تفسير سورة طه

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة طه من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة طه
هي مكية وعدد آياتها خمس وثلاثون ومائة آية وهذه السورة تحدد موقف النبي صلّى الله عليه وسلم، وأنه رسول فقط، وليس عليه إلا البلاغ، والله معه لن يتركه وتلك سنته مع الأنبياء والمؤمنين فهذا موسى ومن آمن معه مع التذكير بيوم القيامة والتعرض لقصة آدم ليتعظ أبناؤه ويعرفوا موقفهم من الشيطان.
القرآن ومن أنزله [سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
المفردات:
طه هو اسم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: اسم من أسمائه تعالى أقسم به، وقيل: أصله طأ الأرض فالهاء ضمير الأرض والهمزة من طأ خففت ألفا، وقال بعضهم في تصرفها الألف حذفت للأمر وهذه الهاء للسكت، والرأى الأول أرجح لموافقته رسم المصحف وسياق المعنى تَذْكِرَةً تذكيرا الْعُلى جمع العليا مؤنث الأرض الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى راجع تفسيرها في ج ٨ ص.
476
روى ابن إسحاق في كتب السيرة أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام وقد خرج في يوم متوشحا سيفه يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم فلقيه نعيم بن عبد الله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا الصابئ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسبب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض، وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟! فقال: وأى أهل بيتي؟ قال: ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما، قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها أول سورة «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا صوت عمر تغيب خباب في مخدع لهما، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال: ما هذه الهينمة- الكلام الخفى الذي لا يفهم- التي سمعت؟ قالا له أسمعت شيئا؟! قال: بل والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك، ولما رأى عمر ما صنع ندم وارعوى وقال لأخته: أعطنى هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال لها: لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر، واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها «طه» فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه فقال له: والله يا عمر والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإنى سمعته أمس وهو
يقول «اللهمّ أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب»
فالله الله يا عمر فقال له عمر، دلني يا خباب على محمد حتى آتيه، فأسلم ورضى الله عنه.
المعنى:
يقول الله- تبارك وتعالى-: يا طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وتتعب، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحرص على إيمان قريش. وكان يلقى في سبيل هذا ألما وتعبا
477
شديدين حتى قال بعض الكفار له، ما أنزل عليك القرآن إلا لتشقى، وقال له النضر ابن الحارث وأبو جهل بن هشام، إنك يا محمد شقي لأنك تركت دين آبائك وأجدادك، وقد كان يقوم بالليل حتى تتورم قدماه فقيل له، يا طه ما أنزل عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ أو لتتعب بكثرة العبادة. ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن تحملهم على الإيمان فالقرآن ما نزل إلا تذكرة وموعظة لمن يخشى ومن هنا تعرف السر في فساد بعض القلوب، وأنها لا تتذكر بالقرآن، السر هو أن عنصر الخشية مفقود عندهم، الخشية من الله ومن حسابه، والخوف من الضمير ومن تأنيبه والمجتمع الإنساني ولومه، فالقرآن تذكرة وشفاء وهدى ونور لمن يخشى الله من الناس، ومن له قلب فيه شيء من الخوف.
أما النفوس الميتة، والقلوب التي هي كالحجارة أو أشد قسوة فأصحابها صم بكم لا يعقلون!! هذا هو القرآن الكريم. أما صاحبه والذي أنزله فهذا خبره.
ونزلناه تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى، فهو المقتدر الحكيم الخبير والعليم البصير..
هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها، على العرش استوى والله- سبحانه وتعالى- ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث فاستواؤه على العرش نؤمن به على أنه بلا كيف ولا انحصار، وهذا رأى السلف وهو قبول ما جاء في تلك من الكتاب والسنة كقوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح آية ١٠] من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
أما الخلف فقالوا هذا كلام ليس على حقيقته بل هو مؤول، المراد بالاستواء الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل، والعرش هو الملك، لله ما في السموات والأرض وما بينها وما تحت الثرى مما لا تراه العيون، له كل ذلك مما نعلم، ومما نعلم ملكا وخلقا وتصريفا- سبحانه وتعالى-، وهو عالم الغيب والشهادة المحيط بكل شيء الذي يستوي عنده الجهر بالقول والإسرار به، بل هو يعلم السر ما هو أخفى منه مما لم تحدث نفسك به، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي تدل على كمال التقديس وتمام التنزيه.
