ﰡ
صرح في هذه الآية بأن هذا القرءان هُدًى لّلْمُتَّقِينَ، ويفهم من مفهوم الآية أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب أن غير المتقين ليس هذا القرآن هدى لهم، وصرح بهذا المفهوم في آيات أخر كقوله :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ وقوله :﴿ وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ وقوله :﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم و ماتوا وهم كافرون ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾.
ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق، لا الهدى العام، الذي هو إيضاح الحق.
عبر في هذه الآية الكريمة «بمن » التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه اللَّه بعض ماله لا كله. ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه. ولكنه بيَّن في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه : هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها، وذلك كقوله :﴿ ويَسْئَلُونَكَ ماذا ينفقون قل العفو ﴾، والمراد بالعفو : الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور.
ومنه قوله تعالى :﴿ حَتَّى عَفَواْ ﴾، أي : كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم.
وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع. ومنه قول الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودتي | ولا تنطقي في سورتي حين أغضب |
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾، فنهاه عن البخل بقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ﴾. ونهاه عن الإسراف بقوله :﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾، فيتعين الوسط بين الأمرين. كما بينه بقوله :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ٦٧ ﴾ فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير، وبين البخل والاقتصاد. فالجود : غير التبذير، والاقتصاد : غير البخل. فالمنع في محل الإعطاء مذموم. وقد نهى اللَّه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ﴾، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضًا وقد نهى اللَّه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :
﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾. وقد قال الشاعر :
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت | يداه كالمزن حتى تخجل الديما |
فإنها فلتات من وساوسه | يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما |
إن الصنيعة لا تعد صنيعة | حتى يصاب بها طريق المصنع |
فالظاهر في الجواب - واللَّه تعالى أعلم - هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعًا. وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة. كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم :« وابدأ بمن تعول »، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم، فلا يجوز له ذلك، والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقًا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال.
وأما على القول بأن قوله تعالى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ٣ ﴾ يعني به الزكاة. فالأمر واضح، والعلم عند اللَّه تعالى.
لا يخفى أن الواو في قوله :﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ﴾ محتملة في الحرفين أن تكون عاطفة على ما قبلها، وأن تكون استئنافية. ولم يبين ذلك هنا، ولكن بين في موضع آخر أن قوله ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ معطوف على قوله ﴿ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾، وأن قوله ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ﴾ استئناف، والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو ﴿ غِشَاوَةً ﴾ وسوغ الابتداء بالنكرة فيه اعتمادها على الجار والمجرور قبلها. ولذلك يجب تقديم هذا الخبر، لأنه هو الذي سوغ الابتداء بالمبتدأ كما عقده في الخلاصة بقوله :
ونحو عندي درهم ولي وطر | ملتزم فيه تقدم الخبر |
هويتك إذ عيني عليها غشاوة | فلما انجلت قطعت نفسي ألومها |
علفتها تبنًا وماءًا باردًا | حتى شتت همالة عيناها |
ورأيت زوجك في الوغى | متقلدًا سيفًا ورمحا |
إذا ما الغانيات برزن يومًا | وزجّجن الحواجب والعيونا |
لم يبين هنا شيئًا من استهزائه بهم. وذكر بعضه في سورة الحديد في قوله :﴿ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ﴾.
ظاهر هذه الآية أن المنافقين متصفون بالصمم، والبكم، والعمى. ولكنه تعالى بيّن في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم، هو عدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم وذلك في قوله جلّ وعلا :﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شيء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون٢٦ ﴾.
الصيِّب : المطر، وقد ضرب اللَّه في هذه الآية مثلاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم بالمطر ؛ لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح، كما أن بالمطر حياة الأجسام.
وأشار إلى وجه ضرب هذا المثل بقوله جلّ وعلا :﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ﴾.
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المثل المشار إليه في الآيتين في حديث أبي موسى المتفق عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم :« إن مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا. فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تُنْبتُ كلأً. فذلك مثل من فقه في دين اللَّه ونفعه اللَّه بما بعثني به، فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى اللَّه الذي أرسلت به ».
قوله تعالى :﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ ﴾.
ضرب اللَّه تعالى في هذه الآية الْمثل لما يعتري الكفار والمنافقين من الشبه والشكوك في القرآن، بظلمات المطر المضروب مثلاً للقرآن، وبيّن بعض المواضع التي هي كالظلمة عليهم ؛ لأنها تزيدهم عمى في آيات أخر لقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ على الذين هدى اللهَ ﴾ ؛ لأن نسخ القبلة يظن بسببه ضعاف اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس على يقين من أمره حيث يستقبل يومًا جهة، ويومًا آخر جهة أخرى، كما قال تعالى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلهمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾.
وصرح تعالى بأن نسخ القبلة كبير على غير من هداه اللَّه وقوّى يقينه، بقوله :﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾، وكقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في الْقُرْآنَ ﴾، لأن ما رآه ليلة الإسراء والمعراج من الغرائب والعجائب كان سببًا لاعتقاد الكفار أنه صلى الله عليه وسلم كاذب ؛ لزعمهم أن هذا الذي أخبر به لا يمكن وقوعه. فهو سبب لزيادة الضالين ضلالاً. وكذلك الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم. فهي سبب أيضًا لزيادة ضلال الضالين منهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الْجَحِيمِ ٦٤ ﴾، قالوا : ظهر كذبه ؛ لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في أصل النار.
وكقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر ٣٠َ ﴾. قال بعض رجال قريش : هذا عدد قليل فنحن قادرون على قتلهم، واحتلال الجنة بالقوة ؛ لقلة القائمين على النار التي يزعم محمّد صلى الله عليه وسلم أنّا سندخلها.
واللَّه تعالى إنما يفعل ذلك اختبارًا وابتلاءً، وله الحكمة البالغة في ذلك كله سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا.
قوله تعالى :﴿ وَرَعْدٌ ﴾.
ضرب اللَّه المثل بالرعد لما في القرآن من الزواجر التي تقرع الآذان وتزعج القلوب. وذكر بعضًا منها في آيات أخر كقوله :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ﴾ الآية - وكقوله :﴿ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ﴾ الآية- وكقوله :﴿ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يدي عَذَابٍ شَدِيد ٤٦ٍ ﴾.
وقد ثبت في صحيح البخاري في تفسير سورة الطور من حديث جبير بن مطعم رضي اللَّه عنه أنه قال : " سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقرأ في المغرب بالطور. فلما بلغ هذه الآية ﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شيء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ٣٥ ﴾ إلى قوله ﴿ الْمُصَيْطِرُونَ ٣٧ ﴾ كاد قلبي أن يطير. إلى غير ذلك من قوارع القرآن وزواجره، التي خوفت المنافقين حتى قال اللَّه تعالى فيهم :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ﴾، والآية التي نحن بصددها، وإن كانت في المنافقين. فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
قوله تعالى :﴿ وَبَرْقٌ ﴾.
ضرب تعالى المثل بالبرق لما في القرآن من نور الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة. وقد صرح بأن القرآن نور يكشف اللَّه به ظلمات الجهل والشك والشرك. كما تكشف بالنور الحسي ظلمات الدجى كقوله :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ١٧٤ ﴾ وقوله :﴿ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ﴾، وقوله :﴿ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ١٩ ﴾.
قال بعض العلماء : مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ : أي مهلكهم، ويشهد لهذا القول قوله تعالى :﴿ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾، أي تهلكوا عن آخركم. وقيل : تغلبوا. والمعنى متقارب، لأن الهالك لا يهلك حتى يحاط به من جميع الجوانب، ولم يبق له منفذ للسلامة ينفذ منه. وكذلك المغلوب، ومنه قول الشاعر :
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا | بما قد رأوا مالوا جميعًا إلى السلم |
أي يكاد نور القرآن لشدة ضوئه يعمي بصائرهم، كما أن البرق الخاطف الشديد النور يكاد يخطف بصر ناظره، ولاسيما إذا كان البصر ضعيفًا ؛ لأن البصر كلما كان أضعف كان النور أشد إذهابًا له. كما قال الشاعر :
مثل النهار يزيد أبصار الورى | نورًا ويعمي أعين الخفاش |
خفافيش أعماها النهار بضوئه | ووافقها قطع من الليل مظلم |
وقال بعض العلماء : يكاد البرق يخطف أبصارهم أي : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين.
قوله تعالى :﴿ كلما أضاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وإذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ﴾.
ضرب الله في هذه الآية المثل للمنافقين بأصحاب هذا المطر إذا أضاء لهم مشوا في ضوئه وإذا أظلم وقفوا، كما أن المنافقين، إذا كان القرآن موافقًا لهواهم ورغبتهم عملوا به، كمناكحتهم للمسلمين وإرثهم لهم. والقسم لهم من غنائم المسلمين، وعصمتهم به من القتل مع كفرهم في الباطن، وإذا كان غير موافق لهواهم. كبذل الأنفس والأموال في الجهاد في سبيل الله المأمور به فيه وقفوا وتأخروا. وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله :﴿ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ ٤٨ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ٤٩ ﴾.
وقال بعض العلماء :﴿ كلما أضاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ ﴾ أي : إذا أنعم الله عليهم بالمال والعافية قالوا : هذا الدين حق، ما أصابنا منذ تمسكنا به إلا الخير ﴿ وإذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ﴾ أي : وإن أصابهم فقر أو مرض أو ولدت لهم البنات دون الذكور. قالوا : ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذا الدين وارتدوا عنه. وهذا الوجه يدل له قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ١١َ ﴾.
وقال بعض العلماء : إضاءته لهم معرفتهم بعض الحق منه، وإظلامه عليهم ما يعرض لهم من الشك فيه.
أشار في هذه الآية إلى ثلاثة براهين من براهين البعث بعد الموت وبيَّنها مفصلة في آيات أخر.
البرهان الأول : خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله :﴿ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾. لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ الآية وقوله :﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾، وكقوله :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، وقوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، وقوله :﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأول بَلْ هُمْ في لَبْسٍ ﴾ الآية، وكقوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ﴾، وكقوله :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولى ﴾ الآية.
ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول، كما في قوله :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أئذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ٦٦ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئا٦٧ ﴾ ؛ ثم رتب على ذلك نتيجة الدليل بقوله :﴿ فو ربك لنحشرنهم ﴾ الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
البرهان الثاني : خلق السماوات والأرض المشار إليه بقوله :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بناء ﴾ لأنهما من أعظم المخلوقات، ومن قدر على خلق الأعظم، فهو على غيره قادر من باب أحرى. وأوضح اللَّه تعالى هذا البرهان في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾، وقوله :﴿ أَوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ٨١ ﴾، وقوله :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يعي بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يحي الْمَوْتَى بَلَى ﴾، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾، وقوله :﴿ أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ٢٧ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ٢٨ ﴾ الآية إلى غير ذلك من الآيات.
البرهان الثالث : إحياء الأرض بعد موتها ؛ فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت، كما أشار له هنا بقوله :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السماء ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ وأوضحه في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لمحي الموتى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شيء قَدِيرٌ ٣٩ ﴾، وقوله :﴿ فَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذلك الْخُرُوجُ ١١ ﴾، يعني : خروجكم من قبوركم أحياء بعد أن كنتم عظامًا رميمًا. وقوله :﴿ و يحي الأرض بعد موتها و كذلك تخرجون ١٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ كَذلك نُخْرِجُ الْموْتَى لعلكم تذكرون ٥٧ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
لم يصرح هنا باسم هذا العبد الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وصرح باسمه في موضع آخر وهو قوله :﴿ وآمَنُواْ بما نزل على محمد ﴾ صلوات اللَّه وسلامه عليه.
هذه الحجارة قال كثير من العلماء : إنها حجارة من كبريت. وقال بعضهم : إنها الأصنام التي كانوا يعبدونها. وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ الآية...
لم يبيّن هنا أنواع هذه الأنهار، ولكنه بيّن ذلك في قوله :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ م ن عسل مصفى ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فيها أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾.
لم يبيّن هنا صفات تلك الأزواج، ولكنه بين صفاتهن الجميلة في آيات أخر كقوله :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ ٤٨ ﴾، وقوله :﴿ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ٥٨ ﴾، وقوله :﴿ وَحُورٌ عِينٌ ٢٢ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ٢٣ ﴾، وقوله :﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ٣٣ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات المبيّنة لجميل صفاتهن، والأزواج : جمع زوج بلا هاء في اللغة الفصحى، والزوجة [ بالهاء ] لغة لا لحن، كما زعمه البعض.
وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم :« إنها زوجتي »، أخرجه مسلم.
ومن شواهده قول الفرزدق :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي | كساع إلى أسد الشرى يستبيلها |
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي | والظاعنون إليّ ثم تصدعوا |
لم يبيّن هنا هذا الذي أمر به أن يوصل، وقد أشار إلى أن منه الأرحام بقوله :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ في الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ٢٢ ﴾.
وأشار في موضع آخر إلى أن منه الإيمان بجميع الرسل، فلا يجوز قطع بعضهم عن بعض في ذلك بأن يؤمن ببعضهم دون بعضهم الآخر. وذلك في قوله :﴿ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً ١٥٠ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ﴾.
ظاهره أن ما في الأرض جميعًا خلق بالفعل قبل السماء، ولكنه بين في موضع آخر أن المراد بخلقه قبل السماء، تقديره، والعرب تسمي التقدير خلقًا كقول زهير :
ولأنت تفرى ما خلقت وبعض | القوم يخلق ثم لا يفري |
في قوله :﴿ خَلِيفَةً ﴾ وجهان من التفسير للعلماء :
أحدهما : أن المراد بالخليفة أبونا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ؛ لأنه خليفة اللَّه في أرضه في تنفيذ أوامره. وقيل : لأنه صار خلفًا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله، وعليه فالخليفة : فعيلة بمعنى فاعل. وقيل : لأنه إذا مات يخلفه من بعده، وعليه فهو من فعيلة بمعنى مفعول. وكون الخليفة هو آدم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية.
الثاني : أن قوله خَلِيفَةً مفرد أريد به الجمع، أي خلائف، وهو اختيار ابن كثير. والمفرد إن كان اسم جنس يكثر في كلام العرب إطلاقه مرادًا به الجمع كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَر ٥٤ٍ ﴾ يعني وأنهار، بدليل قوله :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ٧٤ ﴾، وقوله :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شيء منْهُ نَفْساً ﴾ ؛ ونظيره من كلام العرب قول عقيل بن عُلَّفَة المري :
وكان بنو فزارة شرعم | وكنت لهم كشر بني الأخينا |
فقلنا اسلموا إنا أخوكم | وقد سلمت من الإحن الصدور |
بها جيف الحسرى فأما عظامها | فبيض وأما جلدها فصليب |
كلوا في بعض بطنكم تعفو | فإن زمانكم زمن خميص |
ومعلوم أن آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها، ولا ممن يسفك الدماء. وكقوله :﴿ هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ في الأرض ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرض ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ﴾. ونحو ذلك من الآيات.
ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة آدم، وأن اللَّه أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء، فقالوا ما قالوا. وأن المراد بخلافة آدم الخلافة الشرعية، وبخلافة ذريته أعم من ذلك، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر.
تنبيه : قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة ؛ يسمع له ويطاع ؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم إلى أن قال : ودليلنا قول اللَّه تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرض ﴾. وقال :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾. أي : يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي.
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش. فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها. ولقال قائل : إنها غير واجبة لا في قريش ولا في غيرهم. فما لتنازعكم وجه، ولا فائدة في أمر ليس بواجب، ثم إن الصديق رضي اللَّه عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك. فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد للَّه رب العالمين. انتهى من القرطبي.
قال مقيدة [ عفا اللَّه عنه ] : من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام اللَّه في أرضه. ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به كأبي بكر الأصم المعتزلي، الذي تقدم في كلام القرطبي، وكضرار، وهشام القرطبي ونحوهم.
وأكثر العلماء على أن وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع كما دلت عليه الآية المتقدمة وأشباهها و إجماع الصحابة رضي الله عنه ؛ و لأن الله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن، كما قال تعالى :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و لأنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس ﴾ لأن قوله :﴿ و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ﴾ فيه إشارة إلى لإعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة.
وقالت الإمامية : إن الإمامة واجبة بالعقل لا بالشرع.
