويلات كثيرة، نتيجة بروز قادة استقلوا عن مناطقهم، واعترف بهم الخليفة.
٣ - ظهور نتائج الحضارة الإسلامية السابقة لهذا العصر، على شكل علوم وعمران ورفاهية وترف.
٤ - قيام حركات ادعاء النسب الهاشمي والحركات الباطنية.
٥ - الغزو الصليبي لبلاد المسلمين.
٦ - الغزو المغولي، والقضاء على الخلافة العباسية عام ٦٥٦. ينظر: "الدولة العباسية" لمحمود شاكر ٧/ ٤٢ وما بعدها
(١) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، أبو المطرف الأموي المرواني وُلد سنة سبع وسبعين ومائتين، قتل أبوه وهو ابن عشرين يومًا، وولي الخلافة بعد جده بحضرة جماعة من أعمامه فلم يعترض عليه معترض واستمر له الأمر وقام ببناء مدينة الزهراء في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وافتتح سبعين حصنًا ثم توفي سنة خمسين وثلاثمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء" ٨/ ٣٦٥ (٦٢)، "البداية والنهاية" ١١/ ٢٣٨.
107
وكَذلك لقب عبيد الله المهدي الفاطمي بأمير المؤمنين (٢٩٦ - ٣٢٢ هـ) وكانت دولة الفاطميين في مصر والمغرب (١).
ثانياً: ظهور دول إقليمية:
على الرغم من أن الخليفة العباسي في بغداد كانت رقعة خلافته أوسع الرقع، إلا أنه ليس له من الخلافة إلا الاسم، وإنما تدار أمور الدولة بيد أمراء إقليميين، وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء الأمراء إلى إنشاء دولة داخل الخلافة وإخضاع الخليفة العباسي لنفوذهم (٢) كما فعل البويهيون والسلاجقة، وهذِه لمحة موجزة عن ثلاث من تلك الدول؛ لأنها من أكبر الدول الإقليمية التي ظهرت في هذه المرحله من العهد العباسي؛ ولقربها من بيئة المؤلف التي نتحدث عنها:
١ - البويهيون (٣):
وهم من الروافض الغالين، وقد اختلف في أصلهم ونسبهم كما ذكر
(١) انظر: "البداية والنهاية" ١١/ ١٧٩، و"تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن ابراهيم حسن ٣/ ١٦١.
(٢) انظر: "البداية والنهاية" ١١/ ٢١٢، و"تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن إبراهيم حسن ٣/ ٢٨، و"التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي" للدكتور عبد المجيد أبو الفتوح ص ١٨، ١٩.
(٣) تنسب هذِه الدولة إلى أبناء بويه بن فناخسرو الديلمي الثلاثة: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسن أحمد، وقد التحق هؤلاء الإخوة في جيش الديلم، وترقَّوا حتى أصبحوا من قواد الجيش، وعظم شأنهم، حتى تملكوا بلاد فارس وهمدان والري وأصبهان وغيرها، بدأ نفوذهم عام ٣٢٠، وأسسوا دولة منفصلة عن الدولة العباسية، واكتمل سلطانهم عل مساحة شاسعة من أملاك الدولة العباسية، وطلبوا من الخليفة العباسي الاعتراف بهم، فتم لهم ذلك، ثم كاتب قواد بغداد معز الدولة، وطلبوا منه =
108
ذلك ابن الأثير (١)، وابن كثير (٢). وقد بدأ أمرهم يظهر في سنة (٣٢١ هـ) واشتهر منهم ثلاثة إخوة: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن ومعز الدولة أبو الحسن أحمد أولاد أبي شجاع بن بويه، وكان بداية قيام دولتهم بدخول معز الدولة أحمد بن الحسن بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
كان البويهيون من الشيعة المتعصبة فلما دخل معز الدولة بغداد قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وعيَّن المطيع لله بدلا منه، قال ابن كثير: وضعف أمر الخلافة جداً حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير -أيضاً- إنما يكون له كاتب على إقطاعه، وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة، لأن بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد.. (٣).
= المسير إليهم، فدخل بغداد عام ٣٣٤، وقابله الخليفة المستكفي، وخلع عليه، ولقبه، ولقب أخويه، وأصبح لبني بويه بعد ذلك مطلق التصرف في العراق. وفي عهد عضد الدولة بن ركن الدولة بلغوا أقصى درجات السلطان، وبعد وفاته دبت الحروب بين أبنائه الثلاثة، واستمرت بين أخلافهم، حتى دمرتهم جميعًا، وكانت نهايتهم على يد السلاجقة سنة ٤٤٧. وبنو بويه شيعة حاقدون متعصبون، أتوا بأفعال منكرة، وطامات عجيبة. ينظر: "الكامل" لابن الأثير ٦/ ٢٣٠، و"العبر" ٢/ ١٣، ٤٦، ٢٨٩، و"البداية والنهاية" ١١/ ١٧٧، و"تاريخ الإسلام السياسي" ٣/ ٣٦ - ٣٧.
(١) "الكامل في التاريخ" ٦/ ٢٣٠.
(٢) "البداية والنهاية" ١١/ ١٧٣، وانظر "تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن إبراهيم ٣/ ٣٩.
(٣) "البداية والنهاية" ١١/ ٢١٢.
109
وبقيمت دولتهم إلى أن سقطت على أيدي السلاجقة سنة (٤٤٧ هـ) وهم من أهل السنة فقضوا على دولة بني بويه (١) الرافضية، وخلص الله بهم الأمة من شر البويهيين.
وكان للرافضة في عهدهم صولة وقوة. ذكر ابن كثير أنه في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة كتبت الروافض على أبواب المساجد لعن بعض الصحابة. قال: وبلغ ذلك معز الدولة ولم ينكره،.. قبحه الله وقبح شيعته.. (٢).
وهذا في المشرق، فأما المغرب فبرز فيه حدثان:
الأول: قيام دولة العبيديين (٣) التي ادعت الخلافة وناوأت الخلافة
(١) انظر: "تاريخ الإسلام السياسي" للدكتور حسن إبراهيم ٣/ ٦٧، ٦٨.
(٢) "البداية والنهاية" ١١/ ٢٤٠.
(٣) مؤسس الدولة عبيد الله بن محمد المهدي وإليه تنسب الدولة، وكان أبوه قد نشر الدعوة الفاطمية في بلاد اليمن ومصر والمغرب وغيرهما، وواصل الابن طريق والده، ووسع نفوذه حتى قبض عليه اليسع بن مدرار أمير سلجماسة وسجنه، ثم واصل قائده أبو عبد الله الشيعي طريقه، حتى أزال دولة الأغالبة سنة (٢٩٦)، ثم سار إلى سلجماسة، فهرب حاكمها، فأطلق عبيد الله المهدي، وبايعوه، وتلقب بخليفة المسلمين، وهكذا استطاع القضاء على ملك الأغالبة، وآل رستم، والأدارسة، ودان له الشمال الإفريقي، واتخذ القيروان عاصمة ملكه، وفي سنة (٣٥٨) تمكن القائد الفاطمي جوهر الصقلي من الاستيلاء على مصر سلماً، وبنى القاهرة والجامع الأزهر، ثم اتخذ المعز لدين الله الفاطمي القاهرة عاصمة لبلاده، سنة ٣٦٢، وامتدت بلادهم في فترة ازدهارهم، من نهر العاصي بالشام إلى حدود مراكش، ومن السودان إلى آسيا الصغرى، وقضى عليهم صلاح الدين الأيوبي، ومات العاضد آخر حكامهم سنة ٥٦٧، وقد ادعى عبيد الله المهدي أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق، والمحققون على أنه دعي، بل كان جده مجوسياً، وكان هو =
110
العباسية، وكادت تقضي عليها بعد أن زاحمتها في مواقع نفوذها، وانتسبت ظلماً وزوراً لآل البيت، ونسل فاطمة الزهراء، وتسمت بالدولة الفاطمية، وانبث دعاتها في أطراف البلاد، واستمالوا أمراء البلدان، حتى خطب لهم بالإضافة إلى مصر والمغرب في بلاد كثيرة، كاليمن والشام والحجاز وفي أجزاء من العراق، بل خطب لهم في دار الخلافة (بغداد)، سنة (٤٥٠) عاماً كاملاً (١).
الثاني: زوال دولة الأمويين في الأندلس عام (٤٢٢) (٢) وظهور ما
= باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة دولة الإسلام، أعدم العلماء ليغوي الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه، فأباحوا الخمور والفروج، وأشاعوا الرفض، كما ذكر الباقلاني. وقال القاضي عياض: أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة، وقال الذهبي: كان العبيديون على ملة الإسلام شرًّا من التتر. ولم يعدَّهم السيوطي في تاريخ الخلفاء لعدم صحة إمامتهم. انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ١٤١ (٦٥)، و"البداية والنهاية" لابن كثير ١١/ ٢٦٦.
(١) وكان ذلك في فتنة البساسيري عام ٤٥٠، ينظر في تفاصيل ذلك: "تاريخ بغداد" ٩/ ٤٩٩ و"المنتظم" ٨/ ١٩٠ و"الكامل" ٨/ ٨٢ و"البداية والنهاية" ١٢/ ٧٦.
(٢) هي أول دولة تنفصل عن جسم العالم الإسلامي، أسسها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي، فر من العباسيين، ودخل الأندلس فلقب بالداخل، استتب له الأمر عام ١٣٨، بعد معارك حامية مع يوسف الفهري، وأرسل له أبو جعفر المنصور عدة جيوش للقضاء عليه، فلم يتمكن، ولقبه: صقر قريش إعجاباً به، ثم حاول المهدي قتاله فلم يفلح، فتركوه وشأنه، ومات سنة ١٧٢، ومن أبرز حكامها: عبد الرحمن الناصر (الثالث)، حكم من ٣٠٠ - ٣٥٠، وكانت له انتصارات عظيمة على ممالك النصارى، وفي عام ٣٦٦ آل الأمر إلى الحاجب المنصور العامري، لضعف بني أمية، وكان قوياً، غزا خمسين مرة، ولم يهزم قط، وهابه ملوك أوروبا، ثم توفي عام ٣٩٢، فتولى ابنه عبد الملك، وكان كأبيه، ثم أخوه عبد الرحمن، وكان ضعيفاً، فقتل عام ٣٩٩، ثم عادت السلطة لبني أمية، =
111
يسمى بـ (دول الطوائف) (١)، فمنهم من انحاز إلى العباسيين، ومنهم من بقي على ولاء الأمويين، مع زوال ملكهم وذهاب دولتهم.
قال الذهبي (٢): "وفي الأربع مائة وبعدها كانت الأندلس تغلي
= وكانوا ضعفاء متناحرين، فسقطوا عام ٤٢٢، وتفككت دولهم إلى إمارات الطوائف. ينظر: "في الأدب الأندلسي" لجودت الركابي ص ٢١ و"موجز التاريخ الإسلامي" للعسيري ص ١٨٤.
(١) بعد ضعف الأمويين واستبداد العامريين بالسلطة، بدأ أمراء الطوائف يستقلون بالإمارات التي يحكمونها، فعُرفوا بملوك الطوائف، وانقسموا أكثر من (٢٠ دويلة)، وقد امتلأ عهد ملوك الطوائف بالفوض والفتن، وأهم تلك الدويلات:
الدولة الزيرية في (غرناطة) (٤٠٣ - ٤٨٣)، والدولة الحمودية في (قرطبة ومالقة) (٤٠٥ - ٤٠٧)، وهم شيعة، والدولة الهودية في (سرقسطة) (٤١٠ - ٥٣٦)، والدولة العبادية في (إشبيلية) (٤١٤ - ٤٨٤)، وهي أشهر تلك الدول وأقواها، وكانت تلك الدول متناحرة، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن استنجد بالنصارى على إخوانه، ودامت مائة سنة، وقد استطاع ملوك الأسبان أن يجمعوا كلمتهم، فأخذوا يبتلعون تلك الإمارات واحدة واحدة، حتى بلغوا أعظمها وهي إشبيلية، فطلب حاكمها المعتمد بن عباد النجدة من يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين في المغرب، الذي قدم فهزم النصارى في موقعة الزلاقة، عام ٤٧٩، ووحد الأندلس تحت حكم المرابطين. ينظر: "في الأدب الأندلسي" لجودت الركابي ٢٣ - ٢٥ و"موجز التاريخ الإسلامي" ص ٢٢٨.
(٢) هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين، ولد سنة ٦٧٣ من أسرة تركمانية الأصل، وولاؤها لبني تميم، تلميذ الحافظ المزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، له مؤلفات كثيرة في الحديث والتاريخ والرجال، مثل: "تاريخ الإسلام"، و"سير أعلام النبلاء" و"تذكرة الحفاظ"، وغيرها، توفي سنة ٧٤٨. ينظر: "طبقات الشافعية" ٩/ ١٠٠ و"مقدمة سير أعلام النبلاء".
112
بالحروب والقتال على الملك" (١) وتظاهر ملوك تلك الدول بمظاهر الخلفاء، وتلقبوا بألقابهم، وفيهم قال الشاعر (٢):
مما يزهدني في أرض أندلس تلقيب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وكان تفرقهم وتقاتلهم وبغي بعضهم على بعض مطمعاً للنصارى المجاورين لهم، الذين رأوا الفرصة سانحة في ظل غياب الخلافة، وتفرق الدولة، خصوصاً بعد أن استعان بهم بعض أولئك الملوك على إخوانهم، فانقض النصارى على تلك الدول، وأسقطوها واحدة تلو الأخرى، وجرى للإسلام والمسلمين على أيديهم ما يجل عن الوصف، ويندى له جبين الحر.
١ - الدولة الغزنوية:
كانت خراسان وبلاد ما وراء النهر تحت حكم الدولة السامانية (٣)
(١) "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ١٧٧.
(٢) هو أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، ينظر: ديوانه ص ٥٩، وقيل: هما لشاعر الأندلس: محمد بن عمار. ينظر: "نفح الطيب" ١/ ٢١٣.
(٣) تنسب لـ"سامان خداه" وهو فارسي، أسلم على يد أسد بن عبد الله القسري، والي خراسان في أواخر عهد الأمويين، واشتهر من السامانيين: نصر بن أحمد، الذي ولاه الخليفة المعتمد سائر بلاد ما وراء النهر، ومن ثم تأسست الدولة السامانية، ثم توفي سنة ٢٧٩، خلفه أخوه إسماعيل الذي استطاع أن يضم إلى سلطانه بلاد خراسان وغيرها، وقد بقي الملك في أبناء إسماعيل، حتى زالت دولتهم سنة ٣٨٩، على يد الغزنويين في خراسان، وعلى يد أيلك خان ملك الترك في بلاد ما وراء النهر. ينظر: "تاريخ بخاري" للنرشخي ص ١٠٥، و"المنتظم" ٧/ ٢٠٢، و"الكامل" ٦/ ٣ و"العبر" ٢/ ١٧٣، و"تاريخ الإسلام السياسي" ٣/ ٧١ - ٨٢.
113
التي قال فيها ابن الأثير (١): وكانت دولتهم قد انتشرت، وطبقت كثيراً من الأرض، من حدود حلوان إلى بلاد الترك بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدول سيرة وعدلاً، وكانت نهايتها عام (٣٨٩) على يد الدولة الغزنوية، التي بدأ ظهورها عام (٣٥١)، على يد (ألْبتِكِين)، أحد موالي الدولة السامانية الآنفة الذكر، حيث استولى هذا المولى على غزنة وبعض أعمالها، وأقام إمارة مستقلة عن الدولة السامانية، وقد حاربه السامانيون ليردوا ما معه إلى ملكهم، لكنه تغلب على جيشهم، بيد أنه لم يُمَكن، حيث توفي عام (٣٥٢) ولم يوطد ملكه، فخلفه ابنه الذي ثار عليه أهل غزنة، فاستعان بالسامانيين الذين أمدوه بجيش تمكن به من استرداد غزنة، وحكمها باسم السامانيين، ثم لم يلبث أن توفي، فورثه أحد موالي أبيه (٢) الى أن آل الأمر عام (٣٦٦) إلى رجل يقال له: "سُبُكْتِكين" مولى تركي لـ"ألبتكين" الآنف الذكر، وكان تابعاً للسامانيين بالاسم، قال ابن الأثير: "وكان عادلاً خيراً كثير الجهاد، ذا مروءة تامة وحسن عهد (٣).
وقال الذهبي: وكان فيه عدل وشجاعة، ونبل مع عسف، وكونه كَرَّاميًا (٤).
(١) علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري أبو الحسن، عز الدين بن الأثير، المؤرخ الإمام الأريب، ولد عام (٥٥٥)، من كتبه: "الكامل في التاريخ" و"أسد الغابة في معرفة الصحابة"، و"اللباب" توفي سنة (٦٣٠). ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٣٤٧، و"طبقات الشافعية" ٥/ ١٢٧.
(٢) ينظر: "الكامل" ٧/ ٥ و"تاريخ الإسلام السياسي" ٣/ ٨٥ و"تاريخ الإسلام في جنوب آسيا في العصر التركي" ص ٣٧ - ٣٩.
(٣) "الكامل" ٧/ ١٨٨.
(٤) "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٥٠٠. والكرامية: هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرَّام =
114
ثم جرت بين سُبكْتكين وملوك الهند حروب عظيمة، استولى على إثرها على أجزاء من بلادهم، وفرض عليهم الجزية، ولنفوذه وقوة سلطانه استعان به السامانيون عام (٣٨٤) للقضاء على بعض القواد الذين ثاروا عليهم بنيسابور وغيرها، فتمكن من إعادتها إليهم، ولأجل ذلك ولَّوه خراسان، وسموه: ناصر الدولة (١).
وفي عام (٣٨٧) توفي سُبُكْتكين، وخلفه ابن ضعيف التدبير، يقال له إسماعيل، وفي عام (٣٨٨) خرج عليه أخوه محمود (٢)، وهو أكبر منه، فدار بينهما قتال، حتى آل الأمر إليه. واستقر ملك الغزنويين لـ"محمود"، الذي تمكن أيضاً من سحق جيش السامانيين، واستولى على خراسان، واستقر ملكه بها، وأزال عنها اسم السامانية، وخطب للخليفة القادر بالله، ولقبه الخليفةُ "يمين الدولة وأمين الملة"، وخلع عليه خِلَع السلطنة (٣).
= أصله من سجستان، جاور خمس سنين ثم ورد نيسابور، أحدث مذهباً تبعه عليه عالم لا يحصون بنيسابور وهراة ونواحيها، ومذهبه هذا مشهور في التشبيهه والتجسيم. ينظر: "الملل والنحل" ١/ ١٠٨ و"الفرق بين الفرق" ص ١٣١.
(١) ينظر: "تاريخ العتبي" ١/ ٥٨ - ٨٩، و"الكامل" ٧/ ٨٥ - ٨٧.
(٢) هو السلطان المجاهد فاتح الهند، أبو القاسم محمود بن سبكتكين، ولد سنة ٣٦١، وتملك سنة ٣٨٨، وكان ديناً كثير الغزو، وفتوحه مشهورة، وكان مائلاً إلى السنة، إلا أنه كان كراميًّا، كما كان إلباً على الرافضة والإسماعيلية والجهمية والمعتزلة والمشبهة وعامة المبتدعة، وقتل منهم جماعة، ونفى آخرين، وأمر بلعنهم على المنابر. توفي سنة ٤٢١، بعد مرض. ينظر: "المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور" ص ٤٤٦، و"المنتظم" ٨/ ٥٢، و"الكامل" ٧/ ٢٤٦، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٤٨٣ - ٤٩٥.
(٣) ينظر: "تاريخ العتبي" ١/ ٣١٧ و"الكامل" ٧/ ١٩٦ و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٤٨٥.
115
وقد اتسعت الدولة الغزنوية في عهد محمود، ووفقه الله في فتح بلاد واسعة، وفرض على نفسه غزو الهند كل سنة، وأقام فيها بدلاً عن بيوت الأصنام مساجدَ الإسلام، وعن مشاهد البهتان معاهد التوحيد والإيمان (١). ولم يزل كذلك -رحمه الله- حتى توفي سنة (٤٢١)، وتولى بعده الملكَ ابنه محمد الذي لم يدم ملكه إلا أشهراً (٢)، إذ قبض عليه أخوه "مسعود" (٣)، وتمكَّن من الملك، وتابع غزوَ الهند، ودانت له ممالك كثيرة، وجرت له مع السلاجقة حروب حتى هزموه بعد اضطراب جنده، وأخذوا منه خراسان سنة (٤٣١)، فأقام بغزنة، وقتل في طريقه إلى الهند عام (٤٣٢) (٤).
وقد بقيت الدولة الغزنوية فني غزنة وأعمالها والهند إلى أن زالت دولتهم عام (٥٤٣) كما ذكر ابن الأثير -رحمه الله- (٥).
٢ - الدولة السلجوقية:
تنسب هذه الدولة إلى سلجوق بن دقاق، أحد رؤساء الأتراك، وكان قائدا لجيش ملك الترك، فأُغري بقتل سلجوق، فلجأ مع من أطاعه إلى دار
(١) ينظر: "تاريخ العتبي" ١/ ٣١٧ و"المنتظم" ٨/ ٥٣.
(٢) ينظر: "الكامل" ٧/ ٣٤٦.
(٣) هو السلطان الناصر لدين الله ظهير خليفة الله مسعود، كان كريماً شجاعاً، كثير البر والإحسان، وكان ملكه عظيماً فسيحاً، وعمر كثيراً من المساجد، وصنف في دولته ومناقبه: "تاريخ أبي الفضل البيهقي"، وهو مطبوع، وقد مات مقتولاً عام ٤٣٢. ينظر: "الكامل" ٨/ ٢٧ و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٤٩٥ و"البداية والنهاية"
(٤) ينظر: "المنتظم" ٨/ ١٠٧ و"الكامل" ٨/ ٢٦.
(٥) ينظر. "الكامل" ٩/ ٣٥ وقد قيل: إن زوالها عام (٥٨٢).
116
الإسلام، وازداد حاله علواً، وأقام بنواحي "جَنْد"، وأدام غزو الكفار، ثم خلفه ابنه ميكائيل، الذي استشهد في بعض بلاد الكفار، وخلف ثلاثة من الولد، فأطاعهم عشائرهم، وهم الذين قامت على أيديهم الدولة (١)، أشهرهم: "طغرلبك محمد" (٢)، وهو الذي هزم جيش الدولة الغزنوية سنة (٤٣١)، وسار طغرلبك إلى نيسابور فدخلها، واستولى السلاجقة حينئذٍ على بلاد خراسان، وأخذوها من الغزنويين، ثم واصلوا زحفهم حتى أستولوا على أكثر بلاد فارس، وطردوا عنها بني بويه، وعندما استنجد الخليفة القائم بأمر الله بطغرلبك -كما تقدم- سار إليه ودخل بغداد سنة (٤٤٧)، وأزال دولة بني بويه، وحوى نفوذ السلاجقة بغداد والعراق أيضاً (٣).
وفي سنة (٤٥٥) توفي طغرلبك، وخلفه ابن أخيه: ألب أرسلان (٤)،
(١) ينظر: "الكامل" لابن الأثير ٨/ ٢١، و"البداية والنهاية" ١٢/ ٤٨، و"تاريخ الإسلام السياسي" ٤/ ١ - ٢.
(٢) هو السلطان ركن الدولة أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركماني السلجوقي، وطغْرلْبك: اسم علم تركي مركب من: (طغرل) وهو اسم بلغة الترك لطائر معروف عندهم و (بك) معناه الأمير، أول الملوك السلجوقية، وكان كريماً محافظاً على الصلوات، وفيه عدل مشوب بقسوة توفي سنة ٤٥٥. ينظر: "المنتظم" ٨/ ٢٣٣ و"فيات الأعيان" ٥/ ٦٣ و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ١٠١.
(٣) ينظر: "الكامل" ٨/ ٢١ - ٢٦ و"البداية والنهاية" ١٢/ ٤٨ و"السلوك لمعرفة دول الملوك" للمقريزي ١/ ٣٠ - ٤١.
(٤) هو عضد الدولة، الملقب بسلطان العالم، أبو شجاع محمد بن جغريبك داود بن ميكائيل بن سلجوق، ملك بعد عمه، كان في آخر دولته من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد ونصر الدين، وكان كريماً رحيماً توفي مقتولاً سنة ٤٦٥. ينظر: "المنتظم" ٨/ ٢٧٦، "الكامل" ٨/ ١١٢ و"العبر" ٢/ ٣١٨.
117
الذي عظمت مملكته، ومكن له، واتسعت رقعة بلاده، وأكثر الغزو والحروب، حتى خافت منه الدول، ورهب جانبه الملوك (١)، وكان من أعظم ما حصل في عهده وقعة "ملاذكرد" عام (٤٦٣)، حين سار ملك النصارى في نحو مائتي ألف مقاتل، وعدةٍ عظيمة، عازماً على أن يبيد الإسلام وأهله، فالتقاه ألب أرسلان في جيش، وهم قريب من عشرين الفاً، فصبروا، ونصر الله جنده، وأعز عباده المؤمنين، ومكنهم من رقاب النصارى، وأسر ملكهم (٢).
قال ابن الجوزي (٣): وهذا الفتح في الإسلام كان عجباً لا نظير له، فإن القوم اجتمعوا ليزيلوا الإسلام وأهله، وكان ملك الروم قد حدثته نفسه بالمسير إلى السلطان ولو إلى الري، وأقطع البطارقة البلاد الإسلامية، وقال لمن أقطعه بغداد: لا تتعرض لذلك الشيخ الصالح فإنه صديقنا -يعني الخليفة- وكانت البطارقة تقول: لابد أن نشتوَ بالري ونصيف بالعراق، ونأخذ في عودنا بلاد الشام (٤).
وقد وفِّق بالوزير الصالح: نظام الملك أبي علي الحسن بن علي
(١) ينظر: "وفيات الأعيان" ٤/ ١٦١، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٤١٦.
(٢) ينظر: "المنتظم" ٨/ ٢٦٠ و"الكامل" ٨/ ١٠٩ و"العبر" ٢/ ٣١٣، و"البداية والنهاية" ١٢/ ١٠٠.
(٣) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، أبو الفرج، إمام محدث فقيه حنبلي واعظ الإسلام، مشهور بكثرة التصنيف، ولد ببغداد سنة ٥٠٨، ومن تصانيفه: "زاد المسير"، و"المنتظم"، و"تلبيس إبليس"، توفي سنة ٥٩٧. ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٢٧٩، و"مفتاح السعادة" ١/ ٢٠٧.
(٤) "المنتظم" ٨/ ٢٦٤.
118
الطوسي (١) الذي وزر لألب أرسلان وابنه من بعده.
وفي عام (٤٦٥) قُتل ألب أرسلان، وخلفه ابنه مَلكشاه (٢) الذي اتسع ملكه اتساعاً عظيماً، ودام ملكه عشرين عاماً، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه الروم الجزية.... وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل.
وفي عام (٤٨٥) مات ملكشاه، ووهن بموته أمر السلاجقة، "وانحلت الدولة، ووقع السيف" (٣).
وقفة تأمل:
عند التأمل في هذه الصراعات السياسية والتقلبات الواضحة سواء على المحيط العام، أو محيط نيسابور، بشكل خاص، لا نرى أثراً واضحاً على حياة الناس الخاصة، ولذا نجد أن المؤلف عاش غالب أيام شبابه في عهد محمود الغزنوي، السلطان الذي اشتهر بعدله وفضله وقوته وحبه للعلم
(١) ولد بطوس عام ٤٠٨ حفظ القرآن وله إحدى عشرة سنة، واشتغل بالعلوم حتى حصل طرفاً صالحاً، وكان شافعياً أشعرياً، تنقلت به الأحوال في الكتابة والدواوين، حتى وزر لألب أرسلان، ثم لابنه ٢٩ سنة، وكان سائساً خبيراً متديناً، عامر المجلس بالعلماء، خفف المظالم، ورفق بالرعية، وبنى كثيراً من المدارس والوقوف، وكانت تسمى المدارس النظامية، قتل سنة ٤٨٥ على يد أحد الباطنية. ينظر: "المنتظم" ٩/ ٦٤ - ٦٨ و"الكامل" ٨/ ١٦٢ و"سير أعلام النبلاء" ١٩/ ٩٤.
(٢) هو أبو الفتح جلال الدولة بن السلطان ألب أرسلان، كان حسن السيرة محسناً إلى الرعية، وكان يلقب بالسلطان العادل توفي سنة ٤٨٥، وقيل: إنه مات مسموماً. ينظر: "المنتظم" ٩/ ٦٩ - ٧٤ و"الكامل" ٨/ ١٦٣ و"سير أعلام النبلاء" ١٩/ ٥٤ و"البداية والنهاية" ١٢/ ١٤٢.
(٣) ينظر: "الكامل" ٨/ ١٦٢.
119
والعلماء ومذهبه الشافعي ومعتمده الكرّامي، كما أنه أدرك في كهولته ونضجه عهد طغرلبك وألب أرسلان وابنه ملكشاه السلجوقيين، خصوصاً أنه لقي من وزيري الأخيرين: نظام الملك -والذي كان شافعي المذهب، أشعري العقيدة- وأخيه (١) كل إعزاز وإكرام (٢)، ولا شك أن هذا له أثره الواضح على شخصيته المؤلف، تعلماً واستفادة وإفادة.
أثر هذه السياسة على الناحية العلمية:
تبين مما سبق ذكره أن العصر الذي نشأ فيه الواحدي غير مستقر من الناحية السياسية ففيه ظهر ضعف الخلافة العباسية وكان عهد قيام دول وسقوط أخرى، فهل كان لهذا الاضطراب السياسي أثر على الناحية العلمية؟
على العكس من ذلك فقد نشطت الحركة العلمية، حيث اندفعت هذه الدول في تشجيع العلم وأهله، إما بدافع المنافسة، أو بدافع حب الحاكم للعلم والعلماء كما هي حالة محمود بن سبكتكين الغزنوي (٣)، ونظام الملك (٤) وزير ألب أرسلان وابنه ملكشاه.
كما كان لوجود الفرق ونشاطها من شيعة ومعتزلة وأشعرية وصوفية
(١) هو ابو القاسم عبد الله بن علي بن إسحاق الطوسي أخو الوزير نظام الملك، سمع الحديث، وكان عفيفاً نزيهاً، كثير فعل الخير توفي سنة (٤٩٩).
(٢) ينظر: "معجم الأدباء" لياقوت ١٢/ ٢٦٠ نقلاً عن كتاب "السياق لتاريخ نيسابور" لعبد الغافر الفارسي تلميذ المؤلف.
(٣) انظر: "البداية النهاية" ١٢/ ٣٠.
(٤) انظر: "البداية والنهاية" ١٢/ ١٤٠.
120
وغيرهم دور كبير في تنشيط الناحية العلمية. إذ ذهبت كل فرقة تكتب وتؤصل وتدافع عن مبادئها وترد على الفرق الأخرى (١).
أولاً: ازدهار المساجد:
لاشك أن المسجد هو المدرسة الأولى التي علم فيها النبي - ﷺ - أصحابه، وتخرج فيها الرعيل الأول، ففيه تعقد حلق العلم، ويلتقي العلماء وطلاب العلم، وإذا اعتني بالمسجد فإنه لا يخلو من مكتبة عامرة، ورباط لطلاب العلم المغتربين، وهذا ما كان موجوداً في عصر المؤلف، ففي غزنة بنى السلطان محمود بن سبكتكين جامعاً مشهوراً، وأضاف إليه مدرسة عامرة وخزانة كتب نفيسة (٢).
وفي نيسابور اشتهر مسجد عقيل (٣)، "وكان مجمعاً لأهل العلم وفيه خزائن الكتب الموقوفة" (٤)، وكان من أعظم منافع نيسابور وكذلك مسجد المطرز، والجامع المنيعي (٥).
واجتماع مثل هذه المراكز في بلد يضفي على الحركة العلمية قوة ونشاطاً، ويزيد من فرص الاستفادة لطالب العلم، حيث يتعدد الشيوخ والعلماء القائمون على هذه المدارس، وتتنوع الطرائق والأساليب التي تقدم للطلبة، فيكون انتفاعهم كبيراً، واستفادتهم واضحة.
(١) انظر: "تاريخ الإسلام السياسي" ٣/ ٣٧٥، ٤/ ٤٢٠.
(٢) ينظر: "تاريخ العتبي" ٢/ ٢٩٩.
(٣) ينظر: "المنتخب من السياق" ٣٩، ١٢٠، ٣٦٠، ٤٩٣.
(٤) "الكامل" ٩/ ٧٤.
(٥) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٥٦ و ٧٣.
121
ثانياً: بناء المدارس والعناية بها:
تعد المدارس المعاقلَ الكبرى للتعليم، وتخريج العلماء، وحفظ الدين، وكانت عناية الناس بها في القرنين الرابع والخامس عظيمة، بل كانت إحدى الميزات الكبرى لهذين القرنين.
وتقدم أن السلطان محموداً لما بنى جامع غزنة ألحق به مدرسة عظيمة، كانت موئلاً للعلماء وطلاب العلم، مع إجراء الأموال على المنقطعين والغرباء من طلاب العلم (١).
وبنى السلطان: ألب أرسلان ببغداد مدارس أنفق عليها أموالاً عظيمة (٢)، واشتهر في تلك الفترة التي مر بها المؤلف المدارس النظامية، المنسوبة للوزير نظام الملك وقد بنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل، ويقال: إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة (٣).
وأما نيسابور فقد كان لها قصب السبق في هذا الميدان وحظيت
(١) ينظر: "تاريخ العتبي" ٢/ ٢٩٩.
(٢) ينظر: "شذرات الذهب" ٣/ ٣١٩.
(٣) ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٤/ ٣١٣ وآثار البلاد للقزويني ص ٤١٢. وحكى سبب بناء هذه المدارس: أن السلطان ألب أرسلان دخل نيسابور فمر على باب مسجد فرأى جماعة من الفقهاء على حال رثة، فسأل وزيره نظام الملك عنهم، فأخبره بحالهم وفقرهم، فلان قلب السلطان لهم، فاقترح عليه الوزير أن يبني لهم داراً، ويجري عليهم أرزاقاً، فأذن له السلطان، فأمر نظام الملك ببناء المدارس في جميع مملكة السلطان، وأن يصرف عشر مال السلطان في بناء المدارس.
122
بنصيب وافر من المدارس المشهورة، قال المقريزي (١): "وأول من حُفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهلُ نيسابور" (٢). ومن مدارسها المشهورة:
١ - مدرسة أبي إسحاق الإسفرايني (٣)، وهي مدرسة لم يبن قبلها بنيسابور مثلها (٤).
٢ - مدرسة الصبغي المعروفة باسم دار السنة (٥).
٣ - المدرسة السعيدية، بناها الأمير نَصْر بن سبكتكين (٦)، ووقف عليها الأوقاف (٧).
٤ - المدرسة البَيْهقِية (٨).
(١) هو أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني تقي الدين المقريزي: مؤرخ الديار المصرية ولد سنة ٧٦٦ وولي الحسبة والإمامة والخطابة في القاهرة مرات، من كتبه: "المواعظ والآثار بذكر الخطط والآثار"، والمشهور "بخطط المقريزي"، وله أكثر من مائتي مجلد كبار، توفي سنة ٨٤٥. ينظر: "البدر الطالع" ١/ ٧٩، و"الإعلام" ١/ ١٧٧.
(٢) "الخطط" ٢/ ٣٦٣.
(٣) سبقت ترجمته في مبحث شيوخ الواحدي.
(٤) "طبقات الشافعية" ٤/ ٣١٤ نقلاً عن "تاريخ نيسابور" للحاكم وهو تاريخ مفقود.
(٥) "المنتخب من السياق" ص ١٦.
(٦) هو الأمير العالم نصر بن ناصر الدين سبكتكين، ولي نيسابور عام ٣٩٠، وسمع المشايخ، وصحب الأئمة، واستفاد منهم، وأحسن الولاية وعاد إلى غزنة، وتوفي بها سنة ٤١٢ ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٤٦٣.
(٧) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٤٦٤ و"طبقات الشافعية" للسبكي ٤/ ٣١٤ و"الخطط" للمقريزي ٢/ ٣٦٣.
(٨) ينظر: المراجع السابقة.
123
٥ - مدرسة أبي بكر البسْتي الفقيه (١).
٦ - مدرسة أبي سعد الإستراباذي (٢).
٧ - مدرسة إسماعيل الصابوني (٣).
وغير ذلك من المدارس التي ذكرها عبد الغافر الفارسي مثل: مدرسة الثعالبي، ومدرسة السيوري، ومدرسة المشطبي، ومدرسة الصعلوكي، ومدرسة الخفاف، ومدرسة ابن صاعد، ومدرسة الشحامي، ومدرسة القشيريين، ومدرسة سرهنك وغيرها (٤).
ثالثاً: انتشار المكتبات وخزائن الكتب:
المكتبات وخزائن الكتب هي جنات طلاب العلم، ورياض أفكارهم، ومحل استمتاعهم، ففيها يحققون المسائل ويفتقونها، ويطَّلعون على الدلائل ويحررونها، ويوثقون الفوائد، ويتوسعون في البحث، ولذا حرص الكبار على إنشائها، وتزويد المساجد والمدارس ودور العلم ومعاهد التعليم بها، إذ تصبح تلك المعاهد بلا مكتبات
(١) هو أحمد بن محمد بن عبيد الله من كبار أئمة نيسابور، ومن كبار فقهاء أصحاب الشافعية والمناظرين بنيسابور، توفي سنة ٤٢٩. ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٩٣ و"طبقات الشافعية" ٤/ ٨٠.
(٢) هو إسماعيل بن علي بن المثنى، أبو سعد، الصوفي العنبري، روى عنه الخطيب وغيره، مات سنة ٤٤٨، ينظر: "المنتخب من السياق" ص ١٣٠ و"تاريخ بغداد" ٦/ ٣١٥.
(٣) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٥٩ و ٢٧٥، وترجمة الصابوني سبقت في مبحث شيوخ المؤلف.
(٤) ينظر: "المنتخب من السياق" ص٥١، ٥٨، ٦٣، ٦٦، ١٠٦، ١٠٧، ٣٤٧، سبقت ترجمة عبد الغافر في مبحث تلاميذه.
124
مشلولة، قليلة الطلاب والرواد.
ففي بغداد أنشأ الوزير: سابور بن أردشير (١) سنة (٣٨٣) دار الكتب، سماها: دار العلم، وشملت أكثر من عشرة آلاف مجلد (٢) وفي البصرة داران للكتب (٣).
وفي فيروزاباد بنى الوزير أبو منصور بن منافيه (٤) داراً للكتب، وقفها على طلاب العلم، جمع فيها تسعة عشر ألف مجلد.
وفي غزنة ألحق السلطان محمود بن سبكتكين بجامعه الذي بناه مدرسة: ملأَ بيوتها بالكتب (٥).
وأما في نيسابور فقد أُلحق بمسجد عقيل -المتقدم ذكره- خزائنُ كتب وقفها العلماء (٦)، وكذا كانت المدرسة البيهقية (٧).
(١) هو أبو نصر، سابور بن أردشير، وزير لبهاء الدولة بن بويه، وكان كاتباً سديداً، مهيباً، عفيفاً عن الأموال مات سنة ٤١٦. ينظر: "المنتظم" ٨/ ٢٢ و"الكامل" ٧/ ٣٢٤ و"السير" ١٧/ ٣٨٧.
(٢) ينظر: "المنتظم" ٧/ ١٧٢.
(٣) إحداهما: وقفت قبل عضد الدولة بن بويه، فقال: هذه مكرمة سبقنا إليها، وهي أول دار وقفت في الإسلام، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" ١٢/ ١٣٨، عنها: لم ير في الإسلام مثلها. وقد نهبت الأعراب كلتا الدارين في فتنة البصرة سنة (٤٨٣) ينظر: "الكامل" ٨/ ١٥٣.
(٤) هو أبو منصور بهرام بن منافيه، وهو الملقب بالعادل، وزير الملك أبي كاليجار البويهي، ولد بكازرون سنة ٣٦٦، وكان حسن السيرة، فضلاً، نزيهاً توفي سنة (٤٣٣)، ينظر: "الكامل" ٨/ ٣٢، و"البداية والنهاية" ١٢/ ٤٩.
(٥) ينظر: "تاريخ العتبي" ٢/ ٣٠٠.
(٦) ينظر: "الكامل" ٩/ ٧٤.
(٧) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ١٨.
125
ومدرسة الصابوني (١) وغيرهما.
ولما أنشأ الوزير نظام الملك المدارس النظامية ألحق بكل واحدة خزانةَ كتب (٢).
رابعاً: تقدير السلاطين ووزرائهم للعلم والعلماء:
لا يخفى أن أعظم عوامل رواج سوق العلم: هو تشجيع السلاطين وتحفيز الدول، وقيامها بإكرام العلماء وتقديرهم، وقضاء حوائجهم، وتبويئهم المكان اللائق، والمكانة المرموقة، مما يرغب الناس إلى دفع أولادهم إلى معاهد العلم، وتفريغهم لطلبه، والحرص عليه وقد حظي ذلك العصر بخلفاء ووزراء كانوا إما: من العلماء، أو من المحبين للعلم المشاركين فيه،
فالخليفة القادر بالله يعد من فقهاء الشافعية، وله تصانيف (٣)، والقائم بأمر الله يعد من العلماء الأدباء الكتاب البلغاء (٤).
والسلطان محمود بن سبكتكين كان عنده علم ومعرفة، وحب للعلم وأهله، وتقريب لهم، ومجلسه على الدوام عامر بهم على اختلاف فنونهم، وصنفت له التصانيف (٥).
(١) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ١٤٦.
(٢) ينظر: "مختصر زبدة النصر ونخبة العصر" للبنداوي ص ٥٧ و"الكامل" ٨/ ١٤٣.
(٣) ينظر: "طبقات الشافعية" لابن الصلاح ١/ ٣٢٤، و"تاريخ الخلفاء" للسيوطي ص ٤١٧.
(٤) ينظر: "الكامل" ٨/ ١٢٠ و"البداية والنهاية" ١٢/ ١١٠.
(٥) ينظر: "المنتخب من السياق" ص ٤٤٦.
126
وسار ابنه السلطان مسعود سيرته (١).
وكانت الدولة السلجوقية مشهورة بتكريم العلماء ومحبتهم، حتى "أصبح كل واحد من العلماء بفضل تشجيع سلطان من سلاطين السلاجقة محطَّاً لأنظار العالمين" (٢).
وأما الوزير نظام الملك، فقد كان عالماً مغرماً بالعلم وأهله، وقد بقيت جهوده وآثاره في ذلك شامة في جبين التاريخ الإسلامي، يقول أبو الوفاء بن عقيل (٣) في الثناء عليه: "بنى المدارس، ووقَّف الوقوف، ونَعَش من العلم وأهله ما كان خاملاً مهملاً في أيام من قبله" (٤) ويصفه العماد الأصفهاني (٥) قائلاً: "ولم يزل بابه مجمعَ الفضلاء وملجأ العلماء، وكان نافذاً بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، ويسأل عن تصرفاته وخبرته ومعرفته، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاّه، ومن رآه مستحقاً لرفع قدره رفعه وأعلاه، ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له من جدواه حتى
(١) ينظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي ١٧/ ٤٩٥، و"البداية والنهاية" ١٢/ ٢٨.
(٢) "راحة الصدور وآية السرور في تاريخ الدولة السلجوقية" للراوندي ص ٧٢.
(٣) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي أبو الوفاء، شيخ الحنابلة في زمانه ببغداد عالم متقن ولد سنة ٤٣١، وله مصنفات أكبرها كتاب "الفنون"، قال الذهبي: لم يصنف في الدنيا أكبر منه، وله كتاب الجدل على طريقة الفقهاء، توفي سنة (٥١٣). ينظر: "شذرات الذهب" ٤/ ٣٥ و"الذيل على طبقات الحنابلة" ١/ ١٧١.
(٤) "المنتخب" ص ١٤٦.
(٥) محمد بن محمد صفي الدين ابن نفيس الدين حامد بن ألُهْ، أبو عبد الله عماد الدين الكاتب الأصبهاني، عالم بالأدب من كبار الكتاب ولد في أصبهان سنة ٥١٩، له كتب كثير، وله ديوان رسائل وديوان شعر، توفي سنة ٥٩٧. ينظر: "وفيات الأعيان" ٢/ ٧٤، "مرآة الزمان" ٨/ ٥٠٤.
127
ينقطع إلى إفادة العلم ونشره، وتدريس الفضل وذكره، وربما سيَّره إلى إقليم خال من العلم، ليُحْلِيَ به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت باطله" (١).
ومن أشهر أعماله: تلك المدارس التي بناها، وأدرَّ عليها الأرزاق، وأثثها بما تحتاج إليه، كما تقدم.
ولأجل ذلك أطبق المؤرخون وأصحاب التراجم على الإشادة بما قام به هذا الوزير في هذا الباب (٢).
خامساً: نشاط بعض الفرق:
كثير من الفرق نشأت في أخريات القرن الأول والقرنين الثاني والثالث، وحظُّها من الشيوع والانتشار بقدر حظها من دعم الدول، واقتناع المتنفذين، ودعم السلاطين، ولذا بمجرد زوال تلك القوة الداعمة يحصل للفرقة الذبول أو الانحصار في بلد معين، أو طائفة أو جماعة محددة.
وقد كان لوجود دولة العبيديين الباطنية، ودولة البويهيين الرافضية أثر كبير على نشاط كثير من الفرق المناوئة للسنة، إذ ضَعْفُ أهلِ السنة في الجملة فسحةٌ واضحة للفرق الضالة، كي تنفذ إلى عقول الناس، وتسيرهم على النحو الذي تريد.
وقد بين المقريزي أن التشيع قوي بدولة بني بويه، وكذا فشا الاعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وذهب إليه جماعة من الفقهاء، وقوي مع ذلك أمر الخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلاد المغرب، وجهروا بمذهب
(١) "زبدة النصْرة" للعماد الأصفهاني، "اختصار البُنْداري" ص ٥٧.
(٢) ينظر: "الكامل" ٨/ ١٦٢، و"سير أعلام النبلاء" ١٩/ ٩٤ و"طبقات الشافعية" ٤/ ٣٠٩.
128
الإسماعيلية، وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها عام (٣٥٨)، وانتشرت مذاهب الرافضة في عامة الأقطار، قال المقريزي: "واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرَّامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة، وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم يبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار إلا وفيه طوائف كثيرة مما ذكرنا" (١).
هذا الواقع دعا أهل السنة وعلماء الملة -جرياً على سنة التدافع- للوقوف بقوة في وجه هذا المد البدعي الطاغي، ببيان الحق ورد الباطل ودفع الشبه، وفضح الفرق، وكشف عوارها (٢)، وهذا كما لا يخفى له أثره الواضح في إثراء الحياة العلمية تأليفاً وتدريساً، وكشفاً للحال، وتتبعاً للحقائق.
سادساً: المناظرات العلمية بين أرباب المذاهب:
مما كان سائداً في ذلك العصر: المناظراتُ التي كانت تعقد بين العلماء، يبين كل واحد منهم قوله، ويذكر دليله، ويفنِّد حجة خصمه، وقد
(١) ينظر: "الخطط" للمقريزي ٢/ ٣٥٧.
(٢) من العلماء الذين صنفوا في ذلك: معمر بن زياد الأصبهاني (ت ٤١٨)، وأبو عمر الطلمنكي (ت ٤٢٩)، وأبو نصر السجزي (ت ٤٤٤) وأبو عمرو الداني (ت ٤٤٤) وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي (ت ٤٤٧) وأبو عثمان الصابوني (ت ٤٤٩) وأبو عمر بن عبد البر (ت ٤٦٣) وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني (ت ٤٧١) وغيرهم. ومن الأشاعرة: أبو بكر الباقلاني (ت ٤٠٣) وأبو إسحاق الإسفراييني (ت ٤١٨) وأبو منصور البغدادي (ت ٤٢٩).
129
تكون بين أتباع الفرق المختلفة، وكانت هذِه المناظرات تعقد عند السلاطين أحياناً، أو في المساجد ودور العلم في أكثر الأحيان، وفي نيسابور كانت هناك مجالس للنظر تعقد فيها المناظرات، وخاصة العلماء القادمين عليها (١). ومن العادة الجارية: أن طلاب العلم يحرصون على حضور تلك المجالس، لمعرفة الحق عند اختلاف الأقوال، والعلم بأقدار الرجال، والموازنة بين المختلفين، وقد يكون للانتصار لأحد القولين، حيث يجتهد المتناظران في إظهار صحة قولهم، وقوة دليله، وضعف ما يقابله (٢).
وقفة:
لاشك أن هذه الأسباب وغيرها كان لها أثر واضح في ثراء الحالة العلمية التي تنطبع تبعاً على شخصيات الأفراد من طلاب العلم والعلماء، حيث تهيئ بمجموعها جواً علمياً يدفع الطالب للاستزادة، ويعينه على الفهم، وينوع معارفه، ويشبع رغباته وميوله.
وما من شك، أن أثر ذلك كله قد انطبع على مترجمنا الإمام الواحدي، ومن يطالع مؤلفاته، ويقرأ ترجمته، يدرك ظهور ذلك التنوع المعرفي، والتعدد الثقافي والعلمي الذي اصطبغ به الواحدي.
(١) ينظر: "المنتخب من السياق" ل ٥١، ٨٦، ٩٠، ٩٦، ٤٤٢، ٤٦١.
(٢) ذكر السبكي في طبقات الشافعية جملة من هذه المناظرات في تراجم عدد من العلماء. ينظر على سبيل المثال؛/ ٢٤٦، ٢٣٧ و ٥/ ٣٦، ٢٠٩.
130
الفصل الثاني
دراسة عن كتاب البسيط
وفيه تسعة مباحث:
المبحث الأول: اسم الكتاب.
المبحث الثاني: ثبوت نسبة الكتاب للمؤلف.
المبحث الثالث: الباعث على إنشائه.
المبحث الرابع: تاريخ البدء فيه والانتهاء منه.
المبحث الخامس: مصادر المؤلف في البسيط، ثم التعريف بهذه المصادر وطريقته في الأخذ منها، وما هي المادة التي أخذها.
المبحث السادس: منهج المؤلف في البسيط.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: منهجه إجمالاً كما وصفه في مقدمة كتابه.
المطلب الثاني: منهجه تفصيلاً.
وفيه تسع مسائل:
المسألة الأول: منهجه في تفسير القرآن بالقرآن.
المسألة الثانية: منهجه في تفسير القرآن بالسنة.
المسألة الثالثة: منهجه في تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين.
المسألة الرابعة: منهجه في ذكر الإسرائيليات.
المسألة الخامسة: منهجه في القراءات وعللها.
131
المسألة السادسة: منهجه في علوم القرآن.
وفيها أربعة مطالب:
١ - أسباب النزول.
٢ - الوقف والابتداء.
٣ - الناسخ والمنسوخ.
٤ - الربط بين الآيات.
المسألة السابعة: منهجه في مسائل العقيدة، والرد على الفرق.
المسألة الثامنة: منهجه في المسائل الفقهية والأصولية.
المسألة التاسعة: منهجه في اللغة وفنونها.
وفيها خمسة مطالب:
١ - الجانب اللغوي.
٢ - الجانب النحوي.
٣ - الجانب البلاغي.
٤ - الشواهد الشعرية.
٥ - الجانب الفقهي.
المطلب الثالث: مقارنة بين تفاسير المؤلف الثلاثة.
المبحث السابع: قيمة الكتاب العلمية.
المبحث الثامن: أثر الواحدي فيمن بعده من العلماء من خلال كتابه البسيط.
المبحث التاسع: النسخ المخطوطة الموجودة للبسيط.
المبحث العاشر: منهج العمل في تحقيق البسيط.
132
المبحث الأول
اسم الكتاب
اسم الكتاب "البسيط" ذكر ذلك المؤلف نفسه في مقدمة كتابه "الوسيط" حيث قال: "وقديمًا كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط، ينحط عن درجة "البسيط" الذي تجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة "الوجيز" الذي اقتصر فيه على الإقلال.... " (١).
كما ورد اسم الكتاب "البسيط" في جميع المصادر التي ذكرته (٢)، ووصفه القفطي بـ"الكبير" قال: صنف التفسير الكبير وسماه "البسيط".. (٣)، وقد وردت كلمة "الكبير" على عناوين بعض مخطوطات البسيط ففي الجزء الثالث والخامس من النسخة الأزهرية كتب "البسيط وهو التفسير الكبير" (٤)، فلعل هذه الصفة التي ذكرها القفطي ومن جاء بعده، قصد بها بيان أنه أكبر كتبه في التفسير.
كذلك نجد على الجزء الثاني والثالث من مخطوطة "جستربتي" (٥) كتب عليها: هذا كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط للإمام الواحدي
(١) "الوسيط" ١/ ٦.
(٢) انظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ١٥٩، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠، و"البداية والنهاية" ١٢/ ١١٤، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي ٣/ ٢٩٠، وغيرها من المصادر التي ترجمت للواحدي.
(٣) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
(٤) هذه النسخة محفوظة في رواق المغاربة في الأزهرية رقم (٣٠٣) ومنها ميكروفيلم في جامعة الإمام رقم (٨٠٤٩)، (٨٠٥١).
(٥) يوجد ميكروفيلم لها في جامعة الإمام رقم (٣٧٣١) ورقم (٣٧٣٢).
133
وفي آخر الجزء الثاني كتب: آخر الجزء الثاني من كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط، تصنيف الشيخ الإمام الواحدي، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ووافق الفراغ منه يوم الخميس في آخر شوال سنة ثمان وثلاثين وستمائة، كتبه الضعيف الراجي المحتاج إلى رحمة الله تعالى أحمد بن محمد بن الحسن القروني.
وقد سبق الكلام على هذا عند الحديث عن مؤلفاته بما يغني عن إعادته هنا.
134
المبحث الثاني
ثبوت نسبة الكتاب للواحدي
أما عن قضية ثبوت نسبة الكتاب للمؤلف، فهي من القضايا التي تصل إلى حد التواتر، لم يحصل فيها شك أو لبس يحتاج إلى بحث واستدلال، فالمؤلف يذكر كتابه "البسيط" في مقدمة "الوسيط" فيقول: "وقديما كنت أطالب بإملاء كتاب وسيط ينحط عن درجة "البسيط" الذي تجر فيه أذيال الأقوال وارتفع عن مرتبة الوجيز الذي اقتصر فيه على الإقلال لمؤلف" (١)، والمترجمون له بعده ينسبون الكتاب له بإجماع، ولم يرد قول بخلاف ذلك، وقد ارتبط اسم المؤلف بكتبه الثلاثة في التفسير "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" فيقال: الواحدي صاحب التفاسير الثلاثة "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" (٢).
ويضاف إليها أيضاً: أن العلماء الذين أفادوا من البسيط بالنقل والإحالة (٣) تتطابق نقولاتهم مع ما هو موجود في البسيط، كما سيأتي في مبحث قيمة الكتاب العلمية، وقد نقل ياقوت في ترجمته للمؤلف بعض مقدمة البسيط وهي بنصها في هذا الكتاب (٤)، هذا كله، بالإضافة إلى أنه لم يقل أحد من أهل العلم بخلاف ذلك، بل إن من المسلَّمات ارتباط
(١) مقدمة "الوسيط" ١/ ٦.
(٢) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٤، و"إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٤، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ٣٤٠، و"طبقات الشافعية" الكبرى ٣/ ٢٩٠.
(٣) كالنووي والرازي وابن القيم والزركشي -رحم الله الجميع-.
(٤) "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٦٢ - ٢٧٠.
135
المؤلف بتفاسيره الثلاثة وعلى رأسها كتابه هذا. وقد تقدم ذكر ذلك (١)
(١) انظر: مبحث مؤلفاته.
136
المبحث الثالث
الباعث على إنشاء البسيط
صرح المؤلف بالباعث له على تأليف هذا الكتاب وهو تلبية طلب قوم ألحوا عليه من أهل العلم، وافق رغبة قديمة حاضرة عنده، حيث قال في مقدمة هذا التفسير: فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أُعلق لمعاني إعراب القرآن وتفسيره فِقَراً (١) في الكشف عن غوامض معانيه، ونُكَتاً في الإشارة إلى علل القراءات فيه، في ورقات يصغُر حجمها ويكثر غُنمها، والأيام تمطلني بصروفها على اختلاف صنوفها، إلا أن شدد عليّ خناق التقاضي قوم لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قرونتي (٢) بعد الإباء، وذلت صعوبتي بعد النفرة والالتواء (٣).
(١) الفِقَر: خرزات الظهر، جمع فِقْرة، ويراد بها: جملة من كلام، أو جزء من موضوع، أو شطر من بيت شعر. ينظر: "المعجم الوسيط" ٢/ ٦٧٩.
(٢) قال في "الصحاح": يقال: أَسْمَحت قَرِيْنُه، وقَرُونُه، وقَرُونَته وقرينَتُه أي: ذلت نفسه، وتابعته على الأمر. "الصحاح"، (قرن)، ٦/ ٢١٨٢.
(٣) مقدمة "البسيط" ص ٣٩٣ - ٣٩٤.
137
المبحث الرابع
تاريخ البدء في البسيط والانتهاء منه
يظهر من مقدمته التي ساقها في الوسيط: أن البسيط هو أول كتبه الثلاثة تأليفاً (١)، وهو أكبرها بلا شك، لكنه لم يبين لنا تاريخ الابتداء بكتابته، وأما الانتهاء منه فقد صرح به في ختام كتابه البسيط، حيث قال: وقد يسر الله -وله الحمد لحسن توفيق - تحرير هذا الكتاب الذي لم يسبق إلى مثله في هذا الباب... بعد تراخي المهلة، وتطاول المدة، من يوم افتتاحه إلى يوم اختتامه... وذلك عصر يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة (٢).
(١) "الوسيط" ١/ ٥٠ وقد سقت العبارة في مبحث مؤلفاته.
(٢) "البسيط" مجلدة لوحة ٢٠٩ ب من النسخة الأزهرية.
138
المبحث الخامس
مصادر المؤلف في كتابه "البسيط"
تلقى المؤلف عن فحول أئمة اللغة والنحو والتفسير ومعاني القرآن، والقراءات، لذلك كثرت مصادره في تفسيره، وقد أفاد من تلك المصادر كثيراً ونقل منها بالمعنى حيناً وبالنص أحياناً: بالعزو حينا وبدون عزو أحيانا، أخذ عن بعض تلك المصادر فأكثر، وهناك مصادر أخذ منها بإقلال، وسيكون الحديث في هذا المبحث عن تلك المصادر، وعن طريقته في الأخذ منها.
وقد ذكر المؤلف بعض تلك المصادر في مقدمة كتابه، وهناك مصادر أفاد منها ولم يرد ذكرها في مقدمته.
ولقد تنوعت المادة التي أخذها من كل مصدر، فمثلا نجده قد أخذ من "الحجة" لأبي علي الفارسي مسائل لغوية ونحوية بجانب القراءات وتوجيهها، وأفاد من الثعلبي في التفسير واللغة والنحو وهكذا بقية المصادر.
وفيما يلي بيان لتلك المصادر ومعرفة مدى استفادة الواحدي منها:
وهي قسمان:
القسم الأول: المصادر الرئيسة.
القسم الثاني: المصادر الثانوية.
139
القسم الأول
المصادر الرئيسة
أولاً: التفسير:
وهي مرتبة تاريخيًا:
أولاً: تفسير ابن عباس (١) -رضي الله عنه- (ت ٦٨) هـ
مكانة ابن عباس في تفسير القرآن:
تتبين مكانة ابن عباس في التفسير، من قول تلميذه مجاهد إنه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور، ومن قول علي -رضي الله عنه- يثني عليه في تفسيره: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، ومن قول ابن عمر: ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد، ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه في فهم ما اشكل عليهم من كتاب الله، فكثيرًا ما توجه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم، ويكشف لهم عما عز عليهم فهمه من كتاب الله تعالى. ففي قصة موسى مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم، أي الأجلين قضى موسى؟ أقضى ثماني سنين أو أتم عشرًا؟ ولما لم يقف على رأي يمم شطر ابن عباس، الذي هو بحق ترجمان القرآن، ليسأله عما أشكل عليه وفىِ هذا يروي الطبري في تفسيره، عن سعيد بن جبير قال: قال يهودي بالكوفة -وأنا أتجهز للحج: إني
(١) هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي - ﷺ -، أبو العباس، العالم الرباني، الفقيه، حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان يسمى الحبر والبحر لسعة علمه، وقد دعا له النبي - ﷺ - أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل والحكمة، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين في شعب أبي طالب، وهو أحد العبادلة الأربعة، وهو أحد المكثرين من الصحابة، توفي بالطائف سنة (٦٨) هـ. ينظر: "الإصابة" ٤/ ١٤١، و"تقريب التهذيب" ص ٢٥١.
140
أراك رجلاً تتبع العلم، فأخبرني أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب -يعني ابن عباس- فسائله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف، وقال سعيد: فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته فقال: صدق وما أنزل على موسى، هذا والله العالم. اهـ (١).
وهذا عمر -رضي الله عنه- يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله، فلما لم يجد عندهم جوابًا مرضيًا رجع إلى ابن عباس فسأله عنها، وكان يثق بتفسيره، وفي هذا يروي الطبري أن عمر سأل الناس عن هذِه الآية يعني ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ [البقرة: ٢٦٦] الآية. فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها شيئًا، فتلفت إليه فقال: تحول ههنا، لم تحقر نفسك؟! قال: هذا مثل ضربه الله -عز وجل-، فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتا إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله، فحرقه أحوج ما كان إليه (٢).
وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاَءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ﴾ [النصر: ١] وجوابه بالجواب المشهور عنه يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفي المعاني التي يشير إليها القرآن، ولا يدركها الا
(١) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٤٣.
(٢) "تفسير ابن جرير" ٣/ ٤٧.
141
من نفحه الله بنفحة من روحه، وكثيرًا ما ظهر ابن عباس في المسائل المعقدة في التفسير بمظهر الرجل الملهم الذي ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه علي -رضي الله عنه-، الأمر الذي جعل الصحابة يقدرون ابن عباس ويثقون بتفسيره، ولقد وجد هذا التقدير صداه في عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس. استقرت هذِه المدرسة بمكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجابًا وتقديرًا، إلا درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر.
وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم في التفسير (١).
منهج ابن عباس في التفسير:
كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون في فهم معاني القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله - ﷺ -، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن.
وكان -رضي الله عنه- يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أُجملت في القرآن وفُصلت في التوراة أو الإنجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا
(١) "الإتقان" ٢/ ١٨٣.
142
يقبله ولا يأخذ به.
رجوع ابن عباس إلى الشعر القديم:
كان ابن عباس -رضي الله عنه- يرجع في فهم معاني الألفاظ الغريبة التي وردت في القرآن إلى الشعر الجاهلي، وكان غيره من الصحابة يسلك هذا الطريق في فهم غريب القرآن ويحض على الرجوع إلى الشعر العربي القديم؛ ليستعان به على فهم معاني الألفاظ القرآنية الغريبة، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالى في الآية (٤٧) من سورة النحل ﴿أَوْ يَأخُذَهُم عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ فيقوم له شيخ من هذيل فيقول له: هذِه لغتنا، التخوف: التنقص، فيقول له عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعاره؟ فيقول له: نعم، ويروا قول الشاعر:
تخوف الرحل منها تامكًا قردًا كما تخوف عود النبعة السفن
فيقول عمر -رضي الله عنه- لأصحابه: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم (١).
غير أن ابن عباس، امتاز بهذه الناحية واشتهر بها أكثر من غيره، فكثيرًا ما كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر، وقد روي عنه الشيء الكثير من ذلك، وأوعب ما روي عنه مسائل نافع بن الأزرق وأجوبته عنها، وقد بلغت مائتي مسألة، أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب "الوقف والابتداء"، وأخرج الطبراني بعضها الآخر في "معجمه الكبير"، وقد ذكر
(١) القصة في "الموافقات" ٢/ ٨٨ وليس فيها ما يعارض ما جاء عن عمر من أنه لما سأل عن الأب رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر؛ لأن الآية التي معنا يتوقف فهم معناها على معرفة معنى التخوف؛ بخلاف الآية الأخرى، فإن المعنى الذي يراد منها لا يتوقف على معرفة معنى الأب.
143
السيوطي في "الإتقان" بسنده مبدأ هذا الحوار الذي كان بين نافع وابن عباس، وسرد مسائل ابن الأزرق وأجوبة ابن عباس عنها، فقال: بينا عبدالله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقه من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالا: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾ [المعارج: ٣٧] قال: العزون: حلق الرفاق، قال: هل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاؤوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا؟
قال أخبرني عن قوله: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: ٣٥]. قال: الوسيلة: الحاجة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
إلى آخر المسائل وأجوبتها (١)، وهي تدل على قوة ابن عباس في معرفته بلغة العرب، وإلمامه بغريبها، إلى حد لم يصل إليه غيره، مما جعله - بحق إمام التفسير في عهد الصحابة، ومرجع المفسرين في الأعصر التالية للعصر الذي وجد فيه، وزعيم هذِه الناحية من التفسير على الخصوص، حتى لقد قيل في شأنه: إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية
(١) "الإتقان" ١/ ١٢٠.
144
لتفسير القرآن (١).
هذا وقد بين لنا ابن عباس -رضي الله عنه-، مبلغ الحاجة إلى هذه الناحية في التفسير، وحض عليها من أراد أن يتعرف غريب القرآن، فقد روى أبو بكر ابن الأنباري عنه أنه قال: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه (٢).
وروى ابن الأنباري عنه أيضاً أنه قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب (٣).
فابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى رأي عمر في ضرورة الرجوع إلى الشعر الجاهلي، للاستعانة به على فهم غريب القرآن، بل وكان أكثر الصحابة إلمامًا بهذِه الناحية وتطبيقًا لها.
وقد استمرت هذه الطريقة إلى عهد التابعين ومن يليهم، إلى أن حدثت خصومة بين متورعي الفقهاء وأهل اللغة، فأنكروا عليهم هذه الطريقة، وقالوا: إن فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن (٤)، وقالوا: كيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن وهو مذموم في القرآن والحديث.
والحق أن هذه الخصومة التي جدّت في الأجيال المتأخرة لم تقم على أساس، فالأمر ليس كما يزعمه أصحاب هذا الرأي، من جعل الشعر أصلاً للقرآن، بل هو في الواقع، بيان للحرف الغريب من القرآن بالشعر؛
(١) "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" ص (٦٩).
(٢) "الإتقان" ١/ ١١٩.
(٣) المصدر السابق.
(٤) ومن هؤلاء الإمام النيسابوري صاحب التفسير المشهور، فقد صرح بذلك في مقدمة "تفسيره" ١/ ٦.
145
لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا جَعَلنَهُ قُرءَانًا عَرَبيًّا﴾ [الزخرف: ٣]. وقال ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] ولهذا لم يتحرج المفسرون إلى يومنا هذا من الرجوع إلى الشعر الجاهلي للاستشهاد به على المعنى الذي يذهبون إليه في فهم كلام الله تعالى (١).
لقد صرح المؤلف في مقدمة البسيط باعتماده على تفسير ابن عباس، حيث قال: وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصّاً. وقد التزم المؤلف هذا الشرط في كتابه، فنجده يصدر كل آية حين تفسيرها بقول ابن عباس بغض النظر عن صحة تلك الرواية أو ضعفها، إذ لم يكن من شأن الواحدي العناية بهذا الجانب، كما بينت في المآخذ عليه، وهذا يؤكد ما ذكر عنه في هذا الباب، ففي مواطن قليلة يعتمد رواية علي بن أبي طلحة، الذي يميزه الواحدي بقوله: (الوالبي).
١ - الرواية المنسوبة إلى عطاء بن أبي رباح (٢):
وقد استوعبت هذه الرواية تفسير القرآن كما يبدو من البسيط وهي رواية مكذوبة يرويها موسى بن عبد الرحمن الصنعاني (٣)، عن عطاء، عن
(١) نقلا عن كتاب "التفسير والمفسرون" ١/ ٦٩.
(٢) هو: عطاء بن أبي رباح بن أسلم المكي القرشي مولاهم، أبو محمد، كان ثقة فقيها عالما كثير الحديث، روى عن أبي هريرة وابن عباس وجابر، وغيرهم، انتهت إليه فتوى أهل مكة، وكان أعلم الناس بالمناسك ومن أجل تلاميذ ابن عباس. توفي سنة (١١٤) هـ، وقيل غير ذلك.
انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري ٦/ ٤٦٣، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٧٨، و"تهذيب التهذيب" ٧/ ١٧٤.
(٣) هو: موسى بن عبد الرحمن الثقفي الصنعاني قال ابن حبان: دجال، وضع على ابن =
146
ابن عباس.
قال ابن حبان (١): وضع على ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس كتابًا في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل بن سليمان وألزقه بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ولم يحدث عن ابن عباس، ولم يحدث به ابن عباس، ولا عطاء سمعه، ولا ابن جريج سمع من عطاء، وإنما سمع ابن جريج من عطاء الخراساني عن ابن عباس في التفسير أحرفًا شبيهًا بجزء، وعطاء لم يسمع من ابن عباس شيئًا ولا رواه ولا تحل الرواية عن هذا الشيخ ولا النظر في كتابه إلا على سبيل الاعتبار (٢).
