تفسير سورة الرعد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

[المجلد الثالث]

سورة الرّعد
مكية إلى قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، والباقي مدنى، وقيل: مدنية كلها. وآيها:
خمس وأربعون. ومناسبتها لما قبلها: قوله: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، مع قوله تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فإنه كالدليل على كونه غير مفترى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر....
[سورة الرعد (١٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١)
قيل: معناه: أنا أعلم، الله أعلم وأرى. وقيل: مختصرة من لفظ المرسل، على عادة رمز المحبين. أو إشارة إلى العوالم الأربعة: فالألف لوحدة الجبروت، واللام لتدفق أنوار الملكوت، والميم لحس عالم الملك، والراء لسريان أمداد الرحموت.
قال تعالى:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ...
قلت: تِلْكَ: مبتدأ، وآياتُ: خبر، والَّذِي أُنْزِلَ: مبتدأ، والْحَقُّ: خبر، والجملة الثانية كالحجة على الجملة الأولى.
يقول الحق جلّ جلاله: أيها المرسل المعظم، والحبيب المفخم، تِلْكَ الآيات التي تتلوها على الناس هي آياتُ الْكِتابِ المنزل من حضرة قدسنا. وَالكتاب أي: القرآن الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ الذي لا ريب فيه، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه.
الإشارة: لَوْ صَفَت القلوب من الأكدار، ومُلئت بالمعارف والأنوار لفهمتْ أسرار الكتاب، وجواهر معانيه، ولأدركت معرفة الحق من كلامه لأن الكلام صفة المتكلم، ولكن أكثر الناس اشتغلوا بمتابعة الهوى، فصُرفوا عن فهم الكلام، وفاتهم معرفة المتكلم، ولذلك لم يكتف الحق تعالى بآيات الكتاب حتى ذكر دلائل توحيده وكمال قدرته، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)
قلت: اللَّهُ: مبتدأ، والَّذِي رَفَعَ: خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وعَمَدٍ:
اسم جمع عمود، وقياس جمعه: عُمُد، كرسول ورُسُل، وشهاب وشُهُب، وليس جمعاً خلافاً لأبي عبيد. قاله ابن عطية. وقال البيضاوي: جمع عِمَاد، كإهاب وأهب. وجملة: تَرَوْنَها: إما حال، أو استئنافية فالضمير للسماوات، وإما صفة لعَمد فالضمير لها، أي: ليس لها عَمد مرئية، فيقتضي بالمفهوم أن لها عمداً لا تُرى. وقيل: إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا. والجمهور: أنه لا عمد لها البتة. فالمراد نفي العمد، ونفي رؤيتها. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله مستدلاً على وجوده، وكمال قدرته: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فوقكم كالسقف المرفوع بِغَيْرِ عَمَدٍ: أساطين، بل بقدرة أزلية، تَرَوْنَها مرفوعة فوقكم. أو بغير عَمَد مرئية، بل بعمد خفية، وهي: أسرار الذات العلية إذ لا فاعل سواه. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء استيلاء وإحاطة، حتى صار العرشُ غيباً في إحاطة قهريته وأسرار ذاته. وقد كانت العرب تجعل لملوكها سريراً يجلسون عليه لتدبير المملكة، فخاطبنا الحق تعالى بقدر ما نفهم «١»، ولذلك رتب عليه قوله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لأن هذا من تدبير ملكه، أي: ذللهما لما أراد منهما، كالحركة المستمرة على حد من السرعة لينتفع بهما عباده في معاشهم ومعالم دينهم. كُلٌّ منهما يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى: لمدة معينة تتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة ينقطع فيها سيرهما وهي يوم القيامة حين تكوّر الشمس والقمر. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر ملكه من الإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، وغير ذلك، يُفَصِّلُ الْآياتِ: ينزلها، ويُبين معانيها مفصلة، أو يُحدث الدلائل واحداً بعد واحدٍ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ: لكي تتفكروا فيها، وتتحققوا كمال قدرته، فتعلموا أنَّ مَن قَدَر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء.
الإشارة: الله الذي رفع سموات الأرواح، وزينها بنجوم العلم وقمر التوحيد، وأشرق عليها شموس العرفان وأسرار التفريد، ثم استوى بأسرار ذاته وأنوار صفاته على العرش، وهو قلب العارف لأنه سرير المعرفة، ومحل بيت الرب، وسخر شمس المعرفة وقمر التوحيد، يجريان بالترقي إلى محل التمكين، وهو الأجل المسمى لهما، يدبر أمر السير والترقي، ويُفصِّل دلائل الطريق الموصلة إلى عين التحقيق لعلكم بالوصال إلى ربكم توقنون، حين يكون ذوقاً وكشفاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر العالم السفلى، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣ الى ٤]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
(١) سئل الإمام مالك، عن الاستواء على العرش، فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب..)، وإذا كان علم حقيقة الصفات فرع عن علم حقيقة الذات المقدسة، وإذا كنا لا نحيط بالله علما، فإننا لن نحيط بصفات الله علما، كذلك، فنقول: آمنا به، كلّ عند ربنا.
6
قلت: رَواسِيَ: جمع راسية، من رسى الشيء: ثبت، وجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ مَنْ خَفَضَ عطف على أَعْنابٍ، ومن رفع عطف على جَنَّاتٌ. وصِنْوانٌ: نعت تابع، وغَيْرُ:
عطف عليه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام وتتقلب عليها الحيوان والأنام، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ: جبالاً ثوابت لتستقر وتثبت، فلا تميد كالسفينة، وَجعل فيها أَنْهاراً مطرده دائمة الجري، من غير نفاد ولا فتور. ضمها إلى الجبال لأنها أسبابٌ لتولدها في العادة.
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: وجعل فيها صنفين اثنين من كل الثمرات فكل ثمرة فيها صنفان أحمر وأسود، أو حلو وحامض، قال ابن جزي: فإن قيل: تقتضى الآية أنه تعالى خلق من كل ثمرة صنفين، وقد خلق من كثير من الثمرات أصنافاً كثيرة؟ فالجواب: أن ذلك زيادة في الاعتبار، وأعظم في الدلالة على القدرة بذكر الاثنين لأن دلالة غيرهما من باب أولى. هـ.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، أي: يجعل الليلَ غشاءً على النهار ولباساً له، فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئاً.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلائل وجوده وباهر قدرته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها فإن وجودها وتخصيصها في هذا الشكل العجيب، دليل على وجود صانع حكيم، دبر أمرها، وهيأ أسبابها.
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ قريب بعضها من بعض، مع اختلاف أوصافها، بعضها طيبة وبعضها سبخة، وبعضها رخوة وبعضها صلبة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، وبعضها معادن مختلفة. ولولا تخصيص قادر مخصص لتلك الأفعال، على وجهٍ دون وجه، لم يكن الحكم كذلك لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية، وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية، من حيث إنها متضامة متشاركة في السبب والأوضاع. قاله البيضاوي. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ أي: وفي الأرض أيضاً بساتين فيها أنواع من الأعناب والزروع، والنخيل، من صفة تلك النخيل: صِنْوانٌ أي: نخلات كثيرة متفرعة من أصل واحد، وَغَيْرُ صِنْوانٍ أي: غير متفرعة، بل كل نخلة منفردة بأصل واحد، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ. وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ أي: في الثمر المأكول قدراً وشكلاً، وطعماً، ورائحةً ولوناً،
7
مع اتفاق الماء الذي تُسقى به. وذلك مما يدل أيضاً على الصانع القادر الحكيم، فإن إيجادها، مع اختلاف الأصول والأسباب، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ:
يستعملون عقولهم بالتفكر والاعتبار، فيُدركون عظمة الواحد القهار.
الإشارة: ذَكَرَ أولاً سماء الأرواح، وما يُناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وذكر هنا أرض النفوس، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم، فقال: وهو الذي مد أرض النفوس، وجعل فيها جبالاً من العقول الشامخة، حتى أدركت الصانع، وتحققت بوجوده ووحدانيته، بالدلائل الواضحة، والبراهين القطعية. وأنبع منها أنهاراً من العلوم الرسمية، والرقائق الوعظية. وجعل فيها من كل صنف من ثمار ما جنت بمجاهدتها صنفين اثنين: قبضاً وبسطاً، منعاً ووجداً، ذلاً وعزاً، فقراً وغنىً. يغْشيانها غشاءَ الليل للنهار فإذا كان ليل القبض غشيه نهار البسط، فيزيله، وإذا كان المنع، غشية الوجد، وإذا كان الذل غشيه العز، وإذا كان الفقر غشيه الغنى، وهكذا. ودوام حَالٍ من قضايا المحال.
وفي أرض النفوس أيضاً قطع متجاورة، مع اختلاف ألوانها وطبائعها، وعلومها ومعارفها، ومواجدها وألسنتها.
وفيها أيضاً جنات المعارف- إن اتصلت بطبيب عارفٍ- من أعناب الحقائق الناشئة عن خمرة الأزل، وزرع الشرائع الناشئة عن الكسب والتحصيل، ونخيل الأذواق والوجدان، صنوان وغير صنوان- يعني من تعتريه الأحوال، ومن لا تعتريه لكمال رسوخه، تُسقى بخمره واحدة، وهي الخمرة الأزلية، على أيدي الوسائط، أو بلا وسائط، وهو نادر. ونُفضل بعضها على بعض في الأذواق والوجدان فترى العارفين بعضهم قطب في الأحوال، وبعضهم قطب في المقامات كان الجنيد رضى الله عنه قطباً في العلوم، وكذا الشاذلي والجيلاني والغزالي، وأمثالهم. وكان الشيخ أبو زيد قطباً في الأحوال، وكان سهلُ التسْتُري قطباً في المقامات. والأولياء كلهم لا يخرجون عن هذا التقسيم، كل واحد وما يغلب عليه، مع مشاركته لغيره في الثلاث «١». والله تعالى أعلم.
ولما ذكر دلائل قدرته ذكر وعيد من أعرض عنها حتى أنكر البعث، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
(١) هذه الإشارة ينبغى أن تتضمن توجيها: لدراسة الكون دراسة علمية والاستفادة فى ذلك فى إعمار الأرض، وإنقاذ المسلمين من التخلف العلمي والحضارى، ومن التبعية لحضارة الغرب المادية فانظر إلى قوله تعالى: (يتفكرون)، (يعقلون) ومتعلقهما، أعنى: الأرض، والرواسي، والأنهار، والنبات، والري.. وغير ذلك، كيف غفلنا نحن المسلمين عن التفكر، والتعقل فى هذه الموضوعات؟ وما العلم الطبيعي إلا مبنى على هذا الأصل، فلله الأمرُ من قبلُ ومن بعد.
