ﰡ
مدنيةٌ، وآيها مئتان وثمانون وستُ آيات، وحروفُها خمسةٌ وعشرون ألفَ حرفٍ وخمسُ مئةِ حرف، وكلمُها ستةُ آلاف ومئةٌ وإحدى وعشرون كلمةً.
ويقال لسورة البقرة: فُسْطاطُ القرآن، وذلك (١) لعظمِها وبهائها، وما تضمنت من الأحكام والمواعظ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الم (١)﴾.[١] ﴿الم (١)﴾ اختلف في سائر حروف الهجاء من فواتح السور، فقيل: هي من المتشابِه الذي انفرد الله بعلمه، وهي سرُّ القرآن، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت، وقال الجمهور من العلماء: بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتُلتمس الفوائدُ التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا فيها، فقيل: هي اسم الله الأعظم، وقيل: أسماءٌ أقسم الله بها، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: معنى (الم):
...
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)﴾.
[٢] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: هذا.
﴿الْكِتَابُ﴾ هو القرآن؛ لأن الله سبحانه كان قد وعد نبيَّه - ﷺ - أن يُنزل عليه كتابًا لا يمحوه الماء، فلما أنزل القرآن، قال: هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك بإنزاله، و (هذا) للتقريب، و (ذلك) للتبعيد، وأصل الكَتْبِ الضمُّ والجمع، فسمي الكتابُ كتابًا لأنه جمعُ حرف إلى حرف.
﴿لَا رَيْبَ﴾ أي: لا شك.
﴿فِيهِ﴾ أنه من عند الله تعالى، وأنه الحقُّ والصدق. قرأ حمزة: (لا ريب) بالمد بحيث لا يبلغ الإشباع، وكذلك ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة: ٧١] ﴿فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ [الرعد: ١١] ﴿لَا جَرَمَ﴾ [هود: ٢٢] ﴿لَا خَيْرَ﴾ [النساء: ١١٤] ﴿لَا ضَيْرَ﴾ (٣) [الشعراء: ٥٠]، وابنُ كثير يصلُ هاء الكناية الساكن قبلها بياء في الوصل إن كانت مكسورة، وبواو إن كانت مضمومة نحو (فيهي هُدًى)
(٢) في "ت": "في".
(٣) انظر: "الإتقان" للسيوطي (١/ ١١٥)، النوع الثاني والثلاثون، المد والقصر.
﴿هُدًى﴾ أي: هو رشد وبيان لأهل التقوى، والهدى: ما يهتدي به الإنسان.
﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: للمؤمنين وهم من يتقي الشرك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله الحجزُ بين شيئين، والوقايةُ: فرط الصيانة، وتخصيصُ المتقين بالذكر تشريف (٣) لهم.
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: يصدقون، وحقيقة الإيمان: لغةً: التصديق بما غاب، وشرعًا: عند أبي حنيفة: تصديقٌ بالقلب، وعمل باللسان، وعندَ الثلاثة: عَقدٌ بالجنان، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، فدخلَ كلُّ الطاعات، ويأتي ذكرُ الخلاف في زيادته ونقصانه، والاستثناء فيه في سورة
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٢٩)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ٩٣)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٦٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" (ص: ١٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨).
(٣) في جميع النسخ "تشريفًا"، وظاهره خطأ، لأنها خبر للمبتدأ "تخصيص".
﴿بِالْغَيْبِ﴾ هو مصدر، وضع موضع الاسم، فقيل للغائب: غَيب، كما قيل للعادل: عَدل، والغيبُ ما كان مُغَيَّبًا عن العيون؛ المعنى: يؤمنون بما غَاب عنهم مما أخبر الله عنه.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ أي: يديمونها، ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيئاتها، والمراد بها الصلوات الخمس. والصلاة في اللغة: الدعاء. قرأ ورش عن نافع (الصَّلاَةَ) بتغليظ اللام حيث وقع (٢).
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ أي: أعطيناهم، والرزقُ: اسم لكل ما يُنتفَع به، حتى الولدُ والعبدُ، وأصله في اللغة الحظُّ والنصيب. قرأ ابن كثيرٍ، وأبو جعفر، وقالونُ بخلافٍ عنه: (رزقناهمو) بواو بعد الميم.
﴿يُنْفِقُونَ﴾ يُخرجون عن أيديهم ما فيها في طاعة الله، وأصل الإنفاق: الإخراجُ عن اليد والملك، فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب.
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨).
[٤] ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعني: القرآن.
﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء -عليهم السلام-. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: بقصر المد المنفصل حيث وقع (١)، واختلف عن قالون، وورش، وأبي عمرو، ويعقوبَ، وهشامٍ، وحفص، فروي عنهم القصرُ، والباقون يطولونه، وأما المتصل، فاتفق جمهورُ القراء على مده قدرًا واحدًا مشبَعًا من غير إفحاش، وذهب آخرون إلى تفاضل مراتبه، فأطولُهم مدًّا في نوعي المتصل والمنفصل: ورشٌ وحمزةُ، ودونهما: عاصمٌ، ودونه: ابنُ عامرٍ، والكسائيُّ وخلفٌ لنفسه، ودونهم: قالونُ، والدُّوريُّ عن أبي عمرو، ويعقوبُ، وأقلُّهم مدًّا: ابنُ كثير وأبو جعفرٍ، والتفاوتُ بينهم لا يكاد ينضبط، والمدُّ: هو زيادة المطِّ في حروف المدِّ، وهي الألفُ مطلقًا، والواو الساكنة المضمومُ ما قبلَها، والياءُ الساكنةُ المكسورُ ما قبلها، فالمتصلُ أن تكون الهمزة مع حرف المد في كلمة واحدة؛ نحو: (أُولَئِكَ) و (شاءَ الله)، وشبهِه، والمنفصلُ أن تكونَ الهمزةُ أولَ كلمةٍ وحرفُ المد آخرَ كلمةٍ أخرى، نحو: (بمِا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، و (يا أيُّها)، و (قَالُوا آمَنَا)، ونحو ذلك، والقَصْرُ: هو تركُ تلكَ الزيادة، وهذه الآيةُ في المؤمنين من أهل الكتاب.
﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي: وبالدار الآخرة، وسميتا بالآخرة؛
﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان، وهو العلمُ الحاصلُ، وهو طُمأنينة القلب على حقيقة الشيء.
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: أهلُ هذه الصفة، و (أولاءِ) كلمةٌ معناها الكنايةُ عن جماعة نحو: هم، والكافُ للخطاب كما في حرف ذلك.
﴿عَلَى هُدًى﴾ أي: على رشد وبيان وبصيرة.
﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الناجون والفائزون، فازوا بالجنة،
(٢) انظر: "الكشف" لمكي (١/ ٢٣٢ - ٢٣٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩).
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: مشركي العرب، أو اليهود، والكفر: هو الجحود، وأصلُه، من الستر، ومنه سمي الليل كافرًا؛ لأنه يستر الأشياء بظلمته، وسمي الزرَّاع كافرًا؛ لأنه يستر الحبَّ بالتراب، والكافرُ يستر الحقَّ بجحوده، والكفرُ على أربعة أنواع: كفرُ إنكار، وهو ألا يعرف الله أصلًا، ولا يعترف به، وكفر جحود، وهو: أن يعرف الله بقلبه، ولا يقر بلسانه؛ كإبليس، وكفر عناد: أن يعرف الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به؛ كأبي طالب، وكفر نفاق، وهو: أن يقر باللسان، ولا يعتقد بالقلب.
﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي: متساوٍ عندهم، وقد تقدم في الفاتحة مذهبُ يعقوبَ في ضمِّ هاء (عَلَيْهُم)، وكذلك يضم كل هاء وقعت بعد ياء ساكنة، نحو: (إليهُم)، و (لديهُم) و (عليهُما)، و (إليهُما)، و (فيهُما)، و (عليهُن)،
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨).
﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ أعلمتهم محذِّرًا، والإنذارُ: إعلامٌ مع تخويف وتحذير. قرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير وأبو جعفرٍ وقالونُ عن نافعٍ، ورُويس عن يعقوبَ (ءأنذرتهم) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والألف، وأبو عمرو وقالونُ وأبو جعفرٍ يفصلون بين الهمزتين بألف، وورشٌ يبدلها ألفًا خالصةً، ورُوي عنه التسهيل بينَ بينَ. وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن ذكوان، ورَوْح بتحقيق الهمزتين (٢)، من غير فصل بينهما كل القرآن. واختلف عن هشام في الفصل مع تحقيق الهمزتين، واختلف عنه أيضًا في تسهيل الثانية بينَ بينَ وتحقيقها، وزعم بعضُهم أن من قلبَ الهمزة الثانية ألفًا على أحد الوجهين لورش لاحنٌ؛ لجمعه بين ساكنين على غير حدِّه. قال الكواشيُّ: وفي زعمه نظرٌ، ثم بَيَّنَ وجهَ القراءة بذلك، وجوازَ الجمع
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٣٤)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ٨٦)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٣٤)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٦٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٧٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٣١ - ٣٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١١/ ٢١).
﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ المعنى: إن الذين كفروا مستوٍ لديهم إنذارُك وعدمُه، والألف في قوله (ءأنذرتهم) ألفُ التسوية؛ لأنها ليست كالاستفهام، بل المستفهِم والمستفهَم مستويان في علم ذلك، وهذه الآية في أقوام حَقَّتْ عليهم كلمةُ الشقاوة في سابق علم الله.
ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال:
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾.
[٧] ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ أي: طبع الله.
﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فلا تعي خيرًا، ولا تفهمه، وحقيقة الختم: الاستيثاقُ من الشيء، ومنه الختمُ على الباب.
﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أي: على موضع (١) سمعهم، فلا يسمعون الحقَّ، ولا ينتفعون به، وأراد: على أسماعهم؛ كما قال: على قلوبهم.
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ وهذا ابتداء كلام.
﴿غِشَاوَةٌ﴾ أي: غطاء، فلا يرون الحق. قرأ أبو عمرو، وورش عن
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: في الآخرة، والعذابُ: كلُّ ما يُعَنَّى به الإنسان ويشقُّ عليه. قرأ حمزة برواية خلف (غِشَاوَة وَّلَهُمْ) بإدغام التنوين بغير غنة (٢).
• ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ نزلت في المنافقين: عبدِ الله بنِ أُبيِّ ابن سلولَ، وسلولُ أُمُّهُ، وبها يُعرف، وحارثِ بنِ عمرٍو، وعمر بنِ زيدٍ، ومُعَتِّبِ بنِ قُشير، وجَدِّ بنِ قيسٍ، وأصحابِهم؛ حيثُ أظهروا كلمةَ الإسلام ليسلَموا من النبيِّ وأصحابه، واعتقدوا خلافَها، وأكثرُهم من اليهود (٣). والناسُ: جمعُ إنسان سمي به؛ لأنه عُهِد إليه فنسيَ كما قال
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٤).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" (١/ ١١٦)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (١/ ٤٢)، و"الدر =
﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: بيوم القيامة، قال الله تعالى:
﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ نظرًا إلى معناها؛ لأن (مَنْ) لفظٌ مفردٌ للعقلاء يعمُّ الواحدَ والجمعَ، والذَّكَرَ والأُنثى.
• ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ أي: يخالفون الله، أصل الخَدْع في اللغة: الإخفاءُ، ومنه المَخْدَعُ للبيت الذي يُخفى فيه المتاعُ، فالمخادعُ هو الذي يُظهر خلافَ ما يُضمر، والخدعُ من الله تعالى في قوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢]، أي: يُظهر لهم، ويُعَجِّل لهم من النعيم في الدنيا خلافَ ما يُغَيِّبُ عنهم من عذابِ الآخرة.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنَّا، وهم غير مؤمنين.
﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾ قرأ ابن كثيرٍ، ونافعٌ، وأبو عمرٍو: (وَمَا يُخَادِعُونَ)
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٤).
وقرأ الباقون: (وَمَا يَخْدَعُونَ) بغير ألف مع فتح الياء والدال وإسكان الخاء (١).
﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأنّ خدعَهم أنفسَهم لا يعدُوهم. وقالَ بعضُ أهلِ اللغةِ: يقالُ: خادَعَ: إذا لم يبلُغْ مُرادَهُ، وخَدَعَ: إذا بلغَ مرادَه، فلما لم ينفذْ خداعهم فيما قصدوه، كان مخادعةً، فلما وقع ضررُ فعلِهم على أنفسهم، كان في حقِّ أنفسِهم خِداعًا، وتفسيره: فلا ينفُذُ خداعهم فيمن قصدوه، فكأنهم خدعوا أنفسَهم؛ كما يقال: فلانٌ سخرَ بفلانٍ، وما سخرَ إلا بنفسِه، والنفسُ: ذاتُ الشيء وحقيقتُه.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ الشعور: علمُ حِسّ؛ أي: لا يعلمون أنهم يخدعونَ أنفسَهم، وأنَّ وبالَ خداعِهم يعودُ عليهم.
• ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شكٌّ ونِفاق، والمرضُ في اللغة: العلَّة،
﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي: أمدَّهم اللهُ بمرضٍ آخرَ تنميةً لمرضهم؛ لأن الآياتِ كانت تنزل تترًا آيةً بعدَ آيةٍ، فكلما (١) نزلتْ آية، فكفروا بها، ازدادوا شكًّا ونفاقًا. قرأ حمزةُ، وابنُ ذكوان: (فَزَادَهُمْ) بالإمالة، والباقون بالفتح (٢).
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلم.
﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي: بتكذيبهم اللهَ ورسولَه في السرِّ. قرأ أهل الكوفة: (يَكْذِبُونَ) بفتح الياء والتخفيف؛ أي: بكذبهم إذ قالوا: آمنا، وهم غير مؤمنين، والكذبُ: إخبارٌ بما لم يقع. وقرأ الباقون: بضم الياء والتشديد على المعنى الأول (٣).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٨٨)، و"المحتسب" لابن جني (١/ ٤٧)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٦٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٦).
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٨٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٤١)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٢٧ - ٢٢٨)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٨٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٣٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٧ - ٢٠٨)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٦).
[١١] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ يعني: قال المؤمنون للمنافقين أو لليهود. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ، ورويسٌ: (قِيلَ، وغَيِضَ، وَجِيَء، وَحِيَل، وَسِيَق، وَسِيَء، وَسِيَئتْ) بإشمامِ الضمِّ كسر أوائِلهِنَّ، وافقهم ابنُ ذكوان في (حِيلَ، وَسِيَء، وَسِيَئتْ)، ووافقهم المدنيان في (سِيَء وَسِيَئتْ) فقط. وقرأ الباقون بإخلاصِ الكسرِ (١).
﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بالكفرِ وتعويقِ الناس عن الإيمان بمحمدٍ - ﷺ - والقرآنِ، والفسادُ: خروجُ الشيءِ عن حالِ الاستقامة.
﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يقولون هذا القول كذِبًا؛ كقولهم: آمنا وهم كاذبون.
• ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿أَلَا﴾ كلمة تنبيه يُنَبَّهُ بها المخاطَبُ.
﴿إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ أنفسَهم بالكفر، والناسَ بالتعويقِ عن الإيمان.
• ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي: المنافقين واليهود:
﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ عبدُ الله بنُ سلام وغيرُه من مؤمني أهل الكتاب.
﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ أي: الجهَّال، وهذا القولُ كانوا يُظهرونه فيما بينهم، لا عندَ المؤمنين، فأخبرَ الله نبيَّهُ والمؤمنينَ بذلك، وقال رَدًّا عليهم:
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يدرون أنهم كذلك، والسفيهُ: خفيفُ العقل، رقيقُ الحِلْم، من قولهم: ثوبٌ سفيهٌ؛ أي: رقيق. قرأ الكوفيون وابنُ عامرٍ، وروح: (السُّفَهَاءُ أَلاَ) بتحقيق الهمزتين، والباقونَ: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، وهي أن تُبدل واوًا محضةً، وما ذكر من تسهيلِ إحدى (١) الهمزتين إنما هو في حالة الوصل، فإذا وقفتَ على الكلمة الأولى، أو (٢) بدأتَ بالثانية، حَقَّقْتَ الهمزَ (٣) في ذلك لجميع القراء (٤).
(٢) في "ن": "و".
(٣) في "ن": "الهمزة".
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٣٩)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٨٤)، =
[١٤] ﴿وَإِذَا لَقُوا﴾ يعني: هؤلاء المنافقين.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: المهاجرين والأنصار.
﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ كإيمانكم.
﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ رجعوا.
﴿إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أي: رؤسائِهم وكَهَنَتِهم، والشيطانُ: المتمرِّدُ العاتي؛ أي: الطويلُ الجسمِ من الجنِّ والإنسِ ومن كلِّ شيء.
﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أي: على دينِكم.
﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ ساخرون بمحمدٍ وأصحابهِ بما نُظهر من الإسلام. قرأ أبو جعفر: (مُسْتَهْزُونَ، ومُتَّكُونَ) وشبهه حيثُ وقعَ بتركِ الهمزة (١).
• ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي: يجازيهم جزاءَ استهزائِهم، وهو أن يُفْتَحَ
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٨٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢١)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (١/ ١٢)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (١/ ٦٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٩).
﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ يُطيلُ مدةَ غَيِّهم، والمدُّ والإمدادُ واحدٌ، وأصلُه الزيادةُ، إلا أن المدَّ أكثرُ ما يأتي في الشرِّ، قال الله تعالى: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ [مريم: ٧٩]، والإمدادُ في الخير، قال الله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [الإسراء: ٦].
﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ أي: ضَلالتِهم، والطُّغيانُ: الغلوُّ في الكفرِ. قرأ الدوريُّ عنِ الكسائيِّ (طغيانهم وآذانهم) بالإمالة حيثُ وقعَ (١)، وأمالَ حمزةُ والكسائيُّ وخلَفٌ جميعَ ما رُسِمَ بالياء من الأسماء، نحو: (الهُدَى، وَالهَوَى، والعَمَى)، وما أشبهَ ذلكَ (٢)، والأفعالِ نحو: (أَتَى، وَأَبَى، وَسَعَى)، وما أشبهَ ذلكَ، وافقهم (٣) أبو عمرٍو على ما كان فيه راءٌ بعدها ألفٌ ممالة بأيِّ وزنٍ كان، نحو: (ذِكْرَى، وَبُشْرَى، وَأَسْرَى)، وما أشبهَ ذلك، واختلِفَ في ذلك كلِّه عن ابنِ ذكوانَ، واختلِفَ عن وَرْشٍ فيما فيه راءٌ، فرُويَ عنه الإمالةُ بينَ بينَ، ورُوي عنه الفتحُ (٤)، والوجهانِ صحيحانِ عنه. وقرأ الباقون بالفتح.
﴿يَعْمَهُونَ﴾ أي: حائرون متردِّدون (٥).
(٢) انظر: "تفسير الآلوسي"، في تفسيره سورة البقرة، الآية (١٦).
(٣) في "ن": "ووافقهم".
(٤) "الفتح" سقط من "ت".
(٥) انظر: "اللباب" لابن عادل الحنبلي، في تفسيره سورة يوسف، الآية (١٩).
[١٦] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي: استبدلوا الكفرَ بالإيمان. والضلالةُ: الجورُ عن القَصْدِ.
﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ أي: فما ربحوا في تجارتهم.
﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ ناجين من الضلالة.
• ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿مَثَلُهُمْ﴾ أي: شبههم. والمثلُ: قولٌ سائرٌ في عُرْفِ الناس، يُعرف به معنى الشيء.
﴿كَمَثَلِ الَّذِي﴾ يعني: الذين؛ بدليل سياق الآية.
﴿اسْتَوْقَدَ﴾ أي: أوقد.
﴿نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ﴾ النارُ.
﴿مَا حَوْلَهُ﴾ أي: حولَ المستوقِدِ.
﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أي: أزاله.
﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ طرحهم.
﴿فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ نزلت في المنافقين، يقول: مثلُهم في نفاقِهم كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا في ليلةٍ مظلمةٍ في مفازةٍ، فاستدفأ، ورأى ما حولَه،
• ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿صُمٌّ﴾ أي: هم صمٌّ عن الحق، لا يقبلونه، وإذا لم يقبلوا، كأنهم لم يسمعوا.
﴿بُكْمٌ﴾ خُرْس عن الحقِّ لا يقولونه.
﴿عُمْيٌ﴾ أي: لا بصائرَ لهم، ومَنْ لا بصيرةَ له كمنْ لا بَصرَ له.
﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ عن الضلالة إلى الحق.
• ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: كأصحابِ صَيِّبٍ؛ فهذا مثلٌ آخرُ ضربَهُ الله تعالى للمنافقين، معناه: إن شئتَ مَثِّلْهم بالمستوقِدِ، وإن شئتَ بأهلِ الصَّيِّبِ (أو) بمعنى الواو، يريد: وكصيِّبٍ من السماء. والصيِّبُ: المطرُ، وكلُّ ما نزلَ من الأعلى إلى الأسفلِ، فهو صيّبٌ؛ أي: نزلَ من السماء؛ أي: من السحاب.
﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ جمع ظلمة.
﴿وَبَرْقٌ﴾ لمعانُ سوطٍ من نورٍ يزجُرُ به الملكُ السّحاب.
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ جمع صاعقة، وهي الموتُ، وكلُّ عذابٍ مُهْلِكٍ. وعن رسولِ اللهِ - ﷺ -: أنه كانَ إذا سمعَ صوتَ الرعدِ والصواعقِ قالَ: "اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبِكَ، وَلا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنا قَبْلَ ذَلِكَ" (١).
﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أي: مخافةَ الهلاكِ.
﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ عالمٌ بهم، لا يفوتونه. وأصلُ (٢) الإحاطةِ: الإحداقُ بالشيءِ من جميعِ جهاتهِ، ومنه الحائط. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، والدوريُّ عن الكسائي ورويس: (بالكافرين) بالإمالةِ حيثُ وقعَ في محلِّ النصبِ والخفضِ (٣).
• ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)﴾.
(٢) في "ت": "والأصل".
(٣) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: ٧٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٩٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٣٣).
﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ يختلِسُها، والخطفُ: استلابٌ بسرعةٍ.
﴿كُلَّمَا﴾ (كُلَّ) حرفُ جملةٍ ضُمَّ إلى (ما) الجزاء، فصار أداةً للتكرار، ومعناها: متى ما.
﴿أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ أي: كلما أنارَ البرقُ لهم الطريقَ، ساروا في ضوئه.
﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أي: وقفوا متحيرين، فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقومٍ كانوا في مَفازةٍ في ليلةٍ مظلمة، أصابهم مطرٌ فيه ظلماتٌ من صِفَتِها أنَّ الساريَ لا يمكنه المشيُ فيها، ورعدٌ من صفتِهِ أنه يضمُّ السامعون أصابعَهُم إلى آذانهم من هَوْلهِ، وبرقٌ من صفتِهِ أنْ يَقْرُبَ أنْ يخطَفَ أبصارهم ويُعميها من شدَّةِ توقُّده، فهذا مثلٌ ضربَهُ اللهُ للقرآنِ وصنيعِ الكافرينَ والمنافقينَ معه، فالمطرُ: القرآنُ؛ لأنه حياةُ الجَنَان، كالمطرِ حياة الأبدان، والظلماتُ: ما في القرآنِ من ذكرِ الكفرِ والشركِ، والرعدُ: ما خُوِّفوا به من الوعيد، وذكرِ النار، والبرقُ: ما فيه من الهدى والبيانِ والوعدِ وذكرِ الجنة، فالكافرون يسدُّون آذانَهم عندَ قراءةِ القرآن مخافةَ ميلِ القلبِ إليه؛ لأن الإيمانَ عندَهُم كفرٌ، والكفرُ موتٌ، وقوله تعالى: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾؛ أي: القرآنُ يبهَرُ قلوبهم.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ أمالَ حمزةُ (شَاءَ، وَجَاءَ، وَخَابَ، وَطَابَ، وَخَافَ، وَحَاقَ، وَضَاقَ، وَزَالَ، وَزَاغَ) حيثُ وقع، سوى (زَاغَتْ) وافقَهُ ابنُ ذكوانَ
﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي: بأسماعِهم وأبصارِهم الظاهرةِ كما ذهبَ بأسماعِهم وأبصارِهم الباطنةِ. قرأ أبو عمرو، ورويسٌ: (لذهب بسمعهم) بإدغامِ الباءِ في الباءِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: فاعلٌ لِما يشاء، ولا يُوصَفُ غيرُ الله تعالى بالقدير.
• ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: يا أَيُّها الناسُ خطابُ أهلِ مكَّةَ، ويا أَيُّها الذينَ آمنوا خطابُ أهلِ المدينة (٢)، وهو هاهنا عام إلا من حيثُ إنه لا يدخلُه (٣) الصغارُ والمجانين.
﴿اعْبُدُوا﴾ وَحِّدُوا.
﴿رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ الخَلْقُ: اختراعُ الشيءِ على غيرِ مثالٍ سبقَ. قرأ أبو عمرو: (خلقكم) بادغام القاف في الكاف، ورويَ عن يعقوبَ إدغامُ كُلِّ ما أدغمَه أبو عمرٍو من المِثْلَين، والمتقارِبَيْنِ (٤).
(٢) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (١/ ٨٤ - ٨٥).
(٣) في "ت": "يدخل".
(٤) انظر: "الكشاف" للزمخشري (١/ ٤٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لكي تنجو من العذاب. قال سيبويهِ: لعلَّ، وعَسَى حَرْفا تَرَجٍّ، وهما من اللهِ واجبان.
• ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ أي: صيَّرَ.
﴿لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ أي: بساطًا. قرأ أبو عمرٍو: (وَجَعَل لَّكُمْ) بإدغام اللام في اللام، ورُوي عن رُويسٍ موافقتُه على ذلك.
﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي: سقفًا محفوظًا مرفوعًا.
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: من السحاب.
﴿مَاءً﴾ وهو المطر.
﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وأنواع النبات.
﴿رِزْقًا﴾ أي: طعامًا.
﴿لَكُمْ﴾ وعَلَفًا لدوابكم.
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أي: أمثالًا تعبدونهم كعبادةِ الله.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه واحدٌ خالقُ هذهِ الأشياءِ.
[٢٣] ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ أي: في شكٍّ. معناه: وإذْ كنتم؛ لأن الله علمَ أنَّهم شاكُّون.
﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمدٍ، يعنى: القرآن.
﴿فَأْتُوا﴾ أمرُ تعجيزٍ.
﴿بِسُورَةٍ﴾ والسورةُ: قطعةٌ من القرآنِ معلومةُ الأولِ والآخِر.
﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي: مثلِ القرآن، و (مِنْ) صِلَةٌ؛ كقوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: ٣٠].
﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ جمعُ شاهدٍ؛ أي: واستعينوا بآلهتِكُم التي تعبدونها.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن محمدًا يقولُه من تِلْقاءِ نفسِه، فلمَّا تحدَّاهم، عَجَزوا، فقال:
• ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ فيما مضى.
﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ أي: لن تقدروا عليه فيما بقي أبدًا، وإنما (١) قالَ ذلكَ؛
﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أي: فآمنوا، واتقوا بالإيمان النار.
﴿الَّتِي وَقُودُهَا﴾ أي: حَطَبُها.
﴿النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ يعني: حجارةَ الكبريت؛ لأنها أكثرُ التهابًا، وقيل: الأصنام، وقرنَ الناسَ بالحجارةِ؛ لأنهم نحتوها، واتَّخذوها أربابًا من دون الله. وقيل: من النار نوعٌ لا يَتَّقد إلا بالناسِ والحجارة كاتقادِ هذه النار بالحطب.
﴿أُعِدَّتْ﴾ أي: هيئت.
﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ فبعدَ ذكرِ وعيدِ الكافرين ذكرَ وعدَ المؤمنين تطييبًا لقلوبهم مخاطبًا رسولَه - ﷺ - فقال:
• ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ والبشارةُ: كلُّ خبرِ صدقٍ تتغير به بشرةُ الوجهِ، ويُستعمل في الخيرِ والشرِّ، وفي الخيرِ أغلبُ.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: الفعلاتِ الصالحةَ، يعني: المؤمنينَ من أهل الطاعة.
﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ جمع جَنَّة، والجنةُ: البستان الذي فيه أشجارٌ مثمرةٌ،
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت أشجارِها ومساكنِها.
﴿الْأَنْهَارُ﴾ أي: المياه في الأنهار؛ لأن النهر لا يجري، والأنهارُ جمعُ نهر، سمي به لسعتِه وضيائه، ومنه النَّهارُ.
﴿كُلَّمَا﴾ يعني: متى ما.
﴿رُزِقُوا﴾ أُطْعِموا.
﴿مِنْهَا﴾ أي: من الجنة.
﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ أي ثمرة، و (مِنْ) صلة.
﴿رِزْقًا﴾ طعامًا.
﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ و (قَبْلُ) رُفِعَ على الغاية، قال الله تعالى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: ٤]، فإذا رُزِقوا ثمرةً بعدَ أخرى، ظنوا أنها الأُولى.
﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ أي: بالرزق.
﴿مُتَشَابِهًا﴾ في الألوان، مختلفًا في الطعوم.
﴿وَلَهُمْ فِيهَا﴾ أي: في الجنات.
﴿أَزْوَاجٌ﴾ نساء وجوارٍ من الحورِ العِينِ.
﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ من الأقذار.
﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون، لا يموتون، ولا يخرجون.
[٢٦] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ الحياءُ: تغيُّرٌ وانكسارٌ يلحقُ الشخصَ خوفًا مما يُعابُ به، واشتقاقُه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوى الحيوانيةَ، ويردُّها عن أفعالها، والله سبحانه منزَّهٌ عن ذلك. وسببُ نزولِها: أن الله تعالى لما ضربَ المثلَ بالذُّبابِ والعنكبوتِ فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣]، وقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ﴾ [العنكبوت: ٤١]، قالتِ اليهودُ ما أرادَ اللهُ بذكرِ هذهِ الأشياءِ الخسيسةِ؟ فأنزلَ اللهُ -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ (١) أي: لا يتركُ تركَ مَنْ يستحيي (أنْ يضربَ مثلًا) يذكر شَبَهًا (ما بعوضةً) (ما) صلة؛ أي: مثلًا بالبعوضة، و (بعوضةً) نصبٌ بدلٌ عن المثل. والبعوضُ: صغارُ البقِّ، سميت بعوضةً كأنها بعضُ البقِّ، (فَمَا فَوْقَها) يعني: الذبابَ والعنكبوتَ.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد والقرآن.
﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ يعني المثلَ هو (٢).
(٢) "هو": ساقطة من "ت".
﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ ثم أجابهم فقال:
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ من الكفار، لأنهم كانوا يكذبونه، فيزدادون ضلالًا.
﴿وَيَهْدِي بِهِ﴾ أي: بهذا المثل.
﴿كَثِيرًا﴾ من المؤمنين، فيصدقونه. والإضلالُ: هو الصَّرْفُ عن الحقِّ بالباطل.
﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ لأن الكافرين. والفسقُ: الخروجُ عن أمر الله. ثم وصفهم فقال:
• ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ أي: يخالفون ويتركون. وأصلُ النقضِ الكسر.
﴿عَهْدَ اللَّهِ﴾ أمرَ اللهِ الذي عهدَ إليهم يومَ الميثاق بقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ توكيدِه. والميثاقُ: العهدُ المؤكَّدُ.
﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ يعني: الإيمانَ بمحمدٍ وبجميعِ الرسلِ -عليهم السلام-؛ لأنهم قالوا: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: ١٥٠]، وقالَ المؤمنون: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥].
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ المغبونون. ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب:
• ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ بعدَ نصبِ الدلائل ووضوحِ البراهين.
ثم ذكرَ الدلائلَ فقالَ:
﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ نُطَفًا في أصلابِ آبائِكم.
﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ في الأرحامِ والدنيا. قرأ الكسائيُّ: (فَأَحْيَاكُمْ، أَحْيَا، أَحْيَاهَا، فَأَحْيَا، وَأَحْيَا) بالإمالةِ حيثُ وقعَ، وافقه حمزةُ في (وَأَحْيَا) حيثُ وقع (١).
﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاءِ آجالِكم.
﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالبعثِ.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ تُرَدُّون في الآخرةِ، فَيَجزيكم بأعمالِكم. قرأ يعقوبُ: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم حيثُ وقع إذا كانَ من رجوع
• ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ لكي تعتبروا وتستدلوا.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ أي: قصد إليها؛ لأنه خلق الأرض أولًا، ثم عمدَ إلى خلقِ السماء.
﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ أي: خلقهنَّ مستوياتٍ لا فُطورَ فيها ولا صَدْعَ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ وخلفٌ؛ (اسْتَوَى) (فَسَوَّاهُنَّ) بالإمالةِ (٢)، ووقفَ يعقوبُ (فَسَوَّاهُنَّهْ) بزيادة هاء السكت.
﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفُ،
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٠٩)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (١/ ١٣٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٠).
• ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ أي: واذكرْ إذْ قال ربُّك. و (إذْ) و (إِذا) حرفا توقيتٍ، إلا (إذ) للماضي، و (إذا) للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضعَ الأخرى. قرأ أبو عمرٍو (قَال رَّبُّكَ) بإدغام اللام في الراء.
﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾ جمع مَلَكَ. قيل: مشتقٌّ من المُلْك، وهو الشدَّةُ والقوةُ، والمرادُ: الملائكةُ الذين كانوا في الأرض، وذلك أن الله خلق السماءَ والأرضَ، وخلقَ الملائكةَ والجانَّ، وأسكنَ الملائكةَ السماءَ، وأسكنَ الجانَّ الأرضَ، فعبدوا دهرًا طويلًا في الأرض، ثم ظهر فيهم الحسدُ والبغيُ، فأفسدوا، واقتتلوا، فبعث الله إليهم جُندًا من الملائكة يقال لهم: الجنُّ، وهم خُزَّانُ الجِنان، اشتقَّ لهم اسمٌ من الجنة، رأسهم إبليسُ، وكانَ رئيسَهُم، ومن أشدِّهم وأكثرِهم علمًا، فهبطوا إلى الأرضِ، وطردوا الجانَّ إلى شعوبِ الجبال وبطونِ الأوديةِ وجزائرِ البحورِ، وسكنوا الأرضَ، وخَفَّفَ الله عنهُم العبادةَ، وأعطى اللهُ إبليسَ ملكَ الأرضِ وملكَ سماءِ
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤١).
﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾ أي: مُصَيِّرٌ.
﴿فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أي: بدلًا منكم، وأرفعُكُم إليَّ، فكرهوا ذلكَ؛ لأنهم كانوا أهونَ الملائكة عبادةً، والمرادُ بالخليفة هاهنا: -آدم عليه السلام-؛ لأنه خليفةُ الله في الحُكْم بينَ عبادِه بالحقِّ، ومَنْ قامَ مقامَه بعدَه من ذريته، والخليفةُ: من استُخلِفَ مكانَ مَنْ كان قبلَه، مأخوذ من أنه خَلَفٌ لغيره، يقومُ مقامَهُ في الأمر الذي أُسند إليه فيه؛ كما قيل: أبو بكرٍ خليفةُ رسول الله - ﷺ -. قرأ الكسائي (خليفة) بإمالةِ الفاء حيثُ وقف على هاء التأنيث (١).
﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ بالمعاصي، والمراد: ذريَّتُه.
﴿وَيَسْفِكُ﴾ أي: ويصبُّ.
﴿الدِّمَاءَ﴾ بغيرِ حقٍّ؛ أي: كما فعلَ بنو الجانِّ، فقاسوا بالشاهدِ على الغائبِ، وإلَّا فَهُم ما كانوا يعلمون الغيبَ.
﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ نقول: سبحانَ اللهِ وبحمدهِ. والتسبيحُ: تبعيدُ اللهِ من السوء. قرأ أبو عمرٍو: (وَنَحْن نُّسَبِّحُ) بإدغامِ النون في النون.
﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أي: نثني عليك بالقُدُّوس والطهارة عما لا يليقُ بجلالك. قرأ أبو عمرٍو: (وَنُقَدِّسُ لَك قَّالَ) بإدغام الكاف في القاف،
﴿قَالَ﴾ الله تعالى:
﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من المصلحة فيه. قرأ المدنيان، وابنُ كثير، وأبو عمرٍو (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون بإسكانها، وأبو عمرٍو: (أَعْلَم مَّا) بإدغام الميم في الميم (٢).
• ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ﴾ سُمِّي آدمَ؛ لأنه خُلِقَ من أديمِ الأرضِ، وهو وَجْهُها، مشتَقٌّ من الأُدْمَةِ: السُّمْرَة، وكنيتهُ: أبو البَشَر، عاش تسعَ مئةٍ وثلاثين سنةً باتفاقٍ، وقبرُه في مغارةٍ بينَ بيتِ المقدسِ ومسجدِ إبراهيمَ الخليلِ، رِجْلاهُ عند الصخرة، ورأسهُ عند مسجدِ إبراهيم، وفي ذلك خلاف كثير.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٩٣)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٩٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٧٤)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٣٠)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٩٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٢).
﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ أي: عرض المسمَّيات؛ لأن عرض الأسماء لا يصحُّ، والعرضُ: إظهارُكَ الشيءَ، وأن تمرَّ به عَرْضًا؛ لتعرفَ حالَه، وإنما قال: عَرَضَهم، ولم يقل: عَرَضَها؛ لأن المسمَّياتِ إذا جَمَحَتْ من يعقلُ ومن لايعقلُ، يكنى عنها بلفظ مَنْ يعقلُ؛ كما يكنى عن الذكورِ والإناثِ بلفظ الذكور.
﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي﴾ أخبروني، أمر تعجيز.
﴿بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنِّي لا أخلقُ خلقًا إلا كنتم أفضلَ وأعلمَ منه. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ورَوْح: ﴿هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بتحقيق الهمزتين، وأبو عمرٍو بإسقاطِ الهمزةِ الأولى، وتحقيق الثانية، وقرأ قالون، والبزي: بتسهيل الأُولى بينَ بينَ، مع تحقيق الثانية، وأبو جعفرٍ ورويسٌ: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، واختلف عن قنبل وورش، فروي عن الأول جعلُ الهمزةِ الثانيةِ بينَ بينَ، وروي عنه إسقاطُ الهمزة الأولى، وهو الذي عليه الجمهورُ من أصحابه، وروي عن الثاني إبدالُ الهمزةِ الثانيةِ ياءً مكسورةً، وروي عنه تسهيلُها بينَ بينَ (١).
﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهًا لكَ.
﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ معناه: أنك أجلُّ من أن نحيطَ بشيء من علمِك.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ بخلقك.
﴿الْحَكِيمُ﴾ في أمرك. والحكيمُ له معنيان: أحدُهما: الحاكم، وهو القاضي العدلُ، والثاني: المحكِمُ لأمره كيلا يتطرَّقَ إليه الفسادُ، وأصلُ الحكمةِ في اللغة: المنعُ، وهي تمنعُ صاحبَها من الباطل، ومنها حَكَمَةُ الدابَّة؛ لأنها تمنعُها من الاعوجاج. فلما ظهرَ عجزُهم:
• ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه:
﴿يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ﴾ أخبرهم.
﴿بِأَسْمَائِهِمْ﴾ فسمَّى آدمُ كلَّ شيء باسمه، وذكرَ الحكمةَ التي لأجلها خُلق.
﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ﴾ الله:
﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ يا ملائكتي:
﴿غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ما كان منها، وما يكون؛ لأنه قد قال لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ أي: تظهرون، يعني قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾.
﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ تُسِرُّون، يعني قولهم: لن يخلقَ اللهُ ربُّنا خَلْقًا أكرمَ عليه منا.
...
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ مذهب العرب أن الرئيسَ يخبرُ عن نفسِه بضمير الجمع.
﴿لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ قرأ أبو جعفر: (لِلْمَلائِكَةُ) بضمِّ التاءِ حالةَ الوصلِ إتباعًا، ورُويَ عنهُ إشمامُ كسرتها الضمَّ، والوجهان صحيحان عنه، ووجهُ الإشمام أنه أشارَ إلى الضمِّ تنبيهًا على أن الهمزةَ المحذوفةَ التي هي همزةُ الوصلِ مضمومةٌ حالةَ الابتداءِ، ووجهُ الضمِّ أنهم استثقلوا الانتقالَ من الكسرةِ إلى الضمة إجراءً للكسرةِ اللازمةِ مجرى العارضة، وعللها أبو البقاءِ أنه نوى الوقفَ على التاء، فسكنها، ثم حَرَّكها بالضمِّ إتباعًا لضمةِ الجيم،
﴿فَسَجَدُوا﴾ يعني: الملائكة.
﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ وكان اسمُه عزازيل بالسريانية، وبالعربية: الحارثُ، فلما عصى، غُير اسمه وصورتُه، فقيل: إبليسُ؛ لأنه أبلسَ؛ أي: يئس من رحمة الله، والأصحُّ أنه كانَ من الملائكة لا من الجنِّ، وقوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: ٥٠]، أي: من الملائكةِ الذين هم خَزَنة الجنة.
﴿أَبَى﴾ امتنع فلم يسجد.
﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ أي: تكبر عن السجود لآدم.
﴿وَكَانَ﴾ أي: وصار.
﴿وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ وهي جنةُ الخلد في السماء السابعة، وذلك أن آدمَ لم يكنْ له في الجنةِ مَنْ يجالسُه، فنام نومةً، فخلقَ اللهُ زوجتَهُ حَوَّاءَ من قصيراهُ من شقِّه الأيسر، وسُمِّيت حواءَ؛ لأنها خُلقَتْ من حَيٍّ، خلقها الله تعالى من غير أن أحسَّ بها آدمُ، ولا وجدَ لها ألمًا، ولو وجد لها ألمًا، لما عطفَ رجلٌ على امرأة قَطُّ، فلما استيقظَ من نومه، رآها جالسةً عندَ رأسِه كأحسنِ ما خلقَ الله، فقال لها: مَنْ أنتِ؟ فقالتْ زوجتُكَ، خلقني الله لكَ؛ لتسكنَ إليَّ، وأسكنَ إليكَ (١).
﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ واسعًا كثيرًا.
﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ كيف شئتما، ومتى شئتما، وأين شئتما. قرأ أبو عمرٍو:
(حَيْث شِّيتُمَا) بإدغام الثاء في الشين، وإبدال الهمز (٢) بياء ساكنة (٣)، وافقه على الإبدال أبو جعفرٍ وورشٌ.
﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ يعني: للأكل، واختُلِف في الشجرة، فقيل:
(٢) في "ن": "الهمزة".
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٠٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٦).
﴿فَتَكُونَا﴾ أي: فتصيرا.
﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: الضارِّينَ بأنفسِكما بالمعصيةِ. وأصلُ الظلم: وضعُ الشيء في غيرِ موضعه.
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ يعني: استزلَّ آدمَ وحواءَ؛ أي: دعاهما إلى الزلَّة. قرأ حمزةُ (فَأَزَالَهُمَا) بألفٍ مخففًا؛ أي: نَحَّاهما عن الجنة. وقرأ الباقون: بغير ألف مشدَّدًا على المعنى الأول (٢).
﴿الشَّيْطَانُ﴾ تقدم تفسيره في الاستعاذة.
﴿عَنْهَا﴾ أي: عن الجنة.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٩٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٣)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٧٤)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٣٦)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٠٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١١١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٧).
﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ أي: انزلوا إلى الأرض، يعني: آدم وحواء وإبليس والحية، والهبوطُ: الانحطاطُ من عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ، فهبطَ آدمُ بِسَرَنْديبَ من أرضِ الهندِ على جبل يقال له: نَوْد، وحواء بجدة، وإبليس بأيلةَ، والحيةُ بأصفهان.
﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ أراد: العداوة التي بين ذرية آدم والحية، وبين المؤمنين من ذرية آدم وإبليس.
﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ موضعُ قرار.
﴿إِلَى حِينٍ﴾ آخرِ أعمارِكم، فكلُّ إنسانٍ له مكانٌ في الأرضِ يستقرُّ فيه مدَّةَ حياتِه وبعدَ مماته.
﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿فَتَلَقَّى﴾ التلقِّي: هو قبولٌ عن فِطْنَةٍ وفَهْم؛ أي: قَبِلَ وأخذَ.
﴿آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ هي ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣]، وقيل غير ذلك. قرأ أبو عمرٍو، ورُويسٌ: (آدَم مِّن ربِّهِ) بإدغام الميم في الميم (١)، وقرأ ابنُ كثير: بنصبِ (آدَمَ) مفعولًا، ورفعِ (كَلِمَاتٌ) على أنها استقبلته وبلَغَتْهُ، والباقون برفعِ (آدَمُ)، ونصبِ (كَلِمَاتٍ) بكسر التاءِ مفعولًا (٢)، قال ابن عباس: "بكى آدمُ وحَوَّاءُ على ما فاتَهُما من نعيمِ الجنةِ مئتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يومًا، ولم يقربْ آدمُ حواءَ مئةَ سنة" (٣). ورُوي أن آدم لما هبط إلى الأرض، مكثَ
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٩٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٣)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٧٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٣٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٨).
(٣) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (١/ ٣٥ - ٣٦)، ومن طريقه ابن عساكر في =
﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ فتجاوز عنه.
﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ﴾ المتفضل بقبولِ توبةِ عبادِه.
﴿الرَّحِيمُ﴾ بخلقه. قرأ أبو عمرٍو (إنَّه هُّو) بإدغام الهاء في الهاء (١).
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ يعني: هؤلاءِ الأربعةَ قيل: الهبوطُ الأولُ من الجنة إلى السماء الدنيا، والهبوطُ الثاني إلى الأرض، وكان هبوطُهم وقتَ العصر. وبينَ هبوطِ آدمَ والهجرةِ الشريفة الإسلامية ستةُ آلافِ سنةٍ، ومئتان، وستَّ عشرةَ سنة، وبين المؤرخين في ذلك خلافٌ.
﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ أي: فإن يأتِكُم يا ذريةَ آدم، فـ (إنْ) شرطٌ ضُمَّتْ (٢) إليها (ما) تأكيدًا للفعل، وأُدغمت (إنْ) فيها وقلَّما وقعَ فعلُ الشرطِ بعدَ إمّا إلا مؤكدًا بـ"ما" والنون، فـ"ما" تؤكِّدُ أولَ الفعل، والنونُ تؤكِّدُ آخرَه. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (يَاتِيَنَّكُمْ) بالإبدال بغير همز، والباقون بالهمز.
﴿مِنِّي هُدًى﴾ رشدٌ برسولٍ أبعثُه إليكم، وكتابٍ أنزله عليكم.
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٦٤)، و"تفسير القرطبي" (١/ ٣٢٦)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٩).
(٢) في "ت": "ضمنت".
﴿فَلَا خَوْفٌ﴾ قرأ يعقوب: (فَلاَ خَوْفَ) بفتحِ الفاءِ وعدم التنوين حيثُ وقَع، والباقون: بالرفع والتنوين (٢).
﴿عَلَيْهِمْ﴾ فيما يستقبلُهم. وتقدَّم (٣) مذهبُ حمزةَ ويعقوبَ في ضمِّ الهاء من (عليهُم)، ومذهبُ ابنِ كثيرٍ وأبي جعفرٍ وقالون في صلةِ ميمِ الجمع بواو في اللفظ.
﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما خَلَّفوا.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ جحدوا.
﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ القرآنِ.
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ يومَ القيامة.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٦٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٠)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٣٢٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٩).
(٣) عند تفسير الآية رقم (٧) من سورة الفاتحة.
﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يا أولادَ يعقوبَ! ومعنى إسرائيل: [عبدُ الله، فإسرا: عبد، وإيل: هو الله. وقيل: هو صفوة الله. قرأ أبو جعفرٍ: (إسْرَايلَ)] (١) بتسهيل الهمزة حيث وقع (٢).
﴿اذْكُرُوا﴾ احفظوا، والذكرُ يكونُ بالقلب، ويكونُ باللسان.
﴿نِعْمَتِيَ﴾ أي: نعمي، لفظُها واحد، ومعناها جَمْعٌ.
﴿الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أي: على أجدادِكم وأسلافِكم، وهي النعم التي خُصَّت بها بنو إسرائيل؛ من فلقِ البحرِ، وإِنجائهم من فرعون، وإغراقه، وتظليلِ الغمامِ عليهم في التيه، وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى، وإنزالِ التوراةِ، في نعمٍ كثيرةٍ لا تحصى.
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ بامتثالِ أمري، وقيل: بعثِ محمدٍ والإيمانِ به.
﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بالقبول والثواب.
﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ أي: فخافونِ في نقض العهد. قرأ يعقوبُ: (فَارْهَبُونِي) بإثباتِ الياء، والباقونَ: بحذفها (٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٤١)، و"تفسير القرطبي" (١/ ٣٣١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٥٠).
(٣) المصادر السابقة.
[٤١] ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿مُصَدِّقًا﴾ موافقًا.
﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني: التوراةَ، في التوحيدِ والنبوَّةِ والأخبارِ، ونعتِ النبيِّ - ﷺ -. نزلتْ في كعبِ بنِ الأشرفِ وأصحابِه من علماءِ اليهود ورؤسائهم.
﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي: بالقرآنِ، يريد: أهلَ الكتاب؛ لأن قريشًا كفروا قبلَ اليهود بمكة، معناه: ولا تكونوا أولَ مَنْ كفر بالقرآن، فتتابعكم اليهودُ على ذلك، فتبوؤوا بآثامكم وآثامهم. قرأ حمزة: (ولا تَكُونُوا) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغُ الإشباعَ.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا﴾ أي: ولا تستبدلوا.
﴿بِآيَاتِي﴾ بالقرآنِ والإيمانِ بمحمدٍ - ﷺ -.
﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: عَرَضًا يسيرًا من الدنيا، وذلك أن رؤساءَ اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكلُ يُصيبونها من سَفَلَتِهم وجُهَّالهم، يأخذون منهم (١) كلَّ عامٍ شيئًا معلومًا من زَرْعِهم وضُروعِهم ونُقودهم، فخافوا إن هُمْ بَيَّنوا صفةَ محمد - ﷺ -، وتابعوه، أن تفوتهم تلكَ المآكلُ، فغيَّروا نعتَهُ، وكتموا اسمَهُ، واختاروا الدنيا على الآخرة.
﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ أي: فاخْشَونِ، والوقاية لغةً: حفظُ الشيءِ مما يؤذيه،
﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَلَا تَلْبِسُوا﴾ أي: لا (٢) تَخْلِطوا.
﴿الْحَقَّ﴾ الذي أُنزل عليكم من صفةِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿بِالْبَاطِلِ﴾ الذي تكتبونه بأيديكم من غير تغيير صفته.
﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ أي: لا تكتموه يعني: محمدًا - ﷺ -.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه نبيٌّ مرسَلٌ.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي: أديموا الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودِها.
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ وأَدُّوا زكاةَ أموالكم المفروضةَ، مأخوذٌ من زكا الزرعُ: إذا نما وكثر.
﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي: صَلُّوا مع المصلينَ محمدٍ وأصحابِه، وذُكر بلفظِ الركوع؛ لأن الركوعَ ركنٌ من أركان الصلاة، وكذا السجودُ
(٢) "لا" سقطت من "ت".
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ بالطاعة. نزلت في علماء اليهود، وذلك أن الرجل منهم كان يقولُ لقريبِهِ وحليفِه منَ المسلمين إذا سألَهُ عن أمرِ محمدٍ: اثبُتْ على دينه؛ فإن أمرَهُ حقٌّ، وقولَه صدقٌ (١).
﴿وَتَنْسَوْنَ﴾ أي: وتتركون.
﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ فلا تتبعونه.
﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ تقرؤون التوراةَ فيها نعتُه وصفتُه.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنه حَقٌّ، فتتبعونه، والعقلُ يمنعُ صاحبَه من الكفر والجحود.
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ أي: اطلبوا في قضاء حوائجكم المعونة.
﴿بِالصَّبْرِ﴾ أراد: حبسَ النفس عن المعاصي.
﴿وَالصَّلَاةِ﴾ أي: وبالصلاة على نَيْل الرضوان وحَطِّ الذنوب.
﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ أي: ثقيلة.
﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ يعني: المؤمنين المتواضعين، وأصلُ الخشوع: السكون.
﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يستيقِنون، والظنُّ من الأضداد، يكونُ شَكًّا ويَقينًا؛ كالرجاء يكونُ أمنًا وخوفًا.
﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو﴾ معاينوا.
﴿رَبِّهِمْ﴾ في الآخرة، وهو رؤيةُ الله تعالى، ويأتي الكلام على رؤيته سبحانه في الآخرة في سورة الأنعام.
﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فيجزيهم بأعمالهم.
﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ أي: ميزتكم؛ أي: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم.
﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي: عالَمَيْ زمانِكم، وذلك التفضيلُ وإن كانَ في حقِّ الآباء، ولكن يحصل به الشرفُ للأبناء.
[٤٨] ﴿وَاتَّقُوا﴾ واخشوا.
﴿يَوْمًا﴾ أي: عذاب يومٍ.
﴿لَا تَجْزِي﴾ أي: تقضي.
﴿نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ أي: حقًّا لزمَها.
﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ (تُقْبَلُ) بالتاء؛ لتأنيث الشفاعة، وقرأ الباقون: بالياء (١)؛ لأن الشفيع والشفاعة بمعنى واحد؛ أي: لا تقبل منها شفاعة إذا كانت كافرة.
﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا﴾ أي: من المشفوع لها.
﴿عَدْلٌ﴾ وأي: فداء، سُمِّي به، لأنه مثلُ العدلِ، والعدلُ: المِثْلُ.
﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ يُمنعون من عذاب الله.
[٤٩] ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ﴾ يعني: أسلافَكم وأجدادَكم، عَدَّها مِنَّةً عليهم؛ لأنهم نَجَو بنجاتهم.
﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ قومِه وأتباعِه وأهلِ دينه، وهو الوليدُ بنُ مُصْعَبِ بنِ الريَّانِ، وكانَ من القِبْطِ من العمالقةِ، وكان قصيرًا طويلَ اللحية، أشهلَ العينين، صغيرَ العينِ اليسرى، أعرجَ، وكان شجاعًا ساحرًا كاهنًا كاتبًا حكيمًا، متصرفًا في كلِّ فنٍّ، واسمُه عندَ القِبْطِ ظُلْما، وعُمِّر أكثرَ من أربعِ مئةِ سنةٍ، وفرعونُ عَلَمٌ لمن ملكَ مصر.
﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ يذيقونكم.
﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أَشَدَّهُ وأَسْوأَهُ، وذلك أنَّ فرعونَ جعلَ بني إسرائيل خَدَمًا وخَوَلًا، وصَنَّفَهم في الأعمال، فصنفٌ يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمونه، ومن لم يكنْ منهم في عمل، وضعَ عليه الجزية.
﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ أصل الذبح: الشقُّ، والتشديدُ للتكثير.
﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ يتركونَهُنَّ (١) أَحياءً، وذلكَ أن فرعونَ رأى في منامِه كأن نارًا أقبلتْ من بيتِ المقدسِ، وأحاطَتْ بمصرَ، وأحرقَتْ كلَّ قبطيٍّ بها، ولم تتعرضْ لبني إسرائيل، فهالَهُ ذلكَ، وسألَ الكَهَنَةَ عن رؤياه، فقالوا: سيولَد في بني إسرائيل غلامٌ يكونُ على يده هلاكُكَ، فأمر فرعونُ بقتل كلِّ غلامٍ يولَد في بني إسرائيل، ووكل بالقوابِل، فكنَّ يفعلْنَ ذلك.
﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ﴾ اختبار.
﴿مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ قيل: البلاء: المحنة؛ أي: في سومهم إياكم سوءَ العذاب محنةٌ عظيمة، وقيل: البلاء: النعمة؛ أي: وفي إنجائي إياكم منهم نعمةٌ عظيمة، والبلاء يكون بمعنى النعمة، وبمعنى الشدة، والله تعالى قد يختبرُ على النعمة بالشكر، وعلى الشدة بالصبر.
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ معناه: فرقنا البحرَ بدخولكم إياه، والفَرْقُ: الفصلُ؛ أي: اذكروا أيضًا مِنَّتي عليكم بأنْ جعلتُ لكمُ البحرَ أفراقًا؛ أي: اثني عشر فِرْقًا، و (بكم) للباء وجهان: أحدهما: لكم، والباء قد تجيء بمعنى اللام، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [الحج: ٦٢]؛
(٢) "يا" سقطت من "ظ".
﴿فَأَنْجَيْنَاكُمْ﴾ من آلِ فرعونَ ومن الغرقِ.
﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ أي: فرعونَ وجيوشَه، وذلك أنَّ فرعونَ لما وصل إلى البحر، فرآه منفلِقًا، قالَ لقومِه: انظُروا إلى البحرِ انفلقَ من هَيْبَتي حتى أُدْرِكَ عَبيدي الذين أَبَقُوا، ادخُلوا البحرَ، فهاب قومُه أن يدخلوه، وقالوا له: إن كنتَ ربًّا، فادخلِ البحرَ كما دخلَ موسى، وكانَ فرعونُ على حصانٍ أَدْهَمَ، ولم يكنْ في خيلِ فرعونَ فرسٌ أُنثى، فجاء جبريلُ في صورة هامانَ على أُنثى وَدِيقٍ؛ أي: شَهِيٍّ، وهي التي في فرجِها بَلَلٌ، فتقدَّمَهُ وخاضَ البحرَ، فلما شمَّ أدهمُ فرعونَ ريحَها، اقتحمَ البحرَ في أثرِها، ولم يملكْ فرعونُ من أمره شيئًا، وهو لا يرى فرسَ جبريلَ، واقتحمتِ الخيولُ خلفَه في البحر، وجاء ميكائيلُ على فرسٍ خلفَ القوم يشحذُهم ويسوقُهم حتى لا يشذَّ رجلٌ منهم، ويقولُ لهم: الحقوا بأصحابِكم، حتى خاضوا كلُّهم البحرَ، وخرجَ جبريلُ من البحر، وهمَّ أولُهم بالخروج، أمرَ اللهُ البحرَ أن يأخذَهم، فالتَطَمَ عليهم، وغَرَّقَهم أجمعينَ، وكان بينَ طرفي البحرِ أربعةُ فراسخَ، وهو بحر قُلْزُم طرف من بحر فارس، والقُلْزُمُ -بضم القاف
﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ إلى مصارعهم.
﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾.
[٥١] ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا﴾ قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (وَعَدْنَا) بقصِر الألفِ من الوعدِ، والباقون: (وَاعَدْنَا) بألفٍ (٢)، منَ المواعدة.
﴿مُوسَى﴾ اسم عبري عُرِّب، سُمِّي به لأنَّ تابوتَه وُجد بينَ الماءِ والشجر، والماءُ في لغتِهم مو، والشجرُ شا، ثم قلبتِ الشينُ المعجمةُ سينًا في العربية. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (مُوسَى) بالإمالة
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٧٣)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ٩٦)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٤)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٧٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٩٣، ٢٤٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٥٥).
﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ أي: انقضاءها. قرأ الكسائيُّ (لَيْلَةً) بإمالة اللام حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيثِ، وقُرن بالليلِ دونَ النهار؛ لأن شهورَ العرب وُضِعَتْ على سيرِ القمر، وذلك أن بني إسرائيل لما أَمِنوا من عدوِّهم، ودخلوا مصرَ، لم يكن لهم كتابٌ ولا شريعةٌ ينتهون إليها، فوعدَ الله موسى أن يُنزل عليهِ التوراةَ، فقال موسى: إني ذاهبٌ لميقات ربي آتيكُم بكتابٍ فيه بيانُ ما تأتونَ به وما تَذَرون، وواعدَهم أربعين ليلةً: ثلاثينَ من ذي القعدة، وعشرًا من ذي الحجَّة، وقيل: ذو الحجة، وعشرٌ من المحرَّم، واستخلفَ عليهم أخاه هارون، فلما أتى الوعدُ، جاء جبريل -عليه السلام- على فرس يقال له: فرسُ الحياة، لا تُصيب شيئًا إلا حَيِيَ؛ ليذهبَ بموسى إلى ربه، فلما رآه السامريُّ، وكان رجلًا صائغًا من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها: سامُرَّة، واسمه مِيْخَا -بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الخاء المعجمة وبعدها ألف-، وكان منافقًا، أظهرَ الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقرَ، فلما رأى جبريلَ على تلكَ الفرس، ورأى موضعَ قدمِ الفرس يخضَرُّ في الحال، قال: إن لهذا شأنًا، وأخذ قبضةً من تربةِ حافرِ فرسِ
﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ إلهًا.
﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: بعد ذهابه إلى الطور. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ، ورويسٌ: (اتَّخَذْتم) حيث وقع بإظهار الذال، والباقون بإدغامها.
﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ ضارُّون لأنفسِكم بالمعصيةِ، واضعونَ العبادةَ في غير موضعها.
[٥٢] ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا﴾ محونا.
﴿عَنْكُمْ﴾ ذنوبَكُم.
﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ من بعد عبادتكم العجلَ لمَّا تبتم. قرأ أبو عمرٍو: (مِنْ بَعْد ذَّلِكَ) بإدغام الدال في الذال (١)، وشبهه حيث وقع.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لكي تشكروا، وشكرُ كلِّ نعمةٍ أَلَّا يُعصى اللهُ بعدَ تلك النعمة (٢).
﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني: التوراةَ.
﴿وَالْفُرْقَانَ﴾ هو التوراةُ أيضًا، ذكرَها باسمينِ، وكرَّر المعنى لاختلافِ اللفظ، ولأنه زاد في معنى التفرقة بينَ الحقِّ والباطل، ولفظة الكتابِ لا تُعطي ذلك.
﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ بالتوراةِ.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٥٠).
[٥٤] ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ الذين عبدوا العجل:
﴿يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ﴾ أي (١): أضَرَرْتم (٢).
﴿أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ إلهًا، قالوا: فما نصنعُ؟ قال:
﴿فَتُوبُوا﴾ أي: فارجعوا.
﴿إلَى بَارِئِكُمْ﴾ خالِقِكم. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (بارِيكُم) بإمالة الألف في الموضعين، واخْتُلِفَ عن أبي عمرو في اختلاس كسرة الهمزة، وإسكانها من (باريكم) في الحرفين، فقرأ الدوريُّ عنه بالاختلاس، وقرأ السوسيُّ بالإسكان، وقرأ الباقونَ بإشباع الحركة (٣). قالوا: كيف نتوب؟ قال:
﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني: ليقتلِ البريءُ منكم المجرمَ.
﴿ذَلِكُمْ﴾ أي: القتلُ.
(٢) في "ط": "صررتم".
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٧٦)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ٩٦)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٥)، و"الكشف" لمكي (٢٤٠)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١١٤، ١١٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٥٧).
﴿فَتَابَ﴾ أي: إن فعلتم ذلك فقد تاب.
﴿عَلَيْكُمْ﴾ تجاوزَ عنكم.
﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ﴾ القابل للتوبة.
﴿الرَّحِيمُ﴾ قرأ أبو عمرٍو: (إنَّهْ هُّو) بإدغام الهاء في الهاء.
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥)﴾.
﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ وذلك أن الله -عز وجل- أمرَ موسى -عليه السلام- أنْ يأتيَه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادةِ العجل، فاختار موسى سبعينَ رجلًا من قومِه من خيارِهم، وقال لهم: صوموا، وتَطَهَّروا، وطَهِّروا ثيابَكُم، ففعلوا، فخرج بهم موسى إلى طورِ سيناءَ لميقاتِ ربِّه، فقالوا لموسى: اطلبْ لنا نسمع كلامَ رَبِّنا، فقال: أفعلُ، فلما دنا موسى إلى طور سيناءَ من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، وتغشى الجبلَ كلَّه، فدخلَ في الغمام، وقال للقوم: ادنو، فدنا القوم حتى دخلوا في الغمامِ، وخروا سُجَّدًا، وكان موسى إذا كلَّمه ربُّه، وقعَ على وجهه نورٌ ساطعٌ لا يستطيعُ أحدٌ من بني آدمَ أن ينظرَ إليه، فضُربَ دونَه الحجابُ، وسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه، وأسمعَهُم اللهُ: إني أنا اللهُ لا إلهَ إلا أنا ذو بَكَّةَ؛ أي: صاحبُ مكةَ، أخرجتُكم من أرضِ مصرَ بيدٍ شديدةٍ، فاعبدوني ولا تعبدوا غيري، فلما فرغَ موسى، وانكشفَ الغمامُ، أقبلَ إليهم، فقالوا له: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ معايَنَة (١)، وذلك أن العربَ تجعلُ العلمَ بالقلبِ رؤيةً، فقال: جهرةً؛ ليُعلم أنَّ المرادَ منه العيانُ.
﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ أي: الموتُ، وقيل: جاءت نارٌ من السماء فأحرقتهم.
﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ أي: ينظر بعضُكم إلى بعض حينَ أخذَكُم الموتُ، فلما هَلَكوا، جعل موسى يبكي ويتضرَّع ويقولُ: ماذا أقولُ لبني إسرائيل إذا
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ﴾ أحييناكم، والبعثُ: إثارةُ الشيءِ عن مَحَلِّه، يقال: بعثتُ البعيرَ، وبعثتُ النائمَ فانبعثَ.
﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ قال قتادة: أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقِهم (١)، ولو ماتوا بآجالهم، لم يبعثوا.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فِعَالي.
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ في التيه يَقيكم حرَّ الشمسِ، والغَمامُ جمعُ غمامةٍ، من الغَمِّ، وأصلُه التَّغْطِيَةُ والسَّتْرُ، سُمِّي السحابُ غمامًا؛ لأنه يغطِّي وجهَ الشمس، وذلك أنه لم يكنْ لهم في التيه كِنٌّ يسترُهم، فشكَو إلى موسى -عليه السلام-، فأرسل الله غمامًا أبيضَ رقيقًا أطيبَ من غمام
﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ أي: في التيه، والأكثرون على أن المنَّ هو التَّرَنْجَبينُ، وقيل: هو شيءٌ يتساقطُ على الشجر كالصَّمغ، حلوُ الطعم، فكان هذا المنُّ كل ليلةٍ يقعُ على أشجارهم مثلَ الثلج، لكلِّ إنسانٍ منهم صاعٌ، فقالوا: يا موسى! قَتَلَنَا هذا المنُّ بحلاوته، فادع لنا ربك أن يطعِمَنا اللَّحْمَ، فأنزل الله عليهمُ السَّلوى، وهو طائر يشبه السُّمَّانَ، فكان اللهُ يُنزل عليهم المنَّ والسلوى كلَّ صباحٍ من طلوع الفجر إلى طلوعِ الشمسِ، فيأخذُ كلُّ واحدٍ منهم ما يكفيه يومًا وليلة، وإذا كان يومُ الجمعة، أخذَ كلُّ واحد منهم ما يكفيه ليومين؛ لأنه لم يكنْ ينزلُ يومَ السبت.
﴿كُلُوا﴾ أي: وقلنا لهم: كلوا.
﴿مِنْ طَيِّبَاتِ﴾ أي: حلالات.
﴿مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ولا تَدَّخروا لغدٍ، ففعلوا، فقطع الله ذلك عنهم، ودَوَّدَ وفسدَ ما ادَّخروا، فقال الله تعالى:
﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ وما بَخَسوا حقنا.
﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ باستيجابهم عذابي، وقطعِ مادة الرزقِ الذي كان ينزلُ عليهم بلا مُؤْنة في الدنيا، ولا حسابٍ في العقبى.
﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)﴾.
﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ سميت القرية قريةً؛ لأنها تجمعُ أهلَها، ومنه: المِقْراةُ للحَوْض؛ لأنها تجمعُ الماء، والقريةُ: بيتُ المقدس، وقيل غيره.
﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ موسَّعًا عليكم. قرأ أبو عمرٍو (حَيْث شِّئْتُمْ) بإدغام الثاء في الشين، وقرأ أيضًا هو وأبو جعفرٍ وورشٌ: (شِيتُم) بياء ساكنة بغير همز.
﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ﴾ يعني: بابًا من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب، وقيل: باب المسجد.
﴿سُجَّدًا﴾ أي: رُكَّعًا خُضَّعًا مُنْحَنين.
﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي: حُطَّ عنا خطايانا، أُمروا بالاستغفار.
﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ من الغَفْر، وهو السَّتْر، فالمغفرةُ تسترُ الذنوب. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (يُغْفَرْ) بالياء آخر الحروف مضمومة، وابنُ عامر: (تُغفَرْ) بتاء مضمومة، واتفقوا على فتح الفاء، والباقون: بنون مفتوحة وكسر الفاء (١)، ورُوي عن أبي عَمْرٍو إدغامُ الراء في اللام من (نَغْفِر لَّكُمْ) (٢)، وروي عنه إظهارُها، والوجهان عنه صحيحان، وقرأ الكسائي:
(٢) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٠)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٤٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١١٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =
﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ ثوابًا من فضلنا.
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿فَبَدَّل﴾ فغيَّر.
﴿الَّذِينَ ظَلَمُوَا﴾ أنفسَهم وقالوا:
﴿قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا بلغتهم حِطَاءُ سمقاثًا استهزاءً؛ أي: حنطةً حمراءَ، وروي أنهم قالوا: حبَّة في شَعْرَة. قرأ أبو جعفر: (قَوْلًا غَيْرَ) بإخفاء التنوين عند الغين، وأبو عمرٍو (قِيل لَّهمْ) بإدغام اللام في اللام (٢)، وتقدَّم (٣) ضمُّ الهاء وصلةُ الميم من (عَلَيْهُم وإِلَيْهُمْ) ونحوِهما.
﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا﴾ أي: عذابًا.
﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ قيل: أرسلَ اللهُ عليهم طاعونًا، فهلك منهم في ساعةٍ واحدةٍ سبعون ألفًا.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٦)، و"تفسير الرازي" (١/ ٣٦٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٦٠).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٦١).
(٣) عند تفسير الآية (٧) من سورة الفاتحة.
﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى﴾ طلبَ السُّقيا.
﴿لِقَوْمِهِ﴾ وذلك أنهم عطشوا في التيه، فسألوا موسى أن يستسقيَ لهم، ففعلَ، فأوحى الله إليه كما قال:
﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ وكانت العصا من آسِ الجنة، طولُها عشرةُ أذرع على طولِ موسى، ولها شُعْبتان تتَّقِدان في الظلمة نورًا، واسمها عُلَيْق، حملها آدمُ من الجنة، فتوارثها الأنبياءُ حتى وصلت إلى شُعيب، فأعطاها موسى. وأما الحجرُ، فقال ابنُ عباس: كانَ حجرًا خَفيفًا مربَّعًا على قدرِ رأس الرجل، كان يضعُهُ في مِخْلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء، وضعَه وضربَه بعصاته، فإذا فرغوا، وأراد موسى حملَهُ، ضربه بعصاته، فيذهبُ الماء، وكان يسقي كلَّ يومٍ ستَّ مئةِ ألفٍ. وقال سعيد بن جبير: هو الحجرُ الذي وضحَ موسى ثوبَهُ عليه ليغتسلَ، ففرَّ بثوبه، ومرَّ به على ملأٍ من بني إسرائيل حينَ رَمَوْهُ بالأُدْرَةِ، فلما وقف، أتاه جبريلُ فقالَ: إن الله تعالى يقولُ لكَ: ارفعْ هَذَا الحجرَ؛ فإنَّ في فيه قدرةً، ولك فيه معجزةٌ، فرفعَهُ ووضعَهُ في مِخْلاته (١).
﴿مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ على عدد الأسباط.
﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ لا يدخلُ سبطٌ على غيرِه في شربه.
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ أي: وقلنا لهم: كلوا من المنِّ والسلوى، واشربوا من الماء، فهذا كله:
﴿مِنْ رِزْقِ اللَّه﴾ الذي يأتيكم بلا مشقة.
﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ والعُثِيُّ (١): أشدُّ الفساد.
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
[٦١] ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ وذلك أنهم كرهوا وسئموا من أكل المنِّ والسَّلوى، وإنما قال: طعام واحد، وهما اثنان؛ لأن العربَ تُعَبِّرُ عن الاثنين بلفظ الواحد، كما تعبِّرُ عن الواحدِ بلفظِ الاثنين؛ كقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، وإنما يخرجُ من الصالح دونَ العذب.
﴿رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا﴾ والفوم: الخبز، أو الحنطة، وقيل: الثوم.
﴿وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ﴾ لهم موسى:
﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ أَخَسُّ وَأَرْدَأُ.
﴿بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ أشرفُ وأفضلُ، وجعل الحنطةَ أدنى في القيمة، وإن كانَ هو خيرًا من المنِّ والسلوى، وأرادَ بهِ أسهلُ وجودًا على العادة.
﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ يعني: وإن أبيتُم إلا ذلكَ، فانزلوا مصرًا من الأمصار.
﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ من نبات الأرض.
﴿وَضُرِبَتْ﴾ جُعِلَتْ.
﴿عَلَيْهِمُ﴾ وأُلزموا.
﴿الذِّلَّةُ﴾ الذُّلُّ والهوَان بالجِزْية، وهو ضِدُّ العزِّ.
﴿وَالْمَسْكَنَةُ﴾ الفقر، سُمِّيَ الفقيرُ مسكينًا؛ لأن الفقرَ أسكنَهُ وأقعدَهُ عن الحركةِ، فترى اليهودَ -وإن كانوا أغنياءَ- كأنَّهم فقراءُ، فلا يُرى في أهل المالِ أذلُّ وأحرصُ على المالِ من اليهود. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌّ: (عَلَيْهُمُ الذِّلَّةُ) و ﴿بِهِمُ الأَسبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦] وشبهَه: بضم الهاء والميم في الوصل حيث وقع، ووافقَهم يعقوبُ في (عَلَيْهُمُ الذِّلَّةُ) وشبهه، ونافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ يكسرون الهاء، ويضمون الميمَ، وأبو عمرو
﴿وَبَاءُوا﴾ رجعوا.
﴿بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ ولا يقال: باءَ إلا إذا رجعَ بشر.
﴿ذَلِكَ﴾ الغضب.
﴿بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ بصفة محمدٍ - ﷺ -، وآيةِ الرجم في التوراةِ، ويكفرون بالإنجيلِ والقرآنِ.
﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ كشعيا وزكريا ويحيى. قرأ نافعٌ (النَّبِيئينَ، وَالنَّبِيؤون، ونَبِيئُهُمْ، وَلأَنْبِئَاء، والنُّبُوءَة، والنَّبِيء) بالمدِّ والهمز حيث وقع، فيكون معناه المخبر من أنبأ ينبئُ؛ لأنه إنباءٌ عن الله، وخالفَه قالونُ في حرفين في الأحزاب يأتي ذكرُهما في محلِّهما -إن شاء الله تعالى-. وقرأ الباقون: بترك الهمز (٢)، وله وجهان: أحدهما: هو أيضًا من الإنباء، تُركتِ الهمزةُ فيه تخفيفًا؛ لكثرةِ الاستعمال، والثاني: هو بمعنى الرفع، مأخوذٌ من النَّبْوَةِ، وهو المكانُ المرتفع.
﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أي: بلا جرم.
﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يتجاوزون أمري، ويرتكبون مَحارِمي.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٩٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٧)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٠ - ٨١)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٤٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١١٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٦٥).
[٦٢] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على الحقيقة.
﴿وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني: اليهود، سموا به (١) لقولهم: ﴿إِنَّا هُدْنا إِليْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦]؛ أي: ملنا إليك، وقيل (٢): لأنهم هادوا؛ أي: تابوا عن عبادةِ العجل، وقال أبو عمرِو بنُ العلاء: لأنَّهم يتهوَّدون؛ أي: يتحرَّكون عندَ قراءةِ التوراةِ، ويقولون: إنَّ السمواتِ والأرضَ تحرَّكت حينَ آتى الله موسى التوراةَ.
﴿وَالنَّصَارَى﴾ سُمُّوا بهِ؛ لقولهم: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [الصف: ١٤]، وقيل: لأنَّهم نزلوا قريةً، وقالوا لها: ناصِرَة، وقيل: لاعتزائِهم إلى نَصْرَةَ، وهي قريةٌ كان يَنْزِلها عيسى -عليه السلام - (٣).
﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ جمع صابئ، أصلُه الخروجُ، يقال: صَبَأَ فلانٌ: إذا خرجَ من دينٍ إلى دينٍ آخَرَ، وهم قومٌ عدلوا عن اليهوديةِ والنصرانيةِ، وعبدوا الملائكةَ، ويستقبلون القبلةَ، ويوحِّدون اللهَ، ويقرؤون الزَّبورَ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (والنَّصَارَى) حيث وقعَ بالإمالة، والباقونَ بالفتح، فمن قرأ بالإمالة رَقَّق الراءَ، ومن قرأ بالفتح، فَخَّمَها (٤)،
(٢) "وقيل" سقطت من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧٩).
(٤) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
﴿مَنْ﴾ شرط محلُّه رفع مبتدأ، خبره:
﴿آمَنَ﴾ أي: من الكفار.
﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ بالقلب واللسان.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ وجواب الشرط.
﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ الذي يستوجبونه امتنانًا.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة. تلخيصُه: من أخلصَ إيمانَه، وأصلحَ عملَه، دخلَ الجنَّةَ.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣﴾.
[٦٣] ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أي: عهدكم يا معشرَ اليهود.
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ وهو الجبل بالسريانية، رفع الله فوقَ رؤوسهم الطورَ، وذلك أن الله تعالى أنزلَ التوراةَ على موسى، فأمرَ موسى قومَهُ أن
(١) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠١)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٧)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨١)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١١٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٤٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٦٦).
﴿خُذُوا﴾ أي: وقلنا لهم: ﴿خُذُوا﴾.
﴿مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أعطيناكم.
﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد واجتهاد ومواظبة.
﴿وَاذْكُرُوا﴾ واعلموا وادرسوا.
﴿مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لكي تنجو من الهلاك في الدنيا، والعذاب في العقبى، فإن قبلتم، وإلا رَضَخْتكم بهذا الجبلِ، وَغرَّقْتكم في البحر، وأحرقْتكم بهذه النار، فلما رأوا أنْ لا مهربَ لهم منها، قبلوا، وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبلَ وهم سجود، فصارَتْ سُنَّةً في اليهود، لا يسجدون إلا على أنصاف وُجوههم، ويقولون: بهذا السجودِ رُفع العذاب عنا (١).
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي: أعرضتم.
﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: من بعد ما قَبِلتم التوراة.
﴿لَكُنْتُمْ﴾ أي: لصرتم.
﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أي: المغبونين بالعقوبة، وذهابِ الدنيا والآخرة، كأنه رحمَهُم بالإمهال.
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥﴾.
[٦٥] ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ أي: جاوزوا الحدَّ، وأصلُ السَّبتِ: القطع، وسمي بذلك يوم السبت، لأن الله تعالى قطعَ فيه الخلقَ، وقيلَ: لقطعِ أشغالِهم فيه، وتعظيمِه بترك العاداتِ، والإتيانِ بالعبادات.
واختُلف هل للقاضي أن يُحضر اليهوديَّ (١) إلى مجلسِ الحكمِ في يومِ السبتِ لسماعِ دعوى خصمِه، وإلزامِه بما يثبتُ عليه؟ فمذهبُ الشافعيِّ: يُحْضَر يومَ السبت، ويُكسر سبتُه عليه، وهو ظاهرُ عبارة الحنفية في كتبهم، لإطلاقهم أن القاضيَ يحكمُ بينَ أهل الذمَّةِ إذا ترافعوا إليه بحكمِ الإسلام.
واختُلف في مذهب مالك في كراهةِ طلبِه، فقيل: يُكْره طلبُه وتمكينُ خصمِه من ذلك، وقيل: يجوزُ من غيرِ كراهة، واختار البساطيُّ من علماء المالكيةِ أنه يُمنع المسلمُ من طلبه، إلا أن تقوم القرائنُ أن المسلمَ اضْطُرَّ إلى ذلك، ولم يقصد ضررًا.
والقصَّةُ في السبت أنهم كانوا في زمانِ داودَ -عليه السلام- بأرضٍ يُقال لها: أيلة، حَرَّمَ اللهُ عليهم صيدَ السمكِ يومَ السبت، فكانوا إذا دخلَ عليهم السبتُ، لم يبقَ حوتٌ في البحرِ إلا اجتمعَ هناك، حتى يُخرجْنَ خراطيمهنَّ من الماء، لأمنِها، حتى لا يُرى الماءُ من كثرتها، فإذا مضى السبتُ، تَفَرَّقْنَ، ولَزِمْنَ مقلَ البحر، فلا يُرى شيءٌ منها، فذلك قولُه تعالى: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ﴾ (٢) [الأعراف: ١٦٣]، ثمَّ إنَّ الشيطانَ وسوسَ إليهم، وقال: إنما نُهيتُم عن أخذِها يومَ السبتِ، فعمَدَ رجالٌ فحفروا الحِياضَ حولَ البحرِ، وشَرَّعوا منه إليها لأنهارَ، فإذا كانت عشيةُ الجمعة، فتحوا تلكَ الأنهارَ، فأقبلَ الموجُ بالحيتانِ إلى الحِياض يومَ السبت، فلا يقدرونَ على الخروح، لبعدِ عمقِها، وقلَّةِ مائها، فإذا كانَ يومُ الأحد، أخذوها، ففعلوا ذلك زمانًا، ولم تنزلْ عليهم عقوبة، فتجرؤوا على الذنب، وقالوا: ما نرى السبتَ إلا قد حلَّ لنا، فأخذوا وأكلوا، ومَلَّحوا وباعوا، وأَثْرَوا، وكَثُرَ ما لُهم، فلما فعلوا ذلك، صارَ أهلُ القرية -وكانوا نحوًا من سبعينَ ألفًا- ثلاثةَ أصنافٍ: صنفٌ أمسكَ
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (١/ ١٣٢)، عن السدي.
﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا﴾ أمرُ تحويل وتكوين؛ أي: صيروا.
﴿قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ مبعَدين مطرودين، والخساءُ: الطردُ والإبعاد. قرأ الكسائيُّ (قِرَدَةً) بإمالة الدال حيثُ وقفَ على هاء التأنيث.
﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ أي: عقوبتهم بالمسخ.
﴿نَكَالًا﴾ أي: عقوبةً وعبرةً (٢)، والنَّكالُ: اسمٌ لكلِّ عقوبةٍ يَنكُلُ الناظرُ من فعل ما جُعلت العقوبةُ جزاءً عليه، ومنهُ النُّكولُ عن اليمين، وهو الامتناعُ، وأصلُه من النَّكل، وهو القيدُ، وجمعه أَنْكال.
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ أي: جعلنا تلك العقوبةَ جزاءً لما تقدَّم من ذنوبهم قبلَ نهيهم عن أخذِ الصيد.
(٢) "وعبرة" سقطت من "ت".
﴿وَموْعِظَةً﴾ أي: تذكرة.
﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ للمؤمنين من أُمَّةِ محمدٍ - ﷺ -، فلا يفعلون مثلَ فعلِهم.
ويأتي ذكرُ أيلة ومحلِّها في سورة الأعراف عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [الأعراف: ١٦٣] إن شاء الله تعالى.
واختلف الأئمةُ في جوازِ الحيلة، وهو فعلُ ما ظاهرُه مُباح ويُتوصَّلُ به إلى محرَّمٍ، فَسَدَّ الذرائعَ مالكٌ وأحمدُ، ومنعا منه، وأباحه أبو حنيفةَ والشافعيُّ.
والحيلةُ: اسمٌ من الاحتيال، وهي التي تحوِّلُ المرءَ عمَّا يكره إلى ما يُحِبُّ.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (يَامُرُكُمْ) بغير همز، والباقون بالهمز، واختُلِف عن أبي عمرٍو في اختلاس ضمَّةِ الراءِ وإسكانِها من (يَأْمُرُكُمْ، ويَأْمُرُهُمْ، ويَنْصُرُكُمْ، ويُشْعِرُكُمْ) حيثُ وقع ذلك، فقرأ الدوريُّ عنه بالاختلاس، وقرأ السوسيُّ بالإسكان، وقرأ الباقون بإشباع
والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجلٌ غني، وله ابنُ عمٍّ فقيرٌ لا وارثَ له سواه، فلما طال عليه موتُه قتلَه ليرثَه، وحملَه إلى قريةٍ أخرى، فألقاه بِفِنائهم، ثم أصبحَ يطلبُ ثأرَهُ، وجاء بناسٍ إلى موسى يدَّعي عليهِمُ القتلَ، فسألهم موسى، فجحدوا، فاشتبهَ أمرُ القتيل على موسى، وذلك قبلَ نزول القَسامَةِ في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله؛ ليبيِّنَ لهم بدعائه، فدعا موسى -عليه السلام- فأمرهم بذبح بقرة، فقال لهم موسى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾.
﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ أي: تستهزئ بنا، نحن نسألك عن أمر القتيل، وتأمرُنا بذبح البقرة، وإنما قالوا ذلك؛ لبعدِ ما بينَ الأمرين في الظاهر، ولم يدروا ما الحكمةُ فيه. قرأ حمزةُ، وخلفٌ: (هُزْؤًا) بجزم الزاي، وقرأ الباقون بضم الزاي، وحفصٌ بإبدال الهمزة واوًا (٢).
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٨٤)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠١)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٧ - ١٥٨)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨١ - ٨٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١١٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٤٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٤)، =
﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ﴾ أمتنع بالله.
﴿أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ المستهزئين؛ لأن الهزء من أفعال الجاهلين، فلما علمَ القومُ أن ذبحَ البقرة عزمٌ من الله -عزَّ وجلَّ- استوصفوه، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها، لأجزأَتْ عنهم، ولكنهم شدَّدوا، فشدَّد اللهُ عليهم، وكانت تحته حكمةٌ، وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجلٌ صالحٌ له ابنٌ طفلٌ، وله عِجْلَةٌ أتى بها إلى غَيْضة، وقال: اللهمَّ أَستودعُكَ هذه العجْلَة لابني حتى يكبرَ، وماتَ الرجلُ، وصارت العجلةُ في الغيضة عَوانًا، وكانت تهربُ من كلِّ من رآها، فلما كبر الابنُ كان بارًّا بوالدته، وكان يقسِّمُ الليلَ ثلاثةَ أثلاثٍ، يصلِّي ثلثًا، وينام ثلثًا، ويجلس عندَ رأسِ أمه ثلثًا، فإذا أصبحَ انطلقَ فاحتطبَ على ظهره، فيأتي به إلى السوق، فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل بثلثه، ويعطي لوالدته ثلثه، فقالت له أمه يومًا: إن أباك ورَّثَكَ عجلةً استودَعَها الله في غَيْضَةِ كذا، فانطلقْ فادعُ إلهَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحقَ أن يردَّها عليكَ، وعلامتُها أنك إذا نظرتَ إليها، يخيَّلُ إليكَ أنَّ شعاعَ الشمسِ يخرجُ من جلدها، وكانت البقرةُ تسمَّى المذهبةَ؛ لحسنِها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضةَ، فرآها ترعى، فصاح بها، وقال: أعزمُ عليكِ بإلهِ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ، فأقبلَتْ تسعى حتى وقفَتْ بينَ يديه، فقبضَ على عنقها يقودُها، فتكلمت البقرةُ بإذنِ اللهِ تعالى، فقالتْ: أيها الفتى البارُّ بوالدتِه! اركبني؛ فإن ذلكَ أهونُ عليكَ، فقال
(٢) في "ت": "إني".
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ أي: ما شيَتُها؟ فسأل اللهَ تعالى.
﴿قَالَ﴾ موسى.
﴿إِنَّهُ﴾ يعني: إن الله.
﴿يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ أي: لا كبيرة ولا صغيرة، والفارضُ: المُسِنَّةُ التي لا تلدُ، والبكرُ: الفتاةُ الصغيرةُ التي لم تلدْ قَطُّ، وحُذفت الهاءُ منهما للاختصاصِ بالإناث؛ كالحائض.
﴿عَوَانٌ﴾ نَصَفٌ.
﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي: بين الشيئين، يقال: عَوَّنَتِ المرأة تَعْوينًا: إذا زادتْ على الثلاثين.
﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ من ذبح البقرة، ولا تكرروا السؤال. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (توُمَرُونَ) بسكون الواو بغير همز، والباقون بالهمزة (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١١٩)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٦٩).
[٦٩] ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ أي: خالصُ الصُّفرة، يقال: أصفرُ فاقعٌ، وأسودُ حالِكُ، وأحمرُ قانٍ، وأخضرُ ناضِرٌ، وأبيضُ ناصعٌ؛ للمبالغة.
﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ إليها، ويُعجبهم حسنُها وصفاءُ لونها.
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ أسائمةٌ أم عاملة؟
﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ ولم يقل: تشابهتْ؛ لتذكير لفظِ البقر؛ أي: التبسَ واشتبهَ أمرُه علينا، فلا نهتدي إليه.
﴿وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ إلى وصفها، قال رسول الله - ﷺ -: "وَايْمُ اللهِ! لَوْ لَمْ يَسْتَثْنُوا، لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الأَبَدِ" (١). قرأ حمزةُ، وخلفٌ، وابنُ ذَكوانَ: (إِنْ شَاءَ الله) بالإمالةِ (٢).
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)﴾.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧١).
﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ تقلبها للزراعة.
﴿وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ بالسَّانِيَةِ أو غيرِها من الآلات، والحَرْثُ: ما حُرِثَ وزُرِعَ؛ أي: تحرثُ ولا تَسْقي، وقيل: معناه: لم تُذَلَّلْ للكرابِ وإثارةِ الأرضِ، ولا هي من النواضحِ التي يُسْنَى عليها لسقي الحرثِ، و (لا) الأولى للنفي، والثانية مزيدةٌ لتأكيد الأولى، والفعلانِ صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقيةٌ.
﴿مسَلَّمَةٌ﴾ بَرِيَّةٌ من العيوب.
﴿لَا شِيَةَ فِيهَا﴾ لا لمعةَ فيها تخالفُ لونَها. قرأ حمزةٌ: (لا شِيَةَ) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغُ الإشباع (١)، والكسائيُّ يُميل الياءَ حيثُ وقفَ على هاء التأنيث.
﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ أي: بالبيان التام الشافي الذي لا إشكالَ فيه، فطلبوها فلم يجدوها بكمال وصفها إلا مع الفتى، وكان اسمه ميشا، فاشتروها بملء مَسْكِها ذهبًا. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (جِيتَ) بياء ساكنة بغير همز، والباقون بالهمز (٢).
﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ من غلاء ثمنها، واضطرابِهم فيها، و (كادَ) من أفعالِ المقاربة.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧٢)، وقد ذكراها من قراءة السوسي.
[٧٢] ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ هذا أولُ القصة، وإن كانت مؤخرةً في التلاوة، واسمُ القتيل عاميل.
﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ أصلُه تدارأتم، فأُدغمت التاء في الدال، وأُدخلت الألف، مثل قوله: ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ [التوبة: ٣٨]. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ بغير همزٍ، والباقون بالهمز، ومعناه: اختلفتم فيها (١).
﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ﴾ أي: مظهر.
﴿مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ فإن القاتلَ كان يكتم القتل.
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ﴾ يعني: القتيلَ.
﴿بِبَعْضِهَا﴾ أي: ببعضِ البقرة، وذلكَ البعضُ هو العظمُ الذي يلي الغضروفَ، وهو المقتل في قول ابن عباس، وأكثرِ المفسرين، وقيل: بذنبها، ففعلوا ذلك، فقام القتيلُ حيًّا بإذن الله تعالى، وأوداجُهُ تَشْخَبُ دمًا، وقال: قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانَه، فَحُرم قاتلُه الميراث وقتله موسى قصاصًا (٢)، ثم أمرهم موسى بسلخ البقرةِ، فلما سلَخوها، ملؤوا
(٢) "وقتله موسى قصاصًا" سقط من "ظ".
﴿كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ كما أحيا عاميل.
﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ المراد منكم، فتمنعون نفوسَكم عن هواها.
أما حكمُ هذه المسألة في الإسلام إذا وُجد قتيلٌ في موضعٍ لا يُعرف قاتلُه، فإن كانَ ثمَّ لَوْثٌ على إنسان، وهو العداوةُ الظاهرةُ كما بينَ القبائل، أو ما يغلبُ على القلبِ صدقُ المدَّعي؛ بأن اجتمعَ جماعةٌ في بيتٍ أو صحراءَ فتفرقوا عن قتيل يغلبُ على القلب أن القاتلَ فيهم، أو وُجد قتيلٌ في محلَّةٍ أو قريةٍ كلُّهم أعداءُ القتيل، لا يخالطُهم غيرُهم، فيغلبُ على القلب أنهم قتلوه، فادَّعى الوليُّ على بعضهم، فعندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ: يحلفُ المدَّعي خمسين يمينًا، وإن كانَ الأولياءُ جماعةً، فتقسَمُ الأيمان بينَهم بالحساب، ثم بعد حلفِهم يأخذونَ الديةَ من عاقلةِ المدَّعَى عليه إنِ ادَّعوا قتلَ خطأ، وإن ادَّعَوا قتلَ عمد، فمن مالِ المدَّعى عليه، ولا قودَ على الجديدِ من قولي الشافعي.
وقال مالكٌ وأحمدُ بوجوبِ القَوَد.
ومن اللوثِ عندَ مالكٍ قولُ المجروحِ الحرِّ البالغِ المسلمِ: دمي عندَ
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ يبست وجفَّت، وجفافُ القلب: خروجُ الرحمةِ واللينِ عنه.
﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ من بعد ظهور الدلالات، وما تقدَّمَ من أمر القتيل، وهي عبارةٌ عن خُلُوِّها من الإنابة والإذعان لآياتِ الله تعالى.
﴿فَهِيَ﴾ في الغلظة والشدة.
﴿كَالْحِجَارَةِ أَوْ﴾ بل.
﴿أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ وإنما لم يشبهها بالحديد، مع أنه أصلب من الحجارة؛
﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ قيل: أراد به جميعَ الحجارةِ وقيل: أرادَ به الحجرَ الذي كان يضربُ عليه موسى للأسباط.
﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ أراد به عيونًا دون الأنهار.
﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ﴾ ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله.
﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ وقلوبُكم لا تَلينُ ولا تخشعُ يا معشر اليهود، فإن قيل: الحجرُ جمادٌ لا يفهم، فكيف يخشى؟ قيل: اللهُ يُفهمها ويُلهمها فتخشى بإلهامه، ومذهبُ أهلِ السُّنةِ أن لله علمًا في الجمادات وسائرِ الحيوانات سوى العقلاء، لا يقف عليه غيرُه، فلها صلاةٌ وتسبيحٌ وخشيةٌ، قال الله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وقال: ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١] وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [الحج: ١٨]، فيجبُ على المرء الإيمانُ به، ويَكِلُ العلمَ إلى الله عزَّ وجلَّ.
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وعيدٌ وتهديدٌ. قرأ ابنُ كثيرٍ: (يَعْلَمُونَ) بالغيب.
والباقون بالخطاب مناسبًا بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (١).
[٧٥] ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ أفترجون؟ يريد: محمدًا - ﷺ - وأصحابه، وأصلُ الطمعِ: نزوعُ النفسِ إلى شيءٍ ما شهوةً.
﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ يصدقكم اليهودُ بما تخبرونهم به. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (يُومِنُوا) بغير همز، والباقون بالهمز (١).
﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ أي: طائفة من اليهود.
﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ يعني: التوراة.
﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ يغيِّرون ما فيها من الأحكام.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ علموه؛ كما غيروا صفةَ محمدٍ - ﷺ - وآيةَ الرَّجم.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كاذبون، ثم أخبرَ عن صنعهم فقال:
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني: منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم، إذا لَقُوا المؤمنين المخلِصين.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٨).
﴿وَإِذَا خَلَا﴾ رجع.
﴿بَعْضُهُمْ﴾ الذين لم ينافقوا.
﴿إِلَى بَعْضٍ﴾ الذين نافقوا، وهم رؤوساء اليهود، لاموهُم على ذلك.
و ﴿قَالُوا﴾ منكرين عليهم:
﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بما قضى الله عليكم في كتابكم، وأعطاكم من العلم أن محمدًا حقٌّ، وقولَه صدقٌ؟!، ويقال للقاضي: الفتَّاح، وأصلُ الفتح: إزالةُ الإغلاق.
﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ﴾ ليخاصموكم، يعني: أصحابَ محمد - ﷺ -، ويحتجوا بقولكم عليكم، فيقولون: قد أقررتُم بأنه نبيٌّ حقٌّ في كتابكم، ثم لا تتبعونه، وذلك أنهم قالوا لأهل المدينة حينَ شاوروهم في اتباع محمد - ﷺ -: آمنوا به؛ فإنه حق، ثم قال بعضُهم لبعض: أتحدثونهم بما فتحَ الله عليكُم ليحاجُّوكم به لتكونَ لهم الحجةُ عليكم (١).
﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ في الدنيا والآخرة.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنهم إذا علموا ذلك احتجوا به عليكم؟! ثم استفهَمَ فقال:
﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧)﴾.
﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ يبدون، يعني: اليهود. قرأ أبو عمرٍو: (يعلم ما) بإدغام الميم في الميم (١).
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ أي: من اليهود لا يحسنون القراءة ولا الكتابة، جمع أمّي، منسوبٌ إلى الأم، كأنه باقٍ على ما انفصلَ من الأم، لم يتعلم قراءة ولا كتابة.
﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ وهي جمعُ الأُمْنِيّة، وهي التلاوةُ حفظًا من غير معرفةِ معناه. قرأ أبو جعفرٍ: (أَمَانِي) بتخفيف الياء كلَّ القرآن، حذفَ إحدى الياءين استخفافًا، والباقون بالتشديد (٢)، والمراد بها الأشياءُ التي كتبها علماؤهم من عندِ أنفسهم، ثم أضافوها إلى الله -عز وجل- من تغيير نعت النبي - ﷺ - وغيرِه.
﴿وَإِنْ هُمْ﴾ أي: وما هم.
﴿إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ ظنًّا وتوهمًا لا يقينًا.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٩٠)، و"تفسير الطبري" (٢/ ٢٦٤)، و"المحتسب" لابن جني (١/ ٩٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧٦).
[٧٩] ﴿فَوَيْلٌ﴾ هي كلمة يقولها كلُّ واقع في هَلَكَةٍ بمعنى الدعاء على النفس بالعذاب.
﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ﴾ أي: المحرَّف.
﴿بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهابَ مَأْكُلَتِهم، وزوالَ رياستِهم حينَ قدمَ النبيُّ - ﷺ - المدينةَ، فاحتالوا في تعويقِ اليهود عن الإيمان به، فعمدوا إلى صفته في التوراة، وكان صفتُه فيها: حسن الوجه، حسن الشعر، أكحلَ العينين، رَبَعَةً فغيروها، وكتبوا مكانها: طوالَ أزرقَ سَبْطَ الشَّعرِ، فإذا سألهم سفْلَتُهُم عن صفتِه، قرؤوا ما كتبوا، فيجدونه مخالفًا لصفته، فيكذبونه (١)، قال الله تعالى:
﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني: كتبوا بأنفسهم اختراعًا من تغير نعته - ﷺ -.
﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ من المآكل. قرأ أبو عمرٍو، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (الْكِتَاب بأَيْدِيهِمْ) بإدغام الباء الأولى في الثانية (٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧٦).
[٨٠] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: اليهود:
﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ لن تصيبنا النار.
﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ قدرًا مقدَّرًا، ثم يزولُ عنا العذابُ، يعنون: أربعين يومًا التي عبد آباؤهم فيها العجلَ، وقيلَ غيرُ ذلك، فقال الله -عزَّ وجلَّ- تكذيبًا لهم:
﴿قُلْ﴾ يا محمد:
﴿اتَّخَذتُم﴾ ألفُ استفهامٍ دخلت على ألفِ الوصل، أصلُه اِتخذتم، وزنُه افتعلتُم من الأخذ، سُهِّلَتِ الهمزةُ الثانية؛ لامتناع جمع همزتين، فاضطربت الياء في التصريف، جاءت ألفًا في ياء تخذ، فبُدلت بحرف التاء، وأدغمت، فلما دخلت ألف التقرير، استُغْني عن ألف الوصل.
﴿عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ أي: موثقًا ألَّا يعذِّبكم إلا هذه المدَّة.
﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ أي: وعده.
﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ تلخيصُه: إن كان لكم عندَهُ عهدٌ فلا يُنْقَضُ، ولكنكم تتخرَّصون، ولما قالوا: لن تمسَّنا النارُ، ردَّ ذلكَ عليهم، فقال:
﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١)﴾.
﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ يعني: الشركَ.
﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أي: استولت عليه، والإحاطةُ: الإحداقُ بالشيء من جميع نواحيه، وهي الشركُ يموتُ عليه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ (خَطِيئاتُهُ) على الجمع، والباقون على الإفراد (٢)، وعن أبي جعفرٍ وجهٌ ثانٍ: (خَطِيَّاتُهُ) بتشديد الياء بغير همز (٣).
﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وحمزةَ، والكسائي: (النَّارِ) بالإمالة حيث وقَع مجرورًا (٤). ثم بشر المؤمنين بالجنة فقال:
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٢)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٢)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٤٩)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧١)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧٧).
(٣) وذكرها الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٠)، عن حمزة، وانظر: "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧٨).
(٤) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧٨).
[٨٢] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)﴾ دائمون.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ في التوراةِ، إخبارٌ في معنى النهي، والميثاقُ: العهدُ الشديدُ.
﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ: (لا يَعْبُدُونَ) بالغيب، والباقون بالخطاب (١)؛ لقوله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ معناه: ألا تعبدوا، فلما حذف (أن)، صار الفعلُ مرفوعًا.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ أي: ووصيناهم بالوالدين.
﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ أي: وبذي القربى، والقربى مصدرٌ كالحسنى. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (القُرْبَى) بالإمالة.
﴿وَالْيَتَامَى﴾ جمع يتيم، وهو الطفل الذي لا أبَ له، وأصلُ اليتمِ: الانفرادُ. قرأ الدوريُّ عن الكسائي: (وَالْيَتَامَى) بالإمالة (١).
﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ يعني: الفقراء.
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ صِدْقًا وحَقًّا في شأنِ محمدٍ - ﷺ -، فمن سألكم عنه، فاصدُقوه، وبَيِّنوا له صفتَهُ، ولا تكتُموا أمرَه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (حَسَنًا) بفتح الحاء والسين (٢)؛ أي: قولًا حسنًا.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن العهد والميثاق.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ وذلك أن قومًا منهم آمنوا.
﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ كإعراضِ آبائِكم.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٩٢)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٣)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٥٠) و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٠).
[٨٤] ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ على نحو ما سبقَ من الإخبار في معنى النهي.
﴿لَا تَسْفِكُونَ﴾ لا تريقون.
﴿دِمَاءَكُمْ﴾ أي: لا يسفكْ بعضُكم دمَ بعض.
﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ أي: لا يخرج بعضُكم بعضًا من داره.
﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ بهذا العهد أنه حقٌّ، وقبلتم.
﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ اليوم على ذلك يا معشرَ اليهود، وتعترفون بالقبول.
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يعني: يا هؤلاءِ اليهود! وهؤلاءِ للتنبيه.
﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: بعضُكم بعضًا.
﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ (دِيَارِهِمْ)
﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ﴾ بتشديد الظاء؛ أي: تتظاهرون، أدغمتِ التاءُ في الظاء. وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَظَاهَرُونَ) بتخفيف الظاء (٢)، ومعناهما: تتعاونون، والظهيرُ: العون.
﴿بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ بالمعصية والظلم.
﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى﴾ قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (يَاتُوكُمْ) بغير همز، والباقونَ بالهمز (٣)، وقرأ حمزةُ: (أَسْرَى) بفتح الألف الأولى وسكون السين وإسقاط الألف بعدَها، وهما جمع أَسير، ومعناهما واحد.
﴿تُفَادُوهُمْ﴾ بالمال، وتنقذوهم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفر، وعاصمٌ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (تُفَادُوهُمْ) بضم التاء وألفٍ بعد الفاء (٤)؛ أي:
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٦٤)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٢٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٤)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٥٠ - ٥٢١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٣)، "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨١).
(٣) ذكر الصفاقسي في "الغيث" (ص: ١٢٢) قراءة ورش وهي (ياتوكمو)، بإبدال الهمزة، وضم الميم مع مدها، وانظر: "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٢).
(٤) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٣)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٤)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٥١ - ٢٥٢)، =
وفي الآية تقديمٌ وتأخيرٌ، ونظمُها: وتُخرجون فريقًا منكم من ديارهم تَظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وهو محرَّم عليكم إخراجهم، وإن يأتوكم أُسارى تَفْدوهم، فكأنَّ الله أخذَ عليهم أربعةَ عهودٍ: تركَ القتل،
(١) في "ت" و"ظ": "تباذلونهم".
(٢) في "ن": "يبدله".
(٣) في "ن": "سَمير".
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٩٧)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (١/ ١٦٣).
﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ أي: بالفداء؛ لأنه من جملة ما أُخذ في الميثاق.
﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ بالقتل والإخراج. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (أَفَتُومِنُونَ) بغير همز، والباقون بالهمز، قال مجاهد: يقول: إن وجدْتَه في يدِ غيرِك، فديتَهُ، وأنت تقتلُه بيدِك.
﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ﴾ يا معشر اليهود.
﴿إِلَّا خِزْيٌ﴾ عذاب وهوان.
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وكان خزَيُ قريظة القتلَ والسبيَ، وخزيُ بني النضير الجلاءَ والنفيَ عن منازلهم إلى أَذرعات وأَريحا من الشام.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ وهو عذاب النار.
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ: (يَعْمَلُونَ) بالغيب، والباقون بالخطاب (١).
ثم أخبرهم متهددًا أن عذابَي الدنيا والآخرة لا يُفَتَّرُ عنهم ولا مانع لهم منه بقوله:
[٨٦] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ استبدلوا.
﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ﴾ أي: يُهَوَّنُ عليهم.
﴿الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ أي: يُمنعون من عذاب الله عزَّ وجلَّ.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾ أعطينا.
﴿مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة جملة واحدة.
﴿وَقَفَّيْنَا﴾ أتبعنا.
﴿مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ رسولًا بعدَ رسول.
﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ عيسى: اسمٌ عبرانيٌّ أو (١) سريانيٌّ، والبيناتُ: الدَّلالاتُ الواضِحاتُ، وهي ما ذكر الله تعالى في سورة آل عمران والمائدة. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيّ، وخلفٌ: (عِيسَى) بالإمالة حيثُ وقع (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٤).
﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ: (القُدْسِ) بسكون الدال، والباقونَ بضمِّها، وهما لغتان مثل: الرُّعْب، والرُّعُب (١)، وروحُ القدسِ: هو جبريلُ -عليه السلام- والقدُس: الطهارةُ: وُصِفَ جبريلُ بها لأنه لم يقترفْ ذنبًا، وقيلَ غيرُ ذلك، فلما سمعت اليهودُ ذكرَ عيسى، قالوا: يا محمدُ! لا مثلَ عيسى -كما تزعُم- فعلْتَ، ولا كما تقصُّ علينا من الأنبياء فَعَلْتَ، فائْتِنا بما أتى (٢) به عيسى إنْ كنتَ صادقًا، قال الله تعالى:
﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ﴾ يا معشر اليهود.
﴿رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى﴾ تحبُّ.
﴿أَنْفُسُكُمُ﴾ والهوى: هو ميلانُ القلب إلى ما يستلذُّ به.
﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ تكبرتم، وتعظمتم عن الإيمان.
﴿فَفَرِيقًا﴾ طائفةً.
﴿كَذَّبْتُمْ﴾ مثل عيسى ومحمد.
﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ أي: قتلتم، مثل زكريا ويحيى وشعيا وسائرِ مَنْ قَتَلوا من الأنبياءِ -عليهم السلام-، ولم يقل: قتلتم، وإن أريدَ الماضي؛
(٢) في "ن": "أوتي".
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: اليهود.
﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع أغلاف؛ أي: هي في أكِنَّةٍ، معناه: عليها غِشاوةٌ، فلا تَعي، ولا تَفْقَهُ ما تقول، قال الله تعالى:
﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي: أبعدَهم من كلِّ خير.
﴿بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: لا يؤمنُ منهم إلا قليل؛ لأن من آمنَ من المشركين أكثرُ ممن آمنَ من اليهود، ونصب (قليلًا) على الحال.
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يعني: القرآن.
﴿مُصَدِّقٌ﴾ موافق.
﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ يعني: التوراة.
﴿وَكَانُوا﴾ يعني: اليهود.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ مبعث محمد - ﷺ -.
﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ يستنصرون.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ يعني: محمدًا - ﷺ - من غيرِ بني إسرائيل، وعرفوا نعتَهُ وصِدْقَه.
﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ بغيًا وحسدًا.
﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، ورُوَيسٌ: (الْكَافِرِينَ) بالإمالة حيثُ وقعَ بالياء (٢)، مجرورًا كان أو منصوبًا، واختُلف عن ابنِ ذكوان في الإمالة والفتحِ، وأماله ورشٌ بينَ بينَ، وفتحَه الباقون، وجوابُ لما ولما الثانية في قوله: (كفروا)، وأعيدت لما الثانية؛ لطولِ الكلام، ويفيدُ ذلك تقريرًا للذَّنب وتأكيدًا له.
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (بِيسَ)
(٢) "بالياء" سقطت من "ن".
﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني: القرآن.
﴿بَغْيًا﴾ أي: حسدًا، وأصلُ البغي: الفسادُ، والبغيُ الظلمُ، وأصلُه الطلبُ؛ فالباغي طالبٌ (٣) للظلمِ، والحاسدُ يظلمُ المحسودَ جهدَهُ طلبًا لإزالةِ نعمةِ الله عنه.
﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ النبوة والكتاب. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (يُنْزِلَ) بالتخفيف مع إسكان النون (٤)، والباقون بفتح النون والتشديد (٥).
﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ محمد - ﷺ -.
﴿فَبَاءُوا﴾ رجعوا.
(٢) في "ت": "استبدوا".
(٣) في "ن": "الطالب".
(٤) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٦).
(٥) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٦)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٤)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٥٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٦).
﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ الجاحدين بنبوة محمد - ﷺ - من الناس كلِّهِم.
﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ مُخْزٍ يُهانون فيه.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني: القرآن. قرأ أبو عمرٍو: (قِيل لَّهُمْ) بإدغام اللام في اللام (١).
﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني: التوراةَ، يكفينا ذلك.
﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ أي: بما سواهُ من الكتب.
﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿مُصَدِّقًا﴾ نصب على الحال.
﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ من التوراة.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد.
﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ أي: قَتَلَ آباؤكُم، ولمّا رضيتُم بفعلهم، فكأنكم قد قتلتم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالتوراة، وقد نُهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام.
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالدلالات الواضحة، والمعجزات. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وابنُ ذَكوانَ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ) بإظهارِ الدال عند الجيم، وكذلك عند السين والشين والصاد حيث وقع، والباقون بالإدغام (١).
﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ بما صدرَ منكم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ (اتخذتم) بإظهار الذال عندَ التاء، واختُلف عن رُويسٍ، والباقون بالإدغام (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٧).
[٩٣] ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ وقلنا:
﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ في التوراة.
﴿بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ أي: استجيبوا وأطيعوا، سميت الطاعةُ والإجابةُ سمعًا على المجاوزة؛ لأنه سببُ الطاعة والإجابة.
﴿قَالُوا سَمِعْنَا﴾ قولَك بالآذان.
﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرَكَ بالقلوب، والمعصيةُ: مخالفةُ الأمر قَصدًا. قالَ أهلُ المعاني: إنهم لم يقولوا هَذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا وتلقوه بالعصيان، نُسب ذلك إلى القولِ اتِّساعًا.
﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: حُبَّه، معناه: أُدْخِل في قلوبهم حبُّ العجل وخالَطَها.
﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ أن تعبدوا العجلَ من دونِ الله؛ أي: بئسَ إيمان يأمرُ بعبادةِ العجل.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بزعمكم، وذلك أنهم قالوا: نؤمنُ بما أُنزل علينا، فكذبهم الله -عزَّ وجل-.
[٩٤] ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وذلك أن اليهود ادَّعَوْا دَعاوى باطلةً مثلَ قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] و ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١] وقولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ فكذبهم الله -عزَّ وجلَّ-، وألزمهم الحجَّةَ، فقالَ: قُلْ لهم يا محمدُ: إنْ كانَتْ لكمُ الدارُ الآخرةُ، يعني: الجنةَ عندَ اللهِ.
﴿خَالِصَةً﴾ خاصَّةً.
﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ أي: اطلبوه وسلوه؛ لأن من علمَ أن الجنةَ مأواه، حَنَّ إليها، ولا سبيلَ إلى دخولها إلا بعدَ الموت، فاستعجِلوه بالتمني.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم. وعن النبي - ﷺ - أنه قال: "لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، لَغَصَّ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِرِيقِهِ، وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ يَهودِيٌّ إلَّا مَاتَ" (١). قال الله تعالى:
﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ لعلمهم أنهم كاذبون في دعواهم، وأراد بما قدمت أيديهم: ما قدَّموا من الأعمال، وأضافَ إلى اليد؛ لأن أكثرَ جناياتِ الإنسانَ تكونُ باليد.
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ اللامُ لامُ القسم، والنونُ تأكيده، تقديرُه: واللهِ لتجدنَّهم يا محمدُ؛ يعني: اليهود.
﴿أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ متطاولةٍ، وهي حياتهم التي هم فيها.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ أي: وأحرصَ من الذين أشركوا، والمراد بالذين أشركوا: المجوسُ، سُمُّوا مشركين؛ لأنهم يقولون بالنور والظلمة.
﴿يَوَدُّ﴾ يتمنى.
﴿أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ﴾ يعني: يعيشُ.
﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ وهي تحيَّةُ المجوس فيما بينهم: عشْ ألفَ سنةٍ، يقول الله تعالى: اليهودُ أحرصُ على الحياة منَ المجوسِ الذين يقولونَ ذلك.
﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ﴾ بمباعده.
﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ من النار.
﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ أي: طولُ عمرِه لا يُنقذه من العذابِ.
﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ: (جَبْرِيلَ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (جَبْرَئِيلَ) بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة بعدها ياء، وأبو بكرٍ: (جَبْرَئِلَ) بفتح الجيم والراء وحذف الياء بعد الهمزة، والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز، كلُّها لغات (٢).