قال الحافظ ابن حجر (٣):
ومن التفاسير الواهية لوهاء رواتها، التفسير الذي جمعه موسى بن
= جريج عن عطاء عن ابن عباس كتاباً في التفسير. وقال الذهبي: دجال. اهـ. وقال ابن عدي منكر الحديث يروي أباطيل، يعرف بأبي محمد المفسر قال ابن حجر: معروف ليس بثقة.
انظر: "ميزان الاعتدال" ٤/ ٢١١، و"ديوان الضعفاء والمتروكين" ص ٣١١، و"لسان الميزان" ٦/ ١٢٤، "الكشف الحثيث" ١/ ٢٦٣.
(١) هو: الحافظ العلامة محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم البستي التميمي. كان من أوعية العلم في الفقه والحديث واللغة والوعظ عاقلاً ثقة نبيلاً ذا تصانيف عجيبة، توفي سنة ٣٥٤ هـ.
انظر: "البداية والنهاية" ١١/ ٢٩٥، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي ٣/ ٩٢٠، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص ٣٧٥.
(٢) "المجروحين" لابن حبان ٢/ ٢٤٢.
(٣) تقدمت ترجمته ص ٨٢.
147
عبد الرحمن الثقفي الصنعاني، وهو قدر مجلدين يسنده إلى ابن جريج (١) عن عطاء عن ابن عباس، وقد نسب أبو حاتم (٢) موسى هذا إلى وضع الحديث، ورواه عن موسى: عبد الغني بن سعيد الثقفي (٣) وهو ضعيف (٤).
وقد صرح المؤلف في أول كتابه "أسباب النزول" (٥) بإسناده إلى هذه الرواية وهي من طريق الطبراني (٦)، والطبراني روى قطعة من هذا التفسير
(١) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد، فقيه الحرم المكي، إمام أهل الحجاز في عصره، ثقة جليل القدر كثير الحديث جدًا، ولد بمكة سنة ٨٠ هـ قال الذهبي: ثقة لكنه يدلس. توفي رحمه الله سنة ١٥٠هـ. ينظر ترجمته: "سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣٢٥، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ٣٥٩.
(٢) هو: محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي، الغطفاني، الرازي، أبو حاتم، محدث حافظ، أحد أئمة الجرح والتعديل، ولد في الري، وتنقل في العراق والشام ومصر وبلاد الروم، وبرع في المتن والإسناد وجمع وصنف وجرح وعدل وصحح وعلل، من أقران البخاري ومسلم، توفي ببغداد في شعبان سنة ٢٧٧، ومن مصنفاته "طبقات التابعين" و"تفسير القرآن". انظر ترجمته: "سير أعلام النبلاء" ٩/ ٥٥ - ٥٩، "التقريب" (٤٦٥)، "الأعلام" ٦/ ٢٧.
(٣) عبد الغني بن سعيد الثقفي، ضعفه ابن يونس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مصري يروي عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن هشام بن عروة، قال ابن حجر: ابن يونس أعلم به. توفي سنة (٢٢٩). ينظر: "الثقات" لابن حبان ٨/ ٤٢٤، و"لسان الميزان" ٤/ ٤٥.
(٤) "العجاب في بيان الأسباب" ١/ ٢٢٠. وينظر: "الدر المنثور" ٨/ ٧٠٠.
(٥) "أسباب النزول" ص ٣٣.
(٦) أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مُطَير اللخمي الشامي الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة الإمام المحدث الحافظ الرحالة ولد سنة ٢٦٠ وله تصانيف كثيرة، ومات سنة ٣٦٠. ينظر: "تذكرة الحفاظ" ٣/ ٩١٢ و"سير أعلام النبلاء" ١٦/ ١١٩.
148
في معجمه الكبير، في تفسير الآيات في شأن الإفك (١)، عن شيخه: بكر بن سهل الدمياطي (٢)، عن عبد الغني بن سعيد الثقفي، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وعند مقارنته بما نقله المؤلف في البسيط من رواية عطاء، عن ابن عباس نجدها مطابقة لرواية الطبراني، مما يدل على أن طريق رواية الواحدي عن عطاء هو ذاك الطريق الواهي الضعيف.
وهذه الرواية لا توجد الآن، ولا تكاد تذكر عند أهل الرواية ولا يذكرها إلا الثعلبي أو المؤلف، أو من ينقل عنهما، كالبغوي وابن الجوزي والرازي (٣) وغيرهم.
والأمثلة على نقل المؤلف من هذه الرواية أكثر من أن تحصى، بل يندر أن نجد آية لا يذكر فيها شيئًا منها.
٢ - رواية الكلبي (٤):
وهي رواية الكلبي عن ابن عباس، وهي مكذوبة، وقد أخرج عن ابن
(١) "المعجم الكبير" ٢٣/ ١٣٠ - ١٦١.
(٢) بكر بن سهل بن إسماعيل بن نافع، أبو محمد الهاشمي مولاهم الدمياطي، المفسر المقرئ ولد سنة ١٩٦، ضعفه النسائي مات بدمياط سنة ٢٨٩. ينظر: "ميزان الاعتدال" ١/ ٣٤٥ و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٤٢٥.
(٣) هو أبو عبد الله. محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن التميمي البكري الرازي، فخر الدين والمعروف بابن الخطيب، المولود سنة ٥٤٤، مفسر متكلم واعظ على مذهب الأشعري، وقيل: إنه رجع في آخر عمره عن مذهب الأشعري. ومن أهم مصنفاته: "التفسير الكبير" المسمى، "مفاتيح الغيب". توفي سنة ٦٠٦. ينظر: "وفيات الأعيان" ٢/ ٢٦٥ و"شذارت الذهب" ٥/ ٢٠١.
(٤) هو: أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي، النسابة المفسر، متهم بالكذب ورمي بالرفض، قال: يحيى ابن معين ضعيف. توفي سنة ١٤٦هـ =
149
عباس تفسيرًا كثيرًا عن أبي صالح (١) عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب، روى البخاري بسنده عن سفيان الثوري (٢) قال: قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب.
وقال البخاري (٣): أبو النضر الكلبي تركه يحيى بن سعيد (٤) وابن
= ينظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" ١/ ١٠١، و"الضعفاء الصغير" ص ١٠١ تحقيق محمود زايد ط ١ دار الوعي كلاهما للبخاري، "تهذيب الكمال" ٢٥/ ٢٥٠، "التقريب" ١/ ٤٧٩.
(١) هو: باذان، ولقال باذام، ولقال: ذكوان، أبو صالح مولى أم هانئ، مفسر ومن رواة الأخبار، روى عن مولاته وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم إلا أنه ضعيف. وقال ابن حبان: يحدث عن ابن عباس ولم يسمع، وروى عن الكلبي، قال حبيب بن أبي ثابت: كنا نسمي أبا صالح باذام دروغزن، وكان الشعبي يمر به فيأخذ بأذنه ويقول: ويحك كيف تفسر القرآن وأنت لا تحسن أن تقرأ، وتركه يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي. توفي سنة ١٢٠هـ تقريبا.
ينظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٣٠٢، "التاريخ الكبير" ٢/ ١٤٤، "الجرح والتعديل" ٣/ ٤٤١، "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣٧ - ٣٨، و"تقريب التهذيب" ص ١٢٠.
(٢) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الكوفي الفقيه، الإمام الحافظ المجتهد سيد أهل زمانه علمًا وعملاً، ولد سنة ٩٧هـ روى له الجماعة توفي سنة ١٦١هـ بالبصرة.
ينظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٣٧١، و"حلية الأولياء" ٦/ ٣٥٦.
(٣) "التاريخ الكبير" ١/ ١٠١ و"الضعفاء الصغير" ص ١٠١ تحقيق محمود زايد ط ١ دار الوعي كلاهما للبخاري.
(٤) هو يحي بن سعيد بن فروخ التميمي مولاهم البصري القطان أبو سعيد، الإمام الحافظ المحدث، الثقة المتقن، أمير المؤمنين في الحديث، أخرج حديثه الجماعة، روى عنه أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم من الأئمة وكان من سادات أهل البصرة وقرائهم، ولد سنة ١٢٠ وتوفي سنة ١٩٨. ينظر في ترجمته: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٢٩٣ و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ١٧٥.
150
مهدي (١).
وقال أبو حاتم: الناس مجمعون على ترك حديثه، وهو ذاهب الحديث لا يشتغل به.
قال ابن حجر: ومن روايات الضعفاء عن ابن عباس: التفسير المنسوب لأبي النضر محمد بن السائب الكلبي، فإنه يرويه عن أبي صالح، وهو مولى أم هانئ، عن ابن عباس. والكلبي اتهموه بالكذب، وقد مرض فقال لأصحابه في مرضه: كل شيء حدثتكم عن أبي صالح كذب (٢).
وقال السيوطي: وأوهى طرقه -يعني تفسير ابن عباس- طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير (٣)، فهي سلسلة الكذب، وكثيراً ما يخرج منها الثعلبي والواحدي (٤).
٣ - تفسير تنوير المقباس:
وقد نسب هذا التفسير إلى ابن عباس وقد طبع في مصر مرارًا باسم
(١) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن أبو سعيد العنبري الإمام المحدث الكبير ولد سنة ١٣٥ وخرج الجماعة حديثه توفي سنة ١٩٨ بالبصرة. ينظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٢٩٧، و"حلية الأولياء" ٩/ ٣.
(٢) "العجاب في بيان الأسباب" ١/ ٢٠٩.
(٣) محمد بن مروان السدي الكوفي، وهو السدي الصغير أحد المتروكين، قال الذهبي: تركوه واتهمه بعضهم بالكذب، وهو صاحب الكلبي. قال البخاري: سكتوا عنه وهو مولى الخطابيين ولا يكتب حديثه البتة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال أحمد: أدركته وقد كبر فتركته. ينظر: "ميزان الاعتدال" ٤/ ٣٢، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٢٦٥.
(٤) "الإتقان" ٢/ ١٨٩.
151
"تنوير المقباس في تفسير ابن عباس".
جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشافعي (١)، صاحب "القاموس المحيط"، وقال الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه الماتع "التفسير والمفسرون": وقد اطلعت على هذا التفسير، فوجدت جامعه يسوق عند الكلام عن البسملة الرواية عن ابن عباس بهذا السند أخبرنا عبد الله الثقة بن المأمون الهروي، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمود بن محمد الرازي، قال: أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروي، قال: أخبرنا علي بن إسحاق السمرقندي، عن محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وعند تفسير أول البقرة، وجدته يسوق الكلام بإسناده إلى عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا علي بن إسحاق السمرقندي عن محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وفي مبدأ كل سورة يقول: وبإسناده عن ابن عباس.
.. وهكذا يظهر لنا جليًا، أن جميع ما روي عن ابن عباس في هذا الكتاب يدور على محمد بن مروان السدي الصغير، عن محمد بن السائب
(١) هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم، الفيروزآبادي الشافعي، أبو طاهر، ولد شي كازورن من أعمال شيراز سنة ٧٢٩ هـ، ونشأ بها، وانتقل إلى شيراز وأخذ الأدب واللغة عن والده وغيره من علماء شيراز، ورحل إلى العراق ومصر والشام واليمن وغيرها من البلاد وأخذ عن علمائها، وتولى قضاء اليمن كله، وجاور مكة والمدينة وتوفي سنة ٨١٧ هـ.
من تصانيفه: "القاموس المحيط"، "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"، "فتح الباري بالسيل الفسيح الجاري في شرح صحيح البخاري" وغيرها من التصانيف.
ينظر: "الضوء اللامع" للسخاوي ١٠/ ٧٦ - ٧٩، "بغية الوعاة" ص ١١٧ - ١١٨، "شذرات الذهب" لابن عماد ١٠/ ١٢٦ - ١٣١.
152
الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وقد عرفنا مبلغ رواية السدي الصغير عن الكلبي فيما تقدم.
وحسبنا في التعقيب على هذا ما روي من طريق ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث (١).
وهذا الخبر إن صح عن الشافعي يدلنا على مقدار ما كان عليه الوضّاعون من الجرأة على اختلاق هذه الكثرة من التفاسير المنسوبة إلى ابن عباس، وليس أدل على ذلك، من أنك تلمس التناقض ظاهرًا بين أقوال في التفسير نسبت إلى ابن عباس ورويت عنه. إن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئًا من قيمته العلمية في الغالب، وإنما الشيء الذي لا قيمة له فيه، هو نسبته إلى ابن عباس (٢).
٤ - رواية الضحاك:
أمَّا طريق الضحاك بن مزاحم الهلالي (٣) عن ابن عباس فهي غير
(١) "الإتقان" ٢/ ١٨٩.
(٢) "التفسير والمفسرون" ١/ ٨٢.
(٣) الضحاك بن مزاحم الهلالي البلخي، أبو القاسم أو أبو محمد الخُراساني، قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة سعيد بن جبير، الضحاك بن مزاحم، مجاهد بن جبر، وعكرمة.
قال ابن حبان: من زعم أنه رأى ابن عباس فقد وهم. وقال ابن عدي: عُرِف بالتفسير، وأما روايته عن ابن عباس وأبي هريرة وجميع من روى عنهم ففي ذلك كله نظر وإنما اشتهر بالتفسير. وثقه أحمد، وابن معين وأبو زرعة، وضعفه يحيى بن سعيد، اختلف في سنة وفاته فقيل ١٠٥ هـ أو ١٠٦ هـ.
ينظر: "التاريخ الكبير" ٤/ ٣٣٢، "الثقات" لابن حبان ٦/ ٤٨٠، "الكامل في الضعفاء" ٤/ ٩٥، "التقريب" ١/ ٢٨٠.
153
مرضية؛ لأنه وإن وثقه نفر فطريقه إلى ابن عباس منقطعة؛ لأنه روى عنه ولم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة (١)، عن أبي روق (٢)، عن الضحاك، فضعيفة لضعف بشر، وقد أخرج من هذه النسخة كثيرًا ابن جرير وابن أبي حاتم.
وإن كان من رواية جويبر (٣) عن الضحاك فأشد ضعفًا؛ لأن جويبر شديد الضعف متروك. ولم يخرج ابن جرير ولا ابن أبي حاتم من هذه الطريق شيئًا، إنما خرجها ابن مردويه (٤)، وأبو الشيخ أبو محمد عبد الله
(١) هو: بشر بن عمارة الخثعمي الكوفي، روى عن: الأحوص بن حكيم، وإدريس بن سنان ابن بنت وهب بن منبه، وأبي روق عطية بن الحارث الهمداني، وروى عنه: أحمد بن موسى، وجبارة بن مغلس الحماني، والحسن بن عبد الرحمن، وزكريا بن عدي، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث، قال عنه البخاري: تعرف وتنكر، وذكره النسائي في "الضعفاء" قال ابن حبان: يخطئ حتى يخرج عن حد الاحتجاج. ينظر: "التاريخ الكبير" ٢/ ٨٠ و"الضعفاء" للنسائي ص ٦، "المجروحين" لابن حبان ١/ ١٨٨.
(٢) أبو روق عطية بن الحارث الهمذاني، صاحب التفسير، صدوق من الطبقة الخامسة. ينظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٣٨٢ رقم (٢١٢٢)، "التقريب" ٢/ ٢٤ رقم (٢١٥).
(٣) جويبر بن سعيد الأزدي، يقال له جابر، وجويبر لقب، أبو القاسم البلخي، صاحب الضحاك، راوي التفسير، ضعيف جداً، ضعفه علي ويحيى بن سعيد.
وقال أحمد: لا يشتغل بحديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال النسائي وعلي بن الجنيد والدارقنطني: متروك.
ينظر: "التهذيب" ١/ ٣١ رقم (٨٣)، و"الكاشف" ١/ ٥ رقم (٨٠١).
(٤) أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه بن فُورك الأصبهاني صاحب التفسير الكبير، محدث أصبهان ولد سنة ٣٢٣ هـ من مصنفاته: "التاريخ"، و"المستخرج على صحيح البخاري" توفي سنة ٤١٠ هـ
ينظر: "تاريخ أصبهان" ١/ ١٦٨، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٢٠٨.
154
ابن حيان (١)، كما أفاده السيوطي (٢).
٥ - رواية العوفي (٣): فضعيفة، فقد كان يخطئ كثيراً، وكان شيعياً مدلساً، قال الإمام أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبو سعيد، قال الذهبي: يعني يوهم أنه الخدري، وهذه الطريقة أخرج منها ابن جرير، وابن أبي حاتم كثيرًا.
٦ - رواية السدي الكبير:
يروي إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير (٤)، تارة عن أبي
(١) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ، الإمام الحافظ محدث أصبهان، صاحب التصانيف ولد سنة ٢٧٤ هـ، من مؤلفاته: "كتاب السنة "، و"العظمة"، وكتاب "السنن"، توفي سنة ٣٦٩ هـ.
ينظر: "تذكرة الحفاظ" ٣/ ٩٤٥، و"سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٢٧٦.
(٢) "الإتقان" ٢/ ١٨٩.
(٣) عطية بن سعد بن جنادة الجدلي العوفي الكوفي، أبو الحسن، كان من غلاة الشيعة.
قال أحمد: ضعيف. وقال أبو زرعة: لين.
وقال أبو حاتم: ضعيف وأبو نضرة أحب إلي منه توفي سنة ١١١هـ.
ينظر: "الميزان" ٣/ ٧٩ و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٩٤، ٧/ ٢٢٤، و"تاريخ بغداد" ٥/ ٣٣٢ و"الجرح والتعديل" ٣/ ٤٨ رقم (٢١٥)، و"لسان الميزان" ٥/ ١٧٤، "تقريب التهذيب" ١/ ٦٧٨.
(٤) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة المعروف بالسدي الكبير، أبو محمد الكوفي، صاحب التفسير والمغازي، كان إماما عارفا بالوقائع وأيام الناس، وتفسيره أثني عليه، قال ابن معين: ضعيف، ولينه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. قال عنه ابن حجر: صدوق يهم، رمي بالتشيع، توفي سنة ١٢٧هـ. ينظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ١٨٤، و"تقريب التهذيب" ص ١٠٨، و"طبقات ابن سعد" ٦/ ٣٢٣.
155
مالك (١)، وتارة عن أبي صالح عن ابن عباس. وإسماعيل السدي مختلف فيه، وحديثه عند مسلم وأهل السنن الأربعة، وهو تابعي شيعي.
وقال السيوطي: روى عن السدي الأئمة مثل الثوري وشعبة، لكن التفسير الذي جمعه رواه أسباط بن نصر (٢)، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي (٣).
وابن جرير يورد في تفسيره كثيرًا من تفسير السدي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، ولم يخرج منه ابن أبي حاتم شيئًا؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد (٤).
٧ - رواية الوالبي (٥):
وهي من أحسن الطرق عن ابن عباس، وهو صدوق، ولكنه لم يلق
(١) غزوان الغفاري أبو مالك الكوفي مشهور بكنيته ثقة من الثالثة روى عنه أصحاب السنن ينظر: "تقريب التهذيب" ص ٤٤٢.
(٢) أسباط بن نصر الهمداني، أبو يوسف، ويقال أبو نصر الكوفي، روى عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وجابر بن يزيد الجعفي، والحكم بن عبد الملك، وسماك بن حرب وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن المفضل الحفري، وإسحاق بن منصور السلولي، والحسن بن بشر البجلي وغيرهم.
قال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعف أسباط بن نصر، وقال: أحاديثه عامته سقط مقلوب الأسانيد. وقال النسائي: ليس بالقوي.
روي له الجماعة إلا البخاري معلقًا.
ينظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٢٦١، "التاريخ الكبير" ٢/ ٥٣ (١٦٥٦)، "الجرح والتعديل" ٢/ ٣٣٢ (١٢٦١)، "الميزان" ١/ ٣٥.
(٣) "الإتقان" ٢/ ١٨٨.
(٤) "التفسير والمفسرون" ١/ ٧٩، "تفسير ابن عباس" للدكتور الحميدي ١/ ٢٧ - ٢٨.
(٥) هو: علي بن أبي طلحة مولى بني العباس، واسم أبيه سالم بن مخارق الهاشمي، =
156
ابن عباس، وإنما أخذ تفسيره من مجاهد (١)، وله صحيفة في هذا التفسير أخرج منها البخاري كثيراً في صحيحه فيما يعلقه عن ابن عباس، وأكثر منها ابن جرير في تفسيره.
وقال الإمام أحمد: "بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل فيها رجل إل مصر قاصداً ما كان كثيراً" (٢).
وقد طعن بعض العلماء في تفسير علي بن أبي طلحة بأنه منقطع، حيث لم يسمع من ابن عباس، وقال الحافظ ابن حجر -راداً على ذلك-: "بعد أن عُرِفت الواسطة وهو ثقة، فلا ضير في ذلك" (٣).
وكثيرًا ما اعتمد على هذه الطريقة ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح. ومسلم وأصحاب السنن يحتجون بعلي بن أبي طلحة.
= أبو الحسن ويقال أبو محمد، وأصله من الجزيرة، وانتقل إلى حمص، وهو صدوق كثير الإرسال. مات سنة ١٤٣هـ.
ينظر: "التاريخ الكبير" ٦/ ٢٨١، "تهذيب الكمال" ٢٠/ ٤٩٠، "الكاشف" ٢/ ٤١، "تهذيب التهذيب" ٧/ ٣٣٩.
(١) هو: أبو الحجاج، مجاهد بن جبر المكي، تابعي جليل، مقرئ مفسر، حافظ ثقة، سمع من عدد من الصحابة، ولازم ابن عباس وقرأ عليه القرآن، وتلقى عنه التفسير، وكان أحد أوعية العلم، توفي سنة ١٠٣هـ.
ينظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٤٦٦، و"التاريخ الكبير" ٧/ ٤١١، "الحلية" لأبي نعيم ٣/ ٢٧٩، و"معرفة القراء الكبار" للذهبي ١/ ٦٦، "تهذيب التهذيب" ٧/ ٣٣٩.
(٢) "الإتقان" ٢/ ١٨٨ وينظر: تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة، للدكتور عبد العزيز الحميدي ١/ ٢٥.
(٣) المصدر السابق.
157
٨ - طريق قيس بن مسلم الكوفي (١)، عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين، وكثيرًا ما يخرج منها الفريابي والحاكم في "مستدركه".
٩ - طريق بن إسحاق (٢) صاحب السير، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد ابن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهي طريق جيدة وإسنادها حسن، وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرًا، وأخرج الطبراني منها في "معجمه الكبير".
١٠ - طريق عبد الملك بن جريج (٣)، عن ابن عباس، وهي تحتاج الى
(١) لعله قيس بن مسلم الجدلي الكوفي، أبو عمرو، الإمام المحدث الثقة، وثقه أحمد وقال مرة: متقن للحديث لا تبالي إذا أخذت عنه حديثه. قال أبو داود: كان مرجئًا. وقال ابن عيينة: كانوا يقولون: ما رفع قيس رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا تعظيمًا لله توفي سنة ١٢٠ هـ. ينظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٣١٧، "طبقات خليفة" ص ١٦٠ "التاريخ الكبير" ٥/ ١٥٤، "تهذيب الكمال" ٢٤/ ٨١.
(٢) محمد بن إسحاق بن يسار، العلامة الحافظ الأخباري، وقيل أبو عبد الله القرشي المطلبي مولاهم المدني صاحب السيرة النبوية، ولد سنة ٨٠ هـ، وثقه يحيى ابن معين. وقال أحمد: حسن الحديث.
وقال الذهبي: وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأشياء، منها: تشيعه، ونسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه.
ينظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٣٢١، "الكامل" لابن عدي ٣/ ٢٥، "سير أعلام النبلاء" ٧/ ٣٣.
(٣) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الأمام العلامة، الحافظ شيخ الحرم، أبو الوليد القرشي الأموي، المكي صاحب التصانيف أول من دون العلم بمكة. توفي رحمه الله سنة ١٥٠هـ. =
158
دقة في البحث، ليعرف الصحيح منها والسقيم، فإن ابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع، وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم، فلم يتميز في روايته الصحيح من غيره، وقد روى عن ابن جريج هذا جماعة كثيرة، منهم بكر بن سهل الدمياطي، عن عبد الغني بن سعيد، عن موسى بن محمد، عن ابن جريج عن ابن عباس، ورواية بكر بن سهل أطول الروايات عن ابن جريج وفيها نظر.
ومنهم محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن ابن عباس، روى ثلاثة أجزاء كبار ومنهم الحجاج بن محمد عن ابن جريج، روى جزءًا وهو صحيح متفق عليه.
ولأجل هذا الاختلاف بين الطرق المأثورة عن ابن عباس فقد افترق المفسرون تجاه تفسيره إلى ثلاث فرق (١):
الأولى: أخذت بكل ما روي عنه، فوقعوا في كثير من المرويات الضعيفة والموضوعة، وعلى رأس القائمة في هذا الاتجاه: الثعلبي والمؤلف، وتبعهم على ذلك من اعتمد على تفاسيرهم وأكثر النقل عنهم.
والثانية: اقتصروا على رواية الصحيح دون غيره، لكنهم لم يرووا عنه إلا القليل، ومن أبرز هؤلاء: الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحهما.
والثالثة: تجنبوا الأحاديث الموضوعة؛ لشهرة رواتها من الكذابين، ولكنهم خلطوا بين الروايات الصحيحة والضعيفة، وهؤلاء هم أكثر المفسرين الذين اهتموا بنقل تفسير الصحابة والتابعين، كالإمام ابن جرير
= ينظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٤٩١، "تاريخ الإسلام" ٦/ ٩٦، "سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣٢٥.
(١) ينظر هذا التفصيل في كتاب تفسير ابن عباس للدكتور الحميدي ١/ ٢٧ - ٢٨.
159
وابن أبي حاتم (١)، وكذلك الذين رووا بعض تفسير ابن عباس من علماء السنة: كعبد الرزاق الصنعاني (٢)، والإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، والبيهقي (٣).
(١) عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي، أبو محمد، اشتهر بابن أبي حاتم، الأمام المحدث الأصولي الفقيه، المفسر الناقد، ولد سنة ٢٤٠ هـ، تلقى العلم عن أبيه وغيره من علماء الري ثم انتقل إلى مكة المكرمة وسمع من مشايخها ثم رحل السواحل والشام ومصر وأصبهان، ثم رجع إلى الري يدرس ويصنف ويؤلف إلى أن وافته المنية سنة (٣٢٧) عن عمر ٨٧ عامًا.
من تصانيفه: "تفسير القرآن الكريم"، "الجرح والتعديل"، "الرد على الجهمية"، "مناقب الشافعي"، "المسند"، "كتاب الضعفاء".
ينظر: "الأنساب" للسمعاني ٤/ ٢٨٧، "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٢٤٦، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ٨٣٩.
(٢) عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر الحميري، مولاهم الحميري، أحد الحفاظ الثقات المشهورين المتفق على تخريج حديثه، ولد سنة ١٢٦هـ روى له الجماعة، قدم الشام تاجرًا، وسمع الأوزاعي وسعيد بن جبير ومحمد بن راشد المكحولي وإسماعيل بن عياش، وغيرهم، توفي سنة ٢١١ هـ عن خمس وثمانين عامًا، وكان فيه تشيع. من أهم تصانيفه: "المصنف" "تفسير عبد الرزاق".
ينظر ترجمته: "التاريخ الكبير" ٦/ ٢٣٠، "التاريخ الصغير" ٢/ ٣٢٠، "الثقات" لابن حبان ٨/ ٤١٢، "تهذيب الكمال" ١٨/ ٥٢، "طبقات المدلسين" ١/ ٣٤.
(٣) الفقيه الأصولي، الحافظ الورع واحد زمانه في الحفظ والإتقان: أبو بكر أحمد بن الحسن بن علي بن يونس، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة، ولد سنة ٣٨٤هـ في شعبان، وتلقى العلم عن علماء خُراسان ونيسابور، وانتقل إلى بغداد والكوفة، والحجاز وغيرها من البلاد، توفي رحمه الله في عاشر جمادى الأولى من سنة (٤٥٨ هـ) في نيسابور ونقل في تابوت إلى بيهق ودفن بها.
ومن تصانيفه: "السنن الكبرى"، و"معرفة السنن والآثار"، و"شعب الأيمان".
ينظر: "الأنساب" للسمعاني ٢/ ٣٨١، "الكامل" لابن الأثير ٨/ ١٠٤، "طبقات الشافعية" ٤/ ٩، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ١١٣٢.
160
قال الدكتور الحميدي: وقد نقل كثير من المفسرين المتأخرين هذِه الروايات من غير تمييز بينها، وأحياناً ينقلونها بغير إسناد، إلا أن بعضهم يبين ضعف الروايات أحياناً، إذا كان الموضوع مهماً، كآيات العقائد والأحكام، كالحافظ ابن كثير (١) (٢).
١١ - ثانيًا: تفسير مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠) هـ:
اعتمد المؤلف طريق مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني (٣)، وهو المفسر الذي ينسب إلى الشافعي أنه قال فيه: "إن الناس عيال عليه في
(١) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي، الإمام المحدث المفسر المؤرخ، صاحب التفسير المشهور، أخذ العلم عن ابن تيمية والمزي وهو من أقران الذهبي وابن القيم،. توفي رحمه الله سنة ٧٧٤ هـ.
من مصنفاته: "البداية والنهاية"، "تفسير القرآن العظيم"، "الباعث الحثيث"، وغيرها من العلوم النافعة أسكنه الله فسيح جناته.
ينظر: "تذكرة الحفاظ" ٤/ ١٥٠٨، "الدرر الكامنة" ١/ ٣٩٩.
(٢) "تفسير ابن عباس في الكتب الستة" للدكتور الحميدي ١/ ٢٨.
(٣) أبو الحسن، كبير المفسرين مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخُراساني، البلخي، مفسر، متكلم، مشارك في القراءات واللغة.
قال ابن عيينة: قلت لمقاتل: زعموا أنك لم تسمع من الضحاك. قال كان يغلق عليّ وعليه باب. فقلت في نفسي: أجل باب المدينة.
وقال وكيع: كان كذابًا. قال البخاري: مقاتل لا شيء البتة.
وقال الذهبي: أجمعوا على تركه. مات سنة ١٥٠هـ.
من مصنفاته: "التفسير الكبير"، "الرد على القدرية"، "الوجوه والنظائر في القراءات"، "الأقسام واللغات"، و"الآيات المتشابهات".
ينظر: "طبقات بن سعد" ٧/ ٣٧٣، "التاريخ الصغير" ٢/ ٢٢٧، "الجرح والتعديل" ٨/ ٢٥٤ - ٣٥٥، "تهذيب الكمال" ٢٨/ ٤٣٤ - ٤٥١، "سير أعلام النبلاء" ٧/ ٢٠١ - ٢٠٢، "معجم المؤلفين" ٣/ ٩٠٥ - ٩٠٦.
161
التفسير" (١) ومع ذلك فقد ضعفوه، وقالوا: إنه يروي عن مجاهد وعن
الضحاك ولم يسمع منهما.
وقد كذبه غير واحد، ولم يوثقه أحد، واشتهر عنه التجسيم والتشبيه (٢)، وتكلم عنه السيوطي فقال: "إن الكلبي يفضل عليه، لما في مقاتل من المذاهب الرديئة" (٣). وقد سئل وكيع عن تفسير مقاتل؟ فقال: "لا تنظروا فيه"، فقال السائل: ما أصنع به؟ قال: ادفنه -يعني التفسير (٤) -، وقال أحمد بن حنبل: لا يعجبني أن أروي عن مقاتل بن سليمان شيئًا (٥). وبالجملة فإن من استحسن تفسير مقاتل كان يضعفه ويقول "ما أحسن تفسيره لو كان ثقة" (٦).
ولاعتماد المؤلف هذا الطريق تردد اسم مقاتل كثيرًا في البسيط مما يدل على أنه من مصادره الرئيسة التي أفاد منها، وأغلب نقولاته عنه كانت مع العزو؛ تارة بنصه وتارة بالمعنى والتصرف في العبارة، ويبدو أن الواحدي نقل عن مقاتل بواسطة شيخه الثعلبي؛ تبيَّن ذلك بأمرين:
١ - اختلاف عبارة الواحدي المنسوبة لمقاتل عن تفسير مقاتل وتطابقها مع عبارة الثعلبي.
٢ - عدم وجود القول أحيانًا في تفسير مقاتل ووروده بنصه في تفسير
(١) "وفيات الأعيان" ٢/ ٧٦٧.
(٢) "إيثار الحق" ص ١٥٩.
(٣) "الإتقان" ٣/ ١٨٩.
(٤) "تهذيب الأسماء واللغات" ٢/ ١١١.
(٥) المصدر السابق.
(٦) "التفسير معالم حياته - منهجه اليوم" ص ٩.
162
الثعلبي منسوبًا لمقاتل.
وقد يصعب ضرب الأمثلة؛ لكثرة استشهاده بآراء مقاتل. وهناك مشكلة يجدر الإشارة إليها، وهي الالتباس بين مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان في التفسير، وذلك عند إطلاق الواحدي اسم مقاتل دون تحديد من هو؟ ومع أنه من خلال الاستقراء ظهر أنه يقصد عند الإطلاق مقاتل بن سليمان، إلا أنه يقصد به أحيانًا ابن حيان، وما أدري لعل بعض النصوص التي ذكرت أنها وردت في تفسير مقاتل بمعناه أن تكون قد وردت في تفسير مقاتل بن حيان بنصه، ولم أستطع التحقق من ذلك؛ لأن تفسيره مفقود -حسب علمي- وكذلك ما يرد في تفسير الثعلبي ولا يكون في تفسير مقاتل بن سليمان فلعله يكون من تفسير مقاتل بن حيان وأبهمه الثعلبي، خاصة وأن تفسيره من مصادر الثعلبي -كما ذكر في مقدمته- ومن أمثلة ذلك:
عند قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٦] أطلق اسم مقاتل وهو ابن حيان، فقال: وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم. فمقاتل هنا هو ابن حيان، حيث وردت هذه العبارة بنصها منسوبة إليه في: "تفسير الثعلبي" (٧/ ١٥٦ب)، و"البغوي" ٣/ ٣٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٣٦٥ أما في تفسير مقاتل بن سليمان (١/ ١٩٤ أ) فعبارته، قال: ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم.
ومثله عند قوله تعالى ميه ﴿وءاتَينَهُ فِى الدُّنيَا حَسَنَةً﴾ [النحل: ١٢٢] قال: وقال مقاتل: يعني الصلوات عليه مقرونًا بالصلاة على محمد - ﷺ -؛ وهو قول المتشهد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، فهلذا الخبر نسب إلى مقاتل بن حيان في تفسير البغوي وابن
163
الجوزي، ولم أجده في تفسير مقاتل بن سليمان.
وعند قوله تعالى: ﴿وَرَزَقْنَهُم مِّنَ الطَّيِّباتِ﴾ [الإسراء: ٧٠] قال: وقال مقاتل: السمن والزُّبد والحلاوي، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم، وهذا القول بنصه في تفسير الثعلبي (٧/ ١٤٤ أ) ولم يرد في تفسير مقاتل بن سليمان، فلعله من تفسير مقاتل بن حبان.
ثانيًا: تفسير الطبري (١) أو جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبري (٢٢٤) (٢).
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يعد تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع
(١) طبع هذا التفسير طبعات عدة، أشهرها طبعة البابي الحلبي بمصر، وأفضلها التي حققها العلامة أحمد شاكر وأخوه محمود لكنها لم تكتمل.
(٢) هو الإمام العلم الفرد القدوة الحافظ صاحب التصانيف المشهورة، أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب من أهل آمل طبرستان أكثر التطواف وسمع كبار المشايخ، ولد سنة ٢٢٤ هـ وكان من أفراد الدهر علمًا وذكاءً، وقل أن ترى العيون مثله. قال الخطيب: كان ابن جرير أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظًا لكتاب الله عارفًا بالقراءات بصيرًا بالمعاني فقيهًا بالأحكام عالمًا بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها عارفًا بأقاويل الصحابة والتابعين الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم وله تصانيف حسان كثيرة وتفرد بمسائل حفظت عنه. توفي رحمه الله سنة ٣١٠ هـ. ومن تصانيفه: "تاريخ الأمم والملوك"، و"جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، و"تهذيب الآثار"، و"اختلاف الفقهاء". ينظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ١٦٢، "تاريخ دمشق" ٥٢/ ١٨٨، "معجم الأدباء" ١٨/ ٩٠، "وفيات الأعيان" ٤/ ١٩١، "تذكرة الحفاظ" ٢/ ٧١٠.
164
الأول عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير النقلي، وإن كان في الوقت نفسه يعتبر مرجعًا غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي؛ نظرًا لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض ترجيحًا يعتمد على النظر العقلي، والبحث الحر الدقيق.
ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يعد مفقودًا لا وجود له، ثم قدر الله له الظهور والتداول، فكانت مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والغرب أن وجدت في حيازة أمير (حائل) الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طبع عليها الكتاب من زمن قريب، فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور (١).
ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء في "تفسير ابن جرير"، لوجدنا أن الباحثين في الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع لا غني عنه لطالب التفسير، فقد قال السيوطي -رضي الله عنه-: وكتابه - يعني تفسير محمد بن جرير- أجل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين (٢).
وقال النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري (٣) وقال أبو حامد الإسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حت يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا (٤).
(١) "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" ص ٨٦.
(٢) "الإتقان" ٢/ ١٩٠.
(٣) المرجع السابق.
(٤) "معجم الأدباء" ١٨/ ٤٢.
165
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير ابن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير (١) والكلبي" (٢).
ويذكر صاحب "لسان الميزان": أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير من ابن خالويه فرده بعد سنين ثم قال: "نظرت فيه من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير" فابن خزيمة ما شهد هذه الشهادة إلا بعد أن اطلع على ما في هذا التفسير من علم واسع غزير.
هذا وقد كتب (نولدكه) في سنة ١٨٦٠م بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: "لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة، ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تمامًا، وكان مثل "تاريخه الكبير" مرجعًا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم" (٣).
ويظهر مما بأيدينا من المراجع، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم، ثم اختصره مؤلفه إلى هذا القدر الذي هو عليه الآن، كما أن كتابه في التاريخ ظفر بمثل هذا البسط والاختصار، فابن السبكي يذكر في "طبقاته الكبرى" (٤) "أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا ربما تفنى
(١) هكذا بالأصل؛ ولعله ابن سليمان، وهو مقاتل بن سليمان بن بشير، وهو متهم بالكذب.
(٢) "فتاوى ابن تيمية" ٢/ ١٩٢.
(٣) "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" ص ٨٥.
(٤) ٢/ ١٣٧.
166
الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال إنا لله، ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر التفسير" اهـ.
هذا ونستطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير الذي له الأولية بين كتب التفسير، أولية زمنية، وأولية من ناحية الفن والصناعة.
أما أوليته الزمنية، فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا، وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شيء منها، اللهم إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذي نحن بصدده.
وأما أوليته من ناحية الفن والصناعة؛ فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التي سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتابًا له قيمته ومكانته.
ونريد أن نعرض هنا لطريقة ابن جرير في "تفسيره" بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب واحد في بابه، سبق به مؤلفه غيره من المفسرين، فكان عمدة المتأخرين، ومرجعًا مهمًّا من مراجع المفسرين، على اختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، فنقول:
طريقة ابن جرير في "تفسيره":
تتجلى طريقة ابن جرير في "تفسيره" بكل وضوح إذا نحن قرأنا فيه وقطعنا في القراءة شوطًا بعيدًا، فأول ما نشاهده، أنه إذا أراد أن يفسر الآية من القرآن يقول: "القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا" ثم يفسر الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير المأثور عنهم في هذه الآية، وإذا كان في الآية قولان أو أكثر، فإنه يعرض
167
لكل ما قيل فيها، ويستشهد على كل قول بما يرويه في ذلك عن الصحابة أو التابعين.
ثم هو لا يقتصر على مجرد الرواية، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، كما أنه يستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار.
إنكاره على من يفسر بمجرد الرأي:
ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأي المستقلين في التفكير، ولا يزال يشدد في ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين، والمنقول عنهم نقلاً صحيحًا مستفيضًا، ويرى أن ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح، فمثلاً عند ما تكلم عن قوله تعالى في الآية (٤٩) من سورة يوسف: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ نجده يذكر ما ورد في تفسيرها عن السلف مع توجيهه للأقوال وتعرضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرج بعد ذلك على من يفسر القرآن برأيه، وبدون اعتماد منه على شيء إلا على مجرد اللغة، فيفند قوله، ويبطل رأيه، فيقول ما نصه "... وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله ﴿وَفِيهِ يَعصِرُونَ﴾ إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من العصر، والعصر التي بمعنى المنجاة، من قول أبي زبيد الطائي:
صاديًا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود
أي: المقهور، ومن قول لبيد:
168
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين (١).
وكثيرًا ما يقف ابن جرير مثل هذا الموقف حيال ما يروي عن مجاهد أو الضحاك أو غيرهما ممن يروون عن ابن عباس.
فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (٦٥) من سورة البقرة: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ يقول ما نصه: حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ قال: "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارًا" اهـ، ثم يعقب ابن جرير بعد ذلك على قول مجاهد فيقول ما نصه: "وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف... " إلخ (٢).
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٢٢٩) من سورة البقرة أيضًا: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ تجده يروي عن الضحاك في معنى هذه الآية: أن من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون، ثم يقول: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع؛ لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر فيقال تلك حدود الله، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة والذي لا يكون له فيه الرجعة، دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة. اهـ (٣).
(١) "تفسير ابن جرير" ٢٢/ ١٣٨.
(٢) "تفسير ابن جرير" ٢٢/ ١٣٨.
(٣) "تفسير ابن جرير" ٢٢/ ١٣٨.
169
وهكذا نجد ابن جرير في غير موضع من تفسيره، ينبري للرد على مثل هذِه الآراء التي لا تستند إلا على مجرد الرأي أو محض اللغة.
موقفه من الأسانيد:
ثم إن ابن جرير وإن التزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف؛ لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانًا موقف الناقد البصير، فيعدل من يعدل من رجال الإسناد، ويجرح من يجرح منهم، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٩٤) من سورة الكهف: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف: ٩٤] يقول ما نصه: "روى عن عكرمة في ذلك -يعني في ضم سين سدًا وفتحها- ما حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّد، وما كان من صنع الله فهو السُّد. ثم يعقب على هذا السند فيقول: "وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب هارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه". اهـ (١).
(١) "تفسير ابن جرير" جـ ١٦ ص ١٣.
170
تقديره للإجماع:
كذلك نجد ابن جرير في تفسيره يقدر إجماع الأمة، ويعطيه سلطانًا كبيرًا في اختيار ما يذهب إليه من التفسير، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (٢٣٠) من سورة البقرة ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يقول ما نصه: "فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره)؟ النكاح الذي هو جماع؟ أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟
قيل كلاهما: "وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجًا نكاح تزويج ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل للأول؛ لإجماع الأمة جميعًا، فإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أن تأويل قوله: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، نكاحًا صحيحًا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها، فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعًا على أن ذلك معناه" (١).
موقفه من القراءات:
كذلك نجد ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة، وكثيرًا ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة، والتي تقوم على أصول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر مع
(١) "تفسير ابن جرير" جـ ٢، ص ٢٩٠ - ٢٩١.
171
توجيه رأيه بالأسباب، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (٨١) من سورة الأنبياء ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾ يذكر أن عامة قراء الأمصار قرؤوا (الريح) بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (الريح) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه.
ولقد يرجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتا إنهم ليقولون عنه: إنه ألف فيها مؤلفًا خاصًا في ثمانية عشر مجلدًا، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور (١)، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا، شأن الكثير من مؤلفاته.
موقفه من الإسرائيليات:
ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلي، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وابن جريج والسدي، وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة النصارى. ومن الأسانيد التي تسترعي النظر هذا الإسناد: حدثني ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبي عتاب... رجل من تغلب كان نصرانيًا عمرًا من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه في الدين، وكان فيما ذكر، أنه كان نصرانيًا أربعين سنة ثم عمِّر في الإسلام أربعين سنة.
يذكر ابن جرير هذا الإسناد، ويروي لهذا الرجل النصراني الأصل
(١) "معجم الأدباء" جـ ١٨، ص ٤٥.
172
خبرًا عن آخر أنبياء بن إسرائيل، عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٧) من سورة الإسراء ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧)﴾ [الإسراء: ٧] (١).
كما نراه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٩٤) من سورة الكهف ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية يسوق هذا الإسناد: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان رجلاً من أهل مصر، اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح... إلخ (٢).
وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع الى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة.
وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيرًا من هذِه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التي اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلي، على أن ابن جرير -كما قدمنا- قد ذكر لنا السند بتمامه في كل رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات.
انصرافه عما لا فائدة فيه:
ومما يلفت النظر في تفسير ابن جرير أن مؤلفه لا يهتم فيه -كما يهتم
(١) "تفسير ابن جرير" ١٥/ ٣٣ - ٣٤.
(٢) "تفسير ابن جرير" ١٦/ ١٤.
173
غيره من المفسرين- بالأمور التي لا تعني ولا تقيد، فنراه مثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ الآيات [المائدة: ١١٢، ١١٣، ١١٤] إلى قوله: ﴿وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ يعرض لذكر ما ورد من الروايات في نوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء.. ثم يعقب على هذا بقوله "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون سمكًا وخبزًا، وجائز أن يكون ثمرًا من الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به وإذا أقرّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل" اهـ (١).
كما نراه عند تفسير قوله تعالى في الآية (٢٠) من سورة يوسف ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾، يعرض لمحاولات قدماء المفسرين في تحديد عدد الدراهم، هل هي عشرون؟ أو اثنان وعشرون؟ أو أربعون؟... إلى آخر ما ذكره من الروايات... ثم يعقب على ذلك كله بقوله: "والصواب من القول أن يقال: إن الله -تعالى ذكره- أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحدد مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول - ﷺ -، وقد يحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعين، وأقل من ذلك وأكثر وأي ذلك كان فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضُرّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه" (٢) اهـ.
(١) "تفسير ابن جرير" ٧/ ٨٨.
(٢) "تفسير ابن جرير" ١٢/ ١٣.
174
احتكامه إلى المعروف من كلام العرب:
وثمة أمر آخر سلكه ابن جرير في كتابه، ذلك أنه اعتبر الاستعمالات اللغوية بجانب النقول المأثورة وجعلها مرجعًا موثوقًا به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها، وترجيح بعض الأقوال على بعض.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعال في الآية (٤٠) من سورة هود ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [هود: ٤٠] الآية نراه يعرض لذكر الروايات عن السلف في معنى لفظ التنور، فيروي لنا قول من قال: إن التنور عبارة عن وجه الأرض، وقول من قال: إنه عبارة عن تنوير الصبح، وقول من قال إنه عبارة عن أعلى الأرض وأشرفها، وقول من قال: إنه عبارة عما يختبز فيه... ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله "وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله ﴿اَلتَنُّوُر﴾ قول من قال: التنور: الذي يختبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلى أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها، وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به.. " اهـ (١).
رجوعه إلى الشعر القديم:
كذلك نجد ابن جرير يرجع إلى شواهد من الشعر القديم بشكل واسع، متبعًا في هذا ما أثاره ابن عباس في ذلك، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٢٢) من سورة البقرة ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ يقول ما
(١) "تفسير ابن جرير" ١٢/ ٢٥.
175
نصه: قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العدل والمثل، كما قال حسان ابن ثابت:
أتهجوه ولست له بند... فشركما لخيركما الفداء
يعني بقوله: (ولست له بند) لست له بمثل ولا عدل، وكل شيء كان نظيرًا لشيء وشبيهًا فهو له ند" (١) ثم يسوق الروايات عمن قال ذلك من السلف...
اهتمامه بالمذاهب النحوية:
كذلك نجد ابن جرير يتعرض كثيرًا لمذاهب النحويين من البصريين والكوفيين في النحو والصرف، ويوجه الأقوال، تارة على المذهب البصري وأخرى على المذهب الكوفي، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (١٨) من سورة إبراهيم ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ يقول ما نصه "اختلف أهل العربية في رافع (مَّثَلُ) فقال بعض نحوي البصرة: إنما هو كأنه قال: ومما نقص عليكم مثل الذين كفروا، ثم أقبل يفسره كما قال: مثل الجنة.. وهذا كثير.
وقال بعض نحوي الكوفيين: إنما المثل للأعمال، ولكن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه، ومعنى الكلام: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد... إلخ (٢).
وهكذا يكثر ابن جرير في مناسبات متعددة من الاحتكام إلى ما هو معروف من لغة العرب، ومن الرجوع إلى الشعر القديم ليستشهد به على ما
(١) "تفسير ابن جرير" ١/ ١٢٥.
(٢) المصدر السابق.
176
يقول، ومن التعرض للمذاهب النحوية عندما تمس الحاجة، مما جعل الكتاب يحتوي على جملة كبيرة من المعالجات اللغوية والنحوية التي أكسبت الكتاب شهرة عظيمة.
والحق أن ما قدمه لنا ابن جرير في تفسيره من البحوث اللغوية المتعددة والتي تعتبر كنزًا ثمينًا ومرجعًا مهمًا في بابها، أمر يرجع إلى ما كان عليه صاحبنا من المعرفة الواسعة بعلوم اللغة وأشعار العرب، معرفة لا تقل عن معرفته بالدين والتاريخ. ونرى أن ننبه هنا إلى أن هذه البحوث اللغوية التي عالجها ابن جرير في تفسيره لم تكن أمرًا مقصودًا لذاته، وإنما كانت وسيلة للتفسير، على معنى أنه يتوصل بذلك إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، كما يحاول بذلك -أحيانًا- أن يوفق بين ما صح عن السلف وبين المعارف اللغوية بحيث يزيل ما يتوهم من التناقض بينهما.
معالجته للأحكام الفقهية:
كذلك نجد في هذا التفسير آثارًا للأحكام الفقهية، يعالج فيها ابن جرير أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من ذلك كله برأي يختاره لنفسه، ويرجحه بالأدلة العلمية القيمة، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٨) من سورة النحل: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ نجده يعرض لأقوال العلماء في حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، ويذكر قول كل قائل بسنده.. وأخيرًا يختار قول من قال: إن الآية لا تدل على حرمة شيء من ذلك، ووجه اختياره هذا فقال ما نصه: "والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني -وهو أن الآية لا تدل على الحرمة- وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره: (لِتَرْكَبُوهَا) دلالة على أنها لا تصلح -إذ كانت للركوب- للأكل. لكان في قوله: {فِيهَا
177
دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: ٥] دلالة على أنها لا تصلح -إذ كانت للأكل والدفء- للركوب. وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال (لِتَرْكَبُوهَا) جائز حلال غير حرام. إلا بما نص على تحريمه، أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله - ﷺ -، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء، وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله - ﷺ -، وعلى البغال بما قد بينا في كتابنا كتاب "الأطعمة" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع؛ إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدل على أن لا وجه لقول من استدل بهذه الآية على تحريم لحم الفرس" اهـ (١).
خوضه في مسائل الكلام:
ولا يفوتنا أن ننبه على ما نلحظه في هذا التفسير الكبير، من تعرض صاحبه لبعض النواحي الكلامية عند كثير من آيات القرآن، مما يشهد له بأنه كان عالمًا ممتازًا في أمور العقيدة، فهو إذا ما طبق أصول العقائد على ما يتفق مع الآية أفاد في تطبيقه. وإذا ناقش بعض الآراء الكلامية أجاد في مناقشته.
وهو في جدله الكلامي وتطبيقه ومناقشته موافق لأهل السنة في آرائهم، ويظهر ذلك جليًا في رده على القدرية في مسألة الاختيار.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في آخر سورة الفاتحة آية (٧) ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ نراه يقول ما نصه: "وقد ظن بعض أهل
(١) "تفسير ابن جرير" ١٤/ ٥٨ - ٦٧.
178
الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال بقوله ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ وإضافة الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضللون كالذي وصف به اليهود أنهم مغضوب عليهم، دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية، جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الأمر على ما ظنه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكون كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب فالحق فيه أن يكون مضافًا إلى مسبّبه. ولو وجب ذلك بإضافة الجري إلى الفلك، ولوجب أن يكون خطأ قول القائل: تحركت الشجرة إذا حركتها الرياح، واضطربت الأرض إذا حركتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب. وفي قوله جل ثناؤه: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ ﴿يونس: ٢٢﴾ ان كان جريها بإجراء غيرِها إياها، ما يدل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى تصحيحًا لما ادعى المنكرون أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجلها وجدت أفعالهم، مع إبانة الله عز ذكره نصًّا في آي كثيرة من تنزيله: أنه المضل الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: ٢٣] فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره، ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه وإن كان مسبّبه غير الذي وجد منه أحيانًا وأحيانًا إلى مسببه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيره، فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويوجده الله جل ثناؤه عينًا منشأة، بل ذلك أحرى أن
179
يضاف إلى مكتسبه كسبًا له بالقوة منه عليه، والاختيار منه له، وإلى الله جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرًا" (١).
وكثيرًا ما نجد ابن جرير يتصدى للرد على المعتزلة في كثير من آرائهم الاعتقادية، فنراه مثلاً يجادلهم مجادلة حادة في تفسيرهم العقلي التنزيهي للآيات التي تثبت رؤية الله عند أهل السنة، كما نراه يذهب إلى ما ذهب إليه السلف من عدم صرف آيات الصفات عن ظاهرها مع المعارضة لفكرة التجسيم والتشبيه، والرد على أولئك الذين يشبهون الله بالإنسان (٢).
وهكذا نجد ابن جرير لم يقف موقفًا بعيدًا عن مسائل النزاع التي تدور حول العقيدة في عصره، بل نراه يشارك في هذا المجال من الجدل الكلامي بنصيب لا يستهان به، مع حرصه كل الحرص على أن يحتفظ بسنيته ضد وجوه النظر التي لا تتفق وتعاليم أهل السنة.
وبعد.. فإن ما جمعه ابن جرير في كتابه من أقوال المفسرين الذي تقدموا عليه وما نقله لنا عن مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود ومدرسة علي بن أبي طالب ومدرسة أبي بن كعب، وما استفاده مما جمعه ابن جريج والسدي وابن إسحاق وغيرهم من التفاسير جعلت هذا الكتاب أعظم الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور، كما أن ما جاء في الكتاب من إعراب وتوجيهات لغوية واستنباطات في نواح متعددة وترجيح لبعض
(١) "تفسير ابن جرير" ١/ ٦٤.
(٢) انظر ما كتبه على قوله تعالى في الآية (٦٤) من سورة المائدة ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ الآية جـ ٦ ص ١٩٣وما بعدها، وما كتبه على قوله تعالى في الآية (٦٧) من سورة الزمر ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ ٢٤/ ١٦ وما بعدها.
180
الأقوال على بعض، كان نقطة التحول في التفسير، ونواة لما وجد بعد من التفسير بالرأي كما كان مظهرًا من مظاهر الروح العلمية السائدة في هذا العصر الذي يعيش فيه ابن جرير.
والحق أن شخصية ابن جرير الأدبية والعلمية جعلت تفسيره مرجعًا مهمًّا من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولغوية وعلمية قيمة فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة.
وعلى الإجمال فخير ما وصف به هذا الكتاب ما نقله الداودي عن أبي محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني في "تاريخه" حيث قال: "فتم من كتبه -يعني محمد بن جرير- كتاب تفسير القرآن، وجوده، وبين فيه أحكامه، وناسخه ومنسوخه، ومشكله وغريبه، ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء في أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص، وأخبار الأمة والقيامة، وغير ذلك مما حواه من الحكم والعجائب كلمة كلمة، وآية آية، من الاستعاذة، وإلى أبي جاد، فلو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد وعجيب مستفيض لفعل اهـ (١).
هذا وقد جاء في "معجم الأدباء" جـ ١٨ ص ٦٤ - ٦٥ وصف مسهب لتفسير ابن جرير، جاء في آخره ما نصه "... وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وعن الحسن البصري ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود
(١) "طبقات المفسرين" للداودي ص ٢٣.
181
طريقًا، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حيان، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يدخل في كتابه شيئًا عن كتاب محمد بن السائب الكلبي، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدي؛ لأنهم عنده أظناء والله أعلم.
وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي، وعن ابنه هشام، وعن محمد بن عمر الواقدي، وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلى عنهم وذكر فيه مجموع الكلام والمعاني من كتاب علي بن حمزة الكسائي، ومن كتاب يحيى بن زياد الفراء، ومن كتاب أبي الحسن الأخفش، كتاب أبي علي قطرب؛ وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كان هؤلاء هم المتكلمون في المعاني، وعنهم يؤخذ معانيه وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئًا من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه. اهـ.
كما نجد في "معجم الأدباء" أيضا قبل ذلك بقليل، ما يدل على أن الطبري أتم تفسيره هذا في سبع سنوات، إملاء على أصحابه، فقد جاء في الجزء١٨ ص ٤٢ عن أبي بكر بن بالويه أنه قال "قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق -يعني بن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: في أي سنه؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين... إلخ".
وبعد فأحسب أني قد أفضت في الكلام عن هذا التفسير، وتوسعت في الحديث عنه، وأقول: إن السرَّ في ذلك هو أن الكتاب يعتبر المرجع الأول والأهم للتفسير بالمأثور، وتلك ميزة لا نعرفها لغيره من كتب التفسير
182
بالرواية (١).
لذلك ذاعت شهرة تفسير ابن جرير في الآفاق وأصبح مضرب المثل في غزارة المادة واستقامة المنهج قال السيوطي في "الإتقان" بعد أن ساق أسماء جماعة من المفسرين بالمأثور قبل الطبري:
وبعدهم ابن جرير الطبري، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها.... إلخ.
ثم قال: فإن قلت: فأي التفاسير ترشد إليه، وتأمر الناظر أن يعول عليه؟
قلت: تفسير الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري، الذي أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلف مثله.
قال النووي في "تهذيبه": كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله (٢).
ولا يزال العلماء ينهلون من هذا التفسير العظيم، وقلما تجد كتاب تفسير يخلو من أقوال ابن جرير الطبري.
ولقد استفاد الواحدي في كتابه "البسيط" من ابن جرير ويظهر ذلك من كثرة النقول والآثار عن السلف في التفسير، كما نقل عنه في المسائل اللغوية، والقراءات وغير ذلك، ومما يلحظ أن الواحدي كثيرًا ما يورد أقوال الطبري ويناقشها، ولعل من أسباب ذلك اختلاف المنهج الذي يسلكه الطبري في التفسير عن منهج الواحدي، فبينما يعتمد ابن جرير منهج السلف والاعتماد على الآثار في التفسير، ولا يأخذ بأقوال المتكلمين في باب العقائد، نجد الواحدي بخلاف ذلك، حيث يعتمد التفسير بالرأي
(١) انظر: "التفسير والمفسرون" ١/ ٢٠٥ - ٢٢٤.
(٢) كتاب "الإتقان في علوم القرآن" ٢/ ١٦٠ طبعة الميمنية سنة ١٣١٧ هـ.
183
أكثر، ويأخذ بأقوال المتكلمين في باب العقائد.
ومن الأمثلة على إفادة الواحدي من الطبري ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٣] ذكر القراءات في ﴿مَالِكِ﴾ وقال: واحتج محمد بن جرير لهذِه القراءة فقال: إن الله نبه على أنه مالكهم بقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] فَحَمل قوله: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على وصف زائد أحسن" (١)، ثم قال في موضع آخر: "... ومن نصر هذه القراءة -يريد القراءة بمالك- أجاب ابن جرير بأن قال: ما ذكرت لا يرجح قراءة (ملك) لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة قد تقدمها العام، وذكر بعده الخاص كقوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)﴾ [العلق: ١ - ٢] وقوِله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] ثم قال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤] في أمثال كثيرة لهذا".
ومثال آخر للواحدي الناقد الفاحص للأقوال المميز لها، نقل عن ابن جرير في تفسير قوله تعالى: ﴿فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ [البقرة: ١٠].
قال: وقال ابن جرير: معناه: في اعتقاداتهم مرض، أي: شك وشبه، فاستغنى بذكر القلوب عن ذكر الاعتقادات؛ لأن محلها القلوب كقولهم: "يا خيل الله اركبي".
ثم قال الواحدي: "وليس الأمر على ما قال؛ لأن الشك في القلب على الحقيقة فأي فائدة لتقدير الاعتقاد هاهنا، ولأن الشك ينافي الاعتقاد وهم ليسوا معتقدين إذا كانوا شاكين" (٢).
وما نقلناه على سبيل المثال لا على الحصر؛ لأن البسيط مليء
(١) انظر: "البسيط" تفسير الفاتحة الآية: ٣، الطبري١/ ١٥٠، نقله الواحدي بمعناه.
(٢) انظر: "البسيط" تفسير البقرة، آية: ١٠، الطبري ١/ ٢٧٨ نقل المؤلف كلامه بتصرف.
184
بأقوال الطبري سواء كان النقل مباشرة أو عن طريق شيخه.
ثالثًا: "الكشف والبيان" (١) للثعلبي (٢):
يعتبر "الكشف والبيان" أو "تفسير الثعلبي" من المصادر الرئيسة عند الواحدي، كيف وأن الثعلبي شيخ الواحدي وأخذ عنه التفسير، وذكر الواحدي في مقدمة البسيط في أثناء حديثه عن شيخه العروضي الذي قال له: "... أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرؤه على هذا الرجل الذي يأتيه البعداء من أقاصي البلاد وتتركه أنت على قرب ما ببيننا من الجوار يعنى الأستاذ الإمام "أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله.. " (٣) ثم يقول: "... ثم فرغت للأستاذ الإمام أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي -رحمه الله-، وكان حبر العلماء بل بحرهم ونجم الفضلاء بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بـ"الكشف والبيان عن تفسير القرآن" الذي رفعت به
(١) كان الكتاب لا يزال مخطوطًا وقت إعداد معظم رسائل هذا الكتاب، وقد طبع بعدها طبعة تجارية رديئة، وحُقق في نحو عشرين رسالة جامعية في جامعة أم القرى، وهو قيد التنسيق والإخراج في دار الفلاح بالفيوم على غرار هذا الكتاب.
(٢) هو الإمام الحافظ العلامة، شيخ المفسرين أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ويقال: الثعالبي لقب لا نسب، كان أوحد زمانه في علم التفسير الكبير، قال الذهبي: وكان حافظًا رأسًا في التفسير والعربية متين الديانة من أهل نيسابور له اشتغال بالتاريخ توفى رحمه الله سنة ٤٢٧ هـ من مصنفاته: "الكشف والبيان عن تفسير القرآن"، و"العرائس في قصص الأنبياء" و"ربيع المذكرين".
ينظر ترجمته في: "معجم الأدباء" ٥/ ٣٦، ٣٧، و"وفيات الأعيان" ١/ ٧٩، ٨٠، "العبر" ٣/ ١٦، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ١٠٩، "طبقات" للسبكي ٤/ ٥٨، ٥٩، "طبقات المفسرين" ص ٥.
(٣) "مقدمة البسيط" ص ٤١٩.
185
المطايا في السهل والأوعار وسارت به الفلك في البحار وهب هبوب الرياح في الأقطار:
وسار مسير الشمس في كل بلدة... وهب هبوب الريح في البر والبحر
وأصفقت عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم... " إلى أن قال: "... وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء و"تفسيره الكبير" وكتابه المعنون بـ"الكامل في علم القرآن" وغيرهما (١).
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
ألقى مؤلف هذا التفسير ضوءًا عليه في مقدمته، وأوضح فيها عن منهجه وطريقته التي سلكها فيه، فذكر أولاً اختلافه منذ الصغر إلى العلماء، واجتهاده في الاقتباس من علم التفسير الذي هو أساس الدين ورأس العلوم الشرعية، ومواصلته ظلام الليل بضوء الصباح بعزم أكيد وجهد جهيد، حتى رزقه الله ما عرف به الحق من الباطل، والمفضول من الفاضل، والحديث من القديم، والبدعة من السنة، والحجة من الشبهة، وظهر له أن المصنفين في تفسير القرآن فرق على طرق مختلفة: فرقة أهل البدع والأهواء، وعد منهم الجبائي والرماني.
وفرقة من ألفوا فأحسنوا، إلى أنهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السلف الصالحين، وعد منهم أبا بكر القفال.
وفرقة اقتصر أصحابها على الرواية والنقل دون الدراية والنقد، وعد منهم أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي.
وفرقة حذفت الإسناد الذي هو الركن والعماد، ونقلت من الصحف
(١) "مقدمة البسيط" ص ٤٢٥.
186
والدفاتر، وحررت على هوى الخواطر، وذكرت الغث والسمين؛ والواهي والمتين، قال: وليسوا في عداد العلماء، فصنت الكتاب عن ذكرهم.
وفرقة حازوا قصب السبق، في جودة التصنيف والحذق، غير أنهم طولوا في كتبهم بالمعادات؛ وكثرة الطرق والروايات، وعد منهم ابن جرير الطبري.
وفرقة جردت التفسير دون الأحكام، وبيان الحلال والحرام، والحل عن الغوامض والمشكلات، والرد على أهل الزيغ والشبهات، كمشايخ السلف الماضين، مثل مجاهد والسدي والكلبي.
ثم بين أنه لم يعثر في كتب من تقدمه على كتاب جامع مهذب يعتمد... ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه في إخراج كتاب في تفسير القرآن وإجابته لمطلوبهم، رعاية منه لحقوقهم، وتقربًا به إلى الله... ثم قال: فاستخرت الله تعالى في تصنيف كتاب، شامل، مهذب، ملخص، مفهوم، منظوم، مستخرج من زهاء مائة كتاب مجموعات مسموعات. سوى ما التقطته من التعليقات والأجزاء المتفرقات، وتلقفته عن أقوام من المشايخ الأثبات، وهم قريب من ثلاثمائة شيخ، نسقته بأبلغ ما قدرت عليه من الإيجاز والترتيب.
ثم قال: وخرجت فيه الكلام على أربعة عشر نحوًا: البسائط والمقدمات، والعدد والتنزلات، والقصص والنزولات، والوجوه والقراءات، والعلل والاحتجاجات، والعربية واللغات، والإعراب والموازنات، والتفسير والتأويلات، والمعاني والجهات، والغوامض والمشكلات، والأحكام والفقهيات، والحكم والإشارات، والفضائل والكرامات، والأخبار والمتعلقات، أدرجتها في أثناء الكتاب بحذف
187
الأبواب، وسميته: كتاب "الكشف والبيان عن تفسير القرآن".. ثم ذكر في أول الكتاب أسانيده إلى من يروي عنهم التفسير من علماء السلف، واكتفى بذلك عن ذكرها أثناء الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنفات أهل عصره - وهي كثيرة- وكتب الغريب والمشكل والقراءات، ثم ذكر بابًا في فضل القرآن وأهله، وبابًا في معنى التفسير والتأويل، ثم شرع في التفسير.
عثرت على هذا التفسير بمكتبة الأزهر فوجدته مخطوطًا غير كامل، وجدت منه أربع مجلدات ضخام (الأول والثاني والثالث والرابع). والرابع ينتهي عند أواخر سورة الفرقان، وباقي الكتاب مفقود لم أعثر عليه بحال.
قرأت في هذا التفسير فوجدته يفسر القرآن بما جاء عن السلف، مع اختصاره للأسانيد، اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب، ولاحظت عليه أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٩٠) من سورة البقرة: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ الآية نجده يتوسع في الكلام على نعم وبئس ويفيض في ذلك (١).
كما أنه يعرض لشرح الكلمات اللغوية وأصولها وتصاريفها، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (١٧١) من سورة البقرة: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً﴾ الآية نجده يحلل كلمة ﴿يَنْعِقُ﴾ هو تحليلاً دقيقًا ويصرفها على وجوهها كلها (٢).
(١) ١/ ٨٣ - ٨٤
(٢) ١/ ١٢٣.
188
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (١٧٣) من السورة نفسها ﴿فَمَنِ اَضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلَا عَادٍ﴾ الآية نجده يحلل لفظ البغي ويتكلم عن أصل المادة بتوسع (١):
ومما لاحظته على هذا التفسير أنه يتوسع في الكلام عن الأحكام الفقهية عندما يتناول آية من آيات الأحكام، فتراه يذكر الأقوال والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع نواحيها، إلى درجة أنه يخرج عما يراد من الآية، انظر إليه عندما يعرض لقوله تعالى في الآية (١١) من سورة النساء ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية تجده يفيض في الكلام عما يفعل بتركة الميت بعد موته، ثم يذكر جملة الورثة والسهام المحددة، ومن فرضه الربع، ومن فرضه الثمن، والثلثان، والثلث، والسدس... وهكذا، ثم يعرض لنصيب الجد والجدة والجدات، ثم يقول بعد هذا: فصل في بساط الآية، وفيه يتكلم عن نظام الميراث عند الجاهلية وقبل مبعث الرسول (٢).
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٢٤) من سورة النساء ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ تجده قد توسع في نكاح المتعة وتعرض لأقوال العلماء، وذكر أدلتهم بتوسع ظاهر (٣).