قلت: فَعَجَبٌ: خبر، وقَوْلُهُمْ: مبتدأ، وأَ إِذا كُنَّا... الخ- محكي به. واختلف القراء هنا، وفي مواضع من القرآن، فمنهم من قرأ بالاستفهام في الأول دون الثاني، ومنهم بالعكس، ومنهم من قرأ بالاستفهام فيهما. فمن قرأ بالاستفهام في الأول دون الثاني فإنما القصد هو الثاني لأنهم إنما أنكروا كون الإنسان يصير تراباً ثم يُبعث، وأما كونهم يصيرون تراباً فلا إنكار عندهم فيه. ومن قرأ بالاستفهام في الثاني فعلى الأصل، ومن قرأ بالاستفهام فيهما فزيادة تأكيد. والعامل في إِذا محذوف، دلّ عليه: لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: أُنجَدد إذا.... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من إنكارهم البعث فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي: فقولهم حقيق بأن يتعجب منه، فإنَّ مَن قدر على إنشاء ما قصَّ عليك من عجائب السماوات والأرض، وأنواع الثمار على اختلاف أصنافها وألوانها، كانت الإعادة أيسر شيء عليه، فالآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ، فهي دالة على إمكان الإعادة، لأنها دالة على كمال قدرته تعالى. ثم فسر قولهم فى الإنكار: قالوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: أَنُجَدِّدُ إذا متنا، وكنا تراباً، أُولئِكَ القائلون ذلك، أو المنكرون البعث، الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لأنهم كفروا صفة القدرة، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ أي: مقيدون بالضلال، قد أحاط بهم الشقاء، لا يُرجى خلاصهم، أو: يُغلّون يوم القيامة. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا ينفكون عنها. وتوسط ضمير الفصل لتخصيص الخلود بالكفار، ففيه رد على المعتزلة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنكار بعث الأرواح من غفلاتها وجهلها، كإنكار بعث الأشباح بعد موتها، يُتعجب من الأول كما يتعجب من الثاني فالقدرة صالحة، فمن قدر على بعث الأشباح بعد موتها الحسي قدر على بعث الأرواح بعد موتها المعنوي. «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز قدرة الإلهية وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً
»
. وقد أحيا الله أرواحاً كثيرة كانت ميتة بالجهل والمعاصي، فصارت عارفة بالله، من خواص أولياء الله مَنْ كانوا لصوصا فصاروا خصوصا، ومنهم من كانوا كفاراً، فصاروا أبراراً. وبالله التوفيق.
ثم استمر بهم الإنكار حتى استعجلوا ممن أوعدهم بذلك العذاب، فقال تعالى:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٦]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦)
قلت: «المَثُلات» : جمع مَثُلَة، كسمرة، وهى العقوبة العظيمة، التي تجعل الإنسان مثلاً لمن بعده. وفيها لغات وقراءات شاذة. وعَلى ظُلْمِهِمْ: حال، والعامل فيه: المغفرة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: بالنقمة قبل العافية، طلبوا نزول العذاب الذي أوعدهم به استهزاء، وَقَدْ خَلَتْ: مَضَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ: عقوبات أمثالهم من
المكذبين، أو المصيبات الدواهي، حتى صاروا مثلاً لمن بعدهم. فمالهم لم يعتبروا، ولم يخافوا حلول مثلها عليهم؟
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أي: مع ظلمهم أَنْفُسَهم بالكفر والمعاصي، فسترهم وأمهلهم في الدنيا. فالمغفرة هنا لغوية، وقيل: يغفر لهم بالتوبة. وقيل: بلا قيد التوبة، بل بمجرد الحلم. قال البيضاوي: وفيه جواز العفو قبل التوبة، فإن التائب ليس على ظلمه، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. هـ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن يريد تعذيبه، أو للكفار. وعن النبي ﷺ أنه قال: «لَوْلاَ عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُه مَا هنَأ أَحَد العَيْش، وَلَوْلاَ وَعِيدُهُ وعِقَابُه لاتَّكَلَ كُلُّ أحَد» «١». قاله البيضاوي.
الإشارة: ترى بعض المستهزئين بالأولياء يؤذيهم بلسانه، أو بغيره، ويقول: إن كان بيده ما يفعل يفعله بي، والله تعالى يقول: «مَنْ آذَى لي وليّاً فقد آذنته بالحَرْب». ولكن الحق تعالى يُمهل ولا يُهمل وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ.
ثم طلبوا المعجزة، كما قال تعالى:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)
. قلت: وَسارِبٌ: عطف على جملة مَنْ هُوَ أي: ومن هو سارب، ليكمل التقسيم أربعة: من أسر، ومن جهر به، ومن استخفى، ومن سرب أي: برز. انظر ابن جزى. والْمُتَعالِ: منقوص، يجوز في الوقف عليه حذف الياء وإثباتها، وكذلك: هادٍ، وواقٍ، وشبهه، غير أن الراجح في المعرّف بأل الإثبات، وفي المُنَوّنِ: الحذف. قال ابن مالك: وغَيْرُ ذِي التَّنْوين بالْعَكْسِ، وفِي... نَحْو مُرٍ: لُزُومُ رَدِّ اليَا اقْتُفِي
وَحَذْفُ يَا المَنقُوصِ ذي التَّنوين ما لَمْ يُنْصَب) أَوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا
وأثبتها ابن كثير في الجميع، ووافقه يعقوبُ في المُعرّف بأل، وَحَذَفَها غيرهُ مطلقاً.
(١) أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره (١٢١٤٥) عن سعيد بن المسيب، مرسلا، وزاد فى الفتح السماوي (٢/ ٧٣٨) عزوه للثعلبى.
10
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة: لَوْلا: هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ أي: معجزة واضحة مِنْ رَبِّهِ كما أوتي موسى وعيسى. ولم يعتدوا بالآيات المنزلة عليه كانشقاق القمر وانقياد الشجر، وتسليم الحجر، وأعظمها: القرآن العظيم. وذلك عناد منهم. قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مُرْسَل إليهم لتنذرهم كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات، لا مما يُقترح عليك.
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ رسول يهديهم إلى الحق والصواب، مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم ففي زمن موسى عليه السلام كان الغالب عليهم السحر، فأوتي بالعصا تنقلب حية ليبطل سحرهم، وفي زمن عيسى عليه السلام كان الغالب عليهم الطب، فأوتي إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى الذي يعجزون عن مثله، وفي زمن نبينا محمد ﷺ كان الغالب عليهم البلاغة والفصاحة، بها كانوا يتباهون ويتناضلون، فأوتي القرآنَ العظيم، أعجز ببلاغته البلغاء والفصحاء. أو: ولكل قوم هاد، يقدر على هدايتهم، وهو الله تعالى، أي: إنما عليك الإنذار، والله هو الهادي لمن يشاء، أو: ولكل قوم واعظ ومذكر من نَبِيِّ أو وَليّ. رُوي أنها لمّا نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا المُنْذِرُ، وَأنْتَ يا عَلِيُّ الهَادي» «١».
ثم أردف ذلك ما يدل على كمال علمه وقدرته، وشمول قضائه وقدره تنبيهاً على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه، وإنما لم يُنزله لعلمه بأن اقتراحهم كان عناداً لا استرشاداً. أو ان وقت الإنزال لم يحضر، فقال:
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى هل هو ذكر أو أنثى، أو تام أو ناقص، أو حسن أو قبيح «٢». وهو من الخمس التي اختص بها. وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي: ما تنقص في الجثة بمرض الجنين او إسقاطه، وما تزداد بنمو الجنين إلى أمده أو أكثر. قال البيضاوي: مدة الحمل عندنا اربع سنين، وخمس عند مالك، وسنتان عند أبي حنيفة. رُوي أن الضحاك وُلد لسنتين، وهرم بن حيان لأربع سنين. وأعلى عدده لا حد له. «٣» - قلت: يعني مع تحققه- وقيل: المراد نقصان دم الحيض وزيادته. هـ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ: بقدر محدود، ووقت مخصوص، لا يجاوزه ولا ينقص عنه، فالحق- تعالى- قد خص كل حادث بوقت مخصوص معين، وهيأ له أسباباً تسوقه إليه على ما تقتضيه حكمته.
(١) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٣/ ١٠٨) عن ابن عباس. وانظر تفسير ابن كثير (٢/ ٥٠٢) والآلوسى (١٣/ ٨).
(٢) هذا النوع الذي ذكره الشيخ المفسر، من المعرفة، ليس هو النوع الذي اختص الله نفسه بعلمه- وهو يعلمه أيضا- فإن هذا العلم ممكن للإنسان، بل قد علمه فعلا عن طريق الأشعة وغيرها. والأساس فى فهم الآية قوله تعالى في الآية «ما» وهى التي تدل على الماهية.
فقوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي: يعلم ماهيته وحقيقته، هل يكون شخصا مؤمنا أو كافرا، سعيدا أو شقيا فى الدنيا والآخرة، يعلم كنهه وهويته ومعتقده، واتجاهاته وميوله، وفكره وعمله، ونيته ومصيره، علما كليا وتفصيليا، وهو ما يستحيل على العقل البشرى أن يعلمه، فالله هو المختص وحده بعلم ذلك كله، فضلا على علمه: هل هو ذكر أو أنثى.. إلخ ما يعلمه الإنسان بأدوات العلم التجريبى.
(٣) ما قاله الإمام البيضاوي عن مدة الحمل يرجع فيه إلى أهل الطب المختصين، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، وقد قال أهل الاختصاص: إن الجنين إذا ظل فى الرحم أكثر من مدته، فإن الرحم قد ينفجر. إلخ ما قالوا.
11
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي: الغائب عن الحس، والظاهر فيه الْكَبِيرُ: العظيم الشأن، الذي يصغر كلُّ شيء دون عظمته وكبريائه، الْمُتَعالِ: المستعلي عن سمة الحوادث، أو: المستعلي بقدرته على كل شيء.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ: طالب للخفاء مستتراً بظلمة الليل، وَمن هو سارِبٌ بِالنَّهارِ أي: بارز فيه. فقد أحاط الله بذلك، علماً وسمعاً وبصراً. فالآية مقررة لِما قبلها من كمال علمه وشموله.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١١ الى ١٣]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
لَهُ مُعَقِّباتٌ أي: لمن أسر أو جهر، أو استخفى أو برز، مُعَقِّباتٌ: ملائكة تعتقب في حفظه، اي:
يعقب بعضُها بعضاً، اثنان بالليل واثنان بالنهار، أو: لأنهم يعقبون أقواله وافعاله فيكتبونها. أو: جماعة من الملائكة وَكَّلهم الله بحفظ الآدمي، يعقب بعضُهم بعضاً، وهو مناسب لقوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي:
يحرسونه من الآفات التي تنزل من امر الله وإرادته. أو: يحفظونه من عقوبة الله وغضبه. إذا أذنب ذنبا أمهلوه واستغفروا له. أو: يراقبون أحواله من أجل أمر الله، إذ أمرهم الله بذلك، أو يكون صفة للمعقبات، أي: له معقبات من أجل أمر الله، حيث أمرهم بحفظه. وقيل: الضمير في لَهُ: يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، المتقدم في قوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، فتكون نزلت فيمن اراد غدر النبي ﷺ سراً، على ما يأتي في الآية الآتية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم مراراً حالُ مَن طلب الكرامة من الأولياء، وأنه جاهل بهم، ولا يعرفهم مادام يلتمس الكرامة منهم. وأيُّ كرامة أعظم من الاستقامة، والمعرفة بالله، على نعت الشهود والعيان؟!. وقوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي: ولكل عصر عارف بالله، يهدي الناس إلى حضرة الله، وهم ورثة الهادي الأعظم والنبي الأفخم، نبينا- عليه الصلاة والسّلام- أولهم سيدنا علي- كرّم الله وجهه للحديث المتقدم، لأنه أول مَن أظهر علم التصوف وأفشاه، ثم أخذه عنه الحسن البصريّ وهذبه، ثم حبيب العجمي، ثم داود الطائي، ثم معروف الكرخي، ثم سري السقطي، ثم إمام الطريقة: أبو القاسم الجنيد، ثم انتشر في الأرض، فلكل عصرٍ رجالٌ يحملون لواء الحقيقة، ويهدون الناس إلى لباب الشريعة. وهم العارفون بالله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَبْعَثُ اللهُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذِه الأمة أمرَ دِينِهَا» «١» أي: يجدد الطريقة بعد دروسها، ويحيي الحقيقة بعد خمود أنوارها، ويُظهر الشريعة بعد خفاء أعلامها. وقد يكون واحداً ومتعدداً. وقد بعث الله في رأس هذه المائة الثالثة عشر، أربعةً، أحيا الله بهم الحقيقة، وأظهر بهم أنوار الشريعة، يمشون في الأرض بالنصيحة، ويهدون الناس إلى رب العالمين، والله ولي المتقين، وشهرتهم تُغني عن تعيينهم، وتقدم اثنان فى العقود.