وعن الحسن البصري و الجاحظ و البلخي : أنها تجب بالعقل و الشرع معا. واعلم أن ما تتقوله الإمامية من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهم من الصحابة، وما تتقوله في الإثني عشر إماما، وفي الإمام المنتظر المعصوم، ونحو ذلك من خرافاتهم وأكاذيبهم الباطلة كله باطل لا أصل له.
وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك : فعليك بكتاب " منهاج السنة النبوية، في نقض كلام الشيعة والقدرية "، للعلامة الوحيد الشيخ تقي الدين أبي العباس بن تيمية – تغمده الله برحمته - فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلفة. فإذا حققت وجوب نصب الإمام الأعظم على المسلمين، فاعلم أن الإمامة تنعقد له بأحد أمور.
الأول : ما لو نص صلى الله عليه وسلم على أن فلانا هو الإمام. فإنها تنعقد له بذلك.
وقال بعض العلماء : إن إمامة أبي بكر رضي الله عنه من هذا القبيل : لأن تقديم النبي صلى الله عليه و سلم له في إمامة الصلاة و هي أهم شيء، فيه الإشارة إلى التقديم للإمامة الكبرى و هو ظاهر.
الثاني : هو اتفاق أهل الحل و العقد على بيعته.
وقال بعض العلماء : إن إمامة أبي بكر منه : لإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار عليها بعد الخلاف ؛ و لا عبرة بعدم رضى بعضهم، كما وقع من سعد بن عبادة رضي الله عنه من عدم قبوله بيعة أبي بكر رضي الله عنه.
الثالث : أن يعهد إليه الخليفة الذي قبله، كما وقع من أبي بكر لعمر رضي اللَّه عنهما.
ومن هذا القبيل، جعل عمر رضي اللَّه عنه الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض.
الرابع : أن يتغلب على الناس بسيفه وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم.
قال بعض العلماء : ومن هذا القبيل قيام عبد الملك بن مروان على عبد اللَّه بن الزبير وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف فاستتب الأمر له. كما قاله ابن قدامة في المغني.
ومن العلماء من يقول : تنعقد له الإمامة ببيعة واحد، وجعلوا منه مبايعة عمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ومال إليه القرطبي. وحكى عليه إمام الحرمين الإجماع وقيل : ببيعة أربعة. وقيل غير ذلك.
هذا ملخص كلام العلماء فيما تنعقد به الإِمامة الكبرى. ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية - رحمه الله - في « المنهاج » أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته، ويقدر به على تنفيذ أحكام الإِمامة ؛ لأن من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإِمام.
واعلم أن الإمام الأعظم تشترط فيه شروط :
الأول : أن يكون قرشيًّا وقريش أولاد فهر بن مالك. وقيل : أولاد النضر بن كنانة. فالفهري قرشي بلا نزاع. ومن كان من أولاد مالك بن النضر أو أولاد النضر بن كنانة فيه خلاف. هل هو قرشي أو لا ؟ وما كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة في ذكر شرائط الإمام. الأول : أن يكون من صميم قريش لقوله صلى الله عليه وسلم :« الأئمة من قريش » وقد اختلف في هذا.
قال مقيّده [ عفا اللَّه عنه ] : الاختلاف الذي ذكره القرطبي في اشتراط كون الإمام الأعظم قرشيًا ضعيف. وقد دلت الأحاديث الصحيحة على تقديم قريش في الإمامة على غيرهم. وأطبق عليه جماهير العلماء من المسلمين.
وحكى غير واحد عليه الإجماع، ودعوى الإجماع تحتاج إلى تأويل، ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال :« إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفته ». فذكر الحديث وفيه :« فإن أدركني أجلى وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل ».
ومعلوم أن معاذًا غير قرشي وتأويله بدعوى انعقاد الإجماع بعد عمر أو تغيير رأيه إلى موافقة الجمهور. فاشتراط كونه قرشيًا هو الحق، ولكن النصوص الشرعية دلت على أن ذلك التقديم الواجب لهم في الإمامة مشروط بإقامتهم الدين وإطاعتهم للَّه ورسوله، فإن خالفوا أمر اللَّه فغيرهم ممن يطيع اللَّه تعالى وينفذ أوامره أولى منهم.
فمن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن معاوية رضي الله عنه حيث قال : " باب الأمراء من قريش ". حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش : أن عبد اللَّه بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك قحطان فغضب، فقام فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال : أما بعد : فإنه قد بلغني أن رجالاً منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه، ولا تؤثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها. فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول :« إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه اللَّه على وجهه ما أقاموا الدين ». انتهى من صحيح البخاري بلفظه.
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم :«ما أقاموا الدين » لأن لفظة « ما » فيه مصدرية ظرفية مقيدة لقوله : إن هذا الأمر في قريش، وتقرير المعنى : إن هذا الأمر في قريش مدة إقامتهم الدين، ومفهومه : أنهم إن لم يقيموه لم يكن فيهم. وهذا هو التحقيق الذي لا شك فيه في معنى الحديث.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على حديث معاوية هذا ما نصه : وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه نظير ما وقع في حديث معاوية، ذكره محمد بن إسحاق في الكتاب الكبير. فذكر قصة سقيفة بني ساعدة، وبيعة أبي بكر وفيها : فقال أبو بكر : وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا اللَّه واستقاموا على أمره. وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء :
الأول : وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به. كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال :« الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثًا : ما حكموا فعدلوا »-الحديث- وفيه :« فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللَّه ».
وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم.
الثاني : وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم. فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه :«إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث اللَّه عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب ». ورجاله ثقات إلا أنه من رواية عبيد اللَّه بن عبد ا
يعني مسميات الأسماء لا الأسماء كما يتوهم من ظاهر الآية.
وقد أشار إلى أنها المسميات بقوله :﴿ أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾ الآية، كما هو ظاهر.
لم يبيّن هنا هذا الذي كانوا يكتمون، وقد قال بعض العلماء : هو ما كان يضمره إبليس من الكبر، وعلى هذا القول فقد بيّنه قوله تعالى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق آدم أو بعد خلقه ؟ وقد صرح في سورة الحجر و ص بأنه قال لهم ذلك قبل خلق آدم. فقال في الحجر :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إني خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ٢٨ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ٢٩ ﴾، وقال في سورة ص :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إني خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ٧١ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ٧٢ ﴾.
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ﴾.
لم يبيّن هنا موجب استكباره في زعمه، ولكنه بيّنه في مواضع أأخر كقوله :﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ١٢ ﴾، وقوله :﴿ قَالَ لَمْ أَكُن لأسجد لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ٣٣ ﴾.
تنبيه : مثل قياس إبليس نفسه على عنصره، الذي هو النار وقياسه آدم على عنصره، الذي هو الطين واستنتاجه من ذلك أنه خير من آدم. ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه، مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تعالى :﴿ اسْجُدُواْ لآدم ﴾ يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
والخلف للنص أو إجماع دعا | فساد الاعتبار كل من وعى |
الأول : أنه فاسد الاعتبار ؛ لمخالفة النص الصريح كما تقدم قريبًا.
الثاني : أنا لا نسلم أن النار خير من الطين، بل الطين خير من النار ؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق، وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة.
وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض الناضرة، وما فيها من الثمار اللذيذة، والأزهار الجميلة، والروائح الطيبة. تعلم أن الطين خير من النار.
الثالث : أنّا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن النار خير من الطين : فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم ؛ لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع، بل قد يكون الأصل رفيعًا الفرع وضيعًا، كما قال الشاعر :
إذا افتخرت بآباء لهم شرف | قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا |
وما ينفع الأصل من هاشم | إذا كانت النفس من باهلةْ |
لم يبيّن هنا ما هذه الكلمات، ولكنه بيّنها في سورة الأعراف، بقوله :﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ٢٣ ﴾.
لم يبيّن هنا ما هذه النعمة التي أنعمها عليهم، ولكنه بيّنها في آيات أُخر، كقوله :﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾.
وقوله :﴿ وَإِذْ نجيتاكم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ٥ وَنُمَكّنَ لَهُمْ في الأرض وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ٦ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾.
لم يبيّن هنا ما عهده وما عهدهم، ولكنه بيّن ذلك في مواضع أخر كقوله :﴿ وَقَالَ اللَّهُ إني مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وآتيتم الزكاة وَآمَنتُمْ برسلي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُم و لأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهارْ ﴾، فعهدهم هو المذكور في قوله :﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وآتيتم الزكاة وَآمَنتُمْ برسلي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾، وعهده هو المذكور في قوله :﴿ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ﴾ الآية.
وأشار إلى عهدهم أيضًا بقوله :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾ ؛ إلى غير ذلك من الآيات.
الحق الذي لبسوه بالباطل هو إيمانهم ببعض ما في التوراة. والباطل الذي لبسوا به الحق : هو كفرهم ببعض ما في التوراة وجحدهم له. كصفات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وغيرها مما كتموه وجحدوه، وهذا يبيّنه قوله تعالى :﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ الآية، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما تقدم.
الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة لا إشكال فيها، وأما نتيجة الاستعانة بالصلاة، فقد أشار لها تعالى في آيات من كتابه، فذكر أن من نتائج الاستعانة بها : النهي عما لا يليق، وذلك في قوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر ﴾ وأنها تجلب الرزق، وذلك في قوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ١٣٢ ﴾ ؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.
وإيضاح ذلك : أن العبد إذا قام بين يدي ربه يناجيه ويتلو كتابه، هان عليه كل ما في الدنيا رغبة فيما عند اللَّه، ورهبة منه، فيتباعد عن كل ما لا يرضي اللَّه، فيرزقه اللَّه ويهديه.
المراد بالظن هنا اليقين، كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ٤ ﴾. وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ ٦٠ ﴾.
ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقًا يوم القيامة. ولكنه بيّن في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السماوات والأرض.
أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع. فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ﴾، وقد قال :﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾. وقال تعالى عنهم مقررًا له :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ١٠٠ ﴾. وقال :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ٤٨ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الشفاعة بدون إذنه :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾. وقال :﴿ وَكَمْ مّن مَّلَكٍ في السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ٢٦ ﴾. وقال :﴿ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ ورضي لَهُ قَوْلاً ١٠٩ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. وادعاء شفعاء عند اللَّه للكفار أو بغير إذنه، من أنواع الكفر به جلّ وعلا، كما صرح بذلك في قوله :﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨ ﴾.
تنبيه : هذا الذي قررناه من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعًا مطلقًا، يستثنى منه شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح، فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة.
بيّنه بقوله بعده :﴿ يُذَبِّحُونَ أبناءكم ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا كيفية فرق البحر بهم، ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله :﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ٦٣ ﴾، وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعبادي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً في الْبَحْرِ يَبَساً ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ الآية.
لم يبين هنا كيفية إغراقهم ولكنه بيّنها في مواضع أُخر كقوله :﴿ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ٦٠ فَلَمَّا تراءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ٦١ قَالَ كَلاَّ إِنَّ معي رَبّى سَيَهْدِينِ٦٢ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ٦٣ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين ٦٤ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ٦٥ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين ٦٦ ﴾، وقوله :﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ٧٨ ﴾.
وقوله :﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ٢٤ ﴾، وقوله :﴿ رَهْواً ﴾، أي ساكنًا على حالة انفلاقه حتى يدخلوا فيه، إلى غير ذلك من الآيات.
لم يبيّن هنا هل واعده إياها مجتمعة أو متفرقة ؟ ولكنه بيّن في سورة الأعراف أنها متفرقة، وأنه واعده أولاً ثلاثين، ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾.
الظاهر في معناه : أن الفرقان هو الكتاب الذي أوتيه موسى، وإنما عطف على نفسه ؛ تنزيلاً لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات ؛ لأن ذلك الكتاب الذي هو التوراة موصوف بأمرين :
أحدهما : أنه مكتوب كتبه اللَّه لنبيه موسى عليه، وعلى نبيّنا الصلاة والسلام.
والثاني : أنه فرقان، أي فارق بين الحق والباطل، فعطف الفرقان على الكتاب، مع أنه هو نفسه نظرًا لتغاير الصفتين، كقول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
إني لأعظم في صدر الكميِّ على | ما كان فيّ من التجدير والقصر |
وقددت الأديم لراهشيه | وألفى قولها كذبًا ومينًا |
ألا حبذا هند وأرض بها هند | وهند أتى من دونها النأْي والبعد |
حييت من طلل تقادم عهده | أقوى وأقفر بعد أم الهيثم |
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا من أي شيء هذا العجل المعبود من دون اللَّه ؟ ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ﴾، وقوله :﴿ وَلَكِنَّا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ ٨٧ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ﴾، ولم يذكر المفعول الثاني للاتخاذ في جميع القرآن وتقديره : باتخاذكم العجل إلها ؛ كما أشار له في سورة طه بقوله :﴿ فَكَذلك أَلْقَى السَّامِرِىُّ ٨٧ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَذَا إلهكم وَإِلَهُ مُوسَى ﴾.
أوضحه بقوله :﴿ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾.
قوله تعالى :﴿ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ و اذكروا ﴾.
لم يبيّن هنا هذا الذي أتاهم ما هو، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه الكتاب الفارق بين الحق والباطل، وذلك في قوله :﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ٥٣ ﴾.
أجمل قصتهم هنا وفصلها في سورة الأعراف، في قوله :﴿ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ التي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ الآيات.
لم يبيّن مقصودهم بقولهم مَا هي إلا أن جواب سؤالهم دل على أن مرادهم بقولهم في الموضع الأول مَا هي أي : ما سنها ؟ بدليل قوله :﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ ﴾ الآية. وأن مرادهم بقولهم مَا هي في الموضع الآخر : هل هي عاملة أو لا ؟ وهل فيها عيب أو لا ؟ وهل فيها وشي مخالف للونها أو لا ؟ بدليل قوله :﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾.
لم يصرح هل هذه النفس ذكر أو أنثى ؟.
وقد أشار إلى أنها ذكر بقوله :﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾.
أشار في هذه الآية إلى أن إحياء قتيل بني إسرائيل دليل على بعث الناس بعد الموت ؛ لأن من أحيا نفسًا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس، وقد صرح بهذا في قوله :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ﴾.
لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم، ولكنه أشار إلى ذلك في مواضع أُخر كقوله :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾، وقوله :﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ الآية.
اختلف العلماء في المراد بالأماني هنا على قولين :
أحدهما : أن المراد بالأمنية القراءة، أي : لا يعلمون من الكتاب إلا قراءة ألفاظ دون إدراك معانيها. وهذا القول لا يتناسب مع قوله :﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ﴾ ؛ لأن الأمّي لا يقرأ.
الثاني : أن الاستثناء منقطع، والمعنى لا يعلمون الكتاب، لكن يتمنون أماني باطلة، ويدل لهذا القول قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾، وقوله :﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أماني أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾.
يعني : تقتلون إخوانكم، ويبيّن أن ذلك هو المراد، كثرة وروده كذلك في القرآن نحو قوله :﴿ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾، أي : لا يلمز أحدكم أخاه وقوله :﴿ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً ﴾، أي بإخوانهم وقوله :﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾، أي : بأن يقتل البريء من عبادة العجل من عبده منهم إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم :« إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم، كمثل الجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ».
قوله تعالى :﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾.
يتبيّن ممّا قبله أن البعض الذي آمنوا به هو فداء الأسارى منهم، والبعض الذي كفروا به هو إخراجهم من ديارهم وقتلهم ومظاهرة العدو عليهم، وإن كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره منه.
لم يبيّن هنا ما هذه البينات ولكنه بيّنها في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَرَسُولاً إِلَى بني إسرائيل أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فيكون طيرا بإذن الله و أبرىء الأكمه و الأبرص و أحي الموتى بإذن الله و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾.
هو جبريل على الأصح، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين ١٩٣ ﴾ الآية، وقوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا ما هذه البيّنات وبيّنها في مواضع أُخر كقوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ﴾، وقوله :﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ١٠٧ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هي بَيْضَاء ﴾ الآية، وقوله :﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ﴾ الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قال بعض العلماء هو من السمع بمعنى الإجابة، ومنه قولهم سمعًا وطاعة أي : إجابة، وطاعة ومنه : سمع اللَّه لمن حمده في الصلاة. أي : أجاب دعاء من حمده، ويشهد لهذا المعنى قوله :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾، وهذا قول الجمهور وقيل : إن المراد بقوله ﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾ أي : بآذانكم ولا تمتنعوا من أصل الاستماع.