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٣١) من سورة النساء ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ الآية تجده يقول: " (فصل) في أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر، مجموعة من الكتاب والسنة، مقرونة بالدليل والحجة".. ثم يسردها جميعًا ويذكر أدلتها
(١) ٢/ ١٢٥.
(٢) ١/ ٩١.
(٣) ٢/ ١٠٢ - ١٠٤.
189
على وجه التفصيل (١).
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٤٣) من سورة النساء ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ الآية تجده يعرض لأقوال السلف في معنى اللمس والملامسة... ثم يقول: واختلف الفقهاء في حكم الآية على خمسة مذاهب، ويتوسع على الخصوص في بيان مذهب الشافعي ويسرد أدلته، ويذكر تفصيل كيفية الملامسة عنده، كما يعرض لأقوال العلماء في التيمم ومذاهبهم وأدلتهم بتوسع ظاهر عندما يتكلم عن قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ (٢).
وهكذا يتطرق الكتاب إلى نواح علمية متعددة، في إكثار وتطويل يكاد يخرج به عن دائرة التفسير بالمأثور.
ثم إن هناك ناحية أخرى يمتاز بها هذا التفسير، هي التوسع إلى حد كبير في ذكر الإسرائيليات بدون أن يتعقب شيئًا من ذلك أو ينبه على ما فيه رغم استبعاده وغرابته، وقد قرأت فيه قصصًا إسرائيليًا نهاية في الغرابة.
ويظهر لنا أن الثعلبي كان مولعًا بالأخبار والقصص الى درجة كبيرة؛ بدليل أنه ألف كتابًا يشتمل على قصص الأنبياء، ولو أنك رجعت إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية [١٠]، من سورة الكهف: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ﴾ الآية. لوجدته يروي عن السدي ووهب وغيرهما كلامًا طويلًا في أسماء أصحاب الكهف، وعددهم، وسبب خروجهم إليه، ولوجدته يروي
(١) ٢/ ١١٠ - ١١٢.
(٢) ٢/ ١٢٥ - ١٣٦.
190
عن كعب الأحبار، ما جرى لهم مع الكلب حين تبعهم إلى الغار، ولعجبت حين تراه يروي أن النبي - ﷺ - طلب من ربه رؤية أصحاب الكهف فأجابه الله بأنه لن يراهم في دار الدنيا، وأمره بأن يبعث لهم أربعة من خيار أصحابه ليبلغوهم رسالته... إلى آخر القصة التي لا يكاد العقل يصدقها (١).
ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٩٤) من سورة الكهف أيضًا و ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية تجده قد أطال وذكر كلامًا لا يمكن أن يقبل بحال؛ لأنه أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة (٢).
ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى: في الآية (٢٧) من سورة مريم ﴿فَأَتتَ به قَومَهَا تَحمِلُه﴾ الآية تجده يروي عن السدي ووهب وغيرهما قصصًا كثيرًا، وأخبارًا في نهاية الغرابة والبعد (٣).
ثم إن الثعلبي لم يتحر الصحة في كل ما ينقل من تفاسير السلف، بل نجده -كما لاحظنا عليه وكما قال السيوطي في "الإتقان" (٤) - يكثر من الرواية عن السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين من الاغترار بالأحاديث الموضوعة في فضائل القرآن سورة سورة، فروى في نهاية كل سورة حديثًا في فضلها منسوبًا إلى أبي بن كعب، كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسنة الشيعة فسود بها كتابه دون أن يشير الى
(١) ٤/ ١٢١ - ١٢٥.
(٢) ٤/ ١٤٠ - ١٤٣.
(٣) ٤/ ١٤٧ - ١٤٩.
(٤) ٢/ ١٨٩.
191
وضعها واختلاقها.
وفي هذا ما يدل على أن الثعلبي لم يكن له باع في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها.
هذا.. وإن الثعلبي قد جر على نفسه وعلى تفسيره بسبب هذه الكثرة من الإسرائيليات، وعدم الدقة في اختيار الأحاديث، اللوم المرير والنقد اللاذع من بعض العلماء الذين لاحظوا هذا العيب على تفسيره، فقال ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير: (١) والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، وقال أيضًا في مجموع الفتاوى (٢): وقد سئل عن بعض كتب التفسير وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدًا لغيره وتفسيره وتفسير الواحدي البسيط والوسيط والوجيز فيها فوائد جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها. اهـ
ومن يقرأ تفسير الثعلبي يعلم أن ابن تيمية لم يتقول عليه، ولم يصفه إلا بما هو فيه.
وقال الكتاني في الرسالة المستطرفة (٣) عند الكلام عن الواحدي المفسر ولم يكن له ولا لشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما -وخصوصًا الثعلبي- أحاديث موضوعة وقصص باطلة اهـ.
والحق أن الثعلبي رجل قليل البضاعة في الحديث؛ بل ولا أكون
(١) ص ١٩.
(٢) ٢/ ١٩٣.
(٣) ص ٥٩.
192
قاسيًا عليه إذا قلت إنه لا يستطيع أن يميز الحديث الموضوع من غير الموضوع وإلا لما روى في تفسيره أحاديث الشيعة الموضوعة على علي، وأهل البيت، وغيرها من الأحاديث التي اشتهر وضعها، وحذر العلماء من روايتها.
والعجب أن الثعلبي بعد هذا كله يعيب كل كتب التفسير أو معظمها، حتى كتاب محمد بن جرير الطبري الذي شهد له خلق كثير. وليته إذ ادعى في مقدمة تفسيره أنه لم يعثر في كتب من تقدمه من المفسرين على كتاب جامع مهذب يعتمد، أخرج لنا كتابه خاليًا مما عاب عليه المفسرين... ليته فعل ذلك... إذًا لكان قد أراحنا وأراح الناس من هذا الخلط والخبط الذي لا يخلو منه موضع من كتابه (١).
أخذ الواحدي عن الثعلبي كثيرًا من الآثار المروية عن السلف في التفسير خصوصًا أقوال ابن عباس، وغيره كمجاهد وعبد الرحمن بن زيد، كما أخذ عنه أقوال الكلبي ومقاتل، والحسين بن الفضل وغيرهم، كما أخذ عنه بعض الإسرائيليات.
كما أنه ينقل قول الثعلبي في تفسير الآية وغالبا ما يذكره بعد قوله قال المفسرون.
ومما يثير العجب أنه مع عظم تقدير الواحدي لشيخه الثعلبي وإعجابه به، كما يظهر في كلامه السابق على الرغم من ذلك وعلى الرغم من كثرة ما نقل عنه فإنه لا يذكره إلى نادرًا.
من أمثلة نقله عن الثعلبي من كلام السلف قوله في تفسير قوله تعالى:
(١) انظر: "التفسير والمفسرون" ٣/ ٢٣٢ - ٢٣٤.
193
﴿ذَلِكَ الكتَابُ﴾ [البقرة: ٢] وروى عن ابن عباس أنه قال: معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أني أوحيه إليك.
وقال يمان بن رباب: ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل... (١).
ومثال للإسرائيليات التي انتقلت للبسيط من تفسير الثعلبي ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ الآية [البقرة: ٣٠] قال: قال المفسرون: وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء، وأسكن الجن الأرض، فغبروا دهرًا طويلًا في الأرض، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث إليهم جندًا من الملائكة يقال لهم الجن رأسهم إبليس، وهم خُزَّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة، فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن عن وجوهها إلى شعوب الجبال وجزائر البحور، وسكنوا الأرض، وكانوا أخف الملائكة عبادة، لأن أهل السماء الدنيا أخف عبادة من الذين فوقهم... الخ. ونقل مثل هذا طويلا بنصه عن الثعلبي (٢).
ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ١٨] روى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: يريد أن عن يمين العرش نهرًا من نور، مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل فيه كل سحر فيغتسل فيزداد نورًا إلى نوره وجمالًا إلى جماله، وعظمًا إلى عظمه، ثم ينتفض، فيخلق الله من كل نفضة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفًا البيت المعمور، وفي
(١) انظر: "البسيط" [البقرة: ٢]، الثعلبي ١/ ٣٩ ب.
(٢) انظر: "البسيط" [البقرة: ٣٠].
194
الكعبة سبعون ألفًا، لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وقد ورد بنصه في تفسير الثعلبي وكما ينقل الواحدي عن الثعلبي آثار السلف والإسرائيليات والقضايا التفسيرية، فإنه ينقلِ عنه مسائل لغوية أو نحوية، مثال ذلك في تفسير قوله تعال: ﴿وَمِمَّا رزَقنَاهُم يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] قال: "ومعنى الإنفاق في اللغة إخراج المال من اليد، ومن هذا يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه فخرج عن يد البائع، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، والنفق سرب له مخلص إلى مكان آخر يخرج منه، والنافقاء من جحرة اليربوع: هو الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى.... فيظهر أن الواحدي اعتمد في هذا التحليل للفظ "الإنفاق" على الثعلبي لتطابق عبارته مع الثعلبي (١).
ومثال آخر في جانب النحو واللغة: ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] قال الواحدي: ﴿وَعَشْرًا﴾ بلفظ التأنيث، وأراد الأيام، وإنما كان كذلك تغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعن في التاريخ وغيره، وذلك أن ابتداء الشهر يكون بالليل، فلما كانت الليالي الأوائل؛ غلبت لأن الأوائل أقوى من الثواني (٢). فهذا منقول من تفسير الثعلبي دون عزو.
ومن أمثلة ذلك في جانب الأحكام الفقهية: قول الواحدي في تفسير آيات الصيام: "والمرض الذي يبيح الإفطار هو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةَ في علته زيادةً لا يحتمله، والأصل فيه: أنه إذا أجهده الصوم أفطر".
(١) انظر: الثعلبي ١/ ٤٧ أ، ب.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ أ.
195
وحدُّ السَّفَرِ الذي يبيح الإفطار: ستة عشر فرسخا (١) فصاعدًا. والإفطار رخصة من الله للمسافر، فمَنْ أَفْطَرَ فبرخصة الله أخذ، ومن صام ففرضه أدى، على هذا عامة الفقهاء. فهذا النص منقول من تفسير الثعلبي دون عزو إليه، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا تحصى؛ لأن تفسير الثعلبي كالعمود الفقري وعمود الخيمة بالنسبة لتفسير البسيط.
ويمكن أن نسجل هنا مقارنة بين "الكشف والبيان" للثعلبي و"البسيط" للواحدي في النقاط الآتية:
١ - يعتبر تفسير الثعلبي من تفاسير الرواية المسندة، حيث يروي كثيرًا من الأحاديث والآثار والأخبار والأشعار بسنده، بينما لا نجد هذا في البسيط إلا قليلًا. وغالب ما فيه من المرويات مأخوذ من تفسير شيخه.
٢ - بسط الواحدي البحث في مجال اللغة والقراءات تدقيقًا وتحقيقًا ومناقشة وتوجيهًا، بينما نجد هذين الجانبين في تفسير الثعلبي على نحو مختصر، وكأن كتاب الواحدي استدراك على كتاب شيخه في هذين الجانبين.
٣ - أكثر الثعلبي في كتابه من الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد تقدم أنه ذكر الحديث الموضوع في فضائل السور، وهذا مما أخذ عليه، قال ابن الجوزي عن تفسير "الكشف والبيان": "ليس فيه ما يعاب به، إلى ما ضمنه من الأحاديث الواهية التي هي في الضعف متناهية،
(١) الفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، والميل: ستة آلاف ذراع، والذراع: أربعة وعشرون أصبعا معتدلة، أي: أن طول الفرسخ حوالي ٦ ك. ينظر: "المجموع شرح المهذب" ٤/ ١٩٠، و"القاموس" ص ٣٢٩، و"المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها في النظام المتري" ص ٩٠٤.
196
خصوصًا أوائل السور" (١).
ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: لقد أجمع أهل العلم بالحديث أنه روى طائفة من الأحاديث الموضوعة، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة، وأمثال ذلك، ولهذا يقال: "هو كحاطب ليل" (٢).
ويقول أيضا "والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع" (٣).
ويقول في موضع آخر: الثعلبي والواحدي وأمثالهما، هؤلاء من عادتهم يروون ما رواه غيرهم، وكثير من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف؟ ويروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر، لأن وظيفتهم النقل لما نُقل، أو حكاية أقوال الناس، وإن كان كثير من هذا وهذا باطلًا، وربما تكلموا على صحة بعض المنقولات وضعفها، ولكن لا يطردون هذا ولا يلتزمون (٤).
بينما نجد أن الواحدي لقلة الرواية في تفسيره هذا نسبة إلى تفسير شيخه قد تجاوز كثيرًا من المرويات السقيمة والإسرائيليات، ولم يعرج عليها، وإن كان لم يسلم منها، ومما يحمد له أنه لم يذكر حديث فضائل السور الموضوع في البسيط، لكنه ذكره في الوسيط.
(١) نقله عنه ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" ٤/ ٢٨٣، وينظر: "مقدمة التحقيق" لتفسير الثعلبي "الكشف والبيان" ١/ ٢٠٠.
(٢) "منهاج السنة النبوية" ٤/ ٤، وينظر أيضًا ٤/ ٨٢.
(٣) "مجموع الفتاوى" ١٣/ ٣٥٤
(٤) "منهاج السنة" ٤/ ٨٤.
197
٤ - بين الثعلبي رحمه الله في مقدمة تفسيره أسانيده إلى أئمة التفسير، الذين شهروا بالتفسير كابن عباس وابن مسعود ومجاهد (١).
بينما لم يذكر الواحدي هذه الأسانيد في مقدمة كتابه وإنما ذكر بعضًا منها مفرقًا في ثنايا كتابه.
٥ - ذكر الثعلبي في مقدمته أنه بنى كتابه على أربعة عشر أساسًا وعد منها: الحِكم والإشارات، يعني: التفسير الإشاري (٢)، وقد نقل شيئًا من ذلك في كتابه من كتاب شيخه أبي عبد الرحمن السلمي، الذي قال عنه الثعلبي: قرأته كله على مصنفه أبي عبد الرحمن السلمي، فأمر لي به (٣) كما أفاد من كتب أخرى في هذا الباب: كتفسير القرآن العظيم لسهل التستري (٤)، لكن الثعلبي لم يتابع شيخه السلمي فيما أخطأ فيه، وانتُقد بسببه، وصان تفسيره من التأويلات الرمزية التي تخالف اللغة العربية (٥). بينما لم يلتفت الواحدي إلى شيء من ذلك، وعرفنا موقفه من تفسير السلمي فيما تقدم.
(١) ينظر: مقدمة تفسير الثعلبي ١/ ٢٤٥ - ٣٢٧ تحقيق د. خالد العنزي.
(٢) وهو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة. انظر "التفسير والمفسرون" ٢/ ٣٥٢.
(٣) مقدمة "تفسير الثعلبي" ١/ ٣٣١ تحقيق: د. العنزي.
(٤) هو سهل بن عبد الله التستري، الصوفي الزاهد، صحب ذا النون المصري، له كلمات نافعة ومواعظ حسنة وقدم راسخ في الطريق كما قال الذهبي. توفي سنة ٢٨٣. ينظر: "حلية الأولياء" ١٠/ ١٨٩، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٣٣٠.
(٥) ينظر: الثعلبي ودراسة كتابه: "الكشف والبيان" ٢/ ٦١٦ ومقدمة التحقيق لتفسير الثعلبي ١/ ١٤٠ للدكتور العنزي.
198
ثانيًا: علم القراءات:
" الحجة للقراء السبعة" (١) لأبي علي الفارسي (٢):
وما ألف أبو علي كتاب الحجة للقراء السبعة، إلاَّ ليستدل ويحتج للقراءات وتوثيقها وتوجيهها، والتماس الدليل لقراءة كل قارئ من القراء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، إما بالاستناد إلى قاعدة مشهورة في العربية، أو بالتماس علة خفية بعيدة الإدراك يحاول اقتناصها، أو توليدها أو الاعتماد على القياس وحشد النظائر ومقارنة المثيل بالمثيل وهو ممَّا برع فيه أبو على الفارسي.
وكان أبو على الفارسي يسوق لكل أسلوب من أساليب احتجاجه الآيات القرآنية، والشعر الصالح للاحتجاج، والحديث النبوي، والأمثال
(١) اسم الكتاب "الحجة للقراء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد" طبع الكتاب بتحقيق: بدر الدين قهوجي، وبشير حويجاتي، ومراجعة: عبد العزيز رباح، وأحمد الدقاق، في دار المأمون بدمشق.
(٢) هو: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفارسي الفسوي، أبو علي، نحوي، صرفي، عالم بارع بالعربية والقراءات، ولد ببلدة فسا، وقدم بغداد، سمع الحديث، وبرع في علم النحو وانفرد به، وقصده الناس من الأقطار، وعلت منزلته في العربية، وقدم حلب سنة ٣٤١، فأقام عند سيف الدولة فأكرمه وأحسن نزله ثم رجع إلى فارس وصحب عضد الدولة ابن بويه، وتقدم عنده فعلمه النحو، وروى القراءة عرضًا عن أبي بكر بن مجاهد، وعرضًا عن الملك بن بكران، وانتهت إليه رئاسة النحو.
قال الذهبي: كان فيه اعتزال، توفى سنة ٣٧٧ في ربيع الأول.
من مصنفاته: "الحجة للقراء السبعة"، "التذكرة"، "التكملة والإيضاح".
ينظر: "تاريخ بغداد" ٧/ ٢٧٥ - ٢٧٦، "وفيات الأعيان" ١/ ١٦٣ - ١٦٤، "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٣٧٩.
199
العربية، ولغات العرب ولهجاتها، وأقوال أئمة العربية وعلى رأسهم سيبويه الذي انتثرت عبارات كتابه في حجته.
وطريقته في ذلك طريقة المتن والشرح، فهو يعرض أولًا نص ابن مجاهد في عرضه لاختلاف القراء في كل حرف من الحروف، مصرحًا باسمه أو مغفلًا له مكتفيًا بقوله: اختلفوا... ثم يعقبه بقول شيخه ابن السراج وذلك في القسم الذي شرع في تفسيره من الفاتحة وسورة البقرة. أو بكلامه هو بقوله: قال أبو علي.
ولعل أبرز ما يتميز به أسلوب أبي علي هو ظاهرة الاستطراد والانطلاق بعيدًا عن أصل الموضوع المطروق حتى يكاد ينسي أخره أوله، فهو ينتقل بالقارئ من الكلام على الحرف والخلاف فيه والاحتجاج له إلى تفسير الآية، فيغوص في الأعماق فيستخرج من كنوز المعاني ودرر الحقائق ما ينتزع إعجاب العلماء بسعة عقله ونفاذ فكره، أو يتناول الكلمة وما يتفرع عنها من معان وما تدل عليه من دلالات فيتناولها معنًى معنًى مبينًا له مع شواهده ثم يتجاوزه إلى الحديث عن الوجوه الإعرابية أو العلل الصرفية، ويناقش جميع ذلك ويحشد له الشواهد والأدلة، فيشبعه ولا يترك بعده زيادة لمستزيد، وهو أشبه ما يكون بالنبع الغزير المتدفق في الأرض المستوية، ينبثق فيشق دروبًا لنفسه في كل مكان قبل أن يأخذ مجراه.
ثم ذكر الواحدي صلته بكتب أبي علي الفارسي عمومًا في مقدمته حينما قال:... وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي عنه.. (١).
(١) مقدمة "البسيط" للمؤلف.
200
وذكر صلته بكتاب الحجة بصفة خاصة حينما قال: وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل الأمصار دون تسمية القراء، واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي، الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه.. (١).
ولقد اعتمد الواحدي اعتمادًا كبيرًا على كتاب "الحجة" في توجيه القراءات، ونقل عنه وأطال، ولعله اكتفى بتلك الإحالة التي ذكرها في المقدمة حين قال:.. واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي على الحسن بن أحمد الفارسي... ولهذا لم يعز له إلاَّ قليلًا مع أنه في أكثر المواضع ينقل كلام أبي علي بنصه، وقد يتصرف فيه تصرفًا يسيرًا.
على أنه مما ينبغي ذكره أن أبا علي لمَّا أطال في كتابه على هذا النسق جعل الكتاب صعب العبارة، لا يستطيع الإفادة منه إلا القليل. ذكر هذا تلميذه ابن جني حينما قال: "وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب "الحجة في قراءة السبعة" فأغمضه وأطال حتى منع كثيرًا -ممن يدعي العربية فضلا عن القَرَأة- منه، وأجفاهم عنه" (٢).
وبنقل الواحدي عن الحجة وإطالته في ذلك، وقع في كتابه شيء من الغموض وصعوبة العبارة، تلاحظ ذلك وأنت تقرأ في حجج القراءات عند الواحدي أو في بعض المباحث اللغوية والنحوية.
وأمثلة ما نقله عن "الحجة" كثيرة ففي كل موضع تكلم فيه عن
(١) المصدر السابق.
(٢) "المحتسب" ١/ ٢٣٦، وانظر مقدمة المحققين على كتاب "الحجة" ص ٢٦، طبعة دار المأمون.
201
القراءات نقل فيه عن أبي علي. من ذلك في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] ذكر القراءات فيها، ثم ذكر الاحتجاج لها، ونقل في ذلك عن الحجة بدون عزو قال: "قال محمد بن السري:
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم وما كان وقافًا بغير معصر
الملك الذي يملك الكثير من الأشياء ويشارك غيره من الناس بالحكم عليه في ملكه " (١) وأخذ بعد ذلك عن أبي علي بتصرف.
ومثال آخر في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيهِمءَأَنذَزتَهُم﴾ الآية [البقرة: ٦] نقل في الاحتجاج للقراءات في "أأنذرتهم" قريبًا من "عشر صفحات" (٢).
على أن أخذ الواحدي من "الحجة" لم يقتصر على الاحتجاج للقراءات، حيث إن أبا علي في "الحجة" يستقصي ويتتبع المسائل ويخرج عن مجال الاحتجاج للقراءات إلى بيان أصول بعض الكلمات، أو الوجه التفسيري للآية فنقل عنه الواحدي في ذلك كثيرًا.
ومن أمثلة ذلك في قوله تعالى: ﴿هُدًى للْمُتَّقِين﴾ [البقرة: ٢] قال: "وقال أناس من النحويين: إنه قد تُجْرى الأسماء التي ليست بمصادر مُجْرى المصادر، فيقولون: جلس جلسة، وركب ركبة، ويقولون: عجبت من دهنك لحيتك وينشدون:
وبعد عطائك المائةَ الرَّتاعا... فَيُجرى مُجْرى الإعطاء..... إلخ (٣).
فهذا -مع كلام بعده- نقله عن الحجة بتصرف يسير في العبارة. ونص
(١) انظر: "البسيط" تفسير الفاتحة [الآية: ٤]
(٢) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة [الآية: ٦].
(٣) "البسيط" عند تفسير الآية: [٢].
202
كلام أبي علي في "الحجة": ".. ويقويه أن ناسا من النحويين يزعمون أنه قد يجري الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: "عجبت من دهنك لحيتك.. الخ" (١).
ونقل عنه في موضع آخر مع عزو الكلام إليه فقال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَنُقَدِّسُ لَك﴾ [البقرة: ٣٠] قال: "قال أبو علي الفارسي: معنى نقدس لك: ننزهك عن السوء، فلا ننسبه إليك، و"اللام" فيه على حدها في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢] لأن المعنى تنزيهه، وليس المعنى أنه ينزه شيء من أجله... الخ" (٢).
ثالثًا: معاني القرآن:
١ - " معاني القرآن" (٣) للفراء أبي زكريا يحي بن زياد (٤):
(١) " الحجة" ١/ ١٨٢.
(٢) "البسيط" عند تفسير الآية: [٣٠].
(٣) ذكر ثعلب: كان السبب في إملاء كتاب الفراء في المعاني أن عُمَر بن بُكير كان من أصحابه، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفراء: إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولًا أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه فعلت.
فقال الفراء لأصحابه: أجتمعوا حتى أمل عليكم كتابًا في القرآن. هذا وقد أملى الفراء كتابه من حفظه في سنتين من رمضان ٢٠٢ إلى ٢٠٤.
وقد طبع بتحقيق الأستاذان محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي.
(٤) هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي، المعروف بالفراء الديلمي أبو زكريا، مولاهم الكوفي صاحب التصانيف سكن بغداد وأملى بها كتاب "معاني القرآن" وغير ذلك. ولد سنة (١٤٤) هـ.
قال ابن الأنباري: كان يقال للفراء أمير المؤمنين في النحو.
وقال ثعلب: لولا الفراء لما كانت عربية لأنه خلصها وضبطها، ولولا الفراء =
203
لقد ألف الفراء كتابه "معاني القرآن" وحشد فيه من المسائل النحوية والصرفية واللغوية، ومذاهب العرب وتوجيه القراءات وتفسير القرآن من وجهة عربية لإبراز مذهبه الكوفي في علوم العربية.
وقد أفاد الواحدي من كتاب "معاني القرآن" ونقل عنه كثيرًا إما بالعزو إليه فيقول: قال الفراء، ومن أمثلة ذلك تفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] عن معنى "ذلك" قال: قال الفراء:
وإنما يجوز "ذلك" بمعنى "هذا" لما مضى وقرب وقت تقضيه، أو تقضي ذكره، فأما الموجود الحاضر فلا يقال فيه "ذلك".... إلخ " (١).
وربما نقل عنه بالسند كما في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] قال: "أخبرني أبو سعيد بن أبي عمرو النيسابوري -رحمه الله- ثنا محمد بن يعقوب المعقلي ابنا محمد بن الجهم (٢) (٣)، عن الفراء قال: الاستواء في كلام العرب على جهتين، إحداهما: أن يستوي
= لسقطت العربية لأنه كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب. توفي رحمه الله سنة ٢٥٧ بطريق مكة عن عمر ثلاث وستين سنة.
من مصنفاته: "الحدود"، "معاني القرآن"، "الوقف والابتداء"، "المصادر".
ينظر ترجمته: "وفيات الأعيان" ٢/ ٣٠١ - ٣٥٤، "معجم الأدباء" ٢٠/ ٩ - ١٤، "أخبار النحويين البصريين" ص ٥١، "تذكرة الحفاظ" ١/ ٣٣٨.
(١) انظر: "البسيط" عند تفسير الآية [٢]، "معاني القرآن" ١/ ١٠.
(٢) هو: محمد بن الجهم السِّمرِّي، أبو عبد الله راوي كتاب "معاني القرآن" للفراء. ينظر ترجمته: "تاريخ بغداد" ٢/ ١٦١، "الإكمال" ٤/ ٥٢٩، "غاية النهاية في طبقات" ١/ ٣٢٧، "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ١٦٣، "تذكرة الحفاظ" ٢/ ٣١٤.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ١٤، "البسيط" عند الآية [٢٩].
204
الرجل وينتهي شبابه وقوته، ويستوي من اعوجاج... الخ" (١).
وقد ينقل عنه بدون عزو كما في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] قال: "وقوله: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ﴾ ينعطف على قوله: ﴿وَإِذ قُلتمُ يَامُوسَى﴾ [البقرة: ٥٥]، ﴿وَإِذ فَرَقْنَا﴾ [البقرة: ٥٠] والذكر مضمر فيها كأنه قال: "واذكروا إذ قتلتم"، ولهذا لم يأت لـ"إذ" بجواب. ومثله قوله: ﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صاَلِحًا﴾ [هود: ٦١] وليس شيء قبله تراه ناصبا لصالح، فعلم بذكر النبي، وبالرسل إليه أن فيه إضمار "أرسلنا". ومثله قوله: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنبياء: ٧٦]، ﴿وَذَا النُّونِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] وهذا يجرى على مثال ما قال في سورة "ص" ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا﴾ ﴿ص: ٤٥﴾ ثم ذكر الذين من بعدهم بغير "واذكر" لأن معناه متفق، فجاز ذلك..... " (٢).
ويتضح من هذه النصوص أنه ينقل عن الفراء في المسائل النحوية واللغوية والقضايا التفسيرية وغيرها.
٢ - " معاني القرآن" (٣) للزجاج (٤):
ذكر المؤلف صلته بـ"معاني القرآن" للزجاج في مقدمة البسيط في أثناء
(١) "معاني القرآن" ١/ ٢٥، "البسيط" الموضع السابق.
(٢) "البسيط" ص ١٠٧٧، والكلام في "معاني القرآن" للفراء مع اختلاف يسير في العبارة ١/ ٣٥.
(٣) طبع الكتاب بتحقيق د/ عبد الجليل شلبي، المطابع الأميرية، القاهرة، خرج منه مجلدان، ثم طبع كاملا في "عالم الكتب" بلبنان في خمسة أجزاء.
(٤) هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل. كان في أول حياته يحترف خراطة الزجاج فسمي الزجاج، عالم بالنحو واللغة ذو دين وفضل وحسن اعتقاد، أخذ العلم عن المبرد وثعلب وغيرهم، ومن أشهر تلامذته: أبو علي الفارسي والجوهري وغيرهم. =
205
كلامه عن شيخه سعيد بن محمد الحيري قال: "... وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج في "المعاني" روايته عن ابن مقسم (١) عنه وسمع بقراءتي الخلق الكثير.... " (٢).
منهج الزجاج في "معاني القرآن":
وطريقته أنه يحلل بعض ألفاظ الآية من الناحية الاشتقاقية ثم يذكر إعراب الآية ويناقش النحويين، ويورد قراءات اللغويين وهي قراءات شاذة غالبا، كما يورد القراءات المشهورة ويبين المعنى على كل، وقد يقف عن الحروف فيشرحها (٣).
وقد اعتمد الواحدي على كتاب "معاني القرآن" اعتمادًا كبيرًا، وأفاد منه كثيرًا، ولا يفسر آية إلا وينقل غالبا عن الزجاج فيها قائلًا: قال أبو إسحاق، أو قال الزجاج.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿رَبِّ العَالَمِينَ﴾
= ومن مصنفاته: "معاني القرآن"، "الاشتقاق"، "العروض"، "مختصر النحو"، "ما تكلمت به العرب على لفظ فعلت وأفعلت"، وغيرهما من المصنفات النافعة. ينظر: "تاريخ بغداد" ٦/ ٨٩ - ٩٣، "معجم الأدباء" ١/ ١٣٠ - ١٥١، و"الأنساب" ٦/ ٢٧٣، و"إنباه الرواة" ١/ ١٩٤ - ٢٠٠.
(١) ابن مقسم: محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مقسم العَطار أبو بكر البغدادي، إمام نحوي مقرئ له مؤلفات جليلة في التفسير ومعاني القرآن وله اختيار في القراءة تكلم فيها بعض العلماء توفي سنة ٣٥٤ وله ٨٩ سنة، انظر: "إنباه الرواة" ٣/ ١٠٠، و"معجم الأدباء" ١٨/ ١٥٠، و"غاية النهاية" ٣/ ١٢٣، و"لسان الميزان" ٥/ ١٣٠، و"طبقات المفسرين" للداوودي ٢/ ١٣١.
(٢) انظر: مقدمة "البسيط" ص ٤٢٤.
(٣) انظر مقدمة د/ شلبي على معاني القرآن.
206
[الفاتحة: ١] قال: "قال أبو إسحاق: وإنما لم يستعمل الواحد من لفظه، لأن "العالم" اسم لأشياء مختلفة، فإن جعل لواحد منها أسم من لفظه صار جمعا لأشياء متفقة" (١).
وفي سورة يونس في تفسير قوله تعال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية [يونس: ٢٣] قال: "قال أبو إسحاق متاع الحياة الدنيا يقرأ بالرفع والنصب فالرفع من جهتين.. الخ" (٢).
وربما نقل عنه بالسند كما في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء﴾ الآية [البقرة: ٢٩] فقال: "أقرأني سعيد بن محمد الحيري -رحمه الله- عن أبي الحسن بن مقسم وأبي علي الفارسي عن الزجاج قال: قال قوم في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء﴾ عمد وقصد إلى السماء، كما تقول فرغ الأمير من بلد كذا ثم استوى إلى بلد كذا، معناه: قصد بالاستواء إليه، قال: وقول ابن عباس: "ثم استوى إلى السماء" أي صعد، معناه: صعد أمره إلى السماء انتهى كلامه (٣).
وقد ينقل عنه ولا يعزو له، وهذا كثير، مثال ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] قال: ".. فإن قيل: فما أنكرت أن يكون جواب هل رجل في الدار؟
قيل: معن "لا رجل في الدار" عمهم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه وكذلك: "هل من رجل في الدار"؟ استفهام عن
(١) انظر: "البسيط" تفسير الفاتحة الآية [٢].
(٢) "البسيط" ٣/ ل ١١ ب "النسخة الأزهرية".
(٣) انظر: "البسيط" [البقرة: ٢٩]، وانظر كلام الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٧٤، ٧٥، والنص أقرب إلى ما في "تهذيب اللغة" ١٣/ ١٢٥.
207
الواحد وأكثر منه... الخ" (١). فهذا التساؤل وجوابه والكلام بعده وقبله أخذه عن "معاني القرآن" للزجاج (٢)، وهو يتصرف في كلام الزجاج حين ينقل عنه سواء كان بعزو أو بدون عزو.
ومما يلحظ من النصوص السابقة وغيرها بالتتبع نجده لا ينقل عن الزجاج القضايا النحوية واللغوية فقط بل ينقل عنه في القضايا التفسيرية وغيرها أيضًا.
رابعًا: اللغة:
١ - " تهذيب اللغة" (٣) لأبي منصور الأزهري (٤):
يعتبر "تهذيب اللغة" من أهم وأضخم المعاجم اللغوية، وقد تميز عما
(١) انظر: "البسيط" عند تفسير سورة البقرة الآية [٢].
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٣١، ٣٢.
(٣) طبع الكتاب محققًا أول مرة، من قبل جماعة مختارة من المحققين والمراجعين بالتعاون مع العلامة عبد السلام هارون، وصنع له فهرسًا يسر الانتفاع به، وصدر عن: الدار المصرية للتأليف والنشر، القاهرة ١٩٦٤ - ١٩٦٧ في ستة عشر مجلدًا. ثم قام الأستاذ رياض زكي قاسم بترتيبه ألفبائيًّا. وصدر عن دار المعرفة ٢٠٠١ في أربعة مجلدات.
(٤) هو: أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر، الهروي، العلامة، الشافعي، وشهرته الأزهري وهي نسبة إلى أزهر أحد أجداده، ولد سنة ٢٨٢ هـ، وكان رأسًا في اللغة والفقه، ثقة ثبتًا دينًا، وقع في الأسر عند عودته من الحج، وذلك في فتنة القرامطة، وأقام في الأسر حوالي عشرين عامًا، ثم تخلص ودخل بغداد، وقد استفاد من القوم الذين وقع في سهمهم، وكانوا في عامتهم أعرابًا بداة، وقد ألف كتابه التهذيب بعد بلوغه السبعين، ثم دخل بغداد وأخذ عن كبار شيوخها ثم عاد إلى هراة ليأخذ عن شيوخها.
توفي الأزهري سنة ٣٧٠ وعن عمر تسعين عامًا. =
208
سبقه بوفرة مادته اللغوية، وكثرة المصادر التي أفاد منها، فهو موثق المادة فصيحها؛ وقد صرح في مقدمته بأنه لم يودع كتابه إلى ما صح له سماعًا من العرب أو رواية عن ثقة أو حكاية عن خط ذي معرفة ثاقبة اقترنت إليها معرفته.
و"التهذيبُ" عُمدة لما ظهر بعده من المعجمات، فصاحب "لسان العرب" يقول: "لم أجد في كتب اللغة أجمل من "تهذيب اللغة" لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري... "، ويضيف في مكان آخر، في مقدمته: "وأنا مع ذلك لا أدّعي فيه دعوى فأقول شافهت أو سمعت، أو فعلت وصنعت، أو شددت أو رحلت، أو نقلت عن العرب العرباء أو حملت؛ فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهريّ وابن سِيدَه لقائل مقالًا، ولم يخليا فيه لأحد مجالًا، فإنّهما عيَّنا في كتابيهما عمّن رويا، وبرهنا عمّا حويا، ونشرا في خطيهما ما طويا. ولعمري لقد جمعا فأوعيا، وأتيا بالمقاصد ووفيا".
مصادر التهذيب:
استنفد الأزهري في "معجمه" علم من كتبوا قبله، ورحل إلى البادية سعيًا وراء المشافهة والسماع من أفواه العرب الخلّص، واستقصى في تتبّع ما حصّل من علوم العربية والاستشهاد بشواهد أشعارها المعروفة
= من مصنفاته: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"، "علل القراءات"، "الرد على الليث"، "تفسير إصلاح المنطق".
انظر: "معجم الأباء" ١٧/ ١٦٤ - ١٦٧، و"وفيات الأعيان" ٤/ ٣٣٤، و"نزهة الألباء في طبقاث الأدباء" ص (٢٣٧) و"سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٣١٥.
209
بفصاحتها، التي احتجّ بها أهل المعرفة. كما استفاد من إقامته سنوات طويلة في الأسر؛ فقد اختلط بأقوام عامتهم من هوازن، واختلط بهم أصرامٌ من تميم وأسد، ممّن نشؤوا في البادية "يتتبّعون مساقط الغيث أيام النُّجَع، ويرجعون إلى أعداد المياه، ويرعَون النَّعَم، ويعيشون بألبانها، ويتكلّمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يقع في منطقهم لحنٌ أو خطأ فاحش... ، وكنّا نتشتّى الدَّهْناء (١)، ونتربَّع الصّمّان (٢)، ونتقيّظ السِّتارَين (٣). واستفدتُ من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظًا جمّة ونوادر كثيرة.. ".
وفي مقدمة الأزهري ذكرٌ وافٍ لطبقات أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم في تصنيف تهذيبه، وهم خمس طبقات، من أبرزهم: أبو عمرو بن العلاء (٤)،
(١) الدَّهْناء: الأرض واسعة في بادية العرب، في ديار بني تميم، وقيل هي سبعة أجبل من الرمل، وقيل هي في بادية البصرة في ديار بني سعد. "وفيات الأعيان" ٤/ ٣٣٦.
(٢) الصّمّان: جبل أحمر ينقاد ثلاث ليال، وليس له ارتفاع، يجاور الدهناء، وقيل إنه قرب رمال عالج، وبينه وبين البصرة تسعة أيام. "وفيات الأعيان" ٤/ ٣٣٦.
(٣) السِّتاران تثنية ستار. وهما واديان في ديار بني سعد، يقال لهما: سورة. "وفيات الأعيان" ٤/ ٣٣٦، وقال ياقوت في "معجم البلدان" (ستار): "والستارات في ديار بني ربيعة: واديان يقال لهما السَّوْدَة، يقال لأحدهما الستار الأغبر وللآخر الستار الجابريّ، وفيهما عيون فَوَّارة تسقي نخيلًا كثيرة... ، وهي من الأحساء على ثلاثة أميال.. ".
(٤) هو أبو عمرو بن العلاء، بن عمار بن عبد الله المازني، النحوي المقرئ. اختُلف في اسمه على أحد وعشرين قولًا. مات سنة أربع -وقيل تسع- وخمسين ومئة. انظر: "إنباه الرواة" ٤/ ١٢٥، و"معجم الأدباء" ٣/ ٣٤٥، و"بغية الوعاة" ٢/ ٢٣١.
210
وخلف الأحمر (١)، والمفضّل الضَّبِّيّ (٢)، وأبو زيد الأنصاري (٣)، وأبو عمرو الشيباني (٤)، وأبو عبيدة معمر بن المثنى (٥)، والأصمعي (٦)، والكسائي (٧)، والنضر بن شميل (٨)، والفرّاء (٩)، وسيبويه (١٠)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (١١)، واللّحياني (١٢)، وعمرو بن أبي عمرو الشيباني (١٣)، وأبو حاتم
(١) هو أبو محرز خلَف بن حيّان المعروف بخلف الأحمر. "مات في حدود الثمانية ومائة" "بغية الوعاة" ١/ ٥٥٤.
(٢) هو أبو عبد الرحمن، المفضّل بن محمد الضَبَي. توفي نحو ١٧٨ هـ.
(٣) هو أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري. توفي سنة ٢١٤ هـ.
(٤) هو أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني. توفي سنة ٢٠٦ من خلافة المأمون، وقيل سنة ٢١٠ هـ "نزهة الألباء" ص ٩٦.
(٥) في سنة وفاته خلاف؛ فقد قال الصولي: توفي سنة ٢٠٧ هـ وقال مظفّر بن يحيى: توفي سنة ٢٠٩ هـ، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وقيل: توفي بالبصرة سنة ٢١٣هـ وله ثمان وتسعون سنة في خلافة المأمون "نزهة الألباء" ص ١١١.
(٦) هو أبو بكر عبد الملك بن قُرَيْب. توفي سنة ٢١٣ هـ وقيل سنة ٢١٧ هـ في خلافة المأمون. "نزهة الألباء" ص ١٢٣.
(٧) هو أبو الحسن علي بن حمزة. ستأتي ترجمته.
(٨) توفي النّضر سنة ثلاث -أو أربع- ومائتين في خلافة المأمون. "نزهة الألباء" ص ٨٨.
(٩) سبق ترجمته.
(١٠) هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، ستأتي ترجمته، توفي سنة ١٨٨هـ، وقيل ١٩٤هـ، والأول أشبه؛ لأنه مات قبل الكسائي. "نزهة الألباء" ص ٦٦.
(١١) ستأتي ترجمته.
(١٢) هو أبو الحسن علي بن المبارك، وقيل: ابن حازم. توفي سنة ٢٢٠ هـ "نزهة الألباء" ص ١٧٦، "بغية الوعاة" ٢/ ١٨٥، "نشأة النحو". محمد الطنطاوي ص ١٠٢.
(١٣) راية أبيه (أبي عمرو الشيباني). توفي عمرو سنة ٢٣١ هـ.
211
السجستانيّ (١)، وابن السِّكِّيت (٢)، وثعلب (٣)، والمبرّد (٤)، والزّجَّاج (٥).
وهو حين ينقل عمّن سبقه قد يصرّح باسم المرجع الذي نقل عنه وقد لا يصرّح لكن المادة الموثقة بأسانيدها، المعزوّة إلى القائل تغلب على مواده.
وينبغي، هنا، أن نشير إلى أن الأزهري حين ينقل عن كتاب "العين" فإنّما ينقل عنه بعبارة "قال الليث" لأنه كان يرى أن كتاب "العين" من صنيع الليث (٦)، فقد أملاه الخليل بن أحمد على الليث بعد تلقفه إيّاه عن فِيهِ، وهو منهج صدر عن شكّ سيطر على الأزهري، مفاده التجريح بالمعجمات التي سبقته وعاصرته، ولما لم يستطع مهاجمة الخليل نفسه تبنّى فكَرة نسبة "العين" إلى الليث ليستطيع تجريحه.
وهو على الرغم من موقفه الملتبس من الخليل، كثير الانتفاع من "العين"، فأثر منهج الخليل بادٍ في "تهذيب اللغة"، وكذلك الإفادة الكثيرة من
(١) هو أبو حاتم سهل بن محمد. توفي سنة ٢٥٠ هـ، وقيل سنة ٢٥٥ هـ "نزهة الألباء" (١٩١).
(٢) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السِّكِّيت. توفي سنة ٢٤٣ هـ، وقيل: ٢٤٤، وقيل: ٢٤٦ هـ. "نزهة الألباء" ١٧٩.
(٣) هو: أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني، أبو العباس ثعلب، شيخ اللغة العربية، إمام الكوفيين، حفظ كتب الفراء، ولازم ابن الأعرابي توفي سنة ٢٩١ هـ.
(٤) هو: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، ستأتي ترجمته.
(٥) سبق ترجمته في نفس هذه المقدمة.
(٦) هو الليث بن المظفّر، هكذا أسماء الأزهري. وقال في "بغية الوعاة" ٢/ ٢٧٠: الليث بن نصر بن يسار الخراسانيّ. وقال غيره: الليث بن رافع بن نصر بن يَسار. ولم تؤرخ وفاته.
212
مادة "العين" المروية أو المدوّنة، مباشرة، أو عن طريق "الجمهرة" لابن دريد.
منهج الأزهري في "تهذيب اللغة":
رتّب الأزهري مواد تهذيبه على مخارج الحروف، متبعًا منهج كتاب "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، وقد حاكاه في تقاليب الكلمة والأبنية.
ويصرّح في مقدمته بهذا المنهج وتلك المحاكاة بقوله: "ولم أرَ خلافًا بين اللغويين أن التأسيس المجمل في أول كتاب "العين"، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد، وأن ابن المظفر أكمل الكتاب عليه بعد تلقّفه إيّاه عن فيه. وعلمت أنه لا يتقدّم أحد الخليل فيما أسسّه ورسمه، فرأيت أن أحكيه بعينة لتتأمّله وتردّد فكرك فيه، وتستفيد منه ما بك الحاجةُ إليه، ثمّ أتبعه بما قاله بعض النحويين، ممّا يزيد في بيانه وإيضاحه".
والمنهج المذكور يتّضح في النظام الآتي:
١ - ترتيب الأبجدية العربية ترتيبًا صوتيًّا، يبدأ بأقصى مخارج الحروف في الحلق وأدخلها، وهو العين، ثم ما قرب مخرجه منها الأرفع فالأرفع، حتى يأتي على آخر الحروف، وهو الياء، وهذا انتظامها: ع ح هـ خ غ/ ق ك/ ج ش ض/ ص س ز/ ط د ت/ ظ ذ ث/ ر ل ن/ ف ب م/ وا ي.
٢ - ترتيب الأبنية ترتيبًا تصاعديًّا يبدأ بالثنائي فالثلاثي فالرباعي فالخماسي.
أ- أمّا الثنائي فتبدأ أبوابه من الحرف الأول وهو العين وما يليها، وهو الحاء، ثمّ العين مع الهاء، فالعين مع الخاء، حتى يأتي على آخر الحروف.
ب- يقلّب الثنائي، إن أمكنه قلبه؛ نحو: عق = قع.
213
ج- أبواب الثلاثي الصحيح. يبدأ بالعين مع الحاء وما يثلّثهما بترتيب الحروف، ثمّ العين مع الهاء، ثم مع الخاء والغين، حتى يأتي على آخر الحروف.
د- يقلِّب كلّ مادة ثلاثية بذكر الصور الست الممكنة في مكان واحد؛ نحو: هقم - همق - قهم - قمه - مهق - مقه.
ويشير إلى المستعمل منها والمهمل، فيقول في تقاليب هقم: "مستعملات"، ويقول في تقاليب هكد: هكد - كهد - كده - دهك: مستعملة. أهمل الليث هكد.
ويقول في هكس: استُعمل من وجوهه: سَهَك. ويقول في: هكز "اهمله الليث".
هـ- ثم أبواب الثلاثي المعتلّ، وهو ما فيه حرفان صحيحان وحرف علّة واحد. وهي تجري على النظام السابق، مع إلحاق المهموز بالمعتل بالألف.
و- اللفيف، فمن لفيف حرف الهاء: هاه - أوه - هيه - إيه - هيأ - هوأ - هأي - وهوه - يهيأ - وهي - أيه - هوى - هوي.
ز- الرباعي، فالخماسي. يشار هنا إلى أن الأزهري رتّب الرباعي على ابوابه، ولم يفعل ذلك في الخماسي.
ح- أدرج المعتل في آخر الكتاب (١).
ولقد ذكر الواحدي صلته بكتاب تهذيب اللغة، حيث كان الأزهري من شيوخ العروضي أحد شيوخ الواحدي.
(١) ينظر: "تهذيب اللغة" طبعة دار المعرفة، بتحقيق د. رياض زكي قاسم.
214
يقول الواحدي في مقدمة كتابه "البسيط" عن شيخه العروضي: "... وأدرك المشايخ الكبار وقرأ عليهم وروى عنهم، كأبي منصور الأزهري روى عنه كتاب "التهذيب" وغيره من الكتب... " (١). ثم يقول: "... وقرأت عليه الكثير من الدواوين وكتب اللغة... " (٢) ولا بد أن يكون كتاب "التهذيب" في طليعة تلك الكتب.
لقد أفاد الواحدي من كتاب "تهذيب اللغة" كثيرًا، ويعتبر مصدرًا هامًا له في مجال اللغة واشتقاق الكلمات، حيث إن شرح الكلمات القرآنية وبيان أصولها واشتقاقها وما فيها من غريب يأخذ حيزًا كبيرًا في تفسير الواحدي يبدأ به كل آية، وقد اعتمد في أكثر ذلك على كتاب "تهذيب اللغة" وله ثلاث طرق في إفادته من الكتاب:
الطريقة الأولى: أن ينقل بالسند عن طريق أبي الفضل العروضي مثال ذلك أنه قال -أثناء تفسير لفظ الجلالة "الله"-: "أخبرني أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله العروضي-رحمه الله- قال: أبنا أبو منصور أحمد بن محمد الأزهري، أبنا أبو الفضل المنذري قال: سألت أبا الهيثم خالد بن يزيد الرازي عن اشتقاق اسم "الله" في اللغة، فقال "الله" أصله "إلاه" قال جل ذكره: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾ [المؤمنون: ٩١]... الخ (٣)).
وكلام أبي الهيثم قد ورد في "التهذيب" ضمن كلام طويل مع اختلاف
(١) انظر: مقدمة "البسيط" ص ٤١٨.
(٢) انظر مقدمة "البسيط" ص ٤١٩.
(٣) انظر: "البسيط" للمؤلف في تفسير الفاتحة.
215
يسير في العبارة. قال الأزهري: "وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه سأله عن اشتقاق اسم الله في اللغة فقال: "... " (١).
وقد أخذ الواحدي عن الأزهري من هذا الطريق في مواضع من كتابه فعند تفسير لفظ "الناس" وبيان أصلها في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآية [البقرة: ٨]، قال: "فقد أقرأني العروضي قال: أقرأني الأزهري، قال أخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه سأل عن "الناس" ما أصله، قال أصله "أناس".. الخ" (٢).
الطريقة الثانية: أن ينقل عن الأزهري بدون سند ويعزو إليه، وهذا أكثر من الطريقة الأولى، قال عند تفسير "المرض" في قوله: ﴿فِى قُلُوبِهِم مرضٌ﴾ الآية [البقرة: ١٠]، قال: "وقال الأزهري: أخبرني المنذري عن بعض أصحابه قال: المرض: إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، قال: والمرض الظلمة وأنشد.. الخ".
ومثال آخر عن تفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدنى أَلَأ تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣] قال - ناقلًا كلام الأزهري دفاعا عن الشافعي-: "قال الأزهري وهذا يدل على أن الشافعي لم يخطئ من جهة اللغة، لأن الكسائي ثقة مأمون، قال: والمعروف من كلام العرب عال الرجل يعول إذا جار ومال، وأعال إذا كثر عياله" (٣).
وبالطريقة الثالثة: أن يفيد منه بدون عزو، وهذه أكثر الطرق، وقل أن تجد في تفسير "البسيط" كلامًا في اللغة إلى وقد أفاد الواحدي من
(١) "تهذيب اللغة" ٦/ ٤٢٣.
(٢) انظر: "البسيط" ٣/ ١٩٤ [البقرة: ٨]، و"التهذيب" مادة: (أنس) ١٣/ ٨٨.
(٣) "البسيط" ل ٢٢٨ من المخطوطة الأزهرية، و"التهذيب" مادة: (عال) ٣/ ١٩٤.
216
"التهذيب" إما بنصه أو بمعناه، ولو تتبعت هذا الجزء المحقق لأدركت ذلك، وأوضح مثال على ذلك مقدمة الكتاب فقد نقل الواحدي فيها كلامًا بنصه عن مقدمة "تهذيب اللغة" بدون عزو قال في المقدمة: "والله تعالى ذكره أنزل كتابه على قوم عرب أولي بيان فاضل وفهم بارع، أنزله جل ذكره بلسانهم، وصيغة كلامهم الذي نشئوا عليه وجبلوا على النطق به، فتدربوا به يعرفون وجوه خطابه ويفهمون فنون نظامه... إلخ" (١)، وهذا الكلام بنصه في مقدمة "تهذيب اللغة" (٢). ومثال آخر عند تفسيره "مالك" في قوله تعالى: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] قال: "ويقال: ما تمالك فلان أن فعل كذا، أي: لم يستطع أن يضبط نفسه وقال:
فلا تَمالُكَ عن أرض لها عَمَدُوا
وملاك الأمر ما يضبط به الأمر، يقال: "القلب ملاك الجسد... " (٣) فهذا الكلام نقله عن "التهذيب" مع التصرف اليسير في العبارة. وربما نقل عن الأزهريِ ذاكرًا شيوخ الأزهري ولم يذكره هو، قال في تفسير قوله تعالى: ﴿هُدًى لّلِمُتقِينَ﴾ [البقرة: ٢] "الحراني عن ابن السكيت يقال: اتقاه بحقه يتقيه، وتقاه يتقيه وأنشد عن الأصمعي.. " (٤)، ونص الكلام في التهذيب: "وأخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال.. ثم ذكره.. " (٥).
(١) انظر: مقدمة البسيط، وفروق النص بعد المقارنة مع "التهذيب".
(٢) انظر: مقدمة "تهذيب اللغة" ١/ ٤.
(٣) "البسيط" ١/ ٥٠٩، وانظر "التهذيب" (ملك) ١٠/ ٢٧١.
(٤) "البسيط" عند تفسير الآية ﴿هدى للمتقين﴾.
(٥) "تهذيب اللغة" "تقى" ٩/ ٢٥٧.
217
وبهذه الأمثلة يتضح مدى إفادة الواحدي من كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري.
القسم الثاني من المصادر: المصادر الثانوية.
وهي أقل من الأولى في اعتماد المؤلف عليها.
١ - " الكتاب" (١) لسيبويه (٢):
لقد ألف سيبويه كتابه في علم النحو ومسائله ومقاييسه وعلله، وهو لا نظير له في بابه، وقد اعتمد المؤلف عليه ونقل منه مسائل في النحو أو الصرف، وتارة ينقل بواسطته مثل "تفسير الثعلبي"، و"معاني القرآن وإعرابه"، أو كتاب "الحجة" لأبي على الفارسي، أو "تهذيب اللغة".
(١) علم على اسم كتاب سيبويه في النحو، قال السيرافي: وكان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علمًا عند النحويين، فكان يقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب، فيعلم أنه كتاب سيبويه، ولأهميته في بابه كان أحد النحاة يختمه كل خمسة عشر يومًا. وطبع الكتاب عدة طبعات أشهرها طبعة مكتبة الخانجي بالقاهرة الكتاب فى أربعة مجلدات والخامس فهارس، بتحقيق الأستاذ: عبد السلام هارون.
(٢) أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر، الفارسي، ثم البصري إمام النحو وحجة العرب، أخذ النحو والأدب عن الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش وعيسى بن عمر، وورد بغداد وناظر بها الكسائي بحضور سعيد الأخفش والفراء، وتعصبوا عليه، ثم وصله يحيى بعشرة ألف، فسار إلى بلاد فارس، فاتفق موته بشيراز فيما قيل قيل: عاش اثنتين وثلاثين سنة، وقيل أربعين سنة توفي رحمه الله سنة ١٨٠هـ على الأصح.
ينظر: "المعارف" لابن قتيبة ص ٢٣٧، "مراتب النحويين" لأبي الطيب ص ٦٥، "تاريخ بغداد" ١٢/ ١٩٥، "نزهة الألباء" لابن الأنباري ص ٨١ - ٨٢، "سير أعلام النبلاء" ٨/ ٣٥١.
218
وعند عرضه لأقوال سيبويه تارة يذكر قوله وتارة يحكي مذهبه، ومن أمثلة ذلك عند قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ [إبراهيم: ١٠] بَيّن مذهب سيبويه في زيادة (من) فقال: قال أبو عبيدة: (من) زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب.
وعند قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [إبراهيم: ١٨] ذكر مذهب سيبويه في رفع (مثلُ) فقال: اختلفوا في الرفع للمثل، فقال الزجاج: هو مرفوع على معنى: وفيما يتلى عليكم، وهذا مذهب سيبويه.
وعند قوله تعالى: ﴿حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] قال: وقال سيبويه: المسنون المصوَّر على صورة ومثال، من سُنّة الوَجْه، وهي صورته. فهذا القول لم أجده في الكتاب، وورد بنصه في تفسير الثعلبي (٢/ ١٤٨ أ).
وعند قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠] قال: قال الخليل وسيبويه: أجمعون توكيد بعد توكيد. وقد ورد هذا الكلام بنصه في "معاني القرآن وإعرابه".
وعند قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١] قال: قال سيبويه: معنا سبحان الله: براءة الله من السوء. وقد ورد كلامه هذا بنصه في "الكتاب" وفي "تهذيب اللغة"، فيحتمل أنه نقله من "التهذيب"؛ لأنه من مصادره الرئيسية.
ومن أمثلة نقله بواسطة:
١ - قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)﴾ [الشعراء: ١٩٨، ١٩٩] قال الواحدي: "قال أبو علي الفارسي: أعجم صفة، كأحمر؛ لأنه قد وُصف به في النكرة.. والذي قلنا
219
من أن الأعجمين جمع أعجمي هو قول سيبويه؛ وقد نص عليه... فال سيبويه في الباب المترجم: هذا بابٌ من الجمع بالواو والنون، وتكسير الاسم. سألت الخليل عن قولهم: الأَشْعَروُن؛ فقال: إنما أَلحقوا الواو والنون وحذفوا ياء الإضافة كما كَسَّروا فقالوا: الأشاعر، والأشاعث، والمَسَامِعة، فلما كَسَّروا مِسْمَعًا والأشعث حين أرادوا معنى بني مِسْمَع وبني الأشعث، أَلحقوا الواو والنون، فكذلك الأعجمون... انتهت الحكاية عن أبي علي. "الإغفال فيما أغفله الزجاج" ٢/ ٢١٣.
٢ - قول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: ٢٥] قال الواحدي: "وقال النحاس: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً﴾ ليس بوقف؛ لأنه لم يأت بجواب (إذا) وجواب (إذا) على قول الخليل وسيبويه: ﴿أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ أي: خرجتم.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: ٣٦] تقديره عنده: قنطوا. والقول ما قال النحاس". قول سيبويه ذكره النحاس، "القطع والائتناف" ٢/ ٥٣٢.
٣ - قول الله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢)﴾ [القصص: ٨٢ - ٨٢] قال الواحدي: "قال سيبويه في هذه الكلمة: سألت عنها الخليل فزعم أنها: وَيْ، مفصولة من كأن، وأن القوم تنبهوا، فقالوا: وَيْ، متندمين على ما سلف منهم، وكل من تندّم أو ندم فإظهار ندامته أن يقول: وَيْ ". "الكتاب" ٢/ ١٥٤، بمعناه. وذكره بنصه الزجاج ٤/ ١٥٦.
220
٢ - كتب الكسائي (١):
نقل الواحدي عن الكسائي جملة من الآراء والاختيارات اللغوية والنحوية، وغالبها نقلت -فيما يبدو- بواسطة بعض ما تقدم من المصادر، كتهذيب اللغة، وتفسير الثعلبي، وبعض النصوص ليست فيها، ولعلها من كثاب "معاني القرآن" للكسائي (٢)، وهو من المفقودات، وهو من روايات شيخه الثعلبي كما صرح به في تفسيره (٣).
٣ - " المصادر" للفراء (٤):
" المصادر" للفراء من الكتب المفقودة، وقد صرح الواحدي -رحمه الله- عدة مرات بالنقل عنه، ويلاحظ أن معظم النقولات عن هذا الكتاب هي في أبنية الكلمات وأصولها واشتقاقها، وقد وردت إحالات كثيرة إلى الفراء لم أقف عليها في المعاني، وأغلب الظن أنها من هذا الكتاب لِمَا بين هذه النصوص من التشابه، ومن أمثلة ما نقله: قول الواحدي: والقِصَاص مصدر؛ لأنه فعال من المفاعلة.
(١) هو: أبو الحسن علي بن أحمد بن حمزة بن بهمن بن فيروز الأسدي الكوفي أحد القراء السبعة وكان إمامًا في النحو واللغة والقراءات. روى عن أبي بكر بن عباس وحمزة الزيات وغيرهم، أخذ عنه القراء أبي عبيد والفراء وغيرهما له مصنفات منها "معاني القرآن"، و"مختصر النحو"، و"كتاب القراءات" توفىِ سنة ١٨٩ بالري. ينظر: "وفيات الأعيان" ٣/ ٢٩٥، "الفهرست" ص ٩٧، "تاريخ بغداد" ١١/ ٤٠٣.
(٢) ذكر هذا الكتاب: القفطي في "إنباه الرواة" ٢/ ٢٥٧ والذهبي في "سير أعلام النبلاء" ٩/ ١٣٣.
(٣) تفسير الثعلبي ١/ ٣٣٨ - ٣٣٩.
(٤) سبق ترجمته.
221
قال الفراء في كتاب المصادر: قاصَصته قَصَصًا، وأَقْصَصْتُه: إذا أقدته من أخيه إِقْصَاصًا، ويقال: قَصَصْتُ أثره قُصًّا وقَصًّا، وقَصَصْتُ عليه الحديثَ قُصًّا، عند قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٧٩].
وعند قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ [النحل: ٥] قال: وقال الفراء في المصادر: يقال للرجل دَفَيْت فأنت تدفأ دَفْأ ساكنة الفاء مفتوحة الدال، ودِفاءً بالكسر والمد، وزاد غيرُه دَفاءًة ودَفاءً.
وعند قوله تعالى: ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ [النحل: ١٤] قال: وقال الفراء في المصادر: ما كان طريّا ولقد طري يطرأ طراءً ممدود وطراوةً، كما يقال: شقي يشقى شقاءً وشقاوةً.
وعند قوله تعالى: ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ٧٨] قال: وقال الفراء في المصادر: أغسق الليل إغساقًا وغسق غسوقًا.
٤ - " مجاز القرآن" (١) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (٢):
(١) طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور فؤاد سزكين في مجلدين، تحت إشراف مؤسسة الرسالة.
(٢) هو العلامة البحر، أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمي، مولاهم، البصري، النحوي، صاحب التصانيف، ولد سنة ١١٠ هـ، في الليلة التي توفي فيها الحسن البصري.
روى عن: هشام بن عروة، ورؤبة بن العجاج، وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم، وروى عنه: علي بن المديني، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو عثمان المازني، وغيرهم. وتذكر كتب التراجم أنه من الخوارج توفي سنة ٢٠٩ هـ. من مصنفاته: "معاني القرآن"، "نقائص جرير والفرزدق"، "مقاتل الفرسان"، "أخبار قضاة البصرة".
222
ألف أبو عبيدة هذا الكتاب في تفسير القرآن، ويعد أول كتاب مطبوع من كتب غريب القرآن (١)، وله أسماء متعددة (٢)، ويعد أكثر كتب الغريب استشهادًا بالشعر (٣)، وقد فسر غريبَ القرآن باللغة مقتصرًا عليها في الغالب (٤) ولم يخضع أبو عبيدة في مجازه لأي من المدرستين البصرية والكوفية ولم يتقيد بتلك القيود التي كانت تضعها تلك المدرستان لفهم النصوص العربية.
ويجدر الإشارة هنا أن معنى المجاز عند أبي عبيدة يختلف كل الاختلاف عن المعنى الذي حدده علماء البلاغة، فالمجاز عند أبي عبيدة عبارة عن الطريق التي يسلكها القرآن في تعبيراته، وهذا المعنى أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدده علماء البلاغة (٥).
وقد نقل الواحدي -رحمه الله- عن أبي عبيدة من مجازه دون الإشارة إلى الكتاب، واكتفى بقوله: قال أبو عبيدة، أما المجالات التي نقل عنها
(١) يقول الدكتور: مساعد الطيار في "التفسير اللغوي" ص ٣٣٤: بل لا يبعد أن يكون أول كتاب للغويين يتعلق بتفسير القرآن نظرًا للحملة الاستنكارية التي قامت عليه، مما يدل على أنه بدع في التأليف في هذا المجال.
(٢) منها: "غريب القرآن"، و"معاني القرآن"، و"إعراب القرآن"، وقد عدت هذه الأسماء كتبًا مختلفة والظاهر أنها أوصاف لهذا الكتاب، وأشهر أسمائه: "مجاز القرآن"، ولم يسمه أبو عبيدة بذلك لكنه اللفظ الذي يكثر دورانه في كتابه. ينظر: "التفسير اللغوي" ص ٣٣٥.
(٣) بلغت شواهده ٩٥٢ ينظر: ترقيم المحقق للشواهد.
(٤) وهذا أحد أهم أسباب انتقاد العلماء له، ووقوعه في الخطأ. ينظر: "التفسير اللغوي" ص ٣٤٧.
(٥) انظر: مقدمة "مجاز القرآن"، لفؤاد سزكين ١/ ٩ وما بعدها.
223
فمتنوعة؛ إذ لم يقتصر على اللغة، بل شملت -كذلك- التفسير والصرف والشواهد الشعرية وغيرها، ومن أمثلة ذلك:
عند قوله تعالى: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ [إبراهيم: ٩] نقل عنه تفسير الآية، فقال: وقال أبو عبيدة: مجاز هذا مجاز المَثَل، ومعناه: كفوا عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به، قال: ويقال ردّ يده في فمه، أي: أمسك ولم يجب.
وعند قوله تعالى: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥] نقل عنه شاهدًا شعريًّا على أن جَنَّبْتُه وجَنَبْتُه واحد، فقال: وأنشد أبو عبيدة لأُميَة بن الأَسْكَر:
وتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقًا عليه وتَجْنُبُه قلائِصنا الصِّعابا
وعند قوله تعالى: ﴿مُهْطِعِينَ﴾ [إبراهيم: ٤٣] نقل عنه معنى الغريب، فقال: وأما تفسير الإهطاع فقال أبو عبيدة: هو الإسراع.
وعند قوله تعالى: ﴿فًتزلَّ قَدَم بغَدَ ثبُوتِهَا﴾ [النحل: ٩٤] نقل عنه معنًى بلاغيًّا، فقال: قال أبو عبيدة: وزليل القدم مثل لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في وَرْطَة بعد سلامة.
وعند قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧] نقل عنه قضية صرفية، فقال: وقال أبو عبيدة: ضَيْق تخفيف ضَيِّق: مثل مَيِّت، يقال: أمر ضَيْق وضَيّق.
وقد ينقل عن أبي عبيدة بواسطة ومثاله.
قول الله تعالى: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [القصص: ٣٢] قال الواحدي: "قال أبو علي: قال
224
أبو عبيدة: جناحا الرجل: يداه". "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٤، بنصه، وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٤: ﴿جَنَاحَكَ﴾ أي: يدك.
وقد ينسب الواحدي القول لأبي عبيدة، وهو غير موجود في المجاز، مثاله:
قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧].
قال الواحدي: "قال أبو عبيدة: الأوثان: كل ما كان منحوتًا من خشب أو حجر، والصنم ما كان من ذهب أو فضة أو نحاس".
٥ - " معاني القرآن" (١) للأخفش (٢):
يعتبر كتاب "معاني القرآن، من أوائل الكتب المؤلفة في بيان معاني
(١) طبع الكتاب بتحقيق الدكتور/ فائز فارس في مجلدين، وبتحقيق عبد الأمير الورد في مجلدين. وبتحقيق هدى قراعة في مجلدين.
(٢) هو: أبو الحسن، سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، البلخي، المعروف بالأخفش، نحوي، لغوي، عروضي، روى عن هشام بن عروة، والكلبي، وعمرو بن عبيد، وأخذ عن الخليل، ولزم سيبويه حتى برع وكان من أسنان سيبويه، بل أكبر.
قال أبو حاتم السجستاني: كان الأخفش قدريًّا رجل سوء، وكتابه في معاني القرآن صويلح، وفيه أشياء في القدر. توفي سنة ٢١٥ هـ.
من مصنفاته: كتاب "الأوسط في النحو"، "معاني القرآن"، "الاشتقاق"، "العروض"، "المقاييس في النحو".
ينظر: "مراتب النحويين" ص ١٠٦، "أخبار النحويين البصريين" ص ٥٠ - ٥١، "إنباه الرواة" ٢/ ٣٦، "وفيات الأعيان" ٢/ ٣٨٠، "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٢٠٦، "معجم الأدباء" ١/ ٨٦٨.
225
القرآن (١)، لكنه قصره في الغالب على النحو مبرزًا مذهبه البصري، وليس فيه من المعاني إلا النزر اليسير (٢)، ولعل السر في ذلك أنه أفرد المعاني في كاب آخر في "غريب القرآن" (٣)، ويعتبر الأخفش من العلماء الذين اهتموا بالنحو دون اللغة (٤)، ولذلك أخذ عنه الواحدي كثيرًا من مسائل النحو، أحيانًا يكون النقل مباشرة وتارة يكون بواسطة.
مثال النقل مباشرة:
تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قال: وقال الأخفش: الخِطْء: الإثم وهو ما أصابه متعمدًا والخطأ غير المتعمد. ويقال من هذا: أخطأ يُخْطِئُ.
قال الله تعالى: ﴿وَلَيسَ عَلَيكم جُنَاحٌ فِيمَآ أَخطَأتُم بِهِء وَلكن مَّا تَعَمَّدَت قُلوبُكم﴾ [الأحزاب: ٥] واسم الفاعل من هذا: مخطئ، فأمّا خطيئة فاسم الفاعل منه: خاطئٌ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل ﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقة: ٣٧] (٥).