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "إنَّ حبرًا من أحبارِ اليهودِ يُقال له: عبدُ الله بنُ صوريا قالَ للنبِّي - ﷺ -: أَيُّ ملكٍ يأتيكَ من السَّماء؟ قال: "جِبْرِيلُ"، قال: ذاكَ (٣) عدوُّنا من الملائكة، ولو كانَ ميكائيلَ، لآمنَّا بكَ؛
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٠٠ - ٢٠١)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٧)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٦ - ١٦٧)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٨٠ - ٨١)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٩/٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٩ - ٩٠).
(٣) في "ت": "ذلك".
﴿فَإِنَّهُ﴾ يعني: جبريل.
﴿نَزَّلَهُ﴾ يعني: القران؛ كنايةً عن غير مذكور.
﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ يا محمدُ.
﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بأمرِ الله.
﴿مُصَدِّقًا﴾ موافقًا.
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما قبلَه من الكتب.
﴿وَهُدًى﴾ أي: هداية.
﴿وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَبُشْرى) بالإمالة (٢)، وتقدَّم الاختلاف في إبدال الهمز (٣) في (المؤمنين) (٤).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٩١).
(٣) في "ن": "الهمزة".
(٤) عند تفسير الآية (٣) من سورة البقرة.
[٩٨] ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ خَصَّهما بالذكر من جملة الملائكة، مع دخولهما في قوله: وملائكته (١)؛ تفضيلًا وتخصيصًا؛ كقوله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] حصَّ النخلَ والرمانَ بالذكر معَ دخولهما في ذكرِ الفاكهةِ، والواو فيهما بمعنى (أو)؛ يعني: من كان عدوًا لأحد هؤلاء؛ لأن الكافرَ بالواحد كافرٌ بالكل. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وحفصٌ (مِيكَالَ) بغير همزة (٢) ولا ياء بعدها. وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (مِيكَائِلَ) بهمزة من غير ياء بعدها. وقرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفُ: (وَمِيكَائِيلَ) بهمزةٍ بعدها ياءٌ، وتقدم الخلاف في (جبريل) (٣).
﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ تلخيصُه: من عاداهم، عاداه الله، ومن عاداه الله، عذَّبه.
وقد روي أن جبريل -عليه السلام- نَزَلَ على آدمَ اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربعَ مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى يوسفَ أربع مرات، وعلى موسى أربعَ مئةِ مرةٍ، وعلى عيسى عشرَ مرات، وعلى محمدٍ أربعةً وعشرينَ ألفَ مرَّةٍ -صلوات الله عليهم أجمعين-، ولم يُذكر في القرآن من الملائكة باسمه سوى أربعة:
(٢) في "ن": "همز".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٨١)، عند تفسير الآية (٩٧) من هذه الآية.
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ واضحاتٍ مفصَّلاتٍ بالحلالِ والحرامِ، والحدودِ والأحكامِ.
﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون عن أمر الله -عز وجل-.
﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿أَوَ﴾ واو العطف دخلَتْ عليها ألفُ الاستفهام، تقديره: أكفروا بالبينات.
يدلُّ عليه قراءةُ أبي رجاء العطارديِّ: (أَوَ كُلَّمَا عُوهِدُوا) فجعلهم مفعولين (٣).
﴿نَبَذَهُ﴾ طرحَهُ ونقضَه.
﴿فَرِيقٌ﴾ طوائفُ.
﴿مِنْهُمْ﴾ من اليهود.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بالتوراةِ، ولا يبالون بالدين، فلا يعتدُّون بنقض العهد.
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)﴾.
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١/ ٤٤٧)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (١/ ١٨٣).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٨١)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٨٥)، و"تفسير الرازي" (١/ ٤٢٦)، و"البحر المحيط" لأبي حيَّان (١/ ٣٢٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٩٣).
﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ يعني: التوراةَ، وقيل: القرآنَ؛ أي: لم يعملوا بما فيها.
﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ كانوا يقرؤون التوراة ولا يعملون بها.
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ يعني: اليهود.
﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أي: ما تلتْ؛ أي: تكلمتْ به. والعربُ تضعُ المستقبل موضعَ الماضي وعكسه. ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي: على زمنِ ملكه، وهو سليمانُ بنُ داودَ -عليهما السلام-، عاش اثنتين وخمسين سنة، ومدَّةُ ملكِه أربعون سنة، ووفاتُه في أواخر سنةِ خمسٍ وسبعين وخمسِ مئةٍ لوفاةِ موسى -عليه السلام- وبين وفاتهِ والهجرةِ الشريفةِ الإسلاميةِ ألفٌ وسبعُ مئةٍ وثلاثٌ
وقصةُ الآيةِ: أن الشياطينَ كتبوا السحرَ والنيرِنْجيَّاتِ على لسانِ آصَف: هذا ما علَّمَ آصَفُ بنُ برخيا سليمانَ الملكَ، ثم دفنوها تحت مصلَّاه حين نزعَ اللهُ الملكَ عنه، ولم يشعرْ سليمانُ بذلك، فلما ماتَ، استخرجوها، وقالوا للناس: إنما مَلَكَكم سليمانُ بهذه، فتعلَّموها، فأما علماءُ بني إسرائيل وصلحاؤهم، فقالوا: معاذ اللهِ أن يكون هذا من علمِ سليمانَ، وأما السِّفْلَةُ، فقالوا: هذا علمُ سليمان، وأقبلوا على تعلُّمه، ورفضوا كتبَ أنبيائهم، وفَشَتِ الملامةُ لسليمانَ، فلم يزل هذا حالهم حتى بعثَ اللهُ محمدًا - ﷺ -، وأنزلَ عليه براءةَ سليمان، فقال:
﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ بالسحر وعملِهِ.
﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ باستعمالِ السحر وكَتْبِه. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَكِنْ) خفيفةَ النون (الشَّيَاطِينُ) رفعٌ، والباقون: (وَلِكَنَّ) مشدَّدَةَ النون (الشَّياطِينَ) نَصْب (٢).
ومعنى (لكن) نفيُ الخبر الماضي، وإثباتُ المستقبَلِ.
﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ والسحرُ عبارةٌ عن التَّمويهِ والتخييل، ووجودُه
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٧)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٥٦)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٨٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٩٤).
واختلف الأئمةُ فيمن يتعلَّمُ السحرَ ويستعملُه، فقال أبو حنيفةَ ومالك: يكفرُ بذلك، وبعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ فصَّل، فقال: إن تعلَّمه ليتقيَهُ، أو ليتجنبَهُ، فلا يكفرُ، وإن تعلَّمه معتقِدًا لجوازِه، أو أنه ينفعهُ، فإنه يكفرُ.
وقال الشافعي: إذا تعلَّمَ السحرَ قلنا له: صِفْ سحرَكَ، فإن وصفَ ما يوجبُ الكفرَ، مثل ما اعتقدَهُ أهلُ بابلَ من التقرُّب إلى الكواكبِ السبعةِ، وأنها تفعلُ ما يُلتمس منها، فهو كافرٌ، وإن كانَ لا يوجبُ الكفرَ، فإن اعتقدَ إباحتهُ، كفر، وإلَّا فلا.
وقال أحمدُ: الساحرُ الذي يركبُ المِكنسةَ، فتسيرُ به في الهواء، ونحوه؛ كالذي يدَّعي أن الكواكبَ تخاطبهُ، يكفرُ، ويقتلُ هو ومن يعتقدُ حلَّه، فأما الذي يسحرُ بالأدويةِ والتَّدخين (١) وسَقْيِ شيءٍ يضرُّ، فلا يكفر، ويعزَّرُ.
ويقتل بمجرد تعلُّمه واستعمالِه عند مالكٍ، وإن لم يقتلْ به.
وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: لا يُقتل بذلك، فإن قتلَ بالسحر، قُتل عندَهما، إلا أن أبا حنيفة قال: لا يُقتل حتى يقرَّ بأني (٢) قتلتُ إنسانًا بعينِه.
وقال الشافعي: لو قالَ: قتلتُه بسحري، وسحري يقتلُ غالبًا، فقد أقرَّ بقتلِ العَمْدِ، كان قال: وهو يقتلُ نادرًا، فهو إقرارٌ بشبهِ العمدِ، كان قال: أخطأتُ من اسمِ غيرِه إلى اسمه، فهو إقرارٌ بالخطأ، ثم ديةُ شبهِ العمدِ،
(٢) في "ت": "أني".
وقال أحمد: إن قتلَ بفعلهِ غالبًا اقْتُصَّ منه، وإلا الديةُ.
ويقتل حدًّا عندَ أبي حنيفةَ، ومالك.
وقال الشافعيُّ وأحمدُ: يُقتل قصاصًا، وتقبل توبتُه عند الشافعيِّ.
وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ -في المشهور عنه-، وأحمدُ في أصح روايتيه: لا تُقبل.
وأما ساحرُ أهلِ الكتابِ، فقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ: لا يقتل، وقال أبو حنيفة: يُقتل.
وأما المسلمةُ الساحرةُ، فقال الثلاثة: حكمُها حكمُ الرجل، وقال أبو حنيفةَ: تُحبس ولا تُقتل.
﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾ أي: ويعلِّمون الذي أُنزل على الملكين؛ أي: أُلهما وعُلِّما، فالإنزالُ بمعنى الإلهامِ والتعليم، وبابلُ: هي بابلُ العراق، سميت به لتبلبلِ الألسُنِ بها عند سقوطِ صرحِ نمرود؛ أي: تفرُّقِها.
والأصحُّ مما قيل في ذلك: أن الله سبحانه امتحنَ الناس بالملَكَين في ذلك الوقت، فالشقيُّ بِتَعَلُّمِه (١) فيكفرُ، والسعيد بِتَرْكِهِ (٢) فيبقى على الإيمان.
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ اسمان سريانيان، وهما في محل الخفض على
(٢) في "ظ": "يتركه".
وروي أن رجلًا قصدَ هاروتَ وماروتَ لتعلُّم السحر، فوجدهما معلَّقينِ بأرجلهما، مزرقَّةً أعينُهما، مسودَّةً جلودُهما، ليس بينَ ألسنتِهما وبينَ الماء إلا أربعةُ أصابعَ، وهما يعذَّبان بالعطش، فلما رأى ذلك، هالَهُ مكانُهما، فقال (٢): لا إله إلا الله، فلما سمعا كلامه، قالا له: من أنتَ؟ قال: رجلٌ من الناس، قالا: من أي: أمة؟ قال: من أمةٍ محمدٍ - ﷺ -، قالا: وقد بُعث محمدٌ - ﷺ -؟ قال: نعم قالا: الحمدُ لله، وأظهرا الاستبشارَ، فقال (٣) الرجل: بم استبشارُكما؟ قالا: إنه نبيُّ الساعة، وقد دنا انقضاءُ عذابنا (٤).
﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ﴾ يعني: الملكين.
﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ أي: أحدًا، و (مِنْ) صلة.
(٢) في "ت": "فقالا".
(٣) في "ن": "فسأل".
(٤) المرجع السابق: (١/ ١٠١).
و ﴿يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي: ابتلاءٌ ومحنةٌ.
﴿فَلَا تَكْفُر﴾ أي: لا تتعلم السحرَ لتعملَ به فتكفرَ، وأَصلُ الفتنة: الاختبارُ والامتحانُ، فإن أبي إلا التعلم (١)، قالا له: ائتِ هذا الرمادَ فَبُلْ عليه، فيخرجُ منه نورٌ ساطع في السماء، فتلكَ المعرفةُ، وينزل شيء أسودُ شبهُ الدخان حتى يدخلَ مسامعه، وذلك غضبُ الله -عز وجل-.
قال مجاهد: إن هاروتَ وماروتَ لا يصلُ إليهما أحدٌ، ويختلفُ فيما بينَهُما شيطانٌ في كلِّ مسألةٍ اختلافةً واحدةً.
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وهو أن يؤخذَ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه، ويُبَغَّضَ كلُّ واحدٍ إلى صاحبه، قال الله تعالى:
﴿وَمَا هُمْ﴾ أي: السحرةُ أو الشياطينُ.
﴿بِضَارِّينَ بِهِ﴾ أي: بالسحر.
﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ أي: واحدًا.
﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي: بقضاء الله وقدره ومشيئته.
﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ﴾ يعني: السحرُ يضرهم.
﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ يعني: اليهود.
﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ أي: اختارَ السحرَ. قوأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (اشْتَرِيه) بالإمالة (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٨)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٧)، =
﴿مِنْ خَلَاقٍ﴾ نصيبٍ، خبرٌ.
﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا﴾ أي: باعوا.
﴿بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: حظَّ أنفسِهم؛ حيثُ اختاروا السحرَ والكفرَ على الدينِ والحقِّ.
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ يعني: اليهود، وقولُه: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ بعدَ قوله ﴿وَلَقَد عَلِمُواْ﴾ أي: لما لم يعملوا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا.
وقد أنكر القاضي عياضٌ -رحمه الله- قصةَ هاروتَ وماروتَ، ونسبَ ما قيل فيها من الأخبار إلى كتب اليهودِ وافترائهم كما نَصَّهُ الله أولَ الآيات من افترائهم بذلك على سليمان، وتكفيرهم إياه، وحَكى عن خالدَ بنِ أبي عمرانَ أنّه نزَّههما عن تعليم السحر، وحكى قولًا: أن هاروتَ وماروتَ عِلجان (١) من أهل بابل، وقيل: كانا ملكين من بني إسرائيل، فمسخهما الله، والله أعلم (٢).
(١) في "ن": "علمان".
(٢) انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض (٢/ ٨٥٣). قال ابن كثير في "تفسيره" (١/ ١٤٢): وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصَّها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ =
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿وَكَيْفَ﴾ استفهامُ تعجيبٍ وتوبيخٍ.
﴿تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ﴾ القرآنُ.
﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ محمدٌ - ﷺ -؟! المعنى: ومن أينَ لكم الكفرُ والحالُ أنَّ القرآنَ والرسولَ حاضران لديكم؟!
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾ يمتنعْ به ويلتجئ إليه.
﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ طريقٍ واضحٍ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ بأن يُطاع فلا يُعصى، نزلَتْ لما تفاخر الأنصارُ وأخذوا السلاحَ ليقتتلوا، فلما نزلتْ، شَقَّ ذلكَ عليهم، فقالوا: "يا رسولَ الله! ومن يقوى على هذا؟ "، فأنزل الله {فَاتَّقُواْ
[١٠٣] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ بمحمدٍ - ﷺ -، والقرآنِ.
﴿وَاتَّقَوْا﴾ اليهوديةَ والسحرَ.
﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ لكانَ ثوابُ الله إياهم.
﴿خَيْرٌ﴾ لهم.
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي: أن ثوابَ الله خيرٌ مما هم فيه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾ وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: راعِنا يا رسول الله؛ من المراعاة؛ أي: أَرْعِنا سمعَكَ؛ أي: فَرِّغْ سمعَك لكلامنا، وكانت هذه اللفظة شيئًا قبيحًا بلغة اليهود؛ بمعنى الحمقِ والرعونة، فإذا أرادوا أن يحمِّقوا إنسانًا، قالوا له: راعِنا؛ أي: يا أحمق، فلما سمع اليهودُ هذه اللفظةَ من المسلمينَ، قالوا فيما بينهم: كنا
﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي: مؤمنون.
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ أي: تمسَّكوا بدينِه.
﴿جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ كما افترقت اليهود والنصارى. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلا تّفَرَّقُوا) بتشديد التاء (٢).
كان بين الأنصارِ الأوسِ والخزرج عداوةٌ بسبب قتلى، فتطاولتِ العداوةُ والحربُ بينهم مئةً وعشرين سنةً إلى أن أطفأَ الله عزَّ وجلَّ ذلك (٣) بالإسلام، فبدَّل ذلك بالأُلفة والمحبة بسببِ اتّبَاعهم للنبيِّ - ﷺ - وانتقالِه إليهم، فنزلَ منةً عليهم:
(٢) انظر: "الكشف" لمكي (١/ ٣١٥)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (١/ ٨٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨١)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٥٦).
(٣) "ذلك" ساقطة من "ت".
﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ قبلَ الإسلام.
﴿فَأَلَّفَ﴾ أي: جمعَ.
﴿بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ بالإسلام.
﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ فصرتُم.
﴿بِنِعْمَتِهِ﴾ أي: برحمته.
﴿إِخْوَانًا﴾ جمعُ أخٍ في الدين والوِلاية.
﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا﴾ طرفِ.
﴿حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ ما بينكم وبينَ وقوعِكم فيها إلا أن تموتوا كفارًا.
﴿فَأَنْقَذَكُمْ﴾ اللهُ.
﴿مِنْهَا﴾ بالإيمانِ.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إرادةَ ثباتِكم على الهدى.
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ثم جاءَ بلامِ الأمرِ تأكيدًا فقالَ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ أي: تكونوا أمة و (مِنْ) صِلَةٌ، ليسَ للتبعيضِ، و (الخيرُ): الإسلامُ.
﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
﴿وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ أي: انظرْ إلينا.
﴿وَاسْمَعُوا﴾ ما تؤمرون به؛ أي: وأطيعوا.
﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني: الذين تهاونوا بالرسولِ - ﷺ - وسَبُّوه، وهم اليهود.
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية، وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد، قالوا: ما هذا
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ همُ اليهودُ والنصارى.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ ذُكِّر هُنا أرادَ الجمعَ.
﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وعيدٌ للذين تفرَّقوا، وتهديدٌ على التشبيه بهم.
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿يَوْمَ﴾ نصبٌ على الظرف؛ أي: في يومٍ.
﴿تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ أي: وجوهُ المؤمنين يومَ القيامةِ سرورًا ونورًا.
﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ أي: وجوهُ الكافرين خِزْيًا ودُحورًا.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فيقالُ لهم توبيخًا:
﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يومَ أَخْذِ الميثاقِ حينَ قالَ لهم ربُّهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ باللهِ.
﴿مَا يَوَدُّ﴾ أي: ما يحب ويتمنَّى.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني: اليهود.
﴿وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ جرُّهُ بالنسق على (مِن)، والمرادُ: مشركو العرب؛ كأبي سفيانَ وغيرِه، والشركُ: وضعُ الشيءِ معَ مثله.
﴿أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: خيرًا ونبوةً، و (مِنْ) صلة. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوب: (يُنْزَلَ) بالتخفيف مع إسكان النون، والباقون بالتشديد مع فتح النون (٣).
﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ أي: بنبوته.
﴿مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ والفضلُ: ابتداءُ الإحسان بلا عِلَّة.
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
[١٠٦] ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ قرأ العامَّةُ: بفتح النون والسين من
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٠٣)، و"العجاب" لابن حجر (١/ ٣٤٧).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٩٨).
﴿أو ننسئها﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: بفتحِ النونِ والسين، وهمزةٍ ساكنة بين السين والهاء؛ أي: نُؤَخِّرْها في اللوح المحفوظ. وقرأ الباقون: (نُنْسِها) بضم النون وكسر السين من غير همز؛ أي: نجعلْها منسيَّةً، أي: متروكةً (٢).
﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ أي: بما هو أنفعُ لكم، وأسهلُ عليكم، وأكثرُ
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٠٩)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٨)، و"إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٠٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٥٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٩٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٩٩).
﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾ في المنفعةِ والثوابِ، فكلُّ (١) ما نُسخَ إلى الأيسر، فهو أسهلٌ في العمل، وما نُسخ إلى الأشقِّ، فهو في الثوابِ أكثرُ.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من النسخِ والتبديلِ، لفظُه استفهامٌ، ومعناهُ تقريرٌ؛ أي: إنك تعلم. والنسخُ لغة؛ الرفعُ والإزالةُ، ومنه نسختِ الشمسُ الظلَّ، والنقلُ نَسَخْتُ الكتاب، وشرعًا: رفعُ حكمٍ شرعيٍّ متراخٍ، والمنسوخُ: الحكمُ المرتفعُ بالناسخِ، والناسخُ حقيقةً هو اللهُ، وأهلُ الشرائعِ على جوازه عقلًا، ووقوعِهِ شرعًا، وخالفَ أكثر اليهودِ في الجواز، ويجوزُ النسخُ قبلَ الفعلِ بعدَ دخولِ الوقتِ بالاتفاق، ويجوز نسخُ التلاوة دونَ الحكم، وعكسُه، وهما بالاتفاق، ويجوزُ نسخُ قرآنٍ وسنَّةٍ متواترةٍ بمثلِهما (٢)، وسُنَّة بقرآنٍ بالاتفاق، ولا حكمَ للناسخِ معَ جبريلَ -عليه السلام- اتفاقًا، فإذا بلغه، لم يثبتْ حكمُه في حقِّ من لم يبلغه. وزيادةُ عبادةٍ مستقلَّةٍ من غيرِ الجنسِ ليستْ نسخًا، وكذا من الجنس، بالاتفاق.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ﴾ يا معشرَ الكفار عندَ نزولِ العذاب.
(٢) في "ن": "بمثلها".
[١٠٧] ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُم﴾ وهم أهلُ الطاعة.
﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ أي: جنته.
﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون.
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ بأنْ يأخذَ بغيرِ جُرْمٍ.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فَيُجازي كُلًّا بعمله. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (تَرْجِعُ) بنصبِ التاء وكسر الجيم (١)، وقرأ أبو عمرٍو (يُرِيد ظُلْمًا) بإدغام الدال في الظاء (٢).
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
(٢) انظر: "الإتقان" للسيوطي، النوع الحادي والثلاثون، في الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب.
﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ وقريبٍ ولا صديقٍ.
﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ ناصرٍ يمنعُكم من العذاب.
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ نزلَتْ في اليهود حينَ (١) قالوا: يا محمدُ ايتنا بكتابٍ من السماءِ جملةً كما أتى موسى بالتوراة، قال الله تعالى:
﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ يعني: أَتُريدون، والميمُ صلةٌ.
﴿أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ محمدًا - ﷺ -.
﴿كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ سألَهُ قومُه، فقالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣]، ففيه منعُهم عن السؤالات المقترحَةِ بعدَ ظهورِ الدلائل والبراهين.
﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ﴾ أي: أخطأ.
﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي: وسط الطريق. قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وقالونُ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (فَقَدْ ضَلَّ) بإظهار دال (قد) عند الضاد، وكذلك عند الظاء والذال والزاي حيث وقع، وافقهم وَرْشٌ عند الذال والزاي (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٠٣).
[١٠٩] ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ نزلت في نفرٍ من اليهود قالوا لحذيفةَ بنِ اليمانِ وعمَّارِ بنِ ياسرٍ بعدَ وقعةِ أُحُدٍ: لو كنتم على الحقِّ، ما هُزمتم، فارجعا إلى ديننا، فنحن أَهْدى سبيلًا منكم، فقال لهم عمار: وكيفَ نقضُ العهدِ فيكم؟ قالوا: شديدٌ، قال: فإِنّي عاهدتُ اللهَ ألا أكفرَ بمحمدٍ - ﷺ - ما عشتُ، فقالت اليهود: أما هذا، فقد صبأَ، وقال حذيفةُ: أما أنا (١) رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - ﷺ - نبيًّا، وبالكعبة قبلةً، وبالمؤمنينَ إخوانًا، ثم أتيا رسولَ الله - ﷺ - فأخبراه بذلك، فقال: "أَصَبْتُمَا الخَيْرَ وَأَفْلَحْتُمَا"، فأنزل الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ (٢) أي: تمنى، وأرادَ: أهلَ الكتابِ من اليهود.
﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾ يا معشرَ المؤمنين.
﴿مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا﴾ نصبٌ على المصدر؛ أي: يحسدونكم حسدًا.
﴿مِنْ عِنْدِ﴾ أي: من تِلْقاء.
﴿أَنْفُسِهِمْ﴾ لم يأمرْهُمُ اللهُ بذلك.
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٠٥)، و"العجاب" لابن حجر (١/ ٣٥٦ - ٣٥٧).
﴿فَاعْفُوا﴾ أي: فاتركوا.
﴿وَاصْفَحُوا﴾ أي: تجاوزوا، فالعفوُ: المحوُ، والصفحُ: الإعراضُ، وكان هذا قبلَ آيةِ القتال.
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ بعذابِه: القتلُ والسبيُ لبني قريظةَ، والجلاءُ والنفيُ لبني النضير.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على الانتقام منهم.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا﴾ أي: تُسْلِفوا.
﴿لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ طاعةٍ وعملٍ صالحٍ.
﴿تَجِدُوهُ﴾ أي: تجدوا ثوابَهُ.
﴿عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لا يَضيعُ عندَه عمل.
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١)﴾.
[١١١] ﴿وَقَالُوا﴾ عطفٌ على ﴿وَدَّ﴾، والضميرُ لأهلِ الكتابَيْنِ.
﴿أَوْ نَصَارَى﴾ وذلك أن اليهود قالوا: لن يدخلَ الجنةَ (١) إلَّا من كانَ يهوديًّا، ولا دينَ إلا اليهوديةُ، وقالت النصارى: لن يدخلَ الجنةَ إلا من كان نصرانيًّا، ولا دينَ إلا النصرانيةُ، نزلتْ في وفدِ نجرانَ، وكانوا نصارى، اجتمعوا في مجلسِ رسولِ اللهِ - ﷺ - معَ اليهودِ، فكذَّبَ (٢) بعضُهم بعضًا، قال الله تعالى:
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ شهواتُهم الباطلةُ التي تمنَّوْها على اللهِ بغيرِ الحقِّ. قرأ أبو جعفرٍ: بسكون الياء والتخفيف، مع كسر الهاء، والباقون: بتشديد الياء، وضم الهاء (٣).
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ.
﴿هَاتُوا﴾ أصلهُ: آتوا.
﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ حُجَّتكم على ما زعمتُمْ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دَعْواكم، ثم قال ردًّا:
﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)﴾.
(٢) في "ت": "فكذبت".
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٠٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٠٤).
[١١٠] ولما قال اليهودُ للمسلمين: نحن أفضلُ منكم، ودينُنا خيرٌ مما تدعوننا إليه، أنزل الله: ﴿كُنْتُمْ﴾ (١) أي: أنتم.
﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ﴾ أُظْهِرَتْ (٢).
﴿لِلنَّاسِ﴾ أي: ما أخرجَ الله للناس أمةً خيرًا من أمة محمدٍ - ﷺ -.
﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ﴾ الإيمان.
﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ من كفرِهم.
﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ.
﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي: الكافرون.
﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)﴾.
[١١١] روي أن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِهِ، فآذَوْهُم، فأنزلَ الله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾ (٣) أيها المؤمنون هؤلاءِ اليهودُ.
(٢) في "ن": "ظهرت".
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٦٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٠٥).
﴿وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أي: أخلص دينه لله، وأصل الإسلام: الاستسلامُ والخضوعُ، وخُصَّ الوجهُ؛ لأنه إذا جادَ بوجهِه في السجود، لم يبخلْ بسائرِ جوارحِه.
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ في عملِه.
﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة، وإلَّا فاليومَ المؤمنونَ أشدُّ خوفًا وحُزْنًا من غيرهم؛ لنظرهم في مصيرهم، ولما قدمَ وفدُ نجرانَ على النبيِّ - ﷺ - أتاهم أحبارُ اليهودِ، فتناظروا حتى ارتفعتْ أصواتُهم، فقال لهم اليهود: ما أنتم على شيء من الدِّينِ، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقال لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بموسى والتوراة، فأنزل الله تعالى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)﴾.
[١١٣] ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾ أي: أمرٍ يصحُّ ويُعْتَدُّ به.
﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ وكلا الفريقين يقرؤون الكتابَ، معناه: ليس في كتابهم هذا الاختلافُ، فدلَّ تلاوتُهم الكتابَ ومخالفتُهم ما فيه على كونهم على الباطل.
﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ مُنْهزمينَ.
﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ بل تكونُ لكُمُ النُّصْرَةُ عليهِمْ.
﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)﴾.
[١١٢] ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ حَيْثُما وُجِدوا.
﴿إِلَّا بِحَبْلٍ﴾ أي: عهدٍ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ بأَنْ يُسْلِموا.
﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ من المؤمنينَ ببذلِ جزيةٍ أو أمانٍ، يعني: إلا أنْ (١) يعتصِموا بحبلٍ فيأْمَنوا.
﴿وَبَاءُوا﴾ (٢) رَجَعُوا ﴿بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ﴾ الكفرُ والقتلُ.
﴿بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ فإنَّ الإصرارَ على الصغائرِ يُفْضي إلى الكبائر، والاستمرار عليها يؤدِّي إلى الكفر.
﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)﴾.
(٢) من قوله: "يا محمد حين ﴿أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ (١/ ٤٨٣)، الآية (٨١).... إلى قوله ﴿وَبَاءُوا﴾ " سقط من "ش" بمقدار (٤) لوحات من النسخة الخطية.
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ مستقيمةٌ.
﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ ساعاتِه.
﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي: يصلُّون؛ لأنَّ التلاوة لا تكونُ في السجودِ.
﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، وورشٌ: (يُومِنُونَ) و (يَامُرُونَ) بغير همز (٣).
﴿بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ والمعروف: ما عرفه العقلُ أو (٤) الشرعُ بالحُسْنِ، والمنكَرُ: ما أنكرَهُ أحدُهُما لقبحِهِ.
﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ متى دُعوا إلى خير، أجابوا. قرأ الدوريُّ عن
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٣/ ٧٣٧)، و"المعجم الكبير" للطبراني (١٣٨٨)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ٦٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٠٦)، و"العجاب" لابن حجر (٢/ ٧٣٥)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٢/ ٢٩٦).
(٣) انظر: "الإتقان" للسيوطي، النوع الثالث والثلاثون، في تخفيف الهمز.
(٤) في "ت": "و".
﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ يقضي بينَ المحقِّ والمبطِل.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من الدين. قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ) (١) (أَعْلَمْ بِالشَّاكِرِينَ) (مَرْيَمْ بُهْتَانًا) (آدَمْ بِالْحَقِّ) وشبهه حيث وقع: بإسكانِ الميم عند الباء إذا تحرك ما قبلها تخفيفًا؛ لتوالي الحركات، فتخفى إذ ذاك بغنة، فإن سكن ما قبلها، تُرِكَ ذلك إجماعًا.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي: أكفرُ وأعتى.
﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ يعني: بيتَ المقدس ومحاريبَهُ.
﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى﴾ عملَ.
﴿فِي خَرَابِهَا﴾ هو بُخْتَ نَصَّرُ وأصحابُه، غزوا اليهودَ، وخَرَّبوا بيتَ المقدسِ، وأعانَهم على ذلك النصارى: طَيْطُوسُ الروميُّ وأصحابُه، فغزوا بني إسرائيل ثانيًا، فقتلوا مقاتلتَهم، وسبوا ذراريَّهم، وحرقوا التوراة، وخَرَّبوا بيتَ المقدس، وقذفوا فيه الجِيَفَ، وذبحوا فيه الخنازيرَ، فكان
﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ أي: على وجهِ التهيُّبِ، وذلكَ أنَّ بيتَ المقدسِ موضِعُ حَجِّ النَّصارى، ومحلُّ زيارتهم، قال ابن عباس: لم يدخلْها بعد عِمارتها روميٌّ إلا خائِفًا، لو عُلِمَ به، قُتِلَ.
﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ عذابٌ وهَوان، قال قتادةُ: هو القتلُ للحربيِّ، والجزيةُ للذميِّ.
﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهو النارُ.
وقيل: نزلت في مشركي مكَةَ، وأراد بالمساجد: المسجدَ الحرامَ، منعوا رسولَ الله - ﷺ - وأصحابَه من حجِّهِ والصلاةِ فيه عامَ الحُدَيبيةِ، وإذا مَنَعُوا مَنْ يَعْمُرُهُ بذكر الله، فقد سَعَوْا في خرابه ﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ يعني: أهلَ مكةَ، يقول: أَفْتَحُها عليكم حتى تَدْخلوها، وتكونوا أَوْلى بها منهم، ففتحَها عليهم، وأمرَ النبيُّ - ﷺ - مناديًا ينادي: "أَلاَ لاَ يَحُجَّنَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ" (٣)، فهذا خوفُهم، وثبتَ الشرعُ أن
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (١/ ٤٩٨)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٠٧)، و"العجاب" لابن حجر (١/ ٣٥٩)، و"الدر المنثور" للسيوطي (١/ ٢٦٤).
(٣) رواه البخاري (٣٦٢)، كتاب الصلاة، باب: ما يستر من العورة، ومسلم (١٣٤٧)، كتاب: الحج، باب: لا يحج البيت مشرك... ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
واختلف الأئمةُ في دخولِ الكفارِ المساجدَ، فقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: يجوزُ للذميِّ دخولُ المسجدِ الحرامِ (٢) وغيرِه بالإذنِ، ومنعَهُ مالكٌ وأحمدُ مطلقًا، والشافعيُّ يمنعُه في المسجدِ الحرام، ويُجيزه في غيرِه، ويأتي ذكرُ اختلافِهم في دخولِ الذميِّ حرمَ مكةَ، ومنعهِ من استيطانِ الحجازِ في سورة التوبة عندَ تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [الآية: ٢٨].
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ مُلْكًا وخَلْقًا.
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا﴾ تُحَوِّلوا وُجوهَكُم.
﴿فَثَمَّ﴾ هناك.
﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾ أي: جهتُه التي أمر بها. قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: خرجَ نفرٌ من أصحابِ رسولِ الله - ﷺ - في سفرٍ قبلَ تحويلِ القبلةِ إلى الكعبةِ، فأَصابهم الضَّبابُ، وحضرت الصلاةُ، فتحرَّوا القبلة، وصلَّوا، فلما ذهبَ الضَّبابُ، استبانَ لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قَدِموا، سألوا رسولَ الله - ﷺ - عن
(٢) "الحرام" سقطت من "ن".
﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: من صَلُحَتْ أحوالُهم عندَ الله.
﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (يَفْعَلُوا) (يُكْفَرُوهُ) بالغيب فيهما إخبارًا عن الأمةِ القائمةِ، والباقون: بالخطاب، لقولِه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: ١١٠]، وأبو عمرو يَرَى القراءتين (٢)، ومعنى الآية: فلن تَعْدَموا ثوابَهُ، بل يُشْكَرُ لكم.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ أي: المؤمنين.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: لا تدفعُ أموالُهم بالفدية ولا أولادُهم بالنُّصْرَةِ.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٧٠)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٥)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٥٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٠٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٥٩).
﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ﴾ أي: غنيٌّ يعطي من السَّعَة.
﴿عَلِيمٌ﴾ بِنِيَّاتهم حيثما صلَّوا ودَعَوا.
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ قرأ ابنُ عامرٍ: (قَالُوا) بغير واو، وقرأ الباقون بالواو (٣). [و] (٤) نزلتْ في يهود المدينة؛ حيث قالوا: عزيرٌ ابنُ الله، وفي نصارى نجران حيثُ قالوا: المسيحُ ابنُ الله، وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكةُ بناتُ الله (٥).
(٢) رواه مسلم (٧٠٠)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٠)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٨)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٦٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٩٦)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٣٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٠٦).
(٤) زيادة من "ن".
(٥) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٠٨)، =
﴿بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ عَبيدًا ومُلْكًا.
﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ أي: طائِعون.
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
[١١٧] ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أبدعَ؛ أي: اخترعَ بلا مثالٍ سَبَقَ.
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أي: قَدَّرَهُ، وأصلُ القضاءِ: الفراغُ، ومنه قيل لمن مات: قُضِي عليه؛ لفراغِه من الدنيا، ومنه قضاءُ الله وقدرُه؛ لأنه فُرِغَ منه تقديرًا وتدبيرًا، وقد وردَ لفظُ القضاءِ في القرآن على عشرةِ أوجُهٍ سيأتي ذكرُها في سورة الزخرف -إن شاء الله تعالى-.
﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي: احْدُثْ فيحدُث. قرأ ابن عامر: (كُنْ فَيَكُونَ) بنصب النون في جميع المواضع، إلا في آل عمران: ﴿كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [آل عمران: ٥٩، ٦٠]، وفي الأنعام: ﴿كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: ٧٣]، وإنما نصبَها؛ لأن جوابَ الأمرِ بالفاءِ يكونُ منصوبًا. وقرأ الباقونَ: بالرفع (١) على معنى: فهو يكون، فأما
(١) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٠)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٨)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٦٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٩٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٦)، =
﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يخرجون منها، وجعلَهم أصحابَ النار؛ كصاحبِ الرجلِ لا يفارقُهُ.
﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)﴾.
[١١٧] ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ أي: الكفار.
﴿فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ على عداوةِ رسولِ اللهِ - ﷺ -.
﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ بردٌ شديدٌ.
﴿أَصَابَتْ حَرْثَ﴾ أي: زَرْعَ.
﴿قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالكفرِ.
﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فلم ينتفعوا به، المعنى: نفقاتُهم هالكةٌ كالذي تُهلكه الريحُ.
﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بذلكَ.
﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ هم الجهلَةُ المشركون، نفَى العلمَ عنهم؛ لعدمِ انتفاعهم به.
﴿لَوْلَا﴾ أي: هلا.
﴿يُكَلِّمُنَا اللَّهُ﴾ عيانًا أنَّكَ رسولُه.
﴿أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾ دلالة وعلامةٌ على صدقك، قال الله تعالى:
﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: كفارُ الأمم الخالية.
﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: أشبهَ بعضُها بعضًا في الكفرِ والعمَى.
﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ من غيرِ مِلَّتِكم.
﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ لا يُقَصِّرون في إفسادِ أمرِكُم.
﴿وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ﴾ يَوَدُّونَ ما يَشُقُّ عليكم.
﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ أي: البغضُ، معناه: ظهرَتْ أَمارةُ العداوة.
﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ بالشَّتْمِ والوَقيعةِ في المسلمينَ.
﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ﴾ منَ البغضِ لكُمْ وعداوتكم.
﴿أَكْبَرُ﴾ أي: أعظمُ.
﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ما بُيِّنَ لكم.
﴿هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩)﴾.
[١١٩] ثم أردفَ النهيَ بالتوبيخِ على مُصافاة الخادِعين، فقال: ﴿هَاأَنْتُمْ﴾ تقدَّمَ اختلافُ القُرَّاءِ في هذا الحرفِ.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩)﴾.
[١١٩] ﴿أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ﴾ أي: بالصدق، وهو القرآن.
﴿بَشِيرًا﴾ أي: مبشرًا لأوليائي وأهلِ طاعتي بالثوابِ الكريم.
﴿وَنَذِيرًا﴾ أي: منذرًا مخوِّنًا لأعدائي وأهلِ معصيتي بالعذابِ الأليمِ. ﴿وَلَا تُسْأَلُ﴾ هو قرأ نافعٌ ويعقوبُ: (وَلا تَسْأَلْ) بفتح التاء وجزم اللام على النهي، قال ابن عباس: وذلك أن النبي - ﷺ - قالَ ذاتَ يومٍ: "لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ"، فنزلت (١). وقرأ الباقون (وَلاَ تُسْأَلُ) بالرفعِ على النفي؛ أي: ولستَ بمسؤولٍ (٢).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١١)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٦٩)، و"إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٠٩)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٦٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٩٨ - ٩٩)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٩١)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٠٧).
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ وذلك أنهم (١) كانوا يسألون النبي - ﷺ - الهدنةَ، ويُطْمِعونه أنه إن أمهلَهم، اتبعوه، فأنزل الله هذه الآية (٢)، معناه: إنك وإن هادَنْتَهم، فلا يرضوْنَ بها، وإنما يطلبون ذلك تَعَلُّلًا، ولا يرضوْنَ منك إلا باتِّبَاع ملَّتهم، والملَّةُ: الطريقةُ.
﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ﴾ الذي هو الإسلام.
﴿هُوَ الْهُدَى﴾ الذي لا زيادةَ عليه.
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ الخطابُ مع النبي - ﷺ -، والمرادُ به الأمةُ؛ كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥].
﴿بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي: البيانِ بأنَّ دينَ الله هو الإسلامُ، والقبلة قبلَةُ إبراهيمَ، وهي الكعبةُ.
﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١١٠)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢١)، و"لباب النقول" للسيوطي (ص: ٢٨).
﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ أي: اليهودَ الذين نهيتكُم عن مُباطَنَتِهم لما بينَكم من القرابةِ والمصاهرةِ.
﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ هم عداوةً لمخالفةِ الدين.
﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ أي: بجميع الكتب، وهم لا يؤمنون بكتابكم.
﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا﴾ فكان بعضُهم مع بعضٍ.
﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ﴾ أطرافَ الأصابع.
﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ لما يرون من ائتلافِكم، ويعبَّرُ عن شدةِ الغيظ بعضِّ الأنامل، وإن لم يكنْ ثَمَّ عَضٌّ، والغيظُ: هو أشدُّ الغَضَب، وهو الحرارةُ التي يجدُها الإنسان من ثَورَان (١) دمِ قلبِه.
﴿قُلْ مُوتُوا﴾ أي: ابْقَوا إلى المماتِ.
﴿بِغَيْظِكُمْ﴾ ولو أرادَ الحالَ، لماتوا من ساعَتِهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في القلوبِ، فيجازيهم عليه.
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ أي: تصبْكم أيُّها المؤمنون.
﴿تَسُؤْهُمْ﴾ تحزنهم.
﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ﴾ الإصابةُ بمعنى الَمسِّ.
﴿سَيِّئَةٌ﴾ جَدْبٌ وهزيمةٌ.
﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ تلخيصُ الآيات: اجتنبوا مُصافاةَ مَنْ هو بهذِه الصِّفاتِ.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على عَداوتهم ومَشَاقِّ الدِّينِ.
﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله في محارمِه.
﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: بكسرِ الضادِ خفيفةً من ضارَهُ يَضيرُه، وقرأ الباقون: بضمِّ الضادِ ورفعِ الراء وتشديدها، من ضرَّهُ يَضُرُّهُ (٢). المعنى: فليسَ يضرُّكُمْ.
﴿كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ فيجازيهم، وهذه بشارةٌ بالنصرِ مع الصبرِ والتقوى.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٦١)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٧١)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٥)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٥٥)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٢)، و"تفسير البغوى" (١/ ٤١٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزرى (٢/ ٢٤٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٦١).
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١)﴾.
[١٢١] ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ أي: يقرؤونه كما أُنزل، ولا يُحرِّفونه.
﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾ من المحرِّفين (٢).
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ لاستبدالِهم الضلالةَ بالهدى.
﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢)﴾.
(٢) في "ن": "المجرمين".
[١٢١] ولما نزلَ المشركونَ بأُحُدٍ يومَ الأربعاء ليأخُذوا بثأرهم في يومِ بَدْرٍ، وكانوا ثلاثةَ آلافِ رجلٍ، وسمعَ رسولُ الله - ﷺ - بنزولهم، استشارَ أصحابه في الخروج إلى قتالهم، فأشارَ بعضُ الصحابةِ بالخروجِ، وأشارَ بعضهم بترك الخروج، وكان المشركون قد أقاموا بأُحُدٍ يومَ الأربعاءِ والخميسِ، وصلَّى رسولُ الله - ﷺ - الجمعةَ بأصحابه، وقد ماتَ في ذلك اليوم رجلٌ من الأنصار، فصلَّى عليه - ﷺ -، ثم خرجَ إليهم في ألفِ رجلٍ، أو تسعِ مئةٍ وخمسينَ، ونزل بالشِّعْبِ من أُحد يومَ السبت لنصفِ شوالٍ سنةَ ثلاثٍ من الهجرة، وجعلَ يقوِّم أصحابَه، إنْ رأى صَدْرًا خارجًا قالَ: "تَأَخَّرْ"، أو متأَخِّرًا قال: "تَقَدَّمْ"، وكان نزولُه في عُدْوَة الوادي، وجعلَ ظهرَ عسكرِهِ إلى أُحد، وأَمَّرَ على الرُّماةِ عبدَ اللهِ بنَ جُبيرٍ، وقال: "انْضَحُوهُمْ عَنَّا بِالنَّبْلِ لا يَأْتُونَنَا مِنْ وَرَائِنَا"، فنزل قولُه تعالى:
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ (١) أي: واذكرْ إذْ غدوتَ.
﴿مِنْ﴾ بينِ.
﴿أَهْلِكَ﴾ من المدينةِ.
﴿تُبَوِّئُ﴾ أي: تُنَزِّلُ.
﴿الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ﴾ مواطنَ يقفونَ فيها.
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ما تقولُ ويُقال لكَ، وقتَ المشاورة وغيره.
﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ﴾ هما بنو سَلِمَةَ من الخزرج، وبنو حارثةَ من الأَوْسِ، وكانا جَناحَي العسكرِ.
﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ أَنْ تَجْبُنا وتَضْعُفا؛ فإنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبي ابنِ سَلُولَ المنافقَ انخزلَ (١) بثلثِ الناسِ، فهمَّتِ الطائفتانِ بالرجوعِ معه، فَثَبَّتَهما الله تعالى.
﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ ناصرُهما ومتولِّي أمرِهما.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أمرٌ في ضمنِه التغبيطُ (٢) للمؤمنين بمثلِ ما فعلَه بنو حارثة وبنو سلمةَ من المسيرِ مع رسولِ الله - ﷺ -.
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)﴾.
[١٢٣] ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ هو موضعٌ بينَ مكَّةَ والمدينةِ، ونزلتِ الآيةُ تذكيرًا لهم بنعمةِ اللهِ عليهم بالنصرة (٣) في يوم بَدْرٍ، وكانت يومَ الجمعة سابعَ عشرَ رمضانَ لثمانيةَ عشرَ شَهْرًا من الهجرة.
(٢) في "ت": "التغليظ".
(٣) في "ن": "بالنصر".
[١٢٣] ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ ومعنى ﴿وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ أي: ليستْ ثَمَّ، وليس المعنى أنه يشفَعُ فيهم أحدٌ فَيُرَدُّ.
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)﴾.
[١٢٤] ﴿وَإِذِ ابْتَلَى﴾ أي: واذكر إذا ابتلى، والابتلاءُ: الاختبارُ، وابتلاءُ اللهِ العبادَ ليسَ ليعلمَ حالَهم بالابتلاء؛ لأنه عالِمٌ بهم، ولكن ليُعلِم العبادَ أحوالَهم حتى يعرفَ بعضُهم بعضًا.
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ هو اسمٌ أعجميٌّ، ولذلكَ لا يُجرُّ، ومعناه بالسريانية: الأبُ الرَّحيمُ، وهو إبراهيمُ بنُ تارحَ بنِ ناحورَ، وكانَ مولدُه بكوثا، ولكن نقلَهُ أبوه إلى بابلَ أرضِ نمرودَ بنِ كنعانَ، عاش إبراهيمُ -عليه السلام- مئة وخمسًا وسبعين سنةً، وقيل غيرُ ذلك، وبين وفاته والهجرةِ الشريفةِ الإسلامية ألفان وسبعُ مئةٍ وثماني عشرة سنةً، ودفن بمغارةِ حبرون (١) بجبلِ بيلُون تُجاهَ بيتِ المقدس مما يلي القبلةَ بمسافةٍ (٢) تقربُ من بَريدين، فقيل: إنها ثلاثةَ عشرَ ميلًا، وقيل: ثمانيةَ عشرَ ميلًا، ثم بنى سليمانُ -عليه السلام- على المغارة حيِّزًا بأمر الله تعالى، ولم يثبتْ قبرُ نبيٍّ من الأنبياء سوى قبرِ
(٢) في "ن": "من مسافة".
﴿رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ هنَّ شرائعُ الإسلام.
﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي: أَدَّاهُنَّ وعملَ بهنَّ.
﴿قَالَ﴾ الله ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ يُقْتدى بكَ في الخير.
﴿قَالَ﴾ إبراهيمُ ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ أي: من أولادي أيضًا، فاجعلْ منهم أئمةً يُقْتدى بهم.
﴿قَالَ﴾ الله تعالى:
﴿لَا يَنَالُ﴾ لا يصيب.
﴿عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ أي: مَنْ كان منهم ظالمًا لا يصيبُه عهدي؛ أي: الإمامةُ. ونصب ﴿الظَّالمين﴾؛ لأن العهدَ يَنالُ كما يُنال. قرأ حمزةُ، وحفصٌ
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أمرَهم بالتقوى، ورجَّاهُم في الإنعامِ الذي يوجبُ الشكرَ.
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)﴾.
[١٢٤] ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ أي: اذكرْ إذ تقولُ.
﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ببدرٍ.
﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾ الإمدادُ: إعانةُ الجيشِ بالجيشِ.
﴿بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ: (مُنَزَّلينَ) بالتشديدِ على التكثيرِ؛ لقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾ [الأنعام: ١١١]، وقرأ الباقون: بالتخفيف؛ لقوله: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ (١) [التوبة: ٢٦]
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)﴾.
[١٢٥] ﴿وَإِذْ﴾ عطفٌ على (إِذ) المتقدمة.
﴿جَعَلْنَا الْبَيْتَ﴾ يعني: الكعبة. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، وابنُ ذكوانَ، والكسائيُّ، وخَلَّادٌ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (وَإذْ جَعَلْنَا) بإظهارِ ذالِ (إذ) عندَ الجيم حيثُ وقع، والباقون: بالإدغام (٢).
﴿مَثَابَةً للنَّاس﴾ أي: مرجِعًا لهم.
﴿وَأَمْنًا﴾ يأمَنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة، ويقولون: هم أهلُ الله، ويتعرَّضون لمن حولَهُ.
﴿وَاتَّخِذُوا﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ: بفتح الخاء على الخبر، والباقون: بكسرها على الأمر (٣).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٤١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١١١).
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٣)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: =
وعن عمرَ -رضي الله عنه- أنه قال: "وافقتُ اللهَ في ثلاثٍ، ووافَقَني ربي في ثلاث: قلتُ: يا رسولَ الله! لو اتخذتَ من مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى، فأنزل الله -عز وجل-: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، وقلتُ: يا رسول الله! يدخلُ عليك البَرُّ والفاجِرُ، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنينَ بالحجاب (١)، فأنزل الله آيةَ الحجاب، قال: وبلغني معاتبةُ النبيِّ - ﷺ - بعضَ نسائِهِ، فدخلتُ عليهنَّ، قلتُ: إنِ انتهيتنَّ أو ليبدلَنَّ اللهُ رسولَه خيرًا منكُنَّ، فأنزلَ الله -عز وجل-: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ (٢) [التحريم: ٥].
وأما قصةُ المقامِ، فروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لما أتى إبراهيمُ بإسماعيلَ وهاجرَ، ووضعَهما بمكَّةَ، وأتت على ذلكَ مدَّةٌ، ونزلَها الجُرْهمِيُّون، وتزوَّجَ إسماعيلُ منهم امرأةً، وماتتْ هاجَرُ، استأذنَ إبراهيمُ سارةَ أن يأتيَ مكَّةَ، فأذنتْ له، وشرطَتْ ألَّا ينزلَ، فقدمَ إبراهيمُ فذهبَ إلى بيتِ إسماعيل، فقال لامرأته: أينَ صاحِبُك؟ قالت:
(١) في "ن": "الحجاب".
(٢) رواه البخاري (٤٢١٣)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ عن أنس. ورواه مسلم (٢٣٩٩)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر -رضي الله عنه-، عن ابن عمر مختصرًا.
(٢) في "ن": "كالمستخفية".
وعن ابن عباس أيضًا قال: "ثم لبثَ عنهم ما شاءَ الله، ثم جاء بعدُ وإسماعيلُ يَبْري نَبْلًا تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه، قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالدُ بالولد، والولدُ بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ تُعينني عليه؟ قال: أُعينك، قال: إن الله أمرني أن أبنيَ ها هنا بيتًا، فعندَ ذلكَ رفعَ القواعدَ من البيتِ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ، وإبراهيمُ يبني حتى ارتفعَ البناءُ، جاءَ بهذا الحجر، فوضعه له، فقام إبراهيمُ على حَجَر المقام، وهو يبني وإسماعيلُ يناوله الحجارة، وهما يقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] (١).
وفي الخبر: "الرُّكْنُ والمَقَامُ يَاقُوتتًانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ، وَلَوْلاَ مَا مَسَّتْهُ أَيْدِي المُشرِكينَ، لأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ" (٢).
(٢) رواه الترمذي (٨٧٨)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في فضل الحجر الأسود والركن والمقام، وقال: حديث غريب، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٢١٣)، وابن خزيمة في "صحيحه" (٢٧٣١)، وابن حبان في "صحيحه" (٣٧١٠)، والحاكم في "المستدرك" (١٦٧٧)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٥/ ٧٥)، وغيرهم، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- بلفظ: "إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب". وما ذكره المؤلف من لفظ الحديث، فإنما نقله عن البغوي في "تفسيره" (١/ ١١٤).
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ يعني: الكعبةَ، أضافه إليه تخصيصًا وتفضيلًا؛ أي: ابنياه على الطهارة والتوحيد. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وهشامٌ، وحفصٌ (بَيْتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ الدائرين حولَهُ.
﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ المقيمينَ والمجاوِرين.
﴿وَالرُّكَّعِ﴾ جمعُ راكعٍ.
﴿السُّجُودِ﴾ جمع ساجدٍ، وهم المصلُّون.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ
(٢) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٠٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٣٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١١٢).
قال ابنُ عباسٍ: "لَمْ يُقاتلِ (٢) الملائكةُ في المعركةِ إلَّا يومَ بدرٍ، وفيما سواهُ يَشْهدونَ القتالَ ولا يُقاتلون، إنما يكونونَ عددًا ومَدَدًا" (٣) وبُشِّروا بالملائكةِ قبلَ نزولِهم تَسْكينًا لجأشِهم (٤)، ثم قال:
﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)﴾.
[١٢٥] ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا﴾ للمشركين.
﴿وَتَتَّقُوا﴾ مخالفةَ نَبِيِّكُم.
﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ المشركونَ.
﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ أي: من ساعَتِهم هذهِ.
﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ لم يزدْ خمسةَ آلافٍ غيرَ الثلاثةِ المذكورةِ، بل مَعَها. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وعاصمٌ، ويعقوبُ: بكسر الواو؛ أي: مُعَلِّمينَ، من العلامةِ؛ أي: سَوَّموا خيلَهم،
(٢) في "ن": "تقاتل".
(٣) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٢٠٨٥)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (٤/ ٧٧).
(٤) في "ن": "لحالهم".
[١٢٦] ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا﴾ يعني: المكانَ.
﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ أي: ذا أمنٍ يأمنُ فيه أهلُه.
﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ إنما دعا بذلك؛ لأنه كان بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ، وفي القصص أن الطائفَ كان من مدائنِ الشام بِأُرْدُنَّ، فلما دعا إبراهيمُ -عليه السلام- هذا الدعاءَ أمرَ اللهُ جبريلَ -عليه السلام- حتى قلعَها من أصلِها، فأدارَها حولَ البيت سبعًا، ثم وضعَها موضعَها الذي هي الآن فيه، فمنها أكثرُ ثمراتِ مكةَ (١).
﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ دعا للمؤمنين خاصَّةً.
﴿قَالَ﴾ الله تعالى.
﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾ أي: أَمُدُّ له؛ ليتناول من لذات الدنيا؛ إثباتًا للحجة عليه، وأصلُ المتوع: الامتداد. قرأ ابنُ عامبر: (فَأُمْتِعُهُ) بسكون الميم وتخفيف التاء، والباقون: بفتح الميم وتشديد التاء (٢)، ومعناهما واحد.
﴿قَلِيلًا﴾ إلى منتهى أجلِه، وذلك أن الله تعالى وعدَ الرزقَ للخلق كافَّة، مؤمنِهم وكافرِهم، وإنما قيد بالقلة؛ لأن متاعَ الدنيا قليل.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٣)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٧٠)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٦٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٠٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١١٢).
﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)﴾.
[١٢٦] ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ أي: الوعدَ والمددَ.
﴿إِلَّا بُشْرَى﴾ أي: بشارةً.
﴿لَكُمْ﴾ لتستبشِروا بها.
﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ لتسكُنَ بالمدَدِ، فلا تجزعَ من كثرةِ عدوِّكُم وقلَّةِ عددِكم.
(٢) في "ت": "تقوموا".
(٣) في "ت": "بالصفوف".
(٤) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (٧/ ٣٥٤)، و"تفسير الطبري" (٤/ ٨٢ - ٨٣).
﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ المرجعُ الذي يصير إليه. قرأ أبو جعفرٍ، وقالونُ، وأبو عمرٍو (بِيسَ) بغير همز، والباقون بالهمز (١).
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)﴾.
[١٢٧] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكرْ إذ.
﴿يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ وتعطفُ على إبراهيمَ.
﴿وَإِسْمَاعِيلُ﴾ روي أن الله خلقَ موضعَ البيت قبلَ الأرضِ، بألفي عامٍ، وكانت زَبَدَةً بيضاءَ على الماء، فَدُحِيَتِ الأرضُ من تحتِها، فلما أهبطَ اللهُ آدمَ إلى الأرض، استوحشَ، فشكا إلى الله تعالى، فأنزل الله البيتَ المعمورَ من ياقوتةٍ من ياقوتِ الجنةِ له بابان من زُمُرُّدٍ أخضرَ، له بابٌ شرقيٌّ، وبابٌ غربي، فوضعَه على موضع البيت، وقال: يا آدمُ! إني أهبطتُ إليك بيتًا تطوفُ به كما يُطاف حولَ عرشي، وتصلي عنده كما يُصَلَّى عندَ عرشي، وأنزلَ الحجرَ، وكان أبيضَ، فاسودَّ من لمسِ الحُيَّضِ في الجاهلية، فتوجه آدمُ من أرضِ الهندِ إلى مكة ماشيًا، وقَيَّضَ اللهُ له مَلَكًا يدلُّه على البيت، فحجَّ البيتَ، وأقامَ المناسكَ، فلمَّا فَرَغَ، تلقَّتْهُ الملائكةُ وقالوا: بَرَّ حَجُّكَ يا آدمُ، لقد حججْنا هذا البيتَ قبلَك بألفي عامٍ.