ويدل لهذا الوجه : أن بعض الكفار ربما امتنع من أصل الاستماع خوف أن يسمع كلام الأنبياء، كما في قوله تعالى عن نوح مع قومه :﴿ وإني كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ٧ ﴾.
وقوله عن قوم نبيّنا صلى الله عليه وسلم :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ٢٦ ﴾، وقوله :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾، وقوله :﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ ؛ لأن السمع الذي لا ينافي العصيان هو السمع بالآذان دون السمع بمعنى الإجابة.
معنى الآية : إن أحد المذكورين يتمنى أن يعيش ألف سنة وطول عمره لا يزحزحه، أي : لا يبعده عن العذاب فالمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله :﴿ أَن يُعَمَّرَ ﴾ فاعل اسم الفاعل الذي هو " مزحزحه " على أصح الأعاريب. وفي لو، من قوله :﴿ لَوْ يُعَمَّرُ ﴾، وجهان :
الأول : وهو قول الجمهور أنها حرف مصدري، وهي وصلتها في تأويل مفعول به ليود، والمعنى : يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أي : يتمنى تعمير ألف سنة، ولو : قد تكون حرفًا مصدريًا لقول قتيلة بنت الحارث :
ما كان ضرك لو مننت وربما | من الفتى وهو المغيظ المحنق |
وقال بعض العلماء : إن لَوْ هنا هي الشرطية والجواب محذوف وتقديره : لو يعمر ألف سنة، لكان ذلك أحبّ شيء إليه، وحذف جواب لَوْ مع دلالة المقام عليه واقع في القرآن، وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى :﴿ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ٥ ﴾، أي : لو تعلمون علم اليقين لما أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْءاناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ﴾، أي : لكان هذا القرآن أو لكفرتم بالرحمن. ومنه في كلام العرب قول الشاعر :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله | سواك ولكن لم نجد لك مدفعا |
إذا عرفت معنى الآية فاعلم أن اللَّه قد أوضح هذا المعنى مبينًا أن الإنسان لو متع ما متع من السنين ثم انقضى ذلك المتاع وجاءه العذاب، أن ذلك المتاع الفائت لا ينفعه، ولا يغني عنه شيئًا بعد انقضائه وحلول العذاب محله. وذلك في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ٢٠٥ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ ٢٠٦ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ ٢٠٧ ﴾، وهذه هي أعظم آية في إزالة الداء العضال الذي هو طول الأمل. كفانا اللَّه والمؤمنين شره.
ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع قراءة، ونظيرها في ذلك قوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين ١٩٣ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ الآية. ولكنه بيّن في مواضع أُخر أن معنى ذلك أن الملك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه، وذلك هو معنى تنزيله على قلبه، وذلك كما في قوله تعالى :﴿ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ١٧ فَإِذَا قَرَأْنَه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ١٩ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زدني عِلْماً ١١٤ ﴾.
ذكر في هذه الآية أن اليهود كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم، وصرح في موضع آخر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المعاهد لهم وأنهم ينقضون عهدهم في كل مرة، وذلك في قوله :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٥٥ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ٥٦ ﴾، وصرح في آية أخرى بأنهم أهل خيانة إلا القليل منهم، وذلك في قوله :﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من اليهود نبذوا كتاب اللَّه وراء ظهورهم ولم يؤمنوا به، وبيّن في موضع آخر أن هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالكتاب هم الأكثر، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ١١٠ ﴾.
لم يبّين هنا هذا الذي سأل موسى من قبل ما هو ؟ ولكنه بيّنه في موضع آخر. وذلك في قوله :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلك فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً ﴾ الآية.
هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، والأمر في قوله ﴿ بأمره ﴾.
قال بعض العلماء : هو واحد الأوامر. وقال بعضهم : هو واحد الأمور، فعلى القول الأول، بأنه الأمر الذي هو ضد النهي ؛ فإن الأمر المذكور هو المصرح به في قوله :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون ٢٩ ﴾. وعلى القول بأنه واحد الأمور : فهو ما صرح اللَّه به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل والتشريد كقوله :﴿ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وأيدي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يا أُوْلِى الأبصار ٢ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات، والآية غير منسوخة على التحقيق.
قال بعض العلماء : نزلت في صد المشركين النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ستّ.
وعلى هذا القول : فالخراب معنوي، وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها. وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله تعالى :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ الآية.
وقال بعض العلماء : الخراب المذكور هو الخراب الحسيّ. والآية نزلت فيمن خرّب بيت المقدس، وهو بختنصر أو غيره، وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله جلّ وعلا :﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ٧ ﴾.
هذا الولد المزعوم - على زاعمه لعائن اللَّه - قد جاء مفصلاً في آيات أُخر كقوله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِم يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾، وقوله :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ ﴾ الآية.
يفهم من هذه الآية أن اللَّه علم أن من ذريّة إبراهيم ظالمين. وقد صرح تعالى في مواضع أُخر بأنّ منهم ظالمًا وغير ظالم. كقوله :﴿ وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ ١١٣ ﴾، وقوله :﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ ﴾ الآية.
ذكر في هذه الآية رفع إبراهيم وإسماعيل لقواعد البيت. وبيّن في سورة الحج أنه أراه موضعه بقوله :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾، أي : عينّا له محله وعرفناه به. قيل : دله عليه بمزنة كان ظلها قدر مساحته، وقيل : دلّه عليه بريح تسمى الحجوج كنست عنه حتى ظهر أسمه القديم فبنى عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبيّنا الصلاة والسلام.
لم يبيّن هنا من هذه الأمة التي أجاب اللَّه بها دعاء نبيّه إبراهيم وإسماعيل، ولم يبيّن هنا أيضًا هذا الرسول المسؤول بعثه فيهم من هو ؟ ولكنه يبيّن في سورة الجمعة أن تلك الأمة العرب، والرّسول هو سيّد الرسل محمّد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله :﴿ هُوَ الذي بَعَثَ في الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لفي ضَلالٍ مُّبِينٍ ٢ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ ؛ لأن الأميين العرب بالإجماع. والرّسول المذكور نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم إجماعًا. ولم يبعث رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم وحده.
وثبت في الصحيح أنه هو الرسول الذي دعا به إبراهيم، ولا ينافي ذلك عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأحمر.
لم يبيّن هنا ما ملّة إبراهيم وبينها بقوله :﴿ قُلْ إنني هداني رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١ ﴾، فصرح في هذه الآية بأنها دين الإسلام الذي بعث اللَّه به نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم. وكذا في قوله :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ﴾ الآية.
أشار إلى أنه دين الإسلام هنا بقوله :﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٣٢ ﴾، وصرح بذلك في قوله :﴿ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ ﴾، وقوله :
﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ ٨٥ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ ﴾.
لم يبيّن هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم، ولكنه بيّن في سورة الأعلى أنه صحف وأن من جملة ما في تلك الصحف :﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدُّنْيَا ١١ والآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى ١٧ ﴾ وذلك في قوله :﴿ إِنَّ هذا لفي الصُّحُفِ الأولى ١٨ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ١٩ ﴾.
لم يبين هنا ما أوتيه موسى وعيسى، ولكنه بيّنه في مواضع أُخر. فذكر أن ما أُوتيه موسى هو التوراة المعبّر عنها بالصحف في قوله :﴿ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ١٩ ﴾، وذلك كقوله :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة بالإجماع. وذكر أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل كما في قوله :
﴿ وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾.
أمر اللَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين في هذه الآية أن يؤمنوا بما أوتيه جميع النبيّين وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، حيث قال :﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾، ولم يذكر هنا هل فعلوا ذلك أو لا ؟ ولم يذكر جزاءهم إذا فعلوه ولكنه بيّن كل ذلك في غير هذا الموضع. فصرّح بأنهم امتثلوا الأمر بقوله :﴿ آمَنَ الرسول بم أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾. وذكر جزاءهم على ذلك بقوله :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ١٥٢ ﴾.
لم يبيّن هنا الصراط المستقيم. ولكنه بيّنه بقوله :﴿ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ ٧ ﴾.
أي : خيارًا عدولاً. ويدل لأن الوسط الخيار العدول قوله تعالى :﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير :
هم وسط يرضى الأنام لحكمهم | إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم |
لم يبين هنا هل هو شهيد عليهم في الدنيا أو الآخرة ؟ ولكنه بيّن في موضع آخر أنه شهيد عليهم في الآخرة، وذلك في قوله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ٤١ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ٤٢ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ الآية.
ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علمًا لم يكن يعلمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون. وقد بيّن أنه لا يستفيد بالاختبار علمًا لم يكن يعلمه بقوله جلّ وعلا :﴿ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا في صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ١٥٤ ﴾، فقوله :﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ١٥٤ِ ﴾، بعد قوله :﴿ ولِيَبْتَلِي ﴾، دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئًا لم يكن عالمًا به، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا ؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار، وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر اللَّه فيها اختباره لخلقه، ومعنى ﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ أي علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالمًا به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس. أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى وقوله :﴿ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾ أشار إلى أن الرسول هو محمّد صلى الله عليه وسلم بقوله مخاطبًا له :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَآ ﴾ الآية ؛ لأن هذا الخطاب له إجماعًا.
قوله تعالى :﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾.
أي صلاتكم إلى بيت المقدس على الأصح، ويستروح ذلك من قوله قبله :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَآ ﴾ الآية، ولاسيما على القول باعتبار دلالة الاقتران، والخلاف فيها معروف في الأصول.
بيّنه قوله بعده :﴿ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا ما اللاعنون، ولكنه أشار إلى ذلك في قوله :﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١٦١ ﴾.
قوله تعالى :﴿ إن في خلق السماوات و الأرض ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا وجه كونهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أُخر، كقوله :﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ٦ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ٧ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ٨ ﴾، وقوله :﴿ الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ٣ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ٤ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ٥ ﴾. وقوله في الأرض :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فَامْشُواْ في مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ١٥ ﴾.
لم يبيّن هنا وجه كون اختلافهما آية، ولكنّه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَه غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ٧١ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ٧٢ و من رحمته جعل لكم الليل و النهار لتسكنوا فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون ٧٣ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السماء وَالأَرْضِ ﴾.
لم يبيّن هنا كيفية تسخيره، ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يدي رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ كَذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ٥٧ ﴾، وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾.
المراد بالذين ظلموا الكفار وقد بيّن ذلك بقوله في آخر الآية :﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ١٦٧ ﴾، ويدلّ لذلك قوله تعالى عن لقمان مقررًا له :﴿ يا بني لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ١٣ ﴾، وقوله جلّ وعلا :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢٥٤ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦ ﴾.
أشار هنا إلى تخاصم أهل النار. وقد بيّن منه غير ما ذكر هنا في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لكنا مؤمنين ٣١ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددنكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ٣٢ و قال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل و النهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله و نجعل له أندادا ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
لم يذكر هنا ما يترتب على اتباع خطواته من الضرر، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة النور بقوله :﴿ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا هذا الذي يقولونه عليه بغير علم، ولكنه فصله في مواضع أُخر فذكر أن ذلك الذي يقولونه بغير علم هو : أن اللَّه حرّم البحائر والسوائب ونحوها، وأن لهُ أولادًا، وأن له شركاء، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. فصرح بأنه لم يحرم ذلك بقوله :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾، وقوله :﴿ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاء عَلَى اللَّهِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وهذا حَرَامٌ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. ونزه نفسه عن الشركاء المزعومة بقوله :﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، ونحوها من الآيات، ونزّه نفسه عن الأولاد المزعومة بقوله :﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ﴾ الآية، ونحوها من الآيات فظهر من هذه الآيات تفصيل مَا أجمل في اسم الموصول الذي هو مَا، من قوله :﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ١٦٩ ﴾.
ظاهر هذه الآية أن جميع أنواع الميتة والدم حرام، ولكنه بيّن في موضع آخر أن ميتة البحر خارجة عن ذلك التحريم وهو قوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾ الآية. إذ ليس للبحر طعام غير الصيد إلا ميتته. وما ذكره بعض العلماء من أن المراد [ بطعامه ] قديده المجفف بالملح مثلاً، وأن المراد [ بصيده ] الطري منه. فهو خلاف الظاهر ؛ لأن القديد من صيده فهو صيد جعل قديدًا، وجمهور العلماء على أن المراد بطعامه ميتته. منهم : أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه ابن عمر، وأبو أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنهم أجمعين وعكرمة، وأبو سلمة بن عبد الرحمان، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري وغيرهم. كما نقله عنهم ابن كثير. وأشار في موضع آخر إلى أن غير المسفوح من الدماء ليس بحرام وهو قوله :﴿ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ﴾، فيفهم منه أن غير المسفوح كالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم ليس بحرام، إذ لو كان كالمسفوح لما كان في التقييد بقوله :﴿ مَّسْفُوحًا ﴾ فائدة.
وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن اللَّه أحلّ له ولأمته ميتتين ودمين، أما الميتتان : فالسمك والجراد، وأما الدمان : فالكبد والطحال.
وسيأتي الكلام على هذا الحديث في الأنعام إن شاء اللَّه تعالى. وعنه صلى الله عليه وسلم في البحر :« هو الحل ميتته »، أخرجه مالك وأصحاب السنن والإمام أحمد، والبيهقي والدارقطني في سننهما، والحاكم في «المستدرك »، وابن الجارود في المنتقى، وابن أبي شيبة، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والبخاري.
وظاهر عموم هذا الحديث وعموم قوله تعالى :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾، يدل على إباحة ميتة البحر مطلقًا. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه أكل من العنبر، وهو حوت ألقاه البحر ميتًا وقصته مشهورة.
وحاصل تحرير فقه هذه المسألة أن ميتة البحر على قسمين : قسم لا يعيش إلا في الماء، وإن أُخرج منه مات كالحوت، وقسم يعيش في البر، كالضفادع ونحوها.
أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالحوت، فميتته حلال عند جميع العلماء، وخالف أبو حنيفة - رحمه الله - فيما مات منه في البحر وطفا على وجه الماء، فقال فيه : هو مكروه الأكل، بخلاف ما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات، فإنه مباح الأكل عنده.
وأما الذي يعيش في البر من حيوان البحر كالضفادع، والسلحفاة، والسرطان، وترس الماء، فقد اختلف فيه العلماء. فذهب مالك بن أنس إلى أن ميتة البحر من ذلك كله مباحة الأكل، وسواء مات بنفسه أو وجد طافيًا أو باصطياد، أو أُخرج حيًّا، أو أُلقي في النار، أو دسّ في طين.
وقال ابن نافع، وابن دينار : ميتة البحر مما يعيش في البر نجسة.
ونقل ابن عرفة قولاً ثالثًا بالفرق بين أن يموت في الماء، فيكون طاهرًا، أو في البرّ فيكون نجسًا ؛ وعزاه لعيسى عن ابن القاسم. والضفادع البحرية عند مالك مباحة الأكل، وإن ماتت فيه.
وفي «المدونة » : ولا بأس بأكل الضفادع وإن ماتت ؛ لأنها من صيد الماء. ا ه.
أما ميتة الضفادع البرية فهي حرام بلا خلاف بين العلماء، وأظهر الأقوال منع الضفادع مطلقًا ولو ذكيت، لقيام الدليل على ذلك، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
أما كلب الماء وخنزيره فالمشهور من مذهب مالك فيهما الكراهة.
قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره عاطفًا على ما يكره، وكلب ماء وخنزيره.
وقال الباجي : أما كلب البحر وخنزيره، فروى ابن شعبان أنه مكروه، وقاله ابن حبيب.
وقال ابن القاسم في المدونة : لم يكن مالك يجيبنا في خنزير الماء بشيء، ويقول : أنتم تقولون خنزير.
وقال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولو أكله رجل لم أره حرامًا.
هذا هو حاصل مذهب مالك في المسألة، وحجّته في إباحة ميتة الحيوان البحري كان يعيش في البر أو لا. قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾، ولا طعام له غير صيده إلا ميتته، كما قاله جمهور العلماء، وهو الحق ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في البحر :« هو الطهور ماؤه الحل ميتته »، وقد قدمنا ثبوت هذا الحديث وفيه التصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن ميتة البحر حلال، وهو فصل في محل النزاع. وقد تقرر في الأصول أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة كان من صيغ العموم. كقوله :﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾، وقوله :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾.