(١) يدل لذلك: ما ورد عنه أنه ألف كتابه تلبية لطلب الكسائي ثم جعله الكسائي إمامًا وعمل عليه كتابًا في المعاني، وعمل الفراء كتابه فى المعانى عليهما. ينظر: "إنباه الرواة" ٢/ ٣٧ و"إشارة التعيين" ص ١٣٢.
(٢) يؤكد ذلك ذكره لبعض الأبواب النحوية عند بعض الآيات كباب الإضافة ١/ ٣٩ و"باب اسم الفاعل" ١/ ٤٤ و"باب إضافة أسماء الزمان إلى الفعل" ١/ ٤٥.
(٣) اعتمد الثعلبي على هذا الكتاب وذكر ذلك فى مقدمة "تفسيره".
(٤) ينظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص ٧٣.
(٥) قال أبو حاتم كما في "تهذيب اللغة" ٩/ ٢٠: ولم يكن عالمًا بكلام العرب، وكان عالمًا بقياس النحو. وقد ورد ما يدل على علمه باللغة كما في "طبقات النحويين" ص ٧٤ لكنه في باب النحو أبصر.
226
نقل عنه في النحو: عند قوله تعالى ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦] فقال: واختلفوا في وجه انتصاب الكذب؛ فقال الأخفش: جعل (ما تصف) اسمًا للفعل؛ كأنه قال: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب. ورد بنصه في معانيه.
ونقل عنه في "الغريب": عند قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ٥٩] قال: قال الأخفش: المُبْصرةُ: البَيِّنة؛ كما تقول الموضِحَة والُمبَيِّنَة. ورد بنصه في معانيه.
ومن أمثلة النقل بواسطة:
قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤)﴾ [الفرقان: ٧٤] قال الواحدي: "وحكى أبو علي الفارسي، عن الأخفش قال: الإمام هاهنا جمع: آمّ فاعل من: أمَّ يُجمع على: فِعَال، نحو: صَاحب، وصِحَاب".
قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [العنكبوت: ٥٨] قال الواحدي: "قال الأخفش: قرأ الأعمش: ﴿لَنُثوِيَنَّهم مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا﴾ قال: ولا يعجبني ذلك؛ لأنك لا تقول: أثويته الدار" لم أجده عند الأخفش في "المعاني"، لكن ذكر أبو علي أن أبا الحسن قال: قرأ الأعمش. "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٠.
قول الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩] قال الواحدي: "وقال أبو إسحاق: المعنى: فاسأل عنه خبيرًا. وهو مذهب الأخفش، وجماعة جعلوا الباء، بمعنى عن، كقوله: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾
227
[المعارج: ١]. لم أجده في كتابه "المعاني" ٢/ ٦٤٢، عند هذه الآية. ونسبه له النحاس، "القطع والائتناف" ٢/ ٤٨٦.
٦ - كتب أبي عبيد القاسم بن سلام (ت ٢٢٤) (١):
لأبي عبيد كتب كثيرة في اللغة والقراءات وفي فنون أخرى من العلم، وقد أفاد الواحدي من كتبه، فمن ذلك: كتاب "الناسخ والمنسوخ في كتاب الله العزيز" (٢)، حيث نقل منه الواحدي في مواضع من تفسيره، يعزو أحيانًا، ويغفل أخرى.
وأما في اللغة فالغالب أنه ينقل أقواله عن طريق تهذيب اللغة للأزهري، وأما توجيه القراءة فقد يكون من كتابه الذي ألفه في القراءات، وهو مفقود (٣).
٧ - " تأويل مشكل القرآن" (٤) لعبد الله بن مسلم بن قتيبة (٥):
(١) هو الإمام الحافظ المجتهد، ذو الفنون، أبو عبيد، القاسم بن سلام بن عبد الله، ولد سنة ١٥٠هـ، أخذ العلم عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي وغيرهم، وقرأ القرآن على الكسائي، وإسماعيل بن جعفر، وشجاع بن أبي نصر، صنف التصانيف المؤنقة التي سارت بها الركبان. توفي رحمه الله سنة ٢٢٢ هـ بمكة.
من مصنفاته: "غريب المصنف"، "الأمثال السائرة"، "الناسخ والمنسوخ"، "القراءات"، و"الأيمان والنذور".
ينظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٤٩٠، "معجم المؤلفين" ٢/ ٦٤٢.
(٢) طبع بتحقيق محمد المديفر في مجلد.
(٣) ذكر هذا الكتاب الداودي في "طبقات المفسرين" ٢/ ٣٦.
(٤) قامت دار التراث بطبعه، وحققه السيد أحمد صقر.
(٥) العلامة الكبير، ذو الفنون، أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، الكاتب، صاحب التصانيف، نزل بغداد وجمع وبعد صيته، وولي قضاء =
228
تكلم ابن قتيبة على السبب الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب، فقال ص (١٧): وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون، ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا: ﴿مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول؛ فحرفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله؛ ثم قضوا عليه بالتناقض، والاستحالة في اللحن، وفساد النظم، والاختلاف. وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمرة والحدَثَ الغِرَّ، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور...
فأحببت أن انضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيّرة، والبراهين البينة، وأكشف للناس ما يلبسون، فألفتُ هذا الكتاب جامعًا لتأويل مشكل القرآن؛ مستنبطًا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملًا ما أعلم فيه مقالًا لإمام مطلع على لغات العرب؛ لأري المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل، ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير، إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته، وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وزدت في الألفاظ ونقصت، وقدمت وأخرت،
= دينور، ولد سنة ٢١٣ هـ في أواخر خلافة المأمون.
قال الخطيب البغدادي: كان ثقة دينًا فاضلًا. توفي رحمه الله سنة ٢٧٦ هـ من مصنفاته: "غريب القرآن"، "أدب الكاتب"، "عيون الأخبار"، "طبقات الشعراء"، "المعارف"، "جامع الفقه".
ينظر ترجمته: "طبقات النحويين" ص (١١٦)، "تاريخ بغداد" ١٠/ ١٧٠، "إنباه الرواة" ٢/ ١٤٣، "وفيات الأعيان" ٣/ ٤٢، "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٢٩٦.
229
وضربت لذلك الأمثال والأشكال حتى يستوي في فهمه السامعون.
ثم فسر معنى المتشابه والمشكل.
وأصل التشابه أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر والمعنيان مختلفان... ومنه يقال: اشتبه عليّ الأمر؛ إذا أشبه غيره فلم تكد تفرق بينهما. وشبهت علي إذ لبَّست الحق بالباطل.
ثم يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره (١).
وكتاب "تأويل مشكل القرآن" كتاب فريد تحدث فيه عن موقف علماء الكلام من أهل الحديث وما تحدثوا عنهم به من شتى التهم والمثالب؛ وعرض بالنقد لما ذهب إليه النظام من اعتراضه على أبي بكر وعمر وعلي، وطعنه على ابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة. ونقد كذلك ثمامة بن الأشرس، ومحمد بن الجهم البرمكي، والجاحظ، وأبا الهذيل العلاف، وغيرهم؛ وعرض لأهل الرأي، وأبان عن منابذتهم للكتاب والسنة، وأدار الجزء الأكبر من كتابه على الأحاديث التي ادعي عليها التناقض والاختلاف ومخالفة القرآن؛ والأحاديث التي زعموا أن النظر يدفعها، وحجة العقل تدمغها؛ فكشف عن معانيها التي صرفهم عن فقهها الهوى الجموح، ولفتهم عن وجه الحق فيها إلحاد الضمائر والقلوب والعقول (٢).
٨ - " تفسير غريب القرآن" (٣). وهو أيضًا لابن قتيبة:
قال ابن قتيبة في مقدمة "الغريب": نفتتح كتابنا هذا بذكر أسمائه
(١) انظر: مقدمة "تأويل مشكل القرآن" ص ٧٧ - ٧٨.
(٢) انظر: مقدمة "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٤ - ٢٥.
(٣) طبع الكتاب بتحقيق السيد أحمد صقر.
230
الحسنى وصفاته العلى؛ فنخبر بتأويلهما واشتقاقهما، ونتبع ذلك ألفاظًا كثر تردادها في الكتاب لم نر بعض السور أولى بها من بعض، ثم نبتدئ في تفسير غريب القرآن دون تأويل مشكله؛ إذ كنا قد أفردنا للمشكل كتابًا جامعًا كافيًا بحمد الله.
وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا أن نختصر ونكمل، وأن نوضح ونجمل؛ وألا نستشهد على اللفظ المبتذل، ولا نكثر الدلالة على الحرف المستعمل، وألا نحشو كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد.
فإنا لو فعلنا ذلك في نقل الحديث لاحتجنا أن نأتي بتفسير السلف، رحمة الله عليهم، ولو أتينا بتلك الألفاظ لكان كتابنا كسائر الكتب التي ألفها نقلة الحديث.. (١).
ولقد اعتمد الواحدي في كتابه على ابن قتيبة دون أن يصرح بكتبه التي نقل عنها.
وقد ظهر أن أغلب النقولات كانت من كتابيه: "تفسير غريب القرآن"، و"تأويل مشكل القرآن"، وكان النقل من الأول أكثر، ويتميز النقل من المشكل بالإطالة مع التصرف والاختصار وأحيانًا بنصه، في حين ينقل عن الغريب كلمات يسيرة معظمها في "الغريب" - على اسمه- وقد ينقل عنه بعض الردود والتعليلات. ومن أمثلة ذلك:
عند قوله تعالى: ﴿مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] قال: وقال ابن قتيبة: المسنون المتغير الرائحة. نقله عن الغريب بنصه.
وعند قوله تعالى: ﴿وَقَضَينَآ إِليهِ﴾ [الحجر: ٦٦] قال: وقال ابن
(١) انظر: مقدمة "غريب القرآن" ص ٣.
231
قتيبة: أي أخبرناه. نقله عن الغريب بلفظه.
وعند قوله تعالى: ﴿لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: ٧٩] نقل عنه تعليل تسمية الطريق إمامًا، فقال: وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريد. نقله عن الغريب بنصه.
وعند قوله تعالى: ﴿إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: ٤٧] نقل عنه رده على أبي عبيدة في قوله: "يريد بشرًا ذا رِئَةٍ" فقال: قال ابن قتيبة: "ولست أدري ما الذي اضطره إلى هذا التفسير المُسْتَكْرَه، وقد سبق التفسير من السلف بما لا استكراه فيه، قال مجاهد في قوله: ﴿إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ أي: مخدوعًا؛ لأن السحر حيلة وخديعة". نقله عن الغريب.
وعند قوله تعالى: ﴿سُجَّدًا للهِ﴾ [النحل: ٤٨] نقل في معنى السجود نقلًا طويلًا عن "المشكل" مع التصرف والاختصار، فقال: وشرح ابن قتيبة هذا شرحًا شافيًا فقال: أصل السجود التّطَأْطُؤ والميل، يقال: سجد البعير واسجد إذا طأطأ رأسَه لِيُرْكَب، وسجد النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، ثم قد يُستعارُ السجودُ فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذل، ومن الأمثال المبتذلة: اسْجُدْ للقرد في زمانه، يراد اخضع للئيم في دولته، ولا يُراد معنى سجود الصلاة، والشمس والظل خَلقان مُسخَّران لأَنْ يعَاقِبَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه بغير فصْلٍ، فالظلُّ في أول النهار قبل طلوع الشمس يَعُمُّ الأرضَ، كما تَعُمُّها ظلمةُ الليل، ثم تطلُع الشمسُ فتَعُمُّ الأرضَ إلى بما سترته الشُّخُوصُ، فإذا سَتَرَ الشخصُ شيئًا عاد الظلُ، فرجوعُ الظلِّ بعد أن كان شمسًا ودورانُه من جانب إلى جانب هو سُجُودُه؛ لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتَّسخير، وهو في ذلك يميل، والميل سجود، وكذلك قوله: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦] أي: يستسلِمَان لله بالتسخير.
232
وعند قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠] قال: وقال ابن قتيبة: "أي إمامًا يَقْتَدِي به الناس؛ لأنه ومن اتبعه أُمَّة، فَسُمِّي أُمَّة؛ لأنه سبب الاجتماع"، هذا وجه قول من قال: أُمَّةً: معلمًا للخير، ومن قال: أُمَّة: أي مؤمنًا وحده؛ "فلأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون مِثْلُه في أُمَّة، ومن هذا يقال: فلان أُمَّةٌ وحْدَه، أي: هو يقوم مقام أمة". فهذان نقلان اقتبسهما عن المشكل بنصه.
٩ - كتب المبرد (ت ٢٨٥ هـ) (١):
للمبرد مؤلفات كثيرة تربو على الخمسين (٢)، معظمها في الأدب واللغة والنحو والقرآن، وقد نسب الواحدي إلى المبرد أقوالًا في اللغة خاصة لم أقف عليها في كتبه المطبوعة (٣).
وتعتبر أقوال المبرد وآراؤه أحد المصادر الهامة لتفسير الواحدي وهي في اغلب المواضع يتم نقلها عن طريق مصادره السابقة كـ"الحجة" و "سر صناعة الإعراب"، وفي القليل ينقل عن كتب المبرد مباشرة خصوصًا "المقتضب" ففي تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوَأ اوَّلَ كاَفِر به﴾ [البقرة: ٤١]
(١) هو: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد كان على قدر كبير من العلم وغزارة الأدب وكثرة الحفظ، له كتب من أشهرها "المقتضب" في النحو، و"الكامل" في الأدب، مات سنة ٢٨٦ هـ. انظر ترجمته في "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي ص ١٠١، و"تاريخ بغداد" ٣/ ٣٨٠، و"نزهة الألباء" ص ١٦٤ و"إنباه الرواة" ٣/ ٢٤١.
(٢) انظر: مقدمة كتاب: "الكامل" للمبرد ١/ ١٤.
(٣) منها: "الكامل"، و"المقتضب"، و"ما اتفق لفظه واختلف معناه"، و"التعازي والمراثي".
233
عن "أول" قال: ".. وقال المبرد في كتاب "المقتضب" أول: يكون على ضربين: يكون اسما، ويكون نعتا موصولا به "من كذا".. الخ".
وكتاب "معاني القرآن" (١)، وهو كتاب لم يصل إلينا، وقد وقفنا على نص واحد طويل نقله بواسطة التهذيب، ومن أمثلة ذلك:
عند قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨] قال: وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها عند العرب.
وعند قوله تعالى: ﴿خَشيَةَ الإنفَاقِ﴾ [الإسراء: ١٠٠] قال: قال المبرد: المعروف في الإنفاق أنه إخراج المال عن اليد، فإن كان قد روي في اللغة معنى الإعدام فهو كما قال أبو عبيدة، والا فمعنى الكلام في الآية: خشية أن يستفرغكم الإنفاق ويجحف بكم، فيكون الكلام من باب حذف المضاف على تقدير: خشية ضرر الإنفاق وما أشبهه.
وعند قوله تعالى: ﴿جِئنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ [الإسراء: ١٠٤] قال: وقال المبرد: الأكثر عند العرب أن اللفيف إنما يقال للمختلطين من كل شكل، وكل شيء خلطته بشيء فقد لففته، ومنه قيل لففتَ الجيوشَ إذا ضربت بعضها ببعض، والتفت الزحوف.
وقد يكون النقل من كتابي "المقتضب" و"الكامل"، مثاله:
قوله الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧، ٢٨] قال الواحدي: "قال المبرد: قولهم: يا فل أقبل، ليس بترخيم فلان؛ ولو كان
(١) ذكر المترجمون له هذا الكتاب في "مؤلفاته". انظر: "إنباه الرواة" ٣/ ٢٥١، "طبقات المفسرين" للداودي ٢/ ٢٧١.
234
كذلك قيل: يا فلا أقبل. ومما يزيده وضوحًا قولهم للأنثى: يا فلة أقبلي. قال: ولكنها كلمة على حدة. قال: وقد تستعمل في غير النداء، كقوله:
في لَجَّةٍ أمْسكْ فلانًا عن فُلِ
"المقتضب" ٤/ ٢٣٧، ولم أجد قول المبرد عند الأزهري.
٢ - قول الله تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] قال الواحدي: "قال المبرد: وهذا قول أبي زيد في هذه الآية قال: أعناقهم: جماعاتهم". "المقتضب" ٤/ ١٩٩، ونسبه لأبي زيد الأنصاري. ولم أجده في "تهذيب اللغة".
٣ - قول الله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: ١١] قال الواحدي: "قال المبرد: فلان يقص أثر الجيش أي: يتبعه متعرفًا". "الكامل" للمبرد ٢/ ١٠١٨.
١٠ - " نظم القرآن" (١) لأبي علي الجرجاني (٢):
أفاد الواحدي من كتاب "نظم القرآن" ونقل عنه كثيرًا، خصوصًا عند
(١) كتاب: "نظم القرآن" مفقود، وهو يقع في مجلدين -كما ذكر السهمي- والظاهر أنه كان معروفًا لدى العلماء كالعلم، وقد قام مكي بتأليف كتاب للرد عليه -في أربعة أجزاء- سماه: "انتخاب نظم القرآن للجرجاني وإصلاح غلطه"، وقد ذكر خبر كتاب مكي هذا القفطي في ترجمة مكي، وذكره الزركشي في "البرهان" ونقل عنه بعض النصوص. انظر: "تاريخ جرجان" للسهمي ص ١٨٧، "إنباه الرواة" ٣/ ٣١٦، "البرهان" ٢/ ٩٢.
(٢) الجرجانيون الذين كُنُّوا بأبي علي، وذكر أنهم ألفوا في "نظم القرآن" آثنان: الأول: هو أبو علي، الحسن بن علي بن نصر الطوسىِ الجرجاني، الإمام الحافظ المجوِّد، سمع محمد بن يحيى وأحمد بن الأزهر، وروى عنه إسحاق بن محمد =
235
الحديث عن نظم الآيات ونقل عنه مسائل في اللغة والنحو، ومن أمثلة ذلك:
عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
= الكيساني، وابن سلمة القطان، له تصانيف حسان، ذكر الداودي أن له كتاب "نظم القرآن"، توفي سنة ٣٠٨هـ، وقيل: ٣١٢ هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٤/ ٢٨٧، "طبقات الحفاظ" ٣/ ٧٨٧، "لسان الميزان" ٢/ ٢٣٢، "طبقات المفسرين" للداوودي ١/ ١٤١.
والثاني: هو أبو علي، الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، قال السهمي: "كان مسكنه بجرجان بباب الخندق... ، له من التصانيف عدة؛ منها في "نظم القرآن" مجلدان، وكان رحمه الله من أهل السنة، روى عن العباس بن يحيى العقيلي، وروى عنه أبو النصر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي".
انظر: "تاريخ جرجان" للسهمي ص (١٨٧)، "الأنساب" ٢/ ٤٠، "مقدمة تفسير الثعلبي" ١/ ١٠ ب.
والراجح أن الذي كان ينقل عنه الواحدي هو الثاني؛ لأن الثعلبي ذكر في مقدمة تفسيره أن من مصادره: كتاب "النظم"، لنفس الرجل، قال: قرأ علينا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب بلفظه، قال: قرأت على أبي النصر محمد بن محمد بن يوسف بـ"طوس"، قال: قرأت على أبي علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، وأغلب الظن أن الواحدي استفاد من هذا المصدر عن طريق شيخه الثعلبي.
ومما يؤكد أنه هو صاحب النظم الوارد في "البسيط"، أن ابن القيم أورد بعض النقولات في كتابه: "الروح" ٢/ ٥٤٧ - ٥٦٠ ونسبها للجرجاني، وقد صرح في ص ٥٥٩ أنه الحسن بن يحيى الجرجاني، وأسلوب هذه النقولات يتفق مع ما ينقله الواحدي عن صاحب "النظم"، بل إن الكلام الذي نقله ابن القيم عنه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] ورد بنصه في "البسيط". انظر: "الروح" ٢/ ٥٤٧، "البسيط"، تح: الفايز ٣/ ٩١٠.
236
بِسُورَةٍ} [البقرة: ٢٣] قال: ".. وقال أبو علي الجرجاني: نظم الآية: "فأتوا بسورة من مثله" من دون الله "وادعوا شهداءكم" أي من مثل القرآن من غير الله... قال: ومثل هذا قوله: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. ونظمه: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من دون الله وادعوا من استطعتم من الناس".
وقال في سورة "يونس" في تفسير قوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ١٠] "قال صاحب النظم: وأن هاهنا زائدة".
وفي تفسير سورة الدخان: ﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدخان: ١، ٢] "وقال صاحب النظم: لولا أن قوله: ﴿إِنَّا أَنزَلنَهُ﴾ هو صفة للقرآن الذي أقسم به وأخبر عنه، لاحتمل أن يكون جوابا للقسم، ولكن ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه".
التوفيق بين الآيات المتشابهات وإزالة الإشكال: عند قوله تعالى ﴿إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] وفق بين هذه الآية وآية الشعراء: ﴿إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾ [الشعراء: ٢٠٨]، قال: قال صاحب النظم: والفرق بينهما أن دخول الواو يقلب حال ما بعدها إلى الابتداء، وخروجها منه يدل على أن ما بعدها في موضع حال، اعتبارًا بقولك: ما أهلكنا من قرية إلا ظالمًا أهلها، فيكون نصبًا على الحال، فإذا دخلت الواو قلت: إلا وأهلها ظالمون، فقلبت الواو الحالَ إلى أن جعلتها مبتدأة، فانقلبت رفعًا عن النصب، وهذا فرق من حيث اللفظ، والمعنى واحد أثبتَّ الواو أو حذفتَها.
إيراد المسائل النحوية: عند قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الحجر: ١٢] قال: واختلفوا في المُكنّى في قوله: ﴿نسْلُكُهُ﴾،
237
فذكر أقوالًا مأثورة ثم قال: قال صاحب النظم: الهاء كناية عن الاستهزاء ودلَّ عليه الفعل؛ كقولهم: من كذب كان شرًّا له، والفعل يدل على المصدر؛ كقوله: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧] أي: الشكر، فأضمره لدلالة الفعل عليه.
نقل معنى "الغريب": عند قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ﴾ [الحجر: ٦٦] قال: وقال صاحب النظم: أي: فرغنا منه؛ كقوله: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ﴾ [يونس: ٧١] وقد مرّ.
إزالة الإشكال النحوي عن الآية وبيان معناها: عند قوله تعالى: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾ [الحجر: ٩٠] قال: قال صاحب "النظم" المعنى: إني أنذرتكم ما أنزلناه على المقتسمين، وتكون الكاف زائدة.
اختيار الوقف وتوجيهه: عند قوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٥] بين أن الوقف إما على ﴿خَلَقَهَا﴾، وإما على ﴿خَلَقَهَا لَكُمْ﴾، ثم ذكر اختيار صاحب "النظم"، فقال: قال صاحب النظم: أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: ﴿خَلَقَهَا﴾؛ لقوله في النسق على ما قبلها: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ [النحل: ٦].
نقل اللطائف البلاغية: عند قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [النحل: ٣٣] قال: قال صاحب النظم: إنهم لا ينتظرون ذلك على الحقيقة؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالله، كيف ينتظرون أمره؟! ولن لمّا كان امتناعهم من الدخول في الإيمان موجبًا عليهم إتيان أمر الله والملائكة بما قدّر عليهم من العذاب، وكان عاقبة أمرهم إلى ذلك، أضيف ذلك إليهم على المجاز والسعة، وجعل مجيء ذلك انتظارًا منهم له؛ فكأنه -عز وجل- قال: هل يكون مدة إقامتهم على كفرهم إلى مقدار إيقاعي بهم وإنزالي العذاب
238
عليهم؟ وهذا كما قلنا في لام العاقبة في مواضع، لمّا كانت العاقبة تؤدي إلى ذلك جُعل سببًا له وإن لم يكن في الحقيقة كذلك؛ كقوله: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّ﴾ [القصص: ٨] وقد مرّ. ثم عقب الواحدي بقوله: وهذا الذي ذكره صاحب النظم وجه جيد في هذه الآية لم يذكره في نظيرها في سورة البقرة والأنعام.
توجيه حروف المعاني: عند قوله تعالى: ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ [النحل: ٧١] قال: وقال صاحب النظم: معنى الفاء في قوله: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ حتى؛ لأن التأويل: ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا﴾ بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك، فقوله: ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا﴾ صفة لما تَقَدَّمه من الخبر لا جوابٌ له؛ ولو كان جوابًا له لكان قد أوجب أن يكون المولى والعبيد في ذلك سواء، وهو -عز وجل- إنما أراد أنهم لا يستوون في الملك. وهذا قول جيد انفرد به صاحب النظم، وانظر الأقوال الأخرى التي ذكرتها في التعليق على الآية في التحقيق.
ذكر المناسبات وتوجيه المعنى: عند قوله تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ [النحل: ٥٩] قال: وقال صاحب النظم: قوله: ﴿أَيُمْسِكُهُ﴾ متصل في النظم بقوله: ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل: ٥٨] والكظيم بمعنى الكاظم، ومعنى الكظم: ستر الشيء في القلب وترك إظهاره، ومنه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ [آل عمران ١٣٤] والتأويل: وهو كاظم ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ أي: أن هذا المعنى في قلبه من شدة الغَمّ وهو يكظمه ولا يظهره.
239
١١ - كتب أبي بكر ابن الأنباري:
تعدّ كتب أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (١) من المصادر الرئيسة، وقد أفاد الواحدي منه كثيرا فكانت أقوال ابن الأنباري في "معاني القرآن" واللغة والنحو مصدرًا رئيسا من أهم مصادره في تفسيره، وكلامه ينال إعجاب الواحدي فيشيد به، أخذ عنه في المسائل النحوية واللغوية والقضايا التفسيرية وخصوصا فيما يتعلق بمشكل القرآن أو النكات والفوائد. نقل عنه كثيرا ولم أجد مما نسبه إليه في كتب ابن الأنباري التي وصلت إلينا سوى
نتف يسيرة في كتاب "الزاهر" (٢). ولابن الأنباري كتاب في "المشكل في معاني القرآن" وصل فيه إلى ﴿طه﴾ أملاه في سنين كثيرة، و"رسالة المشكل" رفى فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني، ولم يصلا إلينا (٣)، ولعل السبب في عدم وصول مثل هذه الكتب ما ذكره الخطيب البغدادي: من أنه كان يملي، ولم يكن يكتب (٤).
ويترجح عندي أن الواحدي اعتمد على هذين الكتابين فيما أفاده عن ابن الأنباري، لأن أغلب ما نقل عنه يتعلق بمشكل القرآن، ولتصريحه بالرد
(١) هو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري، أبو بكر البغدادي إمام ثقة لغوي نحوي مفسر أديب حافظ برز في فنون من العلم وهو من أعلم الناس باللغة والأدب، ومن أحفظ نحاة الكوفة، توفى سنة ٣٢٧ هـ.
انظر: "إشارة التعيين" ص ٣٣٥، و"البلغة" ص ٢١٢، و"بغية الوعاة" ١/ ٢١٢، و"طبقات المفسرين" للداودي ٢/ ٢٢٧.
(٢) كتاب "الزاهر" يذكر فيه الأقوال المأثورة والأمثال ويشرحها. طبع الكتاب في مجلدين بتحقيق د/ حاتم صالح الضامن.
(٣) انظر: "تاريخ بغداد" ٣/ ١٨٤، و"معجم الأدباء" ١٨/ ٣١٢.
(٤) انظر: "تاريخ بغداد" ٣/ ١٨٤.
240
على ابن قتيبة أحيانًا نقلًا عن ابن الأنباري.
والكلام الذي نستطيع أن نرجعه إلى ابن الأنباري، هو ما صرح الواحدي فيه بنقله عنه. ويغلب على ظني أن هناك مواضع كثيرة نقل فيها عنه بدون عزو، لشبه العبارة بكلام ابن الأنباري، ولأنه اتضح لي أن الواحدي ينقل عن مصادره بعزو، وأحيانا بدون عزو.
وأذكر بعض الأمثلة لأخذ الواحدي عن ابن الأنباري ففي تفسير "البسملة" قال: "قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار سألت أبا العباس، لِمَ جمع بين الرحمن الرحيم (١)؟.
فقال: لأن الرحمن عبراني، فأتى معه الرحيم العربي واحتج بقول جرير.... الخ". وفي تفسير قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ اَلَّذِى اَستَوقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] قال: "وقال ابن الأنباري: "الذي" في هذه الآية واحد في معنى الجمع، وليس على ما ذكره ابن قتيبة، لأن "الذي" في البيت الذي احتج به جمع واحده "اللذ"، و"الذي" في الآية واحد في اللفظ لا واحد له، ولكن المراد منه الجمع".
ومثال آخر يوضح مدى إفادة الواحدي من ابن الأنباري ما ذكر في
تفسير قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الآية [يونس: ٤] قال: "فإن قيل: لم أفرد المؤمنين بالقسط دون غيرهم وهو يجزي الكافر -أيضا- بالقسط؟
قال ابن الأنباري: "لو جمع الله الصنفين بالقسط لم يتبين ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم، ففصلهم عن المؤمنين، ليبين ما يجزيهم به
(١) هكذا في جميع النسخ، ولعل الأولى "الرحمن والرحيم" كما في "الزاهر" ١/ ٥٣.
241
مما هو عدل غير جور؛ فلهذا خص المؤمنين بالقسط وأفرد الكافرين بخبر يرجع إلى تأويله بزيادة الإبانة.. " (١).
١٢ - أبو القاسم الزجاجي (٢):
أخذ الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي خصوصًا في المسائل اللغوية والنحوية ونقل عنه مقاطع طويلة، ولم أستطع أن أهتدي إلى الكتاب الذي نقل عنه بعد أن اطلعت على جميع كتبه المطبوعة، فلعل الواحدي أخذ عن مصدر مفقود أو عن كتاب غير كتب الزجاجي يعتني بذكر أقواله، أو عن طريق أحد شيوخه مشافهة.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره عن معنى الإيمان في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] قال: "... على أن أبا القاسم الزجاجي شرح معنى الإيمان بما هو أظهر مما ذكره الأزهري، وهو انه قال: معنى التصديق في الإيمان لا يعرف من طريق اللغة إلا بالاعتبار والنظر، لأن حقيقته ليست للتصديق، ألا ترى أنك إذا صدقت إنسانًا فيما يخبرك به، لا تقول آمنت به؟ لكنك إذا نظرت في موضوع هذه الكلمة وصرفته حق التصريف ظهر لك من باطنها معنًى يرجع إلى التصديق... إلخ ".
(١) "البسيط" ٣/ ٣ أ "النسخة الأزهرية".
(٢) أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي، النهاوندي، لقب الزجاجي، نسبة إلى شيخه إبراهيم بن السري أبي إسحاق لملازمته له، نحوي، لغوي أصله في نهاوند، وولد بها، وسكن بغداد، أخذ عن الزجاج وابن دريد ونفطويه وأبي الحسن الأخفش، سكن طبرية ودمشق وتوفي بها سنة ٣٣٧ هـ.
ومن تصانيفه: "الجمل الكبرى في النحو"، "اللامات في اللغة"، "شرح مقدمة أدب الكاتب"، وكتاب "اشتقاق أسماء الله"، وغيرها.
ينظر: "إنباه الرواة" ٢/ ١٦٠، و"وفيات الأعيان" ٣/ ١٣٦، "بغية الوعاة" ٢/ ٧٧.
242
ومثال آخر في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ الآية [البقرة: ٤٦] قال: "وذكر أبو القاسم الزجاجي حقيقة الظن في اللغة، فقال: هو اعتقاد الشيء على طريقة التقدير والحدس فإن أصاب فيما ظن صار يقينا، وإن لم يصب كان مخطئا في تقديره، ولهذا ذكر أهل اللغة هذه اللفظة في باب الأضداد.. الخ" (١).
١٣ - كتب أبي جعفر النحاس (٢):
أفاد الواحدي في "البسيط" من كتب أبي جعفر النحاس في مواضع متعددة خصوصًا من كتاب "القطع والائتناف" (٣)، وهو "الوقف والابتداء"، ومن أمثلة ذلك.
١ - قول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: ٢٥] قال الواحدي: "وقال النحاس: ﴿إِذَا دَعَاكُم دَعوَةً﴾ ليس بوقف؛ لأنه لم يأت بجواب "إذا" وجواب "إذا" على قول الخليل وسيبويه: ﴿أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ أي: خرجتم.
(١) انظر: "البسيط" عند تفسير الآية: [٤٦].
(٢) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي، النحاس، النحوي، المصري، وعرف با بن النحاس، وعرف بالصفار، نحوي، لغوي، مفسر، أديب، فقيه، رحل إلى بغداد وأخذ عن المبرد والأخفش ونفطويه والزجاج وغيرهم، ثم رجع إلى مصر وأقام بها إلى أن توفى سنة ٣٣٨ هـ.
من مصنفاته: "إعراب القرآن"، "معاني القرآن"، "الناسخ والمنسوخ"، و"الكافي في النحو". ينظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٣٥، "معجم الأدباء" ٤/ ٢٢٤، "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٩٩.
(٣) انظر: "البسيط" تفسير سورة الدخان.
243
وكذا قال سيبويه: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: ٣٦] تقديره عنده: قنطوا. والقول ما قال النحاس. "القطع والائتناف" ٢/ ٥٣٢.
٢ - قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩] قال الواحدي: "وكان علي بن سليمان يذهب إلى أن الكناية في ﴿بِهِ﴾ تعود إلى السؤال. وقوله: ﴿فَاسْأَلْ﴾ يدل على السؤال. والمعنى: فاسأل عالمًا بسؤالك. "القطع والائتناف" ٢/ ٤٨٦.
٣ - في سورة الدخان ﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدخان: ١ - ٢] قال: "قال النحاس: يجوز أن يجعل جواب القسم: "إنا أنزلناه حم" فيكون تمام الكلام عند قوله "المبين" وان جعلمت جواب القسم "إنا أنزلناه" أتصل بالكلام الأول" (١).
١٤ - " الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" (٢) لأبي علي الفارسي، وفي هذا الكتاب تعقب أبو علي الفارسي (٣) كتاب أبي إسحاق الزجاج "معاني القرآن وإعرابه" في مسائل ذكرها الزجاج. وقد أطال أبو علي في كثير منها وتوسع طويلًا وسلك منهجًا قريبًا من منهجه في "الحجة" في إيراد المسائل اللغوية والنحوية والصرفية، وقد أفاد الواحدي من "الإغفال" في مسائل كثيرة، بعضها بالعزو، وبعضها بدون عزو.
(١) "البسيط" ٥/ ١٣ أ "النسخة الأزهرية". انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص ٦٥٤.
(٢) حقق محمد حسن محمد إسماعيل الكتاب في رسالة علمية لنيل الماجستير في كلية الآداب جامعة عين شمس بالقاهرة، ولم تطبع بعد.
(٣) سبق ترجمته.
244
ومن أمثلة ذلك في لفظ الجلالة "الله" نقل عن الإغفال طويلا بدون عزو حيث قال: "وقوله "الله" أما أصل هذه الكلمة فقد حكى أصحاب سيبويه عنه فيه قولين: أحدهما قال:
كان أصل هذا الاسم "إلاها" ففاؤها "همزة"، وعينها " لام" و"الألف" ألف فِعَال الزائدة، واللام "هاء" إلخ (١)، وأخذ عنه في ذلك صفحات عديدة، أكثره بنصه وقد يتصرف بالعبارة أحيانا ويقدم بعض الكلام على بعض.
ونص كلام أبي علي في "الإغفال": "فأما قولنا: "الله" فقد حمله سيبويه على ضربين:
أحدهما: أن يكون أصل الاسم "إلاه" ففاء الكلمة على هذا "همزة" وعينها "لام" والألف "ألف" فِعَال الزائدة و"اللام" هاء.. الخ (٢). وفي آخر الموضوع نقل عنه كلامًا طويلًا حول الإمالة في لفظ الجلالة "الله" ولم أجده عند أحد غير أبي علي (٣) سوا ما نقله عنه ابن سيده في المخصص والواحدي في "البسيط".
ومثال آخر في قوله تعال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] نقل عنه كلامًا طويلًا مع عزوه له. فقال: "أبو علي: والظرف نوع من أنواع المفعولات المنتصبة عن تمام الكلام، وهو زمان أو مكان.. " (٤).
(١) "البسيط" تفسير البسملة.
(٢) "الإغفال" ص ١١. ونقل ابن سيده كلام أبىِ علي بنصه مع عزوه له في "المخصص" ١٧/ ١٣٦ - ١٥١.
(٣) انظر: الإغفال ص ٤٧.
(٤) انظر: "البسيط" عند تفسير سورة البقرة الآية [٤٨]، و"الإغفال" ص ١٧٤ "رسالة ماجستير".
245
واستمر ينقل عنه في الظروف كلامًا لا علاقة له بالتفسير، وبمثل هذا النهج نقل عنه كلامًا طويلا حول "الآن" (١).
ومثال آخر في قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ...﴾ الآية [النساء: ٣] ذكر كلام أبي إسحاق الزجاج ثم قال: "هذا كلام أبي إسحاق وقد أخطأ في موضعين من هذا الفصل أصلحهما (٢) أبو علي وذكر معنى العدل فقال: اعلم أن العدل ضرب من الاشتقاق فكل معدول مشتق، وليس كل مشتق معدولًا.... الخ" (٣).
١٥ - المسائل الحلبيات (٤) لأبي علي الفارسي:
وقد أفاد منه الواحدي ونقل عنه قليلا وذكرته هنا لمناسبة ذكر كتب أبي علي الفارسي، أخذ عنه في تفسير "الناس" في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] قال: "وذكر أبو علي في المسائل الحلبيات أن الكسائي قال: إن "الأناس" لغة و"الناس" لغة أخرى، وكأنه يذهب إلى أن "الفاء" محذوف من الناس كما يذهب إليه سيبويه والدلالة على أنهما من لفظ واحد، وليسا من كلمتين مختلفتين أنهم قالوا: "الأناس" في المعنى الذي قالوا فيه "الناس".. إلخ (٥). وبالرجوع
(١) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة [٧١]، و"الإغفال" ص ١.
(٢) كتاب أبي علي "الإغفال" يسمى "المسائل المصلحة" حيث ورد هذا الاسم في أول الكتاب. انظر "الإغفال" ص ١.
(٣) "البسيط" تفسير سورة النساء [٣].
(٤) طبع كتاب "المسائل الحلبيات" بتحقيق د/ حسن هنداوي في مجلد.
(٥) "البسط" تفسير سورة البقرة [٨].
246
للمسائل الحلبيات، نجد الواحدي نقل كلام أبي علي بالمعنى (١).
١٦ - الإيضاح العضدي:
ذكر أبو علي في هذا الكتاب مباحث في النحو والصرف، والعضدي: نسبة للسلطان عضد الدولة، أبي شجاع، فَنَّاخُسْرُو، صاحب العراق وفارس، قال الذهبي في ترجمة عضد الدولة: وله صنف أبو علي كتابي: "الإيضاح"، "والتكملة" (٢).
﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ١٩٧] قال الواحدي: "قال أبو علي: إذا اجتمع في باب: كان، معرفة ونكرة فالذي يُجعل اسم كان منهما: المعرفة، كما كان المبتدأ: المعرفة، والنكرة: الخبر... ذكر هذا في كتاب "الإيضاح" ونحو هذا ذكر في كتاب "الحجة".
١٧ - كتاب "سر صناعة الإعراب" (٣) لأبي الفتح عثمان بن جني (٤):
تكلم ابن جني في هذا الكتاب عن أحكام "حروف المعجم" وأحوالها ومواقعها في كلام العرب.
(١) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ١٦٦ - ١٧٠.
(٢) "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٢٤٩.
(٣) طبع الكتاب في مجلدين بتحقيق د/ حسن هنداوي.
(٤) هو: أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف البديعة في الأدب والنحو، صحب أبا علي الفارسي طويلاً واستوطن بغداد، وتوفي سنة ٣٧٢ هـ من مصنفاته: "الخصائص"، "سر صناعة الإعراب"، "المصنف في شرح تصريف المازني"، و"الفسر في شرح ديوان المتنبي".
ينظر: "تاريخ بغداد" ١١/ ٣١١، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٣٥، و"معجم الأدباء" ١٢/ ٨١، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٢٤٦.
247
منهج ابن جني في كتابه:
" كان بين أيدي الناس ترتيبان للحروف: أحدهما ترتيبها بحسب المخارج، وهو الترتيب الذي بنى عليه أصحاب المعجمات مصنفاتهم في اللغة، كالخليل في كتاب العين، والأزهري في "تهذيب اللغة"، والثاني ترتيبها على النحو التالي: (أ. ب. ت. ث. ج. ح. خ. د. ذ. ر. ز. س. ش. ص. ض. ط. ظ. ع. غ. ف. ق. ك. ل. م. ن. هـ. و. لا. ي) وهو الذي كان مشهورًا بأيدي الناس في حياة ابن جني، وهو الترتيب الذي آثره، فبوّب كتابه بحسبه.
وقد عقد أبو الفتح لكل حرف من هذه الحروف بابًا تناول فيه الحرف على النحو التالي: فهو يبدأ أولًا بذكر صفة الحرف من حيث الجهر أو الهمس، ويبين استعماله في الكلام من حيث الأصالة، والبدل، والزيادة، ويتلوه بالتمثيل لأصالته من حيث وقوعه فاء الكلمة، وعينها، ولامها، فيذكر لكل وقع مثالين أحدهما اسم والآخر فعل. ما عدا باب الهمزة فقد زاد فيه عن المثالين، ويعقبه بذكر الحروف التي أبدل هذا الحرف منها، ويفصل القول في كل منها، وبعد ذلك يعرض مواضع زيادته. وفي مطلع باب الهمزة شرح معنى الأصالة والبدل والزيادة، فقال: "اعلم أن الهمزة حرف مجهور، وهو في الكلام على ثلاثة أضرب: أصل، وبدل، وزائد. ومعنى قولنا أصل: أن يكون الحرف فاء الفعل أو عينه أو لامه. والبدل: أن يقام حرف مقام حرف، إما ضرورة، وإما استحسانًا وصنعة. فإذا كانت أصلًا وقعت فاء وعينًا ولامًا. فالفاء نحو أَنْف وأُذُن وإبرة وأَخَذ وأَمرَ. والعين نحو فأس ورأس وجُؤْنة وذئب وسأل وجأَرَ. واللام نحو قُرْء وخَطَأ
248
ونَبَأ وهدأَ واستبرأَ واستدفأَ" (١).
وقال في باب التاء: "التاء حرف مهموس، يستعمل في الكلام على ثلاثة أضرب: أصلًا وبدلًا وزائدًا. فإذا كانت أصلًا وقعت فاء وعينًا ولامًا، فالفاء نحو تَمْر وتَنَأَ، والعين نحو فِتْر وقتلَ، واللام نحو فَخْت ونَحَتَ.
وأما إبدالها فقد أبدلت من ستة أحرف هن: الواو، والياء، والسين والصاد والطاء، والدال.
إبدالها من الواو: قد أبدلت التاء من الواو فاء إبدالًا صالحًا... " (٢).
وأما زيادة الحرف فتارة يكتفي بذكر الأماكن التي يكون فيها زائدًا مع التمثيل، كقوله في زيادة التاء: "وأما الزيادة فقد زيدت التاء أولًا في نحو تَأْلَب وتِجْفاف.. وزيدت ثانية في نحو افتقار وافتقر... وزيدت أيضًا رابعة في سَنْبَتة.. وزيدت أيضًا خامسة في نحو ملكوت وجبروت... وسادسة في نحو عنكبوت وتَرْنَموت... وقد زيدت في أوائل الأفعال الماضية للمطاوعة، كقولك كسّرته فتكسّر.. وتزاد في أوائل المضارعة لخطاب المذكر نحو أنت تقوم وتقعد.. " (٣).
وتارة يبدأ بوضع المقاييس التي يستدل بها على زيادة الحرف، كقوله في زيادة الهمزة: "اعلم أن موضع زيادة الهمزة أن تقع في أول بنات الثلاثة، فمتى رأيت ثلاثة أحرف أصولًا وفي أولها همزة، فاقض بزيادة الهمزة عرفت الاشتقاق في تلك اللفظة أو جهلته، حتى تقوم الدلالة على
(١) "سر صناعة الإعراب" ص ٦٩.
(٢) "سر صناعة الإعراب" ص ١٤٥.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ص ١٥٧ - ١٥٩.
249
كون الهمزة أصلًا، وذلك نحو أحمر وأصفر... " (١).
فإذا جُهل الاشتقاق لجأَ أبو الفتح إلى القياس للحكم على أصالة الحرف أو زيادته، من ذلك قوله في التاء والنون: "واعلم أن للتاء ميزانًا وقانونًا يعرف به من طريق القياس كونها أصلًا أو زائدة، فإذا عدمت الاشتقاق في كلمة فيها تاء أو نون، فإن حالهما فيما أذكره لك سواء: فانظر إلى التاء أو النون، فإن كان المثال الذي هما فيه أو إحداهما على زنة الأصول بهما فاقض بأنهما أصلان، وإن لم يكن المثال الذي هما فيه بهما أو بإحداهما على زنة الأصول فاقض بأنهما زائدتان.. " (٢).
وبعد أن يفرغ من الحديث عن زيادة الحرف يشير إلى حذفه إن كان الحذف قد وقع فيه، كقوله في الهمزة: "وقد حذفت الهمزة فاء نحو ويلِمِّه، وناس، والله في أحد قولي سيبويه. ولامًا في جا يجي، وسا يسو. وحذفت عينًا في أريت وتصرفه" (٣).
هذا إذا كان الحرف يستعمل في الكلام أصلًا وبدلًا وزائدًا، فإذا كان لا يقع إلا أصلًا كالخاء، اكتفى بذكر ذلك فيه، وعرض ما اختلف فيه مما قد يظن أنه يدخل في باب الإبدال (٤). وكذا إذا كان الحرف لا يستعمل إلا أصلًا وبدلًا كالجيم (٥)، ومثله الحرف الذي يستعمل أصلًا وزائدًا ليس غير كالسين (٦).
(١) "سر صناعة الإعراب" ص ١٠٧.
(٢) "سر صناعة الإعراب" ص ١٦٧.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ص ١١٨.
(٤) "سر صناعة الإعراب" ص ١٨٣ - ١٨٤.
(٥) "سر صناعة الإعراب" ص ١٧٥ - ١٧٨.
(٦) "سر صناعة الإعراب" ص ١٩٧.
250
هذه هي القضايا الأساسية التي كررها المؤلف في كل حرف، فهي العمود الفقري لكل باب من أبواب الكتاب، وأمّا ما عداها من المسائل فإنما استطرد إليها استطرادًا، أو ذكرها إيضاحًا لمشكل، أو لأن لها علاقة وإن كانت بعيدة ببعض المباحث الأساسية.
نخلص من هذا إلى القول: إن مادة الكتاب الأصلية هي الإعلال والإبدال والزيادة والحذف، وهذه أهم مباحث علم التصريف (١).
ولقد استفاد الواحدي من كتاب "سر صناعة الإعراب" كتيرًا في المسائل النحوية خصوصًا عن الحروف ومعانيها، والغالب أنه ينقل عنه بدون عزو، وقد يعزو له أحيانًا قائلًا: قال أبو الفتح الموصلي، بدون ذكر اسم كتابه الذي أخذ عنه.
ومن أمثلة نقله عنه بدون عزو ما افتتح به كتابه عند الكلام عن "الباء" في تفسير: "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: "اختلفت عبارة النحويين في تسمية هذه "الباء" الجارة، فسموها مرة: حرف إلصاق، ومرة حرف استعانة، ومرة حرف إضافة، وكل هذا صحيح من قولهم.
أما الإلصاق: فنحو قولك تمسكت بزيد، وذلك أنك ألصقت محل قدوتك به، وبما اتصل به، فقد صح إذن معنى الإلصاق... " (٢) نقل عنه مع التصرف في كلام ابن جني بالتقديم والتأخير والحذف، وأذكر بعض كلام ابن جني لمقارنته مع نقل الواحدي قال ابن جني:
(١) وانظر: مقدمة "سر صناعة الإعراب" ص ٣٣ - ٤١.
(٢) انظر: تفسير الفاتحة من "البسيط".
251
"واعلم أنهم قد سموا هذه "الباء" في نحو قولهم: "مررت بزيد" و "ظفرت ببكر" مما تتصل فيه الأسماء بالأفعال، مرة حرف إلصاق، ومرة حرف استعانة، ومرة حرف إضافة، وكل ذلك صحيح من قولهم.. الخ (١).
وقال الواحدي: وأما قول النحويين "الباء والكاف واللام" الزوائد، فإنما قالوا فيهن إنهن زوائد، لأنهن لما كن على حرف واحد، وقللن غاية القلة واختلطن بما بعدهن، خشي عليهن لقلتهن وامتزاجهن بما يدخلن عليه أن يظن بهن أنهن بعضه وأحد أجزائه، فوسموهن بالزيادة، ليعلموا من حالهن أنهن لسن من أنفس ما وصلن به.. (٢).
وقال ابن جني: "فأما قول النحويين: الباء والكاف واللام الزوائل يعنون نحو بزيد ولزيد، فإنما قالوا فيهن إنهن زوائد لما أذكره لك، وذلك أنهن لما كن على حرف واحد، وقللن غاية القلة، واختلطن بما بعدهن خشي عليهن لقلتهن وامتزاجهن بما يدخلن عليه أن يظن بهن أنهن بعضه أو أحد أجزائه فوسموهن بالزيادة لذلك، ليعلموا من حالهن أنهن لسن من أنفس ما وصلن به.. " (٣).
وبمثل ذلك تعامل الواحدي مع كتاب أبي الفتح بن جني في مواضع كثيرة من كتابه ينقل عنه بتصرف ولا يعزو له. انظر الكلام على "ال" في تفسير ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ١] نقل عنه صفحات كثيرة
(١) "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٢٢.
(٢) "البسيط" تفسير الفاتحة.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٢٠.
252
بتصرف. (١)
وفي تفسير ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] عند الكلام على "إيا" قال: "اختلفت مذاهب النحويين في هذا الحرف، وأنا ذاكر لك منها ما يحتمله هذا الكتاب، ذهب الخليل إلى أن "إيا" اسم مضمر مضاف إلى "الكاف"، وهذا مذهب أبي عثمان. وحكى أبو بكر عن أبي العباس عن أبي الحسن: أنه أسم مفرد مضمر يتغير آخره كما تتغير أواخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين، وأن "الكاف" في "إياك" كالكاف في "ذلك" في أنه دلالة على الخطاب فقط مجردة من كونها علامة للضمير، ولا يجيز أبو الحسن فيما يحكى عنه: "إياك وإيا زيد" و"إياي وإيا الباطل". وقال سيبويه: حدثني من لا أتهم.. إلخ (٢).
ونص كلام أبي الفتح: "فهذِه مسألة لطيفة عنت لنا في أثناء هذا الفصل، نحن نشرحها ونذكر خلاف العلماء فيها، ونخبر بالصواب عندنا من أمرها إن شاء الله وهي قوله عز اسمه ﴿إِيَّاكَ نَعبُد﴾ وما كان مثله. أخبرني أبو علي عن أبي بكر محمد بن السري عن أبي العباس محمد بن يزيد: أن الخليل يذهب إلى أن "إيا" اسم مضمر مضاف إلى الكاف، وحكى عن المازني مثل هذا القول المحكي عن الخليل في أنه مضمر مضاف.
قال: وحكى أبو بكر عن أبي العباس عن أبي الحسن الأخفش، وأبو إسحاق عن أبي العباس غير منسوب إلى الأخفش: أنه اسم مفرد مضمر
(١) "البسيط" تفسير الفاتحة الآية: [٢].
(٢) "البسيط" تفسير الفاتحة الآية: [٥].
253
بتغير آخره كما لتغير أواخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين... إلى أن قال: ولا يجيز أبو الحسن فيما حكي عنه: "إياك وإيا زيد، وإياي وإيا الباطل" انتهت الحكاية عن أبي علي.
وقال سيبويه: "حدثني من لا أتهم عن الخليل.. الخ (١).
وبعد أن نقل الواحدي عن أبي الفتح ابن جني كلامًا طويلًا في هذا قال: ".. وهذا الذي ذكرنا كلام أبي علي وأبي الفتح" (٢).
ومن أمثلة أخذه عنه بدون عزو -وهي كثيرة- ما ذكره في حروف التهجي عند تفسير قوله تعالى: ﴿الم﴾ [البقرة: ١] (٣) وكذلك عن "الفاء" في تفسير قوله تعالى: ﴿فَاَتَّقُواْ ألنَّارَ﴾ [البقرة: ٢٤] (٤).
هذه أهم مصادر الواحدي التي تم التعرف عليها. وفي تفسيره "البسيط" حشد كبير من أقوال الصحابة ومن بعدهم من التابعين في مجال التفسير وكذا أقوال أئمة اللغة والنحو، ونجد الواحدي في الغالب ينقل هذه الأقوال عن طريق هذه المصادر.
ففي مجال التفسير ذكر أقوال ابن عباس كثيرًا، بل إن منهجه يقوم على ذكر قول ابن عباس في الآية ما وجد له قولًا فيها، كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه (٥)، كما ذكر أقوال ابن مسعود، وأبيّ بن كعب. ومن التابعين ومن بعدهم ذكر أقوال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح،
(١) "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣١٢.
(٢) تفسير الفاتحة الآية [٥].
(٣) "البسيط" [البقرة: ١].
(٤) "البسيط" [البقرة: ٢٤].
(٥) انظر: "البسيط" ذكر ذلك في المقدمة.
254
وعكرمة، وأبي الحسن البصري، وقتادة، والسدي، وغيرهم. وفي الغالب أنه يأخذ أقوال هؤلاء عن طريق تفسير الثعلبي أو الطبري.
وممن ذكر قوله في مجال التفسير "الحسين بن الفضل" (١)، ينقل أقواله في الغالب من طريق الثعلبي. من أمثلة ذلك عن تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] قال: ".. وقال الحسين بن الفضل: رد الكناية إلى الاستعانة؛ لأن "استعينوا" يدل على المصدر.. " (٢).
وقول الحسين ذكره الثعلبي في تفسيره.
كذا الحال بالنسبة لأئمة النحو، نجد اسم "سيبويه" يتردد كثيرًا في "البسيط" وفي جميع المواضع التي اطلعت عليها لم أجده نقل عن الكتاب مباشرة، وإنما عن طريق أحد المصادر السابقة، من أمثلة ذلك: أنه ذكر قوله سيبويه في "الباء" من طريق "سر صناعة الإعراب"، وذكر قوله في "أراب" عن طريق "الحجة" لأبي علي الفارسي، وهكذا.
ومثل هذا يقال عن بقية أئمة النحو الذين نقل عنهم كثيرًا كالخليل، وابن كيسان وأبي الحسن الأخفش، وأبي العباس ثعلب وغيرهم.
وكما ذكر أقوال أئمة اللغة عن طريق "تهذيب اللغة" للأزهري مثل أبي عبيد القاسم بن سلام، وابن السكيت، والأصمعي، وأبي حاتم، واللحياني
(١) هو: الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري، المفسر، الأديب، إمام عصره في "معاني القران"، صاحب فنون وتعبد، توفي وهو ابن مائة وأربع سنين في سنة ٢٨٢ هـ. انظر: "العبر في خبر من غبر" ١/ ٩٩، "الوافي بالوفيات" ٤/ ٢٨١، "طبقات المفسرين" ١/ ٧، "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٤١٤
(٢) انظر: "البسيط" [البقرة: ٤٥].
255
ابن الأعرابي وغيرهم.
مثال واحد يوضح ذلك، نقل قول أبي عبيد في معنى "الصلاة" لغة، وكذا معنى "الفلاح" وكلام أبي عبيد موجود في كتابه "غريب الحديث" لكن النص أقرب إلى ما ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة"، كما نقل كلامًا قبله وبعده من "التهذيب" يؤكد أن النقل منه.
منهج الواحدي في النقول من مصادره:
لقد استفاد الواحدي من تلك المصادر كثيرًا، وكانت النقول سمة بارزة في تفسيره. لكن ما طريقة الواحدي في النقل هل هو مجرد ناقل، أو له جهد فيما ينقله؟
الحقيقة أن هذه النقول تبرز ما يتمتع به الواحدي من مهارة فائقة في حسن انتقاء وجودة الربط بين الكلام، كما أن نقاشه للأقوال والترجيح بينهما، يظهر قوة عقلية وملكة علمية تدل على أصالته في ذلك، وقد عبر الواحدي عن هذا النهج في مقدمة كتابه حين قال: "... ولم يترك الأول للآخر شيئا غير أن المتأخر بلطيف حيلته ودقيق فطنته، يلتقط الدرر ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدور الكعاب، يروق المتأملين ويؤنق الناظرين.... " (١).
وأذكر بعض الأمثلة توضح ذلك:
في تفسير قوله تعالى: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ...﴾ [البقرة: ٦] نقل كلامًا بنصه لأبي علي الفارسي من الحجة عن الهمزة في "أأنذرتهم". فقال: "لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر... " إلى أن قال: "فكل استفهام تسوية
(١) انظر مقدمة المؤلف.
256
وإن لم يكن كل تسوية استفهامًا" (١). وانتقل من كلام أبي علي مباشرة إلى كلام لأبي إسحاق الزجاج رابطًا الكلام ببعضه فقال: "وحرر أبو إسحاق هذا الفصل فقال: إنما دخلت ألف الاستفهام، وأم التي هي للاستفهام، والكلام خبر لمعنى التسوية.. الخ" (٢).
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨] نقل كلامًا للفراء عن "كان" ومنه: ".. قال: وكان الخليل يقول: كَيْنُونَة "فَيْعُولَة" وهي في الأصل "كَيْوَنُونَة" التقت "ياء" و"واو" والأولى منها ساكنة فصيرتا "ياء" مشدّدة مثل ما قالوا: "الْهَيِّن" ثم خففوها فقالوا: "كَيْنُونة" كما قالوا: هَين لَيْن، قال الفراء: فقد ذهب مذهبًا، إلا أن القول عندي هو الأول. قال: ويضمر هاهنا "قد"، والتقدير: "وقد كنتم أمواتًا" (٣)... فربط بين كلام الفراء عن "كان" وهو منقول عن "تهذيب اللغة" ولم يرد هذا الكلام في تفسير الآية، تم ربط به مباشرة في قوله ".. قال: يضمر هاهنا "قد".. " وهذا الكلام ذكره الفراء في "معاني القرآن" (٤) فجمع بين النصين من "التهذيب" و"معاني القرآن"، وأحسن الربط بينهما، وكأنه من موضع واحد.
ومع حسن سبك الكلام يناقش الأقوال ويوجهها، ويرجع ما يراه صوابًا ويرد ما كان بخلاف ذلك. ففي تفسير "البسملة" في قوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ نقل كلام أبي العباس ثعلب من طريق ابن الأنباري حيث يرى ثعلب أن "الرحمن" اسم عبراني، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {قَالُوا وَمَا
(١) "البسيط" سورة البقرة: ٦.
(٢) انظر: "البسيط" [البقرة: ٦].
(٣) "البسيط" انظر هذا الكلام عند تفسير قوله تعالى ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ [البقرة: ٢٨].
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٤.
257
الرَّحْمَنُ} [الفرقان: ٦٠] (١) فيرد عليه الواحدي مبينًا أن الآية لا تقوم دليلًا على مطلوبه فيقول: "وأما ما احتج به أبو العباس من قوله تعالى: ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ فهو سؤال عن الصفة، ولذلك قالوا: "وما الرحمن" ولم يقولوا: ومن، والقوم جهلوا صفته، والاسم كان معلوما لهم في الجملة" (٢).
مثال آخر يدل على ما يتمتع به من ملكة علمية تُمَكِّنه من نقاش كلام فطاحل العلماء، ما مر بنا قريبا من مناقشته لكلام الطبري (٣) قائلًا: "وليس الأمر على ما قال، لأن الشك في القلب على الحقيقة، فأي فائدة لتقدير الاعتقاد هاهنا، ولأن الشك ينافي الاعتقاد، وهم ليسوا معتقدين إذا كانوا شاكين" (٤).
ومثال ثالث في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ...﴾ [البقرة: ٢٧] ذكر وجهين للزجاج في المراد بالعهد (٥)، ثم قال: "والوجه الأول أصحهما، من قبل أن الله لا يحتج عليهم بما لا يعرفون؛ لأنه بمنزلة ما لم يكن إذا كانوا لا يشعرون به ولا لهم دلالة عليه، والثاني مع هذا صحيح، لأنهم عرفوا ذلك العهد بخبر الصادق فكان كما لو كانوا يشعرون به، وهذا الوجه هو قول ابن عباس.. " (٦).
(١) انظر: "البسيط" عند تفسير قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة الآية ٣].
(٢) انظر: المصدر السابق.
(٣) انظر: كلام الطبري من هذِه الدراسة.
(٤) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٩].
(٥) الوجهان: الأول: ما أخذه على النبيين ألا يكفروا بالنبي - ﷺ -. والثاني: الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم يوم الميثاق. انظر: "البسيط" عند قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧].
(٦) انظر: المصدر السابق.
258
وقد ينقل كلام غيره في النقاش والترجيح، مثال ذلك أنه في أثناء الكلام عن "الواو والياء والألف" التي تلحق التثنية والجمع، نقل كلامًا طويلًا عن أبي الفتح ابن جني ومما نقله قول أبي علي الفارسي ثم قال بعده: "وهذا استدلال من أبي علي في نهاية الحسن وصحة المذهب وسداد الطريقة" (١). وهذا التوجيه من كلام أبي الفتح بنصه (٢).
ومثال آخر حينما تحدث عن "إياك" في تفسير قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] ذكر أقوال العلماء في ذلك ومنه كلام الخليل والزجاج ناقلًا عن أبي الفتح ابن جني، ومما نقله مناقشة أبي الفتح لكلام الخليل، وكلام الزجاج وفيه يقول: "... أما قول الخليل: أن "إيا" اسم مضمر مضاف فظاهر الفساد، وذلك أنه إذا ثبت أنه مضمر فلا سبيل إلى إضافته.. " (٣). ثم يقول: ".. وأما قول من قال: "إياك" بكماله الاسم فليس بقوي.. الخ" (٤). ثم يقول: ".. وأما قول أبي إسحاق: إن "إيا" اسم مظهر خص بالإضافة إلى المضمر ففاسد -أيضا- وليست "إيا" بمظهر كما زعم الخ" (٥). وكل هذه المناقشات من كلام أبي الفتح بن جني من "سر صناعة الإعراب" (٦).
(١) "البسيط" ص (٦٥٩).
(٢) "البسيط" ص (٣٠٣).
(٣) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥].
(٤) المصدر السابق.
(٥) المصدر السابق.
(٦) انظر: حاشية "البسيط" في المواضع السابقة.
259
بعض الملحوظات على نقل الواحدي:
مع كثرة النقول في تفسير "البسيط" وقع الواحدي في بعض الملحوظات، ويحصل ذلك عندما يختصر النص أو ينقل بعضه ويترك بعضًا، فيكون لما ذكر ارتباط بما ترك، أو يستبدل كلمة أو جملة بأخرى تغير المعنى. وهذه بعض الأمثلة توضح ذلك:
في تفسير قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] نقل نصًّا عن "تهذيب اللغة" ولم يعزه له فقال: "وقال الأخفش: الحمد لله الشكر لله، قال: والحمد -أيضا- الثناء، وكأن الشكر لا يكون إلا ثناء ليد أوليته... الخ" (١).
وفي "التهذيب" كلام الأخفش ينتهي عند "الحمد -أيضا- الثناء" وبدل قوله: "وكأن الشكر لا يكون... الخ"، "قلت: الشكر... " فهو من كلام الأزهري كما صرح بذلك صاحب "اللسان" فقال: قال الأزهري: "والشكر لا يكون... الخ" ولما أبدل الواحدي "قلت" بـ"كان" صار الكلام جزءًا من كلام الأخفش، أو من كلام الواحدي (٢).
مثال آخر في قوله تعال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] قال: "وزعم الأخفش أن من العرب من يؤنث الهدى" (٣) وكلام الأخفش في "الحجة": "وقال أبو الحسن: زعموا أن من العرب من يؤنث الهدى" (٤) فالأخفش
(١) "البسيط" عند قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢].
(٢) انظر التعليق على النص في حاشية "البسيط" عند قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾.
(٣) "البسيط" [البقرة: ٢].
(٤) "الحجة" لأبي علي الفارسي ١/ ١٧٩، وانظر حاشية "البسيط" [البقرة: ٢].
260
ناقل للزعم وجعله هو الزاعم.
ومثال آخر: نقل كلام أبي الفتح في "أل" ومنه قوله: "ومذهب الخليل في هذا أن "أل" حرف التعريف بمنزلة "قد" في الأفعال... واحتج لهذا المذهب بفصلين، أحدهما: أن العرب قطعت "أل" في أنصاف الأبيات نحو قول عبيد:
يا خليلي اربعا واستخبرا الـ... منزل الدراس من أهل الحلال
مثل سحق البرد عفى بعدك الـ... قطر مغناه وتأويب الشمال
قال: فلو كانت اللام وحدها حرف التعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها... " (١) فتصرف الواحدي في كلام أبي الفتح وصيَّر الكلام كأنه بنصه للخليل خصوصًا عند قوله: "واحتج لهذا المذهب بفصلين" وقوله: "قال: فلو كانت اللام... " وأذكر نص كلام أبي الفتح ليظهر الفرق بين النصين. "وذهب الخليل إلى أن "أل" حرف تعريف بمنزلة "قد" في الأفعال وأن الهمزة واللام جميعًا للتعريف... ويقوي هذا المذهب قطع "أل" في أنصاف الأبيات نحو قول عبيد:
ياخليلي...............................
وهذه قطعة لعبيد مشهورة عددها بضعة عشر بيتًا يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه إلى بيتًا واحدًا من جملتها، ولو كانت اللام وحدها حرف التعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها... " (٢).
ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة:
(١) "البسيط" [البقرة: ٢].
(٢) "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٣٣.
261
٤٨] قال: "قال أصحاب المعاني: ليس معنى: "لا يقبل الشفاعة" أن هناك شفاعة لا تقبل، وإنما المعنى لا يكون شفاعة فيكون لها قبول.. الخ" (١).
فالواحدي نقل هذا عن أبي علي الفارسي من الحجة (٢)، ونسبه لأهل المعاني ولم يذكره أحد من أهل المعاني الذين اشتهر أخذه عنهم كالفراء والأخفش والزجاج. ثم إن في هذا الكلام محذورًا حيث ظاهره نفي الشفاعة، وهذا قول المعتزلة، ولم ينقده في هذا الموضع كدأبه في نقد آراء المعتزلة، وان كان قد ذكر القول الصحيح في معنى الآية في موضع آخر فقال في آخر تفسيرها: "... والآية وإن عمت في نفي الشفاعة فمعناها الخصوص فيمن مات على الكفر بدلالة الأخبار الصحيحة في الشفاعة، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: ٢٨].. " (٣).
(١) "البسيط" [البقرة: ٤٨].
(٢) "الحجة" ٢/ ٤٦، ٤٧.
(٣) "البسيط" [البقرة: ٤٨].
262
المبحث السادس: منهج الواحدي في تفسيره
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: منهجه إجمالًا كما وصفه في مقدمة كتابه
المطلب الثاني: منهجه تفصيلًا وفيه تسع مسائل.
المطلب الثالث: مقارنة بين تفاسير الواحدي الثلاثة.
263
المبحث السادس
منهج الواحدي في كتابه "البسيط"
المطلب الأول: مقدمة الكتاب ومنهجه إجمالًا:
افتتح الواحدي كتابه بمقدمة طويلة أشتملت على مسائل هامة، حيث بين فيها سبب تأليفه الكتاب، ثم تحدث بإفاضة عن أهمية علم اللغة والنحو والأدب لتفسير القرآن الكريم، وذكر أنه لابد للمفسر أن يتمكن فيها، قبل تعرضه لتفسير كتاب الله، ثم تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلوم في شتى المجالات، ثم تحدث بعد ذلك عن منهجه في كتابه إجمالًا.
ولما حوته تلك المقدمة من قضايا هامة تنم عن شيء من شخصية الواحدي العلمية كانت مرجعًا لكل من أراد التعرف على الواحدي أو التعريف به، فنقل منها بعض العلماء عند تعريفهم بالواحدي، كما فعل "ياقوت" في معجم الأدباء (١)، ومن المعاصرين "أحمد صقر" في مقدمته على "أسباب النزول" (٢).
وقد سبق ذكر مقاطع منها عند الحديث عن العلوم التي برز فيها، وعند الحديث عن شيوخ الواحدي، وكذا عند الحديث عن مصادره في كتابه، والآن أستعرض جوانب أخرى في المقدمة لم يسبق الحديث عنها.
ذكر في أولها الموضوعات الأساسية للكتاب فقال: "وبعد، فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أعلق لمعاني إعراب القرآن وتفسيره فِقَرًا في الكشف عن غوامض معانيه، ونُكَتًا في الإشارة إلى علل القراءات فيه في ورقات يصغر
(١) انظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٦٢ - ٢٧٠.
(٢) انظر: "أسباب النزول" ص ١١ وما بعدها.
265
حجمها ويكثر غُنْمها.. ".