(١) أخرجه ابن داود فى (الملاحم، باب ما يذكر فى قرن المائة) من حديث أبى هريرة، وصححه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٨٤٥).
12
وقوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى: ما تحمل كل نفس من العلوم، وما تحمل كل روح من الأسرار.
وما تغيض الأرحام، أي: القلوب، فقد تنقص أنوارها بمباشرة الأغيار، وقد تزداد بالتفرغ أو صحبة العارفين الكبار.
وكل شيء عنده بمقدار، فالفتح له وقت معلوم، وحد محدود، والمراتب والمقامات مقسومة محدودة في الأزل، كل أحد ياخذ ما قُسم له. وقوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ...
إلخ، فيه تحقيق المراقبة وتشديد المحاسبة على الخواطر والقلوب. والله تعالى أعلم.
وَإِذَا كان العبد على هداية من ربه أو نعمة، فلا تزول عنه إلا من جهته، كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ...
قلت: وَإِذا: ظرف، والعامل فيه: مادل عليه الجواب، أي: لا يُرد ما قضى إذا أراد إنفاذه. وخَوْفاً وَطَمَعاً:
منصوبان على العلة بتقدير المضاف، أي: إرادة الخوف والطمع ليتحد الفاعل. أو بتأويل: يجعلكم ترون البرق خوفا وطمعا. والثِّقالَ: نعت للسحاب، وجَمَعَه لأن السحاب جنس بمعنى الجمع. وجملة: وَهُمْ يُجادِلُونَ: إما استئنافية، أو حال من الموصول. والْمِحالِ: المكر والخديعة. من مَحَل بفلان إذا كاده وعرَّضه للهلاك، ومنه تمحّل: إذا تكلَّف استعمال الحيلة، فالميم أصلية، ووزنه: فِعَال، وقيل: مشتق من الحيلة، فالميم زائدة، ووزنه: مِفْعَل، وأصله: مِحْيَل.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعم والعافية إلى النقمة والبلية حَتَّى يُغَيِّرُوا هم ما بِأَنْفُسِهِمْ من الطاعة وترك المعصية، إلى ارتكاب الذنوب. فلا يسلب النعم عن قوم إلا بارتكاب ذنب، ولو من البعض إذا سكت الكل. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ أي: فلا رادّ له ولا مُعقب لحُكمه، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أي: ليس لهم من يلي أمرهم، ويدفع عنهم السوء الذي قضاه الله عليهم، وأراد نزوله بهم لأن وقوع خلاف مراد الله تعالى محال.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً أي: خوفاً مما ينشأ عن البرق من الصواعق والأمور الهائلة، وطمعاً في نزول الغيث الذي يكون معه غالباً، وَيُنْشِئُ أي: يخلق السَّحابَ الغيم المسْحب، الثِّقالَ:
13
المثقل بالمطر الحاملة له، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أي: متلبسا بحمده، يقول: سبحان الله وبحمده. أو: يدل الرعد بنفسه على وحدانيته تعالى وكمال قدرته، ملتبساً بالدلالة على كمال فضله، ونزول رحمته. وعن ابن عباس رضى الله عنه: سئل النبي ﷺ عن الرعد فقال: «مَلَكٌ مَوَكَّلُ بالسَّحابِ، له مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ السَّحَاب» «١».
وَتسبح أيضاً الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي: من خوفه وإجلاله، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ نار تنزل من السماء وقت ضرب الرعد، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي: الكفار، حيث يكذبون رسوله فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة، والتفرد بالألوهية، وبعث الناس وحشرهم للمجازاة، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أي: شديد المكر بأعدائه، الذين أرادوا أن يمكروا بنبيه- عليه الصلاة والسّلام-.
رُوي أن عامر بن الطّفيل وأريد بن ربيعة وفدا على رسول الله ﷺ قاصدين لقتله، فأخذ عامر بالمجادلة مع سيدنا رسول الله ﷺ ليشغله، ودار أرْبَدُ من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبه له الرسول- عليه الصلاة والسّلام- وقال:
«اللَّهُمَّ اكفنيهما بِمَا شِئتَ»، فأرسل الله على أرْبد صاعقة فقتلته، ورُمي عامرٌ بغدة، فمات في بيت امرأة سلُوليَّة، فكان يقول: غُدة كغُدَّة البعير، وموت في بيت امرأة س لوليّة! فنزلت الآية من أولها «٢»، وهو قوله: لَهُ مُعَقِّباتٌ...
إلخ، على قول.
الإشارة: من جريان حكمته تعالى في خلقه أنه لا يسلب النعم عنهم إلا بسوء أدبٍ منهم، كلٌ على قدر مقامه، فالنعم الظاهرة يسلبها بترك الطاعة الظاهرة، أو بالمخالفة الظاهرة، والنعم الباطنة يسلبها بترك المراقبة الباطنة أو المشاهدة الباطنة. فلكل مقام حقوق وآداب فمن أَخَلَّ بحقوق مقام نقص له منه، إلا أن يتوب. وقد يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه، فيظن أنه لم يُسْلب. ولو لم يكن إلا ترك المزيد. وقد يبعد، وهو لا يشعر، ولو لم يكن إلا وتركه وما يريد. كما في الحِكَم.: «إن الله لا يغير ما في القلوب من أنوار الشهود والعيان، حتى يغيروا ما بأنفسهم من حسن الأدب بسوء الأدب». وهذا ما لم يتحقق له مقام المحبوبية والتمكن مع الله في المعرفة. وإلا فالرعاية والعناية محفوفة بقلبه، فقد يبلغ الولي إلى مقام يُقال له: افعل ما شئت فقد غفرتُ لك، كما وقع لأهل بدر، وراجع ما تقدم عند قوله: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ «٣» وقد يُغير الله قلب عبده اختباراً له، فيسلبه حلاوة المعاملة أو المعرفة، فإن هو اضطرب وتضرع ردَّ له حاله، وإن لم يضطرب ولم يفزع إلى الله لم يرد له شيئاً. وإليه الإشارة بقوله: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ... الآية.
(١) أخرجه فى سياق طويل، أحمد فى المسند (٢/ ٢٧٤) والترمذي في (تفسير سورة الرعد)، وقال: حسن غريب.
(٢) أخرجه ابن جرير فى التفسير (١٣/ ١٢٦) عن ابن عباس رضى الله عنه فى سياق أطول من هذا. وهو ضعيف لوجود السدى والكلبي فى السند.
(٣) الآية ٨٢ من سورة الأنعام. [.....]
14
هو الذي يُريكم بَرْقَ لمعان أنوار المشاهدة، عند الاستشراف على الحضرة القدسية، خوفاً من الرجوع لعدم إطاقة ذلك النور، وطمعاً في الوصول إلى التمكين، فلا يزال تترادف عليه البروق حتى يستمر ذلك كبرق متصل، وهي أنوار المواجهة. وينشئ سحاب الواردات ثقالاً بالعلوم والأسرار، ويرسل الصواعق تصعق وجود الحس عن أسرار المعاني، فيصيب بها من يشاء ممن سبقتَ له العناية. وأهل الإنكار والتكذيب بطريق الخصوص يجادلون في الله بتكذيب أوليائه وإنكار هذه الأنوار، وهو شديد المحال، فيمكر بهم ويتركهم في مقام البُعد، وهم لا يشعرون.
ومن جملة التغيير الذي يسلب النعم ويوجب النقم: الركون إلى غير الله بالدعاء وغيره، كما قال تعالى:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٤ الى ١٥]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
يقول الحق جلّ جلاله: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ لأنه الذي يحق أن يُدعى فيجيب، دون غيره فإنما له الدعاء الباطل لأنه يُدعى فلا يسمع ولا يجيب. أو: له دعوة الحق، وهي كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، فمن دعا إليها فقد دعا إلى الحق. والأول أرجح لمناسبة قوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ، أي: والأصنام الذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم بشيء مما طلبوا، أو: والمشركون الذين يدعون أصناماً من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء، فحذف المفعول للدلالة عليه، فلا يستجيبون لهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء يشير إليه، لِيَبْلُغَ فاهُ أي: يطلب منه أن يصعد إليه ويبلغ فاه وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي: ليس الماء ببالغ فاه لأنه جماد لا يشعر بدعائه، ولا يقدر على إجابته من حيث هو، شَبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفه، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه، ولا يبلغ فاه أبداً لأنه جماد لا يسمع ولا يعقل، وكذلك الأصنام لا تسمع ولا تجيب من بسط إليها يده ليطلب منها لأنها خشب وأحجار. وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ للأصنام إِلَّا فِي ضَلالٍ وخسران وضياع.
ثم ذكر الحقيق بالعبادة والطلب، فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً يحتمل أن يكون السجود حقيقة، فالملائكة والمؤمنون يسجدون طوعاً فى الشدة والرخاء، والكفار يسجدون كرهاً في الشدة والضرورة. أو يكون مجازاً وهو: انقيادهم لما أراد منهم، شاءوا أو كرهوا. وَتسجد أيضاً ظِلالُهُمْ بانقيادها لله تعالى في طولها وقصرها، وميلها من جانب إلى جانب، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، أي: طرفَيْ النهار.
وخُصَّ هذان الوقتان- وإن كان سجودهما دائما- لأن الضلال إنما تَعْظُم وتكبر فيهما. وقال الواحدي: كل شخص مؤمن أو كافر ظله يسجد لله تعالى، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. هـ.
وقال القشيري: ذلك سجود شهادة، لا سجود عبادة، فإن امتنع من إقامة الشهادة قوم قالةً فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة، فكل مخلوقٍ من عين وأثر، حجر ومدر أو غير ذلك فمن حيث البرهان لله ساجد، ومن حيث البيان للواحد شاهد. هـ.
وقال أبو حيان: عن الفراء: الظل في الأصل مصدر، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم طولُه بسبب انخفاض الشمس، وقصره بسبب ارتفاعها، فهو منقاد لله تعالى فى طوله وقصره وميله من جانب. ثم قال:
والحاصل أنها جارية على مقتضى إرادته تعالى ومشيئته، من الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. هـ.
وقيل: لا يعلم تسبيح الجماد والنبات والحيوان البهيمي وسجودها إلا مَنْ كاشفه الله تعالى بحقيقة ذلك من نبي أو ملك أو صدِّيق. واما حمدها لله تعالى وتسبيحها بلسان الحال فيعلمه العلماء. قاله المحشي الفاسي.
الإشارة: كل من تعلق في نوائبه بغير الله، أو ركن في حوائجه إلى غير مولاه، فهو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وليس بواصل إليه، ولا ببالغ قصده ومناه، بل دعاؤه في تلف وخسران، وجزاؤه الخيبة والحرمان.
فالواجب على العبد أن يَقْصر حوائجه على مولاه، وينقاد إليه بكليته في حال الطوع والإكراه. إما أن ينقاد إليه بالإحسان، أو بسلاسل الامتحان. «عَجِبَ رَبُّكَ من قَوْمٍ يُساقون إلى الجَنَّةِ بالسّلاسل» «١».
ثم ذكر الحقيق بالدعوة، والعبادة، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد للمشركين: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: خالقهما، ومدبر أمرهما، قُلْ لهم: هو اللَّهُ لا خالق سواه، ولا مدبر غيره، أجاب عنهم بذلك، إذ لا جواب لهم سواه لأنهم يقرون به، ولكنهم يشركون به. فأبطل ذلك بقوله: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أصناماً جامدة تتولونها بالمحبة والنصرة والدفع، وهم جوامد لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي: لا يقدرون أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً، ولا يدفعون عنهم ضراً، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم ممن عبدهم، أو يدفعون عنه ضراً؟!. وهو دليل على ضلالهم وفساد رأيهم، في اتخاذهم الأصنام أولياء، رجاء أن يشفعوا لهم.