478
ترى أنه وصف صاحب القرآن ومنزله- سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه خلق الأرض والسموات العلى، وأنه الرحمن صاحب النعم، وأنه استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون، وأنه له ما في السموات وما في الأرض، وما بينهما وما تحت الثرى، وأنه العالم بكل شيء سواء عنده السر والجهر، وأنه الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى- تبارك وتعالى-.
فهل يعقل بعد ذلك أن يدعى محمد- وهو المخلوق الضعيف- على الله الموصوف بهذه الصفات هذا القرآن؟!! وهل يعقل بعد هذا ألا ينصر الله رسوله ويؤيده ويعصمه من الناس؟!! أبعد هذا يعقل أن يتخذ إنسان صنما من حجر أو خشب شريكا لهذا الباري الموصوف بهذه الصفات.
لذلك كله بادر عمر بن الخطاب لما أراد الله له الخير- إلى الإسلام- وجاهر به، وأصبح الساعد القوى المجاهر بالدعوة، الفاهم لها المستميت في الدفاع عنها- رضى الله عنه- وعن أصحاب رسول الله أجمعين.
قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل
قصة من القصص المهمة التي كثر ذكرها في القرآن في عدة سور ومواضع فيه، وهي إلى حد تشبه السيرة النبوية في كثير من مراحلها، لذلك عنى القرآن بها وما ذكر هنا في قصة موسى مناسب لما قبله إذ انتهى السياق أولا إلى التوحيد اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وقد أبانت القصة في أول أمرها التوحيد الكامل حيث خوطب النبي موسى بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وهذا يفيد أن التوحيد أمر مستمر فيما بين الأنبياء يتلقونه كابرا عن كابر، وأنت ترى أن رسالة موسى بدأت به وختمت كذلك إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
ولعلك تدرك بعض السر في اختلاف القصة الواحدة في القرآن لأنها تساق في كل موضع بما يناسبه بدءا ونهاية.
479
ويحسن بمن يريد أن يلم بقصة موسى- عليه السلام- إلماما مرتبا على حسب الطبيعة والواقع أن يقرأ كتاب قصص الأنبياء للشيخ النجار، وغيره من الكتب التي كتبت في سيدنا موسى- عليه السلام-، ونحن هنا مقيدون بشرح القرآن على ترتيبه الإلهى الذي لا يعلم سره إلا الله.
والقصة هنا عالجت موضوعات وعناصر أهمها ما يأتى:
موسى بالوادي المقدس بعد قضائه الأجل في مدين، بعثته وما طلبه من ربه، بعض الألطاف التي صادفت موسى، دعوة موسى لفرعون، ومحاجته له، موسى والسحرة التي جمعها فرعون، خروج بنى إسرائيل من مصر وطلب فرعون لهم، اتخاذ بنى إسرائيل العجل إلها يعبدونه.
موسى بالوادي المقدس [سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
480
المفردات:
امْكُثُوا أقيموا في مكانكم آنَسْتُ ناراً أبصرت نارا والإيناس الإبصار البين الذي لا لبس فيه ومنه إنسان العين لأنه يبصر الأشياء ويتبينها بِقَبَسٍ القبس النار المقتبسة الْمُقَدَّسِ المطهر طُوىً اسم الوادي أُخْفِيها من الأضداد أى أكاد أظهرهما أو أسترهما فهي تدل على معنيين متضادين فَتَرْدى فتهلك.
المعنى:
فلما قضى موسى الأجل الذي ضربه بينه وبين صهره الشيخ الكبير بمدين قيل:
هو شعيب وقيل: غيره والله أعلم.