وقد كان الواحدي موفقًا في تحديد الموضوعات الرئيسة التي ركز عليها في تفسيره، لكن عبارته توحي بالاختصار والإيجاز، والواقع بخلاف ذلك، فقد تعدى في بعض المواضع حدود الإطالة إلى الإملال بذكر مسائل لا علاقة لها بالتفسير.
وإذا كان السبب الرئيس للتأليف -كما أفصح عنه- رغبته في الكشف عن غوامض معاني القرآن الكريم، فهناك سبب آخر دعاه للتأليف ذكره قائلا: ".. والأيام تمطلني بصروفها على اختلاف صنوفها إلى أن شدد علي خناق التقاضي قومٌ لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قرونتي بعد الإباء.. "، ثم يقول: ".. هؤلاء شكوا إليّ غلظ حجم المصنفات في التفسير، وأن الواحدة منها تستغرق العمر كتابتها ويستنزف الروح سماعها وقراءتها، ثم صاحبها بعد أن أنفق العمر على تحصيلها، ليس يحظى منها بطائل تعظم عائدته، وتعود عليه فائدته".
أبرز الواحدي أن من أسباب تأليفه الكتاب ما شكوا إليه من غلظ حجم المصنفات في التفسير أقول: لقد جاء كتابه "البسيط" غليظ الحجم فوقع فيما نقده على غيره.
ثم تحدث الواحدي بعد ذلك عن أصول هامة لابد لمن رام تفسير كتاب الله أن يلم بها، فذكر النحو والأدب والبلاغة وأهميتها للمفسر فقال: "فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب، فإنهما عمدتاه وإحكام أصولهما، وتتبع مناهج لغات العرب فيما تحويه من الاستعارات الباهرة، والأمثال النادرة، والتشبيهات البديعة، والملاحن الغريبة.. " ويستطرد طويلًا في بيان أهمية ذلك لتفسير القرآن، خصوصًا في
266
عصره، وذلك لأن الصحابة الذين نزل القرآن فيهم، كانوا عربًا أولي بيان فاضل، وقد بين لهم النبي - ﷺ - ما يحتاجون من مجمل الكتاب فيقول: "فاستغنوا بذلك عما نحن إليه محتاجون من معرفة لغات العرب.. "، ثم يبين أن المفسر يحتاج مع تعلم اللغة، إلى السنن المبينة لمجمل الكتاب فيقول -ناقلًا عن مقدمة "تهذيب اللغة"-: "فعلينا أن نجتهد في تعلم ما يتوصل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب، ثم السنن المبينة لمجمل التنزيل الموضحة للتأويل، لتنتفي عنا الشبه التي دخلت على كثير من رؤساء أهل الزيغ والإلحاد، ثم على رؤوس ذوي الأهواء والبدع، الذين تأولوا بآرائهم المدخولة فأخطأوا، وتكلموا في كتاب الله -عز وجل- بلكنتهم العجمية دون معرفة ثاقبة فضلوا وأضلوا.. " (١) فبين بهذا أهمية اللغة والسنة لبيان القرآن، وخطر التصدي لتفسيره دون المعرفة الثاقبة بهما. ثم ذكر حث السلف على تعلم اللغة وترغيبهم في ذلك فقال: "وقد كان الأكابر من السلف يحثون على تعلم لغة العرب، ويرغبون فيها لما يعلمون من فضائلها وفرط الحاجة إليها.. "، ثم أورد بعض الأحاديث والآثار في بيان قيمة الأدب والحث على تعلمه وتعلم اللغة، وختم حديثه عن أهمية اللغة والأدب للتفسير فقال: "وكيف يتأتى لمن جهل لسان العرب أن يعرف تفسير كتاب جعل معجزة -في فصاحة ألفاظه وبعد أغراضه- لخاتم النبيين وسيد المرسلين -صلى الله عليه وعلى آله الطيبين- في زمان أهلُه يتحلون بالفصاحة ويتحدون بحسن الخطاب وشرف العبارة، وإن مثل من طلب ذلك مثل من شهد الهيجاء بلا سلاح، ورام أن يصعد الهواء بلا جناح".
(١) وقد نقله الواحدي عن مقدمة "تهذيب اللغة" بدون عزو.
267
ثم يقرر قضية هامة وهي أن من جهل لسان العرب وأصول كلامهم ليس مرشحًا للتعرض لتفسير كتاب الله، حتى وإن قرأ كتب التفسير، لأنه مقلد لهم في ذلك غير مدرك لمعاني كتاب الله فيقول: "... ثم وإن طال تأمله مصنفات المفسرين وتتبعه أقوال أهل التفسير من المتقدمين والمتأخرين فوقف على معاني ما أودعوه كتبهم وعرف ألفاظهم التي عبروا بها عن معاني القرآن لم يكن إلا مقلدًا لهم فيما حكوه وعارفًا معاني قول مجاهد، ومقاتل، وقتادة، والسدي وغيرهم، دون معنى قول الله عز وجل. ألا ترى أن واحدًا ممن لم يتدرب بلغة العرب لو سمع قول امرئ القيس:
دِيمَةٌ هَطْلاَءُ فيها وَطَفٌ... طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرّ
فسأل عن معناه: فقيل له: إنه يصف مطرًا سحابه هاطل، كان عارفًا معنى هذا البيت من طريق التقليد، ولا يكون عارفا معنى قول امرئ القيس ما لم يعرف تفسير كل حرف على حدته... ".
ويستمر يعرض الأمثلة والشواهد حول هذه القضية لينتهي إلى القول: "وإنما ذكرت هذه الأمثلة لتعرف أن من تأمل مصنفات المفسرين ووقف على معاني أقوالهم لم يقف على معاني كلام الله دون الوقوف على أصول اللغة والنحو".
ثم يذكر طبقات المصنفين في تفسيره، ولكنه آثر الاختصار فيها، لأنه كما قال: "الاشتغال بما يعنينا أولى من بيان درجتهم والكشف عن نقصهم ومزيتهم". وينتهي إلى القول: "ولم يترك الأول للآخر شيئًا، غير أن المتأخر بلطيف حيلته ودقيق فطنته يلتقط الدرر ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدر الكعاب.. ".
ولقد كان الواحدي صادقًا في مقالته، وكان كتابه تعبيرًا عن ذلك
268
فعمل فيه على لقط الدرر وجمع الغرر ونظمها كالعقد، وقد سبق إيضاح هذه المسألة عند ذكر مصادره في كتابه.
بعد ذلك يذكر الواحدي شيوخه ومصادره التي استقى منها فيقول: "وأظنني لم آل جهدًا في إحكام أصول هذا العلم على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سِنُو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى وله الحمد، حتى أقتبست كل ما أحتجت إليه في هذا الباب من مظانه وأخذته من معادنه.. "، ثم أخذ في سرد شيوخه وتحدث عن الكتب التي قرأها وأطال وقد سبق نقل مقاطع طويلة منه عند الحديث عن شيوخه وكذا عند ذكر مصادره فلا أطيل بذكرها هنا.
وصف الكتاب ومنهجه فيه كما عرضه في المقدمة:
وفي نهاية المقدمة يصف الواحدي كتابه الذي عزم على جمعه، ومنهجه فيه فيقول: "وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه وحسن تيسيره... سالك نهج الإعجاز في الإيجاز، مشتمل على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، خال عما يكسب المستفيد ملالة ويتصور عند المتصفح إطالة، ولا يدع لمن تأمله حازَّة في صدره حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين إلى نور العلم وثَلَج اليقين... ".
فهل كتاب الواحدي كما وصفه هنا؟
لقد درج الكثير من المؤلفين على وصف كتابهم في مقدماتهم التي يكتبونها أولًا وربما بالغ بعضهم في ذلك، وقد يكون المؤلف صادقًا مع نفسه فيما قال؛ لأنه لو علم خللا في كتابه لأصلحه، ونعود إلى كتاب الواحدي فأقول: إن كتابه بحق كما وصفه، سوى ما ادعاه من سلوكه نهج
269
الإيجاز، فواقع الكتاب لا يطابق ما شرطه على نفسه في المقدمة، فإنه استطرد في كتابه إلى مباحث لغوية ونحوية خارجة عن إطار التفسير، ويأتي مزيد من الإيضاح لذلك، عندما نعرض لتفصيل منهجه في الجوانب اللغوية والنحوية.
ثم يقول الواحدي عن كتابه: "... هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضا في صنعة الأدب والنحو مهتديًا بطرق الحِجَاج، قَارِحًا في سلوك المنهاج فأما الجَذَع المُزْجَى من المُقْتَبِسِين والرَّيِّض الكَزُّ من المبتدئين فإنه مع هذا الكتاب كمزاولٍ غَلَقًا ضاع عنه المفتاح ومتخبط في ظلماء ليل خانه المصباح... ".
لقد كان الواحدي صادقا في وصف كتابه، حيث يوجد فيه مسائل لغوية ونحوية يعسر على القارئ فهمها إلى بعد تأمل طويل، وأكثر تلك المواضع استطرادات لا علاقة لها بالتفسير.
منهج الواحدي في كتابه إجمالا:
ذكر الواحدي منهجه في كتابه إجمالًا قائلًا: "وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصًّا، ثم بقول من هو قدوة في هذا العلم من الصحابة وأتباعهم مع التوفيق بين قولهم ولفظ الآية. فأما الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ ولا تساعده العبارة فمما لم أضيع الوقت بذكره. وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل الأمصار دون تسمية القراء، واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه". فذكر أن منهجه انه يبتدئ كل آية بقول ابن عباس ما وجد له نصا. وهنا لابد من إيضاح أمرين:
270
الأمر الأول: أنه يبدأ الآية غالبًا بتحليل ألفاظها وبيان أصولها اللغوية واشتقاقها، وما فيها من قضايا نحوية ويطيل في ذلك، فقد أخذت هذه المباحث حيزًا كبيرًا في الكتاب، ثم يذكر ما قيل في تفسير الآية ويبدأ ذلك بقوله: "أما التفسير" هذا في الغالب، وقد يذكر قول ابن عباس أولًا ثم يذكر تحليل ألفاظ الآية.
الأمر الثاني: أنه في الغالب يبدأ بقول ابن عباس، وقد يذكر قول غيره ثم يذكر قوله بعد ذلك. مثال ذلك في تفسير قوله تعال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] قال: "قال الضحاك وقتادة: الدين: الجزاء يعني يوم يدين الله العباد بأعمالهم.. وقال ابن عباس والسدي ومقاتل في معنى ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾: قاضي يوم الحساب.. " (١).
ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] ذكر قول مجاهد ثم ذكر بعده قول ابن عباس (٢).
وذكر أن من منهجه التوفيق بين قول السلف ولفظ الآية، وهذه سمة بارزة في تفسير "البسيط"، حيث نجده دائمًا يحرص على بيان مدلول لفظ الآية على كل قول يذكره لأحد من الصحابة، أو من بعدهم، وُيظْهَر بذلك أحتمال ألفاظ الآية لهذِه الأقوال وقد يحاول أن يجمع بينها ويبين أنها تلتقي في النهاية حول معنىً واحد.
ثم ذكر أن من منهجه أنه لا يذكر الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول، ولقد كان عند شرطه في الجملة، سوى بعض الإسرائيليات التي دخلت عليه من طريق شيخه "الثعلبي" ويأتي الحديث عن ذلك قريبًا إن شاء الله.
(١) "البسيط" [الفاتحة: ٤].
(٢) انظر "البسيط" [الفاتحة: ٤].
271
وذكر أن من منهجه أنه يذكر القراءات السبع دون تسمية القراء، وفي هذا الجانب يركز على توجيه القراءات ويتوسع في ذلك، ويذكر ذلك في الغالب بعد تحليل ألفاظ الآية. وذكر ما فيها من مسائل نحوية، وقبل دخوله في ذكر أقوال السلف والمفسرين في الآية.
وفي أثناء تفسير الآية قد يتعرض لما فيها من أحكام، وقد يذكر مسائل في الوقف والابتداء، والربط بين الآيات، كما يذكر فيها سبب النزول، ولا يكثر في كل ذلك، ويأتي إيضاح هذه الأمور بالأمثلة عند ذكر منهجه مفصلًا إن شاء الله.
المطلب الثاني: منهجه في كتابه مفصلًا:
أولًا: تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن الكريم هو المصدر الأول للتفسير، فما أجمل في موضع قد يرد مفصلًا في موضع آخر، وما أبهم في مكان قد يرد مبينًا في مكان آخر وهكذا.
وقد يعتمد الواحدي على هذا المصدر في تفسيره فكثيرًا ما يورد آية لتفسير آية وقد يورد الآيات الكثيرة للاستشهاد، خصوصًا في المسائل النحوية واللغوية.
ومن أمثلة إيراد الآية لتفسير آية أخرى ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] أورد الأقوال في "العالمين" فذكر قول الحسن وقتادة في تفسير العالم: إنه جميع المخلوقات قال: "يدل على هذا القول من التنزيل قوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [الشعراء: ٢٣، ٢٤]. فسر العالمين بجميع
272
المخلوقات" (١). ثم قال: "وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هم الجن والأنس، اختاره أبو الهيثم والأزهري، واحتجوا بقوله: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١].. وقال الحسين بن فضل وأبو معاذ النحوي: هم بنو آدم لقوله ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦٥].. " (٢).
ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] ذكر الأقوال فيها ومنها: "وقيل: هم الذين ذكرهم الله في قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ٦٩] الآية.. (٣).
ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] قال: "والكناية في مثله تعود إلى "ما" في قوله: ﴿مِّمَّا نَزَّلنَا﴾ ودليل هذا التأويل قوله: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ [الطور: ٣٤] وقوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨] وقوله: ﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ [الإسراء:
٨٨] كذلك يريد به مثل القرآن " (٤) والأمثلة على هذا كثيرة.
ويكثر من الاستشهاد بالآيات في المسائل النحوية واللغوية التي يتعرض لها أو ينقلها غيره.
مثال ذلك في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: ٥١] قال (٥):
(١) "البسيط" [الفاتحة: ٢].
(٢) "البسيط" [الفاتحة: ٢].
(٣) "البسيط" [الفاتحة: ٧].
(٤) "البسيط" [البقرة: ٢٣].
(٥) ناقلًا عن الحجة بدون عزو. انظر حاشية "البسيط" عند قوله ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾.
273
وأما "اتخذ" فإنه على ضربين، أحدهما: أن يتعدى إلى مفعول واحد.
والثاني: أن يتعدى إلى مفعولين. فأما تعديه إلى واحد فكقوله: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧] و ﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ﴾ [الزخرف: ١٦] وقوله: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ [الفرقان: ٣]، ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ [الأنبياء: ١٧]، وأما تعديه إلى مفعولين، فإن الثاني منهما هو الأول في المعنى كقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ [المجادلة: ١٦، المنافقون: ٢]، وقال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: ١]، ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ [المؤمنون: ١١٠].... " (١).
ب- تفسير القرآن بالسنة والأثر:
يعتبر كتاب "البسيط" للواحدي أقرب إلى كتب التفسير بالدراية منه إلى التفسير بالرواية، حيث أكثر فيه من المباحث اللغوية والنحوية وتوجيه القراءات والنكات التفسيرية والفوائد حول الآيات، وأقلّ من الرواية خصوصًا الحديث، أما الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم فهي أكثر من الحديث، بخلاف كتاب "البسيط" الذي أكثر فيه من الرواية.
وقد أدرك الواحدي الإسناد، كما قال صاحب "المنتخب من السياق" في أثناء ترجمة الواحدي: "أدرك الإسناد العالي" (٢).
وكانت له بعض المشاركة في خدمة السنة تظهر من خلال كتابيه "أسباب النزول" و"الوسيط" في التفسير.
ولكن مع ذلك فبضاعة الواحدي في السنة ليست مرضية عند بعض
(١) "البسيط" [البقرة: ٥١].
(٢) "المنتخب من السياق" ل ١١٤/ أ.
274
العلماء، فوجهت إليه الانتقادات في هذا الجانب، ذكرت طرفًا منها فيما سبق عند الحديث عن "أقوال العلماء فيه". ومن تلك الأقوال ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ".. وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم... " (١)، وقال في موضع آخر: "وأما "الواحدي" فإنه تلميذ الثعلبي وهو أخبر منه بالعربية لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدًا لغيره، وتفسيره وتفسير الواحدي "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها" (٢).
وأخذ بهذا القول الكتاني فقال: "... ولم يكن له ولا لشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث بل في تفسيريهما وخصوصًا الثعلبي أحاديث موضوعة وقصص باطلة... " (٣).
كما نقل الزركشي في "البرهان" عن ابن الصلاح اعتراضه على الواحدي في إيراده حديث فضائل السور فيقول: "قال ابن الصلاح: ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره (٤) من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم" ثم يعتذر الزركشي عن الواحدي قائلًا: "قلت: وكذلك الثعلبي، لكنهم ذكروه بإسناد فاللوم عليهم يقل بخلاف من ذكره بلا إسناد وجزم به كالزمخشري
(١) "مجموع فتاوى ابن تيمية" ١٣/ ٣٥٤
(٢) "مجموع فتاوى ابن تيمية" ١٣/ ٣٨٦.
(٣) "الرسالة المستطرفة" ص (٥٩).
(٤) أي حديث فضائل السور.
275
فإن خطأه أشد" (١).
والأحاديث في "الوسيط" قليلة في الجملة وذكر الواحدي بعضها بسنده مثال ذلك ما أخرجه في مقدمة البسيط قال: "ولقد أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم رحمه الله قال: أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن، ثنا أبو الحسن أحمد بن الخضر بن أبان، ثنا أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف، ثنا نصر بن على الجهضمي، ثنا عامر بن أبي عامر، ثنا أيوب بن موسى القرشي عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نحل والد ولده نحلة أفضل من أدب حسن" (٢).
وقد حكم الأئمة على هذا الحديث بالضعف والإرسال.
ومثال آخر ما ذكره في تفسير الفاتحة في معنى "الحمد" قال: "وقد أخبرنا الحسين بن أبي عبد الله الفسوي -رضي الله عنه- أبنا أحمد بن محمد الفقيه، أبنا محمد بن هاشم، عن الدَّبَري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحمد رأس الشكر، وما شكر الله عبد لا يحمده" (٣).
والحديث ضعيف كما قال ذلك بعض العلماء (٤).
والبعض الآخر من الأحاديث ذكرها بدون سند ولم يحكم عليها بشيء وأكثرها وردت للاستدلال بها في المسائل اللغوية، أوردها اللغويون في كتبهم ونقلها الواحدي عنهم.
(١) "البرهان" ١/ ٤٣٢.
(٢) "مقدمة البسيط" للمؤلف.
(٣) "البسيط" عند تفسيره قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢].
(٤) انظر: "حاشية البسيط" عند التعليق على قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢].
276
من أمثلة ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] ذكر معاني الدين: الحساب فقال: "وقيل: في قوله: "الكيس من دان نفسه"، أي: حاسبها" (١) فاستشهد بالحديث على أن الدين يأتي بمعنى الحساب، والكلام مع الاستشهاد بالحديث نقله عن "تهذيب اللغة" للأزهري (٢).
ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٩] تكلم عن أصل معنى الخدع والخداع، ثم قال: "ومنه الحديث "يكون قبل خروج الدجال سنون خداعة".. " (٣) والحديث مع ما قبله وما بعده مما ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" (٤).
ومثال آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١] تكلم عن لفظ "النبي" وعن أصله، وقال:... وأما ما روي في الحديث من أن بعضهم قال: يا نبيء الله فقال:
لست بنبيء الله ولكن نبي الله" فإن أهل النقل ضعفوا إسناد الحديث ، والحديث مع التعليق عليه منقول عن "الحجة" لأبي علي الفارسي (٥).
وقد استشهد صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" بالكلام السابق عن السند على أن الواحدي قد يتعرض لنقد الحديث (٦)، ولم ينتبه إلى أن كلام الواحدي مع قبله وما بعده منقول عن أبي علي الفارسي.
(١) "البسيط" [الفاتحة: ٤].
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" "دان" ١٤/ ١٨٢.
(٣) "البسيط" [البقرة: ٩].
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" "خدْع" ١/ ١٥٩.
(٥) انظر: "الحجة" لابن علي ٢/ ٩٢.
(٦) انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص ٣٢٥ - ٣٢٦.
277
المسألة الثالثة: تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:
أعلم الناس بالتفسير بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم أصحابه رضوان الله عليهم، ثم التابعون، وذلك لأنهم شاهدوا أحوال التنزيل أو عاصروا من شاهدها؛ ولأنهم أعلم باللغة التي نزل بها القرآن؛، ولأنهم أعرف بأحوال من نزل فيهم القرآن؛ ولأنهم أبعد عن البدع وأسلم القرون من الضلالات.
وقد ظهر في "تفسير البسيط" جليًا الاعتماد على أقوال الصحابة والتابعين في التفسير والاعتناء بها، وتقديمها على غيرها، بل صرح بذلك في مقدمة "تفسيره" قائلًا: "وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصًّا، ثم بقول من هو قدوة في هذا العلم من الصحابة وأتباعهم، مع التوفيق بين قولهم ولفظ الآية".
ويمكن إجمال منهجه في هذا الباب في النقاط التالية:
أولًا: يفصل في ذكر أسماء المفسرين من الصحابة والتابعين، وأحيانًا يجملهم تحت قوله: قال المفسرون، أو أهل التفسير.
ومن أمثلة التفصيل: ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] قال الواحدي: واختلف المفسرون في معنى الخطيئة ها هنا، فقال ابن عباس والضحاك وأبو وائل وأبو العالية والربيع وابن زيد: هي الشرك يموت عليه الإنسان.
ومن أمثلة الإجمال: ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾ [البقرة: ٩٠] قال: قال المفسرون: البَغْيُ هاهُنا بمعنى: الحَسَد.
ثانيًا: لا يذكر السند في غالب الأحيان إليهم، وقد أسند قليلًا من الآثار، وذكر طرفًا من الإسناد في مواضع، ويقتصر في الغالب على الراوي
278
عن الصحابي أو التابعي، خصوصًا إذا رُوي عنه أكثر من قول في الآية.
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] فقال: وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية الكلبي: قالت كفار قريش: يا محمد صف وانسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص، وهذه الآية.
وقال جويبر (١)، عن الضحاك، عن ابن عباس: كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنمًا، يعبدونها من دون الله، فبين الله سبحانه لهم أنه واحد، فأنزل هذه.
ثالثًا: تنوّع طريقته في عرض الأقوال وذكر القائلين بها، فتارة يذكر كل قول على حدة، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨] فقال: وأما التفسير: فقال مجاهد: (ومن تطوع خيرًا) بالطواف بهما، وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضًا.
وقال مقاتل والكلبي: ومن تطوع خيرًا فزاد في الطواف بعد الواجب.
ومنهم: من حمل هذا النوع على العمرة، وهو قول ابن زيد، وكان يرى العمرة غير واجبة.
وقال الحسن: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ يعني به: الدين كله، أي: فعل غير المفترض عليه، من طواف وصلاة وزكاة وكل نوع من أنواع الطاعات. وهذا أحسن هذِه الأقاويل؛ لأن قوله (ومن تطوع خيرًا) صيغته تدل على العموم.
(١) سبق ترجمته.
279
وتارة يذكر القول، ثم يذكر القائلين به، دون أن يذكر ألفاظهم، أو يذكر ألفاظهم بعد ذلك. ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ١٧٧] فقال: قال قتادةُ والربيع ومقاتل: عنى الله بهذه الآية: اليهود والنصارى،.. وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء: المراد به المؤمنون.
رابعًا: يرجح بين الأقوال في بعض الأحيان كما في المثال قبل السابق عند قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨]. وقد يجمع بينها، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] قال: أكثر المفسرين على أن المراد بهذا: الولد، أي: اطلبوا بالمباشرة ما قضى الله لكم من الولد. وقال قتادة: يعنى الرخصةَ التي كتبتُ لكم، وقال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء: يعني: ليلةَ القدر، وكل هذا مما تحتمله الآية.
المسألة الرابعة: منهجه في ذكر الإسرائيليات:
الإسرائيليات: هي الأخبار المروية عن أهل الكتاب من يهود أو نصارى، وسميت (إسرائيليات) تغليبًا، لأن أكثرها من أخبار بني إسرائيل أو من كتبهم (١).
وقد بين الحافظ ابن كثير في مقدمة "تفسيره" الموقف الصحيح منها، بعد ذكره لحديث: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،
(١) ينظر في الإسرائيليات: "التفسير والمفسرون" للذهبي ١/ ١٦٥ و"الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" للدكتور محمد أبو شهبة ص ٢١، و"الإسرائيليات" للدكتور: رمزي نعناعة ص ٧١.
280
ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (١) فقال -رحمه الله-: ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك (٢).
وقال في موطن آخر -بعد ذكره لبعض أخبارهم-: وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتُري في هذه الأمة -مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديثُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل، فأما ما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل (٣).
(١) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل برقم (٣٤٦١).
(٢) "تفسير ابن كثير" ص ١٢.
(٣) "تفسير ابن كثير" ص ١٦٠٩.
281
ويقول الشيخ أحمد محمد شاكر (١) معلقًا على كلام ابن كثير: إن إباحة التحدث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه ولا كذبه شيء، وذكر ذلك في تفسير القرآن، وجعله قولًا أو رواية في معنى الآيات، أو في تعيين ما لم يعين فيها، أو في تفصيل ما أجمل فيها شيء آخر، لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مبين لمعنى قول الله سبحانه، ومفصل لما أجمل، وحاشا لله ولكتابه من ذلك (٢).
لقد وعد الواحدي رحمه الله في مقدمة كتابه باجتناب مثل ذلك فقال: فأما الأقوال الفاسدة، والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ، ولا تساعده العبارة فمما لم أعبأ به، ولم أضيع الوقت بذكره (٣).
ولكنه رحمه الله وقع فيما وعد بتركه، وضيّع الوقت -رحمه الله- بذكره، وتابع بعض من سبقه وفي مقدمتهم شيخه الثعلبي، الذي ملأ كتابه من تلك المرويات والقصص التي لا زمام لها ولا خطام، ولا ينتفع بها في فهم القرآن، ولا فائدة فيها تعود إلى أمر ديني، كما أسلف ابن كثير، دون تنبيه من الواحدي أو تعليق.
ومن أمثلة ذلك:
١ - ما ذكره من الإسرائيليات في كيفية وسوسة إبليس لآدم وهو في
(١) أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، أزهري محدث مفسر قاض، ولد سنة ١٣٠٩ هـ بالقاهرة، من أكبر محققي التراث، حقق "مسند الإمام أحمد" و"سنن الترمذي" و"تفسير الطبري" ولم يتم شيئًا منها، وحقق "الرسالة" للشافعي واختصر "تفسير ابن كثير" ولم يتمه، قال الزركلي: ولم يخلف مثله في علم الحديث بمصر. ينظر: "الأعلام" ١/ ٢٥٣ و"معجم المؤلفين" ١٣/ ٣٦٨.
(٢) "عمدة التفسير" ١/ ١٥.
(٣) انظر: مقدمة المؤلف.
282
الجنة.
٢ - القصة الطويلة التي ذكرها عند قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢٤٨]
قال رحمه الله: (وقال لهم نبيهم إنَّ آيةَ ملكه أن يأتيكم التابوت) الآية: قال أصحاب الأخبار: إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتًا فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، فكان في بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكَلَّم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصرة، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العَمَالقة، فغلبوهم على التابوت، وسلبوه فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت دعا النبي ربه، فنزل بالقوم الذين غلبوا بني إسرائيل على التابوت داء بسببه، وذلك أنهم كانوا قد أخذوا التابوت فجعلوه في موضع غائطهم وبولهم، وكل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير، حتى تنبهوا أن ذلك لاستخفافهم بالتابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا به منزل طالوت، فلما رأوا التابوتَ عند طالوت، علموا أن ذلك أمارة ملكه عليهم، فذلك قوله: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ الآية (١).. إلى آخر ما ذكره.
(١) تنظر القصة بطولها في: "تفسير الطبري" ٥/ ٣١٨، و"تاريخ الأمم والملوك" ١/ ٤٦٩، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٣٥٨ - ١٣٦٢، و"تفسير البغوي" ١/ ٢٩٨ - ٢٩٩، و"البحر المحيط" ٢/ ٢٦١.
283
وقد وجدت بالتتبع أنه ينقل ذلك كله من تفسير شيخه مع الاختصار والتصرف. بيد أنه -رحمه الله- لا يعلق على ذلك بما يدل على الإنكار أو المخالفة.
المسألة الخامسة منهجه في عرض القراءات:
ذِكْرُ القراءات والاحتجاج لها البواعث الرئيسة للواحدي لتأليف هذا التفسير حيث يقول في مقدمته: "فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أعلق لمعاني إعراب القرآن وتفسيره فِقَرًا في الكشف عن غوامض معانيه، ونكتًا في الإشارة إلى علل القراءات فيه في ورقات يصغر حجمها ويكثر غنمها... ".
فجعل الإشارة إلى علل القراءات هدفًا هامًا يقابل الكشف عن غوامض التنزيل. فلا غرو أن نرى الواحدي يتوسع في بحث القراءات في تفسيره حتى تأخذ حيزًا كبيرًا وخصوصًا في مجال الاحتجاج لها.
وقد ذكر الواحدي منهجه في عرض القراءات وتوجيهها في المقدمة فقال: "وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل الأمصار، دون تسمية القراء واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي، الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه". فهذا المنهج الذي ذكره يقوم على:
١ - أنه اعتمد ذكر علل القراءات، وليس الهدف ذكر القراءات نفسها.
٢ - أنه يذكر القراءات السبع دون غيرها.
٣ - أنه لا يسمي القراء.
٤ - اعتمد في أكثر ما ذكر على كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي،
هذا منهجه في القراءات حسب ما ذكره في مقدمة كتابه. فلندرس هذا المنهج لنرى مدى التزامه به.
284
فأقول: بالنسبة للأمر الأول، وهو أنه اعتمد ذكر علل القراءات، فإنه التزم ذلك غالبًا، والقارئ لكتاب "البسيط" يلحظ في كلامه على القراءات أنه يعتمد كثيرًا ذكر علل القراءات وتوجيهها أكثر مما يعتمد ذكر القراءات نفسها، بل قد أطال في هذا الجانب إلى حد يعتبر خروجًا عن القدر اللازم في كتاب "التفسير".
لقد ألف أبو علي الفارسي كتابًا مستقلًا للاحتجاج للقراءات وذكر فيه من وجوه اللغة والنحو والتصريف ما عده المتخصصون خروجًا عن القدر اللازم، ومما أضفى على الكتاب شيئًا من صعوبة العبارة والغموض، قال أبو الفتح بن جني -تلميذ أبي علي الفارسي-: وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب "الحجة في قراءة السبعة" فأغمضه وأطال حتى منع كثيرًا -ممن يدعي العربية فضلًا عن القَرَاءة- منه وأجفاهم عنه (١).
هذا مع أن كتاب أبي علي مؤلَّف أصلًا للاحتجاج للقراءات. فما الظن بكتاب تفسير ينقل فيه تلك المباحث الطويلة. ليت الواحدي -مع قدرته البارعة على انتقاء النصوص وحسن سبكها- اختصر تلك المباحث بعبارة أكثر إيجازًا حتى يفيد القارئ، ويخرج به عن الملالة كما شرط ذلك على نفسه في مقدمة كتابه.
إذًا فجانب توجيه القراءات في كتاب "البسيط" قد توسع فيه الواحدي وأطال كثيرًا واعتمد في أغلبها، إن لم يكن في كلها على كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، فما يقال عن كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي يسري على كتاب "البسيط" في مجال توجيه القراءات.
(١) "المحتسب" ١/ ٢٣٦.
285
وقد تعرض د/ جودة محمد محمد المهدي في كتابه "الواحدي ومنهجه في التفسير" لتوجيه القراءات عند الواحدي، ووصفه بأنه من فرسان حلبة توجيه القراءات، ونعى على العلماء الذين كتبوا في هذا أنهم لم يعدوا الواحدي مع الجهابذة كالفارسي ومكي (١).
وقد اختار نصًّا طويلًا من "البسيط" حول توجيهه القراءات، واستنتج منه منهج الواحدي في توجيه القراءات وبنى عليه مقالته السابقة. ولم يرجع ذلك النص لمصدره وهو الحجة ليعرف أن الواحدي نقله بنصه، والواحدي صرح في مقدمة كتابه انه أعتمد في مجال القراءات على "الحجة"، ولو أجرى د/ جودة دراسة توثيقية للنصوص التي بنا عليها دراسته لمنهج الواحدي في القراءات أو في غيرها لكان له رأي آخر.
إن المشكلة أن بعض الدارسين لمناهج العلماء يقوم بنقل نص العالم الذي يقوم بدراسة منهجه، ويجري الدراسة على ذلك النص قبل أن يسبق ذلك بدراسة توثيقية، ليعرف أن تلك الأفكار لذلك العالم بالأصالة أم هو ناقل بالمعنى أو ناقل بالنص كما هو الحال مع الواحدي؟
إن غالب كلام الواحدي في مجال الاحتجاج للقراءات منقول بنصه من "الحجة" لأبي علي. فهل تصح بعد ذلك تلك الصفة التي أطلقها د/ جودة علي الواحدي؟.
أعود فأذكر أمثلة توضح أن الواحدي اعتمد ذكر توجيه القراءات أكثر مما اعتمد ذكر القراءات نفسها كما توضح الأمثلة مدى إطالته في هذا (٢).
(١) انظر كتاب "الواحدي، ومنهجه في التفسير" ص ٢٩٦.
(٢) أكتفي هنا بالإشارة إلى الآية لطول الكلام، ويمكن للقارئ أن يرجع إلى النص ويرى المقارنة بين كلام أبي علي والواحدي، كما هو مثبت في الحواشي.
286
منها ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] ذكر القراءات في "مالك" ثم دخل في ذكر الاحتجاجِ لكل قراءة بما يطول ذكره.
ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٣] ذكر إن في "يؤمنون" قراءتين، ثم دخل في احتجاج طويل لكل قراءة.
كذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦] ذكر أن في "أأنذرتهم" وجهين في القراءة ثم دخل في ذكر الاحتجاج لكل وجه بما يطول ذكره هنا.
الأمر الثاني: الذي ذكره الواحدي في منهجه في القراءات هو أنه يعتمد ذكر القراءات السبع دون غيرها.
اعتمد هذا الأمر في الغالب، حيث إنه عول كثيرًا على كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، وأبو علي الفارسي اعتمد في كتابه ذكر القراءات السبع التي ذكرها ابن مجاهد في كتابه "السبعة" لذلك كان ما أخذه الواحدي عن "الحجة" مقتصرًا على القراءات السبع، وهو أغلب ما ذكره في مجال القراءات في "البسيط"، على أنه ذكر قراءات غير سبعية أيضًا، وهي في أغلبها قراءات شاذة مما يذكره اللغويون في كتبهم، وربما كان فيها قراءة عشرية، ومصدره فيها -غالبًا- "معاني القرآن" للفراء، و"معاني القرآن" للزجاج، وربما أخذ من غيرهما.
فمن المواضع التي اعتمد عليها غير "الحجة" في ذكر القراءات، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] قال: والأجود في نعمتي فتح الياء، وكل "ياء" كانت من
287
المتكلم ففيها لغتان الإرسال والفتح. فإذا لقيها ألف ولام اختارت العرب اللغة التي حركت فيها الياء وكرهوا الأخرى..
وقال: وقال الزجاج: اختير فتح الياء مع اللام لالتقاء الساكنين ويجوز أن تحذف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين والاختيار الفتح....
ففي النص الأول ينقل عن الفراء بدون عزو، ثم ينقل عن الزجاج والكلام عن القراءات في "ياءات الإضافة" وهذه الطريقة في عرض القراءات ليست طريقة أئمة القراء في كتبهم، وإنما هي طريقة اللغويين ومن سار على نهجهم فهم يذكرون القراءات المتواترة وغيرها ويتكلمون عنها من الناحية اللغوية والنحوية، ولا ينظرون للسند. فانظر إلى قوله: الأجود في نعمتي فتح الياء.. بينما أجمع القراء العشرة على فتح "الياء" في قوله: ﴿نِعْمَتِيَ الَّتِي﴾ في مواضعها الثلاثة في البقرة، وقرأ بتسكينها الحسن (١) وابن محيصن فهي قراءة شاذة عند علماء أهل الفن.
ومثال آخر لقراءة شاذة نقلها الفراء في قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾ [البقرة: ٦٩] قال: اللون: مرفوع لأنك لم ترد أن تجعل "ما" صلة فتقول: يبين لنا لونها، وقد قرئ بها شاذًا وهو صواب..
فالقراءة الثابتة بالرفع، والقراءة بالنصب شاذة من ناحية سندها، ونجد الفراء ذهب إلى تصويبها من ناحية قواعد اللغة، وتبعه الواحدي على ذلك، ولعل مرادهم لو ثبتت القراءة بها.
(١) انظر: "النشر" ٢/ ١٦٢، و"القراءات الشاذة" للقاضي ص ٢٣، وانظر: "حاشية البسيط" في الموضع المذكور.
288
الأمر الثالث: الذي ذكره الواحدي في منهجه في القراءات هو عدم تسمية القراء فهل التزم الواحدي هذا المنهج؟ الواقع أن الواحدي لم يلتزم نلك، فانه يسمي القراء أحيانًا وأحيانًا لا يسميهم. ولإيضاح هذا الأمر نعود إلى كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، الذي اعتمد عليه الواحدي كثيرًا في ذكر القراءات والاحتجاج لها، حيث ذكر أبو علي منهجه في مقدمة كتابه، وقال: إنه يذكر أولًا ما ذكره ابن مجاهد في كتابه "السبعة" ثم يتبعه بالاحتجاج (١) لها، وابن مجاهد قد سمى صاحب القراء عند ذكر قراءتهم، وأبو علي تبعه على ذلك، وعند الاحتجاج قد يسمي صاحب القراءة، وقد لا يسميه اكتفاء بما ذكره أولًا، والواحدي نقل عن أبي علي في مجال الاحتجاج دون ذكر القراءات التي أخذها أبو علي من كلام ابن مجاهد، ولهذا تبعه الواحدي في تسمية القراء وعدم تسميتهم.
وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك:
عند تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] ذكر القراءات في "يؤمنون" فقال: وفي قوله ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ قراءتان تحقيق الهمزة وتليينها فمن حقق فحجته.. فلم يسم القراء، كذلك أبو علي في الحجة قال: فأما حجة من قرأ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بتحقيق الهمزة.. الخ (٢) فلم يسم اكتفاء بما ذكره أولًا (٣).
ومن الأمثلة على تسميته للقراء: عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
(١) انظر: مقدمة "الحجة" ١/ ٦.
(٢) "الحجة" ١/ ٢٣٨.
(٣) انظر: "الحجة" ١/ ٢١٤.
289
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: ٦] ذكر القراءات في ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ ومنه قوله: وأما أبو عمرو فكان يلين الثانية ويجعل بينهما مدة.. ، وتبع في ذلك أبا علي حيث قال: وحجة من فصل بين الهمزتين بألف وخفف الهمزة الثانية مع الفصل بينهما بألف، وهو الثبت عن أبي عمرو عندنا.. (١).
ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] ذكر القراءات في قوله تعالى: ﴿هُوَ﴾ ومما قاله: كان أبو عمرو والكسائي يخففان ﴿وَهُوَ﴾ "فهو" ويسكنان الهاء مع الواو والفاء واللام.. " (٢).
ومثال آخر عند تفسيره قوله تعال: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] ذكر القراءات في إني ومنه قوله: "وفتح أبو عمرو وابن كثير "الياء" في قوله ﴿إِنِّي أَعْلَمُ﴾ [البقرة: ٣٠] ﴿وَإِنِّي أَرَى﴾ [الأنفال: ٤٨، يوسف: ٤٣، الصافات: ١٠٢] عند الهمزة المفتوحة، وزاد أبو عمرو عند الهمزة المكسورة مثل: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ [يونس: ٧٢، هود: ٢٩، سبأ: ٤٧] وزاد نافع عند المضمومة مثل: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ﴾ [الأعراف: ١٥٦] ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ﴾ [المائدة: ١١٥]، ﴿إِنِّي أُرِيدُ﴾ [المائدة: ٢٩، القصص: ٢٧].. " (٣).
الأمر الرابع: في منهج الواحدي في القراءات قوله: "واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه" هذا أمر واضح في كتابه، حيث اعتمد على كتاب
(١) "الحجة" ١/ ٢٨٤، ٢٨٥.
(٢) "البسيط" ص ٦٧٧.
(٣) "البسيط" ص ٧٠٩.
290
أبي علي في أغلب ما ذكر في مجال القراءات سوى نزر يسير أخذه عن طريق الفراء أو الزجاج أو غيرهما.
والواحدي يأخذ من كتاب أبي علي بالنص، وربما تصرف في عبارته وقد يعزو له، والغالب أنه ينقل عنه بدون عزو، ولعله اكتفى بهذه الإحالة في المقدمة. وسبق ذكر ذلك عند الحديث عن مصادره.
وخلاصة القول في منهج الواحدي في القراءات: أنه اعتمد ذكر القراءات السبع في الغالب، وربما ذكر غيرها على طريقة اللغويين والنحويين، وبذل جهده في الاحتجاج للقراءات أكثر من تقرير القراءات، وأنه قد يسمي القراء وقد لا يسميهم فلم يلتزم ما ذكره في مقدمته، وكان كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي المصدر الرئيس في هذا المجال.
المسألة السادسة: منهجه في علوم القرآن:
كان الواحدي أستاذ عصره في التفسير، كذا قال عنه العلماء الذين ترجموا له (١)، ولم يصل إل تلك المكانة إلى لأنه كان متأهلًا لذلك، بمعرفة العلوم التي تعينه على كشف غوامض التنزيل، ومن أهمها علوم القرآن الكريم، وأنواع علوم القرآن كثيرة واسعة، وكان للواحدي مشاركة فوية في هذا المجال، حيث صنف في ذلك كتبًا كثيرة منها ما وصل إلينا "أسباب النزول" ومنها كتب لم تصل إلينا مثل: "مختصر فضائل القرآن" و"نفي التحريف عن القرآن الشريف". وبجانب هذه الكتب كانت له آراء في علوم القرآن ضمنها كتابه "البسيط" وهي كثيرة منها:
(١) انظر: "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٥٨، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣، و"إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
291
١ - في أسباب النزول:
هذا أكثر ميادين علوم القرآن التي شارك فيها الإمام الواحدي، حيث أخرج فيه مؤلفا مستقلا يعتبر من أول ما كتب في ذلك، وقد نال الشهرة حتى عد أبرز ما كتب في هذا الفن، وكان لهذا أثره الواضح على مؤلفاته في التفسير، ومنها "تفسير البسيط" حيث أعطى هذا الجانب عناية جيدة، فنراه يذكر سبب نزول الآية -عند تعرضه لتفسيرها- إن وجد لها سببا للنزول.
مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦] قال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... وقال الضحاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، وقال الربيع: نزلت في قادة الأحزاب يوم بدر....
ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٩] قال: "نزلت في سؤال عمرو بن الجموح.. " (١).
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] قال: قال أهل التفسير: أتت امرأة عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويسترجعها يضارها بذلك، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة فذكرت ذلك عائشة لرسول الله - ﷺ - فنزلت.. (٢).
(١) "البسيط" ١/ ل ١٣٣، من النسخة الأزهرية.
(٢) "البسيط" ١/ ل ١٣٩، من النسخة الأزهرية.
292
٢ - الوقف والابتداء:
أحد علوم القرآن الهامة وبه يعرف كيف أداء القرآن، وبه تتضح معاني الآيات (١). قال الزركشي: "وهذا الفن معرفته تحتاج إلى علوم كثيرة، قال أبو بكر ابن مجاهد: لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص، وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن.. (٢). كان للواحدي عناية بهذا العلم يظهر ذلك من خلال تفسيره "البسيط" حيث يذكر الوقف في مواضع من كتابه، من ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: ٧] فبعد أن فسر قوله (وعلى سمعهم) قال: وتم الكلام هاهنا، ثم قال: "وعلى أبصارهم غشاوة".. (٣).
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ الآية [البقرة: ٧١] قال ناقلًا عن ابن الأنباري: قال ابن الأنباري: غلط أبو حاتم في هذا؛ لأنه قال: الوقف جيد على قوله ﴿ذَلُولٌ﴾ ثم يبتدأ بـ ﴿تُثِيرُ الأرَضَ﴾ وقال: إن الله وصف هذه البقرة بما لا يعرفه الناس وصفا لغيرها من البقر، فجعلها تثير الأرض ولا تسقي الحرث على خلاف ما نشاهده من بقرنا. وقد أبطل الفراء وغيره من كبار النحويين هذا الوقف..
وفي سورة "يونس" عند تفسير قوله تعال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ [يونس: ٢] قال:.. تم الكلام عند قوله ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ثم ابتدأ فقال: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ
(١) انظر: "البرهان" ١/ ٣٤٢.
(٢) "البرهان" ١/ ٣٤٣.
(٣) "البسيط" ص ٤٨٥.
293
هَذَا}... (١).
٣ - الناسخ والمنسوخ:
وهو من العلوم الهامة للمفسر، "قال الأئمة لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلى بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ" (٢). وقد أعطى الواحدي هذا الفن عناية خاصة في تفسيره "البسيط" تكلم عنه بإفاضة فذكر تعريفه وأنواعه والخلاف في بعضها، وكأنه يتكلم في كتاب خاص بعلوم القرآن، وذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] عرض أولًا لتعريف النسخ في اللغة والاصطلاح ناقلًا عن الأئمة فقال: "قال الزجاج: النسخ في اللغة: إبطال شيء وإقامة آخر مقامه، والعرب تقول نسخت الشمس الظل. والمعنى: أذهبت الظل وحلت محله، وقال غيره: تناسخ الأزمنة والقرن بعد القرن هو مضي الأول ومجيء الثاني بعده يخلفه في محله... ثم قال ويجوز النسخ إلى بدل وإلى غير بدل... " وفصَّل في ذلك، ثم ذكر أنواع النسخ في القرآن فقال:.. ثم النسخ في القرآن على ضروب: منها ما يكون حكمه مرفوعًا وخطه مثبت.. (٣)، وذكر الأنواع وضرب الأمثال لها، ثم ذكر حكم الفرق بين النسخ والترك، ثم ذكر الخلاف في نسخ القرآن بالسنة (٤).
ولا يكتفي بهذا البسط لمباحث النسخ، بل يأخذ في التطبيق العملي، فلا يمر بتفسير آية ناسخة أو منسوخة ألا يقف عندها ويذكر ما قيل فيها، مثال
(١) "البسيط" ٣/ ل ٢، من النسخة الأزهرية.
(٢) "البرهان" ٢/ ٢٩.
(٣) "البسيط" ١/ ل ٧٨.
(٤) انظر: "البسيط" ١/ ل ٧٨.
294
ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ الآية [البقرة: ٢٤٠] تكلم عن سبب نزول الآية، ثم ذكر عدة المتوفى عنها في أول الإسلام، وهو ما ذكر في هذه الآية، وقال:.. ثم ورد النسخ على هذه الآية من وجهين: أحدهما: أن العدة صارت مقدرة بأربعة أشهر وعشر، وقد تقدمت الآية (١) الناسخة، والوجه الثاني: أن الميراث ثبت لها وسقطت نفقة العدة.. (٢).
٤ - الربط بين الآيات:
وهو أحد أنواع علوم القران، قال الزركشي: "وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم وفوائده غزيرة" (٣)، ثم نقل عن عز الدين بن عبد السلام قوله:.. ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر. قال: ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك.. (٤).
وقد أورد الواحدي هذا النوع في تفسيره حيث يذكر الارتباط بين الآيات ولا يتكلف ذلك بل يذكره بين الآيات التي يوجد بينها تناسب من وجهه.
مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
(١) وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤].
(٢) "البسيط" ١/ ل ١٤٧، النسخة الأزهرية.
(٣) "البرهان" ١/ ٣٦.
(٤) "البرهان" ١/ ٣٧.
295
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)} [البقرة: ٦] ربط الآية بما بعدها فقال:.. ثم ذكر الله تعالى سبب تركهم الإيمان فقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ...﴾ الآية..
ومثال آخر: ذكر فيه الارتباط بين قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ الآية [البقرة: ٢٣] وبين ما قبلها من الآيات وهي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] وكذا الآية بعدها. فقال: "قال المفسرون: ومعنى الآية أن الله تعالى لما احتج عليهم في إثبات توحيده احتج عليهم - أيضًا- في إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بما قطع عذرهم فقال: وإن كنتم في شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد عليه الصلاة والسلام وقلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا فأتوا بسورة من مثله....
من هذه الأمثلة نلحظ كيف يورد الربط في ثنايا التفسير بدون تكلف ولا يعنون له بقوله: ارتباط الآية أو نحو ذلك، فيأتي سلسًا لا تمحل فيه.
هذه بعض علوم القرآن التي وردت في تفسير "البسيط".
المسألة السابعة: منهجه في تقرير مسائل العقيدة، والرد على الفرق:
درس الواحدي العقيدة على أصول الأشعرية، حيث نشأ في بيئة نيسابور التي يسود فيها معتقد الأشعري (١)، لذا فهو أشعري المعتقد، وعلى هذا النهج سار في تقرير مسائل العقيدة في تفسيره "البسيط" بل كان من المنافحين عن أصول الأشعرية. ومن المعلوم أن منهجهم كسائر المتكلمين يقوم على تقرير العقيدة على أسس عقلية. وهذا النهج غير مرضي عند علماء
(١) انظر: مبحث عقيدته من هذِه الدراسة.
296
السلف، الذين رأوا أن الطريقة الصحيحة في تقرير العقيدة الأخذ بما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده، والتابعون لهم بإحسان، وذلك باتباع النص وعدم الدخول في طرق كلامية، وإن اضطر بعض المتأخرين منهم لاستعمال الجدل العقلي للرد على المخالفين، لا في تقرير أصول العقيدة (١).
وقد سبق أن ذكرت بعض الأمثلة من تفسير الواحدي "البسيط" للتدليل على مذهبه العقائدي (٢)، وأذكر هنا أمثلة أخرى تؤكد هذِه الحقيقة وتوضح بجلاء كيف استعمل الطرق الكلامية في تقرير العقيدة في تفسيره.
من ذلك أنه عندما تعرض في تفسير البسملة للاسم هل هو المسمى أو غيره، فذكر الأقوال في ذلك ثم قال:... والثاني -وهو الصحيح-: أن الاسم هو المسمى، كقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: ٥٩] فلو كان الاسم غير المسمى وجب أن يكون المأمور بطاعته غير الله وغير الرسول..
وما قرره ورجحه في هذه المسألة هو قول الأشاعرة فيها، والصواب ما قرره علماء السلف من أنه لا يقال: الاسم هو المسمى ولا غيره على الإطلاق، وإنما يكون الاسم هو المسمى تارة، وقد يراد به اللفظ الدال عليه تارة أخرى.
ومثال آخر في مسألة "الإيمان" قرر أن معنى الإيمان: هو التصديق فقال:
.. والقول في معنى الإيمان ما قاله الأزهري (٣)، إذا عدنا إلى ما
(١) انظر: ما كتبه ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية" ص ٢٢٢ - ٢٢٣.
(٢) انظر: مبحث عقيدته من هذِه الدراسة.
(٣) "البسيط" ص ٤٢٩.
297
نقله الواحدي عن الأزهري وجدناه يقول: قال الأزهري: اتفق العلماء أن "الإيمان" معناه: التصديق كقوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: ١٧] أي بمصدق... (١) والقول: إن الإيمان مجرد التصديق هو المشهور عند الأشاعرة، ولهم قول آخر كقول السلف وهو: أن الإيمان قول وعمل (٢). فأخذ الواحدي في هذه المسألة بمشهور قول الأشاعرة فيها.
ومثال آخر في حقيقة التوحيد ومعنى الوحدانية لله، قرر هذه المسألة على طريقة المتكلمين من الأشاعرة فيقول: "وقال أصحابنا حقيقة الواحد في وصف الباري سبحانه أنه واحد لا قسيم له في ذاته، ولا بعض له في وجوده بخلاف الجملة الحاملة التي يطلق عليها لفظ الواحد مجازًا كقولهم: دار واحدة وشخص واحد، ولهذا قال أصحابنا: التوحيد هو نفي الشرك والقسيم والشريك والشبيه فالله -سبحانه وتعالى- واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في إثبات المصنوعات وواحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا يشبه الخلق فيها... (٣).
فهذِه الأنواع التي أثبتوها في معنى التوحيد فيها ألفاظ مبهمة محتملة، ولو كان كل ذلك حقًا، فالإقرار به لم يخرج المشركين من دائرة الشرك التي وصفهم الله بها، ولابد من الإقرار بتوحيد الإلهية (٤).
في باب صفات الله سلك فيها كذلك مسلك الأشعرية؛ حيث يؤول
(١) "البسيط" ص ٤٢٧.
(٢) ذكره ابن تيمية في "الإيمان الأوسط" ص ٥١.
(٣) "البسيط" ١/ ١٠٠، من "النسخة الأزهرية".
(٤) انظر: "رد ابن تيمية في الرسالة التدمرية" ص ١٧٩ - ١٨٥. وانظر: ص ٥٤ - ٥٥ من هذه الدراسة حيث سبق ذكر للواحدي ونقل بعض كلام ابن تيمية في الرد عليه.
298
جميع الصفات التي وردت في القرآن الكريم، عدا الصفات السبع التي يثبتها الأشاعرة؛ لأن العقل دل عليها كما يقولون (١). وسبق ذكر أمثلة لهذا عند ذكر عقيدته، فلا داعي للإطالة بذكر أمثلة أخرى، وهي مسألة واضحة. هذا في جانب تقرير العقيدة.
الرد على الفرق:
أما بالنسبة للرد على الفرق، فكان للواحدي في ذلك اليد الطولي، خصوصًا المعتزلة والقدرية الذين كانت لهم صولة وجولة في تلك الحقب التي عاشها الواحدي.
وقف الواحدي في وجوههم يقابل الحجة بالحجة، ويقوم بالرد عليهم في كل موضع يكون محل شبهة لهم؛ حيث يستدلون بالنص القرآني على تقرير عقائدهم ومبادئهم.
من أمثلة عند تفسير قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] ذكر المعنى المراد بختم الله على قلوب الكفار، ثم قال:... فأما قول من قال معنى ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ حكم الله بكفرهم فغير صحيح؛ لأن أحدنا يحكم بكفر الكافر، ولا يقال ختم على قلبه، والقول الذي رده هنا هو قول المعتزلة.
ثم يسمي القدرية ويذكر قولهم ويرد عليهم فيقول: وذهب بعض المتأولين من القدرية إلى أن معنى ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وسمها سمة تدل على أن فيها الكفر لتعرفهم الملائكة بتلك السمة وتفرق بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشرع. قال: والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في
(١) انظر: "الرسالة التدمرية" ص ٣٣.
299
قلب المطبوع على قلبه.
ثم ينقض عليهم ناقضًا حجتهم معتمدًا على اللغة التي نزل بها القرآن؛ ليبين بطلان مأخذهم من اللغة فيقول: وهذا باطل؛ لأن الختم في اللغة ليس هو الإعلام، ولا يقال ختمت على الشيء بمعنى أعلمت عليه، ومن حمل الختم على الإعلام فقد تشهى على أهل اللغة، وجر كلامهم إلى موافقة عقيدته.
وفي موضع آخر يرد على المعتزلة والقدرية دون تسميتهم، وذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] يقول: ولا يجوز أن يكون معنى الإضلال الحكم والتسمية؛ لأن أحدنا إذا حكم بضلالة إنسان لا يقال: أضله، وهذا لا يعرفه أهل اللغة (١).
ومثال آخر يرد فيه المعتزلة دون تسميتهم عند تفسير قوله تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: ٣٥] يقول: "والمراد بقوله: ﴿الْجَنَّةَ﴾ جنة الخلد من قبل أن التعريف فيها بالألف واللام يجعلها كالعلم على جنة الخلد، فلا يجوز العدول عنها بغير دلالة، ألا ترى أنك لو قلت: نسأل الله الجنة، لم يكن ذلك إلى جنة الخلد.
فيقرر أنها جنة الخلد، ويرد على من قال غير ذلك بدون تصريح بالقائل ولا بمقالته. ومشهور مذهب المعتزلة أنها جنة في الدنيا (٢)، فهو يرد عليهم تلك المقالة.
(١) وإلى نحو هذا ذهب الزمخشري ورد عليه صاحب "الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال". انظر: "الكشاف" ومعه "الإنصاف" ١/ ٢٦٧.
(٢) ذكره الثعلبي ١/ ٦٠ أ، وابن عطية ١/ ١٢٨، والقرطبي ١/ ٣٠٢.
300
ومن خلال استقراء تلك الردود، يتضح الأسلوب الجدلي العقلي الذي يستعمله فيقابل الحجة بالحجة، كما يعتمد على اللغة في بيان ضعف مستمسك الخصم من الاستدلال بالآية على مذهبه. وكان علماء المعتزلة من كبار أئمة اللغة فحاولوا تطويع النصوص القرآنية من الناحية اللغوية لتقرير أصولهم، فأتاهم الواحدي من الباب الذي ولجوا منه، وبيَّن في كل مسألة تعرض لها أن اللغة لا تدل على ما أرادوا.
ومن خلال تلك النصوص نجد ردود الواحدي متجهة إلى المعتزلة والقدرية، ولم نر له ردًّا على أحد سواهم؛ ذلك لأن المعركة الكلامية كانت قائمة على أشدها في تلك الفترة بين الأشاعرة من جانب، وبين المعتزلة والقدرية (١) من جانب آخر.
على أن الشيعة كانت لهم صولات في تلك الفترة خصوصًا في عهد البويهيين، وقد عاصر الواحدي تلك الحقبة، ومع ذلك لم نجد له أي كلام عن الشيعة ولا مجرد ذكر لهم.
المسألة الثامنة: منهجه في المسائل الفقهية والأصولية:
قد قدمت في ترجمة أبي الحسن الواحدي رحمه الله أنه كان من علماء الشافعية، وأدلة ذلك أظهر من أن تذكر، والناظر في تفسيره يدرك ذلك بأدنى تأمل، حيث إنه -رحمه الله- يقدم أقوال الشافعية، ويستدل لها، ويرجحها، ويقتصر على مذهب الشافعي في كثير من المواطن، فلا يكاد يذكر معه غيره إلا لمامًا.
(١) انظر ما كتبه د/ عبد المجيد أبو الفتوح بدوي في كتابه: "التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي" ص ٢٩ - ٣٢.
301
ويمكن أن أسجل الملاحظات التالية في منهجه هنا:
١ - يعرض الواحدي للأحكام بصورة مختصرة، دون توغل في ذكر الفروع والمسائل التي لا صلة للآية بها إلى نادرًا، في الوقت الذي يطيل فيه إطالة بالغة عند توجيه القراءات، وذكر مسائل اللغة والنحو، ونحو ذلك، كما أسلفت.
٢ - يقتصر الواحدي في عرض الأحكام على مذهب الشافعي، ويحتج لمذهبهم، وقلما يذكر معه غيره، وقد يورد خلاف الحنفية، ولعل سبب ذلك: كون مذهبهم مشهورًا في المشرق الإسلامي، أما مذهب مالك فنادرًا ما يتعرض له، وأندر منه مذهب الإمام أحمد، ولعله لعدم اشتهارهما في المشرق حينذاك.
ومن أمثلة ذلك: عند تفسير قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] قال:.. قال ابن عباس في هذه الآية: جعلهن الله للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصح أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج. وهذا مذهب الشافعي رحمه الله.. وعند أبي حنيفة: إذا أحرم بالحج في غير أشهر الحج كره ذلك، وُيجزيه.
٣ - قد يورد الحكم المستنبط من الآية مجردًا دون قائل، أو مخالف، وعند التحقيق يكون على مذهب الشافعية.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] قال الواحدي: في قوله: (شيء) دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سَقَطَ القود؛ لأن شيئًا من الدمِ قد بطل بعفو البعض، والله تعالى قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾.
٤ - قد يفرد المسألة أو الحكم بفصل مستقل، وذلك قليل. ومن
302
أمثلته: إفراد أحكام التأمين بفصل بعد تفسير الفاتحة.
٥ - قد يذكر مذاهب الصحابة والتابعين ويسميهم تفصيلًا، وهو قليل في جملة الكتاب.
ومثال ذلك: ذكره لأقوال الصحابة في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] قال: وقوله تعالى: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾: قال ابن عباس وأكثر أهل التأويل: معناه: فليصم ما شهد منه؛ لأنه إن سافر في حال الشهر كان له الإفطار، وذهب طائفة على أنه إذا شهد أول الشهر مقيمًا ثم سافر لم يحل له الإفطار، وهو قول النخعي والسدي وابن سيرين ومذهب جماعة.
قد يتوسع في ذكر الأحكام، ويفصل في ذلك تفصيلًا بينًا، وهو قليل أيضًا في جملة الكتاب.
ومن أمثلة ذلك: قوله: ولأهل التأويل في قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] طريقان:
أحدهما: وهو قول ابن عباس في رواية عطاء: غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم، وهذا قول مجاهد وسعيد بن جُبَير والضحاك والكلبي، قالوا: غير قاطع للطريق، ولا مفارق للأئمة، مشاق للأمة.
وعلى هذا التأويل كل من عصى بسفره لم يحل له أكل الميتة عند الضرورة، لأنه باغ عاد، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، قال: إن الإباحة إعانة له على فساده وظلمه، ولكن يتوب ويستبيح.
والثاني: إن هذا البغي والعدوان يرجعان إلى الأكل، ومعناه: غير آكلها تلذُّذًا من غير اضطرار، (ولا عاد) ولا مجاوز ما يدفع به عن نفسه الجوع، وهذا قول السدي.
303
وقال الحسن وقتادة والربيع وابن زيد: غير باغ بأكله من غير اضطرار، ولا عاد يتعدى الحلال إلى الحرام، فيأكلها وهو غني عنها.
وعلى طريقة هؤلاء يُباح للعاصي بسفره تناول الميتة عند الضرورة، وهو مذهب أهل العراق.
والتأويل الأول أولى من حيث اللفظ والمعنى.
أما اللفظ: فرجوع البغي والعدوان إلى حال المضطر أولى من رجوعهما إلى أكله، وهو المفهوم من اللفظ؛ لأنه لم يسبق للأكل ذكر حتى يكون البغي والعدوان صفة له، راجعًا إليه، ومثله من الكلام أن يقال: قد حرم الأمير ركوب الخيل، ولبس السلاح، فمن أحوج غير فارٍّ ولا ذاهبٍ فلا حرج عليه، فالذي يسبق إلى الوهم من هذا، ويليق باللفظ، أن معناه: غير فار بنفسه ولا ذاهب، وأن الفرار والذهاب يعود إلى نفس المضطر، لا إلى شيء سواه.
وَوِزان التأويل الثاني من هذا الكلام: أن يكون المعنى: غير فار بسلاحه، ولا ذاهب به.
وأما من حيث المعنى: فإن نفس المؤمن يعاف الميتة والدم، ويستقذرهما استقذارًا يمنعه من أكلهما؛ ولهذا لا يقام الحد على آكلهما؛ لأنه لم يحتج في الزجر عنهما إلى الحد، لا كالخمر فإن لها دواعي من النفس، وإذا كان كذلك فليس يتجاوز أحدٌ في أكل الميتة قدر التشبع عند الضرورة، ولا يتعدى الحلال الذي معه، فيأكلها تلذذًا من غير أن يَرِدَ بهذا نهي، وإن جاز ورود النهي تأكيدًا، فلهذين الوجهين قلنا إن التأويل الأول أولى.
٧ - وجدت بالتتبع أنه ينقل غالب الأحكام من تفسير شيخه الثعلبي،
304
ويتابعه في الإطالة والاختصار والتفصيل والإجمال وذكر الخلاف والمخالفين ولكن على عادته -رحمه الله- بالتصرف والاختصار والتقديم والتأخير.
٨ - أما المسائل الأصولية فقليلة جدًّا في هذا التفسير، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره من معنى النسخ وأقسامه عند تفسير قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦].
قال رحمه الله: النسخ له معنيان:
أحدهما: تحويلُ الكتاب من حيث هو إلى نسخة أخرى، يقال: نسخت الكتاب، أي: كتبت منه نسخة أخرى، ثم يقال: نَسَخْتُ منه نسخة، وإن لم تحوله من مكتوب إلى غيره، كأنك كتبته عن حفظك، ومن هذا قوله عز وجل: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٩] يجوز أن يكون معناه: ننسخ، كقوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ [الصافات: ١٤] أي: يسخرون، ويجوز أن يكون معناه: نستدعي ذلك، وهو أمر الملائكة بكتابته. وعلى الوجهين جميعًا هو كتابة لا من نسخة، فعلا هذا المعنى: القرآن كله منسوخ؛ لأنه نُسِخَ للنبي -صلى الله عليه وسلم- من أمِّ الكتاب فأنزل عليه.
والثاني: هو رفعُ الحكم وإبطالهُ، ثم يجوز النسخ إلى بدل وإلى غير بدل.
فالذي إلى بدل قولهم: نَسَختِ الشمسُ الظلَّ، فالظلُّ يزول ويبطل، والشمس تكون بدلًا عنه.
والذي إلى غير بدل قولهم: نَسَختِ الريحُ الأثرَ، أي: أبطلتها وأزالتها.
305
وهذا المعنى هو المراد بالآية.
ثم النسخ في القرآن على ضروب:.. إلى آخر ما ذكر.
وقد عني رحمه الله بذكر الإجماع لكنه متساهل في حكايته ونقله.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١] قال: وإجماع أهل التفسير أن السيئةَ ها هُنا الشرك (١)، وأنّ الآية وردت في اليهود (٢)، وقد قيل: إنها عامة في جميع الكفار. اهـ والصحيح: أن هذا قول أكثر السلف، والقول الآخر: أن السيئة هي كبائر الذنوب التي توعد الله عليها بالنار، والخطيئة هي الكفر، وممن قال به الحسن والسدي.
ومن أمثلته أيضًا: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠] قال: "وقد اجتمعت العلماء على نسخ هذه الآية" (٣).
(١) هذا الإجماع ذكره الواحدي -أيضا- في "الوسيط" ١/ ١٦٤، وينظر: كتاب "الإجماع في التفسير" ص ١٧٧.
(٢) ذكر الإجماع على أنها في اليهود الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ١٦٢ قال: "والإجماع أن هذا لليهود خاصة؛ لأنه -عز وجل- في ذكرهم"، والطبري لم يذكر سوى ذلك، وكأن المؤلف نقض الإجماع بقوله وقد قيل.
(٣) تابع المؤلف -رحمه الله- الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٢٤٩ في هذا الإجماع، وسيأتي في كلامه ما يدل على نقض هذا الإجماع، وممن ذكر الخلاف في الآية فأطنب: الإمام الطبري في "تفسيره" ٣/ ٣٨٧، ولو قال -رحمه الله-: أجمع العلماء على نسخ حكم هذه الآية في القريب الوارث لكان مقاربا، وهذا ما ذكره بعد عدة أسطر.
306
ومن أمثلته أيضًا: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣] قال: وإجماعُ المفسرين على أن المراد بهذا الصيام صيام شهر رمضان (١).
المسألة التاسعة: منهجه في اللغة وفنونها:
يعد هذا الجانب أبرز الجوانب في تفسير الواحدي، وأوضحها للقارئ، حتى إنه ليعد أحد المراجع في هذا الفن، وسوف نتحدث في هذا الموضوع من خلال أربعة جوانب وهي:
١ - الجانب اللغوي:
للجانب اللغوي أهمية خاصة بالنسبة لتفسير "البسيط" ذلك لما حواه هذا الكتاب من مادة لغوية كثيرة، أثار ذلك انتباه بعض العلماء منهم الزركشي الذي اعتبر كتاب "البسيط" من كتب التفسير التي غلب عليها الطابع اللغوي، حيث كثر فيها الغريب، فيقول وهو يتحدث عن التفسير: وقد أكثر الناس فيه من الموضوعات، ما بين مختصر ومبسوط وكلهم يقتصر
(١) حكى الواحدي هذا الإجماع في "تفسيره الوسيط" ١/ ٢٧٢، ولا يسلم له؛ لورود الخلاف؛ حيث يرى جماعة أن المراد صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو صيامها وصيام عاشوراء، على خلاف بين القائلين بذلك، وبه قال قتادة وعطاء، وروي عن ابن عباس. وقد بين الحافظ في "فتح الباري" ٨/ ١٧٨ أن الناس اختلفوا في التشبيه الذي دلت عليه الكاف، هل هو على الحقيقة، فيكون صيام رمضان قد كتب على الذين من قبلنا؟ أو المراد: مطلق الصيام دون وقته وقدره؟ قولان، والثاني قول الجمهور. وينظر في ذكر الخلاف: "تفسير الطبري" ٣/ ٤١٤، و"المحرر الوجيز" ١/ ٢٥٠، و"النكت والعيون" ١/ ٢٧٣، و"الإجماع في التفسير" ص ١٩٩ - ٢٠٠.
307
على الفن الذي يغلب عليه، فالزجاج والواحدي في "البسيط" يغلب عليهما الغريب.. " (١).