وإليه أشار في مراقي السعود بقوله عاطفًا على صيغ العموم :
وما معرفًا بأل قد وجدا *** أو بإضافة إلى معرف
إذا تحقق الخصوص قد نفى
وبه نعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم « ميتته » يعم بظاهره كل ميتة مما في البحر.
ومذهب الشافعي - رحمه اللَّه - في هذه المسألة : هو أن ما لا يعيش إلا في البحر فميتته حلال، بلا خلاف، سواء كان طافيًا على الماء أم لا.
وأما الذي يعيش في البر من حيوان البحر فأصح الأقوال فيه وهو المنصوص عن الشافعي في الأم، و مختصر المزني، واختلاف العراقيين : أن ميتته كله حلال ؛ للأدلة التي قدمنا آنفًا ومقابله قولان :
أحدهما : منع ميتة البحري الذي يعيش في البر مطلقًا.
الثاني : التفصيل بين ما يؤكل نظيره في البر، كالبقرة والشاة فتباح ميتة البحري منه، وبين ما لا يؤكل نظيره في البرّ كالخنزير والكلب فتحرم ميتة البحري منه، ولا يخفى أن حجة الأول أظهر ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم :« الحل ميتته » وقوله تعالى :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾، كما تقدم.
وأما مذهب الإمام أحمد -رحمه اللَّه- فهو أن كل ما لا يعيش إلا في الماء فميتته حلال، والطافي منه وغيره سواء، وأما ما يعيش في البرّ من حيوان البحر فميتته عنده حرام، فلا بدّ من ذكاته إلا ما لا دم فيه ؛ كالسرطان فإنه يباح عنده من غير ذكاة. واحتجّ لعدم إباحة ميتة ما يعيش في البرّ ؛ بأنه حيوان يعيش في البرّ له نفس سائلة فلم يبح بغير ذكاة، كالطير.
وحمل الأدلة التي ذكرنا على خصوص ما لا يعيش إلاّ في البحر ا ه.
وكلب الماء عنده إذا ذكي حلال، ولا يخفى أن تخصيص الأدلة العامة يحتاج إلى نص، فمذهب مالك والشافعي أظهر دليلاً، واللَّه تعالى أعلم.
ومذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن كل ما يعيش في البرّ لا يؤكل البحري منه أصلاً ؛ لأنه مستخبث. وأما ما لا يعيش إلا في البحر [ وهو الحوت بأنواعه ] فميتته عنده حلال، إلا إذا مات حتف أنفه في البحر وطفا على وجه الماء، فإنه يكره أكله عنده، فما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات حلال عنده، بخلاف الطافي على وجه الماء. وحجته فيما يعيش في البرّ منه : أنه مستخبث، واللَّه تعالى يقول :﴿ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث ﴾، وحجّته في كراهة السمك الطافي ما رواه أبو داود في سننه : حدّثنا أحمد بن عبدة، حدّثنا يحيى بن سليم الطائفي، حدّثنا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :« ما ألقي البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه » ا ه.
قال أبو داود : " روى هذا الحديث سفيان الثوري، وأيوب، وحماد عن أبي الزبير أوقفوه على جابر. وقد أسند هذا الحديث أيضًا من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ا ه.
وأجاب الجمهور عن الاحتجاج الأول بأن ألفاظ النصوص عامة في ميتة البحر، وأن تخصيص النص العام لا بدّ له من دليل من كتاب أو سنّة يدلّ على التخصيص، كما تقدم.
ومطلق ادعاء أنه خبيث لا يردّ به عموم الأدلة الصريحة في عموم ميتة البحر، وعن الاحتجاج الثاني بتضعيف حديث جابر المذكور.
قال النووي في شرح المهذب ما نصه : وأما الجواب عن حديث جابر الذي احتجّ به الأولون فهو أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء، فكيف وهو معارض بما ذكرناه من دلائل الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة رضي اللَّه عنهم المنتشرة ؟.
وهذا الحديث من رواية يحيى بن سليم الطائفي، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير عن جابر.
قال البيهقي : يحيى بن سليم الطائفي كثير الوهم سيء الحفظ. قال : وقد رواه غيره عن إسماعيل بن أُمية موقوفًا على جابر. قال : وقال الترمذي : سألت البخاري عن هذا الحديث، فقال : ليس هو بمحفوظ، ويروى عن جابر خلافه. قال : ولا أعرف لأثر ابن أُمية عن أبي الزبير شيئًا.
قال البيهقي : وقد رواه أيضًا يحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير مرفوعًا، ويحيى بن أبي أنيسة متروك لا يحتجّ به. قال : ورواه عبد العزيز بن عبيد اللَّه، عن وهب بن كيسان عن جابر مرفوعًا، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به، قال : ورواه بقية بن الوليد عن الأوزاعي عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا، ولا يحتج بما ينفرد به بقية، فكيف بما يخالف ؟ قال : وقول الجماعة من الصحابة على خلاف قول جابر مع ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر :« هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته ». ا ه.
وقال البيهقي في السنن الكبرى في باب « من كره أكل الطافي » ما نصه : أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، حدّثنا محمد بن إبراهيم بن فيروز، حدّثنا محمد بن إسماعيل الحساني، حدّثنا ابن نمير، حدّثنا عبيد اللَّه بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر رضي اللَّه عنه أنه كان يقول :« ما ضرب به البحر أو جزر عنه أو صيد فيه فكل، وما مات فيه ثم طفا فلا تأكل ». وبمعناه رواه أبو أيوب السختياني وابن جريج، وزهير بن معاوية، وحماد بن سلمة، وغيرهم عن أبي الزبير عن جابر موقوفًا وعبد الرّزّاق وعبد اللَّه بن الوليد العدني، وأبو عاصم، ومؤمل بن إسماعيل وغيرهم، عن سفيان الثوري موقوفًا، وخالفهم أبو أحمد الزبيري فرواه عن الثوري مرفوعًا وهو واهم فيه، أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنبأ سليمان بن أحمد اللخمي، حدّثنا عليّ بن إسحاق الأصبهاني، حدّثنا نصر بن علي، حدّثنا أبو أحمد الزبيري، حدّثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :« إذا طفا السمك على الماء فلا تأكله، وإذا جزر عنه البحر فكله، وما كان على حافته فكله ». قال سليمان : لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلاّ أبو أحمد، ثم ذكر البيهقي بعد هذا الكلام حديث أبي داود الذي قدمنا، والكلام الذي نقلناه عن النووي.
قال مقيّده [ عفا اللَّه عنه ] فتحصل : أن حديث جابر في النهي عن أكل السمك الطافي ذهب كثير من العلماء إلى تضعيفه وعدم الاحتجاج به. وحكى النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه كما قدمنا عنه، وحكموا بأن وقفه على جابر أثبت. وإذن فهو قول صحابي معارض بأقوال جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه وبالآية والحديث المتقدمين. وقد يظهر للناظر أن صناعة علم الحديث والأصول لا تقتضي الحكم بردّ حديث جابر المذكور ؛ لأن رفعه جاء من طرق متعددة وبعضها صحيح، فرواية أبي داود له مرفوعًا التي قدمنا، ضعفوها بأن في إسنادها يحيى بن سليم الطائفي، وأنه سيء الحفظ.
وقد رواه غيره مرفوع
لم يبيّن هنا هل هذا المصدر مضاف إلى فاعله فيكون الضمير عائدًا إلى مَنْ أَتَى الْمَالَ، والمفعول محذوفًا، أو مضاف إلى مفعوله فيكون الضمير عائدًا إلى المال ولكنه ذكر في موضع آخر ما يدل على أن المصدر مضاف إلى فاعله، وأن المعنى عَلَى حُبّهِ، أي حب مؤتي المال لذلك المال وهو قوله تعالى :﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾. ولا يخفى أن بين القولين تلازمًا في المعنى.
قوله تعالى :﴿ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾.
لم يبيّن هنا ما المراد بالبأس. ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البأس القتال، وهو قوله :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾. كما هو ظاهر من سياق الكلام.
قال بعض العلماء هي ثلاثة من كل شهر، وعاشوراء.
وقال بعض العلماء هي رمضان، وعلى هذا القول فقد بيّنها تعالى بقوله :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار ؟ ولكنه بيّن في غير هذا الموضع أنه أنزل في ليلة القدر من رمضان وذلك في قوله :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْر ١ِ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ ؛ لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق وفي معنى إنزاله وجهان :
الأول : أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
والثاني : أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله كما قال به بعضهم.
ذكر في هذه الآية أنه جلّ وعلا قريب يجيب دعوة الداعي، وبيّن في آية أخرى تعليق ذلك على مشيئته جلّ وعلا وهي قوله :﴿ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ﴾ الآية.
وقال بعضهم التعليق بالمشيئة في دعاء الكفار كما هو ظاهر سياق الآية، والوعد المطلق في دعاء المؤمنين. وعليه فدعاؤهم لا يرد، إما أن يعطوا ما سألوا أو يدخر لهم خير منه أو يدفع عنهم من السوء بقدره.
وقال بعض العلماء : المراد بالدعاء العبادة وبالإجابة الثواب، وعليه فلا إشكال.
بينه قوله :﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، والعرب تسمى ضوء الصبح خيطًا، وظلام الليل المختلط به خيطًا، ومنه قول أبي دؤاد الإيادي :
فلما أضاءت لنا سدفة | ولاح من الصبح خيط أنارا |
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق | والخيط الأسود جنح الليل مكتوم |
لم يصرح هنا بالمراد بمن اتقى، ولكنه بينه بقوله :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر والملائكة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون ١٧٧ ﴾، والكلام في الآية على حذف مضاف، أي ولكن ذا البر من اتقى، وقيل : ولكن البر برّ من اتقى، ونظير الآية في ذلك من كلام العرب قول الخنساء :
لا تسأم الدهر منه كلما ذكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال، وقول الشاعر :
وكيف تواصل من أصبحت *** خلالته كأبي مرحب
أي كخلالة أبي مرحب، وقول الآخر :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى *** ولكنما الفتيان كل فتى ندى
أي ليس الفتيان فتيان نبات اللحى.
فيه ثلاثة أوجه للعلماء :
الأول : أن المراد بالذين يقاتلونكم من شأنهم القتال، أي دون غيرهم، كالنساء، والصبيان، والشيوخ الفانية، وأصحاب الصوامع.
الثاني : أنها منسوخة بآيات السيف الدّالة على قتالهم مطلقًا.
الثالث : أن المراد بالآية تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار، فكأنه يقول لهم : هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم خصومكم، وأعداؤكم الذين يقاتلونكم، وأظهرها الأول. وعلى القول الثالث فالمعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾.
اختلف العلماء في المراد بالإحصار في هذه الآية الكريمة فقال قوم : هو صدّ العدو المحرم ومنعه إياه من الطواف بالبيت.
وقال قوم : المراد به حبس المحرم بسبب مرض ونحوه.
وقال قوم : المراد به ما يشمل الجميع من عدو ومرض ونحو ذلك.
ولكن قوله تعالى بعد هذا :﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ ﴾، يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو للمحرم ؛ لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب انصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض، ونحو ذلك، ويؤيّده أنه لم يذكر الشيء الذي منه الأمن، فدلّ على أن المراد به ما تقدم من الإحصار، فثبت أنه الخوف من العدوّ، فما أجاب به بعض العلماء من أن الأمن يطلق على الأمن من المرض، كما في حديث « من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص، واللوص، والعلوص »، أخرجه ابن ماجه في سننه فهو ظاهر السقوط، لأن الأمن فيه مقيد بكونه من المرض، فلو أطلق لانصرف إلى الأمن من الخوف.
وقد يجاب أيضًا بأنه يخاف وقوع المذكور من الشوص الذي هو وجع السن، واللوص الذي هو وجه الأذن، والعلوص الذي هو وجع البطن ؛ لأنه قبل وقوعها به يطلق عليه أنه خائف من وقوعها ؛ فإذا أمن من وقوعها به فقد أمن من خوف.
أما لو كانت وقعت به بالفعل فلا يحسن أن يقال أمن منها ؛ لأن الخوف في لغة العرب هو الغم من أمر مستقبل، لا واقع بالفعل، فدلّ هذا على أن زعم إمكان إطلاق الأمن على الشفاء من المرض خلاف الظاهر. وحاصل تحرير هذه المسألة في مبحثين :
الأول : في معنى الإحصار في اللغة العربية.
الثاني : في تحقيق المراد به في الآية الكريمة وأقوال العلماء وأدلتها في ذلك، ونحن نبيّن ذلك كله إن شاء اللَّه تعالى.
اعلم أن أكثر علماء العربية يقولون : إن الإحصار هو ما كان عن مرض أو نحوه، قالوا : تقول العرب : أحصره المرض يُحصِره بضم الياء وكسر الصاد إحصارًا، وأما ما كان من العدو فهو الحصر، تقول العرب حصر العدو يَحصُره بفتح الياء وضم الصاد حَصْرًا بفتح فسكون، ومن إطلاق الحصر في القرآن على ما كان من العدو قوله تعالى :﴿ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾، ومن إطلاق الإحصار على غير العدوّ كما ذكرنا عن علماء العربية.
قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الآية.
وقول ابن ميادة :
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت | عليك ولا أن أحصرتك شغول |
وقال جماعة من علماء العربية : إن الإحصار يستعمل في الجميع، وكذلك الحصر، وممن قال باستعمال الإحصار في الجميع الفرّاء، وممن قال : بأن الحصر والإحصار يستعملان في الجميع أبو نصر القشيري.
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدوّ كما سترى تحقيقه إن شاء اللَّه، هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار. وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال :
الأول : أن المراد به حصر العدوّ خاصة دون المرض ونحوه، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير، وهو قول سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير - رضي اللَّه عنهم - وبه قال مروان وإسحاق، وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهم اللَّه.
وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدوّ خاصة، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت ويسعى، فيكون متحلّلاً بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين :
الأول : أن الآية الكريمة التي هي قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾، نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ستّ بإطباق العلماء.
وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو، الذي هو سبب نزولها قطعي، فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه. وروي عن مالك -رحمه اللَّه- أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته، وهو خلاف قول الجمهور وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
واجزم بإدخال ذوات السبب | وارو عن الإمام ظنا تصب |
الأمر الثاني : ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلّل إلا بالطواف والسعي، فمن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده، والبيهقي عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدوّ.
قال النووي في شرح المهذب : إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه أيضًا ابن حجر، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه كان يقول : " أليس حسبكم سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا " ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ، والبيهقي عن ابن عمر أنه قال :« المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بدّ له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى » ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ. والبيهقي أيضًا عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديمًا أنه قال : خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، والناس فلم يرخص لي أحد أن أُحل، فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة. والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك.
قال ابن عبد البر : هو أبو قلابة عبد اللَّه بن زيد الجرمي، شيخ أيوب ومعلمه كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة، ورواه ابن جرير من طرق، وسمى الرجل يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير.
ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضًا عن سليمان بن يسار « أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم، فسأل - على الماء الذي كان عليه - عن العلماء، فوجد عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزبير، ومروان بن الحكم، فذكر لهم الذي عرض له، فكُلُّهُم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه، ويفتدي، فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه، ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي ».
قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو، وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالاً، ثم يحجان عامًا قابلاً ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ، والبيهقي أيضًا عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها كانت تقول :« المحرم لا يحله إلا البيت » والظاهر أنها تعني غير المحصر بعدو، كما جزم به الزرقاني في شرح الموطأ، هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه.
القول الثاني : في المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه، وما كان من مرض ونحوه، من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم. وممن قال بهذا القول ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، وعروة بن الزبير، وإبراهيم النخعي، وعلقمة، والثوري، والحسن، وأبو ثور، وداود وهو مذهب أبي حنيفة. وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدوّ قد تقدمت في حجة الذي قبله.
وأما من جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول :«من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه حجّة أخرى » فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا : صدق.
وفي رواية لأبي داود وابن ماجه : من عرج، أو كسر، أو مرض، فذكر معناه.
وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي من حبس بكسر أو مرض، هذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري، وحسنه الترمذي.