فلما قضى الأجل واستأذن في السفر إلى مصر خرج هو وامرأته وغنمه فلما وافى وادي طوى، وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له في ليلة باردة مظلمة شاتية، وقد ضل الطريق، فأراد نارا ليدفئ بها امرأته التي ولدت فقدح زنده فلم يخرج نارا فبينما هو في أشد الحاجة إلى النار أبصر على يسار الطريق من جانب الطور نارا فقال لأهله:
امكثوا وأقيموا في مكانكم لا تبرحوه إنى آنست نارا: وأبصرت ما يؤنسنا على سبيل الجزم، وأما إتيان قبس منها أو وجدان هداية للطريق عندها فأمر مشكوك فيه ولذا قال. لعلى آتيكم منها بشعلة من النار المقتبسة منها، أو أجد على النار هاديا يهديني إلى الطريق الحق الموصل إلى ما نريد.
فلما أتاها وجدها نارا بيضاء صافية، مشتعلة في شجرة خضراء يانعة، أنكرها وتوجس خيفة منها، فلما أتاها بهذا الشكل نودي من قبل الرب- سبحانه وتعالى-: إنى أنا ربك.
ولعل نداءه عند النار بعيدا عن أهله وماله، وقد ضل الطريق المألوف للناس إشارة إلى ما يجب أن يكون عليه الأنبياء والدعاة إلى الله من تجردهم من الدنيا وأهلها وتنكبهم الطرق المألوفة عندهم.
ونودي من قبل الله أن يا موسى فارتاع لهذا النداء وشك في مصدره. فقال الله له على سبيل التوكيد. إنى أنا ربك الذي خلقك وسواك وعدلك، ورباك في بيت
481
عدوك ولحظك بعنايته ورعايته إلى هذا الوقت فاخلع نعليك احتراما وتقديسا، وإجلالا وتعظيما إنك بالوادي المقدس المطهر الذي يقال له طوى.
وأنا اخترتك يا موسى، واصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فاستمع إلى كل ما يوحى إليك، وخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
إننى أنا الله لا إله إلا أنا، ولا معبود بحق سواي، فاعبدني مخلصا لوجهي، وأقم الصلاة لتذكرني بها، أو لأذكرك في علين بها، واعلم أن الساعة آتية لا محالة، أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتى خفاءها، ولا ما في الإخبار بإتيانها- مع تعميمه وقتها- من المصلحة لما أخبرت به، وهذا معنى جميل، ذكره الزمخشري والقرطبي وغيرهما، ويؤيده أن كل لفظ في الآية أدى معناه الموضوع له. قال اللغويون: «كدت أفعل» معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل، «وما كدت أفعل» معناه فعلت بعد إبطاء. وعلى هذا فمعنى الآية إن الساعة آتية لا شك فيها وقاربت أن أخفيها ولكني لم أفعل لقولي سابقا إنها آتية، فهي آتية في وقت الله أعلم به، والله أخفى الساعة أى: القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ولا يؤخر التوبة لحظة، ودائما يترقب الموت في كل لحظة، ولو عرف الإنسان الساعة لوقفت الحياة وما عمرت الدنيا.
وبعضهم يرى أن المعنى: إن الساعة آتية أكاد أظهرها وقوله: لتجزى كل نفس بما عملت متعلق بآتية، ويؤيد هذا قراءة أخفيها واللغة لا تمنع، ذلك وهناك من يرى أن الآية هكذا، إن الساعة آتية أكاد بمعنى أن الساعة آتية أكاد آتى بها ثم يبدأ كلاما جديدا بقوله أخفيها وأكتمها لتجزى كل نفس بما تسعى، وهذا المعنى حسن وليس فيه إلا حذف خبر «أكاد» وله نظير في كلام العرب، قال الضابئ البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكى حلائله
فالشاعر العربي حذف أى: وكدت أفعل، ولكني لم أفعل، وعثمان هو عثمان بن عفان الخليفة الثالث- رضى الله عنه-.
فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ولا يمنعك من الإيمان بها والتصديق لها من لا يؤمن بها، واتبع هواه، إنك إن فعلت ذلك تهلك، وفي هذه إشارة إلى أن كل داعية
482
للخير لا بد من وجود من يعوقه ويكفر به وبرسالته، ويعمل على إخفاء نوره ولكن لا يعوقه ذلك، والله متم نوره ولو كره المبطلون.