(١) هذا لفظ حديث صحيح أخرجه البخاري فى (كتاب الجهاب، باب الأسارى فى السلاسل) عن أبى هريرة رضى الله عنه.
16
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي: الكافر الجاهل، الذي عميت بصيرته بالجهل والشرك، والمؤمن الموحد الذي انفتحت بصيرته بالإيمان والعلم. أو المعبود الغافل عن عبادة من عبده، والعالم بأسرار عباده. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الكفر والإيمان، أو الجهل والعلم. أَمْ: بل جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ من صفتهم، خَلَقُوا كَخَلْقِهِ، فَتَشابَهَ التبس الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فلم يدروا ما خلق الله مما خلق أصنامُهم، وهذا كله داخل في الإنكار. والمعنى: هل خلق شركاؤهم خلقاً كخلق الله، فالتبس الخلق عليهم، فلم يُميزوا خلق الله من خلق أصنامهم، حتى ظنوا أنها تستحق أن تُعبد مع الله، أو يُطلب منها حوائج دون الله؟!.
ثم أبطل ذلك بقوله: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، قال البيضاوي: والمعنى أنهم ما اتخذوا له شركاء خالقين مثله حتى يتشابه الخلق عليهم، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق الله، واستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلاً عما يقدر عليه الخالق. هـ. قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا خالق غيره فيشاركه في العبادة. جعل الخلق موجب العبادة، ولازم استحقاقها، ثم نفاه عما سواه ليتحقق انفراده بالربوبية والقهرية كما أفاده قوله: وَهُوَ الْواحِدُ في الألوهية، الْقَهَّارُ بتصريف أحكام الربوبية. هـ.
الإشارة: إذا علِم العبدُ أن ربه قائم بأمر خلقه، مدبر لشأن ملكه، من عرشه إلى فرشه، جعل حوائجه كلها وقْفاً عليه، وانحاش بكليته إليه، ورفع همته عن خلقه، إذ ليس بيدهم ضر ولا نفع، ولا جلب ولا دفع، بل هم عاجزون عن إصلاح أنفسهم، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم؟! وفي الحكم العطائية: «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو مُوردها عليك، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه: فكيف يستطيع أن يكون لها من غيره رافعاً». وقال بعض العارفين من المُكَاشَفين- رضى الله عنهم-: قيل لي في نوم كاليقظة، أو يقظة كالنوم: لا تُبْديَنّ فاقة فأضَاعفها عليك مكافأة لسوء أدبك، وخروجك عن حد عبوديتك.
إنما ابتليتك بالفاقة لتفزع بها إليَّ، وتتضرع بها لَديَّ، وتتوكل فيها عليَّ. سبكتك بالفاقة لتصير ذهباً خالصاً، فلا تزيفن بعد السبك، وَسَمْتُكَ بالفاقة وحكمت لنفسي بالغنى، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى، وإن وصلتها بغيري قطعت عنك مواد معونتي، وحسمت أسبابك من أسبابي، طرداً لك عن بابي. فمن وكلتُه إليَّ ملك، ومن وكلته إليه هلك. هـ.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه: آيست من نفع نفسي لنفسي، فكيف لا آيس من نفع غيري لها، ورجوت الله لغيري فكيف لا أرجوه لنفسي؟. هـ. فالبصير من اعتمد في أموره على مولاه، والأعمى من ركن في حوائجه إلى سواه. فأنوار التفويض والتسليم لا تستوي مع ظلمات الشرك والتدبير قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ. وبالله التوفيق.
17
ثم ضرب مثلا لنور العلم مع ظلمات الجهل، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٧ الى ١٨]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
قلت: جُفاءً: حال. والْحُسْنى: مبتدأ، ولِلَّذِينَ: خبر مقدم. والَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا: مبتدأ، ولَوْ أَنَّ:
خبر، أو (لِلَّذِينَ) : متعلق بيضرب، والْحُسْنى: نعت لمصدر محذوف، والَّذِينَ: معطوف على الَّذِينَ الأولى، أي: يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى وللذين لم يستجيبوا، ثم استانف قوله: لو أن... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي: السحاب، أو ناحية السماء، ماءً مطراً، فَسالَتْ به أَوْدِيَةٌ: أنهار، جمع وادٍ، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة، فاتسع واستعمل للماء الجاري فيه. بِقَدَرِها أي: بقَدَر صغرها وكبرها، كل يسيل على قدره، أو بقدر ما قسم في قسمة الله تعالى، وعلم أنه نافع غير ضار، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً أي: رفعه على وجه الماء، وهو ما يحمله السيْل من غذاء ونحوه، أو ما يطفوا على الماء من غليانه، رابِياً: عالياً على وجه الماء، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ «١» من ذهب وفضة، وحديد ورصاص ونحاس، وغيره، ابْتِغاءَ أي: لطلب حِلْيَةٍ كالذهب والفضة، أَوْ مَتاعٍ كالحديد والنحاس يصنع منه ما يتمتع به من الأواني وآلات الحرب والحرث. والمقصود بذلك: بيان منافعها، فكل واحد منهما له زَبَدٌ مِثْلُهُ أي: مثل زبد الماء، وهو خبثه الذي تخرجه النار عند سبكه.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فمثل الحق- وهو العلم بالله وبأحكامه- كمثل الأمطار الغزيرة، ومثل القلوب التي سكن فيها، وجرت حِكَمُه على ألسنة أهلها كالأودية والأنهار والخلجان، كلٌّ يحمل منه على قدره، وسعة صدره. ومثل الباطل الذي دمغه وذهب به كالزبد وخبث الحديد والنحاس، أو الذهب والفضة. وسيأتي في الإشارة تكميله إن شاء الله. ورُوِي مثل هذا عن ابن عباس. وإنكار ابن عطية له جمود، وتَذَكرْ حديث البخاري:
(١) قرأ حمزة والكسائي وحفص (يوقدون) بالياء. على أن الضمير للناس. وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب.. انظر الإتحاف (٢/ ١٦٢).
18
«مثل ما بعثني الله به من الهدى... » الحديث «١»، فإنه يشهد لذلك التأويل. وتقدم له بنفسه في قوله: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ «٢» ما يشير إلى تفسير أهل الإشارة والرموز. وراجع ما تقدم لنا في خطبة الكتاب يظهر لك الحق والصواب.
قال البيضاوي: مُثِّلَ الحقُّ في إفادته وثباته، بالماء الذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة، فتنفع به أنواع المنافع، ويمكث في الأرض، فيثبت بعضه في منابعه، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار، وبالفِلِزِّ الذي ينتفع به في صَوْغ الحلي، واتخاذ الأمتعة المختلفة، ويدوم ذلك مدة متطاولة.
والباطلُ، في قلة نفعه وسرعة ذهابه، بزبدهما، وبيَّن ذلك بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، أي: مَرْمياً به، من جفاه: رمى به وأبعده، أي: يرمى به السيل والفلز المذاب. هـ. وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ كالماء، وخالص الذهب أو الحديد، فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ لينتفع به أهلها. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لإيضاح المشكلات المعنوية، بالمحسوسات المرئية.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ بالإيمان والطاعة، الْحُسْنى أي: المثوبة الحسنى، أو الجنة. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ من الكفرة لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ من هول ذلك المطلع. أو:
يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى، وللذين لم يستجيبوا له. ثم بيَّن مثال غير المستجيبين بقوله:
لَوْ أَنَّ لَهُمْ... إلخ: أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ أقبحة وأشده، وهو أن يناقش فيه، بأن يحاسبَ العبد على كل ذنب، ولا يغفر منه شىء، وَمَأْواهُمْ: مرجعهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش والمستقر، والمخصوص محذوف، أي: هذا.
الإشارة: قد اشتملت الآية على ثلاثة أمثلة: مثال للعلم النافع، ومثال للعمل الخالص، وللحال الصافي. فمثَّل الحقُّ تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء، فإنه تحيا به الأرض، وتجري به الأودية والعيون والآبار، ويحبس في الخلجان والقدور لنفع الناس، وتتطهر به الأرض من الخبث لأنه ترمى به السيول فيذهب جفاء، كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها، وعلى قدر ما قُسم لهم من علم اليقين، أو عين اليقين، أو حق اليقين، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي.
(١) لفظ الحديث كاملا: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصابت أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء فنفع الله الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه فى دين الله، ونفعه الله به، فعلم وعلّم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» أخرجه البخاري فى (العلم، باب فى من علم وعلّم) ومسلم فى (الفضائل، باب بيان ما بعث النبي به من الهدى والعلم) من حديث أبى موسى رضى الله عنه.
(٢) من الآية ٤٠ من سورة يوسف.
19
ومثَّل العمل الخالص الذي تَصَفَّى من الرياء والعجب وسائر العلل، بالحديد المصفى من خبثه لتصنع منه السيوف والآلات، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأواني، وغيرها مما ينفع به الناس.
ومثَّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى، أو الفضة، إذا صفيت وذهب خبثها ليصنع بهما الحلي والحلل ليتزين بها أهلها، فأشار إلى المثال الأول- وهو العلم- بقوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء إلخ. وأشار إلى الحال بقوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ، وأشار إلى العمل بقوله: أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ. وقدَّم الحال، لشرفه، ومثَّله بالذهب والفضة لزيادة الرغبة فيه لأنه ثمرة العمل، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون.
والحاصل: أن المراتب أربعة: العلم، والعمل، والحال، والمقام. وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلاً للمقام لأن النزول فيه لا يكون إلاَّ بعد التصفية، فليس فيه علة، يحتاج إلى التصفية منها. فمقامات اليقين كلها يجري فيها العلم، والعمل، والحال، والمقام. فالتوبة مثلاً: يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها، وفضليتها، ثم يسعى في العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط، وهذا هو الحال، ثم تطمئن النفس، وترسخ التوبة النصوح، وهذا هو المقام. وكذلك الصبر، يتعلق به العلم أولاً ثم يسعى في مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه، وهكذا يجري في المقامات كلها.. وهي اثنا عشر مقاماً:
التوبة، والخوف، والرجاء والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة.
وهي: بروج شمس المعرفة، وقمر التوحيد. وكذلك معرفة الشهود والعيان: يتعلق العلم أولاً بأسرار التوحيد، ثم يعمل في خرق عوائد نفسه حتى تموت، فيشرق عليها أنوار التوحيد، غير أنها تظهر وتخفى، ثم يصير الشهود مقاماً، رسوخاً وتمكينا.
وقد أشار في الحِكَم إلى بعض هذا فقال: «حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال». وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه، أو التوصل إلى الدنيا، ويذهب به الشكوك والأوهام فهذا زبده.
وتصفية العمل بالإخلاص في أوله، والإتقان والحضور في وسطه، والكتمان في آخره، فيذهب عنه الرياء والعجب به، والتوصل به إلى حظ نفساني. وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها، فيذهب به قصد الظهور، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية، التي هي من حظ النفس وتشتيت القلب، إن لم يفرد وجهته لله، وانحلال عزمه وخمود نوره، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال. فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس، ويمكث في أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل في مقام العبودية. وبالله التوفيق.
20
ثم ذكر حال من عرف هذا العلم النازل، وحال من أنكره، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
قلت: أُولئِكَ.. الخ: جملة خبر الموصولات، إن رفعت بالابتداء، وإن جُعلت صفاتٍ لأُولي الألباب: فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. وجَنَّاتُ: بدل من عُقْبَى الدَّارِ. ومَنْ صَلَحَ: عطف على الواو بفصل المفعول، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ: محكي بحال محذوفة، أي: قائلين سلام عليكم، وحذف الحال- إذا كان قولاً- كثيرٌ مطرد.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فيستجيب له، وينقاد له كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب، لا يستجيب ولا يستبصر؟ أنكر الحق- جل جلاله- على من اشتبه عليه الحق من الباطل، بعد ما ضرب المثل، فإن الأمور المعنوية، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة، صارت في غاية الوضوح لا تخفى إلّا على الخفافشة، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات.
ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية، حين قالوا: بَلى «١». وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما أوثقوه على نفوسهم، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله، وبينهم وبين عباد الله. وهو تعميم بعد تخصيص تأكيداً على الوفاء بالعهود.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم، وموالاة المؤمنين، وحُضور مجالس الصالحين، والعلماء العاملين، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ: غضبه وعذابه، أو إبعاده وطرده، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ: مناقشته، فيحاسبون أنفسهم قبل ان يُحاسبوا.
(١) فى قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ..) الآية ١٧٢ من سورة الأعراف.
21
وَالَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق الطاعة وترك المخالفة، أو على ما تكرهه النفوس، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلباً لرضاه، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته، لا فخراً ورياء، وطلباً لحظ نفساني. وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وحضور السر فيها، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال فرضاً ونفلاً، سِرًّا وَعَلانِيَةً إن تحقق الإخلاص، وإلا تعيَّن الإسرار. أو سراً لمن لا يعرف بالمال، وجهراً لمن يعرف به لئلا يُتهم، أو ليُقتدى به. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون الخصلةَ السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالاً لقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ «١»، أو:
يدفعون الشرك بقول: «لا إله إلا الله»، أو يفعلون الحسنات فيدرءون بها السيئات، كقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «٢». قيل: نزلت في الأنصار. وهي عامة.
ثم ذكر جزاءهم، فقال: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي: عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلُها. وهي: الجنة التي فسَّرها بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: إقامةٍ، يَدْخُلُونَها مخلدين فيها. والعدْن: الإقامة، وقيل: هي بطنان الجنة، أي: مداخلها لا ربضُها، فيدخلونها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي: يَلْحَقُ بهم مَنْ صلح من أهلهم، وإن لم يبلغ فى العمل مبلغهم، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم، أو بشفاعتهم لهم. وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض- لما بينهم من القرابة والوصلة- في دخول الجنة زيادة في أُنسهم، لكن يقع التفاوت في الدرجات والنعيم والقرب، على قدر اجتهادهم في التحقق بتلك الصفات، والدءوب عليها. والتقييد بالصلاح يدل على أنَّ مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل.
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل، أو من أبواب الفتوح والتحف، قائلين:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة، هذا بِما صَبَرْتُمْ، أو سلامة لكم بسبب صبركم. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه.
الإشارة: أفمن تَصَفَّتْ مرآة قلبه من الأكدار والأغيار، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره، كمن هو أعمى القلب والبصيرة، فلم يرفع بذلك رأساً؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولوا القلوب الصافية التي ذهب خبثها، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ، فأوفوا بعهودهم، وواصلوهم،
(١) من الآية ٩٦ من سورة المؤمنون.
(٢) من الآية ١١٤ من سورة هود.
22
وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته، أو يناقشهم الحساب فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات، وصبروا على دوام المجاهدات، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات، وأقاموا صلاة القلوب- وهي العكوف فى حضرة الغيوب- وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم، ويقابلون الإساءة بالإحسان لأنهم أهل مقام الاحسان. أولئك لهم عقبى الدار وهي العكوف في حضرة الكريم الغفار، تدخل على أبواب قلوبهم المواهبُ والأسرار، تقول بلسان الحال: سلام عليكم بما صبرتم في مجاهدتكم، فنعم عقبى الدار.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ... الذي أخذه عليهم في عالم الذَّرِّ، حيث قال:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «١»، ثم كفروا به بعد بعث الرسل المنبهين عليه. أو ينقضون العهود فيما بينهم وبين عباد الله، أن أعطوا ذلك من أنفسهم، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام، أو ممن يدلّ على الله من الأنبياء، والعلماء الأتقياء فإنَّ الله أمر بوصلهم، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والمعاصي، وتهييج الفتن، أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ: البُعد والطرد من رحمة الله، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ: سوء عاقبة الدار، وهو العذاب والهوان، حيث اغتروا في الدنيا بسعة الأرزاق، وظنوا أن ذلك من علامة إقبال الحق.
ولم يدروا أن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ، ولو كان من أهل الشقاء، وَيَقْدِرُ يُضيقه على مَن يشاء، ولو كان من أهل السعادة والعناية، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا واطمأنوا بها، وقنعوا بنعيمها الفاني، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم، كعُجَالة الراكب وزاد الراعي. وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
«مَا لي وللدُّنْيَا، إِنَّما مَثَلي ومثلُ الدُّنيا كَرَاكبٍ سَافَرَ في يَوْمٍ صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرةٍ، ثم رَاحَ عَنْها وَتَركَهَا» «٢». والمعنى: أنهم أشِروا بما نالوا من الدنيا، ولم يصرفوها فيما يستوجبون به نعيم الآخرة، واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع، سريع الزوال. قاله البيضاوي.
(١) من الآية ١٧٢ من سورة الأعراف.
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (١/ ٣٠١) والحاكم (٤/ ٣٠٩) وصححه ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس رضى الله عنه، قال: دخل عمر على رسول الله ﷺ وهو على حصير، قد أثر فى جنبه، فقال: يا نبيَّ اللهِ لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال:
مالى وللدنيا..» الحديث.
الإشارة: لا شيء أفسد على المريد من نقض عهود المشايخ، والرجوع عن صحبتهم فإنه لمَّا دخل في حماهم انقبض عنه الشيطان والدنيا والهوى، وأسفوا عليه، فإذا رجع إليهم، واتصلوا به، فعلوا به مالم يفعلوا بغيره كمن هرب من عدوه ثم اتصل به. وتنسحب عليه الآية من قوله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إلى قوله: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: البُعد عن الحضرة، (ولهم سوء الدار) وهو: غم الحجاب والبقاء من وراء الباب. فإذا رجعت إليه الدنيا يقال له: (الله يبسط الرزقَ لمن يشاء ويقدر) فلا تغتر ولا تفرح بالعرض الفاني، فما الحياة الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ متاع قليل، ثم التحسر الوبيل.
ثم أجاب عمن طلب المعجزة ليؤمن، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ظاهرة مِنْ رَبِّهِ كما أنزلتْ على مَنْ قبله فنؤمن حينئذٍ؟ قُلْ لهم: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بعد ظهور الآيات والمعجزات. وليس الإيمان والهداية بيد العبد في الحقيقة. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أي: من أقْبل ورجع عن عناده من غير احتياج إلى معجزة. قال البيضاوي: وهو جواب، يجرى مجرى التعجب من قولهم، كأنه قال: قل لهم ما أعظم عنادكم! إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائه، وإن نزلت كل آية، ويهدي إليه من أناب لما جئت به، بل بأدنى منه من الآيات. هـ.
الإشارة: تقدم مراراً أن مَن سبقت له من الله عناية الخصوصية، لم يتوقف على ظهور آية. ومن لم يسبق له شيء في الخصوصية لا ينفع فيه ألف آية. فالله تعالى يضل من يشاء عن دخول حضرته، ولو رأى من أولياء زمانه ما رأى، ويهدي إلى حضرته من أناب، ورجع بلا سبب. وبالله التوفيق.
ثم وصف أهل الإنابة، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
قلت: الموصول: بدل ممن أناب، أو خبر عن مضمر، أي: هم. والموصول الثاني بدل ثانٍ، أو مبتدأ، وجملة طُوبى: خبر، وهي فُعْلى، من الطيب، كبشرى من البشارة، قلبت ياؤها واواً لضم ما قبلها، ومعناها: أصبت خيراً وطيباً. وقيل: شجرة في الجنة. وسوغ الابتداء بها: ما فيها من معنى الدعاء.
24
يقول الحق جلّ جلاله، في وصف من سبقت له الهداية واتصف بالإنابة: هم الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله إيماناً تمكَّن من قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسُهم فإذا حركتهم الخواطر والهواجم، أو فتن الزمان وأهواله تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وترتاح بذكر الله أُنساً به، واعتماداً عليه ورجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر آلائه ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، أو بكلامه القرآن، الذي هو أقوى المعجزات. قاله البيضاوي. وقال في القوت: معنى تطمئن بذكر الله: تهش وتستأنس به. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرَّحمن الفاسي بعد كلام: والحاصل أن المراد من الطمأنينة: السكون إلى المذكور، والأنس به، ووجود الرَّوْحِ والفرح والانشراح، والغنى به. هـ.
قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لا بغيره، فلا تسكن إلا إليه، ولا تعتمد إلا عليه فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها، وعظم قلقها. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ أي: لهم عيش طيب وحياة طيبة. أو الجنة، أو شجرة فيها، وَحُسْنُ مَآبٍ أي: مرجع يرجعون إليه بعد الموت.
الإشارة: الطمأنينة على قسمين: طمأنينة إيمان، وطمأنينة شهود وعيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان. وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله.
قال الشيخ الشاذلى رضي الله عنه: حقيقة الذكر: ما اطمأن بمعناه القلب، وتجلّى في حقائق سحاب أنوار سمائه الرب. هـ. وقال الورتجبي: إنْ كان الإيمان من حيث الاعتقاد، فطمأنينة القلب بالذكر، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب بالله وكشف وجوده. هـ. فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين.
وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين. أهل الأولى يستدلون بالأشياء على الله، وأهل الثانية يستدلون بالله على الأشياء فلا يرون إلا مظهر الأشياء. وشتّان بين مَن يستدل به أو يستدل عليه المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه. وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه! ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟!. كما في الحِكَم.
وقال في المناجاة: «إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!».
25
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: «كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! أم كيف يُعرف بشيء مَنْ سَبَقَ وجودُه كلَّ شيء؟ أي: وظهر بكل شيء». وفي ذلك يقول الشاعر:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيكَ شَهَادَةً وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد
وقال آخر:
لَقَدْ ظهرتَ فَمَا تَخْفَى على أحدٍ إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا
لَكِنْ بَطَنْتَ بِما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا
وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين باعتبار القرب والبُعد: فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين، والعلماء العابدين المجتهدين، وهم متفاوتون في القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق، وعلى قدر التخلية والتحلية. ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه، وهم أهل الشواغل والشواغب، والعلائق والعوائق. وعلامة القرب: وجود حلاوة المعاملة، كلذيذ المناجاة، والأنس به في الخلوات، ووجود حلاوة القرآن والتدبر في معانيه، حتى لا يشبع منه في كل أوان. وعلامة البعد: فقد الحلاوة المذكورة، وعدم الأنس به في الخلوة، وفقد حلاوة القرآن، ولو كان من أعظم علماء اللسان.
وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضاً: فمنهم من تشرق عليه الأنوار، وتحيط به الأسرار، فيغرق في الأنوار وتطمس عنه الآثار، فيسكر ويغيب عن الأثر في شهود المؤثر، ويسمى عندهم هذا المقام: مقام الفناء. ومنهم من يصحو من سكرته، ويفيق من صعقته، فيشهد المؤثر، لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقة عن جمعه، ولا يضره فناؤه عن بقائه، ولا بقاؤه عن فنائه، يعطي كل ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه، وهو مقام البقاء، ولا يصح وجوده إلا بعد وجود ما قبله، فلا بقاء إلا بعد الفناء، ولا صحو إلا بعد السكْر. ومن ترامى على هذا المقام- أعني مقام البقاء- من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب.