وقال النووي في شرح المهذب، بعد أن ساق حديث عكرمة هذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة، وبهذا تعلم قوة حجة أهل هذا القول، ورد المخالفون الاحتجاج بحديث عكرمة هذا من وجهين :
الأول : ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى، قال : وقد حمله بعض أهل العلم إن صح على أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض. فقد روينا عن ابن عباس ثابتًا عنه، قال : لا حصر إلا حصر عدوّ واللَّه أعلم. انتهى منه بلفظه.
الوجه الثاني : هو حمل حلّه المذكور في الحديث على ما إذا اشترط في إحرامه أنه يحلّ حيث حبسه اللَّه بالعذر، والتحقيق : جواز الاشتراط في الحج بأن يحرم ويشترط أن محله حيث حبسه اللَّه، ولا عبرة بقول من منع الاشتراط، لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت : دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير. فقال لها : لعلك أردت الحجّ ؟ قالت : واللَّه ما أجدني إلا وجعة. فقال لها :« حجّي واشترطي، وقولي : اللهمّ محلّي حيث حبستني ». وكانت تحت المقداد بن الأسود.
وقد أخرج مسلم في صحيحه »، وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : " أن ضباعة بنت الزبير قالت : يا رسول اللَّه : إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فكيف تأمرني أأهل ؟ قال أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني، قال : فأدركت ".
وللنسائي في رواية : وقال :«فإن لك على ربك ما استثنيت ».
القول الثالث : في المراد بالإحصار أنه ما كان من المرض ونحوه خاصة، دون ما كان من العدو.
وقد قدمنا أنه المنقول عن أكثر أهل اللغة، وإنما جاز التحلل من إحصار العدوّ عند من قال بهذا القول ؛ لأنه من إلغاء الفارق وأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به، فإحصار العدوّ عندهم ملحق بإحصار المرض بنفي الفارق.
ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمنا من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية، وأن صورة سبب النزول قطعية الدخول، كما عليه الجمهور وهو الحق.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه- الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل من الأقوال المذكورة هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، أن المراد بالإحصار في الآية إحصار العدوّ، وأن من أصابه مرض أو نحوه لا يحلّ إلا بعمرة ؛ لأن هذا هو الذي نزلت فيه الآية ودل عليه قوله تعالى :﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ ﴾ الآية.
ولاسيما على قول من قال من العلماء : إن الرخصة لا تتعدى محلها، وهو قول جماعة من أهل العلم.
وأما حديث عكرمة الذي رواه عن الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم، فلا تنهض به حجة ؛ لتعين حمله على ما إذا اشترط ذلك عند الإحرام ؛ بدليل ما قدمنا من حديث عائشة عند الشيخين، وحديث ابن عباس عند مس
لم يبيّن هنا ما هذا الفضل الذي لا جناح في ابتغائه أثناء الحج. وأشار في آيات أُخر إلى أنه ربح التجارة كقوله :﴿ و آخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ ؛ لأن الضرب في الأرض عبارة عن السفر للتجارة، فمعنى الآية : يسافرون يطلبون ربح التجارة. وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فَانتَشِرُواْ في الأرض وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ﴾، أي : بالبيع والتجارة، بدليل قوله قبله :﴿ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ﴾، أي : فإذا انقضت صلاة الجمعة فاطلبوا الربح الذي كان محرمًا عليكم عند النداء لها.
وقد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب أن غلبة إرادة المعنى المعين في القرآن تدلّ على أنه المراد ؛ لأن الحمل على الغالب أولى، ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بالفضل المذكور في الآية ربح التجارة، كما ذكرنا
لم يبيّن هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة حَيْثُ، التي هي كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان.
ولكنه يبيّن ذلك بقوله :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ﴾ الآية. وسبب نزولها أن قريشًا كانوا يقفون يوم عرفة بالمزدلفة، ويقولون : نحن قطان بيت اللَّه، ولا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ؛ لأن عرفات خارج عن الحرم وعامة الناس يقفون بعرفات، فأمر اللَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وهو عرفات، لا من المزدلفة كفعل قريش.
وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وحكى ابن جرير عليه الإجماع، وعليه فلفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة، وترتيبها عليها في مطلق الذكر، ونظيره قوله تعالى :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ١٣ أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ ١٤ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ١٥ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ١٦ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ ١٧ ﴾.
وقول الشاعر :
إن من ساد ثم ساد أبوه | ثم قد ساد قبل ذلك جده |
قال ابن جرير في هذا القول : ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح.
لم يبيّن هنا سخرية هؤلاء الكفار من هؤلاء المؤمنين ولكنه بيّن في موضع آخر أنها الضحك منهم والتغامز وهو قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ ٢٩ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ٣٠ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.
لم يبين هنا فوقية هؤلاء المؤمنين على هؤلاء الكفرة، ولكنه بين ذلك في مواضع أُخر كقوله :﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ ٣٥ ﴾.
وقوله :﴿ أهؤلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾.
لم يصف هذا الخير هنا بالكثرة وقد وصفه بها في قوله :﴿ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾.
لم يبيّن هنا هل استطاعوا ذلك أو لا ؟ ولكنه بيّن في موضع آخر أنهم لم يستطيعوا، وأنهم حصل لهم اليأس من ردّ المؤمنين عن دينهم، وهو قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾ الآية. وبيّن في مواضع أُخر أنه مظهر دين الإسلام على كل دين كقوله في براءة، والصف، والفتح :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ﴾.
لم يبيّن هنا ما هذا الإثم الكبير ؟ ولكنه بيّن في آية أُخرى أنه إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، والصدّ عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة، وهي قوله :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ منتهون. ﴾ ﴿ المائدة ٩١ ﴾.
ظاهر عمومه شمول الكتابيات، ولكنّه بيّن في آية أُخرى أن الكتابيات لسن داخلات في هذا التحريم، وهي قوله تعالى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾، فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله :﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ﴾، وقوله :﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، والعطف يقتضي المغايرة، فالجواب أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلك قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قاتلهم الله أنى يؤفكون ٣٠ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ٣١ ﴾.
لم يبيّن هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة " حيث " ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين.
إحداهما : هي قوله هنا :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ﴾ ؛ لأن قوله :﴿ فَاتُواْ ﴾ أمر بالإتيان بمعنى الجماع، وقوله :﴿ حَرْثِكُمْ ﴾، يبيّن أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث، يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى ؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري.
الثانية : قوله تعالى :﴿ فَالآن بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ ؛ لأن المراد بما كتب اللَّه لكم، الولد، على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير، وقد نقله عن ابن عباس، ومجاهد، والحكم، وعكرمة، والحسن البصري، والسدي، والربيع، والضحاك بن مزاحم، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل. فالقبل، إذن هو المأمور بالمباشرة فيه، بمعنى الجماع فيكون معنى الآية : فالآن باشروهن ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد، الذي هو القبل دون غيره، بدليل قوله :﴿ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾، يعني الولد.
ويتّضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى :﴿ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾، يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب، أو غير ذلك، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي اللَّه عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾.
فظهر من هذا أن جابرًا رضي اللَّه عنه يرى أن معنى الآية، فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها.
والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب طلعة الأنوار بقوله :
تفسير صاحب له تعلق *** بالسبب الرفع له محقق
وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾، ما نصّه : وما استهلّ به المخالف من أن قوله عزّ وجلّ شامل للمسالك بحكم عمومها، فلا حجة فيها : إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة، حِسان شهيرة، رواها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًا، بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم.
وقد جمعها أبو الفرج الجوزي بطرقها في جزء سماه تحريم المحل المكروه.
ولشيخنا أبي العباس أيضًا في ذلك جزء سماه « إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار » قلتوهذا هو الحقّ المتبع، والصحيح في المسألة.
ولا ينبغي لمؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصحّ عنه، وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله وهذا هو اللائق به رضي اللَّه عنه، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي وقد تقدم.
وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه، وروى الدارمي في مسنده، عن سعيد بن يسار أبي الحباب. قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري حين أحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكرت له الدبر. فقال : هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وأسند عن خزيمة بن ثابت : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول :« أيها الناس إن اللَّه لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن »، ومثله عن علي بن طلق، وأسند عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :« من أتى امرأة في دبرها لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة ».
وروي أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :« تلك اللوطية الصغرى » يعني إتيان المرأة في دبرها.
وروي عن طاوس أنه قال : كان بدأ عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن، قال ابن المنذر وإذا ثبت الشيء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استغنى به عمّا سواه، من القرطبي بلفظه. وقال القرطبي أيضًا ما نصه : وقال مالك لابن وهب، وعلي بن زياد، لما أخبراه أن ناسًا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال : كذبوا عليّ، كذبوا عليّ، كذبوا عليّ. ثم قال : ألستم قومًا عربًا ؟ ألم يقل اللَّه تعالى :﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾، وهل يكون الحرث إلاّ في موضع المنبت ؟ منه بلفظه أيضًا.
ومما يؤيّد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن، أن اللَّه تعالى حرّم الفرج في الحيض لأجل القذر العارض له، مبينًا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله :﴿ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ﴾ الآية. فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة. ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة ؛ لأن دم الإستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض، ولا كنجاسة الدبر ؛ لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح، ومما يؤيّد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها معيبة ترد بذلك العيب.
قال ابن عبد البر : لم يختلف العلماء في ذلك، إلا شيئًا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي، أن الرتقاء لا ترد بالرتق. والفقهاء كلهم على خلاف ذلك.
قال القرطبي : وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعًا للوطء، ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. فإن قيل قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر، فالجواب أن العقم لا يرد به، ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبًا للرد.
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يردّ به، في تفسير قوله تعالى :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ﴾ الآية، فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام.
فاعلم أن من روى عنه جواز ذلك كابن عمر، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين، والمتأخرين، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر، كما يبينه حديث جابر والجمع واجب إذا أمكن. قال ابن كثير في تفسير قوله :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ ما نصه :
قال أبو محمد، عبد الرحمان بن عبد اللَّه الدارمي في مسنده : حدّثنا عبد اللَّه بن صالح، حدّثنا الليث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب، قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدبر، فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟.
وكذا رواه ابن وهب، وقتيبة عن الليث.
وهذا إسناد صحيح ونصّ صريح منه بتحريم ذلك. فكل ما ورد عنه مما يحتمل، ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم، منه بلفظه، وقد علمت أن قوله :﴿ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾، لا دليل فيه للوطء في الدبر ؛ لأنه مرتب بالفاء التعقيبية، على قوله :﴿ نِسَائِكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾، ومعلوم أن الدبر ليس محل حرث، ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن، وفي الفخذين، والساقين، ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث ؛ لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعًا. والكلام في الجماع ؛ لأن المراد بالإتيان في قوله :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ﴾، الجماع والفارق موجود ؛ لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها، والدبر فيه القذر الدائم، والنجس الملازم.
وقد عرفنا من قوله :﴿ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء ﴾ الآية، أن الوطء في محل الأذى لا يجوز.
وقال بعض العلماء : معنى قوله :﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ﴾، أي من المكان الذي أمركم اللَّه تعالى بتجنبه ؛ لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوه إلى غيره، ويروى هذا القول عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة، والربيع وغيرهم، وعليه فقوله :﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ﴾ يبينه :﴿ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء ﴾ الآية ؛ لأن من المعلوم أن محل الأذى الذي هو الحيض إنما هو القبل، وهذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا، وهذا القول مبني على أن النهي عن الشيء أمر بضده ؛ لأن ما نهى اللَّه عنه فقد أمر بضده، ولذا تصح الإحالة في قوله :﴿ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ﴾ على النهي في قوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾، والخلاف في النهي عن الشيء هو أمر بضده ؟ معروف في الأصول، وقد أشار له في مراقي السعود بقوله :
والنهي فيه غابر الخلاف *** أو أنه أمر بالائتلاف
وقيل لا قطعًا كما في المختصر *** وهو لدى السبكي رأي ما انتصر
ومراده بغابر الخلاف : هو ما ذكر قبل هذا من الخلاف في الأمر بالشيء، هل هو عين النهي عن ضده، أو مستلزم له أو ليس عينه ولا مستلزمًا له ؟ يعني أن ذلك الخلاف أيضًا في النهي عن الشيء هل هو عين الأمر بضده ؟ أو ضد من أضداده إن تعددت ؟ أو مستلزم لذلك ؟ أو ليس عينه ولا مستلزمًا له ؟ وزاد في النهي قولين :
أحدهما : أنه أمر بالضدّ اتفاقًا.
والثاني : أنه ليس أمرًا به قطعًا، وعزا الأخير لابن الحاجب في مختصره وأشار إلى أن السبكي في جمع الجوامع، ذكر أنه لم يرَ ذلك القول لغير ابن الحاجب.
وقال الزجاج : معنى ﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ﴾، أي : من الجهات التي يحلّ فيها أن تقرب المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا يحل، كما إذا كن صائمات، أو محرمات، أو معتكفات.
وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد :﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ﴾، يعني طاهرات غير حيض، والعلم عند اللَّه تعالى.
لم يصرح هنا بالمراد بما كسبته قلوبهم، ولم يذكر هنا ما يترتب على ذلك إذا حنث، ولكنه بيّن في سورة المائدة، أن المراد بما كسبت القلوب، هو عقد اليمين بالنيّة والقصد، وبيّن أن اللازم في ذلك إذا حنث كفارة، هي : إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة ومن عجز عن واحد من الثلاثة فصوم ثلاثة أيام، وذلك في قوله :﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهليكمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ الآية.
ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات، ولكنه بيّن في آيات أُخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم، كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل، في قوله :﴿ وَأُوْلاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾. وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهنّ لا عدة عليهن أصلاً، بقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وسرحوهن سراحا جميلاَ ﴾.
أما اللواتي لا يحضن، لكبر أو صغر فقد بيّن أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله :﴿ واللائي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ﴾. فيه إجمال : لأن القرء يطلق لغة على الحيض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :« دعي الصلاة أيام أقرائك ». ويطلق القرء لغة أيضًا على الطهر ومنه قول الأعشى :
أفي كل يوم أنت جاشم غزوة | تشد لأقصاها عزيم عزائكا |
مورثة مالا وفي الحي رفعة | لما ضاع فيها من قروء نسائكا |
وسبب الخلاف اشتراك القرء بين الطهر والحيض كما ذكرنا، وممن ذهب إلى أن المراد بالقرء في الآية الطهر، مالك والشافعي وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عمر والفقهاء السبعة، وأبان بن عثمان، والزهري وعامّة فقهاء المدينة، وهو رواية عن أحمد، وممن قال : بأن القروء الحيضات، الخلفاء الراشدون الأربعة، وابن مسعود، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وابن عباس، ومعاذ بن جبل، وجماعة من التابعين وغيرهم، وهو الرواية الصحيحة عن أحمد.
واحتجّ كل من الفريقين بكتاب وسنة، وقد ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب أننا في مثل ذلك نرجح ما يظهر لنا أن دليله أرجح، أما الذين قالوا : القروء : الحيضات، فاحتجّوا بأدلة كثيرة منها قوله تعالى :﴿ واللائي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ ﴾، قالوا : فترتيب العدة بالأشهر على عدم الحيض يدلّ على أن أصل العدة بالحيض، والأشهر بدل من الحيضات عند عدمها، واستدلوا أيضًا بقوله :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ في أَرْحَامِهِنَّ ﴾.
قالوا هو الولد، أو الحيض، واحتجّوا بحديث « دعي الصلاة أيام أقرائك »، قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم هو مبين الوحي وقد أطلق القرء على الحيض، فدلّ ذلك على أنه المراد في الآية، واستدلوا بحديث اعتداد الأمة بحيضتين، وحديث استبرائها بحيضة.
وأما الذين قالوا القروء الأطهار، فاحتجّوا بقوله تعالى :﴿ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾، قالوا : عدتهن المأمور بطلاقهن لها الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية، ويزيده إيضاحًا قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث ابن عمر المتفق عليه :« فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر اللَّه »، قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه، بأن الطهر هو العدة التي أمر اللَّه أن يطلق لها النساء، مبينًا أن ذلك هو معنى قوله تعالى :﴿ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾، وهو نصّ من كتاب اللَّه وسنّة نبيّه في محل النزاع.