وقيل: أولُ مَنْ بنى الكعبةَ في الأرض الملائكةُ بأمرِ اللهِ بحيالِ البيتِ المعمورِ في السماءِ على قدرِه ومثالِه، وقيلَ: أولُ من بنى الكعبَة آدمُ، واندرسَ زمنَ الطوفان، ثم أظهرَه الله لإبراهيمَ حتى بناه (٢).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١٠٥ - ١٠٦)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٢/ ٢٦٥).
﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)﴾.
[١٢٧] ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ أي: يُهْلِكَ جماعةً.
﴿مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَقُتِلَ منهم يومَ بدر سبعون، وأُسِرَ سبعونَ.
﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ أصلُ الكَبْتِ: الإذلالُ والصرفُ عن الشيءِ. المعنى: يُذِلَّهم ويَهْزِمَهم.
﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ لم يظفروا بمرادِهم.
وعن أنس: أنَّ رسولَ الله - ﷺ - كُسِرَتْ رُباعِيَتُهُ يومَ أُحدٍ، وشُجَّ في رأسِه، فجعلَ يَسْلُتُ الدمَ عنهُ ويقولُ: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبيَّهُمْ، وكَسَرُوا رُبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ"، فأنزلَ الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ (٢).
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨)﴾.
[١٢٨] ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فيسلموا.
(٢) رواه مسلم (١٧٩١)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ لدعائِنا.
﴿الْعَلِيمُ﴾ بنياتنا.
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)﴾.
[١٢٨] ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي: صيِّرْنا موحِّدَيْنِ مطيعَيْن مخلِصَين خاضعين لك، وكانا كذلك، وإنما أرادا (١) التثبيتَ والدوامَ، والإسلامُ في هذا الموضعِ الإيمانُ والأعمالُ جميعًا.
﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ أي: ومن أولادنا.
﴿أُمَّةً﴾ جماعةً، والأمةُ: أتباعُ الأنبياء.
﴿مُسْلِمَةً لَكَ﴾ خاضعةً لك، و (من) هنا للتبعيض، وخص من الذرية بعضًا؛ لأن الله تعالى أعلمَهُ أن منهم ظالمين.
﴿وَأَرِنَا﴾ عَلِّمْنا. قرأ ابنُ كثيرٍ ويعقوبُ: (وَأَرْنا) بإسكان الراء، وأبو عمرو: بالاختلاس، والباقون: بكسرها (٢)، وأصلُها: أَرينا، فحذفت
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٧٠)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٠٦ - ١٠٧)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٩٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١١٥).
﴿مَنَاسِكَنَا﴾ شرائعَ ديننا، وأعلامَ حَجِّنا، وأصلُ النسكِ: العبادةُ، والناسكُ: العابد، فأجاب الله دعاءهما، وبعث جبريل -عليه السلام- فأراهما المناسكَ في يومِ عرفةَ، فلما بلغَ عرفاتَ، قال: عرفتَ يا إبراهيم؟ قال: نعم، فسمي الوقتُ عرفةَ، والموضعُ عرفاتٍ (١).
﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ وتجاوزْ عنا.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ لمن تاب.
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)﴾.
[١٢٩] ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ أي: في الأمة المسلمة من ذرية إبراهيمَ وإسماعيلَ.
﴿رَسُوَلَا مِّنهُم﴾ أي: مرسَلًا، وأراد به محمدًا - ﷺ -. قال ابنُ عباس: "كلُّ الأنبياءِ من بني إسرائيل إلا عشرةً: نوحٌ، وهود، وصالحٌ، وشعيبٌ، ولوطٌ، وإبراهيمُ، وإسماعيل، وإسحقُ، ويعقوبُ، ومحمدٌ -صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين-" (٢).
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١١٧٢٣)، والحاكم في "المستدرك" (٣٤١٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (١٣٣).
﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ فيكونُ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ اعتراضًا بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه. المعنى: ليسَ بيدِكَ من التوبةِ والعقوبةِ شيءٌ، إنْ عليكَ إلا البلاغُ، وإنَّما ذلكَ بيدِ الله.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)﴾.
[١٢٩] ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بعباده (١)، فلا تبادروا إلى الدعاءِ عليهم.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)﴾.
[١٣٠] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ إشارةٌ إلى تكرارِ التضعيفِ عامًا بعدَ عام. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (مُضَعَّفَةً) بالتشديد مع حذفِ الألفِ في جميع القرآن، وقرأ الباقون: بالإثبات والتخفيف (٢)، والمراد به (٣): ما كانوا يفعلونَه عندَ حُلولِ
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٤/ ٢٠٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٦٥).
(٣) "به" ساقطة من "ن".
﴿عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ كتابَكَ يعني: القرآنَ، والآيةُ من القرانِ: كلامٌ متصلٌ إلى انقطاعه، وتقدم الكلامُ على ذلك بأتمَّ من هذا في أولِ التفسير عندَ الكلام على معنى السورةِ والآيةِ.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآنَ.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أي: مواعظَه وما فيه من الأحكام، وقيل: الشريعة.
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي: يطهِّرُهُم من الشِّركِ والذُّنوبِ.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ الذي يَقْهَرُ ولا يُقهر، والعزَّةُ: القوةُ.
﴿الْحَكِيمُ﴾ المصيبُ مواقعَ الفعلِ، المحكِمُ لها. ثم استفهمَ منكرًا بقوله:
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)﴾.
[١٣٠] ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ وذلك أنَّ عبدَ الله بنَ سلامٍ دعا ابني أخيه سلمةَ ومهاجرًا إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمتُما أن الله -عز وجل- قال في التوراة: إني باعثٌ من وَلَدِ إسماعيلَ نبيًّا اسمُه أحمدُ، فمن آمنَ به، فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به، فهو ملعونٌ، فأسلمَ سلمةُ، وأبى مهاجر أن يسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ (١) أي:
﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي: خسرَ نفسَه، وامتهنَها، والسفاهةُ: الجهلُ وضعفُ الرأي، وكلُّ سفيهٍ جاهلٌ، وذلك أن من عبدَ غيرًا لله، فقد (١) جهل نفسه، لأنه لم يعرفِ اللهَ خالقَها، وقد جاء: مَنْ عرفَ نفسَهُ، فقد عَرَفَ رَبَّهُ.
﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ اخترناه.
﴿فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ يعني: مع الأنبياء في الجنة.
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١)﴾.
[١٣١] ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ أي: اسْتَقِمْ على الإسلام، واثبتْ عليه، لأنه كان مسلمًا، والعاملُ في (إذ) اصطفيناه.
﴿قَالَ أَسْلَمْتُ﴾ أي: فَوَّضْتُ أموري.
﴿لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وقد حَقَّقَ ذلكَ حينَ لم يستعنْ بأحدٍ من الملائكة حين أُلقي في النار.
﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)﴾.
[١٣٢] ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾ أي: بالملة ﴿إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ وهم (٢): إسماعيلُ
(٢) في "ن": "وهو".
﴿وَيَعْقُوبُ﴾ ورفعُ (يعقوب) عطفٌ على إبراهيم، معناه: ووصَّى إبراهيمُ بنيهِ، ويعقوبُ بنيه الاثني عشر؛ كما وصَّى إبراهيمُ بنيهِ الثمانيةَ، وسيأتي ذكرُ أسماءِ بني يعقوبَ أولَ سورةِ يوسفَ، ويعقوبُ سمي بذلك؛ لأنه والعيصَ كانا توأمينِ، فتقدَّم عيصٌ في الخروج من بطن أمه، وخرج يعقوبُ على إثره آخذًا بعقبه، وعاشَ مئة وسبعًا وأربعينَ سنةً، ومات بمصرَ، وأوصى أن يُحمل إلى الأرض المقدَّسة، ويدفنَ عندَ أبيه وجدِّه، فحمله ابنُه يوسفُ ودفنَهُ عندَهما بمغارة حبرون (٣).
﴿يَابَنِيَّ﴾ معناه: أن (٤): يا بني.
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى﴾ اختار.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٥)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٧١)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٩)، و "تفسير البغوي" (١/ ١٠٩)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٩٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١١٦).
(٣) في "ن": "جبرون".
(٤) في "ن": "أي".
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أمرِ الرِّبا فلا تأكلوهُ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)﴾.
[١٣١] ثم خَوَّفهم فقال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ قال أبو حنيفةَ: هذه أخوفُ آيةٍ في القرآنِ، حيثُ تَوَعَّدَ المؤمنينَ إنْ لم يَتَّقوا بعقابِ الكافرينَ.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)﴾.
[١٣٢] ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ لكي تُرْحَموا، فقرَنَ تعالى طاعةَ رسوله بطاعتِه، واسمَه باسمِه بقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التغابن: ٨]، فجمعَ بينهما بواو العطف المُشَرِّكَةِ، ولا يجوزُ جمعُ هذا الكلامِ في غيرِ حقِّهِ - ﷺ -، قال عليه السلام: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ، وَلَكِنْ: ما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ" (١) فأرشدَهم - ﷺ - إلى الأدبِ في تقديمِ مشيئةِ اللهِ تعالى على مشيئةِ مَنْ سواه، واختارَها بـ (ثُمَّ) التي هي للنسقِ والتراخي، بخلافِ الواو التي هي للاشتراكِ، ومثلهُ الحديثُ الآخَرُ: أَنَّ خَطيبًا خطبَ عندَ النبيِّ - ﷺ -
﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي: مؤمنون، والنهيُ في ظاهر الكلام وقعَ على (١) الموت، وإنما نُهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام، معناه: داوموا على الإسلامِ حتى لا يصادفَكم الموتُ إلا وأنتم مسلمون.
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)﴾.
[١٣٣] ﴿أَمْ كُنْتُمْ﴾ أي: أَكُنتم.
﴿شُهَدَاءَ﴾ جمعُ شهيدٍ بمعنى الحاضرِ، يريد: ما كنتم حضورًا.
﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ أي: حينَ قربَ يعقوبُ من الموت. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ: (شُهَدَاءَ إِذْ) بتحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تجعل بينَ بينَ (٢). نزلتْ إنكارًا على اليهود حينَ قالوا للنبي - ﷺ -: ألستَ تعلمُ أن يعقوبَ يومَ ماتَ أوصى بنيهِ باليهودية؟ (٣).
﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾ بدلٌ من (إذ) قبلَها، العاملُ فيهما (شُهَداءَ). ورُوي أنه
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١١٧).
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢١)، و"تفسير البغوي" (١/ ١١٠).
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ أي: بعدَ موتي، و (ما) هنا بمعنى (مَنْ) يدلُّ عليه (أن).
﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ وكان إسماعيلُ عَمًّا لهم، والعربُ تسمِّي العمَّ أبًا، كما تسمي الخالةَ أُمًّا، قال النبي - ﷺ -: "عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ" (٢)، وقال في عمه العباس: "رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تفعَلَ بِي قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ" (٣)، وذلك أنهم قتلوه.
وإسحاقُ هو ابنُ إبراهيمَ -عليه السلام-، وأمه سارةُ، ولدتْهُ ولها تسعونَ سنةً، ولأبيهِ إبراهيمَ مئةٌ وعشرون سنةً، وكانَ إسحقُ ضريرًا، وكان هو وإسماعيلُ ولوطٌ ويعقوبُ أنبياءَ على عهدِ إبراهيمَ (٤) -صلواتُ الله عليهم أجمعين-، وعاش إسحاقُ مئةً وثمانين سنة، ودُفن عند أبيه بمغارة حبرون (٥).
﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ نصبٌ على البدلِ من قوله: (إِلَهَكَ).
(٢) رواه مسلم (٩٨٣)، كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٣٦٩٠٢)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (٣/ ٣١٤)، عن عكرمة مرسلًا. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٨٩).
(٤) في "ن": "أبيهم".
(٥) في "ن": "جبرون".
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)﴾.
[١٣٣] ﴿وَسَارِعُوا﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (سَارِعُوا) بلا واوٍ (٣)، أي: بادروا.
﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: إلى الأعمال التي تُوجِبُ المغفرةَ.
﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا﴾ أي: سَعَتُها.
﴿السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ وخُصَّ العرضُ بالذِّكر؛ لأنه يكونُ غالبًا أقلَّ من الطول. المعنى: بادِروا إلى ما يوُجبُ لكمُ المغفرةَ ودخولَ جَنَّةٍ في غايةِ السَّعَةِ.
﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ بُقِّيَتْ لهم.
(٢) رواه مسلم (٨٧٠)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه-.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٧٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٥٦)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤١٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٦٦).
ثم أشار إلى إبراهيمَ وأولادِه المذكورينَ الموحِّدين إسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ بقوله:
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)﴾.
[١٣٤] ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ جماعةٌ.
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مَضَتْ.
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من العمل.
﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ تلخيصُه: لا يُسأل أحدٌ إلا عن عمله فقط، لا عن عملِ غيرِه.
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)﴾.
[١٣٥] ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ نزلتْ في رؤوس يهودِ المدينة: كعبِ بنِ الأشرفِ، ومالكِ بنِ الصَّيْفِ (٢)، ووَهْبِ بنِ يهوذا،
(٢) في جميع النسخ: "الضيف".
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ.
﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: بل نتبعُ ملَّةَ إبراهيمَ.
﴿حَنِيفًا﴾ نصبٌ على الحال؛ أي: مائلًا عن الباطل إلى الحقِّ، وأَصلُه من الحَنَفِ، وهو مَيْلٌ وعِوَجٌ يكون في القدم.
﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهذا توبيخٌ للكفارِ أهلِ الكتاب؛ لأنهم كانوا يَدَّعون أنهم على ملَّته، وهم على الشرك.
ثم علَّم المؤمنين طريقَ الإيمان، فقال تعالى:
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢١)، و"تفسير البغوي" (١/ ١١١)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (١/ ٣٨٠ - ٣٨١).
[١٣٤] ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ اليسرِ والعسرِ، فأولُ ما ذَكَر من أخلاقِهم الموجبةِ للجنةِ ذكرَ السَّخاوَةَ، قال - ﷺ -: "السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بعيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ" (١).
﴿وَالْكَاظِمِينَ﴾ الحابسينَ.
﴿الْغَيْظَ﴾ عندَ امتلاءِ نفوسِهم بهِ.
﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ الَّذين يَظْلمونَهم.
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)﴾.
[١٣٥] ونزلَ فيمَنْ أذنبَ ذنبًا وطلبَ التوبةَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ يعني قبيحةً خارجةً عَمَّا أَذِنَ اللهُ فيه.
[١٣٦] ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ يعني: القرآن.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ وهو عشرُ صُحَفٍ.
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ يعني: أولادَ يعقوبَ، واحدُهم سبطٌ، وهم اثنا عشرَ سِبْطًا، سُمُّوا بذلك؛ لأنه وُلد لكلِّ واحدٍ منهم (١) جماعةٌ، وسبطُ الرجلِ: حافِدَتُهُ، ومنه قيل للحسن والحسين: سِبْطا رسول الله - ﷺ -، فالأسباطُ من بني إسرائيل كالقبائلِ من العرب من بني إسماعيلَ والشعوبِ من العجم، وكان في الأسباط أنبياءُ، وسنذكرُ أولادَ يعقوبَ الذين هم آباءُ الأسباطِ في سورة يوسف -إن شاء الله تعالى-.
﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ يعني: التوراة.
﴿وَعِيسَى﴾ يعني: الإنجيل.
﴿وَمَا أُوتِيَ﴾ أُعْطِيَ.
﴿النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ من الكتبِ والآيات.
﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ فنؤمنُ ببعضٍ ونكفرُ ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ تقدَّمَ مذهبُ أبي عمرٍو في إدغام (وَنَحْن لَّهُ).
﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ أي: ذكروا وَعيدَه.
﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ أي: وما يغفرُ الذنوبَ.
﴿إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ أي: يُقيموا.
﴿عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ ولكن تابوا وأَنابوا.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنَّها معصيةٌ، وأنَّ اللهَ يغفرُ الذنوب (١).
﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦)﴾.
[١٣٦] ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، خبرُه (٢):
﴿جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أي: ونعمَ ثوابُ المطيعينَ ما أُعِدَّ لهم.
قال - ﷺ -: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيُحْسِنُ الطّهُورَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللهَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ" (٣)، قال ثابتٌ البُنانِيُّ: لما نزلَتْ هذهِ الآيةُ، بَكى إبليسُ (٤).
(٢) "خبره" ساقطة من "ن".
(٣) رواه أبو داود (١٥٢١)، كتاب: الصلاة، باب: في الاستغفار، والترمذي (٤٠٦)، كتاب الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة عند التوبة، وقال: حسن، عن علي -رضي الله عنه-.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٤٢٣).
[١٣٧] ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي: بما آمنتم به، والمثلُ صلةٌ؛
كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]؛ أي ليس كهو شيءٌ.
﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: أعرضوا عما تدعونهم إليه من الإيمان.
﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ أي: خلافٍ وعداوةٍ.
﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ يا محمدُ؛ أي: يكفيكَ شرَّ اليهودِ والنصارى، وقد كُفي بإجلاءِ بني النَّضيرِ، وقَتْلِ بني قُرَيظةَ، وضَرْبِ الجزيةِ على اليهود والنصارى.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم.
﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالهم.
﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨)﴾.
[١٣٨] ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ أي: دينَ الله، وهو نصبٌ على الإغراء؛ يعني: الزموا دينَ الله، وإنما سماه صبغةً؛ لأنه يظهرُ أثرُ الدين على المتديِّنِ كما يظهرُ أثر الصّبغ على الثوب، قال ابنُ عباس: "هي أنَّ النصارى إذا وُلد لهم ولدٌ، فأتى عليه سبعةُ أيام، غمسوه في ماءٍ لهم أصفر يقال له: المعموديَّةُ، وصبغوه به، ليطهروه بذلكَ مكانَ الخِتان، فإذا فعلوا به ذلك، قالوا: الآنَ صار نصرانيًّا حَقًّا، فأخبرَ الله تعالى أن دينه الإسلامُ، لا ما يفعلُه النصارى (١).
[١٣٧] ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أي: مضَتْ شرائعُ وطرائقُ، وسنَّةُ الإنسانِ: الشيءُ الذي يعملُه، والخطابُ للمؤمنين. والمعنى: قد مَضَتْ وسَلَفَتْ مني فيمَنْ قبلَكُم من الأممِ الماضيةِ الكافرةِ بإمهالي واستِدْراجي إيَّاهم حَتَّى يبلُغَ الكتابُ فيهِ أَجَلي الذي أَجَّلْتُه لإهلاكي إياهم.
﴿فَسِيرُوا﴾ تقديرُه: إن شَكَكْتُم، فَسيروا.
﴿فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ أي: آخِرُ أَمْرِ ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾ منهم، وهذا في حربِ أهلِ أُحد، يقول: فإنما أُمهلهم فأَستدرِجُهم حتى يبلغَ أجلي الذي أَجَّلْت في نُصْرَةِ النبيِّ وأوليائِه، وإهلاكِ أعدائِه.
﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)﴾.
[١٣٨] ﴿هَذَا﴾ أي: القرآنُ.
﴿بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ عامَّةً.
﴿وَهُدًى﴾ من الضَّلالةِ.
﴿وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ خاصَّةً.
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)﴾.
[١٣٩] ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ لا تَضْعُفوا عن قتالِ عدوِّكم.
﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ مُطيعون.
﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)﴾.
[١٣٩] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ لليهود والنصارى:
﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ في دينِ اللهِ، والمحاجّةُ: المجادلةُ لإظهار الحُجَّة، وذلك أنهم قالوا: إن الأنبياءَ كانوا منا، وعلى ديننا، ودينُنا أقدمُ، فنحن أَوْلى بالله منكم، فقال تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾.
﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي: نحن وأنتم سواءٌ في الله، فإنه ربُّنا وربُّكم.
﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي: لكلِّ واحدٍ جزاءُ عملهِ.
﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ يعني: كيف تَدَّعون أنكم أَوْلى بالله، ونحن له مخلصون، وأنتم به مشركون؟! والإخلاصُ: أن يخلصَ العبدُ دِينَهُ (١) وعملَه لله، فلا يشركُ به في دينه، ولا يرائي بعمله.
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ
(١) في "ن": "العبودية" بدل "العبد دينه".
[١٤٠] ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ يعني: أيقولون؟ صيغتُه صيغةُ الاستفهام، ومعناه التوبيخُ. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ، ورُويسٌ: (تقولُونَ) بالخطاب؛ لقوله: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾، وقالَ بعده (١): ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾، وقرأ الباقونَ بالغيب؛ يعني: يقولُ اليهودُ والنصارى (٢).
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ﴾ يا محمدُ.
﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ﴾ بدينهم.
﴿أَمِ اللَّهُ﴾ وقد أخبرَ الله تعالى أنَّ إبراهيم لم يكن يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وهذا تقريرٌ على فسادِ دعواهم؛ إذ لا جوابَ لمفطورٍ -[أي: مخلوق] (٣) - إلا أن الله تعالى أعلمُ. وتقدَّم اختلاف القراءة في حكم الهمزتين من كلمة عند قوله تعالى: (ءَأَنْذَرْتَهُمْ)، وكذلك اختلافُهم في قوله: (ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٥)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٧١)، و"إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢١٩)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٨٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٦٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ١١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٢٠).
(٣) "أي: مخلوق" سقطت من "ن".
﴿إِنْ﴾ يعني: إذ.
﴿كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: لأنكم مؤمنون.
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)﴾.
[١٤٠] ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ أي: جُرْحٌ يومَ أحدٍ.
﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ﴾ أي: الكافرين ببدرٍ.
﴿قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ فقتلَ المسلمون من المشركينَ ببدرٍ سبعين، وأَسَروا سبعين، وقتلَ المشركونَ من المسلمينَ بأُحد خمسًا وسبعين، وجرحوا سبعين. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ: (قُرْحٌ) بضمِّ القاف حيثُ وقعَ، والباقون: بالفتح، وهما لغتان معناهما واحد (١).
﴿شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ وهي علمُهم بأن (٢) إبراهيمَ وبنيه كانوا مسلمين، وأن محمدًا حَقٌّ ورسولٌ، أشهدَهُم اللهُ عليه في كتبهم، لفظُه الاستفهامُ، والمعنى: لا أحدَ أظلمُ منهم، وإياهم أرادَ الله تعالى بكتمان الشهادة، ثم تهدَّدَهم فقال:
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ثم كرر:
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)﴾.
[١٤١] ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ تأكيدًا.
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)﴾.
[١٤٢] ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ أي: الجهَّالُ من الناس وهم مشركو مكة، واليهودُ.
﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ صرَفَهم وحَوَّلَهم.
(٢) في "ت": "أن".
﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ بما فيهما، المعنى: إنكم تصلُّون إلى الكعبةِ وهي بالمشرق، وإلى بيتِ المقدس وهو بالمغرب، وكلها له.
﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فيوجِّهُه تارةً إلى مكةَ، وتارة إلى بيتِ المقدس، لا اعتراضَ عليه؛ لأنه المالكُ وحدَهُ. قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، ورُوَيْسٌ: (يَشَاءُ إِلَى) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، واختُلِفَ في كيفية تسهيلها، فذهب جمهورُ المتقدمين إلى أنها تبدلُ واوًا خالصةً مكسورةً، وذهبَ بعضُهم إلى أنها تُجعل بينَ الهمزة والياء، وهو مذهبُ أئمةِ النحو والمتأخِّرين من القرَّاء، وهو الأَوْجَهُ في القياس. وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابنُ عامرٍ، وروحٌ: بتحقيق الهمزتين (١).
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ المؤمنينَ والكافرين، فمرةً لهم، ومرةً عليهم.
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ علمًا يتعلَّقُ به الجزاء، وهو أن يظهرَ منهم الفعلُ، فيجازَوْنَ عليه.
﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ بأن يُكْرِمَهم بالشهادةِ.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ الذين يُضمرونَ خِلافَ ما يُظهرون.
﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)﴾.
[١٤١] ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ التمحيصُ: تخليصُ الشيء من عَيْبٍ فيه، المعنى: يُطَهِّر المؤمنين من الذنوب.
﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ يُفنيهم، المعنى: إن قتلوكُم، فهو تطهيرٌ لكم، وإن قتلتموهم، فهو مَحْقُهُم واستئصالُهم.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)﴾.
[١٤٢] ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ (أَمْ) هي بمعنى الإضراب عن الكلامِ الأولِ والتركِ له، وفيها لازمُ معنى الاستفهام، و (حَسِبْتُمْ) معناه:
[١٤٣] ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ نزلت لما قال رؤساء اليهود لمعاذِ بنِ جَبَلٍ: ما تركَ محمدٌ قبلتَنا إلَّا حسدًا، وإنَّ قبلتنا قبلةُ الأنبياء، وقد علم محمدٌ أنا عدلٌ بين الناس، فقال معاذ: إنا على حقٍّ (١) وعدلٍ، فأنزل الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ﴾ (٢)؛ أي: ومثلَ ذلكَ الجعلِ الصالحِ الذي جعلْنا إبراهيمَ وذريتَهُ جعلناكم أمةً وَسَطًا؛ أي: عَدْلًا خِيارًا، قال الله تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ [القلم: ٢٨]؛ أي: خيرُهم وأعدلُهم، وخيرُ الأشياءِ أَوْسَطُها.
﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ يومَ القيامة أنَّ الرسلَ قد بلَّغتهم.
﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ﴾ هو محمدٌ - ﷺ -.
﴿عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ معدِّلًا مزكِّيًا لكم، وذلك أن الله تعالى يجمعُ الأَوَّلين والآخِرين في صعيدٍ واحدٍ، ثم يقُول لكفارِ الأمم: ألم يأتِكُمْ نذيرٌ؟ فيُنكرون ويقولون: ما جَاءَنا مِنْ بَشِيرٍ ولا نَذِير، فيسأَلُ الأنبياء (٣) -عليهم السلام-، فيقولون: كَذَبوا، قد بلَّغناهم، فيسألُهم البينةَ، وهو أعلم بهم؛ إقامةً للحجَّة، فيؤتى بأمة محمدٍ - ﷺ -، فيشهدون (٤) لهم أنهم قد بَلَّغوا، فتقولُ
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١١٤)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (١/ ٣٨٩ - ٣٩٠).
(٣) "الأنبياء" ساقطة من "ت".
(٤) في "ظ": "ليشهدون".
﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ أي: تحويلَها؛ يعني: بيت المقدس، فيكون من بابِ حذفِ المضاف.
﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ قالَ أهلُ المعاني: معناه إلا لعلمِنا، وقيل: معناه: ليعلمَ رسولي والمؤمنون به، وجاء الإسنادُ بنون العظمة إذ هم حزبُهُ وخالصتُه.
﴿مَن يَتَّبِعُ ألرَّسُولَ﴾ فيوافقُه ويصدِّقه. قرأ أبو عمرٍو: (لِنَعْلَم مَّنْ) بإدغامِ الميم في الميم (١).
﴿مِمَّن يَنقَلِبُ﴾ أي: يرجعُ ناكِصًا.
﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ فيرتدُّ، كأنه سبقَ في علمِ الله تعالى أن تحويلَ القبلةِ سببٌ لهدايةِ قومٍ وضلالةِ آخرين، والرجوعُ على العقب أسوأ حالاتِ الراجع في مشيِه عن وجهه، فلذلك شُبِّهَ المرتدُّ في الدين به، وظاهرُ التشبيهِ أنه بالمتقهقِرِ، وهي مشيةُ الحيرانِ الفازع من شَرٍّ قد قربَ منه، وفي الحديث: أنَّ القبلةَ لما حُوِّلَت، ارتدَّ قومٌ من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجعَ محمدٌ إلى دين آبائه (٢). ورُوي أنَّ أحبارَ اليهود قالوا للنبي - ﷺ -: إنَّ بيتَ المقدس هو قبلةُ الأنبياء، فإن صَلَّيْتَ إليها، اتبعناكَ،
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١١٦).
﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ أي: وقد كانت التوليةُ إلى الكعبة.
﴿لَكَبِيرَةً﴾ أي: لثقيلةً شديدةً.
﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أي: هداهم الله، وهم التائبون المخلصون.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ وذلك أن حُيَيَّ بنَ أخطبَ وأصحابَه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحوَ بيتِ المقدس، إن كانت هُدًى، فقد تحوَّلْتم عنها، كان كانت ضَلالةً، فقد دِنْتُمُ اللهَ بها، ومَنْ مات منكم عليها، فقد ماتَ على الضلالة، فقال المسلمون: إنما الهدى ما أَمر اللهُ به، والضلالة ما نهى اللهُ عنه، قالوا: فما شهادتُكم على مَنْ مات منكُمْ على قبلتنا، وكان قد ماتَ قبلَ أن تُحَوَّلَ القبلةُ من المسلمينَ أسعدُ بنُ زُرارةَ من بني النجَّار، والبراءُ بنُ مَعْرورٍ من بني سَلِمَةَ، وكانوا من النقباء، ورجالٌ آخرون، فانطلق عشائرُهم إلى النبي - ﷺ -، وقالوا: يا رسول الله! قد صرفَكَ اللهُ إلى قبلةِ إبراهيمَ، فكيفَ بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلُّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله -عز وجل-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ (١)؛ يعني: صلاتِكم إلى بيتِ المقدس، وسمَّى الصلاةَ إيمانًا لما كانت صادرةً عن الإيمان والتصديق في وقت بيتِ المقدس، وفي وقتِ التحويل.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ والرأفةُ: أشدُّ الرحمة، وخاطبَ الحاضرين، والمرادُ: مَنْ حضرَ ومن ماتَ؛ لأن الحاضر يُغَلَّبُ كما تقول
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ أي: ولم يعلم.
﴿اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ والقراءةُ بكسر الميم في قولي: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ لالتقاء الساكنين.
﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ في الشدائدِ، ونصبُ (يَعْلَمَ) بإضمارِ أَنْ، و (الواو) بمعنى الجمع؛ كقولكَ: لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللَّبنَ.
﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)﴾.
[١٤٣] ثم خاطب الله المؤمنين بقوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ أي: الشهادة؛ لما علمتُم من فضلِ الشهداءِ ببدر. قرأ البزيُّ بخلافٍ عنه: (كُنْتم تَّمَنَّوْنَ) بتشديد التاءِ بعد الميم حالةَ الوصلِ (٢).
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ وذلكَ أن قومًا من المسلمين تمنوا يومًا كيومِ بدرٍ ليقاتِلوا ويُسْتشهدوا، فأراهُم اللهُ يومَ أحدٍ.
﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي: رأيتُمْ سبَبَهُ.
﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ عِيانًا أسبابَهُ.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٦٨).
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)﴾.
[١٤٤] ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ والمقصدُ تقلُّب البصر، وذكر الوجه؛ لأنه أعمُّ وأشرفُ، وهو المستعمَلُ في طلب الرغائب، تقول: بذلْتُ وجهي في كذا، أو فعلتُ لوجهِ فلان، وهذه الآيةُ متأخرةٌ في التلاوة، متقدمةٌ في المعنى؛ فإنها رأسُ القصة، وأمرُ القبلة أولُ ما نُسخ من أمور الشرع، وذلك أن رسولَ الله - ﷺ - وأصحابَه كانوا يصلُّون بمكةَ إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة، أمرَهُ الله أن يصلِّي نحوَ صخرةِ بيتِ المقدسِ كما تقدَّمَ؛ ليكونَ أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلَّى إلى قبلتهم، مع ما يجدون من نعتِه في التوراة، فصلَّى من بعدِ الهجرةِ ستةَ عشرَ أو سبعةَ
﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ فَلَنُحَوِّلَنَّكَ.
﴿قِبْلَةً﴾ أي: إلى قبلة.
﴿تَرْضَاهَا﴾ أي: تحبُّها.
﴿فَوَلِّ﴾ فحوِّلْ.
﴿وَجْهَكَ شَطْرَ﴾ أي: نحوَ.
﴿الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وأراد به الكعبةَ، والحرامُ: المحرَّمُ.
﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ من بَرٍّ أو بحرٍ، شرقٍ أو غربٍ.
﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ عندَ الصلاة، وكان تحويلُ القبلة في رَجَبٍ بعدَ زوالِ الشمسِ من السُّنةِ الثانيةِ من الهجرة قبلَ قتالِ بدرٍ بشهرين، ونزلتْ هذه الآيةُ ورسول الله - ﷺ - في مسجدِ بني سَلِمَةَ، وقد صلَّى بأصحابِه ركعتين من صلاة الظهرِ، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزابَ، وحوَّل الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال، فَسُمِّي ذلك المسجدُ مسجدَ القِبْلَتين، وأهلُ قُباء وصل الخبرُ إليهم في صلاة الصبح (٢).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١١٨). قال المناوي في "الفتح السماوي" (١/ ١٩٣): "وهذا تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي إمامًا، ولا هو الذي تحول في الصلاة".
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ﴾ يعني: أمرَ الكعبةِ.
﴿أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لأنه في بشارةِ أنبيائهم أنه يصلِّي إلى القبلتين، ثم هَدَّدهم فقال:
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، ورَوْحٌ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، يريد: إنكم يا معشر المؤمنين تطلبونَ مرضاتي، وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم. وقرأ الباقونَ بالغيب؛ يعني: ما أنا بغافل عما يفعلُ اليهود، فأجازيهم في الدنيا والآخرة (٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١١٨).
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٦٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ١١٨)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٤٢)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٢٦٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٧)، و"النشر في القراءات =
[١٤٤] رُوي أنَّ رسولَ الله - ﷺ - خرجَ إلى الشِّعْبِ من أُحد بسبعِ مئةِ رجلٍ، وجعلَ عبدَ اللهِ بنَ خَوَّاتٍ على الرجَّالة، وقال: "أَقِيمُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ، وَانْضَحُوا عَنَّا بِالنَّبْلِ، لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، وَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ حَتَّى أُرْسِلَ إِليْكُمْ، فَلاَ نَزَالُ غَالِبينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمُ"، فجاء المشركون على مَيْمَنَتِهم خالدُ بنُ الوليد، وعِكْرمَةُ بنُ أَبي جَهْل على مَيْسَرَتِهم، فقاتلوا حتى حَمِيَتِ الحربُ، فأخذَ رسولُ الله - ﷺ - سيفًا وقالَ: "مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ "، فَأَخَذَهُ أبو دُجانةَ، فأعلمَ بعمامةٍ حمراءَ، فجعل يتبخْتَرُ بينَ الصَّفَّينِ، فقالَ رسولُ الله: - ﷺ - "إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ"، ففلقَ به هامَ المشركين، فحمل - ﷺ - هو وأصحابهُ على المشركين، فهزمهم، فتركَ الرماةُ مركزَهم، وجاؤوا إلى المسلمينَ لأجلِ الغنيمةِ، فلما رأى خالدٌ ظهورَ المسلمين منكشفةً، صاحَ في خيلهِ، وحمل على المسلمينَ، فهزمَهم، ورمى عبدُ اللهِ بنُ قَمِيئَةَ الحارثيُّ النبيَّ - ﷺ - بحجرٍ، فكسرَ أنفَهُ ورَباعِيَتَهُ، وشَجَّهُ فأثقلَهُ، وتفرَّقَ عنه أصحابُه، وحملَ ابنُ قميئةَ ليقتلَ النبيَّ - ﷺ -، فذبَّ عنه مصعبُ بنُ عُمير صاحبُ الرايةِ يومئذ، فقتلهَ ابنُ قميئةَ وهو يُرى أنه قتلَ النبيَّ - ﷺ -، وصرخَ صارخ: ألا إنَّ محمدًا قد قُتل، قالوا: كانَ إبليسَ، وانكشفَ المسلمونَ، وأصابَ فيهم العدوُّ، وكان يومَ بلاءٍ على المسلمين، ومَثَّلت هند بنتُ عُتبةَ وصواحبُها بالقتلى من الصحابة، فَجَدَعْنَ الآذانَ والأُنوف، وبقرَتْ هندٌ عن كبدِ حمزةَ عمِّ النبي - ﷺ -، ولاكَتْها، وصَعِدَ
ولما صرخَ الصارخُ بقتلِ النبيِّ - ﷺ -، قال بعضُ المسلمين: ليتَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يأخذُ لنا أمانًا من أبي سفيانَ، وقال ناس من المنافقين: لو كانَ نبيًّا لما قُتل، ارجعوا إلى إخوانِكم وإلى دينِكم، فقال أنسُ بنُ النَّضْرِ عمُّ أَنَسِ بنِ مالك: "يا قوم! إن كانَ (١) محمدٌ قُتل، فإن ربَّ محمدٍ حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعدَ رسولِ الله؟ فقاتِلوا على ما قاتلَ عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهمَّ إني أعتذرُ إليك مما يقولُ هؤلاء، وأبرأُ إليك مما جاؤوا به"، ثم شدَّ سيفه فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه.
ولما انهزم أصحابهُ جعلَ - ﷺ - يدعوهم "إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ (٢) " حَتَّى انحازت إليه طائفةٌ من أصحابه، فلامهم على هَرَبهم، فقالوا: يا رسول الله! فديناكَ بآبائِنا وأمهاتنا، أتانا خبرُ قتلِك، فَرُعبت قلوبُنا، فولَّينا مدبرين، فنزلَ توبيخًا:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ﴾ (٣) معناهُ: المستغرقُ لجميعِ المحامدِ، وهو الذي كثر حمدُ الحامدين له مرةً بعد أخرى، ويقال (٤) حُمِدَ فهو محمَّدٌ، فتسميته - ﷺ - بهذا الاسم لما اشتملَ عليه من مُسَمَّاه، وهو الحمدُ، فإنه - ﷺ - محمود عند اللهِ، وعندَ ملائكته، وعندَ إخوانِه من المرسلين، وعندَ أهل الأرض كلِّهم، وإن كفر به بعضُهم، فإنَّ ما فيه من صفاتِ الكمال محمودٌ عند كلِّ عاقل، ومحمدٌ هو المحمودُ حمدًا متكررًا كما تقدم، وأحمدُ هو الذي حمدُهُ لربه أفضلُ من حمد الحامدين غيرِه، وهو الذي يحمدُه أهل الدنيا وأهلُ الآخرة، وأهلُ السماء والأرض، فلكثرة خصائله المحمودة التي تفوتُ عددَ العادِّين سُمِّيَ (٥) باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التفضيلَ والزيادةَ في القدر والصفة، فدلَّ أحدُ الاسمين وهو محمدٌ على كونِه
(٢) "إلي عباد الله" سقطت من "ت".
(٣) انظر: "تفسير الطبري" (٤/ ١١١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٢٦).
(٤) في "ت" و"ن": "وقال".
(٥) في "ت": "تسمى".
ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ | بِبُرْهَانِهِ واللهُ أَعْلَى وَأَمْجَدُ |
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ | فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ |
﴿إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ﴾ أي: مضت.
﴿مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله.
﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ﴾ أي: رجعتم.
﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ كافرين؟! إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم على أعقابهم عن الدين؛ لخلوه بموتٍ أو قتلٍ بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبلَه وبقاءِ دينهم
[١٤٥] ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني: اليهودَ والنصارى.
﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ أي: معجزةٍ وبرهانٍ على صدقك في أمر القبلةِ وغيرِها.
﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ يعني: الكعبةَ.
﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ لأنك على الحقِّ، وقبلتُكَ غيرُ منسوخةٍ أبدًا.
﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ لأن اليهود تستقبل بيت المقدس، وهو المغرب، والنصارى تستقبل المشرق، وقبلةُ المسلمين الكعبةُ، وكل طائفة تعتقد أن الحقَّ دينُها، ثم خوطبَ - ﷺ - والمرادُ غيرُه بقوله:
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ مرادهم.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ﴾ أي: وصلَ إليك.
﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ اليقينِ من أمرِ القبلةِ وشرائعِ الإسلام.
﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وتمَّ الوقفُ هنا.
عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- عن النبي - ﷺ - قال: "مَا بَيْنَ المشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" (١)، والمرادُ بالمشرِقِ: مشرقُ الشتاء في أقصرِ يوم في
(١) رواه الترمذي (٣٤٤)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (١٠١١)، كتاب: الصلاة، باب القبلة، وغيرهما.
﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ فيرتدَّ عن دينه.
﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ بارتدادِه، وإنما يضرُّ نفسَه.
﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ على نعمةِ الإسلام بالثَّبات عليه؛ كأنسٍ ونحوه.
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)﴾.
[١٤٥] ثم شجَّعهم وأعلمهم أن لا موتَ إلا بمشيئتِه، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي: بقضائه ﴿كِتَابًا﴾ أي: كِتبَ اللهُ الموتَ كتابًا.
﴿مُؤَجَّلًا﴾ معلومًا، لا يتقدم ولا يتأخر ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ﴾ بطاعته.
﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ أي: جزاءَ عملِه من الدنيا.
﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ ما قُسم له، نزلتْ في الذين تركوا المركزَ يوَم أُحد طلبًا للغنيمة.
﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ بطاعتِه.
ومن دلائلِ القبلةِ القطبُ، وهو نجمٌ، وقيلَ نقطةٌ إذا جعلَه المصلِّي وراءَ ظهرِه بالشامِ وما حاذاها، وخلفَ أُذنه اليمنى بالمشرقِ، وعلى عاتقِهِ الأيسرِ بإقليم مصر وما والاه، كان مستقبلًا للقبلة (١)، والله أعلم.
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)﴾.
[١٤٦] ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ مبتدأٌ، خبره:
﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ المطيعين. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (يُرِدْ ثَوَابَ) بإظهار الدال عندَ الثاء فيهما، والباقونَ: بالإدغام (١).
قال - ﷺ -: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرَىٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" (٢).
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)﴾.
[١٤٦] ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: بألفٍ ممدودةٍ (٣) بعدَ الكاف، وبعدها همزةٌ مكسورةٌ، وأبو جعفرٍ يُسَهِّلُ الهمزةَ، والباقون: بهمزةٍ مفتوحةٍ بعدَ الكاف، وبعدها ياءٌ مكسورة مشدَّدة، ووقف أبو عمروٍ، ويعقوبُ (وَكَأَيْ) بغيرِ نونٍ حيثُ وقعَ، وَوقف الباقُونَ (وَكَأَيِّنْ)، وهي كافُ
(٢) رواه البخاري (١)، كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - ﷺ -، ومسلم (١٩٠٧)، كتاب: الإمارة، باب: قوله - ﷺ -: "إنما الأعمال بالنية"، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
(٣) في "ت": "ممدود".
﴿مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ أي: جموعٌ.
﴿كَثِيرٌ﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (قُتِلَ) بضمِّ القاف وكسر التاء؛ أي: قُتل الربيون دون النبيِّ، قال الحسنُ وغيره: ما قُتِلَ نبيٌّ قَطُّ في قتالٍ، وقرأ الباقون: (قَاتَلَ) بفتحِ القافِ والتاءِ وألفٍ بينهما؛ أي: قاتلَ كائِنًا معه ربِّيون (٢).
﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ أي: جَبُنوا.
﴿لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا﴾ عن الجهادِ.
﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ خَضَعوا لعدوِّهم.
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ ومحبةُ اللهِ لهم ما يظهرُ عليهم من نصرهِ وتنعيمِه.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٧٥)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٥٩ - ٣٦٠)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧١).
﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ من الصِّبيان، قال عبدُ اللهِ بنُ سلام: "لقدْ عرفتُ محمَّدًا حينَ رأيتُهُ كمعرفةِ ابني، ومعرفتي له أشدُّ من معرفةِ ابني؛ لأن نَعْتهُ في كتابنا، ولا أَدري ما تصنعُ النِّساءُ لولا النعتُ" (١).
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾ أي: من جُهَّالهم ومعانِديهم.
﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي: نعتَه - ﷺ - وأمرَ الكعبة.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وتمَّ الوقفُ هنا.
﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)﴾.
[١٤٧] ﴿الْحَقُّ﴾ مبتدأ، وخبرُه:
﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: هذا الحقُّ.
﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكِّين فيما أُخبرتَ به.
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)﴾.
[١٤٧] ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ بنصبِ اللامِ خبرُ (كان)، واسمُها:
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي: الصغائرَ.
﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ أي: الكبائرَ.
﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ كيلا تزول ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)﴾.
[١٤٨] ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ النصرةَ والغنيمةَ.
﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ الأَجْرَ والجنةَ.
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وخُصَّ ثوابُ الآخرةِ بالحسنِ إشعارًا بفضلِه، وأنه المعتدُّ بهِ عندَه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩)﴾.
[١٤٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: المنافقين في قولهم عندَ الهزيمةِ: ارجِعُوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينِهم.
﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ قرأ ابن عامر: (مُوَلَّاهَا) بفتح اللام وألف بعدها؛ أي: المستقبِلُ مصروفٌ إليها، والباقون: بكسر اللام وياء بعدها على معنى مستقبِلُها (٣).
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ بادِرُوا بالطاعات.
﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ أنتم وأعداؤكم.
﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ يومَ القيامة، فيجزيكم بأعمالِكم.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)﴾.
[١٤٩] ﴿وَمِنْ حَيْثُ﴾ أي: أيَّ مكانٍ.
[﴿خَرَجْتَ﴾ لسفرٍ.
﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ﴾ نحوَ.
(٢) "ملة": ساقطة من "ت".
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٧)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٧١)، و"الحجة، لابن خالويه، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٦٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٢٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٢٦).
﴿لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ أبو عمرٍو بالغيب، والباقون بالخطاب (١)] (٢).
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)﴾.
[١٥٠] ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ التكريرُ تأكيد النسخ؛ ليعلمَ أن ذلك عزمةٌ لا بدَّ من فعلِها، ثم أومأ إلى علَّة ذلك فقال:
﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ المعنى: أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة يدفعُ احتجاجَ اليهود بأن المنعوتَ في التوراة قبلتُه الكعبةُ، وأن محمدًا يجحدُ ديننا، ويتبعُنا في قبلتنا، والمشركينَ بأنه يدَّعي مِلَّةَ إبراهيم، ويخالف قبلته. قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ: (لِيَلَّا) بفتح الياء بغير همز (٣).
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٩٧)، "الكشف" لمكي (١/ ٣٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ في توجُّهكم إلى الكعبة، وتظاهُرِهِم عليكم؛ فإني وليُّكم بالحجَّةِ والنُصْرَة.
﴿وَاخْشَوْنِي﴾ بامتثالِ أمري؛ ثم عطفَ على قولهِ ﴿لِئَلَّا﴾ قولَه:
﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ بهدايتي إياكم إلى الكعبة (٢) وغيرِها، ومن تمامِ النعمة الموتُ على الإسلام. ثم عطفَ على ما تقدَّم قولَه:
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ من الضلالة، ولعل وعسى (٣) من اللهِ واجبان؛ لأنهما للرجاء والإطماع، والكريمُ لا يُطْمِعُ إلا فيما يفعل.
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)﴾.
(١) في "ت": "لقوله".
(٢) في "ن": "إلى الكعبة إياكم".
(٣) في "ن": "وعسى ولعل".
﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ أي: مَغْبونين.
﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)﴾.
[١٥٠] ثم قال: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ ناصرُكُم وحافظُكُم على دينِكم.
﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ فاستعينوا به.
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)﴾.
[١٥١] وكان المشركون قد ارتحلوا من أُحد متوجِّهينَ نحو مكةَ، ثم عزموا على الرجوع واستئصالِ المسلمينَ، فقُذِفَ الرعبُ في قلوبهم، فلم يرجعوا، فنزل: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ أي: الخوف. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: بضم العين، والباقون: بسكونها، وهما لغتان مثل القدس (١).
﴿رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ أي: محمدًا - ﷺ -.
﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ القرآنَ.
﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ يحملُكُم على ما تصيرونَ به أَزْكِياء.
﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآنَ.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ السُّنَّةَ.
﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من اِلأحكامِ وشرائعِ الإسلام.
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)﴾.
[١٥٢] ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ بطاعتي.
﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بمغفرتي. قرأ ابنُ كثيرٍ: (فَاذْكُرُونِيَ) بفتحِ الياء (١).
﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ بالطاعة.
﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ بالمعصية، فشكرُ المنعمِ وهو الثناءُ على الله على إنعامِه واجب شَرْعًا بالاتفاق، لا عقلًا، فمن لم تبلُغْه دعوةُ نبيٍّ، لا يأثمُ بتركِه، خلافًا للمعتزلة. قرأ يعقوبُ (تَكْفُرُوني) بإثبات الياء (٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٧)، و"إتحاف فضلاء =
﴿بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ حجَّةً وبرهانًا.
﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ أي: مقامُ الكافرين.
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)﴾.
[١٥٢] ولما رجعَ رسول الله - ﷺ - من أُحد، قال المسلمون: كيفَ أُصبنا وقد وُعِدْنا بالنصر؟ فنزل: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ (١) بالنصر لكم؛ لأن النصرَ كان أولًا للمسلمين. قرأ أبو عمرٍو، وهشامٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَقَد صَّدَقَكُمْ) بإدغام الدال في الصاد، والباقون: بالإظهار (٢).
﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ تقتلونهم قتلًا ذَريعًا.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٤٣٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٧٥).
﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ جَبُنْتُم، وضعفَ رأيُكم بتركِ الرُّماةِ مركزَهم لطلبِ الغنيمة.
﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي: اختلفتم في أمر النبيِّ - ﷺ - للرماةِ بالمقام في سفح الجبل، فقال بعضُهم: نذهبُ، فقد نُصر أصحابُنا، وقال بعضُهم: نمتثلُ أمرَ النبيِّ - ﷺ -، ولا نبرحُ مكانَنا.
﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ النبيَّ - ﷺ - بتركِ المركز.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ﴾ اللهُ.
﴿مَا تُحِبُّونَ﴾ من الظفرِ والغنيمة.
﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ وهم الرماةُ الذين تركوا المركزَ وطلبوا الغنيمةَ.
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وهم مَنْ ثبتَ من الرماة في المركز عبدُ الله بنُ جُبيرٍ وأصحابُهُ.
﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ أي: ردَّكم.
﴿عَنْهُمْ﴾ بالهزيمِة.
﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ليمتحِنَكم.
﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ فلم تُسْتأْصَلوا على فِعْلِكم.
﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالعفوِ.
[١٥٣] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ على تركِ المعاصي.
﴿وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالعَوْنِ والنُّصْرَة.
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)﴾.
[١٥٤] ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ أي: هم أمواتٌ.
﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ نزلتْ في قتلى بَدْرٍ من المسلمين، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلًا، ستةٌ من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، فقيل: ماتَ فلانٌ وفلانٌ، وانقطع عنهم نعيمُ الدنيا، فأنزلها الله (١)، كما قالَ في شهداء أحد: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩].
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)﴾.
[١٥٥] ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ لنختبرَنَّكمْ يا أمةَ محمد، ليظهرَ لكم منكمُ
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٣)، وانظر: "تفسير البغوي" (١/ ١٢٤)، و"العجاب" لابن حجر (١/ ٤٠٣).
[١٥٣] ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ يعني: ولقد عفا عنكم إذ تُصْعِدون هاربينَ، والإصعادُ: السيرُ في مستوى الأرض.
﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾ أي: لا تُعَرِّجون ولا تُقيمون.
﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ يلتفتُ بعضٌ إلى بعض.
﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي: خلفَكم يقولُ: "إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، مَنْ يَكُرُّ فَلَهُ الجَنّةُ".
﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ جازاكم.
﴿غَمًّا﴾ إذ هُزمتم.
﴿بِغَمٍّ﴾ بسببِ غَمٍّ أذقتموهُ النبيَّ - ﷺ - حينَ عصيتموه.
﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الفتحِ والغنيمِة.
﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من القتلِ والجِراح وذلِّ الانهزام وما نِيل من نبَيِّكم.
﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ تَوَعُّدٌ.
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
[١٥٤] ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ يا معشرَ المسلمينَ.
﴿مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً﴾ أي: أَمْنًا ﴿نُعَاسًا يَغْشَى﴾ أي: النعاسُ.
﴿طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ وهم المؤمنون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (تُغَشِّي) بالتاء رَدًّا إلى الـ (أَمَنَةِ)، والباقون: بالياء ردًّا إلى (النعاس) (١).
قال ابن عباسٍ: "أَمَّنَهُمْ يومئذٍ بنعاسٍ يغشاهُمِ، إِنَّما ينعسُ مَنْ يأمنُ" (٢) والخائفُ لا ينامُ، فأرادَ الله تمييزَ المؤمنين من المنافقين، فأوقعَ النعاسَ على المؤمنينَ حتى أَمِنوا، ولم يوقعْ على المنافقين، فَبَقُوا في الخوف.
﴿وَطَائِفَةٌ﴾ مبتدأٌ، خبرُه:
﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وهم المنافقون، لم يكن لهم هَمٌّ بأُحُدٍ سوى أنفسِهم دونَ النبيِّ - ﷺ - وأصحابِه.
﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ﴾ الظَّنِّ.
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (٤/ ١٤٠).
﴿يَقُولُونَ﴾ للنبيِّ - ﷺ -.
﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ﴾ أي: من أمرِ النصرةِ.
﴿مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (كُلُّهُ) برفع اللام على الابتداءُ وخبرُه في (لله)، والباقون: بالنصب على البدل (١).
﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ وذلك أن المنافقين قالوا بينهم مسارِّين: لو كان لنا عقولٌ وتُرِكْنا، ما خرجْنا مع محمدٍ، ولا قُتل رؤساؤنا، فقال تعالى لنبيه - ﷺ - تكذيبًا لهم:
﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ مصارِعِهم. المعنى: لو قعدتُم في بيوتكم، وفيكُم من علمَ الله أنه يُقتل، لخرجَ الشخصُ المعلوم إلى مصرعِه فَقُتل؛ لأن معلومَ الله كائنٌ حتمًا.
﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ﴾ أي: ليختبرَ.
﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ﴾ يُخْرِجَ ويُظْهِرَ.
﴿مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في القلوب من خيرٍ وشرٍّ، وقد اجتمع حروف المعجم كلها التسعةُ والعشرون في هذه الآية من
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)﴾.
[١٥٥] ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ يا معشرَ المسلمين؛ أي: انهزموا.
﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمعُ المسلمين وجمعُ المشركين يومَ أُحد، وكأَنَّ قد انهزم أكثرُ المسلمين، ولم يبقَ مع النبي - ﷺ - إلا ثلاثةَ عشرَ رجلًا ستةٌ من المهاجرين، وهم أبو بكر، وعمرُ، وعليٌّ، وطلحةُ، وعبدُ الرحمن بنُ عوفٍ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ.
﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ طلبَ زلَّتَهم بأن سَوَّلَ لهم تركَ المركز، ومخالفةَ النبيِّ - ﷺ -.
﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ بسبب بعضِ ذنوبٍ كانت منهم، ثم بعدَ توبيخهم لطفَ بهم وطَيَّبَ قلوبَهم فقال:
﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ لا يعجلُ على العُصاة؛ لأنه لا يخافُ الفوتَ.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ
﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ أي: خوفِ العدوِّ.
﴿وَالْجُوعِ﴾ أي: القَحْطِ.
﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ بالخسرانِ والهلاكِ.
﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ بالقتلِ والموتِ.
﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ بالجائِحَةِ، وهي ما يستأصِلُ الشيءَ.
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ يا محمدُ على البلايا والرزايا، ثم وصفهم فقال:
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)﴾.
[١٥٦] ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ أي: نائبةٌ.
﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ عَبيدًا مُلْكًا.
﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ في الآخرة، وفي الحديثِ: "مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ، جَبَرَ اللهُ مُصيبَتَهُ" (١).
﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)﴾.
[١٥٧] ﴿أُولَئِكَ﴾ أهل هذهِ الصِّفَةِ.
[١٥٦] ثم حَذَّرَهم فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: المنافقينَ عبدَ اللهِ بنَ أُبيٍّ وأصحابَهُ.
﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ في الاعتقادِ.
﴿إِذَا ضَرَبُوا﴾ سافروا.
﴿فِي الْأَرْضِ﴾ لتجارةٍ أو غيرِها.
﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ أي: غزاةً جمع غازٍ.
﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ أي: لا تتشبهوا بالكافرين بالنطق واعتقاد القول.
﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ﴾ القولَ والظن منهم.
﴿حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ في الدنيا.
﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَعْمَلُونَ) بالغيب على أنه وعيد للكفار، والباقون: بالخطاب (١).
[١٥٧] ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ﴾ في العاقبة.
﴿وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من الغنائم. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (يَجْمَعُونَ) بالغيب؛ يعني: خير مما يجمعُ الناس، وقرأ الباقون: بالخطاب (١)؛ لقوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾.
﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)﴾.
[١٥٨] ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ في العاقبة، فيجازيكم. قرأ نافعٌ وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (مِتُّمُ) و (مِتْنَا) و (مِتُّ) حيثُ وقعَ بكسر الميم، وافقهم في غير هذه السورة حفصٌ، وقرأ الباقون: بالضم، فمن قرأ بالضم من مات يموت، وبالكسر من مات يمات (٢).
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٧٣)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٧٨)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٦١ - ٣٦٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٣٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٨٠).
﴿وَرَحْمَةٌ﴾ ذكرها تأكيدًا. قرأ الكسائيُّ: (وَرَحْمِهْ) بإمالة الميم حيث وقف على هاء التأنيث (٢).
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ إلى الاسترجاعِ، وإلى سعادةِ الدارين.