واعلمْ أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص، وطمأنينة العيان، إن حصلت، تزيد ولا تنقص. فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار، إما في عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات، فيطمئن إلى صانعٍ عظيم القدرة باهر الحكمة. وإما بالنظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وباهر علمه، وعجائب حكمه وأسراره، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية، مع كونه نبياً أمّياً. فإذا تحقق بمعرفة الرسول فقد
26
تحقق بمعرفة الله، واطمأن به لأنه الواسطة العظمى، بين الله وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات، كالذكر وغيره. ومنهم من تزيد طمأنينته بزيارة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر، ونور طمأنينتهم أبهر، لا سيما العارفين، وفي الأثر: تعلموا اليقينَ بمجالسةِ أهل اليقين.
وأما طمأنينة أهل الشهود: فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود، والترقي في العلوم والأسرار، والاتساع في المقامات إلى ما لا نهاية له، في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية، ففي كل نَفَس يُجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتُحف، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا الله بمقامهم، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين.
ولا بد في تحصيل طمأنينة الشهود من صُحبة شيخ عارف طبيبٍ ماهر، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمسُ البصيرة، فإذا اتصل بشيخٍ عارفٍ كحل عين بصيرته أولا بإثمد علم اليقين، فيدرك شعاع نور الحق قريباً منه، ثم يكحل عينه ثانياً بإثمد عين اليقين، فيدرك عدمه لوجود الحق، أي:
يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين فيدرك وجود الحق- بلا واسطة قدرة وحكمة، معنى وحساً، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله: «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه».
وأهل طمأنينة الشهود هم خاصة ورثة الرسول- عليه الصلاة والسلام- الذي أشار إليه بقوله:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٠]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
قلت: كَذلِكَ: مفعول مطلق بأرسلناك، أي: مثل ذلك الإرسال المتقدم أرسلناك. وقال ابن جزي: الكاف تتعلق بالمعنى الذي في قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. هـ. أي: كما أن الإضلال والهداية بيده كذلك اختصاصك بالرسالة إلى أمة... إلخ، وجملة: وَهُمْ يَكْفُرُونَ: حال من ضمير عَلَيْهِمُ أي: لتتلو عليهم في حال كفرهم لعلهم يؤمنون. ومَتابِ: مفعل، من التوبة.
يقول الحق جلّ جلاله: قد أرسلنا قبلك رسلاً فأنذروا وبشروا قومهم، كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ أي: مثل ذلك الإرسال أرسلناك في أمة، أو كما هدينا من أناب إلينا اختصصناك برسالتنا، فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أي: تقدمها أُمَمٌ أرسل إليهم رسلهم فليس ببدع إرسالك إلى هذه الأمة الأمية، لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: لتقرأ عليهم الكتاب، الذي أوحينا إليك، والحالة أنهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أي: بالبليغ
الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته، ووسعت كل شيء رحمته، فلم يشكروا ما أنعم به عليهم، وخصوصاً إرسالك إليهم، وإنزال القرآن عليهم، الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية. قيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: في قريش حين قالوا: لا نعرف الرحمن، والمعنى: أرسلناك إليهم رحمة لتتلو عليهم ما هو مناط الرحمة، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ-، والحال: أنهم يكفرون ببليغ الرحمة. قُلْ هُوَ رَبِّي أي: الرحمن خالقي ومتولي أمري، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ لا مستحق للعبادة غيره، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في أموري، ومن جملتها نصري عليكم. وَإِلَيْهِ مَتابِ مرجعي في أموري كلها، لا أرجع إلى أحد غيره، ولا أتعلق بشيء سواه.
الإشارة: قد بعث الله في كل عصر عارفاً بالله يحيي به الدين، ويعرف الطريق إلى رب العالمين فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة، غير أنهم تارة يخفون لفساد الزمان، وتارة يظهرون رحمة للأنام. فإذا وقع الإنكار عليهم، أو استغرب وجودهم، يقال لهم: كذلك أرسلنا في كل أمة نذيراً، وداعياً، فإرسالكم أنتم وإظهاركم ليس ببدع، لتعلموا الناس ما أوحي إليكم من طريق الإلهام فإظهاركم رحمة، وهم يكفرون هذه النعمة. فاعتمدوا على الرحمن، وثقوا بالواحد المنان، وارجعوا إليه في كل حال وشأن. فمن توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه حماه.
ثم رجع إلى تتميم الجواب عن قول الكفار: (لولا أنزل عليه آية من ربه)، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
قلت: جواب لَوْ: محذوف، أي: لم يؤمنوا لسابق الشقاء، أو: لكان هذا القرآن، وسيأتي بيانه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً أنزل عليك، من صفته: سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أي: زعزعت عن مقارها، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ: تصدعت وتشققت من خشية الله عند قراءته، أو: تشققت فجعلت أنهاراً وعيوناً، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتجيب من قبورها جهراً، لمّا آمنوا لعنادهم وغلبة الحسد عليهم. فهذا كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كانُوا لِيُؤْمِنُوا «١»،
(١) من الآية ١١١ من سورة الأنعام.
28
أو: ولو أن قرآناً بهذه الصفة: من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإعجاز، والنهاية في التذكير والإنذار، والأول أرجح لمناسبة ما قبله وما بعده.
رُوي أن قريشاً قالوا: يا محمد، إنْ سَرَّك أن نتبعك فَسَيِّرْ بقرآنك الجبالَ عن مكة، حتى تتسع لنا فنتخذها بساتين وقطائع. أو سخر لنا به الريح لنركبها، فَنَتَّجِرَ بها إلى الشام. أو ابعث لنا قُصَيَّ بن كلاب فإنه كان شيخَ صِدْقٍ، أو غيره من آبائنا، فيكلمونا فيك، ويشهدوا لك بما تقول. فنزلت الآية.
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ليس لي منه شيء، فهو القادر على الإتيان بما اقترحتموه من الآيات، إلا أن الإرادة لم تتعلق بذلك لأنه علم أنه لا ينجع فيكم شيء من ذلك لفرط عنادكم، فإذا رأيتموها قلتم: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «١». وبيَّن ذلك قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم، وفرط عنادهم، علماً منهم أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً، أو: أَفَلَمْ يَيْأَسِ أي:
يعلم الَّذِينَ آمَنُوا أن الهداية بيد الله، ومشيئته، فلو شاء لهدى الناس جميعاً. وكون «يَيْأَسِ» بمعنى «علم» : لغة هوازن فقد علموا بما أعلمهم إن الله لا يهدي من يضل. وقد قرأ علي وابن عباس وجماعة: «أفلم يتبين الذين آمنوا» وهو يقوي تفسير ييأس بيعلم.
قال البيضاوي: وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم، لأنه مُسَبِّبٌ عن العلم، فإن الميئوس منه لا يكون إلا معلوماً.
ولذلك علّقه بقوله: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وهو- على الأول- يتعلق بمحذوف تقديره: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم علماً منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. أو: بآمنوا، على حذف الجار، أي: بأن الله... الخ. هـ.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش والعرب، تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر والمعاصي، قارِعَةٌ:
داهية تقرعهم تقلقهم، وتصيبهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم. أو غزوات المسلمين إليهم، إمَّا أن تنزل بهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها وتتطاير إليهم شررها. وقيل: نزلت في كفار مكة، فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لا يزال يبعث السرايا، فتُغير حواليهم وتختطف أموالهم. وعلى هذا يجوز أن يكون ضمير تَحُلُّ خطاباً للرسول ﷺ أي: تحل بجيشك قريباً من دارهم، حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بالموت أو بالبعث أو فتح مكة. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لا متناع الخلف في وعده تعالى.
(١) كما جاء فى الآية ١٥ من سورة الحجر.
29
الإشارة: لو أن عارفاً بالله سيَّر الجبال عن أماكنها، وفجر الأرض عيوناً، وكلمه الموتى لما آمن بخصوصيته إلا مَن سبقت له عناية الخصوصية. فلو شاء الله لهدى الناس إلى معرفته جميعاً. لكن الحكمة اقتضت وجود الخلاف، قال تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «١»، فمن لم يهتد إلى معرفتهم لا يزال تطرقه قوارع الشكوك والأوهام، وخواطر السوء، أو تحل قريباً من قلبه، إن لم تتمكن فيه، حتى يأتي وعد الله بحضور موته، فقد يتداركه اللطف والرعاية، وقد يتسع الخرق عليه فيموت على الشك، والعياذ بالله. بخلاف من صَحِبَ أهل الطمأنينة واليقين، لا يموت إلا على اليقين لأن همة الشيوخ قد حَلَّقَتْ عليه، والعناية قد حفت به. والله ولي المتقين.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب)، والمراد باليد:
الهمة والحفظ. ووقت الموت أولى بالحضور، وقد شاهدنا ذلك من إخواننا ممن حضره الموت منهم، أخبر أنه يرى شيخه حاضراً معه. فللَّهِ الحمة والمنة.
ثم سلّى رسول الله ﷺ من إذاية قومه، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله، فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فأوذوا وأهِينُوا، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: أمهلتهم في دعة ورغد عيش، مدة من الزمان، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالهلاك والاستئصال، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟ أي: عقابي إياهم، وهو تهويل لما نزل بهم، وتخويف لغيرهم من المستهزئين بالرسول ﷺ والمقترحين عليه الآيات.
الإشارة: الاستهزاء بأهل الخصوصية في بدايتهم سنة ماضية، ويتسلون بمن سلف من خصوص الأنبياء والأولياء. وما هدد به الكفار يهدد به أهل الإنكار. وبالله التوفيق.
ثم وبخهم على الشرك وأوعدهم عليه، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
(١) من الآية ١١٨ من سورة هود.
30
قلت: أَفَمَنْ مع صلته: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: أفمن هو رقيب على كل شيء أحق أن يعبد أم غيره.
أو كمَن ليس كذلك؟!.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ أي: حفيظ رقيب على عمل كل نفس بِما كَسَبَتْ من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم، أحق أن يعبد أم غيره؟. أو كمن ليس كذلك ممن هو جماد لا يسمع، ولا يعقل!!. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ بعد هذا البيان التام، قُلْ لهم: سَمُّوهُمْ أي: اذكروا أسماءهم، فلا تجدون إلا أسماء إناث كاللات والعزى ومناة، أو أسماء أحجار وخشب فبأي وجه تستحق أن تعبد، وتشرك مع الله في ألوهيته؟.
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ بل أتخبرونه بما لا يعلم وجوده في الأرض، وهذا تهكم بهم، كأنهم علموا استحقاق الأصنام العبادة، ولم يعلمها الحق تعالى، وهو محال. والمعنى: أنَّ الله لا يعلمُ لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم فليسوا بشيء، فكيف تفترون الكذب في عبادتهم؟ أَمْ تسمونهم شركاء، بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ، من غير حقيقة واعتبار معنى، كتسمية الخبث مسكاً، والبول عطراً.
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي: انخداعهم وغرورهم حتى توهموا الباطل حقاً، أو مكرهم بالإسلام وكيدهم لأهله، وَصُدُّوا «١» عَنِ السَّبِيلِ أي: وصدُّوا الناس عن طريق الحق، حيث منعوهم من الإسلام.
ومن قرأ بضم الصاد مبنياً للمفعول فمعناه: صدَّهُم الشيطانُ عن طريق الحق وضلوا عنه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي: من يخذله الله فليس له من يوفقه غيره. لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والأسر، وسائر ما يصيبهم من المصائب، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
لشدته ودوامه، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
اي: من عذابه مِنْ واقٍ
يقيهم ويعصمهم منه.
الإشارة: كل مَنْ تحقق أن الله قائم عليه استحيا منه أن يُسيء الأدب بين يديه، يقول الله تعالى في بعض الأخبار: «أن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟». وكل من وقف مع الأسباب واعتمد عليها، أو طمع في الخلق وركن إليهم، فقد جعل لله شركاء، فيقال له: سَمِّ هؤلاء تجدهم خلقا عاجزين، لا قدرة لهم على شيء، ولا ينفعوك بشيء إلا ما قَسَم الله لك في الأزل.