وذلك البعد اللغوي في الكتاب "البسيط" ليس غريبًا على شخصية الواحدي العلمية والتي استجليناها فيما سبق (٢)، حيث أدرك منذ نشأته الأولى أهمية اللغة لتفسير كتاب الله، فصرف همته لذلك، حتى إذا نضجت فيه تلك الملكة، أبرزها في كتابه "البسيط".
يقول في مقدمة كتابه "البسيط" مبينًا أهمية اللغة لفهم القرآن وتفسيره: "والله تعالى ذكره، أنزل كتابه على قوم عرب، أولي بيان فاضل، وفهم بارع، أنزله -جل ذكره- بلسانهم، وصيغة كلامهم الذي نشأوا عليه.. يعرفون وجوه خطابه، ويفهمون فنون نظامه، ولا يحتاجون إلى تعلم مشكله وغريب ألفاظه حاجة المولدين الناشئين مع من لا يعلم لسان العرب حتى يعلمه.. وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- للمخاطبين من أصحابه -رضي الله عنهم- ما عسى بهم الحاجة من معرفة بيان مجمل الكتاب، وغامضه ومتشابهه، وجميع وجوهه التي لا غنى بهم وبالأمة عنه.
فاستغنوا بذلك عما نحن إليه اليوم محتاجون من معرفة لغات العرب واختلافها والتبحر فيها، الاجتهاد في تعلم وجوه العربية الصحيحة التي بها نزل الكتاب وورد البيان" (٣).
ويقول: "وقد كان الأكابر من السلف يحثون على تعلم لغة العرب، ويرغبون فيها لما يعلمون من فضلها وفرط الحاجة إليها، في معرفة ما في
(١) "البرهان" ١/ ١٣.
(٢) انظر ما سبق من الحديث عن العلوم التي برز فيها.
(٣) مقدمة "البسيط" للمؤلف، والنص نقله الواحدي عن مقدمة "تهذيب اللغة" ١/ ٤.
308
الكتاب، ثم في السنن والآثار وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين من الألفاظ الغريبة والمخاطبات العربية، فإن من جهل لسان العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها جهل جمل علم الكتاب" (١).
ويقول: "وكيف يتأتى لمن جهل لسان العرب أن يعرف تفسير كتاب جعل معجزة في فصاحة ألفاظه وبعد أغراضه -لخاتم النبيين وسيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله الطيبين- في زمان أهله يتحلون بالفصاحة، ويتحدون بحسن الخطاب وشرف العبارة، وإن مثل من طلب ذلك مثل من شهد الهيجاء بلا سلاح، ورام أن يصعد الهواء بلا جناح" (٢).
ومن هذه النصوص وغيرها مما قال في مقدمة كتابه التي تركتها - خشية الإطالة- ندرك مدى اهتمام الواحدي باللغة، ومن ثم انصرفت همته لها تعلمًا وتأليفًا فجاء كتابه "البسيط" أحد كتب التفسير التي غلب عليها الطابع اللغوي كما قال الزركشي.
لقد أصاب الزركشي فيما قال، فإن الواحدي إن كان قد أجاد في شرح اللفظة القرآنية بيان أصلها في اللغة، وربط ذلك بتفسير الآية، فإنه قد توسع في بعض المباحث اللغوية حتى عد ذلك خروجًا عن نهج التفسير، بل وعن النهج الذي شرطه على نفسه في مقدمة كتابه.
والمنهج اللغوي الذي سلكه الواحدي في تفسيره "البسيط" يقوم على بيان أصول الألفاظ القرآنية واشتقاقها وتصاريفها وما فيها من فروق لغوية مع الاعتناء بالألفاظ الغريبة وبيان مدلولاتها، ومن ثم ربط ذلك بتفسير
(١) مقدمة "البسيط" للمؤلف، وهو منقول عن مقدمة "تهذيب اللغة" ١/ ٥، انظر التعليق على "حاشية البسيط".
(٢) مقدمة "البسيط".
309
الآية فيطوع المباحث اللغوية لخدمة التفسير، ويوجه الأقوال ويرجع بعضها على بعض بما يملك من ملكه لغوية مصقولة.
ويبدأ تفسيره -في الغالب- بتحليل ألفاظ الآية وبيان أصولها واشتقاقها وشرح غريبها.
ولقد اعتمد الواحدي كثيرًا على كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري في جانب اللغة كما أفاد كذلك من كتاب "الحجة" و"الإغفال" لأبي علي الفارسي و"معاني القرآن" للفراء وللزجاج، وأقوال ابن الانباري، وهذه أهم مصادره في اللغة.
ومن الأمثلة على مدى عنايته في الجانب اللغوي، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤]. تكلم عن أصل "مالك" في اللغة وعن تصريفها فقال: المالك في اللغة الفاعل من الملك، يقال: مَلَك فلان الشيء يَمْلِكه مُلْكًا ومِلْكًا ومَلْكًا ومَلَكة ومَمْلَكة ومَمْلُكة، ويقال: إنه لحسن المَلْكة والمِلْك، وأصل: المُلْك والمِلْك راجع إلى معنىً واحد، وهو الربط والشد فمالك الشيء من ربطه لنفسه، ومُلْكُه ما يختص به وَشُدَّ بعقد يخرج به عن أن يكون مباحًا لغيره.. ، ويستمر في شرح طويل لهذِه اللفظة.
ثم يأتي إلي لفظ "الدين" في الآية رابطًا بين شرح اللفظة وبين الاستدلال بالقرآن والنقل عن السلف في معناها فيقول: "الدين" قال الضحاك وقتادة: الدين: الجزاء، يعني يوم يدين الله العباد بأعمالهم، تقول العرب دنته بما فعل أي جازيته، ومنه قوله: ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ [الصافات: ٥٣]، أي مجزيون، وقال:
310
أي: تجزى بما تفعل. ويقوي هذا التفسير قوله: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾ [غافر: ١٧] وقوله: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٨]. قال ابن عباس والسدي ومقاتل: معنى قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] قاضي يوم الحساب، واختار أبو عبيد هذا القول.. ثم قال: وللدين معان كثيرة في اللغة، وكل موضع انتهينا إليه من القرآن ذكرنا ما فيه.
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٠] قال عن "العذاب": أصل العذاب في كلام العرب من العذب وهو المنع يقال: عَذَبْتُه عَذْبًا أي: منعته منعًا، فعَذَبَ عُذُوبًا أي: أمتنع، ومنه يقال: للفرس إذا قام في المعلف ولم يتناول العلف وامتنع عنه: عَذُوب وعَاذِب، ومنه الماء العَذْب؛ لأنه يمنع العطش، فسمَّي العذاب عذابًا؛ لأنه يعذبُ المعاقب عن معاودة ما عوقب عليه، ويَعْذُب غيره من ارتكاب مثله.
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ الآية [البقرة: ٤٩] يتكلم عن لفظ "آل" عن أصله وعن اشتقاقه في اللغة فيقول: اختلف أهل العربية في الآل، واشتقاقه من اللغة، وأصله. فقال جماعة: أصله من الأول، بمعنى الرجوع، فآل الرجل كأنه شيعته الذين يؤولون إليه ويؤول إليهم.. ثم يذكر أشياء تشبه بآل الرجل فيقول:.. هذا معنى الآل في اللغة، ثم شُبِّه بآل الرجل أشياء تسمى بهذا الاسم وإن لم يوجد فيه معنى الأول، كعضد الخيمة تسمى: "آلًا" تشبيهًا بآل الإنسان، وآل البعير ألواحه.. ".
ثم ينقل كلامًا طويلًا عن أبي الفتح الموصلي عن أصل "آل" وما حصل عليها من إبدال وتغيير في بنية الكلمة.
311
واهتمام الواحدي بالاشتقاق اللغوي بارز في جميع المباحث اللغوية التي طرقها، ومن الأمثلة التي توضح ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ الآية [البقرة: ٥٨] ذكر اللغات في القرية ثم قال: وقال أصحاب الاشتقاق: اشتقاق القرية من قريت أي: جمعت، والمقراة: الحوض يجمع فيه الماء، والْقَرِيُّ: مسيل يجتمع الماء إليه، ويقال لبيت النمل: قرية؛ لأنه يجمع النمل..
٢ - الجانب النحوي:
أدرك الواحدي منذ اتجاهه إلى التحصيل أهمية النحو والأدب في تفسير القرآن وأنهما عمدتاه فيقول: "فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب فإنهما عمدتاه... "
ويقول: "وقل من تقدم في علم من العلوم إلا بمعرفة الأدب ومقاييس العربية والنحو" لذلك اتجه إلى النحو فجلس إلى الشيوخ يقرأ جوامع النحو والتصريف. يقول: "وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير -رحمه الله-، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية ودقائقها، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبًا من مائة جزء في المسائل المشكلة، ثم ورد علينا الشيخ الإمام أبو الحسن عمران بن موسى المغربي المالكي، وكان واحد عصره وباقعة دهره في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده".
لقد استوعب من مسائل النحو ما جعله يعد في مصاف أئمة هذا
312
الشأن، والمستحق لقب "النحوي" الذي أطلقه عليه أكثر الذين ترجموا (١) له، وفي مقدمتهم صاحب السياق الذي قال: الإمام المصنف المفسر النحوي. (٢)، ويقول ابن خلكان: كان أستاذ عصره في النحو والتفسير (٣).
وقد أفرغ في كتابه "البسيط" كثيرًا مما جمعه ووعاه من مسائل النحو ودقائقه وفروعه حتى أصبح الكتاب أقرب إلى موسوعة نحوية منه إلى كتاب تفسير. يقول السيوطي وهو يتحدث عن أنواع الذين صنفوا في التفسير: فالنحوي تراه ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه، ونقل فواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في "البسيط" وأبي حيان في "البحر" و"النهر"... (٤).
وأقول: إن السيوطي مصيب فيما قال، حيث أثقل الواحدي كتابه "البسيط" بمسائل نحوية لا علاقة لها بالتفسير إطلاقًا، وإنما يقوده إليها الاستطراد وشغفه بذلك العلم. وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك:
المثال الأول هو: ما افتتح الواحدي به كتابه فعند تفسير "البسملة" أول عبارة بدأ بها قوله: اختلفت عبارة النحويين في تسمية هذه الباء الجارة.. الخ، ثم استطرد في صفحات يذكر أقوال النحويين وخلافاتهم عن "الباء" وعن بعض حروف الجر كـ "اللام" و"الكاف" وقد نقل هذا الموضوع من كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني ولم يعزه له.
(١) انظر: "معجم الأدباء"، و"إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" ص ١٤٦.
(٢) انظر: "المنتخب من السياق" ل ١١٤
(٣) "وفيات الأعيان" ٣/ ٣٠٣.
(٤) "الإتقان" ٢/ ٢٤٣.
313
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] ذكر الأقوال في: "من" في قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ وهذا متعلق بتفسير الآية. ثم ذكر أوجه "من" عمومًا، فقال: قال النحويون: "من" يكون على أربعة أوجه..
وأخذ يذكرها ويمثل لها.
ثم قال بعده مباشرة: وهاهنا فصل يحتاج إليه في كثير من المواقع ذكرته هاهنا وهو: أن الحروف عند النحويين لا يليق بها الزيادة ولا الحذف.. الخ، ثم أخذ في شرح طويل في شرح هذِه المسألة، فما مناسبة هذا الفصل لتفسير الآية؟ إن مكانه كتب النحو لا كتب التفسير، وهذا الفصل بكامله وبنصه قد نقله عن كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني (١) بدون عزو.
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] تحدث عن "بين" وأخذ عن أبي علي الفارسي من كتاب "الإغفال" كلاما طويلًا عن "بين" ومنه: "قال أبو علي: اعلم أن "بين" اسم يستعمل على ضربين: مصدر وظرف.. الخ، واستمر في سرد طويل في صفحات. ومثله ما كتبه عن "الآن" ناقلا عن الفراء وأبي علي الفارسي.
إن حشو كتب التفسير بمثل هذه المباحث الطويلة يبعد القارئ عن تفسير القرآن ويطيل الكتاب، ويجلب الملل للقارئ. رحم الله الواحدي.
مذهبه النحوي:
هناك مدرستان نحويتان شهرتا وهما "مدرسة البصرة" و"مدرسة
(١) انظر: "البسيط" [البقرة: ٢٣]، والتعليق على النص.
314
الكوفة" ولكل من المدرستين قواعد وأصول تخالف المدرسة الأخرى، كما أن لكل واحدة منهما علماء عرفوا بذلك فمن أشهر رجال مدرسة البصرة الخليل بن أحمد، وسيبويه، والمازني، وقطرب، والمبرد، والزجاج، والزجاجي، وأبو علي الفارسي، وغيرهم (١).
ومن أشهر رجال مدرسة الكوفة: الفراء، الكسائي، وثعلب، وأبو بكر بن الأنباري (٢).
ونشأت بعد ذلك مدرسة ثالثة من جراء الخلط بين أصول المدرستين وهي ما عرفت بالمدرسة "البغدادية" ومن رجالها ابن كيسان وابن السراج (٣) وعد بعضهم منها "أبا الفتح بن جني" وعده بعضهم بصريًّا (٤).
فمن أي المدارس الثلاث يمكن أن يعتبر الواحدي؟
للإجابة عن هذا السؤال نعود إلى المادة النحوية التي ذكرها الواحدي في كتابه "البسيط" فنراه قد نقل عن أئمة المدارس الثلاث فأخذ عن الزجاج والفارسي والمبرد والزجاجي وغيرهم من مدرسة البصرة.
وأخذ عن الفراء وابن الأنباري وثعلب من مدرسة الكوفة. كما نقل آراء ابن كيسان وابن السراج وأخذ عن أبي الفتح بن جني، ومن ثم نراه قد نقل من قواعد المدارس الثلاث في كتابه.
(١) انظر طبقاتهم كما ذكرها الزبيدي في كتابه "طبقات النحويين واللغويين" ص ٢١ - ١٢١، انظر: "تاريخ النحو" ص ٣٤.
(٢) انظر طبقاتهم كما ذكرها الزبيدي في كتابه "طبقات النحويين واللغويين" ص ١٢٥ - ١٥٤، وانظر: "تاريخ النحو" ص ٤١.
(٣) انظر: "تاريخ النحو" ص ٩٣، ٩٤.
(٤) وبه أخذ محمد النجار في مقدمته على "الخصائص" لابن جني ١/ ٤٥.
315
كما نلاحظ أنه يذكر قول الكوفيين والبصريين في المسألة الواحدة وربما رجح قول أهل البصرة أو قول أهل الكوفة.
مثال على ذلك: لما تعرض لتفسير "الاسم" في تفسير "البسملة" ذكر أقوال الطرفيين ثم قال: قالوا: ولا يصح مذهب الكوفيين في هذا الحرف، لأنه لا يعرف شيء حذفت منه فاء الفعل فدخلت عليه ألف الوصل كالعدة والزنة....
بينما نراه في موضع آخر يأخذ بقول الكوفيين، ولا يذكر قول البصريين أصلًا فعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢] قال: أصل "لكن" لا، ك، إن، "لا" للنفي و"الكاف" للخطاب و"إن" للإثبات، فحذفت الهمزة استخفافًا. فما قرره في "لكن" هو رأى الكوفيين أما أهل البصرة فيرون أنها بسيطة غير مركبة (١). ولعل هذا مما أفاده من ابن الأنباري وهو كوفي كما سبق.
نصل من هذا إلى أن الواحدي أفاد في كتابه عن أئمة النحو من بصريين وكوفيين، يختار من أقوالهم ما يراه إلى الصواب أقرب ولا يلتزم مدرسة بعينها، لكن نقوله عن البصريين أكثر، لأن أغلب الأئمة الذين أخذ عنهم من مشايخ البصرة كالفارسي والزجاج والزجاجي، وابن جني عند بعضهم، والله أعلم بالصواب.
المسائل النحوية التي يُعْنَى بها في "البسيط":
لقد طرق الواحدي في كتابه أغلب مسائل النحو، ولا تأتي مناسبة في تفسيره لمسألة نحوية إلا وتعرض لها سواء كانت تتعلق بالتصريف أو
(١) انظر: "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين" ١/ ٢٠٩.
316
بإعراب الكلمة أو غير ذلك، وسبق ذكر نماذج لعنايته بتصريف الكلمة وأصولها في منهجه اللغوي، ونلحظ من مجموع المسائل النحوية التي تعرض لها عنايته بأمرين هامين وهما: إعراب القرآن، والأدوات والحروف. أما بالنسبة للأمر الأول وهو إعراب القرآن، فإن له أهمية كبرى فبالإعراب يتبين المعنى ويتضح، وبه يوقف على أغراض المتكلم، وقد ألفت في إعراب القرآن كتب كثيرة منها كتاب "مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب و"إملاء ما من به الرحمن" لأبي البقاء العكبري وغيرها (١).
وقد أولى الواحدي هذا الجانب عناية كبيرة لما له من أثر في وضوح معاني الآيات، ومن الأمثلة على ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] قال: وموضع "لا ريب" رفع بالابتداء عند سيبويه لأنه بمنزلة "خمسة عشر" إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه بالرفع في قوله:
لا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلا أَبُ
ومن نصب المعطوف فهو عطف على اللفظ..
وقوله "فيه" يجوز أن تجعله خبرًا للابتداء الذي هو "لا ريب" ويجوز
أن تجعله صفة لقوله: "لا ريب"، وإذا جعلته صفة أضمرت الخبر، كأنه
قيل: لا ريب فيه واقع أو كائن... الخ.
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦] قال: و"سواء" في الآية رفع بالابتداء ويقوم "أأنذرتهم
(١) انظر: "البرهان" ١/ ٣٠١.
317
أم لم تنذرهم" مقام الخبر في المعنى، كأنه بمنزلة قولك: "سواء عليهم الإنذار وتركه" لا في الإعراب، لأنك إذا قدرت هذا التقدير في الإعراب صار "سواء عليهم" خبرًا مقدمًا، والجملة في موضع رفع بأنها خبر "إن" ويجوز أن يكون خبر "إن" قوله: "لا يؤمنون" كأنه قيل: إن الذين كفروا لا يؤمنون سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم... إلخ".
ونلحظ ربط الإعراب بمحاولة إيضاح المعنى على جميع الوجوه. والاستفادة من إعراب القرآن للكشف عن معاني الآية ظاهرة في تفسير الواحدي، يتضح ذلك من الأمثلة السابقة، وأذكر مثالا آخر يوضح هذا الأمر أكثر، عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] قال: "وفي نصب قوله: "مثلًا" وجوه، أحدها: الحال، لأنه جاء بعد تمام الكلام، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا مبينا.
والثاني: التمييز والتفسير للمبهم وهو "هذا" كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا من الأمثال.
والثالث: القطع كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا المثل، إلى أنه لما جاء نكرة نصب على القطع عن إتباع المعرفة، وهذا مذهب الفراء وأحمد بن يحيى.
الأمر الثاني: عناية بالأدوات والحروف. ودراسة الحروف من مسائل النحو الهامة حيث ألفت فيها كتب مستقلة (١)، لأن معانيها تختلف بحسب
(١) منها كتاب "الأزهية في علم الحروف" لعلي بن محمد الهروي، و "حروف المعاني" للزجاجي، و"رصف المباني في شرح حروف المعاني" للمالقي، و"مغني اللبيب" لابن هشام.
318
موقعها من الكلام، ولذلك لابد للمفسر من معرفة ذلك (١)، وعناية الواحدي بها بارزة في تفسير "البسيط" فلا يمر شيء من الحروف والأدوات إلا ويبسط القول فيها عن تركيبها، وعن استعمالها، واختلاف مدلولاتها بحسب الاستعمال. ومن الأمثلة على ذلك ما سبق قريبا عن "الباء" و"من" و"بين" و"الآن"، ومن الأمثلة الأخرى ما ذكره عن "لم" و"لن" عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢٤] قال: "لم" حرف يجزم الفعل المضارع، ويقع بعدها بمعنى الماضي كما يقع الماضي بعد حرف الجزاء بمعنى الاستقبال، ولهذه المشابهة بينها وبين حروف الجزاء اختير الجزم بـ"لم".. ثم قال: وأما "لن" فهي حرف قائم بنفسه، وضع لنفي الفعل المستقبل، ونصبه للفعل كنصب "أن" وليس ما بعد "لن" بصلة لها، لأن "لن يفعل" نفي سيفعل، وتعمل ما بعدها فيما قبلها كقولك زيدًا لن أضرب... واستمر في بيان أقوال النحويين في أصل "لن".
وقد اعتمد الواحدي في المسائل النحوية كثيرًا على كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني، و"معاني القرآن" للفراء وللزجاج، وكتاب "الإغفال" و"الحجة" لأبي علي الفارسي، وعلى أقوال ابن الأنباري.
وكان اعتماده على كتاب "سر صناعة الإعراب" كبيرًا نقل منه مسائل طويلة بنصها، وعندما قام صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" بدراسة الجانب النحوي في التفسير عند الواحدي اختار نصين من "البسيط" أحدهما عن "الباء"، والثاني عن "أل" وبنى عليهما دراسته لمنهجه النحوي، وكأن الكلام للواحدي، مع أن هذين النصين منقولان بطولهما من
(١) انظر: "البرهان" ١/ ١٧٥.
319
كتاب "سر صناعة الإعراب" لأبي الفتح بن جني، ودور الواحدي هو حسن الانتقاء والعرض، (١) وسبق الإشارة لمثل هذا قريبًا عند الحديث عن منهج الواحدي في عرض القراءات.
٣ - الجوانب البلاغية:
علم البلاغة من أجل علوم العربية قدرًا، إذ به تعرف دقائق اللغة وسر الفصاحة فيها، وبه يعرف بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم، فلا غنى للمفسر عنه، يقول الزركشي: "وهذا العلم أعظم أركان المفسر فإنه لابد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز من الحقيقة والمجاز وتأليف النظم وأن يؤاخي بين الموارد ويعتمد ما سيق له الكلام حتى لا يتنافر وغير ذلك.. وقال الزمخشري: من حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليمًا من القادح، وإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل.. " (٢).
ولقد كان الواحدي سباقًا في ذلك حيث جعل "البلاغة" أحد القواعد الهامة لتفسير كتاب الله، فيقول: فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب -فإنهما عمدتاه- وإحكام أصولهما، وتتبع مناهج لغات العرب فيما تحويه من الاستعارات الباهرة والأمثال النادرة والتشبيهات البديعية، والملاحن الغريبة، والدلالة باللفظ اليسير على المعنى الكثير مما لا يوجد مثله في سائر اللغات.
(١) انظر: "الواحدي ومنهجه في التفسير" ص ٢٣٧ - ٢٤١.
(٢) "البرهان" ١/ ٣١١.
320
فجعل البلاغة مع النحو والأدب طريقًا إلى معرفة تفسير كلام الله، وذكر بعض أنواع البلاغة كالاستعارة والتشبيه والإيجاز وغير ذلك مما يدخل تحت قوله "والملاحن الغريبة".
وقد دأب في كتابه "البسيط" على محاولة إظهار إعجاز القرآن بما حوى من فصاحة في الأسلوب وبلاغة في التركيب، وكان هذا النهج واضحًا في تناوله لمفردات الآيات وتركيبها، وما اعتماده كتاب "نظم القرآن" لأبي علي الجرجاني مصدرًا مهّمًا في تفسيره إلا دلالة قوية على ذلك. كما أفاد من كتب ابن الأنباري حول تفسير مشكل القرآن شيئًا من الصور البلاغية.
ونأخذ أمثلة من كتابه لننظر مدى إثرائه في هذا الجانب. من ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] قال: -ناقلًا عن ابن الأنباري-: "قال أبو بكر: وقوله ﴿إِيَّاكَ﴾ بعد قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] رجوع من الغيبة إلى الخطاب، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، وهو نوع من البلاغة والتصرف في الكلام، ومثل قوله: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١] ثم قال: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾ [الإنسان: ٢٢].. فذكر أحد أنواع علم المعاني التي يسميها البلاغيون "الالتفات".
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ الآية [البقرة: ٧] ذكر نوعًا آخر من أنواع البلاغة -ناقلًا كذلك عن ابن الأنباري- قال: وقال ابن الأنباري: أراد وعلى مواضع سمعهم، فحذف المضاف، كما تقول العرب: تكلم المجلس، وهم يريدون أهله، وحذف المضاف كثير في التنزيل والكلام.. وهذا النوع يسميه علماء البلاغة: "مجازًا عقليًّا"
321
ويذكر هذا النوع كذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] قال: ومعنى قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، أي: ما ربحوا في تجارتهم، وأضاف الربح إلى التجارة؛ لأن الربح يكون فيها، وهذا كلام العرب يقولون: ربح بيعك، وخسر بيعك، ونام ليلك، وخاب سعيك... إلخ).
ويتحدث عن التشبيه وهو أحد أنواع علم البيان، فيعرفه ويذكر أهميته لما فيه من حسن البيان وقرب الاستدلال، لذلك كثر في القرآن، فيقول عند تفسير قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧] قال المبرد:... والمثل من الكلام: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه، فمعنى قولهم: مثل بين يديه إذا انتصب، معناه: أشبه الصورة المنتصبة بين يديه... والأمثال أصل كبير في بيان الأشياء؛ لأن الشيء يعرف بشبهه ونظيره، والأمثال تخرج ما يخفى تصوره إلى ما يظهر تصوره، والمثل بيان ظاهر على أن الثاني مثل الأول، والأمثال متداولة سائرة في البلاد، وفيها حكم عجيبة وفوائد كثيرة، وقد ذكر الله تعالى الأمثال في غير موضع من كتابه لما فيها من حسن البيان وقرب الاستدلال، والمقصود بالمثل البيان عن الحال الممثل، وحقيقته ما جعل من القول كالعلم للتشبيه بحال الأول...
ثم يدخل في بيان تطبيقي على الآية، موضحًا التشبيه فيها بذكر المشبه والمشبه به ووجه الشبه مع قرن ذلك بتفسير الآية، فيقول: فأما التفسير فقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل والسدي: يقول: مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء بها واستدفأ ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر ويخاف وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي
322
مظلمًا خائفًا متحيرًا، كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها، واعتزوا بعزها وأمنوا، فناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف وبقوا في العذاب والنقمة، وهذا القول اختيار الزجاج... وعلى ما قاله أبو إسحاق: التمثيل وقع بين تجملهم بالإسلام وبين النار التي يستضاء بها... واستمر في ذكر الأقوال في الآية مبرزًا أركان التشبيه فيها.
٤ - الشواهد الشعرية:
لقد تضلع الواحدي من علوم اللغة والأدب، ذلك لأنه أدرك أنها طريق تفسير كتاب الله تعالى، الذي نزل بلغة عربية فصيحة، وكان الواحدي حريصًا في تفسيره على توثيق جميع الأقوال والآراء والمعاني التي يذكرها بالأدلة، اتباعًا للمنهج العلمي الأصيل، فلا يترك قولا في التفسير أو اللغة أو النحو أو البلاغة إلا ويحاول الاستدلال له إما بآية من القرآن أو حديث من السنة، أو أثر عن السلف أو بيت من أشعار العرب، وسبق الحديث عن منهجه في الاستدلال بالقرآن والسنة ولأثر، وكان مما عرف عن المنهج الواحدي هناك أنه لا يستدل بالقرآن والسنة والأثر على مسائل التفسير فقط، بل وعلى مسائل اللغة والنحو.
وأما استشهاده بالشعر، فهو مجال الحديث الآن، ومما ينبغي استحضاره الآن تلك الهمة التي بذلها الواحدي لدراسة الأدب، والشعر بالدرجة الأولى. وقد ذكرت هذا في أكثر من موضع، ويكفي هنا أن نستعيد ما قاله الواحدي عن معاتبة شيخه العروضي له:.. حتى عاتبني شيخي -رحمه الله- يومًا من الأيام وقال: إنك لم تبق ديوانًا من الشعر إلى قضيت حقه أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز... فقلت يا أبت إنما أتدرج
323
بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب لم أرم في غرض التفسير عن كثب.. (١). فيدل هذا النص من كلام الواحدي على مقدار ما بذل في سبيل تحصيل الأدب وكم من دواوين الشعر قرأها واستوعب ما فيها، وأنه يرى أن ذلك طريق لتفسير كتاب الله. وقبل كلامه هذا ساق الآثار عن السلف في بيان مكانة الشعر العربي في تفسير القرآن فيروي عن سعيد بن المسيب قصة عمر -رضي الله عنه- وهو على المنبر وفيها يقول عمر: يا أيها الناس: عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
ويروي بسنده عن ابن عباس قال: إذا قرأ أحدكم شيئًا من القرآن فلم يدر ما تفسيره فليلتمسه في الشعر فإنه ديوان العرب.
وبسنده عن ابن عباس: أنه كان يسأل عن الشيء من عربية القرآن فينشد الشعر.
ألا يدل سياق الواحدي لتلك الآثار في مقدمة كتابه "البسيط" على ما كان يراه من مكانة هامة للشعر العربي في تفسير القرآن؟
ثم إن الواحدي قد حاول قول الشعر من صغره حتى تكونت لديه ملكة شعرية وقد عده بعضهم شاعرًا (٢)، تلك الملكة مكنته من اختيار أجزل الشعر وأرصنه للاستشهاد به على مسائل اللغة والنحو وغيرهما.
وقد حوى كتاب "البسيط" المئات من الشواهد الشعرية مما يقل مثله في كتب التفسير الأخرى.
وأكثر الشواهد الشعرية جاءت في المسائل اللغوية، أو النحوية، أو
(١) مقدمة "البسيط".
(٢) قال ذلك الأسنوي، انظر ما سبق.
324
البلاغية وقد يؤيد بها رأيًا في التفسير.
فمن أمثلة الشواهد الشعرية في المسائل اللغوية: عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] ذكر معنى "الحكيم" وتصريفها وما تأتي عليه من المعاني فقال: ومعنى الحكيم هو المحكم للأشياء صرف من مفعل إلى فعيل كسميع في قوله:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَاعِي السَّمِيع (١)
قال ابن المظفر:... والحكم القضاء بالعدل -أيضًا- قال النابغة:
واعلم وأيقن أن ملكك زائل واعلم بأن كما تدين تدان
واحْكُم كَحُكْم فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ إلى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ
... قال الأصمعي: أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم، ومنه سميت حَكَمَةُ اللجام، لأنها ترد الدابة قال: ومنه قول لبيد:
أحْكَمَ الجِنْثِىُّ مِنْ عَوْراتِها كُلَّ حِرْباءٍ إذا أُكْرِهَ صَلّ
قال الأزهري: والعرب تقول حَكَمْتُ وأَحْكَمْتُ وحَكَّمْتُ بمعنى: رَدَدْت ومنعت.. ومنه قول لبيد:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُو سُفَهَاءَكُم
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٣٥] تكلم عن معنى الظلم، وعن أصله ومنه قوله:... قال أبو عبيد: ويقال لذلك: اللبن المظلوم والظليم وأنشد شمر:
وَقَائِلةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي وَهَلْ يَخْفَى عَلى العَكِدِ الظَّلِيمُ
وقال الفراء: ظَلَم الوادي إذا بلغ الماء منه موضعًا لم يكن ناله فيما
(١) تخريج الأبيات ونسبتها لقائليها وشرح غريبها موجود في حواشي "البسيط".
325
خلا وأنشد:
يَكَادُ يَطْلُعُ ظُلْمًا ثُمَّ يَمْنَعُهُ عَنِ الشَّواهِقِ فَالْوَادِي بهِ شَرِقُ
وقال ابن السكيت في قول النابغة:
والنُّؤيُ كَالحَوْضِ بالْمِظْلُومَةِ الجَلَدِ
يعني: بالمظلومة أرضا في برية حوَّضوا فيها حوضًا سقوا فيه إبلهم، وليست بموضع تحويض، قال: وأصل: الظُّلْم وضع الشيء غير (١) موضعه، قال: ومنه قول ابن المقبل:
هُرْتُ الشَّقَاشِقِ ظَلَّامُونَ للجُزُرِ
وظلم الجزور أنهم نحروها من غير مرض فوضعوا النحر في غير موضعه.
وقول زهير:
وَيُظْلمُ أَحْيَانًا فَيَنْظَلِمُ
فهذا الحشد الكبير من الأبيات الشعرية عند شرح مفردة واحدة من مفردات القرآن وهي "الظلم" يدل على مقدار ما حوى البسيط من الشواهد الشعرية.
ومن الأمثلة على الشواهد الشعرية علىِ المسائل النحوية ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] وتكلم عن (لا) فقال:.. والذين يجوزون زيادة لا يقولون: إنما تجوز إذا تقدمه نفي كقوله:
مَا كَان يَرْضَى رَسُولُ الله دينَهَمُ والطَّيِّبانِ أبوُ بَكْرِ وَلَا عُمَرُ
وليس كذلك فقد جاء زيادتها في الإيجاب كما جاء في النفي، قال
(١) في "تهذيب اللغة": "في غير موضعه" "تهذيب اللغة" "ظلم" ١٤/ ٣٨٤.
326
ساعدة الهذلي:
أَفَعَنْكِ لاَ بَرْق كَأَنَّ وَميِضَه غَابٌ تَشَيِّمَه ضِرَامٌ مُثْقَبُ
وأنشد أبو عبيدة:
وَيَلْحَيْنَنِي في اللَّهْو أَلَّا أُحِبَّهُ وَللَّهْو دَاعٍ دَائِبٌ غير غافل
ومن الشواهد الشعرية في مسائل بلاغية ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] فذكر من البلاغة فيها: الالتفات وذلك بالرجوع من الغيبة إلى الخطاب حيث جاءت الآية بعد قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] وقال: إن هذا نوع من البلاغة، وهو كثير في كلام العرب وذكر أبياتًا شواهد على ذلك فقال:
وقال الأعشى:
عِنْدَهُ البِرُّ والتُّقَى وَأَسَا الصَّدْ عِ وَحَمْلٌ لمُضْلِع الأثَقْالِ
وَوَفَاءٌ إذَا أَجرتَ فَمَا غَرَّ تْ حِبَالٌ وَصَلْتَها بِحِبَالِ
وأنشد أبو عبيدة:
يَا لهْفَ نَفْسِي كَانَ جِدَّةُ خَالِد وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للِتُّرَابِ الأَعْفَرِ
وقال كثير:
أَسيِئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ"
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] ذكر المجاز فيها وقال: إن هذا كثير في كلام العرب ثم قال: ".. وقال جرير:
وَأَعْوَرَ مِنْ نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ومراده بهما الموصوف من نبهان".
327
المطلب الثالث
مقارنة بين تفاسير الواحدي الثلاثة
إن المتأمل لعناوين هذه التفاسير (البسيط، الوسيط، الوجيز) ليدرك الفرق الجوهري بينها، ويعلم أنها درجات متفاوتة في الطول والقصر، والبسط والإيجاز.
ويمكن أن أستعرض أهم الفروق بين هذِه التفاسير في النقاط التالية:
١ - أن البسيط أوسعها بحثًا، وأكثرها مسائل، وفيه من التدقيق والتحقيق والإطناب ما ليس في الآخرين، ثم يأتي من بعده الوسيط، ثم من بعدهما الوجيز.
يوضح ذلك قول المؤلف في مقدمة "الوسيط": وقديمًا كنت أطالب بإملاء كتاب في تفسير وسيط، ينحط عن درجة "البسيط" الذي تنجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة "الوجيز" الذي اقتصر فيه على الإقلال، بتصنيف ما رُسِم من تفسير، أعفيه من التطويل والإكثار، وأسلمه من خلل الوجازة والاختصار، وآتي به على النمط الأوسط، والقصد الأقوم، حسنة بين السيئتين، ومنزلة بين المنزلتين، لا إقلال، ولا إملال (١).
ويقول في مقدمة "الوجيز":... فإني كنت قد ابتدأت بإبداع كتاب لم أسبق إلى مثله، وطال عليَّ الأمر في ذلك... ثم استعجلني قبل إتمامه والتقصي عما لزمني من عهدة إحكامه نفر متقاصرو الرغبات، منخفضو الدرجات، أولو البضاعة المزجاة، على إيجاز كتاب في التفسير، يقرب على من تناوله، ويسهل على من تأمله، من أوجز ما عمل في بابه، وأعظمه فائدة على متحفظيه
(١) "الوسيط" ١/ ٥٠.
329
وأصحابه، وهذا كتاب أنا نازل فيه إلى درجة أهل زماننا، تعجيلًا لمنفعتهم، وتحصيلًا للمثوبة في إفادتهم، بما تمنوه طويلًا، فلم يغن عنهم أحد فتيلًا، وتارك ما سوى قول واحد معتمد لابن عباس -رحمه الله- أو من هو في مثل درجته، كما يترجم عن اللفظ العويص بأسهل منه (١).
٢ - أن الأقوال في البسيط مذكورة بتمامها، واختلاف وجوهها مع الاستدلال والترجيح أحيانًا، بينما اختصر ذلك في الوسيط، واقتصر في الوجيز على قول واحد معتمد لابن عباس -رضي الله عنه- أو من هو في مثل درجته.
٣ - يظهر من النصوص السابقة أن المادة العلمية في الوسيط إجمالًا منتقاة من البسيط، ولذا قال القفطي: وهو مختار من البسيط (٢).
٤ - استطرد الواحدي بوضوح في البحوث اللغوية والنحوية، في الوقت الذي جاءت على نحو مختصر كاف في الوسيط، أما في الوجيز فلم يعرِّج عليها.
٥ - يلاحظ أن الوسيط تميز عن الآخرين في جانب الرواية، فهو يذكر فيه أحاديث وآثارًا، ويسوق أسانيد كثير منها، لا يذكرها ألبتة في الوجيز، ويُقل منها في البسيط.
٦ - كما أنه في الوسيط أيضًا يفتتح كل سورة بما ورد في فضلها ولا يشير إلى ذلك في تفسيريه الآخرين، وحديث فضائل السور المشهور إنما ذكره في الوسيط فقط، وهو حديث موضوع كما لا يخفى، وقد تقدم ذكر ذلك.
(١) "الوجيز" ١/ ٨٧.
(٢) "إنباه الرواة" ٢/ ٢٢٣.
330
٧ - اعتنى الواحدي في البسيط بتوجيه القراءات وتعليلها، واستطرد في ذلك إلى الغاية القصوى، وضمن كتابه خلاصة الحجة لأبي علي الفارسي، بينما نجده مقلا في الوسيط بشكل واضح، وأما الوجيز فلا يكاد يذكر شيئًا من ذلك إلا نادرًا.
٨ - أما من حيث ترتيب تأليف هذه التفاسير، فإنه قد يفهم من النصين السابقين أنه بدأ بالبسيط، وقبل إتمامه ألف الوجيز ليحقق رغبة من قصرت همتهم، ثم ألف الوسيط الذي صرح بأنه ألفه بعد البسيط.
ومن الأمثلة التي تبين الفرق بين هذِه التفاسير الثلاثة:
ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨]
فقد فسره في البسيط بقوله:
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ الآية، الصفا: جمع صفاة، وهي الحجارة، قال أبو العباس: الصفا: كل حجر لا يخلطه غيره، من طين أو تراب يتصل به، واشتقاقه من صفا يصفو إذا خلص.
والمروة: واحدة المرو، وهي حجارة بيض براقة، يكون فيها النار. قال الأعشى:
وتُوَلي الأرضَ خُفَّا ذابلًا فإذا ما صادف المَروَ رَضَحْ
وهما اسمان لجبلين معروفين بمكة.
وشعائر الله: واحدتها شعيرة، قال المفسرون وأهل اللغة جميعًا: شعائر الله: متعبداته التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلامًا لنا، وهي كل ما كان من مشعر أو موقف أو مسعى أو منحر، وهي من قولهم: شعرت،
331
أيَ: علمت، وهي كلها معلومات، وهذا قول الزجاج، واختياره.
ويحتمل أن تكون "الشعائر" مشتقة من الإشعار، الذي هو الإعلام على الشيء، ومنه: الشعائر: بمعنى العلامة؛ ولهذا تسمى الهدايا شعائر؛ لأنها تشعر بحديدة في سنامها من جانبها الأيمن حت يخرج الدم، قال الكميت:
شَعَائرَ قُربانٍ بهم يُتَقَرَّبُ
ويحتمل أن يكون من الإعلام بالشيء، وبه قال مجاهد في قوله (من شعائر الله)، قال: يعني: من الخبر الذي أخبركم عنه، كأنه إعلام من الله عباده أمر الصفا والمروة.
وقوله تعالى ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ قال الليث: أصل الحج في اللغة: زيارة شيء تعظمه. وقال يعقوب والزجاج: أصل الحج: القصد، وكل من قصد شيئًا فقد حجه.
وقال كثير من أهل اللغة: أصل الحج: إطالة الاختلاف إلى الشيء. واختار ابن جرير هذا القول، قال: لأن الحاج يأتي البيت قبل التعريف، ثم يعود إليه للطواف يوم النحر، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصَّدَر، فلتكرارِهِ العودَ إليه مرةً بعد أخرى قيل له: حاج، وكلهم احتجوا بقول المخبل القريعي:
يحجُّون سِبَّ الزِّبرِقان المُزَعْفَرا
وقال سيبويه: ويقال: حَجَّ حِجًا، كقولهم: ذكر ذِكرًا. وقال الفراء: الحَج والحِج لغتان، يقال: حَجَجْتُ حِجّة للمرة الواحدة، لم يأت عن العرب غيره. ولو قيل: "حَجَّة" بالفتح كما قالوا: مَرَرتُ به مَرة، كان صوابًا، مثل: مددته مدةً، وقددته قدةً، هذا كلامه. فأما قولهم: حُجٌّ، وهم
332
يريدون: جمع الحاج، فقد يمكن أن يكونوا سموا بالمصدر، وتقديره: ذوو حج، قاله أبو علي، قال: وأنشد أبو زيد:
وكأن عافية النسور عليهم حُجُّ بأسفلِ ذي المَجَاز نُزُولُ
وقوله تعالى: ﴿أَوِ اَعْتَمَرَ﴾ قال الزجاج: قصد، وقال غيره: زار، قال أعشى باهلة:
وراكبٌ جاء من تثليث معتمرُ
قال الأزهري: وقد يقال: الاعتمار: القصد، وأنشد للعجاج:
لقد سما ابن مَعْمَرٍ حينَ اعْتَمَر مَغْزى بعيدًا من بعيدٍ وضَبَر
يعنى: حين قصد مغزى بعيدًا.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَليْهِ﴾ الجناح: الإثم، وأصله: من الجنوح، الذي هو الميل، يقال: جَنَحَ: مال، ومنه قوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] وقيل للأضلاع: جوانح؛ لاعوجاجها، قال ابن دريد: معنى (لا جناح عليكم) أي: لا ميل إلى مأثم. وجناح الطائر من هذا؛ لأنه يميل في أحد شقيه، ليس على مستوى خلقته، فمعنى الجناح: الميل عن الحق.
وقال أبو علي الجرجاني: معنى ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ أينما ذكر في القرآن: لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء، هذا هو الأصل، ثم صار معناه: لا حرج عليه، ولا ذنب عليه.
قال ابن عباس: كان على الصفا صنم، وعلى المروة صنم، وكان أهل الجاهلية يطوفون بينهما، ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما؛ لأجل الصنمين؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية، منبها لهم على أن الطواف بالصفا والمروة لا تبعة فيه عليهم، وأنه
333
طاعة لله تعالى، وغير تعظيم للصنمين.
فالآية تدل بظاهرها على إباحة ما كرهوه، ولكن السنة أوجبت الطواف بينهما والسعي، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس كتب عليكم السعي فاسعوا" وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه.
والواجب أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، ويسعى بينهما سعيًا، فيكون مصيره من الصفا إلى المروة شوطًا من السبع، وعوده من المروة إلى الصفا شوطًا ثانيًا، فإن بدأ بالمروة إلى الصفا لم يحسب هذا الشوط؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دنا من الصفا في حجته قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدأوا بما بدأ الله به"، فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت، ثم مشى حتى إذا تصوبت قدماه في الوادي سعى.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فيه وجهان من القراءة:
أحدهما: (تَطَوَّع) على "تَفَعَّل" ماضيًا، وهذه القراءة تحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون موضع (تطوع) جزما، وتجعل "من" للجزاء، وتكون الفاء مع ما بعدها من قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ في موضع جزم لوقوعها موقع الفعل المجزوم، والفعل الذي هو (تطوع) على لفظ المثال الماضي، والمراد به المستقبل، كقولك: إن أتيتني أتيتك.
الثاني: أن لا تجعل "من" للجزاء، ولكن تكون بمنزلة "الذي" وتكون مبتدأ به، ولا موضع حينئذ للفعل الذي هو "تطوع"، والفاء مع ما بعدها في موضع رفع، من حيث كان خبر المبتدأ الموصول، والمعنى فيه معنى الجزاء؛ لأن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة آذنت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول، كقوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣] "وما": مبتدأ موصول، والفاء مع ما بعدها
334
جواب له، وفيه معنى للجزاء؛ لأن تقديره: ما ثبت بكم من نعمة، أو مادام بكم من نعمة فمن ابتداء الله إياكم بها، فسبب ثبات النعمة ابتداؤه [ذلك] كما أن استحقاق الأجر إنما هو من أجل الإنفاق في قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٤] وعلى هذا كل ما في القرآن من هذا الضرب، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ [البروج: ١٠] وقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥] ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾ [البقرة: ١٢٦] و ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] و ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] ونذكر هذه المسألة مشروحة عند قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [البقرة: ٢٧٤].
الوجه الثاني من القراءة: (يَطَّوَّعْ) بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع إلى أن التاء أدغم في الطاء لتقاربهما، وهذا حسن؛ لأن المعنى على الاستقبال، والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن تقول: من أتاك أعطيته، فتوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلى أن اللفظ إذا كان وافق المعنى كان أحسن.
وأما التفسير: فقال مجاهد: (ومن تطوع خيرًا) بالطواف بهما، وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضًا.
وقال مقاتل والكلبي: ومن تطوع خيرًا فزاد في الطواف بعد الواجب.
ومنهم: من حمل هذا النوع على العمرة، وهو قول ابن زيد، وكان يرى العمرة غير واجبة.
وقال الحسن: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ يعني به: الدين كله، أي: فعل غير المفرَض عليه، من طواف وصلاة وزكاة ونوع من أنواع الطاعات. وهذا
335
أحسن هذه الأقاويل؛ لأن قوله (ومن تطوع خيرًا) صيغته تدل على العموم.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي: مجازٍ بعمله، ﴿عَلِيمٌ﴾ بنيته. قال أهل المعاني: وحقيقة الشاكر في اللغة: هو المظهر للإنعام عليه، والله تعالى لا تلحقه المنافع والمضار، فالشاكر في وصفه مجاز، ومعناه: المجازي على الطاعة بالثواب، إلى أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد، مظاهرة في الإحسان إليهم، كما قال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٤٥] وهو تعالى لا يستقرض من عوز؛ ولكنه تلطفٌ في الاستدعاء. كأنه قيل: من الذي يعمل عمل المقرض، بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم في وقت فقره وحاجته.
وقال في "تفسير الوسيط":
قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾: هما جبلان معروفان بمكة. و ﴿شَعَائِرِ اللَّهِ﴾: متعبداته، التي أشعرها الله، أي جعلها أعلامًا لنا، وهي كل ما كان من موقف أو مسعى أو منحر.
﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ أصل الحج في اللغة: زيارة شيء تعظمه. قال الزجاج: أهل الحج: القصد، وكل من قصد شيئًا فقد حجه.
وقوله: ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾ قال الزجاج: أي: قصد، وقال غيره: زاره.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ أي: لا إثم عليه ولا حرج ولا ذنب ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.
أخبرنا منصور بن عبد الوهاب البزار، أخبرنا محمد بن أحمد بن سنان، أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عاصم عن أنس بن مالك. قال: كانوا يمسكون عن الطواف بين الصفا والمروة، وكانا من شعائر الجاهلية، وكنا نتقي الطواف
336
بهما، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا...﴾ الآية.
رواه البخاري عن أحمد بن محمد، عن عبد الله، عن عاصم.
أخبرني سعيد بن العباس القرشي، أخبرنا العباس بن المفضل النضروي، أخبرنا أحمد بن نجدة، حدثني سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، عن داود، عن الشعبي، قال: كان لأهل الجاهلية صنمان يقال لأحدهما يساف والآخر نائلة، وكان يساف على الصفا، وكان نائلة على المروة، وكانوا إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوهما فلما جاء الإسلام، قالوا: غنما كان أهل الجاهلية يطوفون بينهما لمكان هذين الصنمين وليسا من شعائر الحج، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ فجعلهما الله من شعائر الحج.
والآية بظاهرها تدل على إباحة ما كرهوه، ولكن السنة أوجبت الطواف بينهما والسعي، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس كتب عليكم السعي فاسعوا"، وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
وقوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) قال الحسن: يعني به الدين كله، والمعنى فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة ونوع من الطاعة.
وقرأ حمزة (ومن يطَّوَّعْ) بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع إلا أن التاء أدغمت في الطاء لمقاربتهما، وهذا حسن لأن المعنى على الاستقبال، والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن تقول: من أتاك أعطيته، فتوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان وفق المعنى كان أحسن.
وقوله: (فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ) أي: مجاز له بعمله، ومعنى الشاكر في
337
وصف الله: المجازي على الطاعة بالثواب (١)، (عَلِيمٌ) بنية المتطوع (٢).
وقال في الوجيز:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) وهم جبلان معروفان بمكة (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي: متعبداته (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) زاره معظمًا له (أَوِ اعْتَمَرَ) قصد البيت للزيارة (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) فلا إثم عليه (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) بالجبلين، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما، فكره المسلمون الطواف بينهما، فانزل الله تعالى هذه الآية.
(وَمَن تطَوَّعَ خَيرًا) فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة وطاعة (فَإِن اللهَ شَاكِرٌ) مجاز له بعمله (عَلِيمٌ) بنيته (٣).
(١) بينَّا في التعليق على البسيط التفسير الصحيح لمعنى اسم الله (الشاكر).
(٢) "التفسير الوسيط" ١/ ٢٤١ - ٢٤٣.
(٣) "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" ص ١٤٠ - ١٤١.
338
المبحث السابع
قيمة الكتاب العلمية
بعد هذه الدراسة حول كتاب "البسيط" ومعرفة منهج الواحدي فيه أقف وقفة سريعة لاستجماع أطراف الحديث، ومحاولة تحديد المكانة العلمية لكتاب "البسيط" في المكتبة التفسيرية، وأين موقعه فيها، من خلال ما أضافه من معاني جديدة كما أذكر بعض الملاحظات التي توصلت إليها أئناء دراستي لهذا الكتاب فأقول:
يحتل تفسير "البسيط" مكانة علمية عالية في المكتبة القرآنية، ويعتبر مرجعًا هامًّا للمتخصصين في التفسير. ومع ما له من أهمية بقي هذا الكتاب إلى هذا الوقت حبيسًا لم يخرج إلى المكتبة، مما منع الدارسين أو الباحثين من الإفادة منه.
على أنني أرى أن الكتاب لا يستطيع الإفادة منه إلى العلماء وطلبة العلم الذين تكونت لديهم الملكة التي تعينهم على فهم بحوثه اللغوية والنحوية العميقة، أما عامة القراء فهم مع هذا الكتاب كما وصفهم الواحدي "كمحاول غلقًا ضاع منه المفتاح".
تلك المكانة التي أرى أن الكتاب حَرِيٌّ بها تعود إلى الأمور الآتية:
أولًا: ما حواه الكتاب من ثراء علمي خصوصًا في مجال اللغة والنحو، حيث انطلق الواحدي في كتابه واضعًا نصب عينيه أن اللغة والنحو والأدب ركائز أساسية لتفسير كتاب الله، فبعد أن تضلع من تلك الركائز راح يسخرها لخدمة التفسير، وذلك بإيضاح اللفظة القرآنية وبيان أصلها، وذكر الشواهد على ذلك كما ربط الوجه التفسيري بالإعراب وذكر الأوجه
339
البلاغية في النظم القرآني، فخرج الكتاب موسوعة جمعت التفسير مع فروع اللغة وسخرت الثاني لخدمة الأول، صحيح أن الواحدي انساق وراء بعض تلك المسائل إلى حد يعتبر خروجًا عن مجال التفسير، ومع ذلك يبقى الكتاب ذا عطاء سيال في مجال التفسير بالدراية الذي يعتمد اللغة والنحو من الأسس لفهم النص القرآني.
ثانيًا: عنايته بالفوائد والنكات التفسيرية، وهذا من الجوانب الهامة، خصوصًا إذا ارتبط ذلك بحسن العرض وجمال الأسلوب، كما هو الحال في تفسير الواحدي، فكثيرًا ما يتصيد تلك الفوائد فيوردها، وربما ذكرها على صيغة سؤال أو إشكال، فيجيب عنه بما يشفي ويقنع.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ٩] قال: وقوله في وصف الكافرين "لا يشعرون" أبلغ في الذم من وصفهم بأنهم لا يعلمون، لأن البهيمة قد تشعر من حيث تحس (١) فكأنهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم...
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: ١٣] قال: فإن قيل: كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾؟ قيل: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، الأن الله تعالى قد قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: ١٤]. أو أنهم لم يفصحوا بهذا القول وإنما أتوا بما يفهم عنهم بالمعنى، ولا يقوم به حجة توجب الحكم من جهة المشاهدة...
(١) في نسخة (ب): "لا تحس".
340
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٣] قال: وقد يبقى في هذه الآية سؤال لم نجد أحدًا ممن تكلم في تفسير القرآن ولا في معانيه تعرض له، وهو من مهم ما يسأل عنه. وذلك أن يقال: في أين علمت الملائكة لما خبرها آدم -عليه السلام- بتلك الأسماء صحة قوله ومطابقة الأسماء للمسميات؟ وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل، إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء، ولم تعترف بفقد العلم. والكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها ومطابقتها للمسميات، ولولا ذلك لم يكن لقوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٣٣] معنى. ثم أجاب عن هذا السؤال بما يطول ذكره هنا.
وفي سورة "يونس" عند تفسير قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾ [يونس: ٤] قال: "فإن قيل لم أفرد المؤمنين بالقسط دون غيرهم وهو يجزي الكافر أيضًا بالقسط؟
قال ابن الأنباري: لو جمع الله الصنفين بالقسط لم يتبين ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم، ففصلهم عن المؤمنين ليبين ما يجزيهم به مما هو عدل غير جور، فلهذا خص المؤمنين بالقسط، وأفرد الكافرين بخبر يرجع إلي تأويله بزيادة الإبانة" (١).
ثالثًا: يعتبر تفسير "البسيط" مرجعًا هامًّا لنصوص كثيرة من كتب مفقودة حيث اعتمد الواحدي على مصادر عدة، ونقل عنها كثيرًا، ومنها كتاب "نظم القرآن" لأبي علي الجرجاني، وإلى اليوم يعد هذا الكتاب مفقودًا، وقد نقل عنه الواحدي كثيرًا، فأصبح مرجعًا لكثير من أقواله،
(١) "البسيط" ٣/ ل ٣، النسخة الأزهرية.
341
وكذا الحال لأقوال ابن الأنباري، حيث نقل عنه كثيرًا، وترجح لي أن أغلب تلك النقول من كتابين هما "المشكل في معاني القرآن" و"رسالة المشكل" التي رد فيها على ابن قتيبة، وهذان الكتابان مفقودان كذلك، فيكون تفسير "البسيط" مرجعًا لهذِه النصوص المنقولة منهما.
المآخذ على تفسير البسيط:
ومع هذه المكانة التي رأيناها لتفسير الواحدي "البسيط" فإنه لا يخلو من بعض الملحوظات، سنة الله في خلقه، فالكمال المطلق لله سبحانه أما البشر فهم عرضة للخطأ والنسيان وكما قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وقد تعرفت على بعض الملحوظات أثناء مصاحبتي لهذا الكتاب قراءة وتحقيقًا.
فإن أصبت فذلك بتوفيق الله، وإن أخطأت فمن نفسي، وحسبي أني مجتهد في طلب الحق.
وقد نبهت إلي بعض تلك الملحوظات في أماكنها، وسأجملها هاهنا مع ذكر ملحوظات لم ترد فيما سبق وهي:
أولًا: آراؤه في قضايا العقيدة التي سلك فيها نهج المتكلمين من الأشاعرة وخالف فيها طريقة السلف وقد سار على هذا النهج في جميع مباحث العقيدة التي تكلم عنها في مسائل التوحيد والإيمان والصفات (١) وغيرها.
وهذا المأخذ قد سجله عليه شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال:...
(١) انظر: "مبحث عقيدته"، و"منهجه في تقرير مسائل العقيدة" من هذه الدراسة.
342
والواحدي صاحبه (١) كان أبصر منه بالعربية، ولكن أبعد عن السلامة واتباع السلف (٢).
ثانيًا: وجود بعض الإسرائيليات، التي هي داء أكثر كتب التفسير، وقع فيها الواحدي متأثرًا بشيخه الثعلبي، على الرغم من قوله في مقدمة كتابه: "فأما الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ ولا تساعده العبارة فمما لم أعبأ به، ولم أضيع الوقت بذكره" وروايته لها كانت سببًا في توجيه النقد له من بعض العلماء كما سبق (٣).
ثالثًا: الإطالة والاستطراد في بعض المباحث اللغوية والنحوية التي لا علاقة لها بالتفسير، وهذا يحمل الكتاب مسائل تبعده عن موضوعه الأصلي وهو تفسير كتاب الله، وتجلب الملل للقارئ، وقد وجه بعض العلماء هذه الملحوظة إلى كتاب "البسيط"، فالزركشي يعده مما غلب عليه الغريب حيث يقول: ".. وقد أكثر الناس فيه -أي التفسير- من الموضوعات، ما بين مختصر ومبسوط، وكلهم يقتصر على الفن الذي يغلب عليه، فالزجاج والواحدي في "البسيط" يغلب عليهما الغريب.. " (٤).
والسيوطي يعده ممن غلب عليه النحو فيقول: ".. فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في "البسيط".. " (٥).
(١) أي الثعلبي لأن الكلام عنه.
(٢) مقدمة في التفسير ضمن "مجموع الفتاوي" ١٣/ ٣٥٤.
(٣) في نسخة (ب): (لا تحس). انظر مبحث "أقوال العلماء فيه"، "مبحث تفسير القرآن بالسنة" من هذه الدراسة.
(٤) "البرهان" ١/ ١٣.
(٥) "الإتقان" ٢/ ٢٤٣.
343
وذكر هذا المأخذ مر في أكثر من موضوع مع ذكر أمثلة له، كما في منهجه في عرض القراءات، والجانب اللغوي، والنحوي في تفسيره.
رابعًا: كثرة النقول من الجوانب الواضحة في كتاب "البسيط" ومنها نقول كثيرة لم يعزها، سبق ذكر أمثلة لها عند الحديث عن مصادره. وقد يجاب عن ذلك بأن هذا نهج متبع عند العلماء الأوائل ولا ينكر بعضهم على بعض فيه. وفي نظري أن هذِه المسألة بحاجة إلى دراسة أكثر قبل إصدار حكم فيها، وبالنسبة لهذا الموضوع عند الواحدي نلحظ أمرين:
الأول: أن جميع مصادره الرئيسة التي نقل عنها موثقة بالعزو، فمثلًا الأزهري في مقدمة كتابه "تهذيب اللغة" ذكر مصادره وسنده إليها وطريقته بالعزو واصطلاحاته في ذلك. وهذا أبو علي الفارسي في كتابه "الحجة" و"الإغفال" من خلال تتبعي لهما أجده يعزو كل الأقوال التي نقلها، والواحدي نقل عنهما بدون عزو.
الأمر الثاني: نرى الواحدي ينقل عن الأزهري، أو عن أبي علي، أو عن غيرهما، فيعزو أحيانًا ولا يعزو أحيانًا، بل نجده في الموضع الواحد ينقل كلامًا عن الأزهري، أو عن أبي علي، أو عن غيرهما، بدون عزو في أول النقل، وفي أثنائه يعزو الكلام قائلًا: قال الأزهري أو قال أبو علي، ثم يذكر بقية كلام من نقل عنه، وهذا يوهم القارئ أن أول الكلام ليس من قول من ذكر بعد، وفي كتابه أمثلة كثيرة على هذا، منها ما ذكر عند تفسير قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] نقل عن "الحجة" كلام ابن السراج ولم يعز له أول الكلام وعزا آخره فأوهم القارئ
344
بأن ما سبق ليس لابن السراج (١).
خامسًا: وردت في كتاب "البسيط" ألفاظ لا تتناسب مع مكانة القرآن الكريم، الذي شهد الله له بأنه أعلى درجات الفصاحة، وتحدى المشركين بذلك، ومن تلك الألفاظ التي قالها الواحدي أو نقلها عن غيره، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ الآية [البقرة: ١٧] قال: وكان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ: فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره؛ ليشاكل جواب "لما" معنى هذه القصة. ولكن لما كان إطفاء النار مثلًا لإذهاب نورهم أقيم ذهاب النور مقام الإطفاء وجعل جواب "لما" اختصارًا وإيجازًا، وهذا طريق حسن في الآية.
فأي نظم نضعه أصلًا ونقيس كلام الله عليه ونقرر أنه يجب أن يكون على كذا، ثم قال: وهذا طريق حسن في الآية. وقد يلمح منه أن هناك ما هو أحسن منه. ربما يكون الواحدي ناقلًا عن صاحب "نظم القرآن" وعلى كلا الأمرين فهذا الكلام لا يليق أن يقال وصفًا لكلام رب العالمين.
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] قال:.. وكان حقه أن يقول: فقال: أعوذ بالله، لأنه عطف على ما قبله. قال الفراء: وهذا في القرآن كثير بغير "الفاء" وذلك أنه جواب يستغنى أوله عن آخره بالوقفة عليه، فكان حسن السكوت يجوز به طرح الفاء.
سادسًا: يذكر الواحدي أسماء شيوخه أو من ينقل عنهم بغير الأسماء
(١) انظر: المقابلة بين النصين في "البسيط" و"الحجة" عند قوله تعالى ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ..﴾.
345
المشهورة لهم، وربما ذكر الشيخ بأكثر من اسم، وهذا ما يسميه علماء الحديث بتدليس الشيوخ، وهو أقل أنواع التدليس (١) خطورة، مثال ذلك: سعيد بن محمد الحيري، ذكره مرة بهذا الاسم فقال: سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحيري.. الخ، ومرة قال: وقرأت على الأستاذ سعيد بن محمد المقرئ.. ، وأبو علي الفارسي ذكره مرة فقال: وروى لنا كتب أبي علي الفسوي.. ، ثم يقول في موضع آخر: ".. واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري عنه..
ويقول: "وقد أخبرنا أبو الحسين بن أبي عبد الله الفسوي -رضي الله عنه- أبنا أحمد بن محمد الفقيه.. " (٢)، وأبو الحسين بن أبي عبد الله الفسوي هو شيخه عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي، فذكره بكنيته، وذر أباه بكنيته ونسبه إلى قريته "فسا" فأغمض اسمه وأما أحمد بن محمد الفقيه فهو أحمد بن محمد الخطابي البستي ولم أجد من لقبه بـ"الفقيه" غيره.
هذا مع أن كتاب "البسيط" لا يكثر فيه الرواية، وربما يكون هذا الأمر أوضح في كتبه التي أكثر فيها من ذكر الأسانيد مثل "أسباب النزول" و "الوسيط" ولا شك أن هذا كان سببًا في عدم معرفة بعض شيوخه حيث يذكرهم بأسماء لا يعرفون بها.
(١) انظر: "تدريب الراوي" ١/ ٢٢٨.
(٢) "البسيط" ص ٢٧٦.
346
المبحث الثامن
أثر الواحدي فيمن بعده من العلماء من خلال كتابه "البسيط"
إن مقدار الأثر الذي يكون للعالم أو لكتبه فيمن يأتي بعده من المؤلفين يدل على مدى الأصالة والقوة العلمية له، وأنه أصبح إمامًا في الفن الذي ترك فيه ذلك الأثر.
إن للواحدي أثرًا لا ينكر في مدرسة التفسير، ونجد اسمه يتردد في بعض كتب التفسير بعده.
وأكثر كتب الواحدي شهرة هو "أسباب النزول" هذا الكتاب طار ذكره في الآفاق، وأفاد منه أكثر المفسرين بعد الواحدي، ونجد أغلب المفسرين الذين ورد ذكر الواحدي في كتبهم إنما نقلوا عنه أسباب النزول، وكان هذا الكتاب أسرع كتبه طباعة وأوسعها انتشارًا، يليه في المنزلة كتبه الثلاثة في التفسير "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز".
إن كتب الواحدي في التفسير لا تقل أهمية عن كتب التفسير المشهورة كـ"الكشاف" للزمخشري، و"تفسير الرازي" و"القرطبي" و"البحر المحيط" ومع ذلك تأخرت طباعتها سوى "الوجيز" الذي طبع قبل مدّة.
وقد ترددت أسماء كتب الواحدي في التفسير في مؤلفات العلماء بعده، خصوصًا كتاب "البسيط" فنرصد ذلك الأثر الذي تركه هذا الكتاب، إليك بيانًا بأسماء عدد الأئمة الذين استفادوا من البسيط سواء في التفسير وعلوم القرآن أم في غيرهما من علوم الشريعة.
347
أ- في مجال التفسير:
١ - الفخر الرازي (١) وتفسيره مفاتيح الغيب:
إن أكثر المفسرين تأثرًا واستفادة من كتاب "البسيط" للواحدي هو "الفخر الرازي" في تفسيره "مفاتيح الغيب" حيث نقل عن الواحدي كثيرًا من أقواله مؤيدًا ومعجبًا بها، وربما نقل عنه وناقشه ورد عليه قوله، وكثيرًا ما ينص على اسم "البسيط"، وقد ينقل عنه ولا يسمي كتابه، بل ربما نقل عنه بدون عزو.
وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة: ٢٠٦] قال الرازي: قال الواحدي: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذِه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم (٢)، ثم يرد الرازي قول الواحدي ويبين ضعفه كما يرى فيقول: واعلم أن هذا التفسير ضعيف، لأن قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة، فأما أن هذا القول قيل أو ما قيل، فليس في الآية دلالة عليه، فان ثبت ذلك برواية وجب المصير إليه... (٣).
(١) هو أبو عبد الرحمن محمد بن عمر بن حسين الرازي، المفسر الأصولي، شافعي المذهب، له تصانيف كثيرة، مات سنة ٦٠٦ هـ. انظر ترجمته في "النجوم الزاهرة" ٦/ ١٩٧، و"طبقات المفسرين" للداودي ٢/ ٢١٥.
(٢) "تفسير الرازي" ٥/ ٢٠٢، انظر كلام الواحدي في "البسيط" ١/ ل ١٢٥، من النسخة الأزهرية.
(٣) الرازي ٥/ ٢٠٢.
348
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ...﴾ [الإسراء: ٧٨] قال الرازي: "اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى: دلوك الشمس على قولين: أحدهما: أن دلوكها غروبها، وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة، فنقل الواحدي في "البسيط" عن علي أنه قال: دلوك الشمس: غروبها... والقول الثاني: أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه. الحجة الأولى: روى الواحدي في "البسيط" عن جابر أنه قال: طعم عندي رسول الله - ﷺ - وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس، فقال النبي - ﷺ -: "هذا حين دلكت الشمس.. " (١).
وقال الرازي في موضع آخر من تفسير الآية: "المسألة الثالثة: قال الواحدي اللام في قوله ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ لام الأجل والسبب.. " (٢). فانظر إلى تردد اسم الواحدي في تفسير "الرازي" في تفسير آية واحدة ثلاث مرات.
قال د/ علي محمد العماري في كتابه "الإمام فخر الدين الرازي، حياته وآثاره": والرازي كثير النقل عن الواحدي بصورة واضحة وربما نص على بعض كتبه عند النقل عنه.. والرازي قد يناقش ما ينقله هذا العالم الكبير عن رواة اللغة.. (٣).
بل إن تأثر الرازي بالواحدي أبعد من ذلك، فلا ينحصر في المواضع
(١) "تفسير الرازي" ٢١/ ٢٥. انظر كلام الواحدي في "البسيط" ٣/ ل ١٦٨ من نسخة "جستربتي".
(٢) الرازي ٢١/ ٢٦.
(٣) الإمام فخر الدين الرازي للدكتور علي محمد حسن العماري ص ١٤١.
349
التي ذكر فيها اسم الواحدي، بل نجد روح التفسير "البسيط" سارية في مواضع كثيرة من "تفسير الرازي": فينقل عنه بتصرف ولا يذكر اسمه، ولقد لمست هذا من خلال مصاحبتي لجزء من "البسيط" ومقارنته مع تفسير "الرازي" وأذكر مثالاً يدل على هذا.
قال الواحدي عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٣] "وقد يبقى في هذِه الآية سؤال لم نجد أحدًا ممن تكلم في تفسير القرآن ولا في معانيه تعرض له، وهو من مهم ما يسأل عنه، وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة لما أخبرها آدم عليه السلام بتلك الأسماء صحة قوله، ومطابقة الأسماء للمسميات، وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل، إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء، ولم تعترف بفقد العلم. والكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها ومطابقتها للمسميات، ولولا ذلك لم يكن لقوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٣٣] معنى؟ ".
ثم يجيب الواحدي عن هذا السؤال، بما يطول ذكره هنا.