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)﴾.
[١٥٨] ﴿إِنَّ الصَّفَا﴾ جمعُ صَفاةٍ، وهي الصخرةُ الصُّلبة الملساءُ.
﴿وَالْمَرْوَةَ﴾ الحجرُ الرخْوُ، والمراد بهما: المكانان المعروفان بطرَفي المسعَى بمكةَ المشرفة. قرأ الكسائيُّ: (وَالمَرْوِهْ) بإمالةِ الواو حيثُ وقف على هاء التأنيث.
﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ من أَعلام دينه فالمطافُ والمواقفُ والمناحرُ كلُّها شعائرُ (٣)، ومثلُها المشاعر، والمرادُ بالشعائر ها هنا: المناسكُ التي جعلها الله أَعلامًا لطاعته.
﴿فَمَنْ﴾ شرطٌ محلُّها رفعٌ ابتداءً.
﴿حَجَّ﴾ أي: قصدَ.
﴿الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾ أي: زارَ، فالحجُّ في اللغةِ: القصدُ، وفي الشرع:
(٢) انظر "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٢٨).
(٣) في "ن": "من شعائر".
﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ فلا إثمَ.
﴿عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ﴾ أى: يدورَ.
﴿بِهِمَا﴾ وأصل الطواف المشيُ حولَ الشيء، والمرادُ هنا: السعيُ بينَهما، وسببُ نزولِ هذه الآية: أنه كان على الصفا والمروةِ صنمانِ يَسافُ ونائلةُ، وكان يسافُ على الصَّفا، ونائلةُ على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بينَ الصفا والمروة تعظيمًا للصَّنمين، ويمسحونهما، فلما جاء الإسلامُ، وكُسرت الأصنام، فتحرَّجوا السعيَ بينَ الصفا والمروة لأجل الصنمين، فأذنَ الله فيه، وأخبرَ أنه من شعائر الله (١).
واختلفَ العلماءُ في حكم هذه الآية ووجوب السعي بينَ الصفا والمروة في الحجِّ والعمرة، فعند مالكٍ والشافعيِّ وأحمَد أنه ركنٌ لا يتمُّ الحجُّ إلا به، وعند أبي حنيفة أنه واجبٌ، وليس بركنٍ، وعلى من تركَهُ دمٌ.
﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ أي: من تبرَّع بما لم يجبْ عليه، وتقديرُه: بخيرٍ، فلما حُذفَ الجارُّ، تعدَّى الفعلُ، فنصبَ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (يَطَّوَعْ) بالياء وتشديد الطاء وجزم العين، بمعنى يتطوَّعْ (٢). وقرأ الآخرون: بالتاء وفتح العين على الماضي (٣).
(٢) في "ت": "يطوع".
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٨)، و"إعراب القرآن" للنحاس =
﴿عَلِيمٌ﴾ بنيته، والشكرُ من الله أن يعطيَ فوق ما يستحقُّ، يشكرُ اليسيرَ، ويعطي الكثيرَ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩)﴾.
[١٥٩] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ نزلت في علماء اليهود، كتموا صفةَ محمدٍ - ﷺ -، وآيةَ الرجم، وغيرَها من الأحكام التي كانت في التوراة (١).
﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ أي: يُبعدهم الله عن رحمته، وأصلُ اللعنِ: الطردُ.
﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ أي: يسألون الله أن يلعنهم يقولون: اللهم العنهم، واللاعنون الثقلان والملائكة، ثم استثنى فقال:
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٣٠)، و"العجاب" لابن حجر (١/ ٤١١).
[١٥٩] ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ أي: فبرحمة.
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ و (ما) صلة؛ كقوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [المائدة: ١٣].
﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ سَهَّلْتَ أخلاقَك حينَ خالفوك.
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ جافِيًا.
﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ قاسِيَهُ.
﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ لنفروا وتفرَّقوا عنك.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ تجاوزْ عن فِعلهم بأُحُدٍ.
﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ اشفعْ حتى أُشَفِّعَكَ.
﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ تطييبًا لقلوبهم.
﴿فِي الْأَمْرِ﴾ أي: أمرِ الحربِ؛ أي: خذْ ما عندَهم من الرأي فيما عرضَ لك فيما ليس عندك فيه وحيٌ.
﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ على فعلٍ بعدَ المشاورةِ، والعزمُ: هو عقدُ المرءِ على شيءٍ يريدُ كونَهُ.
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ لا على مشاورتهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ فينصرهم.
[١٦٠] ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ من الكفرِ، وأسلَموا.
﴿وَأَصْلَحُوا﴾ الأعمالَ بينهم وبينَ الله.
﴿وَبَيَّنُوا﴾ أي: أظهروا ما كَتَموا.
﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أتجاوزُ عنهم، وأقبلُ توبَتَهم.
﴿وَأَنَا التوَّابُ﴾ الرَّجَّاعُ بقلوبِ عبادي المنصرفةِ عني إليَّ.
﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم بعدَ إقبالهم عليَّ، والتوبة: حلُّ عَقْدِ الإصرارِ على الذنب وربطُ العزيمةِ بالقلبِ على البعدِ عن مقاربتهِ، مع الندمِ عليه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)﴾.
[١٦١] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من الكاتمين، ولم يتوبوا.
﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لأن الله تعالى يلعنُهم يومَ القيامة، ثم يلعنُهم الملائكةُ، ثم يلعنُهم الناسُ، والظالمُ يلعنُ الظالمينَ، ومن لعنَ الظالمين وهو ظالمٌ، فقد لعنَ نفسَه.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)﴾.
[١٦٢] ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ مقيمينَ في اللعنةِ، أو في النارِ.
[١٦٠] ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ﴾ يُعِنْكُم كيومِ بدرٍ.
﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ كيومِ أُحد، والخِذلانُ: القعودُ عن النصرةِ.
﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ بعدَ خذلانه.
﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ وحده.
﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فليخصُّوه بالتوكُّل.
عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله - ﷺ - يقولُ: "لَوْ أَنَّكمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تغدُو خِمَاصًا، وَتَروحُ (١) بِطَانًا" (٢).
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)﴾.
[١٦١] ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي: يخونَ. وقرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (يُغَلَّ) بضم الياء
(٢) رواه الترمذي (٢٣٤٤)، كتاب: الزهد، باب: في التوكل على الله، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٤١٦٤)، كتاب الزهد، باب: التوكل واليقين، والإمام أحمد في "المسند" (١/ ٣٠).
روي عن عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيِه، عن جدِّهِ: أَنَ رسولَ الله - ﷺ -، وأبا بكرٍ، وعمرَ رضي الله عنهما حرقوا متاعَ الغالِّ، وضربوه (٢)، واستدل الإمامُ أحمدُ بذلكَ، فقال في الغالِّ، وهو الذي يكتمُ ما أخذَهُ من الغنيمة، فلا يَطَّلِعُ الإمامُ عليه، ولا يضعُه مع الغنيمة: يجبُ حرقُ رَحْلِه كلِّه، إلا السلاحَ والمصحفَ والحيوانَ ونفقتَه، ويُعَزَّرُ، ويؤخذ ما غَلَّ للمغنم، ولا يُحْرَمُ سهمَه من الغنيمةِ، وخالفه الثلاثة في ذلك، وقالوا: يعزَّرُ فقط، ولا يُحرم سهمَه.
﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ﴾ أي: بإثمه.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لأنه عادل.
﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)﴾.
[١٦٢] ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ قرأ أبو بكرٍ: (رُضْوَانَ) بضم
(٢) رواه أبو داود (٢٧١٥)، كتاب: الجهاد، باب: في عقوبة الغال، والحاكم في "المستدرك" (٢٥٩١)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٩/ ١٠٢)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ لا يُمْهَلون (١) فيعتذرون.
ولما قالَ كفارُ قريشٍ لمحمدٍ - ﷺ - صِفْ لنا رَبَّكَ، نزلَ:
﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)﴾.
[١٦٣] ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾ مبتدأ، خبره:
﴿إِلَهٌ﴾ وصفة الخبر:
﴿وَاحِدٌ﴾ فردٌ لا نظيرَ له في ذاته، ولا شريكَ له في صفاته.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ تلخيصُه: الألوهيةُ مختصَّةٌ به.
ولما سمعَ المشركون هذهِ الآيةَ، قالوا له - ﷺ -: إن كنتَ صادقًا، فَأْتِ بآية يُعْرَفُ (٢) بها صدْقُك، فنزل:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)﴾.
[١٦٤] ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (٣) جمعَ السمواتِ؛ لأن كلَّ
(٢) في "ن": "نعرف".
(٣) انظر: "شعب الإيمان للبيهقي" (١٠٤)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٥)، =
﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي: تَعاقُبهما في الذهابِ والمجيء، والزيادةِ والنقصانِ، والنورِ والظلمة.
﴿وَالْفُلْكِ﴾ السُّفُن، واحده وجمعه سواء، فإذا أُريدَ به الجمعُ يؤنَّثُ، وفي الواحدة يُذَكَّر، قال الله تعالى في الواحدةِ والتذكير: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)﴾ [الصافات: ١٤٠]، وقال في الجمعِ والتأنيثِ: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ﴾ [يونس: ٢٢].
﴿الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ مُوقَرَةً لا ترسُبُ؛ أي: لا تجلس تحت الماء.
﴿بِمَا﴾ أي: بالذي.
﴿يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ من الحمل فيها، والركوبِ عليها.
﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ أي: مطر.
﴿فَأَحْيَا بِهِ﴾ أي: بالماء.
﴿الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي: يبسها.
﴿وَبَثَّ﴾ أي: فَرَّقَ.
﴿فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ لأن بثَّ الدوابِّ يكونُ بعدَ حياةِ الأرضِ بالمطر؛ لأنهم ينمونَ بالخصب، ويعيشون بالمطر، والدابَّهُ: كُلُّ ما يَدُبُّ.
﴿وَتَصْرِيفِ﴾ أي: وتَنْقيلِ.
﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ أي: المقيمِ المذَلَّلِ للرياح، سُمِّيَ سَحابًا؛ لأنه يُسْحَبُ؛ أي: يسيرُ في سرعة كأنه ينسحبُ؛ أي: يُجَرُّ.
﴿بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ تقلِّبه في الجوِّ كيفَ شاءتْ بمشيئة الله تعالى، فيمطِرُ (٢).
﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ينظرونَ بعقولهم، فيعلمون أنَّ لهذه الأشياء خالِقًا وصانِعًا، فيوحِّدونه، فبعدَ ثُبوتِ الألوهيةِ عَنَّفَ الكفارَ أَنْ عبدوا غيرَهُ، ووصفَ الأبرارَ فقال:
(٢) في "ن": "فتمطر".
﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ متحملًا له.
﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣)﴾.
[١٦٣] ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ أي: هم ذوو درجات.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ المعنى: المثابون والمعاقَبون متفاوتون في المنازلِ والجزاءِ يومَ القيامة.
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فيجازيهم.
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)﴾.
[١٦٤] ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ عربيًّا مثلَهم؛ ليفهموا عنه، وليَشْرُفوا به.
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ظاهر.
[١٦٥] ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ أي: المشركين.
﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ أي: أصنامًا يعبدونها.
﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ أي: يحبون آلهتهم كحبِّ المؤمنين لله تعالى، ثم فضَّلَ محبةَ المؤمنين (١) بقوله:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ من حبِّ الكفارِ الأندادَ؛ لأن المؤمنين لا يعدِلُون عن الله تعالى بكلِّ حالٍ، والكافرون يَعْدِلون عن أربابهم في الشدائد إلى الله تعالى، وإذا اتَّخذوا صَنَمًا، ثم رأوا أحسنَ منه، طرحوا الأولَ، واختاروا الثاني.
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (تَرَى) بالتاء خطابًا للنبي - ﷺ -، معناه: لو ترى يا محمدُ الذين ظلموا؛ أي: أشركوا، في شدةِ العذاب، لرأيتَ أمرًا عظيمًا. وقرأ الباقون: (يَرَى) بالياء، معناه: ولو يرى الذين ظلموا أنفسَهم عندَ رؤية العذابِ، لعرفوا مَضَرَّةَ الكفر. (٢).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١١٩)، و "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٢٧)، و"السبعة" لابن مجاهد (١٧٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٣٤)، و "الكشاف" للزمخشري (١/ ١٠٦)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٤٤)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٣٢).
[١٦٥] ثم أدخلَ همزةَ الاستفهام على الواو العاطفةِ الجملةَ بعدَها على محذوف، فقال: ﴿أَوَلَمَّا﴾ وتقديره: أفعلتم كذا، وقلتم حين ﴿أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ بأُحد بقتل سبعينَ منكم.
﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ ببدرٍ بقتلِ سبعينَ وأسرِ سبعينَ منهم.
﴿قُلْتُمْ﴾ تعجُّبًا.
﴿أَنَّى هَذَا﴾ أي: كيف خُذلنا ونحن مؤمنون.
﴿قُلْ هُوَ﴾ أي: الخذلانُ.
﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ لمخالفتكم النبيَّ - ﷺ -، وترِك المركز.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من النصرِ ومنعِه.
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)﴾.
[١٦٦] ﴿وَمَا﴾ مبتدأ؛ أي: والذي.
﴿أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ بأُحدٍ، خبرُه ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي: بعلمِه.
﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧)﴾.
﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ أي: القدرةَ الإلهيةَ والغلبةَ.
﴿لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ معناهُ: لرأوا وأيقنوا أنَّ القوةَ لله. قرأ أبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (إِنَّ القُوَّةَ)، و (إِنَّ الله) بكسر الألف فيهما على الاستئناف (٢).
﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ وتبدلُ من ﴿إِذْ يَرَوْنَ﴾.
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦)﴾.
[١٦٦] ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ هم الرؤساءُ المقتدَى بهم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (٣).
﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ هم الأتباع، وأصل التبرؤ: التخلُّص.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٢٨)، و"تفسير الطبري" (٣/ ٢٨٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٣٤)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٣٢).
(٣) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: ١٥٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٤٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٣٣).
﴿الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ﴾ أي: عنهم.
﴿الْأَسْبَابُ﴾ الوصُلاتُ التي كانت بينهم في الدنيا؛ من القرابات، والموالاة، والمخالَّةِ، وصارتْ عداوةً.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)﴾.
[١٦٧] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعني: الأتباع.
﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ رجعةً إلى الدنيا.
﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ أي: من المتبوعين.
﴿كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ اليومَ.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما أراهم العذاب كذلك.
﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ كتبرُّؤ (٢) بعضِهم من بعض.
﴿حَسَرَاتٍ﴾ نداماتٍ.
﴿عَلَيْهِمْ﴾ جمعُ حَسْرة.
﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ لأنهم خُلِقوا لها.
(٢) في "ن": "كتبري".
﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ أي: الذين نافقوا، وهم عبدُ الله بنُ أُبيٍّ وحلفاؤه حين انخزلوا عن أُحد.
﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أعداءَهُ.
﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ عن حرمِكم وأهليكم إنْ لم يكن للهِ.
﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ فأظهر تعالى كذبهم بقوله:
﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ لأنهم قبل ذلك لم يظهرْ منهم ما يدلُّ على كفرهم، فلما انخزلوا، ظهر.
﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يُضمرون خلافَ ما يُظهِرون من كلمةِ الإيمان.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (أَعْلَمْ بِمَا) بإسكان الميم عندَ الباء، وتقدم ذِكْرُ ذلك.
﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)﴾.
[١٦٨] ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ يعني: ابنَ أُبَيٍّ وأصحابَهُ قالوا ﴿لِإِخْوَانِهِمْ﴾ في النسبِ، لا في الدين، وهم شهداءُ أُحد.
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)﴾.
[١٦٨] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ (مِنْ) تبعيض؛ لأن ليس كلُّ ما فيها يؤكَلُ.
﴿حَلَالًا﴾ الحلال: ما لا يُعاقَبُ عليه، وهو ما أطلقَ الشرعُ فعلَه، مأخوذٌ منَ الحلِّ، وهو الفتحُ.
﴿طَيِّبًا﴾ طاهرًا من جميع الشُّبَهِ.
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ آثارَه وطرَقه. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وحفصٌ، ويعقوبُ، وقنبلٌ (خُطُوَاتِ) بضم الطاء حيثُ وقع، والباقون: بسكونها (١).
﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ مظهرُ العداوةِ بَيِّنُها، ثم ذكر عداوته فقال:
[١٦٩] ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ أي: الإثمِ، وأصلُه: ما يَسُوءُ صاحِبَهُ.
﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾ وهي أقبحُ المعاصي وأخبثُها.
﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من تحريمِ الحرثِ والأنعامِ وغيرِهما؛ لأنه لا علمَ لكم بذلك.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠)﴾.
[١٧٠] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ في تحليلِ ما حَرَّموا على أنفسِهم من الحرثِ والأنعامِ والبَحيرةِ والسائبةِ، والهاءُ والميم في (لَهُمْ) عائدةٌ على الناس في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا﴾.
﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ﴾ قرأ الكسائيُّ: (بَل نتَّبِع) بإدغام اللام في النون (١).
﴿مَا أَلْفَيْنَا﴾ وجَدْنا.
﴿عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ في التحريم والتحليل، قال الله تعالى:
﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ أي: كيف يَتَّبعون آباءهم، وآباؤهم ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ من الدِّين.
﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ وانصرفوا عن محمد.
﴿مَا قُتِلُوا﴾ قرأ هشام: (قُتِّلُوا) بتشديد التاء، والباقون: بالتخفيف (١).
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿فَادْرَءُوا﴾ فادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ برأيِكم وحِيَلِكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن الحذرَ يُنجي من القدر.
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)﴾.
[١٦٩] ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾ نزلتْ في شهداءِ بدرٍ، وقيل: في شهداءِ أُحدٍ: حمزةَ وأصحابِهِ. قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ بخلافٍ عنه (يَحْسَبَنَّ) بالغيب وفتح السين؛ أي: لا يحسبن النبي، وقرأ الباقون: بالخطابِ وكسر السينِ (٢)، والمراد به النبيُّ - ﷺ -، وقرأ ابن عامر (قتلوا) بتشديد التاء (٣).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"النشر في القراءاث العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٨٣).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٢٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٦٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٤٧)، و"التيسير" =
﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ من الجنة، وعنه - ﷺ -: "أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ كَطَيْرٍ خُضْرٍ أَوْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الجَنَّةِ أَيْنَ شَاءَتْ" (١).
﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)﴾.
[١٧٠] ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ من الشهادة والكرامة والفضيلة على غيرهم؛ لأنهم أحياءٌ مقرَّبون.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ إخوانِهم الذين بَقُوا بعدَهم ولم يُقْتلوا.
﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ المعنى: يفرحون يومَ القيامةِ بسلامةِ إخوانهم الذين بَقُوا بعدَهم حيثُ وصلوا إليهم آمنين.
﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)﴾.
(١) رواه الترمذي (٣٠١١)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٢٨٠١)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الشهادة في سبيل الله، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
ثم ضرب لهم مثلًا، فقال - جل ذكره -:
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)﴾.
[١٧١] ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ النَّعِيقُ: صوتُ الراعي بالغنم، وهي لا تسمعُ إلا صوتًا وزَجْرًا، ولا تفقَهُ شيئًا آخَرَ، وكذلك الكفارُ في دعاءِ النبيِّ لهم إلى الهداية، فمعنى الآية: مثلُكَ يا محمدُ في دعائِكَ الكفارَ إلى الهداية، وعدمِ هدايتهم، كمثلِ الذي يُصَوِّتُ.
﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ منه كالبهائم.
﴿إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ تلخيصُه: لا ينتفعُ الكفارُ بشيء من وَعْظِكَ يا محمدُ، وإن سمعوا صوتَكَ.
﴿صُمٌّ﴾ تقول العرب لمن يسمعُ ولا يعقلُ: كأنه أصمُّ.
﴿بُكْمٌ﴾ عن الخيرِ لا يقولونه.
﴿عُمْيٌ﴾ عن الهدى لا يُبْصرونه.
﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ الموعظةَ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)﴾.
[١٧٢] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ﴾ أي: حلالاتِ.
﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)﴾.
[١٧٢] ولما انصرفَ أبو سفيانَ نحو مكةَ بأصحابه، ندموا حيث لم يَسْتأصلوا النبيَّ - ﷺ - وأصحابَه، فأرادوا العودةَ لذلك، فأحبَّ النبي - ﷺ - أن يُرِيَ من نفسِه جَلَدًا وقوةً، فانتدبَ أصحابَه الذين كانوا معه في القتال للخروج في طلب أبي سفيانَ، فخرج - ﷺ - بمَنْ معه حتى بلغ حمراءَ الأُسْدِ على ثمانيةِ أميالٍ من المدينة، فَجَبُنَ أبو سفيان عن العودِ، فقال لِنُعَيْمِ بنِ مسعودٍ الأشجعيِّ، أو لركبٍ مَرَّ به: إذا رأيتم محمدًا وأصحابَه، فأخبروهم
(٢) رواه الدارمي في "سننه" (٢٤٠٨)، وابن حبان في "صحيحه" (٤٦٥٥)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٩/ ١٦٤)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ على نعمه.
﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.
ثم بين المحرَّماتِ فقال:
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)﴾.
[١٧٣] ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وهي ما لم تُدْرَكْ ذكاتُها مما (١) يُذْبَحُ. قرأ أبو جعفرٍ: ﴿الْمَيْتَةَ﴾ بالتشديد في كلِّ القرآن (٢).
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ أي: واستثنى الشارعُ من الميتةِ السمكَ والجرادَ، ومن الدَّمِ الكبدَ والطِّحالَ، فأحلَّهما.
﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ أي: جميعَ أجزائِه، فعبَّرَ عن ذلكَ باللحم؛ لأنه معظَمُهُ.
﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ أي: ذُكِر عليه اسمُ غيرِ الله، وهو ما ذُبِحَ للأصنامِ والطواغيتِ، وأصلُ الإهلالِ: رفعُ الصوتِ، وكانوا عندَ ذبحِهم لآلهتِهم يرفعون أصواتَهم بِذِكْرها.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٣/ ٣١٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٣٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٣٦).
﴿غَيْرَ﴾ نصبٌ [على] (٢) الحال.
﴿بَاغٍ﴾ أي: خارجٍ على السلطان، وأصلُ البغيِ: الفسادُ.
﴿وَلَا عَادٍ﴾ أي: عاصٍ بسفره، روي عن يعقوبَ الوقفُ بالياء على (بَاغِي) وَ (عَادِي) (٣)، وأصلُ العدوانِ: الظلمُ، فلا يجوزُ للعاصي بسفرِهِ أكلُ الميتةِ للضرورة، ولا الترخُّصُ برُخَصِ المسافرينَ عند الشافعيِّ، ومالكٍ، وأحمدَ، خلافًا لأبي حنيفة، واختلفوا في مقدارِ ما يحلُّ للمضطرِّ أكلُه من الميتة، فقال مالكٌ: يأكل حتى يشبعَ، وقالَ الثلاثةُ: يأكلُ مقدارَ ما يُمسِكُ رمقَهُ، وجوابُ (فَمَن):
﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي: لا حَرَجَ عليه في أكلِها.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لمن أكلَ في حالِ الاضطرار.
(٢) "على" لم ترد في جميع النسخ، والسياق يقتضيها.
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" (٢/ ٢٣١).
﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فنزل:
﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (١) أي: أجابوهما.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ أي: نالهم الجرحُ. وتقدم اختلافُ القرَّاء في فتح القاف وضمِّها.
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ بطاعتِهم للهِ ورسوله.
﴿مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا﴾ المعاصيَ.
﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ و (من) في ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ للتبيين، مثلها في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً﴾ [الفتح: ٢٩]؛ لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلُّهم واتقوا، لا بعضُهم.
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)﴾.
[١٧٣] ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ نُعيمٌ الأشجعيُّ، أو الرَّكْبُ:
﴿إِنَّ النَّاسَ﴾ أبا سفيانَ وأصحابَه.
﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ ليستأصلوكم.
﴿فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ﴾ القولُ ﴿إِيمَانًا﴾ يقينًا وقوةً؛ بأن أخلصوا النيةَ، وعزموا على الجهاد.
﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ كافِينا.
ونزل لمّا غَيَّرَ علماءُ اليهودِ صفةَ محمدٍ - ﷺ -؛ خوفًا على فواتِ رياسَتِهم ومآكلِهم التي كانوا يصيبونها من سِفْلَتِهم رجاءَ أن يكونَ النبيُّ المبعوثُ منهم (١):
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)﴾.
[١٧٤] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: صفةَ محمدٍ - ﷺ - ونبوَّتَهُ.
﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ أي: بالمكتوبِ.
﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ عوضًا يسيرًا، يعني: المآكلَ التي يصيبونها من سِفْلَتهم.
﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا﴾ ما يُؤَدِّيهم.
﴿النَّارَ﴾ وهو الرِّشْوَةُ والحرامُ، فلمَّا كان ذلكَ يُفضي بهم إلى النار، فكأنهم أكلوا النارَ.
﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بالرحمة، وبما يَسُرُّهم إنما يكلِّمُهم بالتوبيخِ.
﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ لا يُطَهِّرُهم (٢) من دَنسَ الذنوب.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلِم.
(٢) في "ن": "تطهيرهم".
﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)﴾.
[١٧٤] وروي أن أبا سفيان كان واعدَ النبيَّ - ﷺ - أن يلقاهُ ببدرٍ الصغرى، وكانت موضعَ سوقٍ لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كلِّ عام ثمانيةَ أيام، فلما كان العامُ القابل، جَبُنَ أبو سفيانَ عن الذهاب إلى بدرٍ، وذهب - ﷺ - بأصحابه، ومعهم تجاراتٌ، فكسبوا في (١) تجاراتهم، ولم يلقوا عدوًا.
﴿فَانْقَلَبُوا﴾ أي: رجعوا من بدر (٢).
﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ بسلامةٍ وربحٍ.
﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ شيء يسوؤهم.
﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ طاعةَ الله ورسولِه.
﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ أعطاهم ثوابَ الغزوِ، ورضيَ عنهم.
﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)﴾.
[١٧٥] ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ﴾ أي: القائلُ لكم:
(٢) "من بدر" ساقطة من "ن".
[١٧٥] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي: استبدَلُوا الكفر بالإيمان.
﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ قرأ السوسي، ورُوَيْسٌ (وَالعَذَاب بالمَغْفِرَةِ) (الكِتَاب بالحَقِّ) بإدغامِ الباء في الباء (١)، ثم أعجبَ من حالهم وملازمتِهم ما يُوجبُ لهم النارَ، فقال:
﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ وأصلُ الصبرِ: الإمساكُ في ضيقٍ.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)﴾.
[١٧٦] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: العذابُ مبتدأ، خبرُه:
﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾ أي: بسببِ أنَّ الله.
﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ أي: الكتبَ.
﴿بِالْحَقِّ﴾ بما لا شكَّ فيه ولا تناقضَ، فاختلفوا فيها، فآمنوا ببعضٍ، وكفروا ببعض.
﴿وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ﴾ خلافٍ.
﴿بَعِيدٍ﴾ عن الهدَى.
﴿الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي: يخوِّفُكم بأوليائه.
﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ أي: الشيطانَ وأولياءه.
﴿وَخَافُونِ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (وَخَافُونِي) بإثباتِ الياء حالةَ الوصل، ويعقوبُ يُثْبِتُها في الحالين (١).
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: مصدِّقين؛ لأن الإيمانَ يقتضي أن يقدَّمَ خوفُ الله على غيره.
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)﴾.
[١٧٦] ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ قرأ نافعٌ: بضم الياء وكسر الزاي من (أَحزنه) في جميع القرآن، إلا قولَه في الأنبياء: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ [الآية: ١٠٣]، وأبو جعفرٍ ضده، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي من حَزَنه يَحْزُنه (٢).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٨١)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٦٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٥٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٩١ - ٩٢)، و"النشر في القراءات =
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)﴾.
[١٧٧] ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ وهو كلُّ عملِ خيرٍ يُفضي بصاحبه إلى الجنة، وأصلُه: التوسُّعُ في فعلِ الخير. قرأ حمزةُ، وحفصٌ: (البِرَّ) بنصِب الراء، والباقون: برفعها، فمن قرأ بالرفع، جعل البرَّ اسمَ ليس، وخبرُها (أن تولوا)، ومن قرأ بالنصب، جعلَ (أن تولوا) الاسمَ (١).
﴿أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ المعنى: ليس البرُّ صلاتِكم إلى غير القبلة.
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ أي: وإنما البر. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ بتخفيفِ النون (٢)، ورفعِ الراء مبتدأ، خبرُه:
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٣٠)، و "التيسير" للداني (ص: ٧٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٤١)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٩٢)، و "الكشف" =
﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ أجمعَ.
﴿وَآتَى﴾ أي: أعطى.
﴿الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أي: حبِّ المال في حال صِحَّته ومَحَبَّتِهِ.
﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ أهلَ القرابة، وقَدَّمهم؛ لأنهم أحقُّ.
﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ هو المسافرُ، سُمِّي به لملازمتِهِ الطريقَ.
﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ المستَطْعِمين.
﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ المكاتبَين.
﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى﴾ أي: أعطى ﴿الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ فيما بينَهم وبينَ الله -عز وجل-، وفيما بينَهم وبينَ الناس.
﴿إِذَا عَاهَدُوا﴾ إذا وَعَدُوا (١) أَنْجزوا، وإذا حَلَفوا أو نَذَروا أَوْفَوا، وإذا قالوا صَدَقوا، وإذا ائْتُمِنوا أَدَّوْا.
﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ منصوبٌ على المدح، والعربُ تنصبُ الكلام على المدح والكرم؛ كأنهم يريدون إفرادَ الممدوحِ والمذمومِ، ولا يُتبعونه أولَ الكلام وينصبونه.
(١) في "ن": "توعدوا".
﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ أي: دينَه.
﴿شَيْئًا﴾ بمسارعتهم إلى الكفر.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا﴾ نصيبًا.
﴿فِي﴾ ثواب.
﴿الْآخِرَةِ﴾ فلذلك خذلهم، وجعلَ وبالَ كفرِهم راجعًا عليهم.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مع الحرمان من الثواب.
﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)﴾.
[١٧٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ استبدَلُوا.
﴿الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ وإنما يضرُّون أنفسهم.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تكريرٌ للتأكيد.
﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ المرضِ والزَّمانَةِ.
﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ القتالِ والحربِ.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ فيما عاهدوا ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ محارمَ الله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)﴾.
[١٧٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ﴾ فُرِضَ.
﴿عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ المساواةُ.
﴿فِي الْقَتْلَى﴾ والقصاصُ: المماثلةُ في الجراحِ والدِّيات، وأصلُه من قَصَّ الأثرَ: إذا تبَعَهُ، وهو أن يُفعل بالجاني مثلُ ما فَعل، وسببُ نزولها أنه كان بين حَيَّين في الجاهلية جراحاتٌ ودياتٌ لم تُسْتَوْفَ حتى جاءَ الإسلام، فأقسمَ أحدُ الحيينِ ليقتلنَّ (١) بالرجلِ الواحد الرجلينِ، فنزلَت (٢).
﴿الْحُرُّ﴾ مبتدأ، خبرُه تقديره: مأخوذ.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٣٠)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٢٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٥٦)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٤١)، و "التيسير" للداني (ص: ٧٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٣٨).
ونقل الزمخشريُّ في "كَشَافِه" أنَّ مذهبَ مالكٍ والشافعي لا يقتل الذكرُ بالأنثى؛ أخذًا بهذه الآية (٤)، وهو وهمٌ؛ فإن مذهبَهما يُقْتَلُ الذكرُ بالأنثى، وعكسُه، وقد صرَّحَ بذلك علماءُ المذهبَيْنِ في كتبهِم المبسوطاتِ والمختصراتِ.
﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي: تُرِكَ له، وصُفِحَ عنهُ من الواجِبِ عليه،
(٢) رواه أبو داود (٢٧٥١)، كتاب: الجهاد، باب: في السرية ترد على أهل العسكر، وابن ماجه (٢٦٨٥)، كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
(٣) في "ت": "النفس".
(٤) انظر: "الكشاف" للزمخشري (١/ ٢٤٦).
﴿فَاتِّبَاعٌ﴾ أي: على الطالبِ للدياتِ الاتباعُ.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ فلا يأخذُ منه أكثرَ من الدية، ولا يطالبُه بعنفٍ.
﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ﴾ أي: على المطلوبِ منه أداءُ الديةِ إلى وليِّ الدمِ.
﴿بِإِحْسَانٍ﴾ بلا مماطلةٍ ولا بَخْس، وهذا تأديبٌ للقاتل، ولوليِّ الدمِ.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: المذكورُ من العفوِ وأخذِ الدية.
﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ لأن القصاص كان حتمًا على اليهود، وحُرِّمَ عليهِمُ العفوُ والديةُ، وكانتِ الديةُ حَتْمًا على النصارى، وحُرِّمَ عليهم القصاصُ، فَخيِّرَتْ هذه الأمةُ بينَ الأمرين تخفيفًا ورحمةً.
﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ أي تجاوزَ ما شُرِعَ، فقتلَ الجانيَ بعدَ العفوِ وقَبولِ الدية، أو قتلَ غيرَ القاتلِ.
﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: بعدَ أخذِ الدية.
﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
[١٧٨] ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ قرأ حمزةُ هذا والذي بعده: بالخطاب وفتح السين، وقرأ الباقون: بالغيب وكسر السين، فمن قرأ بالغيب تقديرُه: ولا يحسبَنَّ الكفَّارُ، ومن قرأ الخطاب؛ يعني: ولا تحسبنَّ يا محمد (١).
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي: نُمهلُهم ونُخَلِّيهم مع إرادتهم.
﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ والإملاءُ: الإمهالُ والتأخير.
﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ نمهلُهم.
﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ نزلت في مشركي مكة.
قال - ﷺ -: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (٢).
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ
(٢) رواه الترمذي (٢٣٣٠)، كتاب: الزهد، باب: (٢٢)، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٤٠)، والحاكم في "المستدرك" (١٢٥٦)، عن أبي بكر -رضي الله عنه-.
[١٧٩] ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي: بقاءٌ؛ لأنه يزجُرُ عن القتل.
﴿يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ العقولِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: تنتهونَ عن القتل مخافةَ القَوَد. وفي معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ من الأمثالِ الدائرةِ على ألسُنِ الناس: القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)﴾.
[١٨٠] ﴿كُتِبَ﴾ أي: فُرِضَ.
﴿عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي: أسبابُه من الأمراضِ.
﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أي: مالًا.
﴿الْوَصِيَّةُ﴾ والفاء مقدرة؛ أي: فالوصيةُ رفع مبتدأ، خبرُه:
﴿لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ كانت فريضةً في ابتداء الإسلام، ثم نُسخت بآيةِ الميراثِ، وبقولِ النبيِّ - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" (١) ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: بالعدلِ، لا يزيدُ على الثلثِ، ولا يوصي لغنيٍّ ويدعُ الفقيرَ.
[١٧٩] ولما قال المشركون: يا محمد! تزعُم أن مَنْ خالفك فهو في النار، واللهُ عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة، واللهُ عنه راضٍ، فأخبرنا بمن يؤمنُ بكَ ومن (١) لا يؤمن بك (٢)، أنزل الله:
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ (٣) أيها المشركون من الكفر والنفاقِ.
﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أي: يبينَ المنافقَ من الطيب؛ أي: المؤمِن، فبان المنافقُ يوم أَحُدُ بتخلُّفهم عن الغزو. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبٌ: (يُمَيِّزَ) بضم الياء الأولى وتشديد الثانية للمبالغة؛ من مَيَّزَ يُمَيِّزُ، وقرأ الباقون: بالفتح والتخفيف؛ من مازَ يَميزُ، وهما لغتان (٤)، وأصل المَيْزِ: الفصلُ بينَ المتشابهات.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ لأنه لا يعلم الغيبَ أحدٌ غيرُه.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فيُطْلِعهُ على ما يشاء من غيبِهِ.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ بأن تصدِّقوهم.
(٢) "بك" ساقطة من "ن".
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٧٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٥٣).
(٤) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٨٢)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٠)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٦٩)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٥٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٨٨).
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)﴾.
[١٨٠] ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ﴾ يعني: البخلَ.
﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ والقراءة بالخطاب للنبيِّ - ﷺ -؛ أي: لا تحسبنَّ يا محمدُ بخلَ الذين يبخلون هو خيرًا.
﴿بَلْ هُوَ﴾ يعني: البخلَ.
﴿شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ أي: المال الذي منعوا زكاته؛ بأن يجعل حَيّهً تُطَوَّقُ في عنق مانعها.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ تنهشُه من قَرْنه إلى قدمِه.
﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لأنه الدائمُ الباقي بعدَ فناءِ خلقه وزوالِ أملاكهم، فيموتون ويرثُهم.
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فيجازيهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (يَعْمَلُونَ) بالغيب، وقرأ الباقونَ: بالخطابِ على الالتفات (٢)، وهو أبلغ في الوعيد.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٨٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٠)، =
﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ الله.
﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)﴾.
[١٨١] ﴿فَمَنْ﴾ شرطٌ مبتدأ.
﴿بَدَّلَهُ﴾ غَيَّرَ الإيصاءَ.
﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ أي: قولَ الموصي، والجوابُ:
﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ أي: حرجُ الإيصاءِ المبدَّلِ.
﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ والميتُ بريءٌ منه ثم تهدَّدَ المبدِّلَ بقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لِما وَصَّى به الموصي.
﴿عَلِيمٌ﴾ بتبديل المبدِّلِ.
﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)﴾.
[١٨٢] ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ أي: علم.
﴿مِنْ مُوصٍ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (مُوَصٍّ) بفتح الواو وتشديد الصاد؛ لقوله تعالى: ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: ١٣]، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾ [الأحقاف: ١٥]، وقرأ الباقون: بسكون
[١٨١] ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ نزلت لما قال اليهود عند سماعهم ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥]: إِنَّ اللهَ فقيرٌ يستقرضُ مِنَّا، ونحن أغنياءُ، والذي قالَ هذهِ المقالةَ من اليهود فنحاصُ بنُ عازوراءَ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وقالونُ عن نافعٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (لَقَدْ سَمِعَ) بإظهار الدال عند السين، والباقون: بالإدغام (١).
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ من الكذبِ في اللوحِ المحفوظِ، فيجازيهم عليه.
﴿وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أي: النار وهو معنى المُحرِق. قرأ حمزةُ: (سَيُكْتَبُ) بالياء وضمِّها وفتح التاء، (وَقَتْلَهُمْ): برفع اللام، (ويَقُولُ): بالياء، وقرأ الباقون: (سَنَكْتُبُ) بالنون وفتحها وضم التاء، (وَقَتْلَهُمُ): بالنصب، (ونَقُولُ): بالنون (٢).
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٨١)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٧)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٨٩).
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٨٢)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٨٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢١)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٦٩)، =
[١٨٢] فإذا أُلقوا في النار، يقال لهم: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: النازلُ بكم من العذاب.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ لأنه عادل لا يعاقب غير المسيء، ويثيب المحسنَ.
﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣)﴾.
[١٨٣] ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ يعني: وسمعَ اللهُ قولَ الذين قالوا:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أمرَنا في كتبِنا.
﴿أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ أي: لا نصدق رسولًا يزعُم أنه جاء من عند الله.
﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ فيكونَ دليلًا على صدقه، والقربانُ كلُّ ما يتقرَّبُ به إلى الله، وكان إذا قُرِّبَ قربانٌ إن قُبِل، جاءت نارٌ بيضاءُ فأحرقته، وإن لم يُقبل، بقيَ مكانه، وسبب نزولها أن كعبَ بنَ الأشرفِ وأصحابَه أتوا النبيَّ - ﷺ -، فقالوا: يا محمدُ! تزعم أن الله بعثك إلينا رسولًا،
﴿جَنَفًا﴾ أي: عُدولًا عن الحقِّ، وأصلُه: الميل.
﴿أَوْ إِثْمًا﴾ ظلمًا.
﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين الموصَى لهم.
﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي: على الحاضر أو وليِّ أمورِ المسلمينَ أن يأمرَ الموصِيَ بالعدل بينَ الموصَى لهم، أو يصلحَ بعدَ موتهِ بينَ ورثتِهِ وبينَ الموصَى له، ويردَّ الوصيةَ إلى العدلِ والحقِّ.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وعدٌ للمصلح.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)﴾. [١٨٣] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ﴾ أي: فُرِضَ.
﴿عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وأصلُه في اللغة: الإمساكُ، وفي الشرعِ: إمساكٌ عن أشياءَ مخصوصةٍ بنيَّةٍ في زمنٍ معيَّنٍ من شخصٍ مخصوصٍ. ثم بَيَّنَ أن
﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من الأنبياء والأممِ، وكان صيامُ مَنْ تقدَّمنا من العتمة إلى الليلة القابلة، وكان النصارى قد يقع صيامهم في الحرِّ الشديد، فيشُقُّ عليهم، فجعلوه في الربيع، وزادوه عَشْرًا كفارةً لِما صنعوا، ثم مرض ملكُهم فبرئ، فأتمَّهُ خمسين.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ما لم يَجُزْ شرعًا.
﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)﴾.
[١٨٤] ﴿أَيَّامًا﴾ ظرفٌ لكُتِبَ؛ كقولك (١): نويتُ الخروجَ يومَ الجمعة.
﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ مُوَقَّتاتٍ بعددٍ، وكان في ابتداء الإسلام صومُ ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ واجبًا، وصومُ عاشوراء، فَنُسِخَ بصيام رمضان، وأولُ ما نُسِخَ بعدَ الهجرةِ أمرُ القبلةِ والصومِ، وفُرِضَ رمضانُ في السنة الثانية من الهجرة إجماعًا، فصام -عليه السلام- تسعَ رمضاناتٍ إجماعًا.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ أي: راكب سفر.
﴿مِنْ أَيَّامٍ﴾ نعتٌ لعِدَّة.
﴿أُخَرَ﴾ غيرِ أيامِ مرضِه وسفرِه.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي: على الذين يقدرون على الصيام، وهم مَنْ (١) لا عذرَ له في الفطر، فعليه إن أفطر:
﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ لأنهم كانوا قد خُيِّروا في ابتداء الإسلام بينَ أن يصوموا وبينَ أن يفطروا ويفتدوا، فَنُسِخَ التخييرُ بقوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامر: (فِدْيَةُ طَعَامِ) بالإضافة (مَسَاكِينَ) على الجمع بألف (٢) بعدَ السين، وافقهم هشامٌ في جمع مساكين. وقرأ الباقون: (فِدْيَةٌ) منونةً (طَعَامُ) رفعٌ (مِسْكِينٍ) على التوحيد، فمن جمعَ، نصبَ النونَ، ومن وحَّدَ، خفضَ النونَ، ونَوَّنَها (٣)، وهي ثابتةٌ في حقِّ مَنْ كان يطيقُ في حالِ الشبابِ، ثم عجزَ لكبرِهِ، فله أن يُفطرَ ويفتديَ عندَ الثلاثة، وعندَ مالكٍ يفطرُ ولا فديةَ
(٢) في "ن": "بالألف".
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٣٦)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٢٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٧٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٩٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٨٢ - ٢٨٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٤٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٥٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٤٢).
﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ أي: زادَ على مسكينٍ واحدٍ، أو زادَ على الواجبِ عليه.
﴿فَهُوَ﴾ أي: فالتطوُّعُ.
﴿خَيْرٌ لَهُ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلف: (يَطَّوَّعْ) (١) أي: يَتَطَوَّعْ، ومحلُّ ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ رفعٌ مبتدأ، خبرُه:
﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي: والصيامُ خير من الفديةِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلكَ، والحاملُ والمرضِعُ إذا خافتا على وَلَدَيهما وأَنْفُسِهما، أَفْطَرتا، وقَضَتا (٢) بالاتفاق، ولا فديةَ عليهِما عندَ أبي حنيفةَ، والمشهورُ عن مالكٍ وجوبُ الفديةِ على المرضِعِ دونَ الحاملِ، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ إِنْ أفطرتا خَوْفًا على أنفسِهما، فلا فديةَ، أو على الولدِ لزمَتْهما الفديةُ، وأما المريضُ والمسافرُ والحائضُ والنفساءُ، فعليهمُ القضاءُ دونَ الفديةِ بالاتفاق.
ثم بين اللهُ تعالى أيامَ الصيام فقال:
(٢) في "ن": "وقضيا".
قال السُّدِّيُّ: قيل لبني إسرائيل: من جاءكم يزعمُ أنه نبيٌّ، فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكُله النار، إلا محمدًا وعيسى، فإذا أتيا، فآمنوا بهما؛ فإنهما لا يأتيان بقربان، قال الله تعالى إقامةً للحجة عليهم:
﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ﴾ يا معشرَ اليهود.
﴿رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي﴾ كيحيى وزكريا.
﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ فقتلتموهم.
﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ أي: قتلهم أسلافُكم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؟ معناه: تكذيبُهم مع علمِهم بصدقك؛ كقتل آبائهم الأنبياءَ مع إتيانهم بالقربان (٢).
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)﴾.
[١٨٤] ثم قال تعالى لنبيه - ﷺ -: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ أي: الصحف، جمعُ زبور؛ كرسول.
(٢) في "ن": "القربان". وانظر: "تفسير البغوي" (١/ ٤٥٨)، و"العجاب" لابن حجر (٢/ ٨٠٩).
[١٨٥] ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ سُمِّيَ الشهرُ شهرًا؛ لشهرتِه، وسُمِّيَ رمضانَ من الرَّمْضاء، وهي الحجارةُ المُحَمَّاةُ. قرأ أبو عمرٍو (شَهْر رَّمَضَانَ) بإدغام الراء في الراء (١)، ورفْعُهُ مبتدأ، خبرُه:
﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ جملةً واحدة في ليلةِ القدرِ من اللَّوْحِ المحفوظِ إلى بيتِ العِزَّةِ في سماءِ الدُّنْيا، ثم نزلَ به جبريلُ -عليه السلام- نجومًا في نَيِّفٍ وعشرينَ سنةً، وتقدَّمَ تفسيرُ معنى القرآن في الفصلِ الثامنِ أولَ التفسيرِ. قرأ ابنُ كثيرٍ (القُرَان) (وقُرَانًا) حيثُ وقعَ بفتحِ الراءِ غيرَ مهموز (٢).
وعن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- عن النبي - ﷺ - قال: "أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى فِي سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ إِنْجِيلُ عِيسَى فِي ثَلاَثَ عَشْرَةَ مَضَيْنَ مِنْ
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١٥٣)، و "التيسير" للداني (ص: ٧٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٤٤).
﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ من الضلالة.
﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ دلالاتٍ واضحاتٍ.
﴿مِنَ الْهُدَى﴾ ذكر أولًا أنه هُدًى للناس، ثم ذكر ثانيًا أنه بيناتٌ من الهدى؛ ليؤذن أنه من جملةِ ما هَدَى الله تعالى به.
﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ المفرِّقِ بين الحقِّ والباطِلِ.
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ أي: كان (٤) مقيمًا في الحضر.
﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ وأعاد قولَهُ:
﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ليعلم أنَّ هذا الحكمَ ثابتٌ في الناسخِ ثبوتَهُ في المنسوخ، واختلفوا في المرض الذي يُبيحُ الفطرَ، فقال أبو حنيفة ومالكٌ: يُباحُ بمطلَقِ المرضِ، وقالَ الشافعيُّ وأحمدُ: يُباحُ إذا خافَ ضرَرًا بزيادةِ مرضِه أو طوله، والسفرُ المبيحُ للفطرِ
(٢) في "ن": "مضين".
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٤/ ١٠٧)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٢/ ٧٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٢٤٨)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٦/ ٢٠٢)، عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١/ ١٩٧): فيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله ثقات.
(٤) "كان" ساقط من "ن".
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ حيثُ أباحَ الفطرَ بالمرضِ والسفرِ، واليُسْرُ: ما تسهل.
﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [العُسْرُ: ضدُّ اليسر، تلخيصُه: يريدُ أن يُيَسِّرَ عليكم ولا يُعَسِّرَ] (٤). قرأ أبو جعفر (اليُسُرَ والعُسُرَ) ونحوَهما بضمِّ السين حيثُ وقعَ، والباقون: بالسكون (٥).
﴿وَلِتُكْمِلُوا﴾ تقديرُهُ: يريدُ بكمُ اليسرَ، ويريدُ بكم لتكْمِلوا.
﴿الْعِدَّةَ﴾ بقضاءِ ما أفطرتُم في مرضِكم وسفرِكم. قرأ أبو بكرٍ،
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٣) رواه البخاري (١٨٤٤)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي - ﷺ - لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، ومسلم (١١١٥)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.
(٤) ما بين معكوفتين سقط من "ن".
(٥) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١٥٦)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ١١٤)، و "تفسير القرطبي" (١/ ٣٠١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٤)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٤٤).
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ أي: تُعَظِّموه حامِدينَ.
﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ أرشدَكم إلى ما رَضِيَ به من صومِ شهرِ رمضان.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لله -عز وجل- على نعمِه، والمرادُ بهذا التكبيرِ: هو تكبيرُ ليلةِ الفطرِ، وهو مستحَبٌّ، واختلفَ الأئمةُ في مُدَّته، فقال مالكٌ: يكبِّرُ في يومِ الفطرِ دون ليلته، وابتداؤه من أولِ اليوم إلى أن يخرجَ الإمامُ إلى الصلاة، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ من غروبِ الشمسِ ليلةَ الفطر، وانتهاؤه عندَ الشافعيِّ إلى أن يُحْرِمَ الإمامُ بالصلاة، وعندَ أحمدَ إلى فراغ الخطبة، وقال أبو حنيفة: يكبِّرُ للأَضْحى، ولا يكبِّرُ للفطر، وعند صاحبيه يُكَبِّرُ إذا توجَّهَ للصلاة، فإذا انتهى إلى المصلَّى، سقطَ عنه التكبيرُ، والتكبيرُ في الفطرِ مطلَقٌ غيرُ مقيَّدٍ بوقتٍ ولا مكانٍ، فيكبر في المساجد، والمنازل، والطرق، وغيرها، ولا يكبر عقبَ الصلواتِ المكتوبةِ، وأما صلاةُ العيدين، فهي (٢) فرضُ كفايةٍ عندَ أحمدَ وسُنَّةٌ عندَ الشافعيِّ ومالكٍ، وعندَ أبي حنيفةَ واجبةٌ على الأعيان، وليستْ فرضًا، ويأتي الكلامُ على
(٢) في "ت": "فهو".
(٢) في "ن": "وصفتهما".
(٣) "واتفق الشافعي" ساقطة من "ن".
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)﴾.
[١٨٥] ثم بَشَّرَ المؤمنين، وحذَّرَ الكافرين بقولِه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ المعنى: إن النفوس تزهقُ بملابسةِ أيسرِ جزءٍ من الموت.
﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ أي: جزاء أعمالكم.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ أُبْعِدَ.
﴿عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ ظَفِرَ بالنجاةِ، وأصلُ الفوزِ: الظَّفَرُ
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٨٥)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢١)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٨)، و"الكشف " لمكي (١/ ٣٧٠)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٥٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٩٢).
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)﴾.
[١٨٦] ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ منهُم بالعلمِ والإجابة. عن ابنِ عباسٍ قال: قالَ يهودُ المدينةِ: يا محمدُ! كيفَ يسمعُ دعاءنا ربُّنا وأنتَ تزعُم أن بيننا وبينَ السماء خمسَ مئةِ عامٍ، وأنَّ غلظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك؟ فنزلَتْ هذهِ الآيةُ، وفيه ضمارٌ تقديرُه: فقل لهم: إني قريب.
﴿أُجِيبُ﴾ أسمعُ للإجابة.
﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) بإثبات الياء فيهما وَصْلًا، بخلافٍ عن قالون. وقرأ يعقوبُ: بإثباتهما وَصْلًا ووَقْفًا، والباقون: بحذفِهما في الحالين (١).
وروي أن أعرابيًّا قالَ: يا رسولَ الله! أقريبٌ ربُّنا فَنُناجِيهِ، أَمْ بعيدٌ فَنُنادِيه؟ فنزل:
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ أي: فَلْيُجيبوا إذا دعوتُهم إلى الإيمان، والإجابة في اللغة: الطاعةُ، فالإجابةُ من الله: العطاءُ، ومن العبدِ: الطاعةُ، وحقيقتُه: فليطيعوني.
﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ لكي يهتدوا، والرُّشْدُ ضِدُّ الغَيِّ. قرأ وَرْشٌ: (وَلْيُؤْمِنُوا بِيَ) بفتح الياء (١).
وكانَ في ابتداءِ الإسلامِ يحرمُ (٢) الأكلُ والشربُ والجماعُ في رمضانَ بعدَ النوم وبعدَ صلاةِ عشاءِ الآخرةِ، ثم إنَّ عمرَ بنَ الخطاب -رضي الله عنه- واقعَ أهلَه بعدَ ما صلَّى العشاء، فلمَّا اغتسلَ، أتى النبيَّ - ﷺ -، واعتذرَ إليه، ثم قامَ رجالٌ فاعترفوا بمثلِه، فنزلَ في عمرَ وأصحابِه:
(٢) في "ن": "تحريم".
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ الباطل. المعنى: الانتفاعُ بالدنيا يسيرٌ، ثم يزولُ عن قريب.
﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)﴾.
[١٨٦] ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لَتُخْتبَرُنَّ و (اللام) للتأكيد، وفيه معنى القسم، و (النونُ) لتوكيد القسم.
﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ بالجوائحِ.
﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ بالموتِ والقتلِ ومفارقةِ الأهل.
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ اليهودِ والنصارى.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ مشركي العرب.
﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ طعنًا في ديِنكم، وسبًّا كسبِّ ابنِ الأشرفِ لكم ولنبيِّكم، وتشبيِبهِ بنسائكم.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ﴾ الصبرَ والتقوى.
[١٨٧] ﴿أُحِلَّ﴾ أي: أُبِيحَ.
﴿لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ ظَرْفٌ لـ "أُحِلَّ".
﴿الرَّفَثُ﴾ الجماعُ ومقدِّماتُه.
﴿إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ قال الزَّجَّاجُ: الرَّفَثُ: كلمةٌ جامِعَةٌ لكلِّ ما يريدُ الرجلُ من النساءِ (١).
﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ أي: ستر منَ النارِ بالتعفُّفِ.
﴿وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ واللباسُ: اسمٌ لكلِّ ما يستُرُ، فكأن كلَّ واحدٍ منهما سترًا لصاحبِهِ عمَّا لا يحلُّ، وجاءَ في الحديث: "مَنْ تزَوَّجَ، فَقَدْ أَحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينهِ" (٢).
(٢) قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: ٤٧٦): رواه ابن الجوزي في "العلل" عن أنس مرفوعًا، وقال: لا يصح. وهو عند الطبراني في "الأوسط" (٧٦٤٧)، بلفظ: "فقد استكمل نصف الإيمان.... "، وقال: لم يروه عن عصمة إلا زافر. ورواه البيهقي في "الشعب" (٥٤٨٦)، من حديث الخليل بن مرة، عن الرقاشي، ولفظه: "إذا تزوج العبد فقد كمل نصف دينه، فليتق الله في =
﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ وتظلمونَها بالمجامعةِ بعدَ العشاء.
﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ تجاوزَ عنكُمْ.
﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ مَحا ذنوبَكُمْ.
﴿فَالْآنَ﴾ ظرفٌ لقول:
﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ جامِعُوهُنَّ، وسُمِّيَتِ المجامعةُ مباشرةً لالتصاقِ بَشَرَتيهِما.
﴿وَابْتَغُوا﴾ اطلُبوا.
﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ في اللَّوْحِ المحفوظِ منَ الولدِ، وكان في ابتداءِ الإسلام إذا نامَ الإنسانُ أو صلَّى العشاءَ حَرُمَ عليهِ الطعامُ والشرابُ في صيامِ رمضانَ، فنزلَ رخصةً:
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ لياليَ الصِّيامِ.
﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ تَبَيَّنَ الشيءُ: ظهرَ.
﴿لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ هو أولُ ما يبدو من بَياضِ النهار كالخيطِ الممدود.
﴿مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ هو ما يمتدُّ من سواد الليل مع بَياض النهار، وشُبِّها بخيطين أبيضَ وأسودَ لامتداهما، والمرادُ: الفجرُ الثاني.
﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ قال رسول الله - ﷺ -: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (٢).
﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾ المباشرةُ: الجِماعُ، نزلَتْ فيمَنْ كان يعتكِفُ في المسجد، فإذا عَرَضَتْ له حاجةٌ إلى امرأته، خَرَجَ فجامَعَها، ثُمَّ اغتسلَ فرجعَ إلى المسجد.
بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر | ، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-. |
﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ﴾ مقيمون ناوونَ الاعتكافَ.
﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾ ولا يجوزُ الاعتكافُ في غيرِ المساجد (٢)، وهو سنَّةٌ بالاتفاق، وهو لزومُ مسجدٍ لطاعةِ الله تعالى على صفةٍ مخصوصةٍ من مسلمٍ عاقلٍ ولو مميزًا، طاهرٍ مما يوجبُ غسلًا، ولو ساعةً، ويجوزُ غيرَ صائمٍ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، خلافًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ -رضي الله عنهما-. المعنى: الجماعُ محرَّمٌ عليكم مدَّةَ اعتكافِكُمْ ليلًا ونهارًا، وهو مُفْسِدٌ له بالاتفاق، وما دونَ الجماعِ من المباشراتِ؛ كالقبلةِ واللمسِ بالشهوةِ، فمكروهٌ، ولا يفسِدُ الاعتكافَ عندَ الشافعيِّ، وقال مالكٌ: يبطل اعتكافه، وعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ: إنْ أنزلَ، بطلَ، وإلَّا فلا.