بعثة موسى- عليه السلام- وما طلبه من ربه [سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٣٥]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
المفردات:
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها التوكؤ التحامل على شيء، وهو بمعنى الاتكاء والمراد أعتمد عليها وَأَهُشُّ يقال هش الورق يهشه إذا خبطه ليسقط والمراد أسقط بها الورق على غنمي لتأكل مَآرِبُ جميع مأربة وهي الحاجة جَناحِكَ جنبك طَغى جاوز
483
الحد عُقْدَةً مِنْ لِسانِي العقدة اللكنة في اللسان وَزِيراً مأخوذ من الوزر لأن الوزير ملجأ الرئيس ومستشاره في الرأى أو من الوزير لأنه يحمل عن الرئيس بعض العبء أو من المآزرة لأنه يعينه في الحكم أَزْرِي أى: قوتي والمراد قوتي به.
المعنى:
قد أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى وقال إنى أنا ربك إلخ الآية ثم قال له: وما تلك بيمينك يا موسى؟ ما هذه التي بيمينك يا موسى؟ سأله عما في يمينه- وهو العالم بكل شيء- ليلفت نظره إلى العصا وحقيقتها، ليدرك عظمة الله وقوته حيث يقلبها إلى حية تسعى!! وفي هذا تربية لموسى حتى لا يستبعد على الله شيئا بعد ذلك.
قال موسى مجيبا لربه مطنبا في كلامه لأن المقام يقتضى من التطويل- ليتلذذ بخطاب الرب- سبحانه وتعالى-:
هي عصاي ثم أخذ يسرد بعض منافعها فقال: أعتمد عليها في سيرى، وأسقط الورق بها على غنمي، ولي بعد ذلك مآرب وحوائج أخرى فيها، وللعصا وفوائدها عقدت فصول في الأدب العربي ممتعة كالذي عقد في البيان والتبيين للجاحظ وغيره.
قال الله له: ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى على الأرض، وثعبان يلتهم الحجارة وكل شيء، وكأنها جان من شدة الحركة وسرعة المشي.
ولما رأى موسى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه الفزع، وتولاه ما يملك البشر من الخوف والجزع قال له ربه: يا موسى، أقبل عليها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فأخذها ووضع يده بين فكيها فعادت كما كانت، والله على كل شيء قدير.
واضمم يا موسى يدك إلى جنبك. أدخل يدك فيه تخرج بيضاء كالشمس من غير برص بها- وكان- عليه السلام- رجلا جعدا طوالا- فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء كالثلج ثم ردها في جيبه فعادت كما كانت على لونها.
فذلك برهانان من ربك لتعلم بهما قدرة الله وتصريفه للأمور، فعلنا هذا لنريك الآية الكبرى حالة كونها من آياتنا. وهل الآية الكبرى هي العصا أو اليد؟ قولان
484
والظاهر والله أعلم أنها اليد لأن العصا انقلابها حية كانت تشبه السحر، وحاول السحرة إبطالها، وأما اليد فلم يحاول أحد إبطالها ومعارضتها.
بعد هذا اذهب إلى فرعون إنه طغى، وجاوز الحد في الإشراك بالله وتعذيب بنى إسرائيل.
قال موسى وقد صدع بالأمر: رب اشرح لي صدري، افتح لي قلبي حتى أكون حليما صبورا حمولا، يستقبل ما عساه يرد عليه من الشدائد بصدر رحب، وقلب ثابت.
ويسر لي أمرى الذي أردته لي حتى يكون سهلا، لا صعوبة فيه تعوقنى، ولا شدة فيه تؤودنى.
واحلل عقدة من لساني، وقد كان في لسانه رثّة لما
روى أنه نتف شعرة من ذقن فرعون وهو صغير فغضب، وتوجس منه شرا فقالت امرأته: إنه صغير لا يدرى شيئا فأتت له بجمرة وبلحة فوضع الجمرة على لسانه فكان فيه رتة ولكنة.