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - : الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا، فصل في محل النزاع ؛ لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار ؟ وهذه الآية، وهذا الحديث، دلاّ على أنها الأطهار.
ولا يوجد قي كتاب اللَّه، ولا سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم شيء يقاوم هذا الدليل، لا من جهة الصحة، ولا من جهة الصراحة في محل النزاع ؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب اللَّه تعالى.
وقد صرح فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بأن الطهر هو العدة مبينًا أن ذلك هو مراد اللَّه جلّ وعلا، بقوله :﴿ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾، فالإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم :«فتلك العدّة »، راجعة إلى حال الطهر الواقع فيه الطلاق ؛ لأن معنى قوله «فليطلقها طاهرًا »، أي : في حال كونها طاهرًا، ثم بيّن أن ذلك الحال الذي هو الطهر هو العدّة مصرحًا بأن ذلك هو مراد اللَّه في كتابه العزيز، وهذا نص صريح في أن العدة بالطهر. وأنث بالإشارة لتأنيث الخبر، ولا تخلص من هذا الدليل لمن يقول هي الحيضات إلا إذا قال العدة غير القروء، والنزاع في خصوص القروء كما قال بهذا بعض العلماء.
وهذا القول يرده إجماع أهل العرف الشرعي، وإجماع أهل اللسان العربي، على أن عدة من تعتدّ بالقروء هي نفس القروء لا شيء آخر زائد على ذلك. وقد قال تعالى :﴿ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ ﴾، وهي زمن التربص إجماعًا، وذلك هو المعبّر عنه بثلاثة قروء التي هي معمول قوله تعالى :﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾، في هذه الآية فلا يصح لأحد أن يقول : إن على المطلقة التي تعتد بالأقراء شيئًا يسمى العدّة، زائدًا على ثلاثة القروء المذكورة في الآية الكريمة البتة، كما هو معلوم.
وفي القاموس : وعدة المرأة أيام أقرائها، وأيام إحدادها على الزوج، وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شيء زائد عليها، وفي اللسان : وعدة المرأة أيام أقرائها، وعدتها أيضًا أيام إحدادها على بعلها، وإمساكها عن الزينة شهورًا كان أو أقراء أو وضع حمل حملته من زوجها.
فهذا بيان بالغ من الصحة والوضوح والصراحة في محل النزاع، ما لا حاجة معه إلى كلام آخر. وتؤيده قرينة زيادة التاء في قوله :﴿ ثَلاثَةَ قُرُوء ﴾، لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار ؛ لأنها مذكرة والحيضات مؤنثة.
وجواب بعض العلماء عن هذا بأن لفظ القرء مذكر ومسماه مؤنث وهو الحيضة، وأن التاء إنما جيء بها مراعاة للفظ وهو مذكر لا للمعنى المؤنث.
يقال فيه : إن اللفظ إذا كان مذكرًا، ومعناه مؤنثًا لا تلزم التاء في عدده، بل تجوز فيه مراعاة المعنى، فيجرد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
وكان مجني دون من كنت أتقي | ثلاث شخوص كاعبان ومعصر |
وإن كلابًا هذه عشر أبطن | وأنت بريء من قبائلها العشر |
ثلاثة أنفس وثلاث ذود | لقد عال الزمان على عيالي |
فإن قيل : ذكر بعض العلماء أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ، ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلّت عليه قرينة، أو كان قصد ذلك المعنى كثيرًا، والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين، قال الأشموني في شرح قول ابن مالك :
ثلاثة بالتاء قل للعشرة | في عد ما آحاده مُذكّرة |
الثاني اعتبار التأنيث في واحد المعدود إن كان اسمًا فبلفظه، تقول : ثلاثة أشخص، قاصدًا نسوة، وثلاث أعين قاصدًا رجال ؛ لأن لفظ شخص مذكر، ولفظ عين مؤنث هذا ما لم يتصل بالكلام ما يقوي المعنى : أو يكثر فيه قصد المعنى.
فإن اتصل به ذلك جاز مراعاة المعنى، فالأول كقوله :
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر.
وكقوله : وإن كلابًا.. البيت.
والثاني كقوله : ثلاثة أنفس وثلاث ذود ا ه .
وقال الصبان في حاشيته عليه : وبما ذكره الشارح يرد ما استدل به بعض العلماء في قوله تعالى :﴿ ثلاثَةَ قُرُوء ﴾. ﴿ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ﴾، على أن الأقراء الأطهار لا الحيض، وعلى أن شهادة النساء غير مقبولة ؛ لأن الحيض جمع حيضة : فلو أريد الحيض لقيل ثلاث، ولو أريد النساء لقيل بأربع.
ووجه الرد أن المعتبر هنا اللفظ، ولفظ قرء وشهيد مذكرين، منه بلفظه.
فالجواب واللَّه تعالى أعلم، أن هذا خلاف التحقيق، والذي يدلّ عليه استقراء اللغة العربية جواز مراعاة المعنى مطلقًا، وجزم بجواز مراعاة المعنى في لفظ العدد ابن هشام، نقله عنه السيوطي، بل جزم صاحب التسهيل وشارحه الدماميني : بأن مراعاة المعنى في واحد المعدود متعينة.
قال الصبان في حاشيته ما نصه : قوله : فبلفظه ظاهره أن ذلك على سبيل الوجوب، ويخالفه ما نقله السيوطي عن ابن هشام وغيره من أن ما كان لفظه مذكرًا، ومعناه مؤنثًا، أو بالعكس، فإنه يجوز فيه وجهان ا ه.
ويخالفه أيضًا ما في التسهيل وشرحه للدماميني. وعبارة التسهيل تحذف تاء الثلاثة وأخواتها، إن كان واحد المعدود مؤنث المعنى حقيقة أو مجازًا.
قال الدماميني : استفيد منه أن الاعتبار في الواحد بالمعنى لا باللفظ ؛ فلهذا يقال ثلاثة طلحات ثم قال في التسهيل : وربما أول مذكر بمؤنث، ومؤنث بمذكر، فجيء بالعدد على حسب التأويل، ومثل الدماميني الأول بنحو ثلاث شخوص، يريد نسوة وعشر أبطن يريد قبائل.
والثاني بنحو ثلاثة أنفس، أي أشخاص وتسعة وقائع، أي مشاهد، فتأمل. انتهى منه بلفظه. وما جزم به صاحب التسهيل وشارحه، من تعين مراعاة المعنى، يلزم عليه تعين كون القرء في الآية هو الطهر، كما ذكرنا.
وفي حاشية الصبان أيضًا ما نصه : قوله : جاز مراعاة المعنى في التوضيح أن ذلك ليس قياسيًا، وهو خلاف ما تقدم عن ابن هشام وغيره، من أن ما كان لفظه مذكرًا، ومعناه مؤنثًا، أو بالعكس، يجوز فيه وجهان، أي : ولو لم يكن هناك مرجح للمعنى، وهو خلاف ما تقدم عن التسهيل. وشرحه أن العبرة بالمعنى، فتأمل. ا ه منه.
وأما الاستدلال على أنها الحيضات بقوله تعالى :﴿ واللائي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ﴾ الآية، فيقال فيه : إنه ليس في الآية ما يعين أن القروء الحيضات، لأن الأقراء لا تقال في الأطهار إلا في الأطهار التي يتخللها حيض، فإن عدم الحيض عدم معه اسم الأطهار، ولا مانع إذن من ترتيب الاعتداد بالأشهر على عدم الحيض مع كون العدة بالطهر ؛ لأن الطهر المراد يلزمه وجود الحيض وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، فانتفاء الحيض يلزمه انتفاء الأطهار فكأن العدة بالأشهر مرتبة أيضًا على انتفاء الأطهار، المدلول عله بانتفاء الحيض. وأما الاستدلال بآية :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ في أَرْحَامِهِنَّ ﴾، فهو ظاهر السقوط ؛ لأن كون القروء الأطه
ظاهر هذه الآية الكريمة أن الطلاق كله منحصر في المرتين، ولكنه تعالى بين أن المنحصر في المرتين هو الطلاق الذي تملك بعده الرجعة لا مطلقًا، وذلك بذكره الطلقة الثالثة التي لا تحل بعدها المراجعة إلا بعد زوج. وهي المذكورة في قوله :﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ﴾ الآية، وعلى هذا القول فقوله :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾، يعني به عدم الرجعة.
وقال بعض العلماء الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله تعالى :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾، وروي هذا مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم.
تنبيه
ذكر بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى :﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ﴾ الآية، ويؤخذ منها وقوع الطلاق الثلاث في لفظ واحد وأشار البخاري بقوله :« باب من جوّز الطلاق الثلاث ؛ لقول اللَّه تعالى ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾.
والظاهر أن وجه الدلالة المراد عند البخاري، هو ما قاله الكرماني من أنه تعالى لما قال :﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ﴾، علمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة، جاز جمع الثلاث، ورد ابن حجر هذا بأنه قياس مع وجود الفارق وجعل الآية دليلاً لنقيض ذلك. قال مقيده -عفا اللَّه عنه- : الظاهر أن الاستدلال بالآية غير ناهض ؛ لأنه ليس المراد حصر الطلاق كله في المرتين حتى يلزم الجمع بين اثنتين في إحدى التطليقتين كما ذكر، بل المراد بالطلاق المحصور : هو خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرجعة كما ذكرنا، وكما فسر به الآية جماهير علماء التفسير. وقال بعض العلماء وجه الدليل في الآية أن قوله تعالى :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾، عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة واحدة، ولا يخفى عدم ظهوره. ولكن كون الآية لا دليل فيها على وقوع الثلاث بلفظ واحد، لا ينافي أن تقوم على ذلك أدلة وسنذكر أدلة ذلك، وأدلة من خالف فيه، والراجح عندنا في ذلك إن شاء اللَّه تعالى، مع إيضاح خلاصة البحث كله في آخر الكلام إيضاحًا تامًا.
فنقول وباللَّه نستعين : اعلم أن من أدلة القائلين بلزوم الثلاث مجتمعة، حديث سهل بن سعد الساعدي، الثابت في الصحيح في قصة لعان عويمر العجلاني وزوجه ؛ فإن فيه :« فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول اللَّه، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين ».
أخرج البخاري هذا الحديث تحت الترجمة المتقدمة عنه ووجه الدليل منه : أنه أوقع الثلاث في كلمة واحدة، ولم ينكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ورد المخالف الاستدلال بهذا الحديث ؛ بأن المفارقة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تطليقه الثلاث محلاً، ورد هذا الاعتراض ؛ بأن الاحتجاج بالحديث من حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعًا لأنكره، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان. وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب، ولا سنة صريحة، ولا إجماع. والعلماء مختلفون في ذلك.
فذهب مالك وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان، وإنما تتحقق بلعان الزوجين معًا، وهو رواية عن أحمد. وذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان، وتقع عند فراغ الزوج من أيمانه قبل لعان المرأة، وهو قول سحنون من أصحاب مالك.
وذهب الثوري وأبو حنيفة وأتباعهما إلى أنها لا تقع حتى يوقعها الحاكم ؛ واحتجّوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر :« أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرّق بين رجل وامرأة قذفها، وأحلفهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ». وأخرج أيضًا في صحيحه عن ابن عمر من وجه آخر أنه قال :« لاعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار، وفرق بينهما ». ورواه باقي الجماعة عن ابن عمر، وبه تعلم أن قول يحيى بن معين : إن الرواية بلفظ فرق بين المتلاعنين خطأ : يعني في خصوص حديث سهل بن سعد المتقدم، لا مطلقًا، بدليل ثبوتها في الصحيح من حديث ابن عمر، كما ترى. قال ابن عبد البرّ : إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فمردود. وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : " ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ فرّق بين المتلاعنين، إنما المراد به في حديث سهل بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ، وقال بعده لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد ثم أخرج من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر فرّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان " ا ه محل الغرض منه بلفظه، وقد قدمنا في حديث سهل « فكانت سنة المتلاعنين ».
واختلف في هذا اللفظ هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلاً وبه قال جماعة من العلماء ؟ أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل ؟ ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد اللَّه الفهري عن ابن شهاب عن سهل. قال : فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنة.
قال سهل : حضرت هذا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين، أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا.
هذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري.
قال الشوكاني في نيل الأوطار : ورجاله رجال الصحيح.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه- ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور واقع موقعه ؛ لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري - رحمه اللَّه - يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود، مطابق لترجمة البخاري، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها ؛ لأنها ليست على شرطه، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه الرواية الثابتة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له ؛ بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى.
وذهب عثمان البتي وأبو الشعثاء جابر بن زيد البصري، أحد أصحاب ابن عباس من فقهاء التابعين إلى أن الفرقة لا تقع حتى يوقعها الزوج، وذهب أبو عبيد إلى أنها تقع بنفس القذف وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرًا قطعيًا، حتى ترد به دلالة تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم عويمر العجلاني، على إيقاع الثلاث دفعة، الثابت في الصحيح، لاسيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك، فإن قيل قد وقع في حديث لأبي داود عن ابن عباس وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى، من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها.
فالجواب أن هذا التعليل لعدم إيجاب النفقة والسكنى ؛ للملاعنة بعدم طلاق أو وفاة يحتمل كونه من ابن عباس، وليس مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الظاهر أن ابن عباس ذكر العلة لما قضى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من عدم النفقة والسكنى، وأراه اجتهاده أن علة ذلك عدم الطلاق والوفاة.
والظاهر أن العلة الصحيحة لعدم النفقة والسكنى هي البينونة بمعناها الذي هو أعم من وقوعها بالطلاق أو بالفسخ، بدليل أن البائن بالطلاق لا تجب لها النفقة والسكنى على أصح الأقوال دليلاً.
فعلم أن عدم النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق.
وأوضح دليل في ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث فاطمة بنت قيس رضي اللَّه عنها :« أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى » أخرجه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد وأصحاب السنن، وهو نص صريح صحيح في أن البائن بالطلاق لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا الحديث أصح من حديث ابن عباس المتقدم.
وصرح الأئمة بأنه لم يثبت من السنة ما يخالف حديث فاطمة هذا، وما وقع في بعض الروايات عن عمر : أنه قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : " لها السكنى والنفقة ". فقال قال الإمام أحمد : لا يصح ذلك عن عمر.
وقال الدارقطني : السنة بيد فاطمة قطعًا، وأيضًا تلك الرواية عن عمر من طريق إبراهيم النخعي ومولده بعد موت عمر بسنتين.
قال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى- ونحن نشهد باللَّه شهادة نسأل عنها إذا لقيناه، أنها كذب على عمر وكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا حققت أن السنة معها وأنها صاحبة القصة، فاعلم أنها لما سمعت قول عمر لا نترك كتاب اللَّه وسنة نبيّنا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، قالت : بيني وبينكم كتاب اللَّه. قال اللَّه :﴿ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾، حتى قال :﴿ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ١ ﴾. فأي أمر يحدث بعد الثلاث، رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، ومسلم بمعناه. فتحصل أن السنة بيدها، وكتاب اللَّه معها.
وهذا المذهب بحسب الدليل هو أوضح المذاهب وأصوبها. وللعلماء في نفقة البائن وسكناها أقوال غير هذا. فمنهم من أوجبهما معًا، ومنهم من أوجب السكنى دون النفقة، ومنهم من عكس.
فالحاصل أن حديث فاطمة هذا يرد تعليل ابن عباس المذكور، وأنه أصح من حديثه، وفيه التصريح بأن سقوط النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق، بل يكون مع الطلاق البائن. وأيضًا فالتصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث دفعة. في الرواية المذكورة أولى بالاعتبار من كلام ابن عباس المذكور ؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. وهذا الصحابي حفظ إنفاذ الثلاث، والمثبت مقدم على النافي.
فإن قيل : إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان ؛ لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية. فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان.
ويدلّ لهذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال :«أيُلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم ؟ » كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد فالجواب من أربعة أوجه :
الأول : الكلام في حديث محمود بن لبيد، فإنه تكلم من جهتين :
الأولى : أنه مرسل ؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن كانت ولادته في عهده صلى الله عليه وسلم، وذكره في الصحابة من أجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده، وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسماع.
الثانية : أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير. يعني ابن الأشج عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه، وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما.