بل زين لضعفاء اليقين مكرهم، حتى انخدعوا وافتتنوا برؤية الأسباب، أي: كفروا كفراً دون كفر بأن شكّوا فى
(١) قرأ عاصم وحمزة والكسائي، بضم الصاد، على البناء للمفعول، وقرأ الباقون بالفتح على البناء للفاعل.. انظر الإتحاف (٢/ ١٦٢).
31
الرزق، والشكُّ في الرزق شكٌ في الرزَّاق، وصدوا عن طريق اليقين، والغنى برب العالمين، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالذل والحرص والحرمان.
قال بعض العارفين: لو قيل للطمع: من أبوك؟ لقال: الشك في المقدور، ولو قيل له: ما حرفتك؟ لقال: الذل والهوان، ولو قيل له: ما غايتك؟ لقال: الحرمان. وفي الحِكَم: «ما بَسَقَتْ أغصانُ ذُلٍّ إلا عَلَى بَذْرِ طَمعٍ». وقال
الشاعر:
العَبدُ حُرٌّ مَا قَنَع والحرُّ عَبدٌ ما طَمعْ
ولعذاب الآخرة أشق حيث يسقط بضعف يقينه عن درجة المقربين على سبيل الدوام، وما لهم من الله من واق يقيهم من غم الحجاب، وعدم اللحوق بالأحباب الذين ترقوا إلى القرب من الحبيب. والله تعالى أعلم.
ثم وصف الجنة تشويقا وترغيبا فى سلوك طريقها وهو الإيمان، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
قلت: مَثَلُ الْجَنَّةِ: مبتدأ. قال سيبويه: الخبر محذوف، أي: فيما يتلى عليكم صفة الجنة. وقال الفراء: الخبر هو: تَجْرِي... إلخ، وعلى قول سيبويه يكون تَجْرِي: حالاً من العائد المحذوف، أي: التي وُعدها المتقون حَالَ كَوْنِها تجري... إلخ. والمراد بالمثل هنا: الصفة، لا ضرب المثل. وظِلُّها: مبتدأ حُذِف خبره، وظلها كذلك.
والأكُل بضم الهمزة: المأكول، ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها، وأما الأكل بالفتح فمصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: صفة الجنة التي وُعِدَها المتقون هي غرف وقصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء وخمر وعسل ولبن، أُكُلُها دائِمٌ ما يؤكل من ثمارها وأنواع أطعمتها لا ينقطع، وَظِلُّها دائم، لا يُنسخ بالشمس كظلال الدنيا، تِلْكَ الجنة الموصوفة بهذه الأوصاف هي عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي، هى مآلهم وعاقبة استقرارهم، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا محيد عنها، هى مآلهم وإليها رجوعهم.
وفي ترتيب العقبيين إطماع للمتقين، وإقناط للكافرين.
الإشارة: مثل جنة المعارف التي وعدها المتقون لكل ما يشغل عن الله هي حضرة مقدسة، يتنعم فيها أسرار العارفين، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والحكم، لذتها وقُوت الأرواح فيها دائم، وهي الفكرة في ميادين أنوار
التوحيد، وجولان الروح في فضاء أسرار التفريد. وظل روحها وريحانها دائم، وهو: سكون القلب إلى الله، وفرح الروح بشهود الله. وإليه أشار ابن الفارض بقوله، رحمه الله، فى وصف خمرتها:
وإِنْ خَطَرَتْ يَوْماً علَى خاطِر امْرِئ أقَامَتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهم
تلك عقبى الذين أتقَّوا السِّوى، وعقبى المنكرين لوجود أهل هذه الجنة نار القطيعة والبعد. أعاذنا الله من ذلك.
ثم ذكر حال الفريقين: أهل الفرح بالله، وأهل الإنكار على أحباء الله، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
قلت: حُكْماً: حال من ضمير أَنْزَلْناهُ.
يقول الحق جلّ جلاله، في حق من سبقت له السعادة: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كعبد الله بن سلام ومخيريق وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى، وهم: ثمانون رجلاً: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون من الحبشة. أو: كل مَن آمن مِن أهل الكتاب، فإنهم كانوا يَفْرَحُونَ بما يوافق كتبهم. ثم ذكر ضدهم فقال: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي: ومن كَفَرتهِم الذين تحزّبوا على رسول الله ﷺ بالعداوة والشحناء ككعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود، والعاقب والسيد وأشياعهما من النصارى، مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، وهو ما يخالف شرائعهم التي نُسخت به، أو ما يوافق ما حرّفوا منها.
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، وهو جواب للمنكرين، أي: قل لهم: إنما أمرت فيما أنزل إليَّ أن أعبد الله وأوحده، وهو العمدة في الأديان كلها، فلا سبيل لكم إلى إنكاره. وأما إنكاركم ما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام لأنها تابعة للمصالح والعوائد، وتتجدد بتجددها. إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره، وَإِلَيْهِ مَآبِ أي: وإليه مرجعي بالبعث لا إلى غيره. وهذا هو القدْر المتفق عليه من الشرائع، وهو الأمر بعبادة الله وحده، والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه، وهو الرجوع بالبعث يوم القيامة فلا يخالف ما قبله من الشرائع، فلا معنى للإنكار حينئذٍ.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: ومثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الدين المجمع عليها، أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي: يحكم في القضايا والوقائع، بما تقتضيه الحكمة، مترجماً بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه وحفظه.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها كتقرير دينهم، والصلاة إلى قبلتهم بعد ما حُوِّلْتَ عنها، بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بنسخ ذلك، ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينصرك، وَلا واقٍ يقيك عتابه. وهو حسم لأطماعهم، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الفرح بما أُنزل من عند الله هو مقدمات الفرح بالله، فإذا رفعت أكنة الغفلة عن القلب تلذذ بسماع الخطاب من وراء الباب، وذلك أمارة القرب. وهذا مقام أهل المراقبة من المحبين. فإذا جدَّ في السير رُفعت عنه الحجب والأستار، وواجهته الأنوار والأسرار، فيكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات، فيتلذذ بشهود المتكلم، فيسمع حينئذٍ الكلام من المتكلّم به بلا واسطة. وهذا مقام أهل الشهود من المحبين المقربين. (ومن الأحزاب)، وهم أهل الرئاسة والجاه، من ينكر وجود بعض هذه المقامات تعصباً وحمية. أو ينسبها لنفسه غلطاً وجهلاً، فيقول له من تحقق بهذا المقام: إنما أمرتُ أن أعبدَ اللهَ ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب. ويغيب عنه بالاشتغال بالله، وبالدعاء إليه. فإن غفل واشتغل به، أو ركن إلى قوله، قيل له: ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق.
ولما قالت اليهود- لعنهم الله- لو كان محمد رسولا لما أولع بالنساء، ردّ الله عليهم بقوله:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً كثيرة:
كداود عليه السلام كان له مائة امرأة، وابنه كان له ألف، على ما قيل، وغيرهما من الأنبياء والرسل. وَجعلنا لهم منهن ذُرِّيَّةً، وأنت يا محمد منهم فليس ببدع أن يكون الرسول بشراً، يتزوج النساء، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، إلا أنه لا يشغله ذلك عن أداء الرسالة، ونصيحة الأمة، وإظهار شريعة الدين، والقيام بحقوق رب العالمين. ولما أجابهم بشبهتهم قالوا: أظهر لنا معجزة كما كانت لهم، كالعصا وفلق البحر، وإحياء الموتى؟ فإنزل الله وَما كانَ لِرَسُولٍ ما صح له ولم يكن في وسعه أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تُقترح عليه، ويظهرها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وإرادته فإنه القادر على ذلك. لِكُلِّ أَجَلٍ من آجال بني آدم وغيرهم، كِتابٌ يُكتب فيه وقت موته، وانتقاله من الدنيا.
34
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ديوان الأحياء، فيكتب في الأموات، وَيُثْبِتُ من لا يموت. قيل: إن هذا الكتاب يُكتب ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، ويجمع بينهما بأن الكتابة تقع ليلة النصف، وإبرازه للملائكة ليلة القدر، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي: الأصل المنسوخ منه كتب الآجال، وهو اللوح المحفوظ، أو العلم القديم. وهذا التفسير يناسب اقتراح الآيات لأنهم إذا أجيبوا بظهور الآية ولم يؤمنوا، عوجلوا بالهلاك، وذلك له كتاب محدود. قال الورتجبي: بيِّن الحق- سبحانه- أن أوان إتيان الآية بأجل معلوم في وقت معروف، بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي:
لكل مقدور في الأزل في قضية مرادة وقت معلوم في علم الله، لا يأتي إلا في وقته هـ.
أو: لِكُلِّ أَجَلٍ أي: عصر وزمان، كِتابٌ فيه شريعة مخصوصة على ما يقتضيه استصلاحهم.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ: ينسخ ما يستصوب نسخه من الشرائع، وَيُثْبِتُ ما تقتضي الحكمة عدم نسخه.
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وهو: اللوح المحفوظ فإنه جامع للكائنات. وهذا يترتب على قوله: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، وهو ما لا يوافق شريعتهم. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ما يستصوب نسخه، وَيُثْبِتُ ما تقتضيه حكمته، فلا ينكر مخالفته للشرائع في بعض الأحكام مع موافقته للحكم، وهو الأصول الثابتة في أصول الشرائع، ولذا قال: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي: لا يبدل. هـ.
وقريب منه للبيضاوي.
وقيل: إن المحو والإثبات عام في جميع الأشياء. قال ابن جزي: وهذا ترده القاعدة المتقررة بأن القضاء والقدر لا يتبدل، وعلم الله لا يتغير. هـ. قلت: أما القضاء المبرم وهو: علم الله القديم الذي استأثر الله به، فلا شك أنه لا يتبدل ولا يتغير، وأما القضاء الذي يبرز إلى علم الخلائق من الملائكة وغيرهم، فيقع فيه المحو والإثبات، وذلك أن الحق تعالى قد يُطلعهم على بعض الأقضية، وهي عنده متوقفة على أسباب وشروط، يخفيها عنهم بقهريته، ليظهر اختصاصه بالعلم الحقيقي، فإذا أراد الملائكة أن ينفذوا ذلك الأمر محاه الله تعالى، وأثبت ما عنده في علم غيبه، وهو أُمُّ الكتاب، حتى قال بعضهم: إن اللوح الحفوظ له جهتان: جهة تلي عالَم الغيب، وفيه القضاء المبرم، وجهة تلي عالَم الشهادة، وفيه القضاء الذي يُرد ويُمْحى لأنه قد تكتب فيه أمور، وهي متوقفة على شروط وأسباب في علم الغيب، لم تظهر في هذه الجهة التي تلي عَالَم الشهادة، فيقع فيها المحو والإثبات، وبهذا يندفع إشكالات كقوله في الحديث: «لا يَرُدُ القَضَاءَ إلا الدُّعَاءُ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العُمُر» «١».
(١) أخرجه بنحوه الترمذي، فى (كتاب القدر، باب: ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء)، من حيث سلمان. وأخرج البخاري فى (الأدب باب، من بسط له فى الرزق) من حديث أبى هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبسط له فى رزقه وأن ينسأ له فى أثره، فليصل رحمه». [.....]