ويأتي الرازي بعد ذلك ويذكر هذا السؤال مع تصرف في العبارة فيقول:.. وأيضًا فأما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات فحينئذ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة، وإن لم يعلموا ذلك، فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ اسمًا لكل واحد من تلك المسميات، واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين.. (١)، ويجيب عنه بنحو إجابة الواحدي،
(١) "تفسير الرازي" ٢/ ١٧٧.
350
ولم أر من المفسرين فيما اطلعت عليه من تعرض له سوى "الواحدي" و"الرازي" مما يرجح أن الرازي أخذ ذلك السؤال من الواحدي، والأمثلة على هذا كثيرة توضح مدى تأثر الرازي بكتاب "البسيط" للواحدي.
٢ - أبو حيان من خلال تفسيره "البحر المحيط":
وقد استفاد أبو حيان (١) في تفسيره "البحر المحيط" من "البسيط" للواحدي، ولم يذكر "البسيط" باسمه ولكن الكلام الذي ذكره موجود فيه، وإفادته منه تأتي بدرجة أقل بكثير من الرازي، ويبدو أن "الرازي" كان واسطة بين أبي حيان وبين "الوسيط"؛ حيث نجد أغلب النصوص التي نسبها للواحدي موجودة في تفسير الرازي وإلى عبارته أقرب، بل ربما صرح باسم الرازي كطريق له إلى "الواحدي".
ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] قال أبو حيان في "البحر":.. وقال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على المعتزلة على فساد قولهم، وذلك أنه تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ثم بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ثم سألوا الرجعة وردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد.. (٢) نجد الرازي ذكر القول بنصه فقال: قال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة...
(١) هو الإمام أبو حيان النحوي محمد بن يوسف الغرناطي الأندلسي، أثير الدين، من كبار العلماء بالعربية والتفسير، توفي سنة ٧٤٥ هـ.
انظر: "نكت الهميان" ص ٢٨، و"غاية النهاية" ٢/ ٢٨٥.
(٢) "البحر المحيط" ٤/ ١٠٤.
351
إلخ (١)، أما الواحدي فيقول في "البسيط": وهذه الآية من الأدلة الظاهرة على تكذيب القدرية وذلك أن الله تعالى أخبر عن قول جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك... (٢)، فيظهر من هذا أن أبا حيان نقل كلام الواحدي عن الرازي، حيث تابع في ذكر "المعتزلة" بدل "القدرية" والمعنى واحد.
ومثال آخر عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٢٨] قال أبو حيان:... وقال الواحدي: التزييل والتزيل والمزايلة: التمييز والتفريق... (٣)، وكلام الواحدي ذكره الرازي (٤) قبل أبي حيان. ويظهر أنه أخذه عنه لتشابه عبارتيهما. ولأبي حيان كتاب في النحو هو "ارتشاف الضرب في لسان العرب" اعتمد فيه كثيرًا على البسيط للواحدي (٥).
٣ - السمين الحلبي (٦) في تفسيره "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون":
واستفاد السمين في تفسيره من الواحدي، وتكرر ذكر اسمه ولم
(١) "الرازي" ١٢/ ١٩٤.
(٢) "البسيط" ٢/ ل ٩٥، من نسخة "جستربتي".
(٣) "البحر المحيط" ٥/ ١٥٢.
(٤) "الرازي" ١٧/ ٨٣. انظر: "البسيط" ٣/ ل ٦، من نسخة "جستربتي".
(٥) انظر: "كشف الظنون" ١/ ٦١، و"أبو حيان النحوي" للدكتورة خديجة الحديثي ص (١٣٥).
(٦) شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، المعروف بالسمين الحلبي، نشأ في حلب ورحل إلى مصر وبها توفى ست وخمسين وسبعمائة، انظر: "طبقات المفسرين" للداودي ١/ ١٠١، "حسن المحاضرة" ١/ ٥٣٦، و"بغية الوعاة" ١/ ٤٠٢.
352
يصرح بكتابه الذي أخذ عنه، لكن نجد جميع الأقوال التي نقلها عنه موجودة في "البسيط" مما يدل على أنه أخذها عنه.
من أمثلة ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠٣] ذكر السمين الأقوال في وزن "لمثوبة" ومنه قوله:... وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول فهي مصدر، نقل ذلك الواحدي (١).
وفي سورة المائدة في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩] تكلم السمين عن موقع جملة ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ وذكر أوجه الإعراب المحتملة فيها... ومما قاله: ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني أنه لما نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل وهو مما لا ينقم، ذكر في مقابلته فسقهم وهو مما ينقم... ، وذكر أقوالا كثيرة ثم قال: "وهذا هو مجموع ما أجاب به الزمخشري والواحدي" (٢)، وفي موضع آخر قال:... ويدل على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب "النظم"... (٣).
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ الآية [المائدة: ٦٧] قال السمين:.. وقال الواحدي: أي: إن يترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ، لأن تركه البعض
(١) "الدر المصون" ٢/ ٥٠ وانظر كلام الواحدي في "البسيط" ١/ ل ٧٧ "الأزهرية".
(٢) "الدر المصون" ٤/ ٣٢٠، انظر "البسيط" ٢/ ل ٦٣ "نسخة جستربتي".
(٣) "الدر المصون" ٤/ ٣٢١، انظر "البسيط" ٢/ ل ٦٣ "نسخة جستربتي".
353
محبط لإبلاغ ما بلغ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكل في أنه يستحق العقوبة من ربه، وحاشا الرسول - ﷺ - أن يكتم شيئًا مما أوحي إليه... (١).
وفي سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] ذكر السمين الأقوال في ﴿بَيَاتًا﴾ ومنه قوله: وقال الواحدي قوله: بياتا: أي ليلًا. وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفًا لولا أن يقال: أراد تفسير المعنى (٢).
٤ - المفسر سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل (٣) في تفسيره "الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية":
لقد كان كتاب "الدر المصون" للسمين الحلبي مصدرًا رئيسًا للجمل في تفسيره، نقل عنه كثيرًا، وصدر عنه، وقد وردت عنده المصادر التي أخذ منها السمين، ومنها تفسير الواحدي، فنراه يتكرر في "الفتوحات الإلهية" في المواضع التي ورد فيها في "الدر المصون" للسمين. وأذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك، في آية البقرة وهي قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٣] قال الجمل وهو يتكلم عن "المثوبة"،... وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول فهي مصدر، نقل ذلك الواحدي (٤)،
(١) "الدر المصون" ٤/ ٣٥٢. انظر "البسيط" ٢/ ل ٦٦ "نسخة جستربتي".
(٢) "الدر المصون" ٥/ ٢٥٠. انظر "البسيط" ٢/ ل ١٣٩ "نسخة جستربتي".
(٣) هو سليمان بن عمر العجيلي المصري، الأزهري، الشافعي، فقيه مفسر ولد وتوفى قي مصر سنة ١٢٠٤ هـ انظر: "هدية العارفين" ١/ ٤٠٦، و"معجم المؤلفين" ٤/ ٢٧١، و"الأعلام" ٣/ ١٣١.
(٤) "الفتوحات الإلهية" ١/ ٨٩، ٩٠.
354
راجع كلام السمين السابق تجده بنصه.
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا﴾ الآية [الأعراف: ٤] قال الجمل: وقال الواحدي: قوله (بياتًا) أي: ليلًا، وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفًا لولا أن يقال أراد تفسير المعنى. اهـ سمين.. (١)، فنجد الجمل يصرح بنقله قول الواحدي من طريق السمين الحلبي.
٥ - الألوسي (٢) في تفسير "روح المعاني":
وأفاد الألوسي في تفسيره "روح المعاني" من كتاب "البسيط" للواحدي وقد اكتفى بذكر "الواحدي" دون ذكر الكتاب الذي أخذ منه، وبمقارنة النصوص وجدت أكثرها في "البسيط".
من أمثلة ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)﴾ [البقرة: ٤] قال الألوسي في تفسير "اليقين":... وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال، فلا يوصف به البديهي، ولا علم الله تعالى (٣).
يقول الواحدي في "البسيط": واليقين هو العلم الذي يحصل بعد الاستدلال ونظر لغموض المنظور فيه أو إشكاله على الناظر... ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، ولأن علمه لم يحصل عن نظر واستدلال (٤).
(١) "الفتوحات الإلهية" ٢/ ١٢١.
(٢) هو شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي، مفسر محدث، أديب، ولد وتوفي في بغداد. توفي سنة (١٢٧٠ هـ) انظر: "الأعلام" ٧/ ١٧٦.
(٣) "روح المعاني" ١/ ١٢٢.
(٤) انظر: "البسيط" عند قوله تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤].
355
عند تفسير قوله تعالى ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] قال الألوسي:... وذكر الواحدي أن "عدل" الشيء بالفتح والكسر مثله، وأنشد قول كعب بن مالك:
صبَرْنَا لا نَرى للهِ عَدْلًا عَلى مَا نَابَنَا مُتَوَكِّلِينَا" (١)
قال الواحدي في "البسيط": عدل الشيء وعدله: مثله، قال الله تعالى: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ [المائدة: ٩٥] أي ما يمثله من الصيام، وقال كعب بن مالك:
صبَرْنَا لا نَرى للهِ عَدْلًا عَلى مَا نَابَنَا مُتَوَكِّلِينَا" (٢)
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ﴾ الآية [المائدة: ١٠٧] قال الألوسي: "وقال الواحدي: روي عن عمر -رضي الله عنه- ربه أنه قال: هذه الآية ما في السورة من الأحكام" (٣)، والرواية عن عمر عند الواحدي في "البسيط" (٤).
وبهذه الأمثلة نرى الألوسي قد أخذ في تفسيره عن الواحدي في مجال اللغة والعقيدة والأثر.
هؤلاء من أشهر المفسرين الذين أفادوا من الواحدي وتأثروا بكتابه "البسيط"، وبهذا نرى المدى الذي تركه كتاب البسيط في المفسرين بعده.
ب- في علوم القرآن:
لم يقتصر أثر الواحدي على المفسرين بعده فقط، بل نجد كتاب
(١) "روح المعاني" ١/ ٢٥١.
(٢) انظر: "البسيط" عند تفسير قوله تعالى: ﴿واتقوا يومًا...﴾ [البقرة: ٤٣].
(٣) "روح المعاني" ٧/ ٥٣.
(٤) انظر: "البسيط" ٢/ل ٨٤، "نسخة جستربتي".
356
"البسيط" مصدرًا هامًا للمؤلفين في علوم القرآن الكريم ومنهم:
١ - بدر الدين الزركشي (١) في كتابه "البرهان في علوم القرآن":
أفاد الزركشي في كتابه من الواحدي كثيرًا، ونص على كتاب "البسيط" في مواضع، وربما نقل عنه ولم يذكر "البسيط"، وهذه النقول بالتتبع نجدها في "البسيط". من أمثلة ذلك في النوع السابع: في "أسرار الفواتح والسور" قال الزركشي:... وقال الواحدي في "البسيط" في أول سورة يوسف: لا يعد شيء منها آية إلا في "طه"، وسره أن جميعها لا يشاكل ما بعده من رؤوس الآي، فلهذا لم يعد آية بخلاف طه فإنها تشاكل ما بعدها (٢). ذكر قول الواحدي بمعناه (٣).
وفي موضوع بيان معنى الآية يقول الزركشي: "قال الواحدي: وبعض أصحابنا يجوز على هذا القول تسمية أقل من الآية آية، لولا أن التوقيف ورد بما هي عليه الآن" (٤)، وقول الواحدي في معنى الآية بنصه في "البسيط" (٥).
وفي النوع السابع والأربعين "الكلام على المفردات من الأدوات" قال الزركشي: -أثناء كلامه عن "لكن"-: وقال صاحب "البسيط" إذا وقع
(١) هو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، من أعلام الفقه والحديث والتفسير وأصول الدين، وتوفي بمصر سنة أربع وتسعين وسبعمائة. انظر "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" للسيوطي ١/ ٤٣٧.
(٢) "البرهان في علوم القرآن" ١/ ١٧١.
(٣) انظر: "البسيط" ٣/ ل ٥٦، نسخة "جستربتي".
(٤) "البرهان في علوم القرآن" ١/ ٢٦٧.
(٥) "البسيط" ص ٧٩٦.
357
بعدها جملة فهي للعطف، أو حرف ابتداء، قولان، كقوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ﴾ [النساء: ١٦٦] قال: وتظهر فائدة الخلاف في جواز الوقف على ما قبلها، فعلى العطف لا يجوز وعلى كونها حرف ابتداء يجوز.
قال: وإذا دخل عليها الواو انتقل العطف إليها، وتجردت للاستدراك" (١).
وهكذا نجد اسم الواحدي يتردد كثيرًا في "البرهان" (٢) مما يدل على مدى إفادته من كتاب "البسيط".
٢ - جلال الدين السيوطي (٣) في كتابه "الإتقان في علوم القرآن":
أفاد السيوطي في كتابه "الإتقان" من "البسيط" للواحدي، ونقل عنه في مواضع متعددة. قد يذكر الواحدي باسمه فيقول: قال الواحدي، أو يقول: قال صاحب "البسيط". وربما يكون في أكثر المواضع ناقلًا عن الزركشي.
ومن أمثلة ذلك عند الكلام معنى الآية قال: قال الواحدي وبعض أصحابنا قال: يجوز على هذا القول تسمية أقل من الآية آية لولا أن التوقيف ورد بما هي الآن" (٤).
(١) "البرهان في علوم القرآن" ٤/ ٣٩٠.
(٢) انظر: "البرهان" ١/ ٢٩١، ٢/ ٣٩، ١٤، ١٤٧، ٢٧٨، ٢٨٨، ٤٠٩، ٤٣٥، ٣/ ١٦١، ١٨٧، ٢٧٩، ٣٧٠، ٤٧٤، ٤/ ٣٣٨.
(٣) هو الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن كمال السيوطي، أبو بكر، صاحب التصانيف المشهورة، ولادته ووفاته في مصر سنة (٨٤٩ - ٩١١ هـ) انظر: "حسن المحاضرة" ١/ ٣٣٥.
(٤) "الإتقان" ١/ ٨٨.
358
مثال آخر في "النوع الأربعين" في معرفة "الأدوات" قال السيوطي: لكن مشددة النون، حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر ومعناه الاستدراك، وفسر بأن تنسب لما بعدها حكمًا مخالفًا لحكم ما قبله، ولذلك لابد أن يتقدمها كلام مخالف لما بعدها أو مناقض له نحو: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ١٠٢]، وقد ترد للتوكيد مجردًا عن الاستدراك، قاله صاحب "البسيط" (١).
جـ- في كتب الفقه:
لم يقتصر أثر الواحدي فيمن بعده من خلال كتابه "البسيط" على المفسرين والمؤلفين في علوم القرآن، بل نجد بعض فقهاء الشافعية ينقلون من "البسيط" ويعتبرونه مصدرًا لهم، فهذا الإمام النووي (٢) رحمه الله، في كتابه "المجموع شرح المهذب" -وهو من أكبر كتب الفقه الشافعي- ينقل كلام الواحدي وينص على "البسيط".
يقول في مقدمة الكتاب وهو يشرح لفظ الذكر: قال الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر الأديب الشافعي: أصل الذكر في اللغة: التنبه على الشيء، وإذا ذكرته فقد تنبهت عليه، ومن ذكرك شيئًا فقد نبهك عليه، وليس من لازمه أن يكون بعد نسيان. قال: ومعنى الذكر حضور المعنى في النفس، ويكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة بهما، وهو أفضل الذكر، ويليه ذكر القلب، والله أعلم (٣).
(١) "الإتقان" ١/ ٢٢٤، "البسيط" ١/ ل ٧٥، من النسخة الأزهرية
(٢) هو الإمام يحيى بن شرف النووي الشافعي، أبو زكريا، محيي الدين، علامة بالفقه والحديث. ولادته ووفاته (٦٣١ - ٦٧٦ هـ) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٥/ ١٦٥، و"النجوم الزاهرة" ٧/ ٢٧٨.
(٣) "المجموع شرح المهذب" ١/ ٧٤.
359
ذكر الواحدي هذا في "البسيط" عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] قال: أصل الذكر في اللغة التنبه على الشيء ومن ذكرك شيئا فقد نبهك عليه... الخ (١).
وفي موضع آخر ذكر النووي حكم التأمين بعد الفاتحة وقال: "قال أصحابنا: ويسن التأمين لكل من فرغ من الفاتحة، سواء كان في الصلاة أو خارجها، قال الواحدي: لكنه في الصلاة أشد استحبابًا (٢).
وفي موضع آخر قال: ذكر أصحابنا أو جماعة منهم: أن لا يصل لفظة آمين بقوله: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] بل بسكتة لطيفة جدًا...
وممن نص على استحباب هذه السكتة القاضي حسين في تعليقه، وأبو الحسن الواحدي في "البسيط" (٣). وقد قرر هذه الأحكام الواحدي في "البسيط" في آخر تفسير الفاتحة.
بهذا ندرك تلك المكانة العالية التي تبوأها الواحدي ومؤلفاته خصوصًا كتاب "البسيط" حتى أصبح مرجعًا لبعض علماء التفسير وعلوم القرآن، ينقلون أقواله في مجال التفسير، أو اللغة، أو علوم القرآن، أو الأحكام.
(١) "البسيط" ١/ ل ٩٧، من النسخة الأزهرية.
(٢) "المجموع شرح المهذب" ٣/ ٣٧١.
(٣) "المجموع شرح المهذب" ٣/ ٣٧٣.
360
- الطحطاوي (١) في "حاشية المراقي" ٢/ ٢٥٦:
بعد ما حكى الأقوال في آمين، قال: وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة فيها، ولو مد مع التشديد كان مخطئا في المذاهب الأربعة، وهو من لحن العوام. ولا تفسد به الصلاة عند الثاني لوجوده في القرآن وعليه الفتوى... إلخ.
وذكر صاحب "مغنى المحتاج" ١/ ١٥٥: قول الواحدي في آمين مع المد لغة ثالثة وهي الإمالة، وحكى التشديد مع القصر، أي قاصدين إليك وأنت أكرم أن لا تجيب من قصدك..
- نقل الشوكاني (٢) في "نيل الأوطار" ١/ ٣٩٣.
اختلاف العلماء في تحديد الصلاة الوسطى، قال: القول الثاني: أنها الظهر، نقله الواحدي عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة.
(١) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي، الفقيه الحنفي، توفي ١٢٣١ هـ، من تصانيفه: "الحواشي على الدر"، "شرح مراقي الفلاح".
ينظر: ترجمته في "أعيان القرن الثالث عشر" ص ٧٣، ٧٤، "معجم الأدباء" ١/ ٢٠، "الأعلام" ١/ ٢٤٥.
(٢) محمد بن علي بن محمد الشوكاني ثم الصنعاني، الإمام المحدث، الفقيه، الأصولي، المفسر، المؤرخ ولد سنة ١١٧٣ هـ، وولي القضاء، توفي سنة ١٢٥٠ هـ من مصنفاته: "إرشاد الفحول"، "فتح القدير" "السيل الجرار"، "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع".
361
قال الصنعاني (١) في "سبل السلام" ١/ ١٩٣:
قال الواحدي: إن كان الانتصار لأجل الدين فهو محمود وإن كان لأجل النفس فهو مباح لا يحمد عليه.
د- ومن شراح الحديث:
١ - ابن حجر (٢) في "فتح الباري":
نقل العلامة ابن حجر عن الواحدي في مواضع من "فتح الباري" أحيانًا بالنص على أنه من تفسيره، وأحيانًا من غير نص.
أ- قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": قوله "لو كنت متخذًا خليلًا" زاد في حديث أبي سعيد: غير ربي، وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا، وقد تواردت هذه الأحاديث على نفي الخلة من النبي - ﷺ - لأحد من الناس، وأما ما روي عن أبي بن كعب قال: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلا وقد أتخذ من أمته خليلًا، وإن خليلي أبو بكر، ألا وإن الله
(١) هو: محمد بن إسماعيل بن صلاح الكحلاني ثم الصنعاني، يعرف بالأمير، محدث، فقيه، أصولي، مجتهد من أئمة اليمن، ولد سنة ١٠٥٩ بكحلان ثم انتقل إلى صنعاء، وأخذ عن علمائها ثم رحل إلى مكة وأخذ عن علمائها ثم المدينة وبرع في العلوم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد، توفي سنة ١١٨٢ هـ. من مصنفاته: "سبل السلام"، "تطهير الاعتقاد"، "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد".
ينظر: "البدر الطالع" ٢/ ١٣٣ - ١٣٩، "فهرس الفهارس" ١/ ٢٨٧.
(٢) هو أحمد بن علي العسقلاني، الإمام الحافظ المحدث، له مصنفات عظيمة من أشهرها "فتح الباري" توفي سنة ٨٥٢. ينظر: "شذرات الذهب" ٧/ ٢٧، "النجوم الزاهرة" ١٥/ ٩٠٢.
362
أتخذني خليلًا" أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده (١)، وهذا يعارضه ما في رواية جندب عند مسلم كما قدمته أنه سمع النبي - ﷺ - قبل أن يموت بخمس: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" فإن ثبت حديث أبي أمكن أن يجمع بينهما، بأنه لما برئ من ذلك تواضعًا لربه وإعظامًا له، أذن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم لما رأى من تشوفه إليه، وإكرامًا لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران، أشار إلى ذلك المحب الطبري، وقد روي من حديث أبي أمامة نحو حديث أبي بن كعب دون التقييد بالخمس، أخرجه الواحدي في "تفسيره"، والخبران واهيان والله أعلم (٢).
٢ - العيني (٣) في "عمدة القاري" ١/ ٦٦ - ٦٧.
نقل في تفسير قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] عن الواحدي أنه قال: (أخبرنا محمد بن الحسن الحافظ، قال حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن صالح، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمد بن عباد بن
(١) انظر: "صحيح مسلم" ٤/ ١٨٥٥ كتاب "فضائل الصحابة".
(٢) "الفتح" ٧/ ٢٣، وانظر أيضًا "الفتح" ٣/ ٤٠٩، ٥/ ٣٥، ٨/ ١٩٧.
(٣) هو العلامة بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى العيني، قاضي القضاة ولد في رمضان سنة (٧٦٢) هـ. وتفقه بها ثم قدم حلب، وأخذ بها عن الجمال يوسف الملطي، ثم قدم القاهرة فأخذ عن مشايخها وبرع في الفنون، وولي حسبة القاهرة، ونظر الأحباس، وقضاء الحنفية، وله عدة مصنفات منها: "شرح البخاري"، "معاني الأخبار في أسامي رجال شرح معاني الآثار للطحاوي"، "شرح الشواهد الكبرى" ومختصره. وتوفي في ذي الحجة ٨٥٥ هـ. ينظر: "نظم العقيان في أعيان الأعيان" للسيوطي ١/ ٦٠، "إكمال الكمال" ٦/ ٣٧١.
363
جعفر المخزومي أنه سمع بعض العلماء يقول: كان أول ما أنزل الله عز وجل على رسوله - ﷺ - ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ إلى قوله: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ١: ٥] قال هذا صدر ما أنزل على رسول الله يوم حراء ثم أنزل آخرها..).
٣ - السيوطي (١) في "تنوير الحوالك" ١/ ٥٩:
قال: وأورد الواحدي في "أسباب النزول" هذا الحديث عند ذكر آية النساء...
٤ - المناوي (٢) في "فيض القدير" ٢/ ٩٠:
عندما تكلم على استقبال القبلة ونقل رأي النووي قال: قال الواحدي القبلة الوجهة وهي الفعلة من المقابلة وأصل القبلة لغة: الحالة التي يقابل الشخص غيره عليها لكنها الآن صارت كالعلم للجهة التي تستقبل في الصلاة، وقال الهروي: سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله.
(١) سبقت ترجمته.
(٢) هو: محمد بن عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي، القاهري، من كبار العلماء بالدين والفنون. انزوى للبحث والتصنيف، وكان قليل الطعام كثير السهر، فمرض وضعفت أطرافه، فجعل ولده تاج الدين محمد يستملي من تأليفه، ولد سنة ٩٥٢ هـ وتوفي ١٠٣١ هـ من تصانيفه: "فيض القدير".
ينظر: "الأعلام" ٦/ ٢٠٤، "معجم المؤلفين" ٣/ ٤١٠.
364
المبحث التاسع
النسخ المخطوطة الموجودة للبسيط التي تم التعرف عليها
يوجد للبسيط عدد من النسخ المخطوطة في مكتبات العالم على أن انتشار نسخ البسيط لم تصل إلى كثرة انتشار "الوسيط" و"الوجيز" ولعل ذلك يرجع إلى طول الكتاب، وصعوبة مادته، ومن ثم صعوبة نسخه وتداوله، وهذه الإشارة إلى النسخ التي تم التعرف عليها وهي:
١ - نسخة محفوظة بالمكتبة الأزهرية بالقاهرة "رواق المغاربة" رقم (٣٠٣) "تفسير". الموجود منها: الجزء الأول والثالث والرابع والخامس، والثاني مفقود. كتبت هذه النسخة سنة ٦٣٦ هـ، خطها: جيد، مسطراتها: ٢٩ سطرًا تقريبًا، وقفت هذه النسخة على طلبة العلم المجاورين برواق المغاربة، ونص الوصية بذلك مثبت على وجه كل جزء، ونصه: "وقف وحبس، وتصدق لوجه الله تعالى بجميع هذا الجزء من تفسير الإمام الواحدي، المكرم الأمير عبد الرحمن كتخدا على طلبة العلم المجاورين برواق المغاربة، تقبل الله صنيعه وشكر مسعاه ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، تحريرًا في الرابع والعشرين من رجب الفرد في شهور سنة ١١٧٦ هـ الفقير إلى الله أبو الحسن ابن عمر خادم العلم بالأزهر" وعلى هوامشها تعليقات من الكاتب، يصدر كل تعليق بـ قوله: "ش ك" أي شرح من الكتاب، وبالتتبع وجدت هذه التعليقات منقولة بنصها من "الكشاف" وقد أثبت أمثلة منها في هوامش الجزء المحقق.
الجزء الأول: أول الكتاب إلى منتصف سورة "النساء" ويقع في
365
(٢٤٨) لوحة في بعض أوراقه تآكل. لهذا الجزء صورة "ميكروفيلم" في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رقم (٤٠٤٨) أولها غير واضح والمقروء يبدأ من لوحة (١٩).
الجزء الثاني: مفقود.
الجزء الثالث: يبدأ من أول سورة "يونس" إلى آخر سورة "الأنبياء" يقع في (٢٥٤) لوحة، به خرم من أثناء سورة "يونس"، بأوراقه تآكل من السوس، وبعض ترقيع أضاع قليلًا من الكلمات، له نسخة "ميكروفيلم" في جامعة الإمام تحت رقم (٨٠٤٩).
الجزء الرابع: يبدأ من أول سورة "الحج" إلى آخر "الشورى" عدد أوراقه (٢٥٢) لوحة بينما كتب على ظاهره (٢٤٥) ورقة، سليم من التلف والسوس، سوى ما أصاب كعب التجليد، له صورة "ميكروفيلم" في جامعة الإمام رقم (٨٠٥٠).
الجزء الخامس: من أول سورة "الزخرف" إلى آخر القرآن الكريم يقع (٢٠٩) لوحة في آخره: "والله أعلم بالصواب هذا آخر الكتاب. ثم قال الشيخ المفسر -رحمه الله- في نسخته الأصل: وقد يسر الله تعالى وله الحمد لحسن توفيقه تحرير هذا الكتاب الذي لم يسبق إلى مثله في هذا الباب... والحمد لله فوق حمد العارفين، وفوق شكر الواصفين وصلواته وتحياته على المبعوث بالبيان الساطع والبرهان اللامع والقرآن الكريم والكتاب الحكيم، محمد النبي وعلى أصحابه أجمعين آمين، يا رب العالمين، وذلك لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة والحمد لله". ونظرًا لكون هذِه النسخة من أتم النسخ وأوثقها وأوضحها وأقدمها تاريخًا اعتمدت عليها وجعلتها أصلًا ورمزت لها بالرمز (أ).
366
٢ - نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (١) (٥٣) تفسير، موجود منها ستة أجزاء تحتوي على أكثر القرآن، جميعها بخط عادي كتبها "محمد الشيمي" كتبت سنة (١٢٧٠ هـ).
الجزء الأول: من أول الكتاب إلى آخره سورة البقرة يقع في (٣٠٤) لوحات.
الجزء الثاني: من أول سورة "آل عمران" إلى قوله تعالى: ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النحل: ٨٩] يقع في (١٣٣) لوحة.
الجزء الثالث: مفقود.
الجزء الرابع: من سورة "يونس" إلى آخر سورة "النحل" يقع في (٢٨٠) لوحة.
الجزء الخامس: من سورة "الإسراء" وينتهي إلى آخر "الأنبياء" يقع في (٢٤٣) لوحة.
الجزء السادس: من أول سورة "الحج" إلى آخر سورة "السجدة" ويقع في (٢٣٩) لوحة.
الجزء السابع: من أول "الأحزاب" إلى آخر سورة "الشورى" ويقع في (١٥٩) لوحة. وبهذا الجزء ينتهي الموجود من هذه النسخة، ويوجد لها نسخة مصورة في معهد إحياء المخطوطات العربية في القاهرة تحت رقم (٥٦ - ٦١) (٢). وقد اعتمدنا على هذه النسخة ورمزنا لها بالرمز (جـ).
٣ - الجزء الأول من نسخة محفوظة في الأوقاف بالأستانة رقم
(١) انظر: "فهرس الكبخانة الخديوية" ١/ ١٣٣، ١٣٤، و"فهرس الكتب العربية الموجودة في دار الكتب" إلى سنة (١٩٢١ هـ) ١/ ٣٥.
(٢) انظر: "فهرس المخطوطات المصورة بالمعهد" ١/ ٢٤، ٢٥.
367
(١٥٧١) له صورة في معهد إحياء المخطوطات العربية بالقاهرة رقم (٦٢) (١). يقع هذا الجزء في (٢٤٨) لوحة مسطرته (١٩) سطرًا تقريبًا، خطه جيد واضح، يقدر أنها كتبت في القرن الثامن. يبدأ من أول الكتاب، إلى قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ الآية [البقرة: ١١٧] اعتمدنا على هذه النسخة ورمزنا لها بالحرف (ب) (٢).
٤ - جزء من نسخة مخروم الأول، وأول ما فيه من سورة "مريم" قوله تعالى: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣)﴾ [مريم: ٣] وينتهي إلى آخر سورة "الحج" مكتوب بقلم عادى يقع في (٢٦٢) ورقة محفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (١٢١) (٣).
٥ - الجزء الأول والثاني من نسخة محفوظة بالجامع الكبير بصنعاء. الجزء الأول: يقع في (٤١٣) ورقة مسطرته (٢٤ - ١٦) تقريبًا، خطه قديم، مبتور أوله، سقط منه مقدمة الكتاب وسورة "الفاتحة" وأول البقرة.
(١) انظر: "فهرس المخطوطات المصورة بالمعهد" ١/ ٢٥.
(٢) في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية يوجد نسخة كتب عليها: "الجزء الأول من "البسيط" كتب سنة ٥٦٥ رقم (١٢٨٢) وتحت هذا العنوان مصورة في معهد المخطوطات برقم (٦٣) انظر فهرس التيمورية ١/ ١٣، فهرس معهد المخطوطات بالقاهرة ١/ ٢٥، تصفحت هذِه النسخة فتبين لي أنها ليست من "البسيط" وإنما هي "الجزء الأول من تفسير الثعلبي" اطلع على هذه النسخة صاحب كتاب "الواحدي ومنهجه في التفسير" وقال: "اطلعت عليها فوجدت فيها اضطرابا في النسخ... إلخ" ص ٨٧.
(٣) انظر: "فهرس الكتبخانة الخديوية" ١/ ١٣٤، و"فهرس دار الكتب المصرية فهرس الكتب" إلى سنة ١٩٢١ م ١/ ٣٥.
368
الموجود من وسط "البقرة" إلى أثناء سورة "النساء". محفوظ تحت رقم (٥١).
الجزء الثاني: يقع في (٤٤٨) ورقة، يبدأ من أول سورة "براءة" إلى سورة "الرعد" خطه قديم محفوظ تحت رقم (٥٤) (١).
٦ - الجزء الثاني والثالث من نسخة محفوظة في مكتبة "جستربتي" كتب عليهما: هذا كتاب "معاني التفسير" المسمى "البسيط"، خطهما جيد مشكول بعض كلماته.
الجزء الثاني: يقع في (٢٤٣) ورقة، يبدأ من أثناء سورة "النساء" وينتهي بأول سورة "يونس" كتب في آخره: "آخر الجزء الثاني من كتاب معاني التفسير المسمى بالبسيط تصنيف الإمام الواحدي والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ووافق الفراغ منه في يوم الخميس في آخر شوال سنة ثمان وثلاثين وستمائة، كتبه الضعيف الراجي المحتاج إلى رحمة الله تعالى أحمد بن محمد بن الحسن القروني" مصور ميكروفيلم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تحت رقم (٣٧٣١) وفي الفليم عدم وضوح في بعض الصفحات.
الجزء الثالث: يقع في (٢٣٧) ورقة، يبدأ من سورة "يونس" قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ الآية [يونس: ٤] أول تفسير الآية في الجزء الثاني وآخرها في الجزء الثالث، له "ميكروفيلم" في جامعة الإمام محمد
(١) انظر: "فهرس كتب الخزانة المتوكلية العامرة بالجامع الكبير في صنعاء" ص ١٣.
369
بن سعود الإسلامية تحت رقم (٣٧٣٦) وكتب عليه "الجزء الثاني".
٧ - الجزء الثالث: من نسخة مصورة في جامعة الإمام تحت رقم (٥١٠٥) تقع في (٢٩٣) ورقة [٣١ س] كتب على الوجه الأول "الجزء الثالث من البسيط" تأليف أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي. سورة المائدة والأنعام والأعراف. سبعة أحزاب، وعليه عدة تملكات أكثرها غير واضح، وفي آخره: "تمت المجلدة الثالثة بحمد الله وجميل صنعه يتلوها في الرابعة إن شاء الله سورة "الأنفال" ذي الحجة لشهور سنة ست وستمائة هجرية، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين.. بقلم الفقير إلى الله عثمان بصليق الشافعي".
٨ - الجزء السابع من نسخة قديمة، ويبدأ من أول سورة "الحج" إلى آخر سورة "القصص" فيه خرم وتلف كثير أضر بالكتاب ضررًا بالغًا، خطه نسخ معتاد، كتبه محمد بن عبد المحسن الأنصاري سنة (٦٢٧ هـ) عدد أوراقه (٢٣٧) ورقة، ١٩ س، محفوظ في دار الكتب الظاهرية تحت رقم (٧٠٢٣) (١).
٩ - في فهرس نوادر المخطوطات العربية في تركيا ذكر الجزء الثاني من كتاب معاني التفسير، قال: لعله البسيط، في مكتبة اسكيليب رقم (١٠٣٠) يبدأ من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ الآية [البقرة: ١٢٧] إلى آخر البقرة. نسخ سنة (٦١٦ هـ) يقع في (٢٢٦) ورقة، عليه قيد سماع سنة (٦١٧ هـ) (٢).
(١) انظر: "فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية" "علوم القرآن" ص ١٦٦.
(٢) "فهرس نوادر المخطوطات العربية في تركيا" ٣/ ٥٧.
370
المبحث العاشر
منهج العمل في تحقيق "البسيط"
سار الباحثون في التحقيق حسب المنهج التالي:
١ - طريقة النص المختار من بين النسخ، لكون النسخ الموجودة لا ترقى واحدة منهن أن تكون أصلًا يعتمد عليه.
٢ - ذكر الباحثون الفروق بين النسخ الخطية، عدا الألفاظ التي لا أثر للخلاف فيها، مثل: "تعالى" و"عز وجل".
٣ - قابل الباحثون بين الكتاب ومصادره المهمة كتفسير الثعلبي و"معاني القرآن" للزجاج، و"الحجة للقراء السبعة" للفارسي.
٤ - عزا الباحثون الآيات المستشهد بها إلى مواضعها من القرآن الكريم عقب ذكرها مباشرة، وجعلنا ذلك في الأصل بين معقوفتين للتسهيل والتقليل من حواشي الكتاب.
٥ - وثق الباحثون القراءات من المصدر الأساسي للمؤلف وهو كتاب "السبعة" لابن مجاهد، وذكروا من قرأ بها إذا لم يكن المؤلف ذكر ذلك.
٦ - لما كانت النسخ الخطية التي بين يدي الباحثين قد ذكر فيها التفسير سردًا دون أن تذكر الآية أو الآيات قبل تفسيرها على العادة الجارية في كتب التفسير، فإننا قد قمنا بكتابة الآيات قبل تفسيرها؛ وذلك لكونه أوضح في قراءة التفسير، وأجمع للآيات المفرقة لمن أراد مراجعتها.
٧ - لقد أكثر الواحدي من النقل، بعزو وبغير عزو في الغالب، الأمر الذي حمل الباحثين على تتبع هذه النقول في مصادرها التي تعرفوا عليها، وأشاروا إلى الفروق الهامة في الهوامش، لما لذلك من الأهمية في توثيق
371
النص من مصدره، وبيان ما استغلق من الجمل والكلمات، والتعرف على طريقة الواحدي ومنهجه في التصرف في النص المنقول، وقد ترتب على ذلك تكرار أسماء بعض الكتب في الصفحة الواحدة، ولعل ما قصد الباحثون إليه من فائدة يساعد على تجاوز ما يلاحظ من تكرار.
٨ - خرج الباحثون الأحاديث من مصادرها الأصلية، فإن كان في الصحيحين اكتفوا غالبًا بالإحالة عليهما، وإن كان في غيرهما ذكروا من خرجه، وأتبعوا بحكم الأئمة عليه صحة وضعفًا.
٩ - خرج الباحثون آثار الصحابة والتابعين من أهم مصادر التفسير المسند، وإذا لم يجدوها في التفاسير المسندة عزوها إلى كتب التفسير الآخرى.
١٠ - شرحوا ألفاظ الواحدي الغريبة من أمهات كتب اللغة، وضبطوا من ألفاظه ما يحتاج إلى ضبط، حتى يسهل قراءتها.
١١ - عرّفوا بالأعلام من العلماء والشعراء وغيرهم، ولم يستثنوا إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- والأئمة الأربعة.
١٢ - علقوا على المسائل العقائدية، والتفسيرية، والنحوية، واللغوية بما يلزم لإيضاح قول، أو بيان قوته، أو ضعفه، وحاولوا الإقلال من ذلك في مجال النحو واللغة -إلا ما لابد منه- حتى لا يثقل الكتاب بمسائل نحوية ولغوية زيادة على ما فيه.
١٣ - حرص الباحثون كثيرًا على ذكر المصادر في الهوامش حسب ترتيبها التاريخي سوى المصدر الذي يغلب على الظن أن الواحدي نقل عنه فيقدمونه، ولو كان ما بعده أسبق منه.
372
وبعد، فإننا نشكر المولى سبحانه وتعالى أن وفقنا لإتمام هذا العمل ونحن لا ندير لهذا العمل الكمال، وإن كنا نسعى إليه، فهذا متعذر في واقع البشر كما قال المزني: لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتابًا صحيحًا غير كتابه - على هذا الوجه، فله الحمد كله، وله الشكر كله، لا نحصي ثناء عليه إنه كما أثنى على نفسه، والحمد لله رب العالمين.
* * *
373
نماذج من النسخ الخطية للكتاب
الصفحة الأولى من المجلد الخامس من النسخة الأزهرية
375
أول سورة يوسف من النسخة الأزهرية
376
الصفحة الأخيرة من الكتاب من النسخة الأزهرية
377
نهاية نسخة دار الكتب المصرية
378
عنوان النسخة اليمنية
379
بداية سورة التوبة من النسخة اليمنية
380
نهاية نسخة جستوبتي
381
بداية تفسير سورة المائدة من نسخة جامعة الإمام
382
صفحة من نسخة عاطف أفندي بتركيا
383
صفحة من نسخة شهيد علي
384
صفحة أخرى من نسخة شهيد علي
385
صفحة من نسخة جامعة استانبول
386
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
المتوفى سنة ٤٦٨ هـ
النص المحقق
387
مقدمة المُصنِّف
389
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم (١)
الحمد لله القادر، العليم الفاطر، الحكيم المتصف (٢) بالعلم الشامل والطول الكامل، الذي أحصى كل شيء عددا، وأحاط بكل شيء علما، فلا يخفى عليه الشاهد والغيب، ولا يشوب (٣) علمه الشك والريب، يعلم العلن والإسرار والجهر والإضمار، والمشكل والجلي، والبادي والخفي، ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩]
ويعلم قول الحكل (٤)، (لو أن ذرة تساود (٥) أخرى لم يفته سوادها).
فسبحانه من عالم لا بفكرة واجتهاد، وضمير فؤاد (٦)، و (٧) بصير لا بحدقة وسواد، وعزيز لا بعدة وعتاد، وقائل لا بلسان ولهاة، وصانع لا بآلة
(١) في (ب): كلمة غير مقروءة بعد البسملة لعلها (هو حسبي).
(٢) (المتصف): مكانها بياض في (ج).
(٣) في (ب): (ولا يسري عليه).
(٤) في (ب): (الخطر). (الحكل): العجم من الطيور والبهائم، وقيل: ما لا نطق له كالنمل وغيره، انظر: "الصحاح" ٤/ ١٦٧٢، و"مجمل اللغة" ١/ ٢٤٦ مادة (حكل).
(٥) في (ب): (مساود). والسواد: السرار، تقول: ساودته مساودة وسوادًا، أي: ساررته وأصله إدناء سوادك من سواده وهو الشخص. انظر: "الصحاح" (سود): ٢/ ٤٩٢، "مجمل اللغة" ٢/ ٤٧٧، "اللسان" (حكل): ٤/ ٢١٤٢.
(٦) في (ج): (وارد).
(٧) (الواو): ساقطة من (ب).
391
وأداة، ومريد (١) لا بتوطين نفس، ومتكلم لا بنغمة وجرس، ومدبر لا بمشاورة، ومقدر لا بمداورة، تعالى عن الأنداد والأشكال والأشباه والأمثال، واستحق (٢) أوصاف الكمال، واستأثر (٣) بنعوت الجلال (٤).
بعث في الأميين رسولًا من أوسطهم نسبًا، وأشرفهم حسبًا، وأحسنهم أدبًا، وأشهرهم أمًّا وأبًا، يتلو عليهم آياته، ويعارض أباطيلهم ببيناته، حتى انكشطت غشاوة الشك عن وجه اليقين، وتفرَّت دياجي الكفر عن عمود الدين، أنزل عليه نورًا مبينًا، ووحيًا مستبينًا، أنقذ به من الضلالة، وهدى به من حيرة الجهالة، والناس على شرف بوار (٥)، والخلق على شفا نار (٦)، وجعله قرآنًا عربيًا فرفع به من شأن لغتهم، وأزرى (٧) نظمه (٨) بنظومهم وبلاغتهم، ولما تحداهم عجزوا عن معارضته (٩)، وهم لُدّ (١٠) بلغاء، وقصروا
(١) في (ب): (موتد).
(٢) (استحق): بياض في (ج).
(٣) (استأثر): غير واضح في (ب).
(٤) ما ذكره عن نفي مشابهة الله لخلقه صحيح، لكن ليس من منهج السلف تكلف مثل هذِه العبارات في النفي. قال ابن تيمية: (الله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل.. إلخ). "التدمرية" ص ٨.
(٥) البوار: الهلاك. انظر: "تهذيب اللغة": (بار): ١/ ٢٥٤، "الصحاح" ٢/ ٥٨٩.
(٦) (نار): غير واضحة في (ب).
(٧) أزرى بالشيء: حقّره وهوّنه واستخفَّ به. انظر: اللسان (زرى): ١٤/ ٣٥٦ (ط دار صادر).
(٨) قوله (أزرى نظمه): غير واضح في (ب).
(٩) قوله (معارضته): عليها طمس في (ب).
(١٠) في "تهذيب اللغة": الألد: الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه، يقال: رجل ألدّ، وامرأة لدّاء، وقوم لُدّ. "التهذيب" (لَدَّ) ٤/ ٣٢٥٤، وانظر: "اللسان" ٧/ ٤٠٢٠.
392
عن الإتيان بمثله وهم لسن (١) فصحاء، فبهرت معجزته، وظهرت دلالته صلى الله عليه وعلى آله صلاة تنمو أبدًا، وتتصل مددًا ما تناوب (٢) الصباح والمساء، وانطبق على الأرض السماء.
وبعد: فمنذ دهر تحدثني نفسي بأن أعلق لمعاني (٣) إعراب القرآن وتفسيره: فِقَرًا (٤) في الكشف عن غوامض معانيه، ونُكتًا (٥) في الإشارة إلى علل القراءات فيه، في ورقات يصغر حجمها ويكثر غنمها، والأيام تمطلني بصروفها على اختلاف صنوفها، إلى أن شدد علي خناق التقاضي قوم لهم في العلم سابقة، وفي التحقيق همم صادقة، فسمحت قرونتي (٦) بعد الإباء، وذلت
(١) في (ب): (ليس).
(٢) في (أ)، (ج): (وتتناوب)، وأثبت ما في (ب): لأنه أصح في السياق.
(٣) في (ب): (معاني)، وفي (أ): مطموسة.
(٤) في (ب): (وفِقْرًا): بزيادة واو مع سكون القاف. في "تهذيب اللغة" (الفقر: خرزات الظهر، الواحدة فقرة ٣/ ٣ فقر)، وفي "الصحاح" (أجود بيت في القصيدة يسمى فقرة تشبيها بفقرة الظهر)، ٢/ ٧٨٢، وفي "اللسان": الفقرة: العلم من جبل أو هدف ونحوه، ٦/ ٣٤٤٧، وفي "المعجم الوسيط": الفقرة: جملة من كلام، أو جزء من موضوع، أو شطر من بيت شعر، ٢/ ٦٩٧.
(٥) النكتة: كالنقطة، وهي شبه وقرة في العين وشبه وسخ في المرآة، ونكتة سوداء في شيء صاف، انظر: "تهذيب اللغة" (نكت): ٤/ ٣٦٥٨، "الصحاح" ١/ ٢٦٩، "اللسان" ٢/ ١٠٠، قال في "المعجم الوسيط": النكتة: المسألة العلمية الدقيقة يتوصل إليها بدقة وإنعام فكر، ٢/ ٩٥٩.
(٦) في (ب): (عروسى) بدون نقط.
(القرونة) النفس، في "الصحاح" يقال: أسمحت قرينه وقرونه وقرونته وقرينته، أي: ذلت نفسه وتابعته على الأمر. "الصحاح" (قرن) ٦/ ٢١٨٢، وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٦١٢.
393
صعوبتي بعد النفرة (١) والالتواء (٢)، وذلك لتوفر دواعي أهل زماننا على الجهل، وظهور رغباتهم عن العلم، الذي فيه شرف الدين والدنيا، وعز الآخرة والأولى، فقل من ترى (٣) من المتحلين بعقوده وقلائده، ومنتحلي غرره وفوائده (إلا متشبعًا (٤)، كلابس ثوبي زور) (٥)، يبرق، وبروقه غير صادقة، ويرعد وسماؤه غير وادقة، اللهم إلا نفرًا يقل عددهم عند الإحصاء، وتكثر فضائلهم على الحصر والاستقصاء، غير أنهم الأكثرون وإن قلوا، ومواضع الأنس (٦) حيث حلوا؛ لأن العلم وإن أصبح في الناس مجفوًّا (٧)، وأظهروا عنه نفرة ونُبوًّا (٨)،
(١) (النفرة): فيها طمس في (أ).
(٢) في (ج): (والأرتاء).
(٣) في (ب): (نرى): بالنون.
(٤) المتشبع: المتزين بأكثر مما عنده بالباطل، كالذي يظهر أنه شبعان وليس كذلك. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٣٤٦، "الصحاح" (شبع) ٣/ ١٢٣٤، "اللسان" ٤/ ٢١٨٧.
(٥) ورد نحوه في حديث، أخرج البخاري بسنده عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة قالت: يا رسول الله: إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (٥٢١٩) كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل. وأخرجه مسلم (٢١٢٩) كتاب اللباس عن عائشة، و (٢١٣٠) في أسماء بنحوه. وأخرجه أحمد في "المسند" عن عائشة وعن أسماء ٦/ ١٦٧، ٣٤٥، ٣٥٣. وأبو داود عن أسماء (٤٩٩٧) كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعط. والترمذي عن جابر بلفظ آخر. (٢٠٣٤) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعطه.
(٦) في (ب): (الالبنن).
(٧) (مجفوا): فيها طمس في (أ)، ومكانها بياض في (ج).
(٨) في (ج): (بتوا)، وفي (ب): غير منقوطة. يقال: نبا بصره نبوا: كلَّ، ونبا السهم عن الهدف: قصر. "القاموس" (نبا) ص ١٣٣٦.
394
فحرمته لا تضاع (١)، وسوامه (٢) لا تراع، ولن يخلو (٣) الشيء الفاضل (٤) في جنسه عن (٥) عزته في نفسه، وإن قل من يعتامه (٦) وعز من يطلبه ويستامه.
هؤلاء شكوا إليَّ: غلظ حجم المصنفات في التفسير، وإن الواحدة منها تستغرق (٧) العمر كتابتها، ويستنزف الروح سماعها وقراءتها، ثم صاحبها بعد أن أنفق العمر على تحصيلها، ليس يحظى منها بطائل تعظم عائدته، وتعود عليه فائدته. فقلت: إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب فإنهما عمدتاه، وإحكام أصولهما، وتتبع مناهج لغات العرب (٨) فيما تحويه (٩) من الاستعارات الباهرة، والأمثال النادرة، والتشبيهات (١٠) البديعة، والملاحن (١١) الغريبة، والدلالة باللفظ اليسير على المعنى الكثير، مما لا يوجد مثله في سائر اللغات.
(١) لا تضاع. الضياع: الإهمال، ضاع الشيء يضيع ضيعة وضياعا: هلك. انظر: "الصحاح" (ضيع): ٣/ ١٢٥٢، "اللسان" ٥/ ٢٦٢٥.
(٢) السوام: كل ما رعى من المال في الفلوات إذا خلي يرعى حيث شاء. "اللسان" (سوم): ١٢/ ٣١١، "القاموس" ص ١١٢٤.
(٣) في (ج): (يحسو).
(٤) (الفاضل): ساقط من (ج).
(٥) في (ج): (من).
(٦) في (ب): (يقبانه). (اعتام يعتام) إذا اختار وأخذ. انظر: "اللسان" (عيم): ٥/ ٣١٩٥، "القاموس" ص ١١٤٢.
(٧) في (ب): (يستغرق).
(٨) في (ب): (العزب).
(٩) في (أ): (يحويه)، في (ب)، (ج): غير منقوطة.
(١٠) في (ب): (التشبهات).
(١١) يدخل تحت قوله (الملاحن) بعض أنواع البلاغة كالكناية والتعريض، واللحن: صرف الكلام عن التصريح إلى التعريض لغرض صحيح، يقول الراغب الأصفهاني:=
395
وقد أعفى أهل زماننا أنفسهم عن كد التعب في طلب الأدب، فقد هوت (١) دولته إلى الحضيض، وصار يرنو (٢) بالطرف الغضيض، وها هو قد خوى (٣) نجمه وصَوَّح (٤) نبته، وذوى (٥) عوده، وخرَّ عموده (٦).
وإذا ضاع الأدب ضاع ما يحتاج في تفسيره إليه، ويعول في معرفته عليه، وهو علم (٧) القرآن العربي، المنزل بلسان العرب ولغتهم، المنظوم بألفاظهم في مخاطبتهم.
والله تعالى ذكره أنزل كتابه (٨) (على قوم عرب أولي (٩) بيان فاضل، وفهم بارع.
= (اللحن: صرف الكلام عن سننه الجاري عليه، إما بإزالة الإعراب، أو التصحيف وهو المذموم، وذلك أكثر استعمالا. وإما بإزالته عن التصريح، وصرفه بمعناه إلى التعريض، ونحوه، وهو محمود عند أكثر الأدباء من حيث البلاغة... وإياها قصد بقوله تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠]). "مفردات الراغب" ص ٤٤٩، انظر: "اللسان" (لحن) ٧/ ٤٠١٣.
(١) في (ج): (موت).
(٢) في (ج): (يرانق). رنا يرنو رنوا: إذا أدام النظر. انظر: "الصحاح" (رنا) ٦/ ٢٣٦٣، وانظر: "مجمل اللغة" ٢/ ٤٠٠، "اللسان" ٣/ ١٧٤٧.
(٣) في (ب): (جوى).
(٤) رسمت في (أ): (تصوح) ثم صوبت في الهامش بـ (صوح)، وفي (ب): (صوح)، وفي (ج): (تصوح). قال في "اللسان" تصوح البقل وصوح: تم ينبسه. "اللسان" (صوح) ٤/ ٢٥٢١، وانظر: "القاموس" ص ٢٣٠.
(٥) في (ب): (دوى).
(٦) (وخر عموده): ساقط من (ج).
(٧) في (ب): (وهو في علم القرآن).
(٨) الكلام من هنا منقول من مقدمة "تهذيب اللغة" للأزهري ١/ ٢٧ - ٢٨.
(٩) في (ب)، (ج): (أولى)، وفي (أ): فيها طمس وكأنها (أولو).
396
أنزله جل ذكره بلسانهم، وصيغة (١) كلامهم الذي نشؤوا (٢) عليه، وجبلوا على النطق به فتدربوا (٣) به، يعرفون وجوه خطابه ويفهمون فنون نظامه، ولا يحتاجون إلى تعلم مشكله وغريب ألفاظه حاجة المولدين الناشئين مع من لا يعلم لسان العرب حتى يعلمه، ولا يفهم ضروبه وأمثاله وأساسه (٤) وطرقه حتى يفهمها.
وبين النبي - ﷺ - للمخاطبين من أصحابه رضي الله عنهم (٥) - ما عسى (٦) بهم الحاجة [إليه] (٧) من معرفة (٨) بيان مجمل الكتاب وغامضه ومتشابهه وجميع وجوهه، التي لا غنى بهم وبالأمة عنه. فاستغنوا بذلك عما نحن إليه اليوم (٩) محتاجون من معرفة لغات العرب واختلافها والتبحر فيها، والاجتهاد في تعلم وجوه العربية الصحيحة التي بها نزل الكتاب وورد البيان.
فعلينا أن نجتهد في تعلم ما يتوصل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب، ثم السنن المبينة لمجمل التنزيل، الموضحة للتأويل؛ لتنتفي عنا الشبه
(١) في (ب): (وضعة).
(٢) في "تهذيب اللغة" (نشئوا) ١/ ٢٧.
(٣) في (ب): (فتدر توابه).
(٤) في "التهذيب" (وأساليبه) ١/ ٢٨.
(٥) (عنهم): ساقط من (ج).
(٦) في (أ): (أما عسر بهم الحاجة)، وفي (ب): (ما عسر)، وفي (ج): (أما عسى بهم) وفي "تهذيب اللغة" (وبين النبي - ﷺ - للمخاطبين من أصحابه رضي الله عنهم ما عسى الحاجة إليه من معرفة بيان لمجمل الكتاب وغامضه.. وفي "حاشية التهذيب" في (م) (ما عسى الحاجة به إليه) ١/ ٤.
(٧) (إليه): إضافة من "تهذيب اللغة" لضرورتها لصحة السياق.
(٨) (معرفة): غير واضح في (ب).
(٩) (اليوم): غير موجود في مقدمة "التهذيب" ١/ ٢٨.
397
التي دخلت على كثير من رؤساء أهل الزيغ والإلحاد، ثم على رؤوس ذوي الأهواء والبدع، الذين تأولوا بآرائهم المدخولة فأخطؤوا (١)، وتكلموا في كتاب الله عز وجل بلكنتهم العجمية دون معرفة ثاقبة، فضلوا وأضلوا، نعوذ بالله (٢) من الخذلان، وإياه نسأل التوفيق والصواب (٣) (٤).
وقد كان الأكابر من السلف يحثون على تعلم لغة العرب، ويرغبون فيها لما يعلمون من (٥) فضلها وفرط الحاجة إليها (في معرفة ما في الكتاب، ثم في (٦) السنن والآثار، وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين، من الألفاظ الغريبة والمخاطبات العربية (٧)، فإن من جهل لسان (٨) العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها، وجهل جمل (٩) علم الكتاب) (١٠).
ولقد أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم (١١) رحمه الله قال: أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن (١٢)،
(١) (فأخطأوا): ساقط من (ب).
(٢) (نعوذ بالله). ساقط من (ج).
(٣) في (ج): (التوفيق للصواب).
(٤) انتهى من مقدمة "تهذيب اللغة" ١/ ٢٧ - ٢٨.
(٥) (من): ساقط من (ج).
(٦) (في): ساقط من (ب).
(٧) في (ب): (العربية).
(٨) في "تهذيب اللغة" (جهل سعة لسان العرب) ١/ ٢٩.
(٩) في (ب): (حمل).
(١٠) بنصه من مقدمة "تهذيب اللغة" ١/ ٢٩.
(١١) هو الثعلبي، سبقت ترجمته مع شيوخه.
(١٢) هو أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب بن أيوب النيسابوري، المفسر إمام في معاني القرآن، وكان أديبًا، عارفا بالمغاري، سمع عن جماعة منهم =
398
ثنا (١) أبو الحسن أحمد بن الخضر بن أبان (٢)، ثنا أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف (٣) ثنا نصر بن علي الجهضمي (٤)، ثنا عامر بن أبي عامر (٥)، ثنا أيوب
= الأصم، صنف القراءات والتفسير والآداب، قال الذهبي: تكلم فيه الحاكم، مات سنة ست وأربعمائة.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٢٣٧، "العبر" ٢/ ٢١٢، "طبقات المفسرين" للداوادي ١/ ١٤٤، و"تفسير السيوطي" ص ٣٥.
(١) (ثنا): ساقط من (ج): في جميع السند.
(٢) هو الحافظ أبو الحسن أحمد بن الخضر بن أحمد النيسابوري الشافعي، مات سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
انظر: "طبقات الشافعية" ٣/ ١٤، "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٥٠١.
(٣) الإمام الحافظ أبو عمرو أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخفاف، سمع عن جماعة منهم إسحاق بن راهويه وعمرو بن زرارة، وحدث عن جماعة، اشتهر بالحفظ، كانت وفاته في شعبان سنة تسع وتسعين ومائتين من أبناء الثمانين.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٥٦٠ - ٥٦٣، "تذكرة الحفاظ" ٢/ ٦٥٤ - ٦٥٦، "البداية والنهاية" ١١/ ١١٧.
(٤) نصر بن علي بن نصر بن علي بن صبهان الأزدي الجهضمي. أبو عمرو البصري، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه فقال: ما به بأس، ورضيه، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن نصر، فقال: ثقة. مات سنة خمسين ومائتين في ربيع الآخر، وعليه الأكثر، وقيل سنة إحدى وخمسين.
انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٤٦٦، "تاريخ بغداد" ١٣/ ٢٨٧، "سير أعلام النبلاء" ١٢/ ١٣٣، "تذكرة الحفاظ" ٢/ ٥١٩، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٢١٩.
(٥) عامر بن أبي عامر: هو عامر بن صالح بن رستم المزني، مولاهم ابن أبي عامر الخزاز، قال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: في حديثه بعض النكرة، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: ليس به بأس. قال العقيلي: لا يتابع على حديثه عن أيوب بن موسى.
انظر: "الميزان" ٣/ ٧٤ (٤٠٨٢)، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٦٦.
399
ابن موسى القرشي (١)، عن أبيه (٢)، عن جده (٣) قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما نحل والد ولده نحلة (٤) أفضل من أدب حسن" (٥).
(١) أيوب بن موسى: هو أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي، روى عن جماعة، منهم جده سعيد بن العاص ولم يدركه، وعن أبيه موسى بن عمرو ابن سعيد، ثقة.
انظر: "تهذيب الكمال" ٣/ ٤٩٤، "معرفة الثقات" للحجلي ١/ ٢٤١، "تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين ص ٣١، "ذكر أسماء التابعين" للذهبي ١/ ٦٨.
(٢) أبوه: موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي المكي، روى عن أبيه، وروى عنه ابنه أيوب.
انظر. "الجرح والتعديل" ٨/ ١٥٥، "تهذيب التهذيب" ٤/ ١٨٥.
(٣) عن جده: قال ابن حجر: يحتمل أن يعود ضمير الجد على أيوب، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يعود على موسى، فيكون من مسند سعيد بن العاص، والحديث مع ذلك مرسل. انظر: "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٧.
- عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميه المدني المعروف بـ (الأشدق): وهو الأصغر و (عمرو بن سعيد بن العاص) الأكبر صحابي وزعم بعضهم أن له رؤية، والصحيح أنه ليس له رؤية، قتله عبد الملك بن مروان، بعد أن طلب الخلافة سنة تسع وستين، وقيل: سبعين.
انظر. "الطبقات الكبرى" لابن سعد ٥/ ٢٣٧، "تهذيب التهذيب" ٣/ ٢٧٢.
- وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، قتل أبوه يوم بدر كافرا قال ابن سعد: قبض النبي - ﷺ -، وسعيد ابن تسع سنين، روى عن النبي - ﷺ - مرسلًا، وعن عمر وعثمان وعائشة وعنه ابناه عمرو ويحيى وغيرهم، مات بالمدينة، ودفن بالبقيع سنة (٥٨ هـ) وقيل: (٥٧ هـ)، وقيل: (٥٩ هـ).
انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد ٥/ ٣٠ - ٣٥، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٧.
(٤) نحل: أعطى والنحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق. انظر: "اللسان" (نحل) ٧/ ٤٣٦٩.
(٥) أخرجه الترمذي بنحوه (١٩٥٢) كتاب البر، باب ما جاء في أدب الولد من طريق نصر بن علي، عن عامر بن أبي عامر الخزاز، وقال. هذا حديث غريب لا نعرفه إلا =
400
وروي عن سعيد بن المسيب (١) أنه قال: بينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر، فقال: يا أيها الناس: ما تقولون في قول الله عز وجل: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ [النحل: ٤٧]؟ فسكت الناس، فقام شيخ فقال: يا أمير المؤمنين: هذِه لغتنا بني هذيل، التخوف: التنقص، قال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي (٢) يصف ناقة:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا صُلْبًا كما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (٣)
= من حديث عامر بن أبي عامر الخزاز، وأيوب بن موسى: هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص، وهذا عندي حديث مرسل. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأدب وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي وقال: بل مرسل ضعيف، ففي إسناده عامر بن صالح الخزاز: واهٍ. "المستدرك" ٤/ ٢٦٣، وسبق كلام ابن حجر حيث قال: إنه مرسل. انظر: "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٧.
(١) سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ، القرشي المخزومي، تابعي مشهور، اشتهر بالعلم والزهد والورع، روى عن جمع من الصحابة، وروى عنه جمع منهم الزهري وقتادة، وثقه الأئمة كأحمد وابن أبي حاتم، وتكلموا في سماعه من عمر، توفي سنة أربع وتسعين، وقيل: غير ذلك.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٩/ ١١٥ - ١٤٣، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٤٣ - ٤٥.
(٢) هو عامر بن الحليس، من بني سهل بن هذيل، شاعر جاهلي، وقيل: أدرك الإسلام امتاز شعره بالحكم وقوة السبك.
انظر: "الشعر والشعراء" ٤٤٦ - ٤٤٨، "الإصابة" ٤/ ١٦٥، "الخزانة" ٨/ ٢٠٩.
(٣) (التخوف) التنقص شيئًا فشيئًا، و (التامك) السنام المرتفع، و (النبعة) واحدة النجع وهو شجر تتخذ منه القسي، و (السفن) مبرد الحديد الذي ينحت به الخشب. يقول: تنقص رحلها سنامها المرتفع، كما تنقص المبرد عود النبع. واختلف في نسبة البيت، فنسبه بعضهم لأبي كبير كما عند الواحدي هنا، ونسبه الأزهري لابن مقبل، ونسبه الجوهري لذي الرمة، ونسبه بعضهم لزهير، وقيل: لعبد الله بن عجلان، وقيل: لابن مزاحم الثمالي. =
401
فقال عمر رضي الله عنه: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم (١).
وفيما كتب إلى محمد بن عبد العزيز المروزي (٢) بخط يده، أن محمد بن الحسين الحدادي (٣) أخبرهم عن محمد بن (٤) يحيى (٥)، قال:
= ورد البيت في "تفسير الطبري"، ١٤/ ١١٣، "تهذيب اللغة" (خاف) ١/ ٩٦٦، (سفن) ٢/ ١٧٠٨، "الصحاح" (خوف) ٤/ ١٣٥٩، "أمالي القالي" ٢/ ١١٢، "الكشاف" ٢/ ٤١١، "تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٠، "تفسير الرازي" ٢٠/ ٣٩، "اللسان" (خوف) ٣/ ١٢٩٢، (سفن) ٤/ ٢٠٣٢، "مشاهد الإنصاف شرح شواهد الكشاف" ص ١٣٠.
(١) في حاشية نسخة (أ) قال الكاتب: أخذ الواحدي الحكاية من تفسير شيخه الثعلبي من سورة النحل. وقد ذكر هذه الحكاية عدد من المفسرين.
انظر: "الكشاف" ٢/ ٤١١، "تفسير الرازي" ٢٠/ ٣٩، "تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٠.
(٢) لم أصل إلى شيخ الواحدي محمد بن عبد العزيز المروزي.
(٣) في جميع النسخ محمد بن الحسن، والصحيح: محمد بن الحسين كما جاء في "أسباب النزول" للواحدي ص ٢٣ وهو محمد بن الحسين بن محمد بن مهران المروري الحدادي، أبو الفضل و (الحدادي) نسبة إلى عمل الحديد، قال عنه الحاكم: كان شيخ أهل مرو في الحديث والفقه والتصوف والفتيا، مات سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
انظر. "الأنساب" ٤/ ٨٠، "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٤٧٠، "المشتبه" ١/ ١٤٤، "اللباب" ١/ ٣٤٦.
(٤) (بن): ساقط من (جـ).
(٥) لم أعرف من المراد، فنهاك محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري الذهلي شيخ البخاري، فإنه روى عن إسحاق بن راهويه، توفي سنة سبع وخمسين ومائتين.
انظر: "تاريخ بغداد" ٣/ ٤١٥، "تهذيب الكمال" ٢٦/ ٦١٧ (٥٦٨٦)، "تهذيب التهذيب" ٣/ ٧٢٨.
ومحمد بن يحيى بن خالد، أبو يحيى، المروزي، المعروف بالشعراني، قدم نيسابور وحدث ببغداد عن إسحاق بن راهويه، ذكره في "تهذيب الكمال" للتمييز، وليس من =
402
أبنا (١) إسحاق ابن إبراهيم الحنظلي (٢)، أبنا (٣) وكيع (٤)، عن أسامة ابن
= رجال الستة، ولم يذكر أحد تاريخ وفاته.
انظر: "تاريخ بغداد" ٣/ ٤٢٤، "تهذيب الكمال" ٢٦/ ٦٣٣، "تهذيب التهذيب" ٣/ ٧٣٠.
وقد ورد هذا السند في "أسباب النزول" ص ١٤٣ قال: أخبرنا محمد بن عبد العزيز، أن محمد بن الحسين أخبرهم، عن محمد بن يحيى بن يزيد، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم. ولم أجد محمد بن يحيى بن يزيد، ولم يذكر ممن روى عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه.
(١) (أبنا) ساقط من (جـ)، وفي (ب): (أنا) وهذا الصواب في رمز (أخبرنا): وبعضهم استعمل (أبنا): ولم يستحسنه المحدثون. انظر: "تدريب الراوي" ٢/ ٨٧.
(٢) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي، المعروف بابن راهويه المروزي، أحد الأئمة، روى عن ابن المبارك وابن عيينة وابن علية، وجرير وعبد الرزاق وغيرهم، روى عنه بقية بن الوليد، ويحيى بن آدم، وعنه الجماعة سوى ابن ماجه، وثقه الأئمة، قال أبو حاتم: مثل إسحاق يسأل عنه! إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، ولد سنة ١٦١، وقيل ١٦٦ هـ، ومات سنة ٢٣٨ هـ وقيل: ٢٣٧ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٦/ ٣٤٥، "الجرح والتعديل" ٢/ ٢٠٩، "ميزان الاعتدال" ١/ ١٨٢ - ١٨٣، "تهذيب التهذيب" ١/ ١١٢، "حلية الأولياء" ٩/ ٢٣٤.
(٣) في (ج): (ثنا)، وفي (ب): (أنا).
(٤) وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، الكوفي الحافظ، أحد الأئمة الأعلام روى عن أبيه، هشام بن عروة، والأعمش، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، وأسامة بن زيد الليثي، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وخلق كثير، روى عنه أبناؤه، وشيخه سفيان، وأحمد، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وغيرهم، قال أحمد: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم منه، ولا أشبه بأهل النسك منه، قال ابن المديني: كان وكيع يلحن، وقال: كان فيه تشيع قليل، مات سنة ست وتسعين ومائة.
انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ٣٧ - ٣٩، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٣١١، "ميزان الاعتدال" ٦/ ٩ - ١٠.