وقال ابن المديني : سمع من أبيه قليلاً. قال ابن حجر في التقريب : روايته عن أبيه وجادة من كتابه، قال أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني : سمع من أبيه قليلاً.
قال مقيده
ظاهر قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾، انقضاء عدتهن بالفعل، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه لا رجعة إلا في زمن العدة خاصة، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك ﴾ ؛ لأن الإشارة في قوله :﴿ ذلك ﴾ راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه بثلاثة قروء في قوله تعالى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ الآية. فاتضح من تلك الآية أن معنى ﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾. أي : قاربن انقضاء العدة، وأشرفن على بلوغ أجلها.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ ﴾ الآية.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها ؛ لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها ؛ لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه ؛ ابتغاء السلامة من ضرره. وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها، حتى تفتدي منه وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ ﴾. واختلف العلماء في المراد بالفاحشة المبينة.
فقال جماعة منهم هي : الزنا، وقال قوم هي : النشوز والعصيان وبذاء اللسان. والظاهر شمول الآية للكل كما اختاره ابن جرير.
وقال ابن كثير : إنه جيد، فإذا زنت أو أساءت بلسانها، أو نشزت جازت مضاجرتها ؛ لتفتدي منه بما أعطاها على ما ذكرنا من عموم الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الرجل إذا أراد أن يطلب لولده مرضعة غير أمه لا جناح عليه في ذلك، إذا سلم الأجرة المعينة في العقد، ولم يبيّن هنا الوجه الموجب لذلك، ولكنّه بيّنه في سورة الطَّلاقَ بقوله تعالى :﴿ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ٦ ﴾، والمراد بتعاسرهم : امتناع الرجل من دفع ما تطلبه المرأة، وامتناع المرأة من قبول الإرضاع بما يبذله الرجل ويرضى به.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل متوفى عنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، ولكنه بيّن في موضع آخر أن محل ذلك ما لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً كانت عدتها وضع حملها، وذلك في قوله :﴿ وَأُوْلاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، ويزيده إيضاحًا ما ثبت في الحديث المتفق عليه من إذن النبيّ صلى الله عليه وسلم لسبيعة الأسلمية في الزواج بوضع حملها بعد وفاة زوجها بأيام، وكون عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها هو الحق، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم خلافًا لمن قال : تعتد بأقصى الأجلين. ويروى عن علي وابن عباس، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيهان
الأول : هاتان الآيتان، أعني قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾، وقوله :﴿ وَأُوْلاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، من باب تعارض الأعمين من وجه، والمقرر في الأصول الترجيح بينهما، والراجح منهما يخصص به عموم المرجوح كما عقده في المراقي بقوله :
وإن يك العموم من وجه ظهر *** فالحكم بالترجيح حتمًا معتبر
وقد بيّنت السنّة الصحيحة أن عموم :﴿ وَأُوْلاتُ الأحمال ﴾، مخصص لعموم :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ﴾ الآية. مع أن جماعة من الأصوليين ذكروا أن الجموع المنكرة لا عموم لها، وعليه فلا عموم في آية البقرة ؛ لأن قوله :﴿ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا ﴾، جمع منكر فلا يعم بخلاف قوله :﴿ واللائي يئسن ﴾، فإنه مضاف إلى معرف بأل، والمضاف إلى المعرف بها من صيغ العموم، كما عقده في مراقي السعود بقوله عاطفًا على صيغ العموم :
*وما معرفًا بأل قد وجدا *
أو بإضافة إلى معرف *** إذا تحقق الخصوص قد نفى
الثاني : الضمير الرابط للجملة بالموصول محذوف ؛ لدلالة المقام عليه أي : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بعدهم أربعة أشهر وعشرًا كقول العرب : السمن منوان بدرهم، أي : منوان منه بدرهم.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن المتعة حق لكل مطلقة على مطلقها المتقي، سواء أطلقت قبل الدخول أم لا ؟ فرض لها صداق أم لا ؟ ويدل لهذا العموم قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النبي قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جميلا ٢٨ ﴾، مع قوله :﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾، وقد تقرر في الأصول أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يعم حكمه جميع الأمة إلا بدليل على الخصوص كما عقده في مراقي السعود بقوله :
وما به قد خوطب النبي *** تعميمه في المذهب السني
وهو مذهب الأئمة الثلاثة، خلافًا للشافعي القائل بخصوصه به صلى الله عليه وسلم إلا بدليل على العموم، كما بينّاه في غير هذا الموضع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم : أن أزواج النبيّ مفروض لهن ومدخول بهن، وقد يفهم من موضع آخر أن المتعة لخصوص المطلقة قبل الدخول، وفرض الصداق معًا ؛ لأن المطلقة بعد الدخول تستحق الصداق، والمطلقة قبل الدخول وبعد فرض الصداق تستحق نصف الصداق. والمطلقة قبلهما لا تستحق شيئًا، فالمتعة لها خاصة لجبر كسرها وذلك في قوله تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ ﴾، ثم قال :﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾، فهذه الآية ظاهرة في هذا التفصيل، ووجهه ظاهر معقول.
وقد ذكر تعالى في موضع آخر ما يدل على الأمر بالمتعة للمطلقة قبل الدخول وإن كان مفروضًا لها، وذلك في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ وَسَرّحُوهُنَّ سراحا جميلا ٤٩ ﴾ ؛ لأن ظاهر عمومها يشمل المفروض لها الصداق وغيرها، وبكل واحدة من الآيات الثلاث أخذ جماعة من العلماء، والأحوط الأخذ بالعموم، وقد تقرر في الأصول أن النصّ الدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة، وعقده في مراقي السعود بقوله :
وناقل ومثبت والآمر *** بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة الخ.
فقوله ثم هذا الآخر على إباحة، يعني : أن النصّ الدال على أمر مقدم على النص الدال على إباحة، للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب.
والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعًا لقوله تعالى :﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ﴾، فإن توافقا على قدر معين فالأمر واضح، وإن اختلفا فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط، فيعين القدر على ضوء قوله تعالى :﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ﴾ الآية، هذا هو الظاهر، وظاهر قوله :﴿ وَمَتّعُوهُنَّ ﴾، وقوله :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ ﴾، يقتضي وجوب المتعة في الجملة خلافًا لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلاً، واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن اللَّه تعالى قال :﴿ حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ٢٣٦ ﴾، وقال :﴿ حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ٢٤١ ﴾، قالوا : فلو كانت واجبة لكانت حقًا على كل أحد، وبأنها لو كانت واجبة لعيّن فيها القدر الواجب.
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - هذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر ؛ لأن قوله :﴿ عَلَى الْمُحْسِنِينَ ٢٣٦ ﴾ و ﴿ عَلَى الْمُتَّقِينَ ٢٤١ ﴾ تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقيًا مثلاً ؛ لوجوب التقوى على جميع الناس. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ الآية ما نصّه : وقوله عَلَى المتقين تأكيد لإيجابها ؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي اللَّه في الإشراك به ومعاصيه وقد قال تعالى في القرآن :﴿ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ٢ ﴾، وقولهم لو كانت واجبة لعيّن القدر الواجب فيها، ظاهر السقوط. فنفقة الأزواج والأقارب واجبة ولم يعيّن فيها القدر اللازم، وذلك النوع من تحقيق المناط مجمع عليه في جميع الشرائع كما هو معلوم.
المقصود من هذه الآية الكريمة، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي، فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه، هانت عليه مبارزة الأقران ؛ والتقدم في الميدان. وقد أشار تعالى أن هذا هو مراده بالآية حيث أتبعها بقوله :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الآية، صرح بما أشار إليه هنا في قوله :﴿ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٦ ﴾، وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال ؛ لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه، ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب، كما قال قعنب ابن أم صاحب :
إذا أنت لاقيت في نجدة *** فلا تتهيّبك أن تقدما
فإن المنية من يخشها *** فسوف تصادفه أينما
وإن تتخطّك أسبابها *** فإن قصاراك أن تهرما
وقال زهير :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب *** تُمِتْهُ ومن تخطئ يُعمرَّ فيهرم
وقال أبو الطيب :
وإذا لم يكن من الموت بد *** فمن العجز أن تكون جبانا
ولقد أجاد من قال :
في الجبن عارٌ وفي الإقدام مكرمة *** والمرء في الجبن لا ينجو من القدر
وهذا هو المراد بالآيات المذكورة، ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي هو فيها إذا كنت خارجًا عنها.
تنبيه : لم تأت لفظة أَلَمْ تَرَ ونحوها في القرآن مما تقدمه لفظ ألم، معداة إلا بالحرف الذي هو إِلَى. وقد ظن بعض العلماء أن ذلك لازم، والتحقيق عدم لزومه وجواز تعديته بنفسه دون حرف الجر، كما يشهد له قول امرئ القيس :
ألم ترياني كلما جئت طارقًا *** وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب
لم يبيّن هنا قدر هذه الأضعاف الكثيرة، ولكنه بيّن في موضع آخر أنها تبلغ سبعمائة ضعف وتزيد عن ذلك. وذلك في قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لمن يشاء ﴾.
لم يبيّن هنا شيئًا مما علمه، وقد بيّن في مواضع أُخر أن مما علمه صنعة الدروع كقوله :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ١٠ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ في السَّرْدِ ﴾.
يفهم من تأكيده هنا بان واللام أن الكفار ينكرون رسالته كما تقرر في فن المعاني، وقد صرح بهذا المفهوم في قوله :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا هذا الذي كلمه اللَّه منهم وقد بيّن أن منهم موسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام بقوله :﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما ١٦٤ً ﴾، وقوله :﴿ إني اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكلامِي ﴾.
قال ابن كثير مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ يعني موسى ومحمّدًا صلّى اللَّه عليهما وسلم، وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذرّ رضي اللَّه عنه.
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبيّنه قوله تعالى :﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ َ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾، وأمثالها من الآيات فإنه ظاهر في أنه بغير واسطة الملك، ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها بذلك. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى :﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ﴾، ما نصه : وقد سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال : نعم نبي مكلم، قال ابن عطية : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى ا ه. وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى ﴾، في سورة البقرة ما نصّه : لأن آدم كان هو النبيّ صلى الله عليه وسلم أيام حياته، بعد أن أهبط إلى الأرض، والرسول من اللَّه جلّ ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنيًا وهو - الرسول صلى الله عليه وسلم - بقوله :﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى ﴾، أي : رسل ا ه محل الحجة منه بلفظه. وفيه وفي كلام ابن كثير المتقدم عن صحيح ابن حبان التصريح بأن آدم رسول وهو مشكل مع ما ثبت في حديث الشفاعة المتفق عليه من أن نوحًا عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام أول الرسل ويشهد له قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ ﴾، والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين :
الأول : أن آدم أرسل لزوجه وذرّيته في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدلّ لهذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ويقول :« ولكن ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض »، الحديث. فقوله إلى أهل الأرض، لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض، لكان ذلك الكلام حشوًا، بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا. ويتأنس له بكلام ابن عطية الذي قدمنا نقل القرطبي له.
الوجه الثاني : أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك باللَّه تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ الآية. أي : على الدين الحنيف، أي حتى كفر قوم نوح، وقوله :﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ ﴾ الآية. واللَّه تعالى أَعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾
أشار في مواضع أُخر إلى أن منهم محمّدًا صلى الله عليه وسلم كقوله :﴿ لك عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ٧٩ ﴾، أو قوله :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ الآية. وقوله :﴿ إني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾، وقوله :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ١ ﴾. وأشار في مواضع أُخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله :﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ١٢٠ ﴾، وقوله :﴿ إني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله :﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ٥٥ ﴾، وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس وهو قوله :﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ٥٧ ﴾، وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله :﴿ وَآتَيْنَا عيسَى ابن مريم البينات ﴾ الآية.
تنبيه : في هذه الآية الكريمة، أعني قوله تعالى :﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ الآية. إشكال قوي معروف. ووجهه : أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال :« لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللَّه »، وثبت أيضًا في حديث أبي سعيد المتفق عليه :« لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة » الحديث، وفي رواية :« لا تفضلوا بين أنبياء اللَّه »، وفي رواية :« لا تخيروني من بين الأنبياء ». وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصّه : وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لا تخيروا بين الأنبياء " " لا تفضلوا بين أنبياء اللَّه "، رواها الأئمة الثقاة، أي : لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان، ا ه.
قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصّه : والجواب من وجوه. أحدها : أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل، وفي هذا نظر. الثاني : أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع. الثالث : أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذا الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر. الرابع : لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس : ليس مقام التفضيل إليكم، وإنما هو إلى اللَّه عزّ وجلّ، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به، ا ه منه بلفظه. وذكر القرطبي في تفسيره أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال، واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة، وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال والخصوص والكرامات فقد قال ما نصه : قلت وأحسن من هذا قول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة هو التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات.
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أُخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلاً، ومنهم من كلّم اللَّه ورفع بعضهم درجات. قال اللَّه تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ٥٥ ﴾، قلت : وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض، إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال : إن اللَّه فضل محمّدًا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا : بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن اللَّه تعالى قال :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إِلاه مّن دُونِهِ فَذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ٢٩ ﴾، وقال لمحمّد صلى الله عليه وسلم :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ١ لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾. قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : قال اللَّه تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ ﴾، وقال اللَّه عزّ وجلّ لمحمّد صلى الله عليه وسلم :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾، فأرسله إلى الجن والإنس، وذكره أبو محمد الدارمي في مسنده، وقال أبو هريرة : خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نصّ من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل ؛ فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة، واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء به. ا ه محل الغرض منه بلفظه.
واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز التفضيل إجمالاً كقوله صلى الله عليه وسلم :« أنا سيد ولد آدم ولا فخر »، ولم يعين ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله :« لا تفضلوني على موسى »، وقوله :« لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متَّى »، ونحو ذلك والعلم عند اللَّه تعالى. قوله تعالى :﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٢٦٢ ﴾ يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المن و الأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله :﴿ لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٢٦٢ ﴾ وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ﴾ الآية.
صرح في هذه الآية الكريمة بأن اللَّه ولي المؤمنين، وصرح في آية أخرى بأنه وليهم وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وليّهم، وأن بعضهم أولياء بعض، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، وقال :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾، وصرح في موضع آخر بخصوص هذه الولاية للمسلمين دون الكافرين وهو قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ١١ ﴾، وصرح في موضع آخر بأن نبيّه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى :﴿ النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾، وبيّن في آية البقرة هذه، ثمرة ولايته تعالى للمؤمنين، وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالى :﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾، وبيّن في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه، وبيّن أن ولايتهم له تعالى بإيمانهن وتقواهم، وذلك في قوله تعالى :﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣ ﴾، وصرّح في موضع آخر أنه تعالى وليّ نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأنه أيضًا يتولّى الصالحين، وهو قوله تعالى :﴿ إِنَّ وليي اللَّهُ الذي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور ﴾. ِ
المراد بالظلمات الضلالة، وبالنور الهدى، وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة ؛ لجمعه الظلمات وأن طريق الحق واحدة ؛ لإفراده النور، وهذا المعنى المشار إليه هنا بيّنه تعالى في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية، ما نصّه : ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات ؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال :﴿ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٥٣ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾، وقال تعالى :﴿ الْيَمِينِ وَالشّمَائل ﴾، إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتعدده وتشعبه منه بلفظه. قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أولياؤهم الطَّاغُوتُ ﴾ الآية. قال بعض العلماء : الطَّاغُوتَ الشيطان ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا ذلكمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ ﴾، أي يخوفكم من أوليائه. وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضعيفا ٧٦ ﴾، وقوله :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دوني وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء ﴾ الآية، والتحقيق أن كل ما عبد من دون اللَّه فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ﴾ الآية، وقال :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً ١١٧ ﴾، وقال عن خليله إبراهيم :﴿ يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ﴾ الآية، وقال :﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ١٢١ ﴾. إلى غير ذلك من الآيات.
بيّن أن المراد بالذي الذين بقوله :﴿ يَقْدِرُونَ عَلَى شيء مّمَّا كَسَبُواْ والله ﴾. قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الآية. لم يبيّن هنا سبب فقرهم ؛ ولكنه بيّن في سورة الحشر أن سبب فقرهم هو إخراج الكفار لهم من ديارهم وأموالهم بقوله :﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ﴾ الآية.
معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى أي : ترك المعاملة بالربا ؛ خوفًا من اللَّه تعالى وامتثالاً لأمره ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ أي : ما مضى قبل نزول التحريم من أموال الربا، ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن اللَّه لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه، وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر، ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ﴾ الآية.
وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم :﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾، أي : لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه ونظيره قوله تعالى :﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾.
وقال في الصيد قبل التحريم :﴿ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف ﴾ الآية.
وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾، أي : صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ.
ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين وأنزل اللَّه تعالى :﴿ مَا كَانَ للنبي وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم ١١٣ ﴾، وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل اللَّه في ذلك :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾، فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه.
صرح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي : يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به كما قاله ابن كثير وغيره، وما ذكر هنا من محق الربا، أشار إليه في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ في أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ ﴾، وقوله :﴿ قُل لاَّ يستوي الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ ﴾، كما أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسير هذه الآية.
واعلم أن اللَّه صرح بتحريم الربا بقوله :﴿ وَحَرَّمَ الرّبَا ﴾، وصرّح بأن المتعامل بالربا محارب اللَّه بقوله :﴿ يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون ٢٧٩ ﴾.
وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي : من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ﴾، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا.
واعلم أن الربا منه ما أجمع المسلمون على منعه ولم يخالف فيه أحد وذلك كربا الجاهلية، وهو أن يزيده في الأجل على أن يزيده الآخر في قدر الدَّيْن، وربا النَّساء بين الذهب والذهب، والفضة والفضة، وبين الذهب والفضة، وبين البّر والبّر، وبين الشعير والشعير، وبين التمر والتمر، وبين الملح والملح، وكذلك بين هذه الأربعة بعضها مع بعض.
وكذلك حكى غير واحد الإجماع على تحريم ربا الفضل، بين كل واحد من الستة المذكورة فلا يجوز الفضل بين الذهب والذهب، ولا بين الفضة والفضة، ولا بين البر والبر، ولا بين الشعير والشعير، ولا بين التمر والتمر، ولا بين الملح والملح، ولو يدًا بيد.
والحق - الذي لا شك فيه - منع ربا الفضل في النوع الواحد من الأصناف الستة المذكورة، فإن قيل : ثبت في الصحيح عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال :« لا ربا إلا في النسيئة » وثبت في الصحيح عن أبي المنهال أنه قال : سألت البراء بن عازب، وزيد بن أَرقم عن الصرف فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسألنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصرف، فقال :« ما كان منه يدًا بيد فلا بأس، وما كان منه نسيئة فلا » فالجواب من أوجه :
الأول : أن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بجواز الفضل ومنع النسيئة فيما رواه عنه أسامة، والبراء، وزيد، إنما هو في جنسين مختلفين، بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل، وأنه في الجنس الواحد ممنوع.
واختار هذا الوجه البيهقي في السنن الكبرى، فإنه قال بعد أن ساق الحديث الذي ذكرنا آنفًا عن البراء بن عازب، وزيد بن أَرقم، ما نصه : رواه البخاري في الصحيح عن أبي عاصم، دون ذكر عامر بن مصعب، وأخرجه من حديث حجاج بن محمد، عن ابن جريج، مع ذكر عامر بن مصعب، وأخرجه مسلم بن الحجاج، عن محمد بن حاتم بن ميمون، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال، قال : باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فذكره وبمعناه رواه البخاري عن عليّ ابن المديني، عن سفيان، وكذلك رواه أحمد بن روح، عن سفيان وروي عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال، قال : باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل.
عندي أن هذا خطأ، والصحيح ما رواه علي ابن المديني، ومحمد بن حاتم، وهو المراد بما أطلق في رواية ابن جريج، فيكون الخبر واردًا في بيع الجنسين، أحدهما بالآخر، فقال : ما كان منه يدًا بيد فلا بأس، وما كان منه نسيئة فلا، وهو المراد بحديث أسامة، واللَّه أعلم.
والذي يدل على ذلك أيضًا ما أخبرنا به أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد : أنا أبو سهل بن زياد القطان، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي، حدثنا أبو عمر، حدثنا شعبة، أخبرني حبيب هو ابن أبي ثابت، قال : سمعت أبا المنهال قال : سألت البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا، رواه البخاري في الصحيح عن أبي عمر حفص بن عمر وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة ا ه من البيهقي بلفظه، وهو واضح جدًا فيما ذكرنا. من أن المراد بجواز الفضل المذكور كونه في جنسين لا جنس واحد.
وفي تكملة المجموع بعد أن ساق الكلام الذي ذكرنا عن البيهقي ما نصه : ولا حجة لمتعلق فيهما ؛ لأنه يمكن حمل ذلك على أحد أمرين، إما أن يكون المراد بيع دراهم بشيء ليس ربويًا، ويكون الفساد لأجل التأجيل بالموسم أو الحج، فإنه غير محرر ولاسيما على ما كانت العرب تفعل.
والثاني : أن يحمل ذلك على اختلاف الجنس ويدل له رواية أخرى عن أبي المنهال، قال : سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا، رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري ومسلم بمعناه. وفي لفظ مسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا، فهو يبيّن أن المراد صرف الجنس بجنس آخر.
وهذه الرواية ثابتة من حديث شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي المنهال، والروايات الثلاث الأول رواية الحميدي، واللتان في الصحيح وكلها أسانيدها في غاية الجودة.
ولكن حصل الاختلاف في سفيان فخالف الحميدي على ابن المديني، ومحمد بن حاتم، ومحمد بن منصور، وكل من الحميدي وعلي ابن المديني في غاية الثبت. ويترجح ابن المديني هنا بمتابعة محمد بن حاتم، ومحمد بن منصور له، وشهادة ابن جريح لروايته، وشهادة رواية حبيب بن أبي ثابت لرواية شيخه، ولأجل ذلك قال البيهقي رحمه اللَّه : إن رواية من قال إنه باع دراهم بدراهم خطأ عنده. ا ه منه بلفظه.
وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصّه : وقال الطبري معنى حديث أُسامة :« لا ربا إلا في النسيئة » إذا اختلفت أنواع البيع. ا ه محل الغرض منه بلفظه، وهو موافق لما ذكر. وقال في فتح الباري أيضًا ما نصّه.
تنبيه : وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد اللَّه : يعني البخاري، سمعت سليمان بن حرب يقول : لا ربا إلا في النسيئة، هذا عندنا في الذهب بالورق، والحنطة بالشعير، متفاضلاً ولا بأس به يدًا بيد، ولا خير فيه نسيئة. قلت : وهذا موافق. ا ه منه بلفظه.
وعلى هامش النسخة أن بعد قوله : وهذا موافق بياضًا بالأصل، وبهذا الجواب الذي ذكرنا تعلم : أن حديث البراء وزيد لا يحتاج بعد هذا الجواب إلى شيء ؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عنهما تصريحهما باختلاف الجنس فارتفع الإشكال، والروايات يفسر بعضها بعضًا، فإن قيل : هذا لا يكفي في الحكم على الرواية الثابتة في الصحيح بجواز التفاضل بين الدراهم والدراهم أنها خطأ ؛ إذ لقائل أن يقول لا منافاة بين الروايات المذكورة، فإن منها ما أطلق فيه الصرف ومنها ما بين أنها دراهم بدراهم، فيحمل المطلق على المقيد، جمعًا بين الروايتين، فإن إحداهما بينت ما أبهمته الأخرى، ويكون حديث حبيب بن أبي ثابت حديثًا آخر واردًا في الجنسين، وتحريم النَّساء فيهما، ولا تنافي في ذلك ولا تعارض.
فالجواب على تسليم هذا بأمرين : أحدهما : أن إباحة ربا الفضل منسوخة. والثاني : أن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته. ومما يدلّ على النسخ ما ثبت في الصحيح عن أبي المنهال قال : باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إليّ فأخبرني فقلت : هذا أمر لا يصح، قال : قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك على أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال : قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال :« ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا »، وأتيت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك. هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانت مقارنة لقدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا. وفي بعض الروايات الصحيحة في تحريم ربا الفضل أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريمه في يوم خيبر، وفي بعض الروايات الصحيحة تحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر أيضًا، فقد ثبت في الصحيح من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي اللَّه عنه قال : أُتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :« الذهب بالذهب وزنًا بوزن » هذا لفظ مسلم في صحيحه، وفي لفظ له في صحيحه أيضًا عن فضالة بن عبيد قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :« لا تباع حتى تفصل »، وفي لفظ له في صحيحه أيضًا عن فضالة رضي اللَّه عنه قال :: " كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :« لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن ». وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا واللَّه يا رسول اللَّه، صلى الله عليه وسلم، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :« لا تفعلوا، ولكن مثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان » هذا لفظ مسلم في صحيحه، وفي لفظ لهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضًا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا واللَّه يا رسول اللَّه، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :« فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا » والأحاديث بمثله كثيرة، وهي نص صريح في تصريحه صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر، فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في الصحيح : أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر وبعده، فتصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين وأكثر منها، يدلّ دلا
ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة ؛ لأن الأمر من اللَّه يدل على الوجوب. ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ ؛ لأن الرهن لا يجب إجماعًا وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبًا. وصرح بعدم الوجوب بقوله :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾، فالتحقيق أن الأمر في قوله :﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾ للندب والإرشاد ؛ لأن لرب الدَّيْنِ أن يهبه ويتركه إجماعًا، فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس، قاله القرطبي.
وقال بعضهم : إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ابن عطية، وهذا القول هو الصحيح قاله القرطبي أيضًا.
وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله :﴿ فَإِنْ أَمِنَ ﴾ الآية، ناسخ لأمره بالكتب، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ ثم خففه اللَّه تعالى بقوله :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا ﴾، وتمسك جماعة بظاهر الأمر في قوله :﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾، فقالوا : إن كتب الدَّيْن واجب فرض بهذه الآية بيعًا كان أو قرضًا ؛ لئلا يقع فيه نسيان أو جحود وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره.
وقال ابن جريج : من أدان فليكتب ومن باع فليشهد. ا ه من القرطبي وسيأتي له زيادة بيان إن شاء اللَّه قريبًا.
تنبيه : أخذ بعض العلماء من قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ الآية. أن الرهن لا يكون مشروعًا إلا في السفر كما قاله مجاهد والضحاك وداود والتحقيق جوازه في الحضر.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير. وفي الصحيحين أنها درع من حديد.
وروى البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعًا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرًا لأهله. ولأحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس مثل حديث عائشة فدل الحديث الصحيح على أن قوله :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ ﴾، لا مفهوم مخالفة له ؛ لأنه جرى على الأمر الغالب، إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر وإنما يتعذر غالبًا في السفر، والجري على الغالب من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كما ذكرناه في هذا الكتاب مرارًا والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾.
ظاهر هذا الأمر الوجوب أيضًا فيجب على من باع أن يشهد وبهذا قال أبو موسى الأشعري، وابن عمر، والضحاك، وسعيد بن المسيِّب، وجابر بن زيد، ومجاهد، وداود بن علي وابنه أبو بكر، وعطاء، وإبراهيم قاله القرطبي وانتصر له ابن جرير الطَبري غاية الانتصار وصرح بأن من لم يشهد مخالف لكتاب اللَّه وجمهور العلماء على أن الإشهاد على المبايعة وكتاب الدَّيْن أمر مندوب إليه لا واجب، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا ﴾ الآية.
وقال ابن العربي المالكي : إن هذا قول الكافة قال : وهو الصحيح ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك قال : وقد باع النبيّ صلى الله عليه وسلم وكتب قال : ونسخة كتابه بسم اللَّه الرحمان الرَّحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبدًا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم. وقد باع ولم يشهد واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرًا واجبًا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة. ا ه.
قال القرطبي بعد أن ساق كلام ابن العربي هذا ما نصّه قلت : قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني وأبو داود وكان إسلامه بعد الفتح وحنين، وهو القائل : قاتلنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يظهرنا اللَّه ولم ينصرنا. ثم أسلم فحسن إسلامه. ذكره أبو عمر وذكر حديثه هذا.
وقال في آخره : قال الأصمعي : سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال : الإباق والسرقة والزنا وسألته عن الخبثة فقال : بيع أهل عهد المسلمين.
وقال الإمام أبو محمد بن عطية : والوجوب في ذلك قلق أما في الوثائق فصعب شاق، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الإستئلاف بترك الإشهاد. وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه فيدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبًا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا، وحكى المهدوي والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا :﴿ وَأَشْهِدُواْ إِذَا تبايعتم ﴾، منسوخ بقوله :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا ﴾، وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدري وأنه تلا :﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾، إلى قوله :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾، قال : نسخت هذه الآية ما قبلها.
قال النحاس : وهذا قول الحسن والحكم وعبد الرحمان بن زيد.
قال الطبري : وهذا لا معنى له ؛ لأن هذا حكم غير الأول وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبًا.
وقال بعض العلماء : إن قوله تعالى ﴿ فإن أمن بعضكم بعضا ﴾ لم يتبين بآخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد بل وردا معًا، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معًا جميعًا في حالة واحدة، قال : وقد روي عن ابن عباس أنه لمَّا قيل له إن آية الدَّيْن منسوخة قال : لا واللَّه إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ، قال : والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن اللَّه تعالى جعل لتوثيق الدين طرقًا منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد، وما زال الناس يتبايعون حضرًا وسفرًا وبرًا وبحرًا وسهلاً وجبلاً من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير. ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه، قلت هذا كله استدلال حسن وأحسن منه ما جاء في صريح السنة في ترك الإشهاد، وهو ما أخرجه الدارقطني عن طارق بن عبد اللَّه المحاربي رضي اللَّه عنه قال : أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبًا من المدينة ومعنا ظعينة لنا، فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه فقال : من أين القوم ؟ فقلنا : من الربذة وجنوب الربذة، قال : ومعنا جمل أحمر، فقال : تبيعوني جملكم هذا ؟ فقلنا : نعم، قال : بكم ؟ قلنا : بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال : فما استوضعنا شيئًا، وقال : قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا فتلاومنا بيننا وقلنا : أعطيتم جملكم من لا تعرفونه، فقالت الظعينة : لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم. ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشاء أتانا رجل، فقال : السلام عليكم أنا رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليكم وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا قال : فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا حتى استوفينا. وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي الحديث. وفيه فطفق الأعرابي يقول : هلم شاهدًا يشهد أني بعتك، قال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك بعته، فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال : بم تشهد ؟ قال : بتصديقك يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. أخرجه النسائي وغيره. ا ه من القرطبي بلفظه.
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - وفيما نقلنا الدلالة الواضحة على أن الإشهاد والكتابة مندوب إليهما لا فرضان واجبان كما قاله ابن جرير وغيره، ولم يبيّن اللَّه تعالى في هذه الآية أعني : قوله جلّ وعلا :﴿ وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾، اشتراط العدالة في الشهود، ولكنه بيّنه في مواضع أُخر كقوله :﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ﴾، وقوله :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ ﴾. وقد تقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيد كما بيّناه في غير هذا الموضع.
لم يبيّن هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا ؟ وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ الآية، وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٦٨ ﴾، فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك، ولا يقدح في هذا أن آية ﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ﴾ مكيّة وآية ﴿ لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا ﴾ مدنية إذ لا مانع من بيان المدني بالمكي كعكسه.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ قال اللَّه تعالى : نعم.
قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾.
لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا ؟ ولم يبين الإصر الذي كان محمولاً على من قبلنا، وبيّن أنه أجاب دعاءهم هذا في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾، وقوله :﴿ لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾، وقوله :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾، وقوله :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ الآية. إلى غير ذلك من الآيات. وأشار إلى بعض الإصر الذي حمل على من قبلنا بقوله :﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ ؛ لأن اشتراط قتل النفس في قبول التوبة من أعظم الإصر، والإصر الثقل في التكليف ومنه قول النابغة :
يا مانِعَ الضّيمِ أنْ يَغشى سَراتَهُم | والحامِل الإصْرِ عَنهمْ بَعدَما عرفوا |