35
وقول ابن مسعود، وعمر- رضى الله عنهما-: اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاء فامحنا، واكتبنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. هـ. أي: إن كنت أظهرت شقاوتنا فامحها، وأظهر سعادتنا فإنك تمحو ما تشاء... إلخ. وفي ابن عطية ما يشير إلى هذا، قال: وأصوب ما يفسر به أم الكتاب، أنه كتاب الأمور المجزومة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن، وسبق ألا تبدل، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتُمحى وتثبت. قال نحوه قتادة. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ... الآية، قد أثبت تعالى لأهل خصوصية النبوة والرسالة الأزواج والذرية، وكان ذلك كمالاً في حقهم. وكذلك أهل خصوصية الولاية، تكون لهم أزواج وذرية، ولا يقدح في مرتبتهم، بل يزيد فيها، وذلك بشرط أن يقع ذلك بعد التمكين، أو يكون في صُحبة شيخ عارف كامل عند أمره ونهيه، يكون فعل ذلك بإذنه، فإذا كان هذا الشرط فإن التزوج يزيد صاحبه تمكيناً من اليقين.
قال الورتجبي في هذه الآية: أعْلَمَ تَعالى، بهذه الآية، الجُهَّال أنه إذا شَرَّف وليّاً أو صدِّيقاً بولايته ومعرفته لم يَضُرّ بِه مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد، ولم يكن بسْط الدنيا له قدحاً في ولايته. هـ.
وقال الغزالي في الإحياء، في الترغيب في النكاح: قال تعالى في وصف الرسل ومَدْحِهِم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً، فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل، ومَدَح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ «١» الآية، ويقال: أن الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين. وقالوا: إن يحيى عليه السلام قد تزوج فلم يجامع.
قيل: إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السُّنة، وقيل: لغض البصر. وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض، ويولدُ له.
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم: «النَّكَاحُ سُنَّتي، فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتي فَليسْتَنَّ بِسُنَّتِي». وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «تَنَاكَحُوا تَكَاثَروا فإنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة، حَتَّى السَّقْط». وقال أيضاً: «مَنْ رَغِبَ عَن سُنتي فَليس مِنِّي، وإِنَّ مِنْ سُنَّتي النِّكاحَ، فَمَنْ أحَبَّنِي فليستنّ بسنّتى». وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّج مَخَافَةَ العَيْلة فَلَيس مِنَّا». وقال صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ نَكَحَ لله وأَنكَحَ لله استَحَقَّ ولايَة الله».
(١) من الآية ٧٤ من سورة الفرقان.
36
ثم قال «١» : وقال ابن عباس لابنه: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. وكان ابن مسعود يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج، لا ألقى الله عزبا. وكان معاذ رضي الله عنه مطعوناً وهو يقول: زوجوني، لا ألقى الله عزبا. وكان ماتت له زوجتان بالطاعون. وكان عُمَرُ يكثر النكاح، ويقول: لا أتزوج إلا للولد. وكان لعليّ رضي الله عنه أربع نسوة، وسبع عشرة سرية، وهو أزهد الصحابة. فدل أن تزوج النساء لا يدل على الرغبة في الدنيا.
قال سفيان: كثرة النساء ليس من الدنيا. واستدل بقضية عليّ رضي الله عنه قال: وكان أزهد الصحابة. ورُوي أن بشر الحافي رُئيَ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: رفعت إلى منازلي في الجنة فأشرفت على مقامات الأنبياء، ولم أبلغ منازل المتأهلين. وفي رواية: قال لي: ما كنت أحب أن تَلقاني عَزَباً، قال الرائي: فقلت له: ما فعل أبو نصير التمار؟ قال: رُفع فوقي بسبعين درجة بصبره على بُنياته وعياله. وقد قيل: فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد، وركعةٌ مِنْ متأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب. هـ. كلام الغزالي باختصار.
وقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ، من جملة ما يقع فيه المحو والإثبات الواردات الإلهية التي ترد على القلوب من تجليات الغيوب فإن القلب إذا تطهر من الأكدار، وصفا من الأغيار، كان كل ما يتجلى فيه من الغيوب فهو حق، إلا أنه ينسخ بعضها بعضاً فقد يخبر الولي بأمر، يكون، أوْ لا يكون على حسب ما تجلى في قلبه، ثم يمحو الله ذلك، ويثبت في قلبه خلافه. أو يظهر في الوجود خلاف ما أخبر، وليس بكذب في حقه، ولكن الحق تعالى يُظهر لخلقه أموراً من مقدوراته، متوقفاً وجودُها على أسبابٍ وشروطٍ أخفاها الحق تعالى عن خلقه، ليظهر عجزهم عن إحاطة علمه. فالنسخ إنما يقع في فعله لا في أصل علمه.
قال الأستاذ القشيري: المشيئة لا تتعلق إلا بالحدوث، والمحو والإثبات لا يكون إلا من أوصاف الحدوث، فصفات ذات الحق- سبحانه- من كلامه وعلمه، لا يدخل تحت المحو والإثبات، إنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله. هـ. وقال سهل رضي الله عنه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الأسباب، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ القضاء المبرم. هـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ: العلم الأول الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل، ولا يقبل النسخ والتحريف. ومطالعته: بالفناء عن الحقيقة الخَلْقِية، والبقاء بالأنوار الصمدانية، والأنفاس الرحمانية. قال في القوت: والمحبة من أشرف المقامات، ليس فوقها إلا مقام الخُلَّة، وهو مقام في المعرفة الخاصة، وهي: تخلّل أسرار الغيب، فيطلع على مشاهدة المحبوب، بان يعطى إحاطة بشيء من علمه بمشيئته، على مشيئته
(١) أي: الإمام الغزالي، رحمه الله تعالى.
37
التي لا تتقلب، وعلمه القديم الذي لا يتغير. وفي هذا المقام: الإشراف على بحار الغيوب، وسرائر ما كان في القديم، وعواقب ما يدب. ومنه: مكاشفة العبد بحاله، وإشهاده من المحبة مقامه، والإشراف على مقامات العباد في المآل، والاطلاع عليهم في تقلبهم في الأبد حالاً ومآلاً. هـ.
قلت: هذا الاطلاع إنما هو إجمالي لا تفصيلي، وقد يقع فيه المحو والإثبات لأنه من جملة المعلومات التي دخلت عالم التكوين، التي يقع فيها التبديل والتغيير.
ثم قال صاحب القوت: وقد قال أحسن القائلين: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ «١»، والاستثناء واقع على إعطاء الإحاطة بشيء من شهادة علمه، بنورٍ ثاقبٍ من وصفه، وشعاع لائحٍ من سبحاته، إذا شاء، وذلك إذا أخرجت النفس من الروح، فكان روحانياً، خُروجَ الليلِ من النهار. هـ.
ثم تمّم الجواب عن اقتراحهم الآيات، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
قلت: وَإِنْ ما: شرطية، اتصلت ما الزائدة بأن الشرطية للتأكيد، والجواب: فَإِنَّما... إلخ، أو: فلا تحتفل فإنما... إلخ، ولا مُعَقِّبَ: في موضع الحال، أي: يحكم نافذاً حكمه، كقوله: جاء زيد لا سلاح معه، أي: حاسرا.
ومَنْ عِنْدَهُ: عطف على بِاللَّهِ.
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه ﷺ تسكيناً له: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب الذي استعجلوه، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن ترى ذلك، فلا تحتفل بشأنهم، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ للرسالة لا غير، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ: المجازاة. والمعنى: كيفما دار الحال دُرْ معه، أريناك بعض ما أوعدناهم في حياتك، أو توفيناك قبله، فلا تهتم بإعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم فإنا فاعلون ذلك لا محالة، وهذا طلائعه، فقد فتحنا عليك كثيراً من بلادهم ونقصناها عليهم.
(١) من الآية: ٢٥٥ من سورة البقرة.
38
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي: أرض الكفرة، نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتحه على المسلمين منها، فيخافوا أن نُمَكّنك من أرضهم، وتنزل بساحتهم، منصوراً عليهم، فإذا نزلتَ بساحتهم، ولم يخضعوا لك، فساء صباح المنذرين. وقيل: الأرض جنس، ونقصها بموت الناس، وهلاك الثمرات، وخراب البلاد، وشبه ذلك. وذلك مقدمات العذاب الذي حَكَمَ به عليهم، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ: لا راد له. والمعقب: الذي يعقب الشيء بالأبطال، ومنه قيل لصاحب الدَيْن: معقب لأنه يعقب غريمه للاقتضاء، والمعنى: أنه حكم للأسلام بالإقبال، وعلى الكفرة بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيحاسبهم عما قليل في الآخرة، بعد ما عذَّبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنبيائهم، وبمن تبعهم، فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً، إذ لا يُؤبه بمكرٍ دون مكره، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره. سَمَّى العقوبة باسم الذنب للمشاكلة، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فينفذ جزاءها. وَسَيَعْلَمُ الكافر «١» أي: جنس الكافر، بدليل قرأءة: «الْكُفَّارُ»، لِمَنْ هي عُقْبَى الدَّارِ أي: لمن تكون العاقبة في الدارين، دار الفناء ودار البقاء، هل لأهل الإسلام المعد لهم دار السلام؟
أو للكفار المعد لهم دار البوار؟. قال البيضاوي: وهذا كالتفسير لمكر الله بهم، واللام تدل على أن المراد بالعُقبى العاقبة المحمودة، مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت. هـ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء اليهود: لَسْتَ مُرْسَلًا، ولم نجد لك ذكراً في كتابنا، ولا ما يشهد لك عندنا. قال تعالى: قُلْ لهم: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها منكم، ولا من غيركم. وَيشهد لي أيضاً: مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ الأول العلم الحقيقي، كعبد الله بن سلام، ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين علموا صفته ﷺ من التوراة والإنجيل، وعلماء المؤمنين الذين عندهم علم القرآن، وما احتوى عليه من النظم المعجز، والعلوم الغيبية الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم.
أو علم اللوح المحفوظ، وهو الله، أي: كفى بالله الذي لا يستحق العبادة غيره، وبمن لا يعلم ما فى اللوح المحفوظ إلا هو، شهيداً بيننا. ويؤيده قراءة مَن قرأ: «وَمَنْ عِنْدَهُ» بكسر الميم. وعلم الكتاب، على الأول: مرفوع بالظرف فإنه معتمد على الموصول. ويجوز أن يكون مبتدأ، والظرف خبره. وهو متعين على الثاني. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد قال تعالى في الحديث القدسي: «مَنْ آذى لي وليّاً فقد آذَنَ بالحَرْب». وجرت عادة الله تعالى أن ينتقم لأوليائه، ويغار عليهم، ولو بعد حين، فإذا أُوذي أحدُهم، واستعجل ذلك يقول له الحق تعالى ما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك، فليس الأمر بيدك، فإنما عليك بلاغ ما جاء به
(١) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «الكفار» جمع تكسير. وقرأ الباقون. (الكافر) على الإفراد... انظر الإتحاف (٢/ ١٦٣).
39
نبيك من نصح العباد، وإرشادهم إلى معالم دينهم، وتصفية بواطنهم، وعلينا الحساب فنُجازي مَنْ أقَْبَلَ ومَنْ أدْبَرَ. ومن جملة الانتقام: حَبسُ الأمطار، ونقص الثمار، وتخريب البلاد، وكثرة موت العباد، فتنقص الأرض من أطرافها. أفلم يعتبروا بذلك، ويقصروا عن مكرهم بأولياء الله؟.
وقد مكر الذين من قبلهم بأولياء زمانهم، فلم يغنوا شيئاً، فَمَكَرَ الله بهم، وخذلهم عن طاعته، وسيعلم أهل الإنكار لِمن تكون عاقبة الدار. ويقول الذين كفروا بخصوصية وليّ من أولياء الله: لست وليّاً. فيقول لهم: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم، ومن عنده علم الخصوصية، وهم: السادات الصوفية، فلا يعرف الوليَّ إلا وليُّ مثله، ولا يعرف أهلَ الخصوصية إلا مَنْ له الخصوصية. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
40
Icon