403
زيد (١)، عن عكرمة (٢)، عن ابن عباس قاد: إذا قرأ (٣) أحدكم شيئًا من القرآن فلم يدر ما تفسيره، فليلتمسه في الشعر، فإنه ديوان العرب (٤). وبهذا الإسناد (٥)، وعن إسحاق (٦)، أبنا (٧) وهب بن جرير (٨)،
(١) أسامة بن زيد الليثي مولاهم، المدني، روى عن أبان بن صالح، وأبيه، وسعيد المقبري، وسعيد بن المسيب، وابن كيسان، وجماعه كثير، وروى عنه الثوري، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، وغيرهم، عن أحمد: ليس بشيء، وعن يحيى بن معين: ثقة صالح، وضعفه يحيى بن سعيد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي. ليس بالقوي.
انظر: "تهذيب الكمال" ٢/ ٣٤٧ - ٣٥٠، "تهذيب التهذيب" ١/ ١٠٨، "الجرح والتعديل" ٢/ ٢٨٤ - ٢٨٥.
(٢) أبو عبد الله، عِكْرِمة بن عبد الله البربري، ثم المدني، الهاشمي بالولاء، مولى ابن عباس. أحد أوعية العلم، تكلم فيه لرأيه لا لحفظه، فاتهم برأي الخوارج، وقد وثقه جماعة، واعتمده البخاري، وأما مسلم فتجنبه، وروى له مقرونًا بغيره، روى عن مولاه وعائشة وأبي هريرة، وغيرهم، وأفتى في حياة ابن عباس، قال عنه ابن حجر: (ثقة ثبت عالم بالتفسير): توفي بالمدينة سنة خمس ومائة، وقيل: ست، وقيل: سبع.
انظر: "ميزان الاعتدال" ٤/ ١٣ - ١٧، "تهذيب التهذيب" ٣/ ١٣٤ - ١٣٨. انظر: "صفة الصفوة" ٢/ ٧٣، "تذكرة الحفاظ" ١/ ٩٥.
(٣) في (ب): (قرئ).
(٤) ذكره ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" ١/ ٦٢، والزركشي في البرهان" ١/ ٢٩٣، والسيوطي في "الإتقان" ٢/ ٦٧، "المزهر" ٢/ ٣٠٢.
(٥) أي: الإسناد السابق محمد بن عبد العرير المروزي أن محمد بن الحسين الحدادي أخبرهم عن محمد بن يحيى، عن إسحاق.
(٦) ابن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه.
(٧) في (ب). (أنا)، وفي (ج): (ابن).
(٨) في (ب): (حرند). وهب بن جرير بن حازم بن زيد، أو ابن يزيد بن عبد الله بن شجاع الأزدي بصري، حافظ، روى عن أبيه، وعكرمة، وشعبة، وغيرهم وعنه أحمد بن =
404
ثنا (١) أبي (٢) قال: سمعت الزبير بن خريت (٣)، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يسأل عن الشيء من عربية القرآن فينشد الشعر (٤).
سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحيري (٥)، سمعت القاضي أبا
= حنبل، وابن المديني، وابن معين، وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: بصري ثقة، كان عفان يتكلم فيه، وقال النسائي: ليس به بأس. مات سنة ست ومائتين. انظر: "ميزان الاعتدال" ٤/ ٣٥٠، "الجرح والتعديل" ٩/ ٢٨، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٣٢٩.
(١) في (ج): (ابن).
(٢) أبوه جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله بن شجاع الأزدي البصري، عده بعضهم من صغار التابعين، روى عن الحسن، وابن سيرين، وأبي الطفيل ورجاء العطاردي، وقتادة، وغيرهم. وعنه ابنه وهب، وابن المبارك، وغيرهم، عن ابن معين: ثقة، وعنه: ليس به بأس، وقال العجلي: ثقة، النسائي: ليس به بأس، أبو حاتم: صدوق صالح، ابن عدي: مستقيم الحديث صالح إلا روايته عن قتادة، أحمد: كثير الغلط، البخاري: ربما يهم في الشيء. مات سنة (١٧٥ هـ).
انظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ٥٠٤ - ٥٠٥، "تهذيب التهذيب" ١/ ٢٩٤ - ٢٩٦، "ميزان الاعتدال" ١/ ٣٩٢ - ٣٩٣.
(٣) في (ب): (خزثت). الزبير بن الخريت البصري، روى عن نعيم بن أبي هند، وعكرمة، وغيرهم، وعنه جرير بن حازم، وغيره، وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، وله في مسلم حديث واحد. انظر: "تهذيب التهذيب" ١/ ٦٢٤، "الجرح والتعديل" ٣/ ٥٨١.
(٤) أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه": كان ابن عباس إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد شعرًا من أشعارهم. كتاب الأدب، الرخصة في الشعر ٥/ ٢٧٨ (٢٦٠٤٠)، وكتاب فضائل القرآن، وما فسر بالشعر من القرآن ٦/ ١٢٣ (٢٩٩٧٤)، وذكره الرازي في "الزينة" ١/ ١٢٧ عن أبي عبيدة، عن ابن عباس، والسيوطي في "الإتقان" ٢/ ٦٧ من طريق أبي عبيد. وأخرج نحوه ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" ١/ ٦٢.
(٥) في جميع النسخ (الجيري): بالمعجمة والصحيح الحيري بالحاء المهملة، سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي.
405
الحسن علي بن القاسم (١)، وأبا إسحاق إبراهيم بن الحسن بن بشر (٢)، وأبا القاسم جعفر بن عبد الله الفناكي (٣)، الرازيين بالري، قالوا: سمعنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (٤) قال: أخبرني أبي (٥)، ثنا (٦) حرملة بن
(١) هو القاضي علي بن القاسم بن العباس بن الفضل بن شاذان، أبو الحسن، القاضي، الرازي، سمع عبد الرحمن بن أبي حاتم، وغيره، توفي بالري في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. نقل الخطيب عن العتيقي: توثيقه. "تاريخ بغداد" ١٢/ ٥٣.
(٢) لم أصل إليه.
(٣) في (ب): (العتاكي). هو أبو القاسم جعفر بن عبد الله بن يعقوب بن الفناكي الرازي، سمع من عبد الرحمن بن أبي حاتم، موصوف بالعدالة وحسن الديانة، روى عنه هبة الله اللالكائي، وغيره، توفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٤٣٠، ٤٣١، "العبر" ٢/ ١٦٣.
(٤) هو الإمام الحافظ ابن الإمام الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، يكنى أبا محمد، ولد سنة أربعين ومائتين، أو إحدى وأربعين، سمع من أبيه، وأبي سعيد الأشج، وأبي زرعة، وجماعة كثيرين، روى عنه ابن عدي، وأبو الشيخ ابن حيان، وأبو أحمد الحاكم، له كتاب "الجرح والتعديل" أثنى عليه العلماء، توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالري.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٢٦٣ - ٢٦٩، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ٨٢٩ - ٨٣٢، "الميزان" ٣/ ٣٠١ - ٣٠٢، "طبقات المفسرين" للداودي ١/ ٢٨٥ - ٢٨٧.
(٥) الإمام الحافظ الناقد شيخ المحدثين، أبو حاتم الرازي، محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني، كان من بحور العلم، برع في المتن والإسناد، "ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وهو من طبقة البخاري، سمع عبيد الله بن موسى، والأصمعي، وأبا نعيم، وخلقًا كثيرًا، روى عنه ابنه عبد الرحمن، وإبراهيم الحربي، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، مات في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين.
انظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ٧٣ - ٧٧، "الجرح والتعديل" ١/ ٣٤٩ - ٣٦٨، "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٢٤٧ - ٢٦٢.
(٦) (ثنا): ساقط من (ج).
406
يحيى (١)، قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: أصحاب العربية جن الإنس.
وسمعته (٢) يقول: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب (٣)، يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى النحوي (٤) قال: قال عبد الملك بن مروان (٥): تعلموا العربية فإنها المروءة الظاهرة (٦).
(١) هو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي، أبو حفص المصري، صاحب الإمام الشافعي، روى عن الشافعي وابن وهب وغيرهم، وروى عنه مسلم، وابن ماجه، وأبو حاتم، وغيرهم. قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال محمد بن عبد الله الفرهاداني: هو ضعيف، قال ابن عدي: وقد تبحرت حديث حرملة وفتشته الكثير، فلم أجد فيه ما يوجب التضعيف من أجله، وثقه ابن معين وأحمد، وذكره ابن حبان في "الثقات". توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
انظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ٢٧٣، "تهذيب الكمال" ٥/ ٥٤٨ - ٥٥٢، "تهذيب التهذيب" ١/ ٣٧٢، "الميزان" ١/ ٤٧٢.
(٢) أي: سمعت أبا عثمان الحيري.
(٣) محمد بن أحمد بن يعقوب، أبو عبد الله الوزيري، حدث عن ثعلب وغيره، مات سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" ١/ ٣٧٥. ومما يظهر أن الحيري قد عمَّر حيث توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة، ومحمد بن أحمد توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، أو كان بينهما واسطة.
(٤) هو أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بـ (ثعلب): تقدمت ترجمته.
(٥) عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أمية، توفي سنة ست وثمانين. انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٢٢٣ - ٢٣٥، "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٢٤٦ - ٢٤٩.
(٦) لم أجده عن عبد الملك بن مروان، وذكره ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" بسنده عن الكسائي عن ابن أبي الدنيا. "إيضاح الوقف والابتداء" ١/ ٤٥، وبمعناه عن سلمة بن عبد الملك ١/ ٤٧، والزجاجي في "الإيضاح في علل النحو" ص ٩٥ عن الزجاج، عن المبرد، عن بعض السلف: عليكم بالعربية فإنها المروءة الظاهرة، وهي كلام الله عز وجل وأنبيائه وملائكته.
407
وقل من تقدم في علم من العلوم إلا بمعرفة الأدب، ومقاييس العربية، والنحو، وما حدثت البدع والأهواء المضلة إلا من الجهل بلغة العرب. سمعت الشيخ أحمد بن أبي منصور المقرئ (١) رحمه الله يقول: سمعت الحسن بن محمد المكتب (٢) يقول: سمعت أبا علي الحسن بن أحمد الخياط (٣) يقول: سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي (٤) يقول: سمعت الربيع بن سليمان (٥) يقول (٦): سمعت الشافعي يقول: عامة من تزندق (٧) بالعراق لجهلهم بالعربية
(١) لم أعرفه.
(٢) لم أعرفه.
(٣) لم أعرفه.
(٤) الحافظ الحجة، أبو نعيم الجرجاني، الاستراباذي، سمع من جماعة منهم الربيع بن سليمان. قال الحاكم: كان من أئمة المسلمين، وقال الخطيب: كان أحد الأئمة ومن الحفاظ لشرائع الدين مع صدق وتيقظ وورع. توفي في آخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" ١٠/ ٤٢٨، "طبقات الشافعية الكبرى" ٣/ ٣٣٥، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ٨١٦.
(٥) الربيع بن سليمان المرادي، مولاهم، المصري المؤذن، صاحب الشافعي، وراوية كتبه عنه، روى عن جماعة منهم ابن وهب، وعنه جماعة منهم أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو نعيم عبد الملك الجرجاني، قال النسائي: لا بأس به، وقال ابن يونس: كان ثقة، وقال ابن أبي حاتم: صدوق ثقة، وسئل عنه أبو حاتم فقال: صدوق، مات سنة سبع ومائتين.
انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" ٢/ ١٣٢، "تهذيب التهذيب" ١/ ٥٩٣.
(٦) (يقول): ساقط من (أ)، (ج).
(٧) الزنديق: يطلقه أكثر العلماء على من بدل دينه أو أحدث فيه، وقد سمى الإمام أحمد القائلين بتناقض القرآن (زنادقة): وألف رسالة أسماها: "الرد على الزنادقة والجهمية". وقالوا: إنها ليست من كلام العرب، وإنما هي فارسي معرب.
انظر: "تهذيب اللغة" (زندق) ٢/ ١٥٦٣، "اللسان" (زندق) ٣/ ١٨٧١.
408
ولغات العرب (١).
وقرأت على الأستاذ سعيد بن محمد المقرئ (٢) فقلت: حدثكم طلحة بن محمد الشاهد (٣) ببغداد (٤)، قال: سمعت أبا بكر بن دريد (٥)، قال: قال ابن أخي الأصمعي (٦): عن الأصمعي (٧): تعلموا النحو، فإن بني إسرائيل كفرت
(١) ذكر الرازي في "الزينة" ١/ ١٧ عن أبي عبيد، سمعت الأصمعي، سمعت الخليل، سمعت أيوب السختياني، يقول: عامة من تزندق بالعراق لقلة علمهم بالعربية.
(٢) هو أبو عثمان سعيد بن محمد الحيري المقرئ، أحد شيوخ الواحدي.
(٣) طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد، أبو القاسم، حدث عن جماعة، منهم محمد بن العباس اليزيدي، وأبو القاسم البغوي، وأبو بكر بن مجاهد، وغيرهم، حدث عنه الأزهري، وأبو محمد الخلال وغيرهما، كان سيئ الحال في الحديث، وكان يذهب إلى الاعتزال ويدعو إليه، قال الأزهري: ضعيف في روايته ومذهبه، مات سنة ثمانين وثلاثمائة.
انظر: "تاريخ بغداد" ٩/ ٣٥١، "معرفة القراء الكبار" ١/ ٣٤٤
(٤) في (ض): (بغداد).
(٥) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، صاحب كتاب "الجمهرة"، كان من أكابر علماء العربية، وكان شاعرًا، من ذلك مقصورته المشهورة، أخذ عن أبي حاتم، والرياشي، وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي، قال الدارقطني: تكلموا فيه. توفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
انظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ١٩٥، "نزهة الألباء" ص ١٩١ - ١٩٤، "وفيات الأعيان" ٤/ ٣٢٣ - ٣٢٩.
(٦) هو عبد الرحمن بن عبد الله ابن أخي الأصمعي، يكنى: أبا محمد، وقيل: يكنى أبا الحسن، روى عن عمه، وكان إذا أكثر أنكر عليه، وربما كذبه. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي ص ١٨٠، "إنباه الرواة" ٢/ ١٦١.
(٧) هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، صاحب النحو واللغة والغريب والأخبار، وكان عالما بالشعر، صدوقا في الحديث، أخذ عن عبد الله بن عوف، وشعبة، وحماد بن سلمة، والخليل. أخذ عنه ابن أخيه عبد الرحمن، وأبو عبيد بن =
409
بكلمة، قال الله لعيسى: (أنت نبيِّي وأنا ولَّدتك) فخففوها (١).
ولئن استغنى علم عن الأدب، [فمن ضرورة التفسير وعلم القرآن الأدب] (٢) ومعرفة اللغة العربية، ولا تكاد تجد ذلك متأتيا لمن لم يمرن عليها، ولم يتدرب (٣) بها.
ولقد سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم (٤)، يقول: سمعت الحسن بن محمد (٥)، يقول: سمعت أبا عبد الله (٦) الميداني (٧) الخطيب بزوزن (٨) يقول: سمعت محمد بن جمعة الحافظ (٩) يقول: سمعت يحيى بن سليمان بن نضلة
= القاسم، وأبو حاتم، وغيرهم، وثقه ابن معين والشافعي، توفي سنة ست عشرة ومائتين، وعمره إحدى وتسعين. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي ص ١٦٧ - ١٧٤، "نزهة الألباء" ص ٩٠ - ١٠٠، "وفيات الأعيان" ٣/ ١٧٠ - ١٧٦.
(١) ذكره الحافظ ابن حبان البستي، ولفظه قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم القاضي يقول: سمعت ابن أخي الأصمعي يقول: سمعت عمي يقول: تعلموا النحو فإن بني إسرائيل كفروا بكلمة واحدة كانت مشددة فخففوها قال: (يا عيسى إني ولَّدْتك): فقرأوا (يا عيسى إني وَلَدْتُك): مخففًا فكفروا. "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" ص ٢٦٨.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) (يتدرب): غير واضحة في (ب).
(٤) هو شيخه (الثعلبي) انظر ترجمته في شيوخ المصنف.
(٥) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب، سبقت ترجمته.
(٦) في (ج): (عبد الرحمن).
(٧) لم أعرفه.
(٨) (زوزن): بضم أوله وقد يفتح، كورة واسعة بين نيسابور وهراة، ويحسبونها في أعمال نيسابور، كانت تعرف بالبصرة الصغرى، لكثرة من أخرجت من الفضلاء وأهل العلم. "معجم البلدان" ٣/ ١٥٨. و (كورة): كل صقع يشمل عدة قرى، ولابد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها. "معجم البلدان" لياقوت ١/ ٣٦.
(٩) لم أعرفه.
410
المديني (١) يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: لا أوتى برجل غير عالم (٢) بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا (٣).
وكيف يتأتى لمن جهل لسان العرب أن يعرف تفسير كتاب جعل معجزة في فصاحة ألفاظه، وبعد أغراضه لخاتم النبيين وسيد المرسلين - ﷺ - وعلى آله الطيبين في زمان أهله يتحلون بالفصاحة، ويتحدون بحسن الخطاب وشرف العبارة، وإن مثل من طلب ذلك مثل من شهد الهيجاء بلا سلاح، ورام أن يصعد الهواء (٤) بلا جناح. ثم وإن طال تأمله مصنفات المفسرين، وتتبعه أقوال أهل التفسير من المتقدمين والمتأخرين، فوقف على معاني ما أودعوه كتبهم، وعرف ألفاظهم التي عبروا بها عن معاني القرآن، لم يكن إلا مقلدا (٥) لهم فيما حكوه، وعارفًا معاني قول مجاهد، ومقاتل، وقتادة (٦)، والسدي (٧)، وغيرهم
(١) يحيى بن سليمان بن نضلة الخزاعي المدني، روى عن مالك، وسليمان بن بلال وغيرهما، قال ابن خراش: لا يسوى شيئًا، وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي وسألته عنه، فقال: شيخ حدث أياما ثم توفي. انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ١٥٤، "الميزان" ٦/ ٥٧.
(٢) (عالم): مكرر في (ب).
(٣) ذكره الزركشي في "البرهان" عن يحيى بن سليمان بن نضلة عن مالك، ١/ ٢٩٢.
(٤) في (ب): (السماء).
(٥) في (أ)، (ج): (مخلدا)، وأثبت ما في (ب): لأنه الصحيح.
(٦) قتادة بن دعامة السدوسي البصري، كان ضريرا، اشتهر بالحفظ، أثنى عليه الأئمة كأحمد بن حنبل، ومعمر، والزهري وغيرهم، مات بواسط بالطاعون سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل: سنة سبع عشرة.
انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" ٧/ ١٣٣، "تذكرة الحفاظ" ١/ ١٢٢، "الميزان" ٤/ ٣٠٥، "طبقات المفسرين" للداودي ٢/ ٤٧ - ٤٨.
(٧) إسماعيل بن أبي كريمة السدي، وهو المعروف بالسدي الكبير، قرشي بالولاء، (السدي): بضم السين، نسبة إلى السدة، وهي الباب، لأنه كان يجلس إلى سدة =
411
دون معنى قول الله عز وجل.
ألا ترى أن واحدا ممن لم يتدرب بلغة العرب لو سمع قول امرئ القيس (١):
دِيمةٌ هَطْلاَءُ فِيهَا وَطَفٌ طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرّ (٢)
فسأل عن معناه، فقيل له: إنه يصف مطرا سحابه (٣) هاطل، كان عارفا معنى هذا البيت من طريق التقليد، ولا يكون عارفًا معنى قول امرئ القيس ما
= الجامع بالكوفة، وهو تابعي سمع أنسا، وثقه أحمد وضعفه بعضهم كابن معين، ومال أحمد شاكر في "حاشية الطبري": إلى توثيقه، مات سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة تسع وعشرين.
انظر: "تهذيب الكمال" ٣/ ١٣٢ - ١٣٨، "الجرح والتعديل" ٢/ ١٨٤، "طبقات المفسرين" ١/ ١١٠، "حاشية الطبري" ١/ ١٥٧ (ط. شاكر). هذا هو السدي الكبير، أما السدي الصغير فهو محمد بن مروان، متروك الحديث، ضعفه كثير من الأئمة، انظر ترجمته في: "الميزان" ٥/ ١٥٧، "طبقات المفسرين" ٢/ ٢٥٥، ٢٦٥.
(١) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، الشاعر الجاهلي المشهور، يقال له: (ذو القُرُوح)، و (المَلِك الضِّلِّيل)، يُعَدُّ شيخ الشعراء وأميرهم في الجاهلية، ومن الطبقة الأولى من شعرائهم الفحول.
انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٥١، "الشعر والشعراء" ص ٤٩، "الخزانة" ١/ ٣٢٩، "شرح شواهد المغني" ١/ ٢١.
(٢) (الديمة) المطر الدائم، (هطلاء) كثيرة المطر، (الوطف) الدنو من الأرض. (طبق الأرض): أي تطبق الأرض وتعمها، (تحرى): تتعمد المكان وتثبت فيه، (تدر) يكثر مطرها. ورد البيت في "تهذيب اللغة" في مواضع (هطل) ٤/ ٣٧٦٩، و (طبق) ٣/ ٢١٦٤، "وطف" ٤/ ٣٩١١، و (دام) ٢/ ١١٣٥، "الصحاح" (طبق) ٤/ ١٥١٢، و (هطل) ٥/ ١٨٥٠، "اللسان" (وطف) ٨/ ٤٨٦٨، و (طبق) ٥/ ٢٦٣٧، و (هطل) ٨/ ٤٦٧٥، (دوم) ٣/ ١٤٥٧، و"ديوان امرئ القيس" ص ٧٨.
(٣) في (ب): (سحابة).
412
لم يعرف تفسير كل حرف على حدته، وما وضع له ذلك اللفظ.
وكذلك قوله:
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلَّا لِتَضرِبِي بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ (١)
معنى هذا البيت أنه يقول لامرأة: ما بكيت إلى لتأخذي بمجامع قلبي، فمن (٢) عرف هذا فقد عرف معنى البيت، لكنه إنما عرفه من قول من عبر عن مراد الشاعر بهذا لا من قول الشاعر. ودون أن تعرف وضع ألفاظه، والمراد بكل حرف منه: خرط القتاد (٣).
وعلى هذا النحو جميع كلام العرب، مثل قولهم: (أبى الحقين العذرة) (٤) يضرب لمن يعتذر، وظاهر حاله يكذبه، ومعرفة هذا المعنى لا
(١) (ذرفت) دمعت، (الأعشار): القطع والكسور، يقول: ما بكيت إلا لتجرحي قلبا مكسرا، ولم تبكي لأنك مظلومة، واختار الأزهري في معنى البيت ما ذكره أحمد بن يحيى، وهو: أن المراد (بسهميك) سهمي قداح الميسر، ويكون المعنى: أنها ضربت بسهامها على قلبه فخرج لها السهمان المعلى والرقيب، إذا فاز الرجل بهما غلب على الجزور كلها، فهي غلبته على قلبه كله.
ورد البيت في "التهذيب" (عشر) ٣/ ٢٤٤٧، و (قتل) ٣/ ٢٨٨٤، "معجم مقاييس اللغة" (عشر) ٤/ ٣٢٦، و (قتل) ٥/ ٥٧، "المخصص" ٥/ ٥٣، "مجمل اللغة" (عشر) ٣/ ٦٧٠، و (قتل) ٣/ ٧٤٣، "شرح القصائد المشهورات" للنحاس ص ١٦، "اللسان" (قتل) ٦/ ٣٥٣٠، "ديوان امرئ القيس" ص ١١٤.
(٢) في (ب): (لمن).
(٣) في المثل (دونه خرط القتاد): والقتاد شجر له شوك، والخرط: أن تمر يدك على القتادة من أعلاها إلى أسفلها حتى ينثر شوكها، والمثل يضرب للأمر الشاق.
انظر: "المستقصى في أمثال العرب" ٢/ ٨٢، و ٣/ ٣٤٢ (قتد).
(٤) الحقين: اللبن المحقون، العذرة: العذر. المثل في قوم اعتذروا إلى ضيف ولهم لبن، فقال: لا يسوغ اللبن معذرتكم. وقيل: المثل في رجل حقن إهالة (الودك المذاب) وزعم لضيف أنها سمن، فلما صبها جعل يعتذر فقال الضيف: أبي الحقين العذرة. =
413
تفيدك معرفة هذِه (١) الألفاظ. وكقولهم (٢): (فلان لا يقعقع (٣) له بالشنان (٤) ولا تقرع (٥) له العصا (٦) و (أنا جذيلها المحكك) (٧) في أمثال لهذا كثيرة.
وكذلك آيات القرآن التي (٨) فسرها الصحابة والتابعون، إنما فسروها بذكر معناها المقصود، كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ
= والمثل يضرب لمن يعتذر وليس له عذر.
انظر: "جمهرة الأمثال" لأبي هلال رقم المثل (١٢)، ١/ ٢٨، "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري ١/ ٣١ رقم (٩٢)، "مجمع الأمثال" للميداني ١/ ٦٩ رقم (١٦٠).
(١) في (ب): (بهذِه).
(٢) في (ب): (لقولهم).
(٣) في (ج): (قعقع).
(٤) في (ب): (باللسان).
(٥) في جميع النسخ (تقزع): وهو تصحيف.
(٦) قوله: (لا يقعقع له بالشنان): يضرب للرجل الشهم الصعب، أي لا يهدد ولا يفزع، وقد تمثل به الحجاج على منبر الكوفة، و (الشنان): جمع شن وهي القربة اليابسة، و (القعقعة): صوت الشيء الصلب على مثله.
انظر: "جمهرة الأمثال" ٢/ ٤١٢، "المستقصى" ٢/ ٢٧٤، "الصحاح" (شنن) ٥/ ٢١٤٦، "اللسان" (شنن) ٤/ ٢٣٤٤.
وقوله: (ولا تقرع له العصا): قال في "مجمع الأمثال" ٢/ ٢٤١: (لا تقرع له العصا، ولا تقلقل له الحصا): يضرب للمحنك المجرب، وانظر: "تهذيب اللغة" (قرع) ٣/ ٢٩٣٨، "اللسان" (قرع) ٦/ ٣٥٩٥.
(٧) ورد نص المثل في كتب الأمثال: (أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب). الجذيل: تصغير (الجذل)، وهو خشبة تحتك بها الإبل الجربى، والعذيق: تصغير (العذق): بفتح العين وهو النخلة، والمرجب: الذي جعل له ما يعتمد عليه، وهذا تصغير لتفخيم وتلطيف المحل. والمثل يضرب للمستشفى برأيه. وقد قاله الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري يوم السقيفة عند بيعة أبي بكر رضي الله عنه.
انظر: "مجمع الأمثال" ١/ ٥٢ رقم (١٢٥)، "المستقصى" ١/ ٣٧٧ رقم (١٦١٨).
(٨) في (ج): (الذي).
414
بِالْإِثْمِ} [البقرة: ٢٠٦] قال قتادة: إذا قيل له: مهلًا مهلًا (١)، ازداد إقدامًا على المعصية (٢).
فمن أين لك أن تعرف هذا (٣) المعنى من لفظ الآية؟ إلى بعد الجهد وطول التفكر.
وكذلك قوله: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران: ١٧٥]. قال السدي: يعظم أولياءه في صدوركم (٤). فانظر، هل يمكنك أن تفرغ هذا المعنى في قالب (٥) هذِه الألفاظ إلى بعد التعب في معرفة ما ذكره أرباب النحو؟ وكذلك قوله: ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (٧١)﴾ [الفرقان: ٧١] تدبر هل تعرف صحة هذِه الألفاظ واستواء نظمها مما ذكره المفسرون؟ وهل يحسن أن يقال: من قام فإنه يقوم، ومن ركب فإنه يركب (٦)؟ وعلى هذا
(١) (مهلا): ساقطة من (ب).
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٣٠٣، و"تفسير القرطبي" ٣/ ١٩، ولم أجده في غيرهما عن قتادة فيما اطلعت عليه، والله أعلم.
(٣) في (ب): (بهذا).
(٤) ذكره الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٨٤، والبغوي ٢/ ١٣٩، ونحوه في "تفسير القرطبي" عن ابن عباس وذكر عن السدي قولا آخر ٤/ ٢٨٢.
(٥) في (ج): (قال).
(٦) لا يحسن أن يقال: من قام فإنه يقوم، لأنه تكرار لا معنى له. انظر: "تفسير القرطبي" ١٣/ ٧٩. أما الآية فقد ذكر المفسرون في معنى التوبة في الآية الثانية أقوالا منها: قال ابن عباس: من آمن من أهل مكة ولم يكن قتل وزنى.. فهي توبة عن غير الذنوب المذكورة في الآية، من القتل والزنى، وقيل. الأولى فيمن تاب من المشركين، والثانية فيمن تاب من المسلمين، وقيل: المراد تأكيد أن التوبة لا تنفع إلا بالعمل الصالح، فيتوب متابا، أي: حق التوبة، وقيل: من صدقت توبته يوفقه الله للاستمرار عليها، وفي الآية أقوال أخرى.
انظر: "تفسير البغوي" ١٩/ ٩٧ - ٩٨، "زاد المسير" ٨/ ١٠٦، "تفسير القرطبي" ١٣/ ٧٩.
415
أكثر آيات القرآن وكلام العرب. وإنما ذكرت هذِه الأمثلة لتعرف أن من تأمل مصنفات المفسرين، ووقف على معاني أقوالهم، لم يقف على معاني كلام الله دون الوقوف على أصول اللغة والنحو.
والمعنيون (١) بالتصنيف في هذا العلم طبقات: فالصحابة الذين نزل فيهم القرآن شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل؛ لأنهم أهل اللغة الذين نشأوا عليها كما وصفناهم قبل.
وأما التابعون والسلف الصالحون فإنهم لم يتصنعوا في جمع ما جمعوا، ولم يتكلفوا في تتبع الخفايا من الزوايا.
وأرباب المعاني (٢) اقتصروا على الإعراب، وبيان نهج الخطاب.
وللمتأخرين مراتب ودرجات، وأغراض في التصنيف متفاوتات، والاشتغال بما يعنينا أولى من بيان درجتهم، والكشف عن نقصهم ومزيتهم (٣)، وقل من تراه يعنى بسوق اللفظ على التفسير، وإفراغه في قوالب المعاني، حتى يأتي به متسقا من غير ترجح، ومطردا من غير تخاذل (٤).
وعلى هذا فلم يبقوا في القوس منزعًا (٥)، ولم يترك الأول للآخر شيئًا،
(١) في (ب): (المعتنون).
(٢) يريد المتكلمين على المعاني من جهة اللغة والنحو، كالفراء والزجاج والأخفش في كتبهم في معاني القرآن وغيرهم، قال في "البرهان": (قال ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: قال أهل المعاني فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ومن قبله.. وفي بعض كلام الواحدي: أكثر أهل المعاني: الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا). "البرهان" ٢/ ١٤٦ - ١٤٧، "الإتقان" ٤/ ٢٤٣، وانظر: "الوسيط" و"حاشيته" ١/ ٦٥.
(٣) في (ب): (ومرتبتهم).
(٤) في (ب): (تجادل).
(٥) لعله يقصد بهذا السابقين دون المتأخرين، وبه يزول ما قد يوحي به ظاهر سياق العبارة من تناقض.
416
غير أن المتأخر بلطيف حيلته (١)، ودقيق (٢) فطنته، يلتقط الدرر ويجمع الغرر، فينظمها كالعقد على صدر الكعاب (٣)، يروق المتأملين (٤)، ويؤنق الناظرين (٥)، فيستحق به في الأولى حمد الحامدين، وفي العقبى ثواب رب العالمين.
وأظنني لم آل جهدًا في إحكام أصول هذا العلم، على حسب ما يليق بزماننا هذا، ويسعه سنو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله تعالى وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه، وأخذته من (٦) معادنه.
أما (اللغة): فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبدالله بن يوسف العروضي (٧) (٨) رحمه الله، وكان قد خنق التسعين (٩) في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار، وقرأ عليهم وروى عنهم كأبي منصور الأزهري (١٠)، روى عنه كتاب "التهذيب" (١١) وغيره من الكتب، وأدرك أبا
(١) في (ب): (جبلته).
(٢) في (ج): (رقيق).
(٣) الكاعب: الجارية إذا نهد ثديها، وجمعها كواعب، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ [النبأ: ٣٣] وعن ثعلب: كعاب. انظر: "اللسان" (كعب) ٧/ ٣٨٨٨.
(٤) الروق: الإعجاب، أي: يعجب المتأملين. انظر: "تهذيب اللغة" (راق) ٢/ ١٣٢٩، "اللسان" (روق): ٣/ ١٧٨٠.
(٥) الأنق: الإعجاب بالشيء، قد آنقني الشيء ويؤنقني إيناقًا، وإنه لأنيق مؤنق، لكل شيء أعجبك حسنه. "تهذيب اللغة" (أنق) ١/ ٢١٩، "اللسان" (أنق) ١/ ١٥٣.
(٦) في (ب): (في).
(٧) في (ج): (المعروضي).
(٨) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي.
(٩) (خنق التسعين): كاد يبلغها، انظر: "القاموس المحيط" (خنق): ص ٨٨١.
(١٠) سبقت ترجمته عند الحديث عن مصادر الواحدي في "البسيط".
(١١) هو كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري، سبق ذكره في مصادر الواحدي في "البسيط".
417
العباس العامري، وأبا القاسم الأسدي (١)، وأبا نصر طاهر بن محمد الوزيري، وأبا الحسين (٢) الرخجي (٣)، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة.
وسمع أبا العباس الأصم (٤)، وروى عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكر
(١) هو عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن عبيد، أبو القاسم الأسدي، من أهل همذان، تكلموا فيه، قال الخطيب البغدادي: قال صالح: سمعت القاسم بن أبي صالح. نص عليه بالكذب مع دخوله في أعمال الظلمة، توفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ بغداد" ١٠/ ٢٩٢، "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ١٥، "ميزان الاعتدال" ٣/ ٢٧٠.
(٢) في (أ): (الحسن)، وفي (ب)، (ج): محتملة والتصحيح حسب ما في "يتيمة الدهر" ٤/ ٤٧٩، "الأنساب" ٦/ ٩٨.
(٣) في (ب): (الراحمي).
وهو أبو الحسين عيسى بن حامد بن بشر بن عيسى الرخجي، القاضي، يعرف بابن بنت القنبيطي، سمع من جماعة، منهم: محمد بن جرير الطبري، توفي في ذي الحجة سنة ثمان وستين وثلاثمائة، و (الرخجي): بضم الراء وفتح الخاء المعجمة المشددة وفي آخرها الجيم نسبة إلى (الرخجية): قرية قريبة من بغداد، وقيل: إن المذكور ينسب لقبيلة يقال لها: (الرخج): والأول أقرب.
انظر: "يتيمة الدهر" ٤/ ٤٧٩، "تاريخ بغداد" ١١/ ١٧٨، "الأنساب" ٦/ ٩٨.
(٤) هو الإمام المحدث محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان، الأموي مولاهم، أبو العباس، النيسابوري، الأصم، أصابه الصمم بعد رحلته ثم استحكم حتى كان لا يسمع نهيق الحمار، رحل مع أبيه إلى الآفاق، سمع العدد الكبير من العلماء، طال عمره، وبعد صيته، وتزاحم عليه الطلبة، لم يختلف في صدقه وصحة سماعاته، توفي في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
انظر: "الأنساب" ١/ ٢٩٤، "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٤٥٢ - ٤٦٠، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ٨٦٠ - ٨٦٤، "العبر" ٢/ ٧٤ - ٧٥.
418
الخوارزمي (١) على درسه عند (٢) غيبته.
وله المصنفات الكبار، والاستدراكات على الفحول من علماء اللغة والنحو. وكنت قد لازمته سنين، أدخل عليه عند طلوع الشمس، وأخرج لغروبها، أسمع، وأقرأ، وأعلق، وأحفظ، وأبحث، وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين، وكتب اللغة، حتى عاتبني شيخي رحمه الله يوما من الأيام وقال: إنك لم تبق ديوانا من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز؟! يقرؤه علي هذا الرجل الذي يأتيه البعداء من أقاصي البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار، يعني: الأستاذ الإمام (أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي) رحمه الله.
فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب، لم أرم في غرض التفسير عن كثب، ثم لم أغبَّ (٣) زيارته يومًا من الأيام إلى أن حال بيننا قدر الحمام.
وأما (النحو) فإني لما كنت في مَيْعَةِ (٤) صباي، وشَرْخِ شبيبتي (٥)، وقعت
(١) هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي، شاعر أديب، كان أوحد عصره في حفظ اللغة والشعر، رحل إلى عدة بلاد واستوطن نيسابور، توفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
انظر: "يتيمة الدهر" ٤/ ٢٢٣ - ٢٧٦، "الأنساب" ٥/ ١٩٤، "بغية الوعاة" ١/ ١٢٥.
(٢) (عند): ساقط من (ب).
(٣) الغب: من ورد الماء، أن تشرب يوما، وتدع يوما، ومن الحمى أن تأخذ يوما وتدع يوما، والمراد: لم أترك زيارته يوما من الأيام. انظر: "اللسان" (غبب) ٦/ ٣٢٠٤.
(٤) ميعة الشباب أوله وأنشطه. انظر: "تهذيب اللغة" (ماع) ٤/ ٣٣٢٧، "اللسان" (ميع) ٧/ ٤٣٠٩.
(٥) شرخ الشباب قوته ونضارته. انظر: "الصحاح" (شرخ) ١/ ٤٢٤، "اللسان" (شرخ) ٤/ ٢٢٢٩.
419
إلى الشيخ: (أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير (١)) رحمه الله، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق (٢) طوق العربية ودقائقها، ولعله تفرس فيَّ، وتوسم (٣) أثر الخير لدي، فتجرد (٤) لتخريجي، وصرف وكده (٥) إلى تأديبي، ولم يذخر (٦) عني شيئا من مكنون ما عنده، حتى استأثرني بأفلاذه (٧)، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه.
وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبًا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه (٨) أكثر مصنفاته، في النحو والعروض والعلل، وخصني بكتابه الكبير في علل القراءات المرتبة في كتاب "الغاية" لابن (٩) مهران.
(١) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي.
(٢) في (ب): (بمضاق).
(٣) (وتوسم): ساقط من (ب).
(٤) في (ب): (متجرد).
(٥) في (ب): (فكره). (وكده)، أي قصده. قال في "تهذيب اللغة" وكد فلان أمره يكده وكدا إذا مارسه وقصده. "التهذيب" (وكد) ٤/ ٣٩٤٣. وانظر: "الصحاح" (وكد) ٢/ ٥٥٣، "اللسان" (وكد): ٣/ ٤٦٧.
(٦) ذخر الشيء يذخره ذخرا: اختاره لنفسه وأبقاه لوقت الحاجة، انظر: "اللسان" (ذخر) ٣/ ١٤٩٠، "المعجم الوسيط" (ذخر): ١/ ٣٠٩.
(٧) في (ب): (بأولاده). الأفلاذ جمع، مفرده: فلذة، والمراد: لب الشيء وخالصه، كما في الحديث في أشراط الساعة: "تلقي الأرض بأفلاذها" المراد: كنوزها، وفي قصة بدر: هذِه قريش قد رمتكم بأفلاذ كبدها أي صميم قريش ولبها وأشرافها.
انظر: "تهذيب اللغة" (فلذ) ٣/ ٢٨٢٧، "اللسان" (فلذ) ٦/ ٣٤٦٠.
(٨) في (ب): (عنه).
(٩) كتاب "الغاية في القراءات العشر" لأبي بكر الحسين بن مهران النيسابوري ت ٣٨١ هـ جمع فيه القراءات العشر، مع ذكر قراءة اختيارية انفرد بها عن سهل بن محمد أبي حاتم السجستاني، وذكر في مقدمة كتابه أسانيده لكل قراءة، طبع الكتاب بتحقيق =
420
ثم ورد علينا الشيخ الإمام أبو الحسن عمران بن موسى المغربي المالكي (١)، وكان واحد عصره، وباقعة (٢) دهره (٣) في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة مقامه عندنا، حتى استنزفت غرر (٤) ما عنده.
وأما (القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة)، فإني اختلفت (٥) أولا إلى الأستاذ (أبي القاسم علي بن أحمد البستي (٦)) رحمه الله، وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ (أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران (٧)) رحمه الله.
ثم ذهبت إلى الإمامين (أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري) و (أبي
= (محمد غياث الجنباز). وله شروح منها: شرح لأبي الحسين علي بن محمد بن إبراهيم القهندزي، له نسخة مخطوطة بالتيمورية (١/ ٢٨٢) الموجود نصف الكتاب، ولعل هذا الشرح هو المراد بقوله: كتابه الكبير في علل القراءات، ولم يذكر أحد ممن ترجم للقهندزي أن له كتابا باسم "علل القراءات".
(١) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي.
(٢) الباقعة: الرجل الداهية. انظر: "تهذيب اللغة" (بقع) ١/ ٢٨٥.
(٣) في (ب): (واحد دهره وباقعة عصره).
(٤) من (ب): وفي غيرها: (غزر).
(٥) يقال: اختلف إلى المكان إذا تردد. "المعجم الوسيط" (خلف) ١/ ٢٥١.
(٦) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي.
(٧) هو أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري المقرئ، له عدة كتب في القراءات، وفي بعض علوم القرآن، من أشهرها كتاب "الغاية" الذي سبق ذكره، توفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. انظر ترجمته في "معجم الأدباء" ١/ ٣٤٤ - ٣٤٦، "معرفة القراء الكبار" ١/ ٣٤٧، "غاية النهاية" ١/ ٤٩، "العبر" ٢/ ١٥٧.
421
الحسن علي بن محمد الفارسي) (١) -رحمهما الله-، وكانا قد انتهت إليهما الرئاسة في هذا العلم، وأشير إليهما بالأصابع في علو السن، ورؤية المشايخ، وكثرة التلامذة، وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد، والوثوق فيها، فقرأت عليهما، وأخذت من كل واحد منهما حظا وافرا بعون الله وحسن توفيقه.
وقرأت على الأستاذ (سعيد) مصنفات ابن مهران (٢)، وروى لنا كتب أبي
(١) سبقت ترجمته مع شيوخ الواحدي.
(٢) لابن مهران مصنفات كثيرة أغلبها في القراءات وعلوم القرآن منها:
١ - "الغاية في القراءات العشر".
٢ - "المبسوط في القراءات العشر".
٣ - "القراءات السبع".
٤ - "قراءة أبي عمرو".
٥ - "غرائب القرآن".
٦ - "وقوف القرآن".
٧ - "الانفراد".
٨ - "شرح المعجم".
٩ - "شرح التحقيق".
١٠ - "اختلاف عدد السور".
١١ - "رءوس الآيات".
١٢ - "الوقف والابتداء".
١٣ - "قراءة عبد الله بن عمر".
١٤ - "علل كتاب المبسوط".
١٥ - "آيات القرآن".
١٦ - "الاتفاق والانفراد".
١٧ - "المقطع والمبادئ".
422
علي (١) الفسوي (٢) عنه.
١٨ - "الشامل في القراءات".
١٩ - "سجود القرآن".
٢٠ - "طبقات القراء".
انظر: "معجم الأدباء" ١/ ٣٤٥، "تاريخ التراث" لسزكين ١/ ٤٦، "معرفة القراء الكبار" ١/ ٣٤٧ - ٣٤٨، "كشف الظنون" ٢/ ١٠٢٥، "الأعلام" للزركلي ١/ ١١٥، "معجم المؤلفين" ١/ ١٣٠.
(١) (علي): ساقط من (ب).
(٢) هو أبو علي الفارسي سبقت ترجمته، أما كتبه فذكر له ياقوت في "معجم الأدباء" ستة وعشرين كتابا منها:
١ - "كتاب الإيضاح".
٢ - "التكملة".
٣ - "الحجة".
٤ - "المسائل الحلبيات".
٥ - "المسائل البغدادية".
٦ - "المسائل الشيرازنة".
٧ - "المسائل القصرية".
٨ - "المسائل المنثورة".
٩ - "المسائل الدمشقية".
١٠ - "المسائل البصريات".
١١ - "المسائل المشكلة".
١٢ - "المسائل الكرمانية".
١٣ - "الإيضاح الشعري".
١٤ - "الإيضاح النحوي". وغيرها.
وقد ذكر الدكتور (حسن شاذلي فرهود): أن لأبي علي ثلاثة وثلاثين مصنفا، انظر مقدمة تحقيق كتاب "التكملة" ص ٣.
423
وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج في المعاني (١) روايته عن ابن مقسم (٢) عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير.
ثم فرغت للأستاذ الإمام "أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي" رحمه الله، وكان حبر العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء (٣) بل (٤) بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بـ"الكشف والبيان عن تفسير القرآن" (٥)، الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار:
وسار مسير الشمس في كل بلدة وهب هبوب الريح في البر والبحر (٦)
وأصفقت (٧) عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم، وأقروا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وصحبه علم أنه كان منقطع
(١) هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، سبق ذكره عند الحديث عن مصادر الواحدي في "البسيط"، وكتابه في (المعاني): وهو "معاني القرآن وإعرابه" وهو أشهر كتب الزجاج، اعتمد عليه الواحدي في كتابه "البسيط"، انظر مصادر الواحدي.
(٢) هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم البغدادي العطار، تقدمت ترجمته.
(٣) في (ب): (الفضائل).
(٤) (بل): سقط من (ب).
(٥) وهو "تفسير الثعلبي" المشهور، أحد مصادر الواحدي الهامة كما سبق، ولم يكن قد طُبع بعد عند إعداد عدد من الرسائل المشاركة في تحقيق هذا التفسير.
(٦) لم أجده.
(٧) اجتمعت على الاعتراف بفضله، يقال: أصفق القوم على كذا: أطبقوا عليه واجتمعوا. انظر: "تهذيب اللغة" (صفق) ٢/ ٢٠٢٩، "اللسان" (صفق) ٤/ ٢٤٦٣.
424
القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته؛ ليستدل بها على أنه كان بحرًا (١) لا ينزف، وغمرًا (٢) لا يسبر (٣).
وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء، وتفسيره الكبير، وكتابه المعنون بـ"الكامل في علم القرآن" (٤) وغيرهما.
ولو أثبت (٥) المشايخ الذين أدركتهم، واقتبست عنهم هذا العلم، من مشايخ (نيسابور) وسائر البلاد التي (٦) وطئتها، طال الخطب ومل الناظر.
وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه وحسن تيسيره، حتى أبرزه كالقمر انجاب سحابه، والزلال صفا (٧) متنه (٨) واطرد (٩) حبابه (١٠)، يؤدي إلى المتأمل (١١) نضرة الكلم (١٢) العذاب، ورونق
(١) في (ب): (بحر).
(٢) في (ب): (غمر). في "تهذيب اللغة" (الغمر) الماء الكثير، ويقال: رجل غمر الخلق، أي: واسع الخلق، وهو غمر الرداء: إذا كان كثير المعروف واسعه. "تهذيب اللغة" (غمر) ٣/ ٢٦٩٣، "اللسان" (غمر) ٦/ ٣٢٩٣.
(٣) في (ب): (يسير). كان الواحدي شديد الإعجاب بشيخه فبالغ في وصفه. انظر ما سبق عند الحديث عن شيوخه، وكذا في مصادره في "البسيط".
(٤) لم أجد أحدصا ممن ترجم للثعلبي ذكر هذا الكتاب، ولعله فيما ضاع من التراث.
(٥) في (ب): (أتيت).
(٦) في (ج): (الذي).
(٧) في (ب): (والزلال صفائه واطراد..).
(٨) متن كل شيء ما ظهر منه. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٣٨، "اللسان" (من) ٧/ ٤١٣٠.
(٩) اطرد: تتابع. انظر: "التهذيب" (طرد) ٣/ ٢١٧٥، "اللسان" (طرد) ٥/ ٢٦٥١.
(١٠) حبابه: نفاخاته وفقاقيعه التي تطفو كأنها القوارير، أو الطرائق التي في الماء، كأنها الوشي، وهو الموج يتبع بعضه بعضا. انظر: "تهذيب اللغة" (حب) ١/ ٧١٦، "اللسان" (حبب) ٢/ ٧٤٢.
(١١) في (ب): (التأمل).
(١٢) (الكلم): جمع كلمة. انظر: "اللسان" (كلم) ٧/ ٣٩٢١.
425
الذهب المذاب، سالك نهج الإعجاز في الإيجاز، مشتمل على ما نقمت (١) على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، خال عما يكسب المستفيد ملالة، ويتصور (٢) عند المتصفح إطالة، لا يدع لمن تأمله حازة (٣) في صدره حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين (٤)، إلى نور العلم وثلج (٥) اليقين، هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضًا في صنعة الأدب والنحو، مهتديا بطرق الحجاج، قارحا (٦) في سلوك المنهاج.
فأما الجذع (٧) المزجى (٨) من المقتبسين، والريض (٩)
(١) قال الجوهري: نقصت على الرجل أنقم بالكسر: إذا عتبت عليه، وقال الكسائي: ونقمت: بالكسر، لغة. ونقمت الأمر ونقمته: إذا كرهته. انظر: "الصحاح" (نقم) ٥/ ٢٠٤٥، "اللسان" (نقم) ٨/ ٤٥٣١.
(٢) في (ب): (ويتصفح).
(٣) في (ب): (حارة)، وكذا ورد في "معجم الأدباء" ١٢/ ٢٦٨ فيما نقله من مقدمة "البسيط" للواحدي، و (الحزازة) وجع في القلب من غيظ ونحوه، ويقال: (حزاز) بالتشديد والمراد كل ما حز في القلب وحك. انظر: "التهذيب" (حز) ١/ ٨٠٢، "اللسان" (حزز) ٢/ ٨٥٦، وحارة الصدر ما يحصل فيه من الحرارة من العطش والحزن والهم. انظر: "اللسان" (حرر) ٢/ ٨٢٧، فاللفظان متقاربان في المعنى.
(٤) في (ب): (التحمير).
(٥) ثلج النفس: اطمئنانها. انظر: "التهذيب" (ثلج) ١/ ٥٠٠.
(٦) القرح: هو الذي نبت نابه، والمراد قوي واشتد. انظر: "تهذيب اللغة" (قرح) ٣/ ٢٩١٨، "اللسان" (قرح) ٦/ ٣٥٧١.
(٧) الجذع من الدواب والأنعام: قبل أن يثني بسنة، ويختلف في أسنان الإبل والخيل والبقر والشاء. والمراد: حدث السن الذي في أول إدراكه. "تهذيب اللغة" (جذع) ١/ ٥٦٦.
(٨) (المزجى) القليل غير التام، انظر: "اللسان" (زجى) ٢/ ١٥١١، والمراد الناشئ المبتدئ قليل البضاعة في العلم. وقد جاءت الكلمة في "معجم الأدباء" (المرخى) ١٢/ ٢٦٩، والمراد ليس به قوة.
(٩) (الريض): من الدواب الذي لم يقبل الرياضة ولم يمهر السير، ولم يذل لراكبه فهي لم تذلل بعد، وكذا غلام ريض، والمراد المبتدئ، الذي لم يتمرن بعد. انظر: "التهذيب" (راض): ٢/ ١٣١٩، "اللسان" (روض) ٣٢/ ١٧٧٥.
426
الكز (١) من المبتدئين فإنه مع هذا الكتاب كمزاول (٢) غلقا ضاع عنه المفتاح، ومتخبط في ظلماء ليل خانه المصباح:
يحاول فتق غيم وهو يأبى (٣) كعنين يريد نكاح بكر (٤)
وأبتدئ في كل آية عند التفسير بقول ابن عباس ما وجدت له نصًّا (٥)، ثم بقول من هو قدوة في هذا العلم من الصحابة وأتباعهم، مع التوفيق بين قولهم ولفظ الآية. فأما الأقوال الفاسدة والتفسير المرذول الذي لا يحتمله اللفظ ولا تساعده العبارة فمما لم أعبأ به، ولم أضيع الوقت بذكره.
وذكرت وجوه القراءات السبع التي اجتمع عليها أهل (٦) الأمصار، دون تسمية القراء (٧)، واعتمدت في أكثرها على كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (٨) الذي رواه لنا سعيد بن محمد الحيري (٩) عنه.
(١) من الكزازة وهي اليبس والصلابة، والمراد أنه لم يتدرب ولم يلن بعد. انظر: "التهذيب" (كز) ٤/ ٣١٣٨، "اللسان" (كزز) ٧/ ٣٨٦٩.
(٢) في (ج): (كمزوال).
(٣) في (ب): (يأتي).
(٤) لم أجده.
(٥) سبق بيان منهجه في "البسيط" ص ١١٦. وفيه أنه يبدأ أولا بشرح الكلمات وبيان أصولها واشتقاقها في اللغة، ويذكر الأوجه النحوية، ثم يدخل في تفسير الآية قائلا: أما التفسير، فيبدأ بذكر قول ابن عباس في الغالب، وقد يذكر قول غيره قبله.
(٦) (أهل): ساقط من (ب).
(٧) وقد يسمي القراء. انظر منهجه في "ذكر القراءات".
(٨) هو كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، وقد اعتمد عليه كثيرا، فهو أحد مصادره الهامة. انظر ما سبق في مصادر الواحدي.
(٩) في (ج) (الجيري): بالجيم. والصحيح بالحاء أحد شيوخه كما سبق.
427
وكل ينفق مما رزقه الله، ويعمل على مقدار ما وفقه الله، ومتى يبلغ ضعف (١) سعينا وقاصر جهدنا نهاية ما لا (٢) يتناهى؟ وهذا سهل بن عبد الله (٣) يقول: لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه؛ لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أن ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله على قلبه.
وكلام الله غير مخلوق، ولا يبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة. ثم إن هذا الكتاب عجالة الوقت وقبسة العجلان، وتذكرة يستصحبها المرء حيثما حل وارتحل، وإن أُنسئ الأجل وأُرخي الطِّوَل (٤)، وأنظرني الليل والنهار، حتى يتلفع بالمشيب العذار (٥)، أردفته بكتاب (أنضجه) (٦) بنار الروية، وأردده
(١) في (ج): (ومتى يبلغ سعى ضعف سعينا..).
(٢) في (ب): (ما لم).
(٣) هو أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أحد أئمة الصوفية، لقي ذا النون المصري، توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين ومائتين. انظر: "طبقات الصوفية" للسلمي ص ٢٠٦، "حلية الأولياء" ١٠/ ١٨٩، "وفيات الأعيان" ٢/ ٤٢٩، "البداية والنهاية" ١١/ ٧٤.
(٤) الطول: هو الحبل الطويل جدا، ويطلق على الحبل الذي يطول للدابة فترعى فيه. قال طرفة:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخي وثنياه باليد
والمراد: أخر العمر ومد فيه.
انظر: "تهذيب اللغة" (طال) ٣/ ٢١٥٦، "اللسان" (طول) ٥/ ٢٧٢٥.
(٥) قال الأزهري: يقال: تلفع الرجل بالمشيب إذا شمله الشيب. "تهذيب اللغة" (لفع): ٤/ ٣٢٨٠، وانظر: "المخصص" لابن سيده ١٥/ ٧٧.
و (العذار) عذار الرجل: شعره النابت في موضع العذار، والعذاران: جانبا اللحية؛ لأن ذلك موضع العذار من الدابة. انظر: "اللسان" (عذر) ٥/ ٢٨٥٤.
(٦) في (ب): (أفصحه).
428
على راووق (١) الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته ولطائف ما جمعته (٢).
وعلى الله (٣) المعول في تيسير ما رمت، وله الحمد كلما قعدت أو قمت. [والله الموفق للصواب] (٤).
* * *
(١) في "التهذيب" عن أبي عبيد: الراووق: المصفاة، وعن الليث: ناجود الشراب الذي يروق به فيصفى "التهذيب" ٢/ ١٣٢٨، انظر: "اللسان" (روق) ٣/ ١٧٧٩، وفي "معجم الأدباء": (رواق الفكرة).
(٢) هل ألف هذا الكتاب؟ وما هو؟. لقد انتهى الواحدي من تأليف "البسيط" سنة ست وأربعين وأربعمائة، ثم ألف بعده "الوسيط" فهل هو المراد؟ أو كتاب غيره ألفه ولم يصل إلينا، وأنه كان يرغب ذلك ولم يتحقق له. الله أعلم.
(٣) (الله): لفظ الجلالة غير موجود في (ب).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ب).
429
سورة الفاتحة
431
فاستجيز ذلك فيهما، فإذا أميل الناس حيث لم يكن معه شيء يوجب الإمالة للكثرة فإن يقال لكسرة الإعراب أجدر) (١).
٤ - وقوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾ قد تقدم عند قوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ (٢)
وقوله: ﴿الْخَنَّاسِ﴾ قال ابن عباس: هو الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس (٣).
وقال مجاهد: إذا ذكر الله خنس، وإذا لم يذكر الله انبسط على قلبه (٤). وهذا قول جماعة المفسرين في الوسواس الخناس.
ومضى تفسير الخناس عند قوله: "الخُنَّس" [التكوير: ١٥].
قال مقاتل: هو شيطان في صورة خنزير يجري في جسد العبد مجرى الدم (٥)، فإذا سها ابن آدم ابتلع قلبه فوسوس، وإذا ذكر الله خنس عنه فخرج من جسده، فهو الوسواس إذا سها ابن آدم، وهو الخناس إذا ذكر (٦).
(١) ما بين القوسين نقله عن: "الحجة" ٦/ ٤٦٦ - ٤٦٧ بيسير من التصرف.
(٢) سورة الأعراف: ٢٠، ومما جاء في تفسيرها: قوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ قال الليث: الوسوسة: حديث النفس والصوت الخفي من ريح تهز قصبا أو شيئا كالهمس، وبه سمي صوت الحليّ وسواسًا.
عن ابن الأعرابي: رجل يوسوس ولا يقال موسوس، لأن نفسه توسوس له. قال تعالى: "ويعلم ما توسوس به نفسه".
(٣) "جامع البيان" ٣٠/ ٣٥٥، وقال بنحوه أيضًا قتادة. "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٤١٠.
(٤) ورد معنى قوله في: "تفسير الإمام مجاهد" ص ٧٦٢، و"جامع البيان" ٣٠/ ٣٥٥، و"بحر العلوم" ٣/ ٥٢٨، و"فتح القدير" ٥/ ٥٢٣.
(٥) غير مقروء في (ع).
(٦) ورد قوله في "تفسير مقاتل" ٢٥٧ ب، ومختصرًا في: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٩٤ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٢٦٣، و"فتح القدير" ٥/ ٥٢٣.
470
وهذا معنى ما روى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان واضع خَطْمَه (١) على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله عز وجل خنس، وإذا نسي الله عز وجل التقم قلبه، فهو قوله:
٥ - ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ " (٢).
أي بالكلام الخفي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع الصوت، وهو معنى الوسواس في اللغة، وقد مر (٣).
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾
قال ابن عباس: أخبر الله عز وجل أنه من الجن، والإنس (٤)، وهو قول مقاتل (٥)، وسفيان (٦)، جعلوا الذي يوسوس من الجنة والناس.
قال قتادة في قوله ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾: من الجن شياطين، ومن
(١) خطم: أنفه. الخطم من كل طائر منقاره، ومن كل دابة خَطَمه، مقدم أنفه وفمه. "تهذيب اللغة" ٧/ ٢٥٦ (خطم)، و"الصحاح" ٥/ ١٩١٤ (خطم).
(٢) أخرجه أبو نعيم في: "حلية الأولياء" ٦/ ٢٦٨، وعزاه الهيثمي في: "مجمع الزوائد" ٧/ ١٤٩ إلى أبي يعلى، وفيه عدي بن أبي عمارة، وهو ضعيف، وأخرجه أيضا الثعلبي في "الكشف والبيان" ١٣/ ١٩٥ أ، كما عزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٨/ ٦٩٤ إلى ابن شاهين في "الترغيب في الذكر"، وابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"، وأبي يعلى، والبيهقي في "شعب الإيمان" ١/ ٤٠٢ - ٤٠٣ ح ٥٤٠، كما أورده الشوكاني في "فتح القدير" ٥/ ٥٢٤، وضعف محقق كتاب "الوسيط"، و"البسيط" إسناد رواية الواحدي لوجود زياد بن عبد الله النميري.
(٣) عند سورة الأعراف: ٢٠.
(٤) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٥) "تفسير مقاتل" ٢٥٧ ب.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
471
الناس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس (١).
وقال الحسن: هما شيطانان: أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية (٢).
وفي الآية قول آخر: وهو أن قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ تفسير لقوله: ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ أي يوسوس في صدور الناس من (٣) القبيلتين: الجنة والناس.
والمعنى: يوسوس في صدور الجني، كما يوسوس في صدور الإنس. وهذا (قول الكلبي (٤)، و) (٥) اختيار الفراء: قال: وقع الناس في قوله: "صدور الناس" على الجنة، وعلى الناس، كقولك: يوسوس في صدور الناس جنتهم وناسهم، قال: وسمي الجن نفرًا، ورجالًا في قوله تعالى: ﴿نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: ١]، وقوله: ﴿يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: ١١] وقد قال بعض العرب: جاء قوم من الجن فوقفوا فقيل من أنتم؟ فقالوا: أناس من الجن (٦) (٧).
(١) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٤١٠، و"النكت والعيون" ٦/ ٣٧٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٢٦٣، و"البحر المحيط" ٨/ ٥٣٢، و"فتح القدير" ٥/ ٥٢٣.
(٢) "بحر العلوم" ٣/ ٥٢٨ - ٥٢٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٢٦٣، و"فتح القدير" ٥/ ٥٢٣، و"تفسير الحسن البصري" ٢/ ٤٤٧.
(٣) في (أ): (على).
(٤) "الكشف والبيان" ١٣/ ١٩٤ أ.
(٥) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٦) "معاني القرآن" ٣/ ٣٠٢ بتصرف.
(٧) علق الزمخشري على المعنى الذي ذكره الفراء بقوله: وما أحقه، لأن الجن سموا جنًّا لاجتنانهم، والناس ناسًا لظهورهم، من الإيناس، وهو الإبصار، كما سموا =
472
وقال أبو إسحاق: الناس في قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ معطوف على الوسواس.
المعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس (١).
= بشرًا، ولو كان يقع الناس على القبيلتين، وصح ذلك وثبت لم يكن مناسبًا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع... "الكشاف" ٤/ ٢٤٥.
وضعفه أيضا الفخر في: "التفسير الكبير" ٣٢/ ١٩٨، والإمام ابن القيم أيضًا رده من عدة وجوه، منها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنس، فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه.
الآخر: أن "الجنة" لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه؛ لا أصلًا، ولا اشتقاقًا، ولا استعمالًا، ولفظهما يأبى ذلك.
ثم أبطل أيضًا الاستدلال بالآيتين على عدم امتناع إطلاق الجن اسم الرجال، ونفرًا قال: وجواب ذلك أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعًا مقيدًا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقًا.
وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك، لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب، وذلك لأن الناس والجنة متقابلان، وكذلك الإنس والجن.. بخلاف الرجال والجن، فإنهما لم يستعملا متقابلين، فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال الجن والإنس. -ثم قال- وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ "الناس"؛ لأنه قابل بين الجنة والناس، فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر.
فالصواب هو أن قوله: "من الجنة والناس" بيان الذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس. "تفسير المعوذتين" ص ١٢٠ - ١٢١.
(١) "زاد المسير" ٨/ ٣٣٦.
نكتة: لم أجد تفسيرًا لهذه السورة عند أبي إسحاق في المخطوط لكتاب "معاني القرآن وإعرابه"، وقد ذكر محقق المطبوع أن الزجاج لم يفسر سورة الناس، فعمد =
473
والمعنى على هذا، لأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس، ودليل ذلك قوله: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ ونحو هذا قال صاحب النظم، قال: لأن الخناس لا يكون من الناس، فالناس في قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ منظوم بقوله: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ على نظم من شر الوسواس الخناس، ومن شر الناس، ويكون قوله ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ وصفًا للخناس مخصوصًا (١)، فيكون (٢) المعنى في الجملة: من شر الجن، ومن شر الناس (٣). -هذا كلامه-
وعلى ما ذكره الفراء: الناس عطف على الجنة، والقول هو هذا (٤). (والله أعلم بالصواب.
هذا آخر الكتاب
= إلى تفسيرها تفسيرًا لغويًّا قريبًا من طريقة الزجاج. وأقول: وباعتبار أن الإمام الواحدي أورد للزجاج تفسير لهذه الآية (٦) من سورة الناس، فلعل للزجاج تفسيرًا لها لم يكتبه النساخ، وعليه لو استعان صاحب المطبوع على ما جاء عند الواحدي، وابن الجوزي في ما أورده عن الزجاج في "زاد المسير" ٨/ ٣٣٦ لكان أفضل. بالإضافة إلى ما صنعه لإتمام كتاب المعاني. والله أعلم.
(١) في (أ): (عصوصا).
(٢) في (أ): (ليكون).
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٤) سبق الرد على ما ذكره الفراء.
474
ثُمَّ قالَ الشَّيْخُ المُفَسِّرُ رَحِمَهُ الله في نسخَتِهِ الأَصْل) (١):
وقد يسر الله تعالى، وله الحمد لحسن توفيقه تحرير هذا الكتاب الذي لم يسبق إلى مثله في هذا الباب شرحًا وبيانًا ونظمًا وإتقانًا، (وإطنابًا) (٢) غير ممل، وإيجازًا غير مخل، حتى برز عند تمامه كالروض غب رِهَامه (٣)، وأثواب (٤) الوشي منهما، وبدائع الحلى منظمًا قد أخرج لساني عن عهدة ضماني بإيفاء شرائطه، والقيام بموجب حقوقه، بعد تراخي المهلة، وتطاول المدة من يوم افتتاحه إلى يوم اختتامه - (لنكد الدهر، وقلة مساعدة الزمان الخوان ذي اللوان) (٥)، وقد كنت تعبت دهرًا طويلًا
(١) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٢) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٣) الرِّهمة بالكسر المطرة الضعيفة الدائمة، والجمع رِهَم ورِهام، وروضة مرهومة. قال أبو زيد: ومن الديمة الرِهْمَة، وهي أشد وقعًا من الديمة، وأسرع ذهابًا. "الصحاح" ٥/ ١٩٣٩ (رهم).
(٤) في (ع): (أفواق).
(٥) تضمن ما بين القوسين عبارات للإمام الواحدي فيها من سب الدهر الذي نهي عنه، وجاءت الأدلة بتحريمه، فقد ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار). أخرجه البخاري في "الجامع الصحيح" ٣/ ٢٩١: ح ٤٨٢٦: كتاب التفسير: سورة ٤٥، ومعنى الحديث: أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلًا، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها، فنهوا عن سب الدهر. انظر: "فتح المجيد" ٤١٢. والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقًا سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك كما يقع كثيرًا ممن يعتقد الإسلام. نقلا عن "تيسير العزيز الحميد" ص ٥٤٥.=
475
من عنفوان صباي إلى أن تناهى أيام شبيبتي في إحكام مقدمات هذا العلم، رجاء أن أقتدر بها على تلخيصه وتهذيبه وترهيصه، فحقق الله بفضله ذلك الرجاء، وأتم بإتمامه علي النعماء، وهو المسؤول -عزت قدرته- أن يجعله وسيلة إلى مرضاته؛ إلى التنجيح في جنابه، إذ لم أقصد به إلا ابتغاء وجهه الكريم، وفضله العظيم.
والحمد لله فوق حمد العارفين، وفوق شأو الواصفين، وصلواته، وتحياته على المبعوث بالبيان الساطع، والبرهان اللامع، والقرآن الكريم، والكتاب الحكيم، محمد النبي، وعلى أصحابه أجمعين آمين يارب (١) العالمين.
وذلك (عصر يوم الأربعاء) (٢) لعشر بقين من (شهر) (٣) ربيع الأول. سنة ست وأربعين وأربعمائة والحمد لله.
(وتم الكتاب بحمد الله ومنه) (٤).
(كتبه الراجي عفو ربه عمر بن صديق بن معروف بالربوة المباركة، وكان الفراغ منه في العشرين من شهر رجب سنة ثلاث عشر وتسعمائة بعون الله وتوفيقه والحمد لله وحده. بلغ مقابلة ولله الحمد) (٥).
= والكلام في النهي عن سب الدهر يراجع فيه المرجعان السابقان: "فتح المجيد"، و"تيسير العزيز الحميد".
(١) في (ع): (آمين رب).
(٢) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٤) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٥) ما بين القوسين خاص بنسخة: (ع)، وقوله: بلغ مقابله ولله الحمد كتب في هامش المخطوط.
476
(قابلت هذا الكتاب من أوله إلى آخره، أعني كتاب البسيط -رحم الله مصنفه- وأنهيته مطالعة والحمد لله.... (١) وقف عليه بعدي.... (٢) فأسأله.... (٣) الله العفو والمغفرة والرحمة.... (٤) صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه..... (٥) " (٦)
(١) غير مقروء في (ع).
(٢) غير مقروء في (ع).
(٣) غير مقروء في (ع).
(٤) غير مقروء في (ع).
(٥) غير مكتروء في (ع).
(٦) ما بين القوسين خاص بنسخة: (ع).
477
Icon