﴿تِلْكَ﴾ أي: الأحكامُ المذكورةُ وجميعُ المحرَّماتِ.
﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي: موانعُه، وأصلُ الحدِّ في اللغة: المنعُ، ومنهُ قيلَ للبواب: حَدّادٌ؛ لأنه يمنعُ الناسَ منَ الدخولِ. قرأ أبو عمرٍو (المَسَاجِد تَلكَ) بإدغام الدال في التاء.
﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ أي: فلا تأتوها.
﴿كَذَلِكَ﴾ هكذا.
(٢) في "ن": "المسجد".
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)﴾.
[١٨٧] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو بكرٍ عن عاصم: بالغيب فيهما؛ لقوله:
﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي: طرحوه وضيعوه، وقرأ الباقون: بالخطاب؛ أي: وقلنا لهم (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) (١).
﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ من حطامِ الدنيا.
﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ يختارون لأنفسهم. قال قتادةُ: هذا ميثاقٌ أخذَهُ الله تعالى على أهل العلم، من عَلِمَ شيئًا، فَلْيُعَلِّمْهُ، وإياكم وكتمَ العلم، قال - ﷺ -: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلجَامٍ مِنْ نَارٍ" (٢).
(٢) رواه أبو داود (٣٦٥٨)، كتاب: العلم، باب: كراهية منع العلم، والترمذي =
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)﴾.
[١٨٨] ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾ أي: لا يأكلْ بعضُكم من مالِ بعضٍ.
﴿بِالْبَاطِلِ﴾ من غيرِ الوجهِ الذي أباحَهُ اللهُ، وأصلُ الباطلِ: الشيءُ الذاهبُ. نزلَتْ في رجلين تخاصَما إلى النبي - ﷺ - في أرضٍ بينَهما، فأرادَ أحدُهما أن يحلِفَ على أرضِ أخيه (١).
﴿وَتُدْلُوا بِهَا﴾ أي: لا تُلْقوا بالأموالِ الرشوةِ، وأصلُ الإدلاءِ: إرسالُ الدَّلْو وإلقاؤه في البئر، يقال: أدلَى دَلْوَهُ: إذا أرسلَهُ.
﴿إِلَى الْحُكَّامِ﴾ قضاة السوء بإقامة شهادة الزور.
﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا﴾ أي: طائفةً.
﴿مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ أي: الظلمِ.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم مُبْطِلون.
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)﴾.
[١٨٨] ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ أي: بما فعلوا. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامر: بالغيب؛ أي: لا يحسبنَّ الفارحونَ فرحَهم مُنْجيًا لهم من العذاب، وقرأ الكوفيون، ويعقوبُ: بالخطاب؛ أي: لا تحسبَنَّ يا محمدُ الفارحين (١).
﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ نزلَتْ في المنافقين الذين كانوا إذا خرجَ رسولُ الله - ﷺ - إلى الغزو، تخلَّفوا عنه، فإذا رجعَ، حلفوا له، واعتذروا إليه، وأحبُّوا أن يُحْمَدوا بما (٢) لم يَفْعلوا (٣).
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: بالغيبِ وضمِّ الباءِ [خبرًا عن
(١) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٨٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٦ - ١١٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٦٧ - ٣٦٨)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٦٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢/ ٩٤).
(٢) في "ت": "لما".
(٣) رواه البخاري (٤٢٩١)، كتاب: التفسير، باب: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾، ومسلم (٢٧٧٧)، في أول كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ﴾ جمعُ ميقات؛ أي: معالِمُ.
﴿لِلنَّاسِ﴾ يعلمون بها أوقات زراعتهم ومتاجرهم.
﴿وَالْحَجِّ﴾ أي: يعلمون أوقات الحجِّ والعمرةِ والصيامِ والإفطارِ وغيرها، فلهذا خالف بينَهُ وبينَ الشمسِ التي هي دائمةٌ على حالةٍ واحدةٍ.
﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ كان المحرمُ جاهليةً وإسلامًا لا يدخُلُ بيتًا من بابه، بل يدخلُه من خلفِهِ، فإن كانَ حائطًا، نقبَهُ، أو يَتَّخِذُ سُلَّمًا يصعَدُ منه حتى يُحِلَّ من إحرامِه، ويرونَ ذلك بِرًّا، إلا أنَّ يكون من الحُمْسِ، وهم قريشٌ وكِنانةُ، فأنزل الله الآيةَ، وسُمِّيت قريشٌ حُمْسًا؛ لشجاعتِهم وتصلُّبِهم في دينهم (٣). قرأ ابنُ كثيرٍ، وقالونُ، وابنُ عامرٍ وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفُ (البِيُوتَ) و (بِيُوتًا) و (بِيُوتكم) (٤)
(٢) "الثالثة" ساقطة من "ن".
(٣) انظر "تفسير الطبري" (٢/ ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٦٧)، و"الدر المنثور" للسيوطي (١/ ٤٩٢).
(٤) في "ن": "بيوتهم".
﴿بِمَفَازَةٍ﴾ أي: بِمَنْجاة.
﴿مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بكفرِهم وتدليِسهم.
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)﴾.
[١٨٩] ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدِرُ على عقابهم.
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)﴾.
[١٩٠] ثم أومأ الله تعالى إلى الاعتبار بعجيبِ الصنعِ وكمالِ القدرةِ وتنزيهِ الخالق بما رُوي أنّ النبيَّ - ﷺ - كان يقولُ إذا قامَ من الليل بعدَ (٣) أن يتسوَّكَ ثم ينظرَ إلى السماء: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
(٢) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤٦٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٩٥).
(٣) "بعد" سقط من "ن".
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ ذلكَ وتجنَّبَهُ.
﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ حالَ الإحرامِ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تظفروا بالهدى والبر.
وأولُ ما نزلَ في أمرِ القتال:
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)﴾.
[١٩٠] ﴿وَقَاتِلُوا﴾ أي: و (٢) جاهدوا.
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: طاعتِهِ.
﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ كانَ في ابتداء الإسلام أُمِرَ رسولُ الله - ﷺ - بالكَفِّ عن قتالِ المشركين، ثم بعدَ الهجرةِ أُمر بقتالِ مَنْ قاتلَه منهم بهذه الآية.
(٢) الواو زيادة من "ت".
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ﴾ أي: لا يرضى فِعْلَ.
﴿الْمُعْتَدِينَ﴾ المتجاوِزينَ الحلالَ إلى الحرام.
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١)﴾.
[١٩١] ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: وجدتُموهم، وتمكَّنتم منهُم، وأصلُ الثقافة: الحذقُ في إدراكِ الشيءِ وفعله.
﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ من مكَّةَ؛ لأنهم أخرجوا المسلمين أولًا منها، ثم أَخرجَ - ﷺ - ثانيًا منها من لم يؤمنْ منهم يومَ الفتح، وكانوا يستَعْظِمون القتلَ في الحرمِ، ويُعَيِّرونَ بهِ المسلمينَ، فنزل:
﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ أي: شِرْكُهم بالله.
﴿أَشَدُّ﴾ أي: أعظمُ.
﴿مِنَ الْقَتْلِ﴾ الذي يحلُّ بهم منكم في الحرَمِ والإحرامِ.
﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (ولا تَقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ) بغير ألفٍ فيهن على معنى: ولا تقتلوا بعضَهم، تقولُ العرب: قتلْنا بني فلانٍ،
﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ذوي العقول.
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١)﴾.
[١٩١] ثم وصفهم فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ أي: مضطجعين. تلخيصُه: يُديمون ذكرَهُ؛ لأن الإنسانَ غالبًا يكونُ على هذه الأحوال.
﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: يذكرونه متفكِّرين.
﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما فيهما من العجائب؛ استدلالًا على القدرةِ العظيمةِ والحكمةِ الباهرةِ، والفكرةُ تُذهب الغفلةَ، وتُحدث للقلبِ الخشيةَ، ويقولون: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا﴾ أي: الخلقَ ﴿بَاطِلًا﴾ أي: عبثًا.
﴿سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ قرأ أبو عمرٍو: (النَّارِ) بالإمالة، ويدغمُ الراءَ في الراء التي بعدها.
﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ يفعل بهم مثل ما فعلوا.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)﴾.
[١٩٢] ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عنِ الشركِ والقتالِ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لما سلَفَ من ذنوبهم.
﴿رَحِيمٌ﴾ بعباده.
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)﴾.
[١٩٣] ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ أي: المشركين.
﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي: شركٌ، يعني: حتى يُسْلموا.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٤٣)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٢٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٧٩)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٤٩)، و "الكشف" لمكي (١/ ٢٨٥)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٥٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٦٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٠)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٦)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٥)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٤٩ - ١٥٠).
[١٩٢] ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ﴾ دخولَ تخليدٍ.
﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أَهَنْتهُ وفَضَحْتَهُ.
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ تخلِّصُهم منها.
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣)﴾.
[١٩٣] ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ أي: محمدًا - ﷺ -.
﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ لأنه لا شيءَ أعظمُ من النداءِ للإيمان.
﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ اقبضْ نفوسَنا واحشُرْنا في جملةِ النبيين والصالحين. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الأَبْرَارِ) بالإمالة، ورواه ورشٌ من طريق الأزرق بينَ بينَ، واختُلِفَ فيه عن حمزةَ، وابنِ ذكوانَ (١).
﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)﴾.
[١٩٤] ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾ دعاء بمعنى الخبر. تلخيصُه: اغفر لنا جميعَ ذنوبنا لتؤتينا ما وعدتنا.
﴿لِلَّهِ﴾ وحدَه، فلا يُعبد سواه، فلا يُقبل من غير الكتابي إلا الإسلامُ أو القتلُ.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن الشركِ.
﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾ لا ظلمَ.
﴿إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ المعنى: لا تظلموا إلا الظالمين غيرَ المنتهين، وسُمِّي جزاءُ الظالمينَ ظلمًا؛ لازدواجِ الكلام؛ كقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] تلخيصُه: من آمنَ سَلِمَ، ويسمَّى الكافرُ ظالمًا؛ لوضعِه العبادةَ في غير محلِّها.
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)﴾.
[١٩٤] ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ﴾ أي: المحرم.
﴿بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أي: مقابَلٌ به وبما فيه من قتالٍ وحجٍّ وغيرِهما. سببُ نزولها: أن رسولَ الله - ﷺ - خرجَ معتمِرًا في ذي القعدةِ سنةَ ستٍّ، فصَدَّه المشركون عن البيت بالحُدَيبية، فصالح أهلَ مكَّةَ على أن يرجعَ عامَهُ ذلكَ، ثم رجعَ فقضَى عُمرتَهُ في ذي القعدة أيضًا سنةَ سبعٍ من الهجرةِ، فنزلَتْ (١). تلخيصه: هذا الشهرُ بذلكَ الشهرِ.
﴿قِصَاصٌ﴾ مساواةٌ. المعنى: من هتكَ حرمةً، اقْتُصَّ منه بمثلِها، والهتكُ: خرقُ السترِ عمَّا وراءه.
﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ وقاتلوه.
﴿بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أي: جازوه بعقوبةٍ مماثلةٍ عقوبته، قال الله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠].
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ إذا انتصرتم ممَّنْ ظلمكم، فلا تظلموهُم بأخذِ أكثرَ من حَقِّكم.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ فيصلِحُ شأنَهم.
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)﴾.
[١٩٥] ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: الجهاد. سببُ نزولها البخلُ وتركُ الإنفاقِ في سبيل الله حينَ قالَ ناسٌ: لو أنفقْنا أموالنا، بقينا بلا أموال (١).
﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾ أصل الإلقاءِ: طرحُ الشيءِ حيث تراه، وعُبِّر عن الأنفسِ بالأيدي. المعنى: لا تطرحوا أنفسَكم.
﴿إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي: الهلاكِ بتركِ الإنفاقِ في سبيل الله، والعربُ لا تقولُ: ألقى بيدِهِ إلَّا في الشرِّ.
﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ ولا تُهِنَّا.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ بإثابةِ المؤمنِ، وإجابةِ الداعي، وتكريرُ ﴿رَبَّنَا﴾ مبالغةٌ في التضرُّعِ والابتهال، ومؤذِنٌ بالإجابة.
وعن جعفرٍ الصادقِ: "مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فقالَ: رَبَّنا خمسَ مَرَّاتٍ، أنجاهُ اللهُ مما يخافُ، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذهِ الآياتِ" (١).
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥)﴾.
[١٩٥] ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي﴾ أي: بأني ﴿لَا أُضِيعُ﴾ لا أُهْمِلَ.
﴿عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ أَيُّها المؤمنونَ.
﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ قالتْ أمُّ سَلَمَةَ: "يا رسولَ الله! إني أسمعُ الله يذكرُ الرجال في الهجرةِ، ولا يذكرُ النساء"، فأنزل الله هذه الآية (٢).
﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ في النُّصرةِ والموالاةِ.
(٢) رواه الترمذي (٣٠٢٣)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء، والطبري في "تفسيره" (٤/ ٢١٥)، وأبو يعلى في "مسنده" (٦٩٥٨)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٣/ ٢٩٤)، والحاكم في "المستدرك" (٣١٧٤).
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فيما يصدُرُ منهم.
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦)﴾.
[١٩٦] ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ وإتمامُهُما أن يؤتَى بهما تامين بمناسكِهما (١) وسُنَنِهما، واتفقَ الأئمةُ على وجوبِ الحجِّ على مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا، واختلفوا في العُمرة، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: هي واجبةٌ؛ لأنها قرينةُ الحجِّ في كتاب الله؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: هي سُنَّةٌ، وتأوَّلا قولَه تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ معناه: أَتِمُّوها إذا دخلتُم فيها، أما ابتداءُ الشروعِ (٢) فيها، فتطوُّعٌ.
واتفقَ الأئمةُ على جوازِ أداءِ الحجِّ على ثلاثةِ أوجُهٍ: الإفراد، والتمتُّعُ، والقِران.
فصورةُ التمتعُّ: أن يعتمرَ في أشهرِ الحجِّ، ثم بعدَ الفراغ من أعمالِ
(٢) في "ن": "الشرع".
وصورة الإفرادِ: أن يحجَّ، ثم بعدَ الفراغ منه يعتمرُ من خارجِ مَكَّةَ من أدنى الحِلِّ، وهو الأفضلُ عندَ مالكٍ والشافعيِّ.
وصورةُ القِرانِ: أن يحرمَ بالحجِّ والعمرةِ معًا، أو يحرمَ بالعمرةِ ثم يُدخلُ عليها الحجَّ قبل أن يطوفَ، فيندرج أفعالُ العمرةِ في أفعال الحجِّ، وهو الأفضلُ عندَ أبي حنيفة.
ويأتي الكلامُ على وجوبِ الحجِّ وشيءٍ من أحكامِه في سورة الحج عندَ تفسيرِ قوله تعالى ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧].
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أصل الإحصارِ: المنعُ، والمانعُ المبيحُ للمحرمِ التحلُّلَ ما كان بعدوٍّ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ ومالكٍ، وعندَ أبي حنيفةَ كلُّ ما صَدَّ عن الوصول إلى البيت؛ كعدوٍّ، ومرضٍ، وذهابِ نفقةٍ وراحلة، وتقديرُه: إن صُدِدتم عن الوصول إلى البيت.
﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ أي: فعليه ما تيسرَ.
﴿مِنَ الْهَدْيِ﴾ جمعُ هَدِيَّة، والهديُ: ما يُهْدَى إلى الحَرَم من نَعَمٍ وغيرِها تقرُّبًا إلى الله تعالى، والمرادُ هنا: النَّعَمُ، فأيسرُهُ شاةٌ، وأوسطُه بقرةٌ، وأعلاه بَدَنةٌ، فيتحلَّلُ المحرِمُ بذبحِ الهديِ وحَلْقِ الرأسِ حيث أُحْصرَ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ مالكٍ أن المحصَرَ بعدوٍّ لا يجبُ عليه هَدْيٌ، ويتحلَّلُ بدونه، وقال أبو حنيفةَ: يبعثُ بهديِه إلى الحَرَمِ، ويُقيم على إحرامِهِ، ويواعدُ مَنْ يذبحُهُ عنهُ، ثم يُحِلُّ. تلخيصُه: فإنْ مُنِعْتُم عن البيت مُحْرَمين، فعليكم إذا أردتم التحلَّلَ ما تَسَهَّلَ من الهَدْي.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ مَنْحَرَهُ الذي يُذْبح فيه، فيذبحُه حيثُ يحلُّ، وتقدَّم قريبًا ذكرُ اختلافِ الأئمة في محلِّهِ.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ في جَسده.
﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ من هَوامّ أو صُداعٍ صراع (١) أو جراحةٍ (٢).
المعنى: يثبتُ على إحرامِه من غيرِ حلقٍ حتى يذبَحَ هَدْيَه، إلا أن يُضْطَرَّ إلى الحلق، فإن فعلَ ذلك (٣) للضرورةِ ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ أي: فعليه فديةٌ، نزلتْ في كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ حينَ رآه رسولُ الله - ﷺ - وَهَوامُّهُ تسقطُ على وجهه، فقال: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ "، فأمره رسولُ الله - ﷺ - بالحلق والفدية، وهو بالحديبية (٤).
﴿مِنْ صِيَامٍ﴾ أي: صيامِ ثلاثةِ أيامٍ بالاتفاق.
﴿أَوْ صَدَقَةٍ﴾ يُطعمها لستةِ مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ من طعام عندَ الثلاثة، وعندَ أحمدَ مُدُّ بُرٍّ، أو نصفُ صاعِ تمرٍ أو شعيرٍ.
﴿أَوْ نُسُكٍ﴾ جمعُ نَسيكة، وهي ذبيحةُ شاةٍ بالاتفاق، واتفقوا على أنه مخيَّرٌ بين الصيام والذبح والتصدُّق؛ لأن (أو) للتخيير.
(٢) "جراحة" ساقطة من "ن".
(٣) "ذلك" زيادة من "ن".
(٤) رواه البخاري (٣٩٢٧)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (١٢٠١)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم.
﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ من خوفكم، وبرئْتُم من مرضِكم.
﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾ ومعنى التمتع ﴿بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ في قول ابن عباسٍ وعطاءٍ وجماعةٍ: هو الاستمتاعُ بعدَ الخروجِ من العمرةِ بما كان محظورًا عليه في الإحرام إلى وقتِ إحرامِه بالحج، وقيل: هو الاستمتاعُ والانتفاعُ بالتقرُّبِ بها إلى الله تعالى قبلَ الانتفاعِ بالتقرُّب إلى الله تعالى بالحج (١)، ﴿فَمَنْ﴾ شرطٌ محلُّه رفعٌ ابتداء، وجوابُه:
﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي: عليه دمٌ، شاةٌ يذبحُها، لأنه ترفق بأداء النُّسكين في سَفْرَةٍ واحدةٍ، وكذا القارنُ بشرطِ ألَّا يكون (٢) من حاضري المسجدِ الحرامِ بالاتفاق، ويلزمُ دمُ التمتُّع بطلوعِ الفجرِ يومَ النحر عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، وعند مالكٍ والشافعيِّ بإحرامِ الحجِّ، وإذا وجبَ، جازَ
(٢) في "ن": "أن يكون".
ولوجوب الدم على المتمتع عند أَحمدَ سبعةُ شروط: أحدهما: ألَّا يكونَ من حاضري المسجد الحرام، والثاني: أن يعتمرَ في أشهر الحجِّ، والعبرةُ بالشهرِ الذي أحرم فيه، لا بالذي حَلَّ فيه، الثالث: أن يحجَّ من عامِهِ، الرابع: ألَّا يسافر بين العمرة والحج مسافةَ قصرٍ فأكثرَ، الخامسُ: أن يحلَّ من العمرة قبلَ إحرامه بالحجِّ، السادسُ: أن يحرمَ من الميقات أو من مسافةِ قصرٍ فأكثرَ من مكةَ، السابع: أن ينويَ التمتُعَّ في ابتداء العمرة، أوْ أثنائها، ولا يُعتبر وقوعُ نسكين عن واحدٍ، فلو اعتمر لنفسِه، وحجَّ عن غيره، أو عكسه، أو فعل ذلك عن اثنين، كان عليه دمُ المتعة.
وعندَ الشافعيِّ أربعةُ شروطٍ: الثلاثةُ الأُوَلُ، والرابعُ: ألَّا يعود إلى ميقاتِ بلدِه لإحرامِ الحجِّ.
وعند مالكٍ خمسةُ شروط: ألَّا يكونَ من حاضري المسجد الحرام، الثاني: أن يخرجَ من العمرة ولو آخرها في أشهر الحج، ولو أحرمَ قبلَها؛ كما لو أحرمَ في رمضانَ، وأكملَ سعيَهُ بدخولِ شوال، الثالث: ألَّا يعود إلى أُفُقِه أو مِثله؛ بخلاف لوْ عاد مثلُ (١) المصريِّ إلى نحوِ المدينة، الرابع: أن يكونا عن واحد؛ بأن تكونَ العمرةُ والحجُّ عن نفسه، أو عمَّن استنابَه، أما لو كان أحدُهما عن نفسه، والآخر عن غيره، سقط الهدي، الخامس: أن يكونا في عامٍ.
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ الهدي.
﴿فَصِيَامُ﴾ أي: فعليه صيامُ.
﴿ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ أي: في وقته وأشهُرِه، فيصوم يومًا قبلَ التروية، ويومَ التروية، ويومَ عرفةَ، وهذا هو الأفضلُ عند أبي حنيفة وأحمدَ، وعند مالكٍ والشافعيِّ يُستحبُّ أن يصومَ الثلاثة قبلَ يوم عرفة؛ لأن صومه يُضعفه عن الدعاء، فإن صامه، أجزأه، ويجوزُ الصومُ قبلَه بعد الإحرام بالعمرة عندَ أبي حنيفة وأحمدَ، وعند مالكٍ والشافعيِّ بعدَ الإحرام بالحج، ولا يجوزُ صومُ هذه الثلاثةِ في أيام التشريق عندَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، وقال مالكٌ وأحمدُ: يجوز، لأن نهيه -عليه السلام- عن صيام أيام منى معناهُ التطوعُ، وهذا واجبٌ.
﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ إلى أهليكم وبلدكم، فلو صامها قبلَ الرجوع، لم يجزْ في الأظهر من مذهبِ الشافعيِّ، وقالَ الثلاثةُ: يجوزُ صومُها قبلَ
﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ في الثوابِ والأجرِ، أو ذكرَها على وجه التأكيد، وهذا لأنَّ العربَ ما كانوا يهتدون إلى الحساب، فكانوا يحتاجون إلى فَضْلِ شرح وزيادةِ بيانٍ، وكلُّ واحدٍ من صومِ الثلاثةِ والسبعةِ لا يجبُ فيه التتابعُ بالاتفاق، وإذا فاتَ صومُ الثلاثة أيامٍ حتى أتى يومُ النحر، فعندَ أبي حنيفة لم يجزهِ إلا الدمُ، ولا يجوزُ أن يصومَ الثلاثةَ ولا السبعةَ بعدَها.
وعند مالكٍ والشافعيِّ إذا فاتَ صومُها في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه، وعند أحمد إن لم يصمها في أيام منى صام بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم مطلقًا، ويلزمه التفريق من الثلاثة والسبعة عند الشافعي، وعند أحمد لا يلزمه، وعند مالك إن شاء وصل الثلاثة بالسبعة، وإن شاء فرقها منها.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: هذا الحكم الواجب من الهدي أو الصيام عند مالك والشافعي وأحمد.
﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وذلك عند أبي حنيفة وأصحابه، إشارة إلى التمتع، فلا متعة ولا قران عندهم لحاضري المسجد الحرام، فمن تمتع وقرن منهم فعليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه، واختلفوا في حاضري المسجد الحرام؛ فعند أحمد: هم أهل مكة، ومن كان من آخر الحرم دون مسافة القصر، وعند الشافعي: من كان وطنه من الحرم أقل من مسافة القصر، وعند أبي حنيفة: أهل المواقيت فما دونها، وعند مالك: أهل مكة فقط.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أداء الأوامر.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ على ارتكاب المناهي.
﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ أي: قاتلوا العدوَّ، ثم قُتلوا. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: (وَقُتِّلُوا) بالتشديد؛ أي: قُطِّعوا في المعركة، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ بتقديم (قُتِلُوا)؛ أي: قُتِلَ بعضُهم، وقاتلَ مَنْ بقي، وقرأ الباقونَ بالوجه الذي تقدَّم تفسيرُه أولًا (١).
﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا﴾ نصبٌ على المصدر؛ أي: لأثيبنَّهُمْ ثوابًا.
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ على الطاعة.
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾.
[١٩٦] ولما قال بعض المؤمنين: إن أعداءَ الله في التجاراتِ والخيرِ، ونحن في الشدةِ، نزلَ خطابًا للنبي - ﷺ -، والمرادُ غيرُه: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ قرأ رسٌ عن يعقوبَ: بتخفيف النون (٢).
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٨٧)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ٢٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٩٩).
[١٩٧] ﴿الْحَجُّ﴾ مبتدأ، خبره:
﴿أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أي: وقته أشهر وهو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عند أبي حنيفة وأحمد، وعند الشافعي: وتسعة من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وعند مالك: وجميع ذي الحجة، فمن قال: عشر، عبَّر به عن الليالي، ومن قال: تسعة، عبَّر به عن الأيام، فإن آخر أيامه يوم عرفة وهو التاسع، وإن من قال: أشهر بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث على قول الأئمة الثلاثة لأنها وقت والعرب تسمي الوقت تامًّا بقليله وكثيره، فتقول: زرتك العام، وإنما زاره في بعضه، فالميقات: زماني ومكاني، فالزماني للحج وهو ما تقدم آنفًا، وأما العمرة: فتصح في جميع السنة بالاتفاق فلو أحرم بالحج قبل أشهر صح، وانعقد عند الثلاثة، وقال الشافعي ينعقد عمرة مجزية عن عمرة الإسلام، وأما المكاني: فميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وهو اسم لجميع الوادي وهو من المدينة على نحو ستة أميال وبينه وبين مكة نحو عشرة أيام، وميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، واسمها في الأصل: مهيعة، وسميت جحفة لأن السيل جحف أهلها؛ أي: استأصلهم، وهي قرية بينها وبين مكة نحو أربعة أيام، وميقات أهل نجد اليمن ونجد الحجاز والطائف قَرْبه بإسكان الراء، ويُسمى قرن المنازل، وقرن الثعالب، وهو جبل مشرف على عرفات، وميقات أهل اليمن يلملم، وميقات أهل المشرق كخراسان
﴿فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ بالإحرام والتلبية.
﴿فَلَا رَفَثَ﴾ أي: لا جماع فيه.
﴿وَلَا فُسُوقَ﴾ كل أنواع المعاصي فسوق.
﴿وَلَا جِدَالَ﴾ لا خصام.
﴿فِي الْحَجِّ﴾ بأن يقول بعضهم: الحج اليوم، ويقول بعضهم: الحج غدًا. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب ﴿فلا رفثٌ ولا فسوقٌ﴾ بالرفع والتنوين فيهما ﴿ولا جدالَ﴾ بالنصب من غير تنوين. وقرأ أبو جعفر الثلاثة بالرفع والتنوين. وقرأ الباقون بالنصب من غير تنوين في الثلاثة، فالقراءة بالرفع والتنوين إخبار بمعنى النهي؛ أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، وبالنصب من غير تنوين نفي، تلخيصه: لا تفعلوا ما نهيتم عنه.
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: برٍّ وطاعة.
﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ أي: لا يخفى عليه.
﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ ما تتبلغون به ويقيكم عن السؤال وغيره. نزلت فيمن كان يحج بلا زاد ويقل على الناس.
﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ أي: اجعلوا زاد الحج الطعام، وزاد الآخرة التقوى.
﴿وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يا ذوي العقول، فمن من لم يتقه فليس بذي لبٍّ، قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر (واتقوني) بإثبات الياء حالة الوصل، وأثبتها يعقوب وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون فيهما.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ بالتجاراتِ ووجوهِ المكاسبِ.
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧)﴾.
[١٩٧] ﴿مَتَاعٌ﴾ أي: فتقلُّبهم متاعٌ ﴿قَلِيلٌ﴾ وبُلْغَةٌ يسيرةٌ في الدنيا.
﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ﴾ مصيرُهم.
﴿جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفِراشُ.
﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨)﴾.
[١٩٨] ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ قرأ أبو جعفرٍ: (لَكِنَّ) بتشديد النون، والباقون: بتخفيفها (١).
﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا﴾ جزاءً وثوابًا.
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ من متاعِ الدنيا.
[١٩٨] ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي: إثم، وأصله من الجنوح، الميل عن القصد.
﴿أَنْ تَبْتَغُوا﴾ أي: تقصدوا.
﴿فَضْلًا﴾ أي: رزقًا وتفضلًا، وهو الربح في التجارة.
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في مواسم الحج. نزلت لما تأثم المسلون من التجارة أيام الحج.
﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ﴾ دفعتم، أصل الإفاضة الدفع بكثرة، من أفاض الرجل ماءه.
﴿مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ جمع عرفة، جمع بما حولها، وإن كانت بقعة واحدة، وهي اسم علم للموقف، سميت به لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام، فلما رآها عرفها. وقيل: إن آدم -عليه السلام- لما أهبط وقع بالهند وحواء بجدة، فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة، وتعارفا، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات، وقيل غير ذلك.
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالدعاء والتهليل والتلبية.
﴿عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ أي: بالقرب منه، وهو ما بين جبلي مزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر، وجميع المزدلفة موقف إلا المحسر،
﴿وَاذْكُرُوهُ﴾ بالتوحيد ذكرًا حسنًا.
﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ لدينه ومناسك حجه.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: قبل الهدى.
﴿لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ الجاهلين بعبادته وذكره.
﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)﴾.
[١٩٩] ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمْس يقفون بالمزدلفة ترفعًا على الناس لئلا يساووهم في الموقف والناس بعرفات، فنهوا عن ذلك بقوله ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ والمراد بالناس: جميع الناس إلا الحمْس.
﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر ذنب المستغفر وكان رسول الله - ﷺ - من الحمْس، ولكنه يقف مُذْ كان بعرفة هداية من الله.
[١٩٩] ونزل في مؤمني أهل الكتاب؛ كعبدِ الله بنِ سلامٍ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ أي: القرآن.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي: التوراة.
﴿خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ أي: متواضعينَ له.
﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ المكتوبةِ في التوراةِ من نعتِ النبي - ﷺ -.
﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ من حُطامِ الدنيا خوفًا على الرئاسة كغيرهم من اليهود.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ لا يحتاجُ إلى كَتْبِ يدٍ ولا وَعْيِ صدْرٍ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)﴾.
[٢٠٠] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ على دينكم فلا تتركوه لشدةٍ ولا رَخاءٍ.
﴿وَصَابِرُوا﴾ غالِبوا الكفارَ بالصبرِ.
﴿وَرَابِطُوا﴾ اثبتوا في الثغور رابطينَ خيولَكُم، وأصلُ الرَّبْطِ: الشَّدُّ، ويستعملُ لكلِّ مقيمٍ في ثغرٍ يدفَع عَمَّنْ وراءه، وإنْ لم يكنْ ثَمَّ خَيْلٌ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ تَرَجٍّ في حقِّ البشر، قال - ﷺ -:
[٢٠٠] ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ جمع منسك، أي: إذا فرغتم من عباداتكم، وذبحتم ذبائحكم بعد رمي جمرة العقبة، قرأ أبو عمرو ﴿مناسككم﴾ بإدغام الكاف الأولى في الثانية، ولم يدغم من المثلين في كلمة إلا موضعين لا غير، أحدهما هذا، والثاني في المدثر ﴿ما سلككم﴾ وأظهر ما عداهما نحو ﴿جباههم﴾ و ﴿وجوههم﴾ و ﴿بشرككم﴾ و ﴿أتحاجوننا﴾ و ﴿أتعدانني﴾ وشبهه.
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالتكبير والثناء عليه.
﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ لأن العرب كانت إذا فرغت من حجها وقفت مفاخر آبائها.
﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ أي: وأكثر.
﴿ذِكْرًا﴾ ثم أومأ إلى اختلاف أغراض الخلق بقوله تعالى:
﴿فَمِنَ النَّاسِ﴾ يعني المشركين.
﴿مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ كانوا لا يسألون الله في الحج إلا الدنيا، يقولون: اللهم أعطنا غنمًا وإبلًا وبقرًا وعبيدًا وغير ذلك.
﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ نصيب خير.
[٢٠١] ﴿وَمِنْهُمْ﴾ يعني المؤمنين.
﴿مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ العلم والعبادة، قرأ أبو عمرو ﴿يقول ربنا﴾ وشبهه حيث وقع بإدغام اللام في الراء.
﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ الجنة. وعن علي رضي الله عنه: "الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء".
﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ كل ما يبعد عن الله؛ لأنه سبب العذاب، وقيل: امرأة السوء. وتلخيصه: أكثروا ذكر الله، وسلوه سعادتكم في داريه.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢)﴾.
[٢٠٢] ﴿أُولَئِكَ﴾ أي المؤمنين.
﴿لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ حظ.
﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ دعوا، ويسمى الدعاء كسبًا؛ لأنه عمل، والعمل يوصف بالكسب، المعنى: لهم جزء من جنس عملهم.
﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ إذا حاسب لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا نظر وفكر، بل أسرع من لمح البصر سبحانه وتعالى.
[٢٠٣] ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالتكبير عقب الصلوات، وعند رمي الجمرات يكبر مع كل حصاة.
﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هي أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، سميت معدودات لقلتهن كقوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠].
والتشريقُ: التكبيرُ، وهو في الأضحى (١) مطلَقٌ كما تقدَّمَ في الفِطْر، ومقيَّدٌ عَقِبَ الصلواتِ، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ يكبر دُبُرَ كُلِّ فريضةٍ صَلَّاها في جماعة، وعندَ مالكٍ يكبرُ عقبَ الفرائض، ولو منفردًا، وعندَ الشافعيِّ عقبَ كلِّ صلاةٍ، فريضةً كانتْ أو نافلةً، منفردًا صلاها أو في جماعة.
وهذا التكبيرُ مسنونٌ عندَ الأئمةِ الثلاثة، واجبٌ عندَ أبي حنيفةَ.
واختلفوا في ابتدائه وانتهائه، فقال أبو حنيفةَ: يبتدئُ عقبَ صلاةِ الفجرِ يومَ عرفةَ إلى أن يكبرَ لصلاةِ العصر يومَ النحر، ثم يقطعُ.
وقال مالك: يبتدئ عقبَ صلاةِ الظهر من يوم النحر، ويختمُ بعدَ الصبح من آخر أيام التشريق.
ولا فرق عندهما بينَ المحرِمِ وغيرِه.
وقال الشافعيُّ: يكبرُ الحاجُّ من ظهر النحر، ويختمُ بصبح أيام التشريق، وأما غيرُ الحاجِّ، ففيه خلاف، والذي عليه العملُ عند المحققين
وقال أحمد: ابتداؤه للمُحِلِّ من صلاةِ الفجرِ يومَ عرفةَ، وللمُحْرِم من، صلاةِ الظهرِ يومَ النحر؛ لأنه كان مشغولًا قبلَ ذلك بالتلبية، وانتهاؤه عقبَ صلاةِ العصر من آخر أيام التشريق مطلقًا.
وتقدم اختلافُهم في التكبير للفطر عندَ تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ١٨٥].
وأما صفةُ التكبيرِ، فعندَ الشافعيِّ: الله أكبرُ ثلاثًا نَسَقًا في الأول، ثم يهلِّلُ، ويشفَعُهُ، ثم يقول: ولله (١) الحمد.
وعند أبي حنيفةَ وأحمدَ: يشفعُ التكبير في أوله وآخرِه، وصفتُه: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وعن مالك كالمذهبين، وكلاهما جائز عنده، والله أعلم.
﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ﴾ أي: فمن عَجِلَ وطلبَ الخروجَ من مِنًى.
﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ نفرَ في اليوم الثاني من أيام التشريق، فتركَ المبيتَ بمنىً في الليلة الثالثة، وهذا النَّفْرُ الأول.
﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ بتعجيلِه؛ لأنه مرخَّص له في ذلك.
﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ حتى نفر في اليوم الثالِث، وهو أفضلُ، وهذا النَّفْرُ الثاني.
﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ بتركِ الترخُّصِ. تلخيصه: هم مخيَّرون بينَ نفرين، وإن كان المتأخِّرُ أفضلَ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ للجزاءِ، وأصلُ الحشرِ: الجمعُ وضَمُّ المتفرِّقِ.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤)﴾.
[٢٠٤] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾ يَروقُكَ ويعظُمُ في قلبكَ.
﴿قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: يَسُرُّكَ ما يقولُه في معنى الدنيا؛ لأن دعواهُ مَحَبَّتَكَ إنما هو لطلب حَظٍّ من الدنيا. قرأ أبو عمرٍو: (يَعْجِبُك قَوْلُهُ) بإدغام الكاف في القاف. نزلتْ في الأخنسِ بِن شَرِيقٍ الثقفيِّ، وكان حلوَ الكلامَ، يَلْقى النبيَّ - ﷺ - ويحلِف له أنه يحبُّهُ، ويظهر الإسلامَ، وكان منافقًا (١).
﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي: يقول: اللهُ شاهدٌ على ما في قلبي من مَحَبَّتِكَ، ومن الإسلامِ.
﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي: هو شديدُ الجِدالِ والعداوةِ للمسلمين.
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)﴾.
﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ بعمل المعاصي.
﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ بقطعِ الرَّحِمِ وسفكِ دماءِ المسلمين.
﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ الزَّرع.
﴿وَالنَّسْلَ﴾ ولدَ آدمَ والحيوانَ.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ﴾ أي: لا يرضى.
﴿الْفَسَادَ﴾ فاحذروا غضَبه عليه.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦)﴾.
[٢٠٦] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ أي: خَفِ اللهَ.
﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ حملَتْهُ النَّخْوَةُ والتكبُّرُ على العمل.
﴿بِالْإِثْمِ﴾ أي: الظلم.
﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أي: كافيهِ جزاء.
﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفراشُ.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)﴾.
[٢٠٧] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ أي: يبيعُها.
﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ أَن كلَّفهم الجهادَ لحصولِ الثوابِ لهم.
(٢) "كانوا" ساقطة من "ن".
(٣) "بلغ" ساقطة من "ت".
(٤) في "ن": "من".
(٥) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١٩٥)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (١/ ٥٢٧).
[٢٠٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ أصلُه: الاستسلامُ والانقياد، والمرادُ: الإسلامُ، ويقالُ للصلح: سلْم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ: (السَّلْمِ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (١).
﴿كَافَّةً﴾ أي: جميعًا، وأصلُها من الكفِّ: الجمع. نزلت في مؤمني أهلِ الكتاب عبدِ الله بنِ سلامٍ وأصحابِه، وذلك أنهم كانوا يُعَظِّمونَ السبتَ، ويكرهون لحومَ الإبل بعدَما أسلموا، وقالوا: يا رسول الله! إن التوراةَ كتابُ الله، فدعْنا فَلْنُقِمْ بها صلاتنَا بالليل، فأنزل الله تعالى الآية (٢).
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: آثارَه فيما زَيَّنَ لكم من تحريمِ السبتِ ولحومِ الإبلِ وغيرِه.
﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهر العداوة.
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٣٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٩٧)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (١/ ٥٢٩).
[٢٠٩] ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ أي: مِلْتُم عن الإسلامِ مجتمعين.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي: الدَّلالاتُ على أنَّ ما دعيتم إليه حقٌّ.
﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ أي: غالبٌ قادرٌ على الانتقام.
﴿حَكِيمٌ﴾ لا ينتقمُ إلا بالحق.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)﴾.
[٢١٠] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينتظرون، النظرُ والانتظارُ: الإمهالُ.
المعنى: ما ينتظرُ تاركو الدخولِ في الإسلام.
﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ﴾ جمعُ ظُلَّةٍ، وهي ما أَظَلَّ.
﴿مِنَ الْغَمَامِ﴾ وهو السحابُ الأبيضُ الرقيقُ سُمِّيَ غمامًا؛ لأنه يَغُمُّ؛ أي: يَسْتر.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ قرأ أبو جعفرٍ: ﴿والملائكةِ﴾ بالخفضِ عطفًا على الغمام، تقديرُه: معَ الملائكة، وقرأ الباقون: بالرفعِ على معنى: إلا أنْ يأتيهم اللهُ والملائكة في ظُلَلٍ من الغمام (١)، والأَوْلى في هذه الآيةِ وفي
﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي: فُرِغَ من حسابهم، ووجبَ العذابُ، وذلكَ فصلُ اللهِ (٢) القضاءَ بالحقِّ بينَ عبادهِ يومَ القيامةِ.
﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون: بضمِّ التاءِ وفتحِ (٣) الجيم (٤).
﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١)﴾.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ١٩٨).
(٢) "الله" لفظ الجلالة لم يرد في "ت".
(٣) في "ن": "ورفع".
(٤) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٣١)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨١)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: ٩٥)، و "الكشف" لمكي (١/ ٢٨٩)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٥٧)، و "تفسير البغوي" (١/ ١٩٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٠)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٦١).
﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ أعطينا آباءهم وأسلافَهم.
﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ دلالةٍ واضحةٍ على نبوةِ موسى -عليه السلام-، وقيل: معناه: الدلالاتُ التي في التوراة والإنجيلِ على نبوةِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ﴾ يُنْكِرْ ويغيِّرْ.
﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ أي: الدلائل على نبوة محمد - ﷺ -.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ أي: بعد ما عرفَها وصَحَّتْ عنده.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فيعاقبُه (١) أشدَّ عقوبة.
﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢)﴾.
[٢١٢] ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ نزلَتْ في مشركي العرب: أبي جهلٍ وأصحابِه، كانوا يتنعمون بما بُسِطَ لهم في الدنيا من المال، ويُكَذِّبون بالمعادِ، والمزيِّنُ اللهُ تعالى بأنْ خلقَ الأشياءَ العجيبةَ، فنظروا إليها فأعجبتهم، فَفُتِنوا بها (٢).
﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: يستهزئون بالفقراء من المؤمنين؛ كعبدِ الله بن مسعود، وعمارِ بنِ ياسر، وصُهيبٍ، وخُبيبٍ، وبلالٍ، وغيرهم.
(٢) "بها" ساقطة من "ن".
﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ رزقًا واسعًا من غيرِ تقتير.
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)﴾.
[٢١٣] ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ متفقين على دينٍ واحدٍ وهو الإسلامُ، من آدمَ إلى نوحٍ، ثم اختلفوا.
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ وجملتُهم مئةُ ألفِ نبيٍّ وأربعةٌ وعشرونَ ألفَ نبيٍّ، والمرسلون منهم ثلاثُ مئةٍ وثلاثةَ عَشَرَ، والمذكورون في القرآن باسم العَلَم ستةٌ وعشرون نبيًّا، وهم: محمدُ، وآدمُ، وإدريسُ، ونوحٌ، وهودٌ، وصالحٌ، وإبراهيمُ، ولوطٌ، وإسماعيلُ، وإسحاقُ، ويعقوبُ، ويوسفُ، وأيوبُ، وذو الكِفْلِ، وشُعيبٌ، وموسى، وهارونُ، وداودُ، وسليمانَ، وعُزَيْرٌ، ويونُسُ، وزكريّا، ويحيى، وإلياسُ، واليسعُ، وعيسى -صلواتُ الله عليهم أجمعين-، وأُشير إلى أشموئيلَ بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٧]، وأُشير إلى أَرْميا بقوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، وأُشير إلى يوشَعَ في سورة الكهف بقولهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ﴾ [الكهف: ٦٠]، وأُشير إلى إخوةِ يوسفَ بقوله: {لَقَدْ
﴿مُبَشِّرِينَ﴾ بالثوابِ للمؤمن.
﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ بالعقابِ للعاصي.
﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ المرادُ: الجنسُ، لا أنه معَ كلِّ نبيٍّ كتابٌ؛ لأن منهم من لم يكن له كتابٌ، وإنما أخذ بكتبِ مَنْ قبلَه.
﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: الصدق.
﴿لِيَحْكُمَ﴾ قرأ أبو جعفر: (لِيُحْكَمَ) بضم الياء وفتح الكاف؛ لأنَّ الكتابَ لا يحكمُ في الحقيقة إنما يُحْكَمُ به، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الكاف؛ أي: لِيَحْكُم الكتابُ؛ كقوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ (١) [الجاثية: ٢٩].
﴿بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي: في دينِ الإسلام.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ أي: في الحقِّ.
﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي: أُعطوا الكتابَ المنزلَ.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ على صدقِ الكتبِ.
﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي: بينَ المختلفينَ؛ بأن كذَّبَ بعضٌ (١) بعضًا، وكتموا صفةَ محمدٍ - ﷺ - على حُطامِ الدنيا ورياستِها.
﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ وقولُه: ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾ بيانٌ للمختلَفِ فيه. تلخيصُهُ: فهدى اللهُ المؤمنين إلى الحقِّ [المختلَف فيه من الحقِّ] (٢).
﴿بِإِذْنِهِ﴾ بعلمِه وإرادته. قيلَ في هذه الآية: اختلفوا في القِبْلَة، فمنهم من يصلِّي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا اللهُ للكعبةِ، واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام، فأخذتِ اليهودُ السبتَ، والنصارى الأحدَ، فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فجعله اليهودُ لغيرتهم ولدَ زِنًى، وجعلَه النصارى إلهًا، فهدانا الله للحقِّ فيه (٣).
﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لا يَضِلُّ سالِكُه. واختلافُ القراء في الهمزتين من قوله: (يشاء إلى) كما تقدَّم في قوله: و ﴿لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)﴾ [البقرة: ١٤٢].
(٢) ما بين معكوفتين ساقطة من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٢٠١).
[٢١٤] ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ نزلَتْ في غزوةِ الخندق لما أصابَ المسلمين الجهدُ؛ تطييبًا لقلوبهم، وقيل: في حرب أُحد (١).
تلخيصُه: أَظَننتم أنكم تدخلون الجنةَ من غيرِ مَشَقَّةٍ.
﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ﴾ و (لما) فيه معنى التوقُّع. المعنى: إن إتيانَ ذلكَ متوقَّع منتظَرٌ.
﴿مَثَلُ﴾ أي: شَبَهُ.
﴿الَّذِينَ خَلَوْا﴾ أي: مضوا.
﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ منَ النبيينَ والمؤمنين.
﴿مَسَّتْهُمُ﴾ أصابَتْهُم.
﴿الْبَأْسَاءُ﴾ الفقرُ.
﴿وَالضَّرَّاءُ﴾ المرضُ.
﴿وَزُلْزِلُوا﴾ أُزعجوا بأنواعِ البلاء.
﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ المعنى: إن الأهوال اشتدَّت عليهم إلى غايةٍ قالَ فيها الرسولُ والمؤمنونَ استبطاءً للنصرِ لا شَكًّا:
﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ غيرُ متأخِّر. قرأ نافعٌ: (حَتَّى يَقُولُ) بالرفع على أنه في معنى الحال، نحو: شربتِ الإبلُ حتى يجيءُ البعيرُ يجرُّ بطنَه، فهيَ حالٌ ماضيةٌ مَحْكِيَّةٌ، وقرأ الباقون: بالنصب بإضمارِ (أن)، وجعلِ الفعلِ مستقبَلًا؛ أي: إلى أن يقول (١).
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)﴾.
[٢١٥] ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ نزلتْ في عَمْرِو بنِ الجَمُوح، وكان شيخًا ذا مال، فقال: يا رسول الله! بماذا نتصدَّقُ، وعلى من ننفق؟ فأنزلها الله تعالى (٢)، و (ما) استفهامٌ. المعنى: أيُّ شيء الذي يُنفقونَهُ؟.
﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ﴾ وقوله:
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ بيانٌ للمنفَقِ، ثم بَيَّنَ مَصْرِفَ النفقةِ بقوله:
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٣٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٠٢)، و"العجاب" لابن حجر (١/ ٥٣٤).
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يجازيكم به، ثم نُسخت بفرض الزكاة.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)﴾.
[٢١٦] ﴿كُتِبَ﴾ فُرِضَ.
﴿عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي: الجهادُ، وهو قتالُ الكفار، وهو فرضُ كفايةٍ إذا قامَ به من يَكْفي، سقطَ عن الباقين الفرضُ؛ كصلاةِ الجنازةِ، وردِّ السلامِ بالاتفاق.
﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ أي: شاقٌّ عليكم.
﴿وَعَسَى﴾ من أفعال المقارَبَةِ فيهِ طَمَعٌ.
﴿أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لأن في الغزو إحدى الحسنيين: إما الظَّفَرُ والغَنيمةُ، وإما الشهادةُ والجنةُ.
﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ يعني: القعودَ عن الغَزْوِ.
﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ لما فيه من فَواتِ الغَنيمةِ والأجر.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ مصالحَكُمْ.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلكَ.
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧)﴾.
﴿قِتَالٍ فِيهِ قُلْ﴾ يا محمدُ.
﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ عظيمٌ، تمَّ الكلامُ هاهنا، ثم ابتدأه فقال:
﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: وصدُّكُم المسلمينَ عن الإسلام.
﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي: باللهِ.
﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: مكةَ، عطفٌ على سبيل الله.
﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ أي: أهلِ المسجد.
﴿مِنْهُ﴾ وهم النبيُّ - ﷺ - والمؤمنون.
﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أعظمُ وِزْرًا من القتال في الشهر الحرام.
﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ أي: الشركُ.
﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي: من قتلِ ابنِ الحضرميِّ في الشهرِ الحرام، فلما نزلَتْ أخذَ رسولُ الله - ﷺ - العيرَ، فعزلَ منه الخمسَ، وقسمَ الباقيَ بينَ أصحابِ السريةِ، وكانتْ أولَ غنيمةٍ في الإسلام، وبعثَ أهلُ مكةَ في فداءِ أسيريهم، فقال: بل نَقِفُهُمْ حتى يَقْدُمَ سعدٌ وعُتبةُ، فإن لم يقدما، قتلناهما بهما، فلما قدما، فاداهم، فأما الحكمُ بنُ كيسان، فأسلمَ وأقامَ مع النبيِّ - ﷺ - بالمدينة، فقتل يومَ بئرِ مَعونةَ شَهيدًا، وأما عثمانُ بنُ عبد الله، فرجع إلى مكةَ، فماتَ بها كافرًا، وأما نوفلٌ، فضربَ بطنَ فرسِه يومَ
﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ أي: الكفار.
﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أيها المؤمنون.
﴿حَتَّى﴾ أي: كي.
﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ أي: يصرِفوكم.
﴿عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ قَدَروا، ثُمَّ تهددهم بقوله:
﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ﴾ أي: يرجعْ.
﴿مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ إلى دينِهم.
﴿فَيَمُتْ﴾ عطفٌ على ﴿يَرْتَدِدْ﴾.
﴿وَهُوَ كَافِرٌ﴾ أي: مرتدًا و (من) رفع ابتداء، خبرُه:
﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي: بَطَلَتْ حسناتهم.
﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ لأن عباداتهم لم تَصِحَّ في الدنيا، فلم يُجَازوا عليها في الأخرى.
﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ في هذا دليلٌ للشافعي
واختلفوا في حكم المرتدِّ، وهو الذي يكفرُ بعد إسلامه - والعياذ بالله -، فقال أبو حنيفةَ: يجبُ قتلُه في الحال، ولكن يُستحبُّ أن يُحبس ثلاثةَ أيامٍ، ويُعرض عليه الإسلامُ، وتُكشف شُبْهَتُهُ، فإن أسلمَ، وإلا قُتل، ويُكره القتلُ قبلَ العرض.
وقال مالكٌ وأحمدُ: يجب أن يُستتابَ ثلاثًا، فإن تابَ، وإلَّا قتل.
وقال الشافعيُّ: تجبُ استتابتُه في الحال، فإن أَصَرَّ، قُتل، وإن أسلم، صَحَّ وتُرِك.
واختلفوا في المرأة إذا ارتدَّتْ، فقال أبو حنيفة: تُحبس وتُخرج في كل أيام، ويُعرض عليها الإسلامُ، وتُضربُ حتى تسلم، ولا تُقتل.
وعند الثلاثة: حكمُها كالرجل في الاستتابة والقتل.
ولما أنزلت الآية، قال أصحابُ السرية: يا رسول الله! أنؤجَرُ على فعلنا هذا؟ فأنزل الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)﴾.
[٢١٨] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ لأنهم فارقوا أهلَهم ومنازلَهم.
﴿وَجَاهَدُوا﴾ فجعلَها جهادًا، جمعَ بينَ هذه الخصالِ ترغيبًا، وإن كان الثوابُ حاصلًا بكلِّ واحدةٍ منها.
﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ أخبرَ أنهم على رجاء الرحمة، و (رَحْمَتَ) رسمت بالتاء في سبعة مواضع، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفرُ الخطأ، ويُجْزِلُ الثوابَ والأجرَ.
وكانت الخمرُ حلالًا إجماعًا، وكان المسلمون يشربونها، فجاء معاذُ بنُ جَبَلٍ وعمرُ بنُ الخطاب بجماعة، فقالوا: يا رسول الله! أَفْتِنا في الخمرِ، فإنها مَذْهَبَةٌ للعقل، مَسْلَبَةٌ للمال، ورُوي أنه سُئل عن الخمرِ والميسرِ معًا فنزلت (١):
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)﴾.
[٢١٩] ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ وهو المُسْكِرُ، لأنه يَخْمُرُ العقلَ؛ أي: يسترُهُ.
﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ القِمارُ؛ لأنه يأخذ مال غيره بسهولة ويُسر؛ أي: يسألونك عن جوازِ تناولهما واستعمالهما؛ لأن السؤالَ لم يكن عن أعيانهما.
﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ بلذَّةِ الشربِ والفرح، وإصابةِ المالِ من غيرِ كَدٍّ ولا تعب.
ثم دعا عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ جماعة، فَسَكِروا، فأَمَّهم بعضُهم في المغربِ، فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبدُ ما تعبدون، بحذف (لا) فنزل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]، فتركوها في حالِ السُّكر.
ثم دعا عتبانُ بنُ مالكٍ جماعةً، فشربوا الخمرَ، فأنشدَ سعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ قصيدةً فيها هجاءُ الأنصار، فضربَ بعضُ الأنصار رأسَ سعدٍ بِلَحْيِ جمل، فشجَّهُ مُوضِحَةً، فشكا إلى النبيِّ - ﷺ -، فقال عمرُ: اللهمَّ بَيِّنْ لنا في الخمرِ بيانَ شِفاء، فنزل: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ في المائدة إلى ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]، فقال عمرُ: انتهينا، فَحُرِّمَتِ الخمرُ، وأُريقت (٢).
والخمرُ ما غَلَى واشتدَّ وقذَف بالزَّبَدِ من غيرِ طبخِ النار، من عصيرِ
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٢٠٦ - ٢٠٧).
وقدرُ الحدِّ للحرِّ أربعون جلدةً عندَ الشافعيِّ، وثمانون عندَ الثلاثة، ويتنصَّفُ (١) بالرِّقِّ باتفاقِهم.
والميسرُ: قالَ ابنُ عباسٍ: كان الرجلُ في الجاهليةِ يخاطِرُ الرجلَ على أهله وماله، فأَيُّهما قمرَ صاحبَهُ، ذهبَ بأهلِه ومالِه، فأنزل اللهُ الآيةَ (٢).
وكان أصلُ الميسر أنَّ أهلَ الثروةِ من العرب يشترونَ جَزُورًا، ويُجَزِّئونها عشرةَ أجزاء، ثم يقتسمونَ (٣) عليها بعشرةِ قِداح يقالُ لها: الأزلامُ لسبعةٍ منها أنصباءُ، وثلاثةٌ لا أنصباءَ لها، فمن خرجَ سهمُه من السبعة، أخذَ نصيبَه، ومن خرج سهمُه من الثلاثة، لا يأخذ شيئًا، ويغرمُ ثمنَ الجزورِ كلِّه، ثم يدفعون ذلكَ الجزورَ إلى الفقراء، ولا يأكلون منه شيئًا، وكانوا يفتخرون بذلك، ويذمُّون مَنْ لم يفعلْه.
﴿وَإِثْمُهُمَا﴾ بعدَ التحريم.
﴿أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ قبلَه.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي: في الصدقة، وذلك أن رسول الله - ﷺ - حَثَّهم على الصدقة، فقالوا: ماذا ننفقُ؟.
﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ هو ما فضلَ عن الحاجة. قرأ أبو عمرٍو: (العَفْوُ) بالرفع،
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٢/ ٣٥٨).
(٣) في "ن": "يقسمون".
﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)﴾.
[٢٢٠] ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ المعنى: هكذا يبينُ الله لكم الآياتِ في أمر الدنيا والآخرة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في أمرهما، فتسعَوْنَ فيما هو صلاحُكم فيهما، ولا وقفَ على (تتفكرون) لئلَّا يفصل بين العامل ومعموله.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ لما نزلَ قولُه تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، وقولُه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: ١٠]، فتركوهم، واجتنبوا مُؤَاكلتهم، فاشتدَّ ذلك عليهم، فسألوا رسولَ الله - ﷺ -، فنزل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ أي: الإصلاحُ لأموالهم من غيرِ أجرةٍ، ولا أخذِ عِوَضٍ خَيرٌ وأعظمُ أجرًا.
﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فهم إخوانُكم في الدين؛ لأن الأخَ يصيبُ من مال أخيه، ويعينُ بعضُهم بعضًا.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ﴾ لأموالِهم.
﴿مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ لها.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ إعناتكُم.
﴿لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أي: لضيَّقَ عليكم، والعَنَتُ: المشقَةُ. قرأ البزيُّ (لأَعْنَتكُمْ) بتسهيل الهمزة، بخلافٍ عنه، والباقون: بتحقيقها (١).
﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ آمِرٌ بِعِزَّةٍ، سَهُلَ على العبادِ أَو صَعُبَ.
﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعِه.
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)﴾.
[٢٢١] ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾ أي: لا تتزوَّجوا.
﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ بجمالِها ومالِها. نزلَتْ في خَنْساءَ: وَليدةٍ سوداءَ كانَتْ لحذيفةَ بنِ اليمان، قالَ حذيفةُ: يا خنساء! قد ذُكِرْتِ في الملأِ على سوادِكِ ودهامَتِكِ، فأعتقَها وتزوَّجها (٣)، والمرادُ: كلُّ امرأةٍ مؤمنةٍ، حُرَّةً كانت أو أَمَةً.
﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: لا تُزَوِّجوهم.
﴿حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ فلا يجوزُ تزويج مسلمة بكافرٍ إجماعًا.
(٢) رواه أبو داود (٢٠٥١)، كتاب: النكاح، باب: في قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾ والنسائي (٣٢٢٨)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الزانية، والترمذي (٣١٧٧)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النور، وقال: حسن غريب، وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما -. قال ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" (١/ ١٣٦): فظهر أن هذا الحديث ليس في هذه الآية التي في البقرة، وإنما هو في الآية التي في النور، لكن ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (ص: ٣٧) في هذه الآية التي في البقرة عن ابن عباس -رضي الله عنهما -.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٢١٣).
﴿أُولَئِكَ﴾ يعني: المشركين.
﴿يَدْعُونَ إِلَى﴾ أعمالِ أهلِ.
﴿النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو﴾ على لسانِ رسلِهِ (١).
﴿إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ أي: إلى أعمالِها.
﴿بِإِذْنِهِ﴾ بإرادتِهِ.
﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ﴾ أوامرَهُ ونواهِيَهُ.
﴿لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يَتَّعِظون.
وكانتِ اليهودُ إذا حاضَتْ منهم المرأةُ، لم يؤاكِلوها، ولم يشارِبوها، ولم يجالِسوها، فسُئِلَ رسولُ الله - ﷺ - عن ذلك، فأنزل الله تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)﴾.
[٢٢٢] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ (٢) هو مصدرُ حاضَتْ تحيضُ حَيْضًا
(٢) رواه مسلم (٣٠٢)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ أي: مستقذَرٌ يؤذي مَنْ يقربُه مُجامِعًا.
﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ فاتركوا مجامعتَهُنَّ أيامَ حيضِهن.
﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ مجامِعينَ، فيحرم وَطْءُ الحائضِ، ويعصي فاعلُه بالاتفاقِ، أما الملامسةُ والمضاجَعَةُ معها، فجائزٌ بالاتفاقِ. واختلفَ الأئمةُ في وجوبِ الكفارةِ على من وَطِئَ الحائضَ، فذهبَ أكثرُهم أَنه لا كفَّارةَ عليه، منهم: مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، قالوا: يستغفرُ اللهَ ويتوبُ إليه، ويُستحبُّ عندَ الشافعيِّ أن يتصدَّقَ بدينارٍ إن جامعَ في إقبالِ الدمِ، أو بنصفِ ينارٍ إن جامعَ في إدبارهِ، وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه، منهم: الإمامُ أحمدُ -رضي الله عنه-، فيجب عندَهُ على مَنْ جامعَ -ولو بحائلٍ- قبلَ انقطاعِ الحيضِ في الفرجِ دينارٌ أو نصفُه على التَّخْييرِ، ويجزئُ إلى مسكينٍ واحدٍ؛ كنذرٍ مطلقٍ، وتسقط بالعجز، وكذا هي إن طاوعَتْهُ -ولو كانَ ناسِيًا أو مُكْرَهًا أو جاهِلَ الحيضِ أو التحريم، أوهما-، واللهُ أعلم.
﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ أي: ينقطعَ الدمُ. وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ: (يَطَّهَّرْنَ) بفتح الطاء والهاء وتشديدهما، يعني: يغتسلْنَ (١).
﴿فَأْتُوهُنَّ﴾ أي: جامعوهن.
﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ والمرادُ: الفرج.
قال ابن عباس: طَؤُوهُنَّ في الفَرْجِ، ولا تَعْدُوه إلى غيرِه (١)، أي: اتَّقوا الأدبارَ.
ولا يجوز وطءُ الحائضِ حتى ينقطعَ دمُها وتغتسلَ عندَ الشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ، وعند أبي حنيفة يجوزُ وطؤها إذا انقطعَ دمُها نهايةَ حيضِها، وإن لم تغتسلْ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوبِ، ولا يعودون إليها.
﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ من الشرك، وبالماءِ من الأحداثِ والنجاساتِ.
﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)﴾.
[٢٢٣] ﴿نِسَاؤُكُمْ﴾ مبتدأ، خبرُه:
﴿حَرْثٌ لَكُمْ﴾ أي: مَزْرَعٌ ومَنْبَتٌ للولدِ بمنزلةِ الأرضِ للنباتِ؛ تشبيهًا لما يلقى في أرحامِهِنَّ من النُّطَفِ بالبذْرِ.
﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ نساءكم.
(١) رواه الطبري في "تفسيره" (٢/ ٣٨٧)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (١/ ٣٠٩).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله - ﷺ -: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا" (٣).
وعن أبي هريرةَ أيضًا عن النبي - ﷺ - قال: "مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فقد كَفَرَ بِمَا أُنَزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ" (٤) رواهُنَّ كُلَّهن الأثرُم. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (شِيتُمْ) بغير همز، والباقون: بالهمز (٥).
﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ التسميةُ عندَ الجماع.
وعن رسولِ الله - ﷺ - أنه قال: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا
(٢) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٨/ ٤٠٥).
(٣) رواه أبو داود (٢١٦٢)، كتاب: النكاح، باب: في جامع النكاح، والنسائي في "السنن الكبرى" (٩٠١٥)، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٤٤٤)، وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (٣/ ١٨٠).
(٤) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (٩٠١٧)، والترمذي (١٣٥)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في كراهية إتيان الحائض، وابن ماجه (٦٣٩)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن إتيان الحائض، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٤٠٨).
(٥) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٧٢)، حيث ذكرا القراءة عن أبي عمرو فقط.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ على كلِّ حالٍ.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ صائِرونَ إليه، فاستعِدُّوا له.
﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يا محمدُ.
﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)﴾.
[٢٢٤] ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ جمعُ يمينٍ. نزلتْ فيمن حلفَ ألَّا يفعلَ شيئًا، وكانَ حنثه أولى، والعُرْضَة أصلُها: الشدَّة والقوَّةُ. معنى الآية: لا تجعلوا الحلفَ باللهِ سببًا مانعًا لكمْ من البِرِّ والتَّقْوى، يُدْعى أحدُكم إلى صلةِ رحمٍ أو بِرٍّ فيقول: حلفتُ باللهِ أَلَّا أفعلَهُ، فيعتلُّ بيمينِهِ في تركِ البِرِّ.
﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ أي: ألَّا تبروا؛ كقولِه: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦]؛ أي: لئلَّا تضلوا.
﴿وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا﴾ أي: لا تجعلوا الحلفَ باللهِ شيئًا مانعًا لكم من البِرِّ والتقوى والإصلاحِ ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾.
قال - ﷺ -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْهَا،
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ بنيَّاتكم.
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)﴾.
[٢٢٥] ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ﴾ أي: لا (٢) يعاقِبُكم.
﴿اللَّهُ بِاللَّغْوِ﴾ اللَّغْوُ: كُلُّ مطروحٍ من الكلام لا يُعْتَدُّ به، وأصلهُ: الباطلُ، واللغوُ في اليمين: ما سبقَ إليه اللسانُ من غير قصدِ اليمين؛ نحو: لا واللهِ، وبلى والله عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ هو أن يحلفَ على شيء يرى أنه صادقٌ، ثم يظهرُ خلافُ ذلك، ولا كفارةَ فيه ولا إثمَ بالاتفاق، وقوله:
﴿فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ حالٌ من اللغو؛ أي: باللغو كائنًا في أيمانكم.
﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ﴾ أي: يعاقبُكم.
﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي: نَوَتْ.
﴿قُلُوبُكُمْ﴾ وفُهْتُمْ به. قرأ ورشٌ، وأبو جعفرٍ: (يُوَاخِذُكُمْ) بفتح الواو بغير همز (٣).
(٢) "لا" ساقطة من "ن".
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
وتنعقدُ اليمينُ باللهِ وبأسمائهِ وصفاتِه بالاتفاق، وعند الثلاثةِ تنعقدُ إذا حلفَ بكلامِ اللهِ، أو بالمصحفِ، أو بالقرآنِ، خلافًا لأبي حنيفةَ، وتنعقدُ عندَ الإمامِ أحمدَ بالنبيِّ - ﷺ - خاصَّةً؛ خلافًا للثلاثة، فإذا حلفَ على أمرٍ مستقبَلٍ، فَحَنِثَ، فعليه كفارةٌ بالاتفاق، وإن حلفَ على أمرٍ ماضٍ أنه كانَ، ولم يكنْ، أو بالعكسِ، عالمًا كان أو جاهلًا، فَحَنِثَ، فهيَ (١) اليمينُ الغموسُ؛ لغمسِهِ في الإثم، فتجبُ الكفارةُ عندَ الشافعيِّ، ولا تجبُ عندَ الثلاثةِ؛ لأنه إنْ كان عالمًا، فهي كبيرةٌ، ولا كفارةَ في الكبائر، وإن كان جاهلًا، فهي يمينُ اللغو.
وقد رُوي عن النبيِّ - ﷺ - أنه قال: "مَنْ حلَفَ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، نَازَعَ اللهَ فيها حَوْلَهُ وقُوَّتَهُ، عَجَّلَ اللهُ لَهُ العُقُوبَةَ قَبْلَ ثَلاَثٍ"، وصفةُ اليمينِ أن يقولَ: تقلَّدْتُ الحولَ والقوَّةَ دونَ حولِ اللهِ وقُوَّتهِ، إلى حَوْلي وَقُوَّتي إِنْ لَمْ يَكُنْ ما قُلْتُه حَقًّا. ونُقل أَنَّ بعضَ الناسِ حلفَ بهذهِ اليمين، وكان كاذبًا، فهلكَ في يومِهِ، ذُكر ذلكَ في "شرح المقامات" للشريشي (٢) بأبسطَ من هذا.
(١) في "ن": "فهو".
(٢) هو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى أبو العباس الشريشي الأندلسي المالكي النحوي، المتوفى سنة (٦١٩ هـ)، له ثلاثة شروح على "مقامات الحريري" أصغر وأكبر وأوسط. انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (١/ ٤٧).
[٢٢٦] ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ يُقْسِمون.
﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ المعنى: يَبْعُدُون من نسائِهم مُؤْلينَ.
﴿تَرَبُّصُ﴾ أي: انتظارُ.
﴿أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ تلخيصهُ: استقرَّ للمؤلين تربُّصُ أربعةِ أشهرٍ. والإيلاءُ من المرأةِ عندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ: أنْ يحلفَ ألَّا يقربَها أكثرَ من أربعةِ أشهرٍ، فإذا مضتْ، وقفَ، فإما أن يجامِعَ، أو يطلِّقَ، فإن امتنعَ، طلَّقَ عليه القاضي، وإن عجزَ عن الجماعِ، فاءَ بلسانِهِ، فيقولُ: إذا قَدَرْتُ جامَعْتُ، وعند (١) أبي حنيفةَ: هو أن يحلفَ ألَّا يقربَها أربعةَ أشهرٍ فصاعدًا، أو ألَّا يقربها مطلَقًا، وعليه كفارةٌ إن وَطِئَها قبلَ المدةِ، فإنِ انقضتِ الأربعةُ أشهر (٢)، وقعتْ تطليقةٌ بائنةٌ عندَ أبي حنيفةَ.
ومدةُ الإيلاءِ في الحرِّ والعبدِ سَواءٌ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ يتَنَصَّفُ (٣) بالرِّقِّ، فأبو حنيفةَ يعتبرُ رِقَّ المرأة، ومالكٌ يعتبرُ رِقَّ الزوج؛ كما قالا في الطلاق، ويأتي ذكرُه قريبًا.
﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ رَجَعُوا عن اليمين.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ للمؤمنين.
﴿رَحِيمٌ﴾ ولهم.
(٢) "أشهر" زيادة من "ن".
(٣) في "ن": "تتنصف".
[٢٢٧] ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ أي: أوقَعوه، وأصلُ العزمِ والعزيمةِ: عَقْدُ القلبِ على إمضاءِ شيءٍ يريدُ فعلَه، والطلاقُ: هو حَلُّ قيدِ النكاحِ أو بعضِه بوقوعِ ما يملكُهُ من عددِ الطلقات، أو بعضها، وأصلُه من الإطلاق.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لقولهم.
﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتهم.
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)﴾.
[٢٢٨] ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ أى: المُخَلَّياتُ من حبالِ أزواجِهِنَّ بعدَ الدخولِ بهنَّ.
﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ ينتظرْنَ، وهذا خبرٌ معناه: أَمْرٌ؛ أي: لِيَتَرَبَّصْنَ.
﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ فلا يَتَزَوَّجْن.
﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ جمعُ قَرْءٍ -بفتح القاف، وقد يضم-، ومعناه في اللغة: الوقتُ المعتادُ ترَدُّدُهُ، وهو الحيضُ عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، والطهرُ عند مالكٍ والشافعيِّ، وفائدةُ الخلافِ أن المعتدَّه إذا شرَعَتْ في الحيضةِ الثالثةِ، انقضَتْ عِدَّتُها عندَ مَنْ يجعلُه الطهرَ، ويحسبُ بقيةَ الطهرِ الذي وقعَ فيه الطلاق قَرْءًا، وعندَ مَنْ يجعلُه الحيضَ لا تنقضي عِدَّتُها حتى تطهُرَ من
﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ من الحيضِ والحبلِ، وهو أن يريدَ الرجلُ مراجعَتَها، فتقول: قد حضتُ الثالثةَ، أو تنكرُ الحبلَ ليبطلَ حقُّ الزوجِ من الرجعةِ والولدِ، وربما أسقطَتِ الولدَ خوفًا ألَّا تعودَ.
﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ لأن المؤمنَ يخافُ هذا الفعلَ.
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ جمعُ بَعْلٍ، وهو الزوجُ، سُمِّيَ بذلك لقيامِهِ بأمرِ الزوجةِ، وأصلُ البعلِ: السيدُ والمالكُ، والبِعالُ النكِّاحُ.
﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أَوْلى برجعتِهِنَّ.
﴿فِي ذَلِكَ﴾ في العِدَّةِ.
﴿إِنْ أَرَادُوا﴾ أي: الزوجُ والزوجةُ والوليُّ بالرجعَةِ.
﴿إِصْلَاحًا﴾ بينَهُما وحُسْنَ عشرةٍ.
﴿وَلَهُنَّ﴾ على الرِّجالِ.
﴿مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ للرجال من الحقوق.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ بما عُرِفَ شَرْعًا. قال - ﷺ -: "إِنَّ أَكْمَلَ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ" (١).
﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ بالمَهْرِ وإنفاقِ المال. قرأ يعقوبُ: (عَلَيْهُنَّ) بضم الهاء حيثُ وقع (٢).
(٢) انظر: (ص: ٢٣) من هذا الجزء.
﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)﴾.
[٢٢٩] ﴿الطَّلَاقُ﴾ تقديرُه: عَدَدُ الطلاقِ الذي يملكُ الزوجُ بعدَهُ الرَّجْعَةَ.
﴿مَرَّتَانِ﴾ كانَ الناس في الابتداءِ يُطَلِّقونَ من غيرِ حَصْر ولا عَدَدٍ، وكانَ الرجلُ يطلِّقُ امرأتَهُ، فإذا قاربَت انقضاء عِدَّتها، راجعَها، ثم طَلَّقَها كذلكَ، ثم راجعَها، يقصدُ بذلك مُضارَّتَها، فنزلتِ الآيةُ، وقولُه مَرَّتان؛ أي: مرةً بعدَ مرةٍ، ولم يُرِدِ الجمعَ بينهما، فإن راجعَها بعدَ الثانيةِ.
﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ شرعًا؛ أي: يُمسكُها بما عُرفَ من الحقوق، ولا يراجعُها بقصدِ تطويلِ العِدَّةِ مضارَّةً لها.
﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أصلُ التسريحِ: الإرسالُ؛ كالطلاقِ من الإطلاق.
المعنى: يتركُها، ولا يقصدُها بسوء.
واختلف الأئمةُ فيما إذا كان أحدُ الزوجين رقيقًا، فقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ: يعتبَرُ عددُ الطلاق بالزوج، فيملكُ الحرُّ على زوجتِهِ الأمةِ ثلاثَ طلقاتٍ، والعبدُ لا يملكُ على زوجته الحرَّةِ إلا طلقتينِ، وقال أبو حنيفةَ: الاعتبارُ بالمرأةِ، فيملكُ العبدُ على زوجتِهِ الحرَّةِ ثلاثَ طلقاتٍ، ولا يملكُ الحرُّ على زوجتِهِ الأمةِ إلا طلقتين.
﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾ أيها الأزواج.
﴿أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ من المهور.
﴿شَيْئًا﴾ ثم استثنى الخُلْعَ، فقال:
﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ تقديره: إِلَّا أَنْ يخافا تركَ حدودِ اللهِ المعروفةِ شرعًا من حُسْنِ الصحبةِ. قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (يُخَافَا) بضمِّ الياء؛ أي: يُعْلَمَ ذلك منهما؛ يعني: يعلم المسلمون والقاضي ذلك من الزوجين؛ بدليل قوله:
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ فجعلَ الخوفَ لغيرِ الزوجين، ولم يَقُلْ: فإن خافا. وقرأ الباقون: بفتح الياء (١)؛ أي: يعلم الزوجانِ من أنفسِهما.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: على الزوج فيما أخذ، ولا على الزوجة.
﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ نفسَها من المال؛ لأنها ممنوعةٌ من إتلافِ المالِ بغيرِ حقٍّ، وهذه الآيةُ دليلُ جواز الخُلْعِ بسؤالِ الزوجةِ على مالٍ تفتدي به نفسَها.
واختلفَ الأئمهُّ في الخلع، فقال الثلاثةُ: هو تطليقةٌ بائنةٌ، وقال أحمدُ: هو فَسْخُ عِصْمَةٍ إذا وقعَ بلفظِ خُلْعٍ، أو فَسْخٍ، أو مفاداةٍ لا يُنقصُ عدد الطلاقِ، وهو قولُ ابن عباسٍ، وعبدِ الله بنِ عمَر، واحتجَّ ابن عباس بقولهِ تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ ثم قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ثم قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فذكرَ تطليقتين والخلعَ وتطليقةً بعدها، ولم يَكُ للخُلْعِ حكمٌ يُعْتَدُّ به، فلو كان الخلعُ طلاقًا، لكانَ الطلاق أربعًا، ولأنَّها فُرْقَةٌ خلَتْ عن صريح الطلاقِ ونيتهِ، فكانتْ فسخًا كسائر الفُسوخِ، ومن قالَ: هو طلقةٌ، جعل الطلقة الثالثة: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي: هذه أوامرُه ونواهيه.
(١) انظر: "تفسير الطبري" (٢/ ٤٦٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٢٨)، و"الدر المنثور" للسيوطي (١/ ٦٧٠).
﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ يتجاوَزُها.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)﴾.
[٢٣٠] ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الطلقةَ الثالثةَ.
﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ أي: بعدَ الطلقةِ الثالثةِ.
﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ غيرَ مطلِّقِها، فيجامعُها. والنكاحُ شرعًا: يتناولُ العَقْدَ والوَطْءَ جميعًا، فهو حقيقةٌ فيهما عندَ الإمامِ أحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ هو حقيقة في الوطء، مَجازٌ في العقدِ، وعندَ الشافعيِّ بالعكس، وهو في اللغةِ الضَّمُّ والجمعُ، فعلى القول بأنه حقيقةٌ في العقد، فهو ضمُّ وجمع بالنسبة إلى الإيجابِ والقَبولِ؛ فإنَّ القبولَ يُضمُّ ويُجْمَعُ إلى الإيجاب، وعلى القولِ بأنه حقيقةٌ في الوطءِ، فهو ضمٌّ وجمعٌ بالنسبةِ إلى جمعِ أحدِ الفَرْجينِ إلى الآخر وضمِّهِ إليه؛ لأن الزوجينِ حالةَ الوطءِ يجتمعانِ، وينضَمُّ كلُّ واحدٍ منهما (١) إلى صاحبِه حتى يصيرا كالشَّخْصِ الواحدِ، والحقيقةُ: اللفظُ المستعملُ فيما وُضعَ له، والمجازُ: اللفظُ
عن عائشةَ -رضى الله عنها- قالت: جاءتِ امرأةُ رفاعةَ إلى رسولِ الله - ﷺ -، فقالت: كنتُ عندَ رفاعةَ، فطلَّقني فَبَتَّ طلاقي، فتزوَّجْتُ بعدَه عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبِيرِ، وإنما معهُ مثلُ هُدْبَةِ الثوبِ، فتبسَّمَ رسولُ الله - ﷺ -، وقال: "تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" (١).
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أي: الزوج الثاني.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: على الزوجِ الأولِ والزوجةِ بعدَ انقضاءِ العِدَّةِ.
﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ أي: يرجعَ كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه بنكاحٍ جديدٍ.
﴿إِنْ ظَنَّا﴾ أي: رَجَوَا.
﴿أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ الواجبةَ في حقِّ الزوجيةِ، وقال مجاهد: إنْ عَلِما أنَّ نكاحَهُما على غيرِ دلسة، وهي التَّحليل.
واختلف الأئمةُ في الرجلِ إذا تزوَّجَ امرأةً طُلِّقَتْ ثلاثًا لِيُحِلَّها للزوجِ الأولِ، فقالَ مالكٌ وأحمد: النكاحُ باطِلٌ، ولا تحلُّ للأولِ، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: النكاحُ صحيحٌ، ويحصُلُ بهِ التحليلُ إذا لم يُشْتَرَط في النكاح مع الثاني أن يفارقَها، غيرَ أنه يُكْرَه إذا كانَ في عزمِهِما ذلك.
﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ما أَمَرَهُمْ به.
[٢٣١] ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: قَرُبْنَ من انقضاءِ العدةِ. نزلتْ في ثابتِ بنِ يسارٍ الأنصاريِّ، طلقَ امرأتَهُ، فلمَّا دَنَتْ عِدَّتُها، راجَعَها، ثم طلقَها مُضارَّةً (١).
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ راجِعُوهُنَّ.
﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ من غيرِ طلبِ ضِرارٍ بالمراجعةِ.
﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾ أي: اتركوهنَّ.
﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ حتى تنقضيَ عدتُهنَّ، فيكُنَّ أملكَ بأنفسِهِنَّ.
﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ أي: لا تقصِدوا بالرجعةِ المضارَّةَ.
﴿لِتَعْتَدُوا﴾ لتظلموهُنَّ بتطويلِ الحبسِ.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ قرأ: الليث عن الكسائي (يفعل ذلك) بإدغام الذال في اللام حيث وقع.
﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ بتعريضِهِ إلى عذابِ الله. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَقَد ظلَمَ) حيثُ وقعَ بإدغامِ الدالِ في الظاء، والباقونَ بالإظهار (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٧٦).
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإيمان (نعمت) رُسمت بالتاء في أحدَ عشرَ موضعًا، وقفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ.
﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: القرآنِ.
﴿وَالْحِكْمَةِ﴾ يعني: السنَّةَ.
﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ بالنازِلِ عليكم.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تأكيدٌ وتهديدٌ.
ثم خاطبَ الأزواجَ والأولياءَ فقال:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)﴾.
[٢٣٢] ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: انقضَتْ عدَّتهن. نزلتْ في جميلةَ بنتِ يسارٍ أختِ مَعْقِلِ بن يَسارٍ المزنيِّ، كانت تحتَ أبي البراح
﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ (١) أصلُ العَضْلِ: المنعُ والشدَّةُ. المعنى: لا تمنعوهن من ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ الذين يرغبْنَ فيهم، ويصلحون لهنَّ.
﴿إِذَا تَرَاضَوْا﴾ أي: الخطَّابُ والنساء.
﴿بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائز.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: النهيُ.
﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ﴾ أيها الجمع.
﴿أَزْكَى﴾ أي: خير.
﴿لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ لقلوبِكم من الرِّيبةِ.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما في قلبِ أحدِهما من حبِّ الآخَرِ.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلكَ، فلما نزلت الآية، قال أخوها: الآن أَفعلُ يا رسول الله.
[٢٣٣] ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ أي: المطلَّقاتُ اللاتي لهنَّ أولاد من أزواجهن.
﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ خبرٌ، ومعناه: أَمْرُ استحبابٍ.
واختلف الأئمةُ هل تُجبر الأمُّ على إرضاعِ ولدِها؟ فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا تُجبر، إلا أن يُضطرَّ إليها، ويُخْشى عليه.
وقال مالكٌ: تُجبر إن كانَتْ تحتَ الأبِ، أو رجعيةً، إلا أن تكون عَلِيَّةَ القَدْرِ، فلا تُجبر إلا أَلَّا يقبلَ ثَدْيَ غيرِها، أو يكونَ الأبُ معسِرًا، أو ميتًا، وليس للولدِ مالٌ.
وقال الشافعيُّ: يجبُ عليها إرضاعُه اللِّبَأَ، ثم بعدَهُ إن لم يوجدْ إلا هي، أو أجنبيةٌ، وجبَ إرضاعُه، فإن وُجِدتا، لم تُجبرِ الأمُّ.
واختلفوا فيما إذا طلبت الأمُّ أجرةَ مثلِها في إرضاعِ ولدها، فقال أبو حنيفة: لها ذلك بشرطِ ألَّا تكونَ في عصمة الأب، ولا عِدَّتِه، فإن وَجَدَ متبرعةً، أو من تُرضعُ بدون أجرةِ المثلِ، كان للأبِ أن يسترضعَ غيرَ الأمِّ، بشرطِ أن تكونَ المرضعةُ عندَ الأمِّ؛ لأن الحضانةَ لها.
وقال الشافعيُّ: لها أخذُ الأجرةِ في العصمةِ والبينونةِ، فإن وجَدَ متبرعة، أو من يرضى بدونِ أجرةِ المثلِ، فله انتزاعُ الولدِ منها.
وقال أحمد: هي أحقُّ بأجرةِ مثلها، ولو وجدَ متبرعةً، سواءٌ كانت في حبالِ الزوجِيَّة، أو مطلَّقَةً.
﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ يعني: أربعة وعشرين شهرًا، ثم جاء بالتخفيف فقال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ﴾ أي: يكمل.
﴿الرَّضَاعَةَ﴾ أي: هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك حَدٌّ محدود، وإنما هو على مقدار إصلاحِ الصبيِّ أو ما يعيشُ به.
﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ أي: الأبِ.
﴿رِزْقُهُنَّ﴾ طعامُهُن.
﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ لباسُهُن.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: قدر اليُسْرَةِ.
﴿لَا تُكَلَّفُ﴾ لا تُحَمَّلُ.
﴿نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أي: طاقَتَها.
﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ فينزع منها بعدَ رضاها بإرضاعه. قرأ: ابن
﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ بأن تلقيَ الولدَ إلى أبيه بعدَما أَلِفَها تضارُّه بذلكَ.
﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ أي: وارثِ الصبيِّ عندَ فقدِ أبيه.
﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي: مثلُ الذي كان على أبيه في حياته.
واختلف الأئمة في وجوبِ النفقة على القريب، فعند مالكٍ والشافعيِّ: لا نفقةَ للصبيِّ إلا على الوالدينِ فقط، وعندَ أبي حنيفةَ تجبُ إلّا على مَنْ ليس بذي رَحِم محرمٍ؛ كابن العمِّ، وعندَ أحمدَ تجبُ على كلِّ وارثٍ على قدرِ ميراثِه.
﴿فَإِنْ أَرَادَا﴾ الوالدانِ.
﴿فِصَالًا﴾ فِطامًا للصغير قبلَ الحولينِ، فليكنْ.
﴿مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ بأن يستخرجَ الوالدانِ رأيَ العلماءِ أنَّ الفطامَ لا يضرُّهُ، واعتبرَ اتفاقُهما، لِمَا للأبِ من الولايةِ، وللأمِّ من الشفقة.
﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ أي: لا حَرَجَ.
﴿عَلَيْهِمَا﴾ في الفطام قبلَ الحولين. قرأ يعقوبُ: (عَلَيْهُما) بضمِّ الهاء (١).
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ أي: لأولادكم مراضعَ غيرَ أمهاتهم إذا أبتْ أمهاتُهم أن يُرْضِعْنَهم، أو تعذَّرَ لعلَّةٍ بهنَّ؛ كانقطاعِ لبنٍ، أو أردْنَ النكاحَ.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ إلى أمهاتهم.
﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ ما سَمَّيتم لهنَّ بقدرِ ما أرضعن. قرأ ابنُ كثيرٍ: (مَا أَتَيْتُمْ) بقصر الألف، ومعناه: ما فعلتم، والباقون بالمدّ (٢).
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: سلمتم الأجرةَ إلى المراضعِ بطيبِ نفسٍ وسرور.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ حَثٌّ وتهديدٌ.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٣٧)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٣)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: ٩٧)، و "الكشف" لمكي (١/ ٢٩٦ - ٢٩٧)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٦)، و "تفسير البغوي" (١/ ٢٣٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٨١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨٠).
[٢٣٤] ﴿وَالَّذِينَ﴾ قائمٌ مقامَ المبتدأ المحذوف؛ أي: وأزواجُ الذينَ (١).
﴿يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي: يتوفَّى آجالُهم، والتوفِّي: أخذُ الشيءِ وافيًا.
﴿وَيَذَرُونَ﴾ أي: يتركون.
﴿أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ﴾ أي: يَعْتَدِدْنَ (٢).
﴿بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ أي: ليال باتفاقٍ؛ لأن التاريخ بالليلة؛ لأنها أول الشهر، واليومُ تَبَعٌ، فإن كانت حاملًا، فانقضاءُ عدتها بوضعِ الحملِ بالاتفاق.
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: انقضَتْ عدتهنَّ.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها الأولياء.
﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ من اختيارِ الأزواجِ، والتزيُّنِ.
﴿بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فيجازيكم عليه.
ويجبُ الإحدادُ على المعتدَّةِ من الوفاةِ باجتنابِ الطيبِ و (٣) الزينةِ
(٢) في "ن": "يعتدون".
(٣) "الطيب و" ساقطة من "ن".
﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)﴾.
[٢٣٥] ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ أي: المعتدَّات، والتعريضُ: التلويح بالشيء، وهو ما يلوحُ؛ أي: يبين منه المرادُ من غيرِ تصريحٍ، فالتعريضُ بالخِطبةِ مباحٌ في العدَّةِ من الوفاةِ والطلاقِ البائنِ بالاتفاق، نحو قوله: إنِّي في مثلِكِ لراغبٌ، ولا تفوتيني بنفسِكِ، وتجيبُه: ما يُرْغَبُ عنكَ، وإن قُضي شيءٌ كانَ، ونحوهما، ولا يجوز التعريضُ للرجعية، ولا التصريحُ للبائن قبلَ انقضاءِ العدةِ بالاتفاق، والخِطْبَةُ: التماسُ النكاح، فإذا خطبَ الرجلُ امرأةً، وأُجيب، حَرُمَ على غيره أن يخطبَ على خِطبته بالاتفاق، فلو خالفَ وفعلَ، صحَّ
﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ﴾ أي: أَضْمَرْتم. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ عن يعقوبَ (النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ) وشبهه حيثُ وقعَ بتحقيق الهمزتين والباقون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وهي أن تبدل ياء (١).
﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ في قلوبكم. تلخيصُه: لا تَبِعَةَ عليكم في التلويح بالنكاح.
﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ ولكم ميلٌ إليهنَّ، فاذكروهُنَّ.
﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ والسرُّ: الجِماعُ؛ أي: لا تَصِفوا أنفسَكُم لهنَّ بكثرةِ الجِماع، وإنما قيلَ للجماعِ: السِّرُّ؛ لأنه يكون في خُفْيَةٍ بينَ الرجل والمرأة.
﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ وهو التعريضُ بالخِطبةِ.
﴿وَلَا تَعْزِمُوا﴾ أي: تَنْووا.
﴿عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ في العدَّةِ.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ بانقِضائِها، وسُمِّيتِ العدَّةُ كِتابًا، لأنها فرضٌ في الكتاب، فعَقْدُ النكاحِ في العدَّةِ لغيرِ المطلِّقِ دونَ الثلاثِ باطلٌ بالاتفاق.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ فخافوه عقابه.
﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجِّلُ بالعقوبة.
...
﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)﴾.
[٢٣٦] ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي: تُجامعوهنَّ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُمَاسُّوهُنَّ) بالألفِ في الموضعينِ على المفاعَلَة، لأن بدنَ كلِّ واحدٍ يلاقي بدنَ (١) صاحبِه كما قال تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: ٣]، وقرأ الباقون: (تَمَسُّوهُنَّ)؛ لأن الغِشيانَ يكونُ من فِعل الرجل؛ لقوله تعالى حكايةً عن مريم: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ (٢) [مريم: ٢٠].
﴿أَوْ تَفْرِضُوا﴾ أي: تُسَمُّوا.
﴿لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ مَهْرًا. نزلتْ في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأةً من بني حنيفةَ، ولم يُسَمِّ لها مَهْرًا، ثم طلقها قبلَ أن يمسَّها، فنزلتْ هذه الآيةُ، فقالَ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٣ - ١٨٤)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٩٧ - ٢٩٨)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٤١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٨)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨٢).
﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أصلُ المتعةِ والمتاعِ: البلاغُ؛ أي: أعطوهُنَّ ما يتبلَّغْنَ وينتفعْنَ به.
﴿عَلَى الْمُوسِعِ﴾ أي: ذي السعة منكم.
﴿قَدَرُهُ﴾ أي: بقدر (٣) وُسْعِهِ.
﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾ الضَّيِّقِ الحالِ.
﴿قَدَرُهُ﴾ بقدرِ ضِيقه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ ذَكوانَ، وأبو جعفرٍ (قَدَرُهُ) بفتح الدال فيهما، والباقون: بسكونها، وهما لغتان (٤).
(٢) رواه أبو داود (٢١٧٨)، كتاب: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، وابن ماجه (٢٠١٨)، كتاب: الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(٣) في "ن": "قدر".
(٤) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٣٧)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٤)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٩٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٩٨ - ٢٩٩)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٧)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٤١)، و"التيسير" للداني (ص: ٨١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٤/ ٢٢٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨٢).
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: بما أمركم الله به من غيرِ ظلمٍ.
﴿حَقًّا﴾ مصدرُ حَقَّ.
﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ إلى المطلَّقاتِ بالتمتُّع، فمن تزوَّجَ امرأةً، ولم يفرضْ لها مهرًا، ثم طلَّقَها قبلَ المسيسِ، فلها المتعةُ بالاتفاق، وإن طلَّقها قبلَ المسيسِ، وقد فرضَ لها، فلها نصفُ المفروض، ولا متعةَ لها بالاتفاق.
واختلف الأئمةُ في المطلقةِ بعدَ الدخول، فقال الشافعيُّ: تستحقُّ المتعةَ؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ لأن استحقاقَها المهرَ بمقابلةِ ما أتلفَ عليها من منفعةِ البُضْعِ، فلها المتعةُ على وحشةِ الفراق.
وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ: لا متعةَ لها، واختلفوا في قدر المتعة، فقال أبو حنيفةَ: مبلغُها إذا اختلفَ الزوجانِ قدرُ نصفِ مهرِ مثلِها لا يجاوز، وقال الشافعيُّ: يُستحبُّ ألَّا تنقصَ عن ثلاثين درهمًا، فإن تنازعا، قَدَّرَها (١) القاضي بنظرِهِ معتبرًا حالَهما، وقال أحمدُ: أعلاها خادمٌ، وأدناها كسوةٌ تجزئها الصلاةُ فيها، وقال مالكٌ: ليس لها حدٌّ محصور، وإنما يعطيها شيئًا يجري مجرى الهبةِ بحسبِ ما يحسُنُ على قدرِ حالِه من يُسرٍ وعُسرٍ.
...
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ
[٢٣٧] ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي: قبلَ الدخول.
﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي: سميتم لهنَّ مهرًا.
﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي: فيجبُ عليكم نصفه، والمرادُ بالمسِّ: الجِماعُ، وإن ماتَ أحدُهما قبلَ المسيسِ، استقرَّ المهرُ كاملًا بالاتفاق، واختلفوا فيما إذا خلا الرجلُ بامرأته، ثم طلقها قبلَ المسيسِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لها كمالُ المهر، وعليها العِدَّةُ، وقال الشافعيُّ: لها نصفُ الصَّداقِ، ولا عِدَّةَ عليها، وقال مالكٌ: عليها العدَّةُ، ولها نصفُ المهرِ، فإن طال مقامُها معه، وقد تلذَّذَ بها وابتذلَها، فلها جميعُ المهر (١)، وقد حدَّه ابنُ القاسمِ بالعامِ.
﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ أي: الزوجاتُ، وأصلُ العفوِ: التركُ؛ أي: إلا أن تتركَ المرأةُ نصيبَها، فيعودُ جميعُ الصداقِ إلى الزوج.
﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الوليُّ عندَ مالكٍ، فيجوزُ عفوُه إن كانَتْ بكرًا، أو غيرَ جائزةِ الأمر، وعند أبي حنيفةَ وأحمدَ، والشافعيِّ في الجديد: هو الزوجُ، وقالوا -أعني الثلاثة-: لا يجوزُ لوليها تركُ شيء من صَداقها، بكرًا كانت أو ثيبًا، كما لا يجوزُ له ذلكَ قبلَ الطلاق، بالاتفاق، وكما لا يجوزُ له أن يهبَ شيئًا من مالها. المعنى: تعفو المرأةُ بتركِ نصيبِها للزوجِ، ويعفو الزوجُ بصرفِ جميعِ الصَّداق إليها.
﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أي: العفوُ أقربُ من أَجلِ التقوى، والخطابُ للرجالِ والنساءِ، معناه: ويعفو بعضكم عن بعض أقربُ للتقوى.
﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ أي: لا تنسَوا تفضُّلَ بعضِكم على بعض بإعطاءِ الرجلِ جميعَ الصداق، وتركِ المرأةِ نصيبَها منه.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ خبرٌ في ضمنِه الوعدُ للمحسنِ، والحرمانُ لغيره.
...
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)﴾.
[٢٣٨] ﴿حَافِظُوا﴾ داوموا.
﴿عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ أي: المكتوباتِ بمواقيتِها وحدودِها.
﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وخُصَّتْ بالذِّكر تفضيلًا، وهي العصر عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ؛ لما رُوي عن النبي - ﷺ - أنه قالَ يومَ الخندقِ: "شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا" (١)؛ ولأنها بينَ صلاتيَ نهارٍ وصلاتَي ليلٍ، وقد خَصَّها النبيُّ - ﷺ - بالتغليظ.
وعندَ مالكٍ والشافعيِّ هي صلاةُ الفجرِ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ
﴿وَقُومُوا لِلَّهِ﴾ في صلاتكم.
﴿قَانِتِينَ﴾ طائعين خاضعين، والقنوتُ في صلاة الصبح عندَ مالكٍ قبلَ الركوع سرًّا، وعند الشافعيِّ بعدَه جهرًا، وسيأتي ذكر مذهبِ أبي حنيفةَ وأحمدَ في القنوتِ في صلاةِ الوترِ في سورةِ الفجر -إن شاء الله تعالى-. وأصلُ القنوتِ: الطاعةُ، رُوي عن زيدِ بنِ أرقمَ أنه قال: "كُنَّا نتكلَّمُ في الصلاةِ إلى أن نزل: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، فَأُمِرْنا بالسُّكوت، ونُهِينا عنِ الكلامِ" (١).
...
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)﴾.
[٢٣٩] ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ من عدوٍّ وغيرِه.
﴿فَرِجَالًا﴾ أي: فصلُّوا رجالًا، جمعُ راجِلٍ.
﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾ على دوابِّكُم، جمعُ راكبٍ. المعنى: إن لم تمكنْكُم الصلاةُ قانتين، فصلُّوا رجالةً ورُكبانًا، وهذا في حال القتالِ والمُسايَفَةِ (٢) -
(٢) في "ن": "المسابقة".
﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أي: زالَ الخوفُ.
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أي: صلُّوا الصلواتِ الخمسَ، واشكروهُ على الأمنِ وأداءِ الصلاة.
﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ من صلاةِ الخوفِ وغيرِها.
﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ ذكرَهُ.
...
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)﴾.
[٢٤٠] ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ يا معشرَ الرجال.
﴿وَيَذَرُونَ﴾ يتركون.
﴿أَزْوَاجًا﴾ أي: زوجاتٍ.
﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وحفص:
﴿مَتَاعًا﴾ نصبٌ على المصدر؛ أي: مَتِّعوهنَّ متاعًا.
﴿إِلَى الْحَوْلِ﴾ أي: يوصي لها بنفقةِ حولٍ كاملٍ، وهي مدَّةُ العِدَّةِ في ابتداءِ الإسلام.
﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فإن خرجتْ من منزلِ زوجِها، سقطتْ نفقتُها، ثم نُسخَ الحولُ بأربعةِ أشهرٍ وعشر، والنفقةُ بالميراثِ.
﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ من قِبَلِ أنفسِهِنَّ.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يا أولياءَ الميت.
﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ يعني: التزيُّنَ والنكاحَ، ولرفعِ (٢) الجناحِ عن الرجالِ وجهان: أحدهما: لا جناحَ عليكم في قطع النفقةِ عنهنَّ إذا خرجْنَ قبلَ انقضاءِ الحولِ، والآخرُ: لا جناحَ عليكم في تركِ منعِهِنَّ من الخروج؛ لأنَّ مقامَها في بيتِ زوجِها حولًا غيرُ واجبٍ عليها، خَيَّرَها الله تعالى بينَ أن تقيمَ حولًا، ولها النفقةُ والسُّكْنى، وبين أن تخرجَ إلى أن نُسختْ بأربعةِ أشهرٍ وعَشْرٍ.
(٢) في "ن": "لدفع".
...
﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)﴾.
[٢٤١] ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لما نزلَ ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ إلى ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ قال رجلٌ من المسلمين: إن أحسنتُ فعلتُ، وإن لم أُردْ لم أفعلْ، فنزلت هذه الآيةُ (١)، وجعلَ الله المتعةَ لهنَّ بلامِ التمليك، ثم أكَّد ذلك بقوله:
﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ للشركِ، وتقدم ذكرُ الخلاف في الآية المتقدمة.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)﴾.
[٢٤٢] ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تفهمونها.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)﴾.
خرج جماعة من قريتهم داوَرْدانَ قِبَلَ واسط خوفَ الطاعون، فنزلوا واديًا أَفْيَحَ؛ أي: أوسعَ، فلما استقروا فيه، ماتوا جميعًا، وبقوا موتى ثمانية أيام، فسأل حزقيلُ النبيُّ فيهم ربَّهُ، فأحياهم فعاشوا بعدَ ذلكَ دهرًا
[٢٤٣] ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي: تعلمْ؛ لأنها من رؤية القلب، وكذا كلُّ ما لم يعايَنْ.
﴿إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ جمعُ ألفٍ، أي: جماعاتٌ كثيرةٌ، واختُلف في مبلغ عددِهم، فورد فيه أقوال كثيرة، أولاها: قولُ من قالَ: كانوا زيادةً على عشرة آلاف.
﴿حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ﴾ على لسان مَلَكٍ:
﴿مُوتُوا﴾، فماتوا، ثم عطف على قوله: ماتوا المقدَّرة قولَه:
﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ ليعلموا أنْ لا فرارَ من القدر، وهذا تبكيتٌ (٢) لمن يفرُّ من قضاءِ اللهِ المحتومِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ كافَّةً في الدنيا، وخاصة على المؤمنين في الأخرى.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ على ذلك، أما الكفارُ، فلم يشكروا، وأما المؤمنون، فلم يبلغوا غايةَ شكرِه، ثم عطف ما بعد على محذوف مخاطِبًا للذين أُحيوا، وتقديره: لا تحذروا الموت.
(٢) في "ن ": "تنكيت".
[٢٤٤] ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في طاعتِه أعداءَه.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ بالضمائرِ. أَمَرَهم أن يجاهِدوا، هذا قولُ أكثر المفسرين، وقيل: هو خطابٌ لهذه الأمة، والله أعلم.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)﴾.
[٢٤٥] ﴿مَنْ﴾ استفهامٌ ابتداء.
﴿ذَا﴾ خبرُه.
﴿الَّذِي﴾ صفةُ الخبر، وصِلَةُ الذي.
﴿يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ ينفقُ في طاعته.
﴿قَرْضًا﴾ أي: إقراضًا.
﴿حَسَنًا﴾ حلالًا، وأصلُ القرضِ لغةً: القطعُ؛ لأنه يقطعُ له من مالِه شيئًا يعطيه ليرجعَ إليه مثلُه.
﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ قرأ عاصم: (فَيُضَاعِفَهُ) بنصبِ الفاء، وقرأ ابنُ عامرٍ، ويعقوب: (فَيُضَعِّفَهُ) بالتشديد ونصبِ الفاء، وقرأ ابنُ كثير وأبو جعفرٍ: (فَيُضَعِّفُهُ) بالتشديد وضم الفاء، والباقون: (فَيُضَاعِفُهُ لَهُ) بالألف مخففًا وضمِّ الفاء، وهما لغتان، فالقراءةُ بنصبِ الفاءِ على جواب الاستفهام، وبالضمِّ نَسَقًا على قوله. (يُقْرِضُ) (١)، ودليلُ التشديد قولُه:
﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ﴾ بإمساك الرزقِ.
﴿وَيَبْسُطُ﴾ بتوسيعِه على خلقه. قرأ خلفٌ لنفسِه، وعن حمزةَ، والدوريُّ عن أبي عمرٍو، وهشامٌ عن عامرٍ، ورُوَيْسٌ عن يعقوبَ: (وَيَبْسُطُ) بالسين، لأنها الأصل. وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وروحٌ عن يعقوبَ: بالصاد إبدالًا من السين (١)، واختلِفَ عن قنبل، والسوسيِّ، وابنِ ذكوانَ، وحفصٍ، وخلاد، ورسمها بالصاد.
﴿وَإِلَيْهِ﴾ أي: إلى الله.
﴿تُرْجَعُونَ﴾ فيجازيكم.
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٧٦)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٣٩)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٠٣ - ٢٠٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٥٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٨١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٨ - ٢٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٨٩).
[٢٤٦] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الملأُ من القوم: وجوهُهم وأشرافُهم، وأصلُ الملأ: الجماعةُ من الناس.
﴿مِنْ بَعْدِ﴾ موت.
﴿مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ هو أشموئيل، ومعناه بالعبرانية إسماعيل، مولدُه بقرية يقال لها: شيلوا، ويقال: إنها المشهورةُ يومئذٍ بالسيلةِ من أعمالِ نابُلُسَ، بعثه الله نبيًّا لما صار له أربعون سنةً، فدبَّرَ بني إسرائيل، ولبثوا أربعين سنةً بأحسنِ حال، وكان قوامُ أمر (١) بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وكان ملوكُهم يطيعون أنبياءهم، فظهر لهم عدوٌّ عظيم، وهم قومُ جالوتَ، وهم العمالقة، كانوا يسكنون ساحلَ بحرِ الروم بينَ مصرَ وفلسطين، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا منهم، وأسروا، فقالوا لنبيهم أشموئيل:
﴿ابْعَثْ﴾ أي: آثِرْ وأرسلْ.
﴿لَنَا مَلِكًا﴾ أي: معنا سلطانًا يتقدَّمُنا.
﴿نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فلما قالوا له ذلك.
﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ استفهامُ شَكٍّ، يقول: لعلكم. قرأ نافعٌ: (عَسِيتُمْ) بكسر السين؛ كخشيتم، والباقون: بالفتح كرميتُم، وهي اللغة الفصيحة (١).
﴿إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ مع ذلكَ الملكِ.
﴿أَلَّا﴾ تقوموا بما تقولون، ولا ﴿تُقَاتِلُوا﴾ معه. تلخيصُه: أنتم جبناءُ عن القتال، فكيف تقاتلون؟ فثمَّ استفهموا منكرين، و:
﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المعنى: أيُّ عذرٍ لنا في تركِ الجهاد.
﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ المعنى: أُخرجَ بعضُنا؛ لأن القائلين كانوا في ديارهم.
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا عن الجهاد، وضيَّعوا أمرَ الله.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ وهم الذين عَبَروا النهرَ مع طالوت، واقتصروا على الغَرْفةِ، وكانوا ثلاثَ مئةِ رجلٍ وثلاثةَ عشرَ رجلًا كأهلِ بدرٍ، ثم تهدَّدَهم فقال:
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ بترك الجهاد.
[٢٤٧] ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ وكان طالوتُ اسمُه بالعبرانيةِ شاولُ بنُ قيس من سِبْطِ بِنْيامين، ولم يكنْ من أعيانهم، قيل: كان راعيًا، وقيل: سَقّاءً، وقيل: دَبَّاغًا، فلما عَرَّفَهم نبيُّهم أن طالوتَ ملكُهم.
﴿قَالُوا﴾ منكرين:
﴿أَنَّى﴾ أي: كيف.
﴿يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ وليسَ من بيتِ الملك؛ لأن الملكَ كانَ في سِبْطِ يهوذا بنِ يعقوبَ، والنبوة في سبطِ لاوي بنِ يعقوب.
﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ لأنه فقيرٌ.
﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً﴾ أي: كثرةً.
﴿مِنَ الْمَالِ﴾ تلخيصُه: بعيدٌ تملُّكُه علينا؛ لعدمِ استحقاقِهِ للملكِ لوجود مستحقِّه، وفقره، فثم ﴿قَالَ﴾ نبيُّهم رادًا عليهم:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ﴾ اختارَهُ.
﴿عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ﴾ نَفَّلَهُ.
﴿فِي الْعِلْمِ﴾ بالحرب.
﴿وَالْجِسْمِ﴾ بالطول، قيل: سُمِّيَ طالوتَ لطوله، وكان أعلمَ بني إسرائيلَ بالحرب، وأطولَ من كلِّ إنسان برأسه ومنكبه، وكان أجملَ رجل في بني إسرائيل.
﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لأنه مختصٌّ بالملْكِ.
﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ ذو السعة.
﴿عَلِيمٌ﴾ بما يصنع.
ثم قالوا لنبيهم: فما آيةُ ملكهِ؟ فأجابهم:
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)﴾.
[٢٤٨] ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ وهو صندوقُ التوراة، ومن قِصَّته أن الله أنزلَ تابوتًا على آدمَ من خشبِ الشِّمشارِ نحوًا من ثلاثةِ أذرُع في ذراعينِ، فكان عندَ آدمَ، ثم عند شيثٍ، ثم توارثه أولادُ آدمَ إلى أن بلغَ إبراهيمَ، ثم كانَ عندَ إسماعيل، ثم عندَ يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصلَ إلى موسى، فكان موسى
﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: طُمَأنينة وحكمةٌ؛ لأنهم كانوا يسكنون إليه أينما كان، وإذا حضروا القتال، قَدَّموه بينَ أيديهم يَسْتنصرون به، وقيل: كانَ فيه شيءٌ كرأس الهرةِ إذا سمعوا صوتَهُ أيقنوا بالنصر، وإذا اختلفوا في شيء، تكلَّمَ وحكمَ بينهم.
﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ أي: موسى وهارون نفسُهما، وكان فيه لوحانِ من التوراة، ورضاضُ المنكسرِ من ألواحِها، وعصا موسى ونعلاه، وعِمامةُ هارون، وخاتمُ سليمانَ، وقفيزٌ من المنِّ الذي أُنزل على بني إسرائيل.
﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قال ابن عباس: "جاءتِ الملائكةُ بالتابوتِ تحملُه بينَ السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعَتْه عندَ طالوتَ، فأقروا بملكه، قال ابنُ عباس: التابوتُ وعصا موسى في بحيرة طبرية يخرجان قبلَ يوم القيامة (٢).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ لعبرة.
﴿لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فلما رأوا التابوتَ، أيقنوا بالنصر، فتسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوتُ: لا أبتغي إلا الشابَّ النشيطَ الفارغَ (٣)، فاجتمعَ له ثمانون ألفًا من شرطه.
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (٢/ ٦٠٩).
(٣) في "ن" و"ت": "الفارع".
[٢٤٩] ﴿فَلَمَّا فَصَلَ﴾ أي: خرجَ من بيت المقدس.
﴿طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ وكان حرًّا شديدًا، فشكوا قلةَ الماءِ بينهم وبين عدوهم.
﴿قَالَ﴾ طالوتُ.
﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ﴾ مختبرُكُم ليرى طاعَتكم، وهو أعلمُ.
﴿بِنَهَرٍ﴾ هو الأُرْدُنُّ نهرُ الشريعة شرقي بيتِ المقدس، وقيل غيره.
﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾ أي: كرعَ فيه.
﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي: من أتباعي وأهل ديني.
﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ لم يذقْه.
﴿فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ قرأ عاصم، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (مِنِّي إِلَّا) (١) بسكون الياء، وقرؤوا أيضًا:
﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ هو استثناء مِنْ (فَشَرِبوا)، والقليلُ الذين لم يشربوا كانوا ثلاثَ مئةٍ وبضعةَ عشرَ على الصحيح، فمن اغترف غرفة كما أمرَ اللهُ قوي قلبه، وصحَّ إيمانُه، وعبر النهرَ سالمًا، والذين شربوا وخالفوا أمر الله، اسودَّتْ شفاهُهم، وغلبَهم العطشُ، وجَبُنوا عن لقاء العدو، فلم يجاوزوا، ولم يشهدوا الفتح.
﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾ يعني: النهرَ.
﴿هُوَ﴾ يعني: طالوتَ.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ يعني: القليل.
﴿قَالُوا﴾ يعني: الذين شربوا، وخالفوا أمر الله، وكانوا أهل شك ونفاق:
﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ فانحرفوا ولم يجاوزوا.
﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يستيقنون.
﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ وهم مَنْ ثبت مع طالوت.
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ طائفةٍ.
﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالنصرِ والمعونة (٢).
﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠)﴾.
[٢٥٠] ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا﴾ يعني: طالوتَ وجنودَه المؤمنين.
﴿لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ المشركين، ومعنى برزوا: أي: صاروا في بَرازٍ من الأرض، وهو الفضاء.
﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ﴾ أنزلْ.
﴿عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ قلوبنا.
﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ كانَ جالوتُ من جبابرةِ (٣) الكنعانيينَ من العماليقِ من ولدِ عمليقِ بنِ عادٍ، وكان ملكه (٤) بجهاتِ فلسطينَ، وكان من الشدةِ وطولِ القامةِ بمكانٍ عظيمٍ، فلما تصافُّوا، قال جالوتُ لطالوتَ: إما أن تبَرزَ إليَّ، أو تبُرِز إليَّ أحدًا، فإن قتلني، استحوذْتَ على ملكي، وإن قتلتُهُ، استحوذتُ على ملكِكَ، فخافه طالوتُ؛ لأنه كان يهزمُ الجيوش وحدَهُ، وكان في بيضَتِهِ ثلاثُ مئةِ رطلِ حديدٍ.
(٢) في "ن": "والعون".
(٣) في "ن": "جبارة".
(٤) في "ش": "ملكهم".
[٢٥١] ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وكانَ من خبرِهم أنهم لما برزوا للقتال، طلبَ طالوتُ داودَ -عليه السلام-، وكان أصغرَ بني أبيه، وكان عمره ثلاثين سنة، وأمرهُ بمبارزةِ جالوتَ بعد أن رأى فيه العلائمَ التي يستدَلُّ بها على أنه هو الذي يقتل جالوتَ، وهي دهنٌ كان يستديرُ على رأسِ مَنْ يكون فيه السرُّ، وأحضر أيضًا تَنُّورًا حديدًا، وقال: الشخصُ الذي يقتلُ جالوتَ يكون ملءَ هذا التنور، فلما اعتبر داود ملأ التنورَ، واستدارَ الدهنُ على رأسه، فلما تحقق ذلك منه بالعلامة، أمرَهُ طالوتُ بمبارزةِ جالوتَ، فبارزه.
﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ بثلاثةِ أحجارٍ كانتْ في مِخْلاةٍ، وهو متقلِّدٌ بها، وأخذ مِقْلاعًا بيدِه، وكان جالوتُ على فرسٍ أبلقَ عليهِ السلاحُ التامُّ، فلما نظرَ إلى داودَ، أُلقي في قلبِه الرعبُ، فقال له: أنتَ تبرزُ إلي؟ قال: نعم، قالَ: فأتيتَني بالمقلاع والحجرِ كما يُؤْتى الكلب؟ قال: نعم، أنت شرٌّ من الكلب، قال: لا جرمَ لأقسمنَّ لحمَكَ بينَ سِباعِ الأرضِ وطيرِ السماء، قال داودُ: أو يقسمُ اللهُ لحمَك، فقال داود: باسم اللهِ إلهِ إبراهيمَ، وأخرجَ حجرًا، ثم أخرج الثاني، فقال: باسم الله إلهِ إِسحقَ، ووضعَهُ في مقلاعه، ثم أخرجَ الثالثَ وقال: باسمِ اللهِ إلهِ يعقوبَ، ووضعَهُ في مِقْلاعه، فصارت كلُّها حجرًا واحدًا، ودَوَّرَ المقلاع ورمى به، فسخَّرَ اللهُ لهُ الريَح حتى أصابَ
﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني: النبوةَ، ولم تجتمع السلطنةُ والنبوةُ لأحدٍ قبلَ داودَ، بل كانَ الملْكُ في سبط، والنبوةُ في سبط.
﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ من صنعةِ الدروع، فكان يصنعُها ويبيعها، ولا يأكلُ إلا من عمل يده، ومنطقِ الطيرِ والصوتِ الطيبِ والألحانِ، فلم يُعْطِ اللهُ أحدًا من خلقِه مثلَ صوته، كان إذا قرأ الزبورَ، تدنو الوحوشُ حتى يؤخذَ بأعناقها، وتُظِلُّه الطير، ويركدُ الماءُ الجاري، ويسكنُ الريح، وسيأتي ذكرُ داود -عليه السلام- ووفاتُه في أواخر سورة النساء -إن شاء الله
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾ أصلُ الدفعِ: صرفُ الشيء، والمعنى: لولا أن يصرف الله.
﴿النَّاسَ بَعْضَهُمْ﴾ أي: المفسدين.
﴿بِبَعْضٍ﴾ بالمؤمنين. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (دِفَاعُ) بألف، والباقون: بغير ألف (٢)؛ لأن الله تعالى لا يُغالبه أحدٌ، وهو الدافعُ وحدَه، ومن قرأ بالألف قال: قد يكونُ الدفاعُ من واحد، مثل قولِ العربِ: أحسنَ الله عنكَ الدفاع.
﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ بقتل المسلمين، وظهورِ الفسادِ، قال - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ -عز وجل- لَيَدْفَعُ بِالمسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِئَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ" (٣).
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٧٩)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٤٠)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٧)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ٩٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٠٤ - ٣٠٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٦٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩٣).
(٣) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (٢/ ٦٣٣)، والعقيلي في "الضعفاء" (٤/ ٤٠٣)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (٢/ ٣٨٢)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (٤٠٨٠)، وغيرهم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- بإسناد ضعيف.
[٢٥٢] ﴿تِلْكَ﴾ أي: الأخبارُ المذكورةُ.
﴿آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
...
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)﴾.
[٢٥٣] ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ المذكورةُ قِصَصُها.
﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ يعني: موسى -عليه السلام-.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ يعني: محمدًا - ﷺ -، ولم يصرِّحْ باسمِه تفخيمًا له. المعنى: إنه ساوى الأنبياءَ في فضلِهم، وفضل عليهم بأشياءَ كثيرةٍ، منها: أنه بُعث إلى الأحمرِ والأسود، وأُحِلَّت له الغنائمُ، وغيرُ ذلك -صلواتُ اللهِ عليهِ وعليهم أجمعين-.
﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ: (القدْس) بإسكانِ الدال (١).
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ في دينِهم.
﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي: الذين بَقُوا بعدَ الرسل.
﴿مَنْ آمَنَ﴾ ثَبَتَ على إيمانِه.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ ارتدَّ.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ كَرَّرَهُ تأكيدًا.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ يوفِّقُ مَنْ يشاءُ فَضْلًا، ويخذُلُ من يشاء عَدْلًا.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)﴾.
[٢٥٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ هي الزكاةُ المفروضةُ.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أي: لا فداءٌ فيه؛ لأن الفداءَ شراءُ نفسه. قرأ أبو عمرٍو: (أَنْ يَأتِي يَوْمٌ) بإدغام الياء في الياء (١).
﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ لا صَداقةٌ.
﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ إلَّا بإذن الله. قرأ نافع، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لاَ بَيْعٌ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ) بالرَّفْع والتنوين، والباقونَ: كلّها بالنصب (٢). تلخيصُه: تأهَّبوا للحسابِ قبلَ الموتِ.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٨٢)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٤٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٧)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: =
...
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)﴾.
[٢٥٥] ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هي أعظمُ آيةٍ في كتاب الله، قال - ﷺ -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ لَها لَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ" (١) وَ"مَنْ قَرَأَهَا حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ حَافِظًا، وَلاَ يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ" (٢).
﴿الْحَيُّ﴾ الذي لا يلحقُه الفناءُ ولا يموتُ.
﴿الْقَيُّومُ﴾ القائمُ بتدبيرِ خلقِه.
(١) رواه مسلم (٨١٠)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، والإمام أحمد في "المسند" (٥/ ١٤١)، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-، وهذا لفظ أحمد.
(٢) رواه البخاري (٤٧٢٣)، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
﴿وَلَا نَوْمٌ﴾ هو غَشْيَةٌ ثقيلةٌ تقع على القلب، فتمنعُهُ معرفةَ الأشياء.
تلخيصُه: هو منزَّهٌ عن جميعِ التغييرات.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لأنه خلقَها بما فيهما.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ لأن أحدًا لا يقدرُ على الكلامِ يومَ القيامة. قرأ أبو عمرٍو (يَشْفَع عنْدَهُ) بإدغام العين الأولى في الثانية، و (يَعْلَم ما) بإدغامِ الميمِ في الميم (١).
﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ بأن يأذن في الكلام والشفاعة لمن شاء فيمن شاء.
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: بينَ أيدي ما فيهما، والمرادُ: ما وُجِدَ قبلَ خلقِ ما فيهما؛ كالملائكة.
﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما يوجَدُ بعد ما فيهما. قرأ يعقوبُ: (أَيْدِيهُمْ) بضم الهاء، وقرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (أَيْدِيهِمُو) واختُلِفَ عن قالون (وَمَا خَلْفَهُمْ) كذلك (٢).
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ أي: من معلوماتِه.
﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ مِمَّا (٣) أخبرَ بهِ الرسلَ.
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ قال ابنُ عباس: كرسِيُّهُ: علمُه (٤)، وقالَ الحسنُ: هو
(٢) انظر: الآية (٧) من سورة الفاتحة.
(٣) في "ن": "فيما".
(٤) رواه الطبري في "تفسيره" (٣/ ٩).
﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾ لا يُثْقِلُهُ، ولا يَشُقُّ عليه.
﴿حِفْظُهُمَا﴾ أي: حفظُ السماواتِ والأرضِ.
﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ المتعالي عن الأشباهِ والأندادِ.
﴿الْعَظِيمُ﴾ الذي ليسَ شيْءٌ أعظمَ منه.
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)﴾.
[٢٥٦] ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ نزلَتْ في أهلِ الكتابِ إذا قَبِلوا الجزيةَ، وذلكَ أن العربَ كانت أمةً واحدة (٤) أُميةً، فلم يكن لهم كتابٌ، فلم يُقبل منهم إلا الإسلامُ، فأسلموا طوعًا أو كرهًا، فلما أُنزل: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (١/ ٣٤٢).
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" (٣/ ١٠)، وأبو الشيخ في "العظمة" (٢/ ٥٨٧).
(٤) "واحدة" زيادة من "ن".
﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ﴾ الحقُّ.
﴿مِنَ الْغَيِّ﴾ الضلال. المعنى: ظهرَ الإيمانُ من الكفرِ بالدلائلِ الواضحةِ.
﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ وهو ما عُبِدَ من دونِ الله.
﴿وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ﴾ أي: تمسَّكَ واعتصَم.
﴿بِالْعُرْوَةِ﴾ بالعَقْدِ الثابتِ والحُجَّةِ.
﴿الْوُثْقَى﴾ المحكَمَةِ الموصلةِ إلى رِضا اللهِ تعالى.
﴿لَا انْفِصَامَ﴾ لا انقطاعَ.
﴿لَهَا﴾ وأصل الفَصْمُ: انصداعٌ من غيرِ فصلٍ.
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لدعائِكَ إياهم إلى الإسلام.
﴿عَلِيمٌ﴾ بحرصِكَ على إيمانهم.
...
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)﴾.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومُغيثُهم.
﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ أي: الكفرِ.
﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمانِ.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: اليهودَ.
﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابُه.
﴿يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ﴾ الإيمان بمحمدٍ - ﷺ -.
﴿إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ الكفرِ به؛ بأن أنكروهُ، ومنعوا من اتِّباعه.
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وعيد وتحذيرٌ.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)﴾.
[٢٥٨] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ﴾ المعنى: هل انتهى إليكَ خبرُ الذي خاصمَ وجادلَ.
﴿إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ وهو نمرودُ بنُ كنعانَ بنِ كوش بنِ سامِ بنِ نوحٍ، وهو أولُ من وضعَ التاجَ على رأسه، وتجبَّرَ في الأرض، وادَّعى رُبوبيَّةً.
﴿أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ والعاملُ في (أن) حاجَّ، تقديره: حاجَّ لأنْ أعطاه الله الملكَ، فطغى، فكانت المحاجَّةُ من بطرِ الملكِ وطغيانِه، قال
﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ ظرفٌ لـ"حاجَّ "، وهذا جوابُ سؤالٍ غيرِ مذكورٍ، قال له: من ربُّكَ؟ قال:
﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ قرأ حمزةُ: (رَبِّي الَّذِي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (٢).
﴿قَالَ﴾ نمرود:
﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ فعمدَ إلى رجلينِ، فقتلَ أحدَهما، وتركَ الآخرَ، فجعلَ تركَ القتلِ إحياءً. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَنَا أُحْيِي) بالمدِّ في هذا الحرف وشبهِه حيثُ وقَع (٣). فانتقلَ إبراهيمُ إلى حجَّةٍ أخرى، لا عجزًا؛ فإن حُجَّتَه كانت لازمة؛ لأنه أرادَ بالإحياءِ إحياءَ الميتِ، فكان له أن يقولَ: فَأَحْيِ مَنْ أَمَتَّ إنْ كنتَ صادقًا، فانتقلَ إلى حجَّةٍ أوضحَ من الأولى.
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ﴾ أي: تَحَيَّرَ ودُهِشَ.
(٢) انظر: "الكشف" لمكي (١/ ٣٣٠)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٧٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩٧).
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٨٤)، و "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٤٢)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٨)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٧٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩٧).
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسَهُمْ بعدمِ قبولِ الهداية، وفي انتقالِ إبراهيمَ دليلٌ على جوازِ الانتقالِ من دليلٍ إلى دليل.
...
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)﴾.
[٢٥٩] ﴿أَوْ كَالَّذِي﴾ هذهِ الآيةُ منسوقةٌ (١) على الآية الأولى، تقديره: ألم ترَ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ، أو إلى الذي.
﴿مَرَّ﴾ هو أرميا النبيُّ -عليه السلام- على الأصحِّ، وقيلَ: هو عُزير -عليه السلام-.
﴿عَلَى قَرْيَةٍ﴾ هي بيتُ المقدسِ حينَ خَرَّبَهُ بُخْتَ نَصَّر ملكُ بابلَ بالعراقِ (٢).
﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ ساقطةٌ.
﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾ سقوفِها، معناه: أن السقوفَ سقطَتْ، ثم وقعتِ الحيطانُ عليها. وملخَّصُ القصةِ على اختلافٍ فيها أنَّ أَرْميا -عليه السلام-
(٢) في "ن": "العراق".
(٢) في "ن": "وسار".
﴿قَالَ أَنَّى﴾ أي: كيف.
﴿يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ قالَهُ تعجُّبًا لا شَكًّا بالبعثِ، ثم وضعَ رأسه فنام.
﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ﴾ ألبثَهُ ميتًا.
﴿مِائَةَ عَامٍ﴾ فلما مضى من موته سبعون سنةً، وهي مدةُ لبثِ بيتِ المقدس على التخريب، أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِكٍ من ملوك الفرسِ اسمُهُ كُورَشُ، وكان مؤمنًا، وأمره بعمارةِ بيتِ المقدس، فعمَره، وعاد إليه بنو إسرائيل، وعمروها ثلاثين سنة، وكثروا حتى كانوا على أحسنِ ما كانوا عليه، وأهلكَ الله بختَ نَصَّرَ ببعوضةٍ دخلتْ في دماغِه، ولما أماتَ الله أرميا، كان معه حمارُه وسَلَّةٌ فيها طعامٌ، وهو تينٌ وركوةٌ فيها عصيرُ عنبٍ.
﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ أي: أحياه، وعمَّرَ اللهُ أرميا، فهو الذي يُرى في الفَلَوات، وبعثه الله على السنِّ الذي توفَّاه عليه بعدَ مئةِ سنة، وهو أربعون سنةً، ولابنِه عشرٌ ومئةٌ، ولابنِ ابنِه تسعونَ، وأنشدَ في ذلك:
وَأَسْوَدَ رَأْسٍ شَابَ مِنْ قَبْلِهِ ابْنُهُ | وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ ابْنِهِ فَهْوَ أَكْبَرُ |
تَرَى ابْنَ ابْنِهِ شَيْخًا يَأُبُّ عَلَى عَصًا | وَلِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ وَالرَّأْسُ أَشْقَرُ |
وَمَا لِابْنِهِ حَيْلٌ وَلاَ فَضْلُ قُوَّةٍ | يَقُومُ كَمَا يَمْشِي الصَّبِيُّ فَيَعْثُرُ |
يَعُدُّ ابْنُهُ فِي النَّاسِ تِسْعِينَ | حِجَّةً وَعِشْرِينَ لا يَجْرِي وَلا يَتَحَيَّرُ |
وَعُمْرُ أَبيهِ أَرْبَعُونَ أَمرَّهَا | وَلِابْنِ ابْنِهِ في النَّاسِ تِسْعُونَ غُبَّرُ |
فَمَا هُوَ فِي المَعْقُولِ إِنْ كُنْتَ دَاريًا | وَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَبِالجَهْلِ تُعْذَرُ (١) |
﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ مَيْتًا.
﴿قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا﴾ لأنه كانَ قدْ ماتَ أولَ النهارِ، وأحياه اللهُ بعدَ مئةِ عامٍ آخِرَ النهارِ قبلَ غيبوبةِ الشمس، فلما رأى بقيةً من الشمس قال:
﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ﴾ له الملَكُ:
﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ، (لَبِثْتَ لَبِثْتُمْ) حيثُ وقعَ بالإظهار، والباقون بالإدغام (٢)، وقرأ أبو جعفرٍ (مِئَةً، ومِئَتَيْنِ، وفِئَةً، وفِئَتَيْنِ) حيث وقع بغير همز (٣) بخلاف عنه.
﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ﴾ التينِ.
﴿وَشَرَابِكَ﴾ العصيرِ.
﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ يتغيرْ، كأنه لم يأتِ عليه السنون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (يَتَسَنَّ) بغير هاءٍ في الوصل، فمن أسقط الهاء جعلها صلةً زائدةً، وقال: أصلُه (لم يَتَسَنَّي)، فحذفَ الياء للجزم،
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٨٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٨)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١٠٠)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩٨).
(٣) "همز" ساقطة من "ش".
﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾ فنظرَ، فإذا عظامٌ بِيضٌ، فركَّبَ اللهُ العظامَ بعضَها على بعض، وكساهُ اللحمَ والجلد، وأحياه وهو ينظر. تقديره: أريناكَ ذلكَ لتعلمَ قدرتَنا. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، والدوريُّ عن الكسائيِّ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (حِمَارِكَ) و (الحمار) بالإمالة حيثُ وقعَ (٢).
﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ أي: عبرةً ودلالةً على البعثِ بعدَ الموت.
﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ قرأ عاصمٌ، وحمزةُ،
والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ: (نُنْشِزُهَا) بالزاي المعجمة، أي: نرفعُها من الأرض ونردُّها إلى مكانها من الجسد، يقال: نشزتُه فنشزَ؛ أي: رفعتُه فارتفع، والباقون: بالراء المهملة، معناه: نُحييها، قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ (٣) [عبس: ٢٢].
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩٩).
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٤٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٨٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣١٠ - ٣١١)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٠٠).
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ ذلك عيانًا.
﴿قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ (قَالَ اعْلَمْ) موصولًا مجزومًا على الأمر، معناه: قالَ اللهُ لهُ: اعلم، وقرأ الباقون: (أَعْلَمُ) بقطع الألفِ ورفعِ الميم على الخبر أنه لما رأى ذلك، قالَ: أعلمُ (١).
...
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)﴾.
[٢٦٠] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكرْ إذ.
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ لأزداد بصيرةً، وإذا سئلتُ
﴿قَالَ﴾ الله:
﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾ مع علمِه بإيمانه ليظهر إيمانه لكلِّ سامعٍ.
﴿قَالَ بَلَى﴾ يا ربِّ قد علمتُ فآمنتُ.
﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ﴾ أي: ليسكن (٢).
﴿قَلْبِي﴾ ويصيرَ علمُ اليقينِ بالاستدلال عينَ اليقينِ بالمشاهدةِ.
تلخيصُه: آمنتُ وأريدُ مشاهدةَ ذلك لإيمانِ غيري، وفي معنى قولهِ: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ من الأمثال الدائرة على ألسنِ (٣) الناس: ليسَ المُخْبَرُ كالمعايِن، وقد رُوي الحديثِ الشريفِ: "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ" رواه الإمام أحمدُ وغيرُه (٤).
﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ نسرًا وطاوسًا وغرابًا وديكًا.
﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ أي: قَطِّعْهُنَّ. قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ، ورُويسٌ: (فَصرْهُنَّ) بكسر الصاد؛ أي: أَمِلْهُنَّ، والباقون: بضمِّها على
(٢) في "ن": "يسكن".
(٣) في "ت": "ألسنة".
(٤) رواه الإمام أحمد في "المسند" (١/ ٢١٥)، وابن حبان في "صحيحه" (٦٢١٣)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (٢٥)، والحاكم في "المستدرك" (٣٢٥٠)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ﴾ من جبال أرضِك، وكانت سبعة.
﴿مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾ قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ (جُزُؤًا) بضم الزاي والهمز حيثُ وقعَ، وقرأ أبو جعفرٍ: بتشديدِ الزاي بغير همز، والباقون: بالجزم والهمز (٢).
﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ﴾ قلْ لَهُنَّ تعالَيْنَ بإذنِ الله.
﴿يَأْتِينَكَ﴾ ففعل، فعاد كلُّ جزء إلى جسده، ثم أتينَ إلى رؤوسهن.
﴿سَعْيًا﴾ سريعًا.
﴿وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ لا يعجزُ عما يريدُ (٣).
﴿حَكِيمٌ﴾ في كلِّ ما يفعله.
...
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٤٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٤٧)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٨٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٠٣).
(٣) في "ش": "يريده".
[٢٦١] ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: مثلُ نفقاتِ المنفقين في الجهادِ، أو جميعِ أبوابِ الخير.
﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ أي: نفقاتُهم تشبهُ حبةً.
﴿أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وقالونُ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (أَنْبَتَتْ سَبْعَ) وشبهَه حيثُ وقعَ بإظهار التاءِ عندَ السين، والباقون: بالإدغام (١)، المعنى: يتشعَّبُ من أصلِها سبعُ شعبٍ، في كل شعبةٍ سنبلةٌ.
﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ﴾ يزيدُ الثوابَ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (يُضَعِّفُ) بتشديد العين بغير ألف (٢).
﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ من المنفقين إلى ما يشاء.
﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ غنيٌّ يعطي من سَعَةٍ.
﴿عَلِيمٌ﴾ بنيةِ مَنْ ينفقُ.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"تفسير القرطبي" (٣/ ٣٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٠٤).
[٢٦٢] ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ نزلتْ في عثمانَ بنِ عفانَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ -رضي الله عنهما- حين أنفقا أموالَهما في طاعةِ الله (١).
﴿ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى﴾ لا يَمُنُّ على المنفَقِ عليه، ولا يُعَيِّرُهُ.
﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ أي: ثوابُهم.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ فلهم الأَمْنُ مع الفرحِ (٢).
...
﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)﴾.
[٢٦٣] ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ ردٌّ جميلٌ.
﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أن تسترَ عليه.
﴿خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾ مَنٌّ وتعييرٌ.
﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ﴾ عن صدقةِ من يَمُنُّ.
﴿حَلِيمٌ﴾ عن معاجلتِه بالعقوبة.
(٢) في "ظ" و"ن": "الفرج".
[٢٦٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ﴾ أي: أُجورَها.
﴿بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ﴾ أي: كإبطال الذي ينفقُ.
﴿مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ ليقال: كريم. قرأ أبو جعفرٍ: (رِيَا النَّاسِ) بغير همز.
﴿وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يريدُ أنَّ النفقةَ مع الرياء لا تكونُ فعلَ المؤمن، وهذا للمنافق (١).
﴿فَمَثَلُهُ﴾ أي: مثلُ نفقةِ المرائي بها.
﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾ حجرٍ أملسَ.
﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ﴾ مطرٌ شديدٌ.
﴿فَتَرَكَهُ صَلْدًا﴾ نَقِيًّا من التراب الذي كان عليه. المعنى: مثلُ المانِّ والمنافِقِ في (٢) صدقاتِهما يومَ القيامةِ كحجرٍ عليهِ ترابٌ أزالَه عنهُ المطرُ.
﴿لَا يَقْدِرُونَ﴾ أي: المراؤون.
﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ أي: على ثوابِ شيءٍ.
(٢) "في" ساقطة من "ش".
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ إلى الخير.
عن النبيِّ - ﷺ - أنه قال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ"، قالوا: يا رسولَ الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرِّيَاءُ يَقُولُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذيِنَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟! " (١).
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)﴾.
[٢٦٥] ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي: طلبَ رضوانِ الله.
﴿وَتَثْبِيتًا﴾ أي: تصديقًا.
﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: يُخرجون الزكاةَ طَيِّبَةً بها نفوسُهم على يَقينٍ بالثوابِ وتصديقٍ بوعدِ الله، يعلمون أنَّ ما أخرجوا خير لهم مما تركوا.
والمعنى: مثلُ نفقةِ هؤلاء ونموِّها عندَ الله.
﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ﴾ أي: بستان.
﴿أَصَابَهَا وَابِلٌ﴾ مطرٌ شديدٌ كثير.
﴿فَآتَتْ﴾ أعطَتْ.
﴿أُكُلَهَا﴾ جَناها. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (أُكْلَهَا) بجزم الكاف، والباقون: بالضم (٢).
﴿ضِعْفَيْنِ﴾ أي: حملَتْ في سنة ما يحملُ غيرها في سنتينِ.
﴿فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ هو المطرُ الخفيفُ الدائمُ. المعنى: إن هذه الجنةَ تَريعُ، قلَّ المطرُ أو كَثُرَ، كذلك صدقةُ المؤمنِ المخلصِ تنفعُه، قَلَّتْ أو جَلَّتْ.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٤٦)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٩٠)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: ١٠٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣١٣ - ٣١٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٦٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٣)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٠٧).
ويتصلُ بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ قولُه تعالى:
﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)﴾.
[٢٦٦] ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ﴾ جمعُ نخلٍ.
﴿وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا﴾ رزقٌ.
﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ وخُصَّ النخيلُ والأعنابُ بالذِّكرِ تفضيلًا لهما.
﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ﴾ أي: أولادٌ.
﴿ضُعَفَاءُ﴾ صغارٌ.
﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾ ريحٌ عاصفٌ ترتفعُ إلى (١) السماء كالعمودِ.
﴿فِيهِ نَارٌ﴾ المعنى: أيحبُّ أحدُكُم أن يملكَ جنةً في غايةِ الجَوْدَةِ يدَّخِرُها لفاقَتِه، فَأَحْوَجَ ما كانَ إليها (٢) أصابَتْها نار.
﴿فَاحْتَرَقَتْ﴾ فبقيَ مُتحيرًا مُحتاجًا، لا يجدُ ما يعودُ به عليه، كذلك
(٢) "إليها" ساقطة من "ش".
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كهذا البيانِ الذي بُيِّنَ فيما تقدَّمَ.
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أي: الدلالاتِ التي تحتاجون إليها.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فتعتبرون.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)﴾.
[٢٦٧] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ﴾ حلالاتِ.
﴿مَا كَسَبْتُمْ﴾ بالتجارةِ والصنعةِ.
قال - ﷺ -: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ" (٢)، واستدلَّ الإمامُ أحمدُ -رضي الله عنه- بهذا الحديث، وبقوله - ﷺ -: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ" (٣) على أن للرجلِ أن يأخذَ من مالِ ولدِه ما شاءَ، ويتملَّكَهُ،
(٢) رواه النسائي (٤٤٥٢)، كتاب: البيوع، باب: الحث على الكسب، وابن ماجه (٢١٣٧)، كتاب: التجارات، باب: الحث على المكاسب، والإمام أحمد في "المسند" (٦/ ٣١)، وغيرهم عن عائشة -رضي الله عنها-.
(٣) رواه أبو داود (٣٥٣٠)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجه (٢٢٩٢)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ١٧٩)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ من الحبوبِ والثمرِ.
﴿وَلَا تَيَمَّمُوا﴾ تقصِدُوا. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: بتشديد التاء في الوصل (١).
﴿الْخَبِيثَ﴾ الرديء.
﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ يعني: الخبيثَ.
﴿إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ أي: تتسامحوا في أخذِه، وأصلُ الإغماضِ: غَضُّ البصرِ. المعنى: إنكم لا تأخذونَه إلا في حالِ الإغماض.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ﴾ عن صدقاتِكم.
﴿حَمِيدٌ﴾ محمودٌ في أفعاله.
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)﴾.
[٢٦٨] ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ﴾ يُخَوِّفُكم.
﴿الْفَقْرَ﴾ بأن يقولَ: إنْ تصدَّقْتُم، افتقرتُم، والفقرُ: شرُّ الحالِ، وقِلَّةُ ذاتِ اليد.
﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ﴾ لذنوبِكم.
﴿وَفَضْلًا﴾ خَلَفًا مما أنفقتُم.
﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ غنيٌّ.
﴿عَلِيمٌ﴾ بما ينفَق.
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)﴾.
[٢٦٩] ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ﴾ أي: العلمَ النافعَ، وقيلَ غيرُه.
﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ وأصلُ الحكمة: المنعُ، ثم استعمِلَتْ للمنع مع إصلاحٍ.
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ﴾ قرأ يعقوبُ: (وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ) بكسرِ التاء (١)؛ أي: من يؤته اللهُ الحكمةَ، وإذا وقفَ، أثبتَ الياء. تلخيصُه: من أعطى ما يُدخلُه الجنةَ ﴿فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.
﴿وَمَا يَذَّكَّرُ﴾ يتَّعظ.
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠)﴾.
[٢٧٠] ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ﴾ في طاعةٍ أو معصيةٍ.
﴿أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ﴾ أَوْجَبْتُموه على أنفسكم، والنذرُ: هوُ إلزامُ مكلَّفٍ مختارٍ نفسَه للهِ تعالى شيئًا بقولٍ غيرِ لازمٍ بأصلِ الشرعِ، فإذا نذرَ في طاعة، انعقدَ ولزمَه فعلُه بالاتفاق، وإذا نذرَ في معصيةٍ، لم يَجُزِ الوفاءُ به بالاتفاق، ويلزمُه عند أحمدَ كفارةُ يمينٍ، خلافًا للثلاثةِ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ يحفظُه، فيَجْزيكم به.
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الواضعينَ الصدقةَ في غير محلِّها.
﴿مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أعوانٍ يدفعونَ عذابَ الله عنهم.
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)﴾.
[٢٧١] ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ أي: تُظْهروا.
﴿الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ أي: نعمَ الخصلةُ. قرأ أبو عمرٍو، وقالونُ، وأبو بكرٍ: بكسر النون، واختلاسِ كسرة العين، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتح النون، وكسر العين، وأبو جعفرٍ، بكسر النون،
﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا﴾ تستُروها.
﴿وَتُؤْتُوهَا﴾ أي: تعطوها.
﴿الْفُقَرَاءَ﴾ سِرًّا.
﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وأفضلُ، في الحديث: "صدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ" (٢) قيل: هذا في صدقة (٣) التطوع، وأما الزكاةُ، فإظهارُها أفضلُ؛ ليقتدَى به.
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٩/ ٤٢١)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (١٠٢)، عن معاوية -رضي الله عنه-. ورواه الحاكم في "المستدرك" (٦٤١٨)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (٩٩)، عن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وروى الترمذي (٦٦٤)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في فضل الصدقة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- بلفظ: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء" وقال: حسن غريب. وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة -رضي الله عنهما-. وأسانيدها ضعاف، انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (٣/ ١١٤).
(٣) في "ت": "الصدقة".
﴿عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ يعني: الصغائرَ من الذنوب. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، وأبو بكرٍ: بالنون، ورفعِ الراء؛ أي: ونحنُ نكفرُ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ: بالياءِ والرفع؛ أي: ويكفرُ الله، ونافعٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو جعفرٍ: بالنون وجزم الراءِ نسقًا على الفاء التي في قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ لأن موضعها جزمٌ بالجزاء (١).
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ترغيبٌ في الإسرار.
قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: كانوا يتصدَّقونَ على فقراءِ أهلِ الذمَّةِ، فلما كثرَ فقراءُ المسلمينَ، قالَ رسولُ الله - ﷺ -: "لا تتصدقوا إِلَّا عَلَى أَهْلِ دينكُم" فنزلَ قولُه تعالى (٢):
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٢٩٥)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (١/ ٦٣١)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٢/ ٨٧).
[٢٧٢] ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ﴾ أي: لا يلزمُك.
﴿هُدَاهُمْ﴾ هُدى التوفيق، وعليك هُدى البيان، فلا تمنعْهُمُ الصدقةَ لِيُسْلِموا.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ فأعطَوْهم بعدَ نزول الآية.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: مالٍ.
﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ ثوابُه لا لغيركم.
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ﴾ (ما) بمعنى النهي؛ أي: لا تنفقوا.
﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ في أهل الذمة، (ما) هذه شرط كالأول، ولذلك حذف النون منها.
﴿يُوَفَّ﴾ أي: يؤدَّ.
﴿إِلَيْكُمْ﴾ ثوابُه.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ تُنقَصون من ثواب أعمالكم شيئًا، هذا في صدقة التطوَّع توضَع في المسلمين وأهلِ الذمَّة بالاتفاقِ، أما المفروضةُ فلا توضَعُ إلا في المسلمينَ في الأصنافِ الثمانيةِ، وجَوَّزَ أبو حنيفةَ وحدَه وضعَ صدقةِ الفطرِ في أهل الذمَّةِ.
[٢٧٣] ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ أي: صدقاتُكم للفقراءِ.
﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾ أي: حَبسوا نفوسَهم عن التصرُّف للتعبُّدِ.
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهم أهل الصُّفَّةِ كانوا زهاءَ أربعِ مئةٍ يسكنونَ المسجدَ، يَرْضَخون النوى نهارًا؛ أي: يكسرونَه ويأخذونَ عليه الأجرةَ، ويصرفونَها في النفقة، ويقرؤون القرآنَ ليلًا، يخرجون في كلِّ سَرِيَّةٍ يبعثُها النبي - ﷺ -.
﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا﴾ سيرًا.
﴿فِي الْأَرْضِ﴾ لكثرةِ أعدائِهم من كثرةِ ما جاهدوا.
﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ: بفتح السين، والباقون: بالكسر (١).
﴿الْجَاهِلُ﴾ بحالهم.
﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ بعلامتهم التواضُعِ.
﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي: إلحاحًا.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ وعليه مُجازٍ.
...
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)﴾.
[٢٧٤] ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ نزلَتْ في عليٍّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، كانت عندَه أربعةُ دراهمَ لا يملكُ غيرَها، فتصدَّقَ بدرهم ليلًا، وبدرهمٍ نهارًا، وبدرهمٍ سرًّا، وبدرهمٍ علانيةً (١).
﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ تلخيصه: من أنفقَ للهِ يُثَبْ مع الأمنِ والفرحِ.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
[٢٧٥] ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ أي: يعامِلُون به، وخُصَّ بالأكل؛ لأنه معظمُ المقصود، والربا لغةً: الزيادةُ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الرِّبَا) بالإمالةِ حيثُ وقعَ (١).
﴿لَا يَقُومُونَ﴾ من قبورِهم.
﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ﴾ أي: إلا قيامًا مثلَ قيامِ.
﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ﴾ أي: يضربُهُ ويصرعُهُ.
﴿الشَّيْطَانُ﴾ والخبطُ: الضربُ على غيرِ استواء.
﴿مِنَ الْمَسِّ﴾ أي: الجنون. ومعناه: أن آكلَ الربا يُبْعَثُ يومَ القيامةِ وهو كمثلِ المصروعِ.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: العذابُ النازلُ بهم.
﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ أي: بسببِ قولهم:
﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ لأنه كانَ إذا حَلَّ على رجلٍ مالٌ، يقولُ لغريمه: زِدْني في الأَجَل، وأَزيدُك في الربحِ، فيفعلانِ ذلكَ، ويقولان: سواءٌ علينا الزيادةُ في أولِ البيعِ وعندَ المحلِّ لأجلِ التأخير، فكذَّبهم الله تعالى بقوله:
﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ هذا تصريحٌ أن القياسَ يبطلُه النصُّ؛ لأنه
﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ أي: بَلَغَهُ موعظةُ تذكيرٍ وتخويفٍ.
﴿مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ عن أكلِ الربا.
﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي: مضى من ذنبه قبلَ النهي مَعْفُوٌّ عنه.
﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ فيما يأمره وينهاه، وليس له شيء من أمر نفِسه.
﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى الربا بعدَ النهي.
﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ عن جابر قالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ" (١)، وقد اتفقَ الأئمةُ على تحريم الربا، وجوازِ البيع؛ لنصِّ الكتابِ والسنةِ فيهما، والبيعُ مصدرُ بعتُ، يقال: باعَ يبيعُ بمعنى: ملكَ، واشتقاقُهُ من الباع؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقِدَين يمدُّ باعَه للأخذِ والعطاء، ومعناهُ لغةً: إعطاءُ شيءٍ، وأخذُ شيء، وشَرْعًا: مبادَلَةُ المالِ بالمالِ لغرضِ التملُّكِ، ويصحُّ بالإيجابِ والقَبُول بالاتفاق، فيقولُ البائعُ: بعتُكَ، أو مَلَّكْتُكَ، ويقولُ المشتري: ابْتَعْتُ، أو قَبِلْتُ ونحوهما، واختلفوا في المعاطاة مثلَ أن يقول: أَعْطِني بهذا الدينار خُبْزًا (٢)، فيعطيه ما يُرضيه، أو يقولُ البائعُ: خذْ هذا بدرهم، فيأخذهُ، فقال الشافعيُّ: لا يصحُّ، وقال الثلاثة: يصحُّ؛ لأنه يدلُّ على الرضا المقصودِ من الإيجابِ والقبول.
(٢) "خبزًا" ساقطة من "ش".
[٢٧٦] ﴿يَمْحَقُ﴾ أي: ينقصُ.
﴿اللَّهُ الرِّبَا﴾ ويُذْهِبُ بَرَكَتَه.
﴿وَيُرْبِي﴾ أي: يزيدُ.
﴿الصَّدَقَاتِ﴾ ويُبارِكُ فيها. في الحديثِ: "ما نَقَصَتْ زَكَاةٌ مِنْ مَالٍ قَطُّ" (١).
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ بتحريمِ الربا.
﴿أَثِيمٍ﴾ مُصِرٍّ على الإثمِ (٢)، فاجرٍ بأكلِه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)﴾.
[٢٧٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من آتٍ.
﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فائِتٍ.
ونزلَ في المنعِ من المطالبةِ ببقايا الربا قولُه تعالى:
(٢) في "ن": "الربا".
[٢٧٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي كاملي الإيمان.
...
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)﴾.
[٢٧٩] ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ تَذَروا ما بقيَ من الربا.
﴿فَأْذَنُوا﴾. قرأ حمزةُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (فَآذِنُوا) بالمدِّ على وزنِ آمِنوا؛ أي: فأَعْلِموا غيرَكم أنكم حربُ اللهِ ورسوله، وقرأ الباقون: مقصورًا بفتح الذال؛ أي: فاعلموا أنتم وأَيقنوا (١).
﴿بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ عن ابن عباس: "يُقَالُ لِآكِلِ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: خُذْ سِلاَحَكَ لِلْحَرْبِ" (٢)، وَحَرْبُ اللهِ النَّارُ، وَحَرْبُ رَسُولهِ السَّيْفُ.
﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ عن الربا.
﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ التي أَرْبَيْتُمْ بها.
﴿لَا تَظْلِمُونَ﴾ بطلبِ الزيادة.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٣/ ١٠٢)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٢/ ٥٥٠).
فلما نزلت هذه الآية، قال المُرْبونَ: لا طاقةَ لنا بحربِ اللهِ ورسوله، ورَضُوا برأسِ المال، فشكا بنو المغيرةِ العسرةَ، وقالوا: أَخِّرونا إلى أن تدركَ الغلالُ، فأَبَوا، فأنزل الله (١):
﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)﴾.
[٢٨٠] ﴿وَإِنْ كَانَ﴾ أي: الذي عليه الدينُ.
﴿ذُو عُسْرَةٍ﴾ يعني: معسرًا، والعسرُ: ضدُّ اليُسر. قرأ أبو جعفرٍ: بضم السين، والباقون؛ بالجزم (٢).
﴿فَنَظِرَةٌ﴾ أي: إمهال.
﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ إلى وقتِ يُسْرٍ. قرأ نافعٌ: بضم السين، والباقون: بالفتح (٣).
﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ بتركِ رؤوسِ الأموالِ، أو بعضِها للمعسرِ.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٠٤)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢١٨).
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٢٩٥)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١٠٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣١٩)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٠٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢١٩).
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)﴾.
[٢٨١] ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ:
(٢) رواه مسلم (١٥٦٣)، كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، عن أبي قتادة -رضي الله عنه-.
(٣) في "ش": "بالفلاس".
﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقصِ ثوابٍ، وتضعيفِ عقاب. قال ابنُ عباس: "هَذِهِ آخرُ آيةٍ نزلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - ﷺ -" (٢)، فَقَالَ جِبْرِيلُ: ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ مِئَتَيْنِ وَثَمانِينَ آيةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٣)، وعاشَ بعدَها رسولُ الله - ﷺ - أحدًا وعشرين يومًا، وماتَ يوم الإثنين لاثنتي عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ من ربيعٍ الأولِ حينَ زاغتِ الشمسُ سنةَ إحدى عَشْرَةَ من الهجرة، وله ثلاثٌ وستون سنةً.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
(٢) رواه البخاري (٤٢٧٠)، كتاب: التفسير، باب: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٠٦).
[٢٨٢] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ تَعامَلْتُم.
﴿بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ مدةٍ معلومةٍ، قال ابنُ عَبَّاسٍ: "لَمَّا حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا، أَبَاحَ السَّلَمَ، وقالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ المضمونَ إلى أجلٍ مسمًّى قد أحلَّه اللهُ في كتابِهِ وأذِنَ فيه" (١)، واختلفَ الأئمةُ في السلم على حكم الحلول، فقال الشافعي: يصحُّ، وقالَ الثلاثةُ: لا يصحُّ إلا مؤجَّلًا، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ يكونُ الأجلُ له وقعٌ في الثمن؛ كالشهرِ ونحوِهِ، وعندَ مالكٍ إلى عدَّةٍ تختلفُ فيها الأسواقُ عُرْفًا؛ كخمسةَ عَشَرَ يومًا.
﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ دَيْنًا كانَ أو قَرْضًا، وهذا أمرُ استِحْباب عندَ الأكثر.
﴿وَلْيَكْتُبْ﴾ كاتبُ الدَّينِ.
﴿بَيْنَكُمْ﴾ أي: بينَ الخصمَيْن.
﴿كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أي: بالحقِّ.
﴿كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ هذا نهيٌ عن الامتناع من الكتابة.
﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ تلكَ الكتابةَ.
﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ بأن يُقِرَّ بلسانِه ليعلمَ ما عليه.
﴿وَلْيَتَّقِ﴾ المُمْلي.
﴿اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ﴾ أي: لا ينقِصْ.
﴿مِنْهُ﴾ أي: من الحق.
﴿شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ أي: جاهلًا بالإملاء.
﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ عن الإملاء لصغرٍ أو كبرٍ.
﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ لخرسٍ أو عُجْمة ونحوِ ذلك، المعنى: إذا عجزَ مَنْ عليه الحقُّ عن الإملاءِ. قرأ أبو جعفرٍ: (أَنْ يُمِلَّ هْوَ) بسكون الهاء (١).
﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ أي: قَيِّمُهُ أَو تَرْجُمانُه.
﴿بِالْعَدْلِ﴾ بالصدقِ، والحقّ، وقيل: وليُّه: صاحبُ الحقِّ؛ لأنه أعلمُ (٢) بحقِّهِ.
﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ اطلبوا.
(٢) "أعلم" ساقطة من "ش".
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا﴾ أي: الشاهدان.
﴿رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ﴾ أي: فليشهدْ رجلٌ.
﴿وَامْرَأَتَانِ﴾ وشهادةُ النساءِ مع الرجالِ في الأموالِ جائزةٌ بالاتفاقِ، وعند الثلاثةِ يثبتُ المال بالشاهدِ واليمين؛ خلافًا لأبي حنيفةَ، وعند مالكٍ يثبتُ المالُ بشهادةِ امرأتينِ ويمينِ المدَّعي؛ خلافًا للثلاثة، ومئةُ امرأةٍ عندَه كامرأتين، وتقبلُ شهادة أحدِ الزوجين للآخر عندَ الشافعي؛ خلافًا للثلاثة، وأما في غير الأموال، فتجوز شهادةُ النساءِ مع الرجال في غيرِ العقوبات؛ كالنكاح ونحوه عند أبي حنيفة فقط، وما لا يطَّلعُ عليه الرجالُ غالبًا؛ كعيوبِ النساء تحتَ الثياب، والرَّضاع، والاستهلالِ، والبكارةِ، والثيوبة، ونحوِها يثبتُ عند الشافعيِّ بشهادةِ رجلٍ وامرأتين، وشهادةِ أربعِ نسوةٍ، وعند مالكٍ بشهادةِ امرأتين، ويثبت ما عدا الرضاعَ عندَ أبي حنيفة بشهادةِ امرأةٍ واحدةٍ، وأما الرضاعُ، فلا يُقبل فيه شهادةُ النساءِ منفرداتٍ، ويثبتُ الجميعُ حتى الرضاعُ عندَ أحمدَ بشهادةِ امرأةٍ واحدةٍ، ولو كانت هي المرضعةَ، واتفقوا على عدم جواز شهادةِ النساءِ في العقوباتِ.
﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ أي: من كان مَرْضِيًّا في ديانته وأمانِته.
﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ أي: لأن تَضِلَّ، أي: تنسى.
﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ لتحمُّلِ الشهادة. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ عن يعقوبَ: (الشُّهَدَاءُ إِذَا) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بالتسهيل، وهو إبدال الثانية واوًا خالصة مكسورة (٢)، فتحمُّلُ الشهادةِ فرضُ كفايةٍ، وأداؤها إذا تعينت فرضُ عينٍ، ولا يحلُّ أخذُ أجرةٍ عليها بالاتفاق.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧١)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٢٤).
وعند مالكٍ يلزمُه الأداء من نحوِ البريدين، وإن كانا اثنين، ولا تحلُّ إحالتهُ على اليمين، وإن لم يجتزِ الحاكمُ باثنين، فعلى الثالث، ولا يلزمُ مِنْ أبعدَ، ولا يجوز أن ينتفع منه فيما يلزمه إلا في ركوبِ إن لم يكن له دابةٌ، وعسرَ مشيُه، ويجوزُ فيما لا يلزمُه (١) أن يقامَ بما يتكلفه من دابةٍ ونفقةٍ، عجزَ أو لم يعجز.
وعند الشافعيِّ إن كان القاضي معه في البلد، لزمه المشيُ إليه، وإن كان يأتيه من مسافة العَدْوى فما فوقها، فله طلبُ نفقةِ المركوب.
قال البغويُّ من أصحابه: وكذا نفقةُ الطريق.
وعند أحمدَ إذا دُعي إليها وقدرَ بلا ضررٍ يلحقُه، لزمَهُ الأداءُ، فعليه أن يقومَ بها على القريب والبعيد، و (٢) لا يسعهُ التخلفُ عن إقامتها، ويحرمُ أخذُ أُجرة وجُعْلٍ عليها مطلَقًا، ولكن إن عجزَ عن المشي، وتأذَّى به، فله أَخذُ أجرةِ مركوبٍ (٣).
وتشترطُ عدالةُ الشاهدِ (٤) عندَ الثلاثة.
(٢) الواو زيادة من "ت".
(٣) في "ت": "مركب".
(٤) في "ن": "العدالة للشاهدين".
وقال صاحباه: يُسْأَلُ عنهم في جميع الحقوق سِرًّا وعلانيةً، وعليه الفتوى.
﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ أي: تملُّوا.
﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ أي: الحقَّ.
﴿صَغِيرًا﴾ كانَ الحقُّ.
﴿أَوْ كَبِيرًا﴾ قليلَّا كَانَ أو كثيرًا.
﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾ هو المعلومِ.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الكتابُ.
﴿أَقْسَطُ﴾ أعدلُ.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ لأنه أمرَ بهِ.
﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ أي: أَعْوَنُ؛ لأن الكتابةَ تُذَكِّرُ الشهودَ.
﴿وَأَدْنَى﴾ أقربُ.
﴿أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ تشُكُّوا في الشهادةِ.
﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ قرأ عاصمٌ: بالنصب فيهما على خبر كان؛ أي: إلا أن تكونَ التجارةُ تجارةً.
وقرأ الباقون: بالرفع، وله وجهان: أحدهما: أن يُجْعَلَ الكونُ بمعنى الوقوع، معناه: ألَّا تقعَ تجارةٌ، والثاني: أن يُجعلَ الاسمُ في التجارة،
﴿حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا﴾ المعنى: إلا أن تكونَ التجارةُ حاضرةً يدًا بيدٍ تُديرونها.
﴿بَيْنَكُمْ﴾ ليسَ فيها أَجَلٌ.
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ يعني: التجارةَ.
﴿وَأَشْهِدُوا﴾ على التبايُع.
﴿إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ فإنَّه أدفعُ للاختلاف، وهذا أمرُ ندبٍ عندَ الأكثر.
﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ نهيٌ عن مُضارَّةِ الكاتبِ (٢) والشَّهيدِ، المعنى: إذا كانا مشغولينِ ويوجَدُ غيرُهما، فلا يُضارَّانِ بإبطالِ شُغْلِهما.
قرأ أبو جعفرٍ (يُضَار) بإسكان الراء، والباقون: بالنصبِ والتشديد (٣).
﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ الضِّرارَ.
﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ﴾ أي: معصيةٌ.
﴿بِكُمْ﴾ وخروجٌ عن الأمرِ.
(٢) في "ت": "الكتاب".
(٣) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٣٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص ت ١٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٢٥).
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ كرَّرَ لفظَ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها؛ فإن الأولى حَثٌّ على التقوى، والثانيةَ وَعْدٌ بإنعِامِه، والثالثةَ تعظيمٌ لشأنه.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)﴾.
[٢٨٣] ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ مسافِرين.
﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ﴾ أي: فالتوثُّقُ رُهُنٌ.
﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ مسلَّمَةٌ إلى المرتهن، ولا بدَّ من القبضِ، فلا يتمُّ الرهْنُ بدونه، بالاتفاق، واستدامةُ القبضِ شرطٌ للُّزُومِ عند مالكٍ وأحمدَ، فمتى خرجَ عن يدِ المرتهنِ باختياره، زالَ لزومه، وبطلَ الرهنُ، وعندَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ إذا أعادَهُ المرتهنُ مع بقاءِ الرهنِ، فلزومُه باقٍ، والرهنُ صحيحٌ، ونقلَ الزمخشري في "كَشَّافه" عن مالكٍ: أنه يصحُّ عندَه الارتهانُ بالإيجاب والقَبول بدونِ القبضِ (١)، وهو وهم. قرأ ابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرٍو: (فَرُهُنٌ) بضم الراء والهاء من غير ألف، والباقون: (فَرِهانٌ) بكسرِ الراءِ وفتحِ الهاءِ
﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أي: وَثِقَ إليه لأمانتِهِ.
﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ أي: فليقضِ المديونُ ما عليهِ من الدَّينِ، وسُمِّيَ أمانةً؛ لتعلُّقِه بالذمَّة؛ كتعلُّقِ الأمانِة.
﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ في أداءِ الحقِّ، ثم التفتَ مخاطبًا للشهود فقال:
﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ إذا دُعيتم إلى إقامتِها، ثم تهدَّدَهم فقال: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ﴾ أي: يأثمُ.
﴿قَلْبُهُ﴾ لأنَّ الكتمانَ يُقَرُّ فيهِ، ولأنَّ القلبَ هو رئيسُ الأعضاءِ، والمضغةُ التي إن صلحَتْ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإن فسدَتْ، فسدَ الجسدُ كلُّه، فكأنه قيل: قد تمكَّنَ الإثمُ في أصلِ نفسه، ومَلَكَ أشرفَ مكان فيه، والقلبُ هو محلُّ تحمُّلِ الشهادةِ والعقائدِ والنياتِ.
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس: "أَكْبَرُ الكبائرِ الإشْراكُ باللهِ، وشَهادةُ الزورِ، وكَتْمُ الشَّهادَةِ" (٢) والشهادةُ حجَّةٌ شرعيةٌ تُظْهِرُ الحقَّ ولا تُوجِبُهُ، فهيَ الإخبارُ بما عَلِمَهُ بلفظٍ خاصٍّ.
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)﴾.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٣/ ١٤١).
﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾ تُعْلِنوا.
﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ تسُرُّوهُ.
﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ والصحيحُ أنَّ هذهِ الآيةَ عامةٌ، تلخيصُه: أن الله تعالى يحاسب بِكُلٍّ عَبيدَهُ.
﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الذنبَ العظيمَ.
﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ على الذنبِ الحقيرِ، وكلُّ ما يفعلُه عدلٌ - سبحانه -. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (فَيَغْفِرُ) و (يُعَذِّبُ) برفع الراء والباء على الابتداء؛ أي: فهو يغفرُ ويعذبُ، والباقون: بالجزم عطفًا على جواب الشرط (١)، وأدغمَ الراءَ في اللام أبو عمرٍو، وأظهر الباءَ عندَ الميم بعدَ سكونها ورشٌ، وابنُ كثيرٍ، بخلافٍ عن الثاني، وأدغَمَها الباقون من أصحابِ الإسكان في الميم (٢).
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدِرُ على الإحياءِ والمحاسبة.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٤)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٣٦١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٣٠).
[٢٨٥] ﴿آمَنَ﴾ صدق.
﴿الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فهو جازمٌ في أمرِه غيرُ شاكٍّ فيه.
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ﴾ أي: كلُّ واحدٍ منهم.
﴿آمَنَ بِاللَّهِ﴾ ولذلكَ وَحَّدَ الفعلَ.
﴿وَمَلَائِكَتِهِ﴾ لتحقيقِ كمالِ العظمة في خلقِهم وانقيادِهم ودخولهم في الملك، وتقديمُ الملائكةِ لا إشعارَ (١) فيه بأفضليَّتِهم على الرُّسُلِ بواسطةِ تأخيرِهم ذِكْرًا؛ لأن الغرضَ المسوقَ له الكلامُ مدحُ من صَدَّقَ بالغيب، فما كانَ أدخلَ في الغيبِ كانَ تقديمُه أهمَّ، والمدحُ عليه أَتَمَّ، رعايةً للمقامِ باعتبارِ ما سِيقَ له المقالُ، فتقديمُ ما اشتدَّ فيه الغيبُ حَقُّ السياق، وصرَّحَ بالرسلِ دونَ الأنبياء، مع أن الإيمانَ بالأنبياءِ مستلزمٌ الإيمانَ بالرسل، ولا عكسَ، لأنَّ بالتبليغِ قامتِ الحجَّةُ، واستقامَتِ المحَجَّةُ، وهم المخبرونَ عن المستترِ علمُه بأمر الله لهم، فالتنصيصُ عليهم أنسبُ بالحال.
﴿وَكُتُبِهِ﴾ لما اشتملَتْ عليه من إرشادِ العبيد إلى معبودهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَكِتَابِهِ) بالألف على التوحيد، يعني: القرآن، والباقون: بغير ألف على الجمع؛ لقوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ﴾ (٢).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٥٢)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٩٦)، =
﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ فنؤمنُ ببعضٍ ونكفرُ ببعضٍ؛ كاليهودِ والنصارى. قرأ يعقوبُ: (لا يُفَرِّقُ) بالياء، فيكونُ خبرًا عن الرسول، ومعناه: لا يفرقُ الكُلُّ، وقرأ الباقون: بالنون على المعنى الأول (١).
﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا﴾ أَجَبْنا.
﴿وَأَطَعْنَا﴾ دَخَلْنا في الطاعة، وهذا تمامُ المدحِ لهم؛ حيث ضمُّوا إلى الاعتقاد بالجَنان النُّطْقَ باللسان، روُي أنه لما نزلَتْ هذه الآيةُ، قالَ جِبريلُ للنبيِّ - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهْ، فَقَالَ بِتَلْقِينِ جِبْرِيلَ إِيَّاهُ: غُفْرَانَكَ" (٢)؛ أي: اغفر.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣١٥)، و"الكشاف" للزمخشري (١/ ١٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٣٢).
(٢) روى ابن جرير الطبري في "تفسيره" (٣/ ١٥٣)، عن حكيم بن جابر -رضي الله عنه- قال: لما أنزلت على رسول الله - ﷺ -: "آمن الرسول... " قال جبريل: "إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها". انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان عند تفسير الآية (١٣١) من سورة البقرة، و"روح البيان" للآلوسي عند تفسير الآية (٢٨٤) من السورة، وذكر الآلوسي قول الزمخشري بأنه طعن -على عادته- في القراءات =
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)﴾.
[٢٨٦] ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أي: طاقَتَها، والوُسْعُ: خِلافُ الضِّيقِ، وهو ما يسعُ الشيءَ ولا يضيقُ عليه، قال ابنُ عباسٍ: "هُمُ المؤمنونَ خاصَّةً، وَسَّعَ عليهم أَمْرَ دينهم، ولم يُكَلِّفْهم إلا ما يستطيعون" (١)، والتكليفُ: إلزامُ الكُلْفَةِ على المخاطَب، فلا يكلَّفُ معدومٌ حالَ عدمهِ بالاتفاق، ونَكَّرَ نَفْسًا؛ لأنه أوفى بالشيوع، وأولى بالشُّمول. قرأ أبو عمرٍو: (المَصِير لَّا يُكَلِّفُ) بإدغام الراء في اللام.
﴿لَهَا﴾ أي: للنفسِ.
﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من أعمالِ البرِّ.
﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من اقترافِ ما يُوقِعُها في الحرجِ، وكان بنو
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣١٦).
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ تعاقِبْنا.
﴿إِنْ نَسِينَا﴾ غَفَلْنا.
﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ جَهِلْنا.
﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ ثِقلًا، وأصلُ الإِصْرِ: العَقْدُ والإحكامُ.
﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ يعني: اليهودَ، فلم يقوموا به، فعذبتَهُمْ.
﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا﴾ تُكَلِّفْنا.
﴿مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ من الأعمالِ الشاقَّة، وهو كلُّ ما نضعُفُ عن حملِهِ.
﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ بمحوِ ذنوبِنا، فلا يبقى لها أثرٌ.
﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ تفضَحْنا. قرأ أبو عمرٍو: (وَاغْفِر لَّنَا) بإدغام الراء في اللام (١).
﴿وَارْحَمْنَا﴾ بإيصالِ فضلِك، واتِّصالِ كرمك، وعن ابنِ عباسٍ: "أنَّ النبي - ﷺ - لما دَعا بهذِهِ الدَّعَواتِ قِيلَ لَهُ عِنْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا: قَدْ فَعَلْتُ" (٢).
﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ سيدُنا وولِيُّنا.
(٢) رواه مسلم (١٢٦)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق.
قال - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِألفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ، فَلا تُقْرَأَانِ في دارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ" (١).
وقال - ﷺ -: "مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ" (٢).
وكانَ مُعاذٌ إذا ختمَ البقرةَ يقولُ: آمين (٣)، قالَ ابنُ عطيةَ: هذا يُظَنُّ به أنه رواهُ عن النبيِّ - ﷺ -، وإنْ كانَ ذلكَ، فكمالٌ، وإن كانَ بقياسٍ على سورةِ الحمدِ من حيثُ هناكَ دعاءً، وهنا دعاء، فَحَسَنٌ، والله أعلم (٤).
(٢) رواه البخاري (٤٧٢٢)، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، ومسلم (٨٠٧)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه-.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٧٩٧٦).
(٤) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (١/ ٣٩٥).