ويقول الشيخ النجار، إنه يحتمل أن تكون اللكنة ناشئة من عدم رضاعته وهو صغير مدة أثرت عليه، وتلك عادة معروفة في الأطفال أو أن موسى حينما مكث في مدين عشر سنين تغير لسانه ونسى لهجة المصريين فطلب أن يكون معه هارون ليترجم له ويساعده على التفاهم، وكان لسان هارون مصريا لمخالطته المصريين وعبريا لأنه إسرائيلى فيمكنه التفاهم مع موسى بطلاقة، ومع المصريين كذلك.
واجعل لي وزيرا من أهلى هارون أخى، اشدد به أزرى، وأشركه في أمرى ليتحمل معى تلك الأمانة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً.
بعض الألطاف التي صادفت موسى [سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
485
المفردات:
سُؤْلَكَ مسئولك أى: مطلوبك مَنَنَّا المن: الإحسان والإفضال التَّابُوتِ صندوق من الخشب فَاقْذِفِيهِ فألقيه واطرحيه فِي الْيَمِّ البحر والمراد نهر النيل وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ولتربى وأنا مراعيك ومراقبك فُتُوناً اختبرناك اختبارا حتى تصلح للنبوة والرسالة عَلى قَدَرٍ على وعد وأمر مقتضى به وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اصطنعتك لوحيي ورسالتي وَلا تَنِيا تضعفا في أمر الرسالة، والونى: الضعف والفتور والكلال والإعياء.
مر ببني إسرائيل فترة عصيبة، وهم في مصر تحت حكم فرعون، فأخذ يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم، ويذيقهم العذاب ألوانا.
في أثناء تلك العاصفة الهوجاء ولد لرجل من بنى إسرائيل يقال له عمران من زوجته (يوكابد) ولد فلما ولدته خبأته عن عيون من يطلبه من أعوان فرعون وجنوده لقتله فمكث عندها ثلاثة أشهر فلما خافت افتضاح أمرها أعلمها الله وعلمها عن طريق الوحى بنبي، أو ملك، أو إلهام أن تصنع له ما يشبه الصندوق وتطليه بالزفت والقطران، وتلقيه في اليم ففعلت، ووكلت لأخته مريم أن تتبع أثره، وتعلم خبره.
486
وكان الله- تعالى- قد أعلمها أنه راده إليها، وجاعله من المرسلين فلم تزل أخته تراقبه حتى علمت أنه التقط وأدخل دار فرعون، وأن عين زوجة فرعون، قد وقعت عليه فألقى الله عليها محبته. فأحبته ليكون قرة عينها وعين فرعون، راجية أن ينفعها أو يتخذاه ولدا، وهذا تدبير من الله لموسى وأمه لأنه سيعود إليها لتكون مرضعته وتتقاضى على ذلك أجرا وهي آمنة مطمئنة. يا سبحان الله ينشأ موسى في بيت فرعون عدوه وعدو ربه!! وكانت عناية الله تلحظه فلم يقبل ثدي امرأة أبدا إلا ثدي أمه.
وسيأتى في سورة القصص مزيد بيان لهذا: وإنما ذكرها ها هنا باختصار على أنه من نعم الله على موسى.
المعنى:
لما سأل موسى ربه أن يشرح له صدره، وييسر له أمره وأجاب سؤله وأتاه طلبته (مطلوبه) ومرغوبه أخذ يسرد ما من به على موسى فقال:
ولقد مننا عليك وأحسنا مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك، وألهمناها أمرا لا سبيل إليه إلا بالوحي إذ فيه مصلحة دينية توجب أن يعتنى به فهو أمر عظيم جدير بأن يوحى به من الله.
أوحينا إليها أن تصنع صندوقا محكما، وتضع فيه موسى، وأن تقذفه وتلقيه في نهر النيل، ولما كانت إرادة الله حاصلة صار كأن اليم يعقل وقد أمره الله بأن يلقيه إلى الساحل الذي فيه فرعون وامرأته، فبينما هو جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه هو وزوجته، وذلك معنى قوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أى: أحبه الله وحببه إلى خلقه وبالأخص فرعون وزوجته آسية.
ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء العزيز لديه بعينه إذ تمشى أختك في أثرك فتراك قد امتنعت عن المرضعات كلها. فتقول لهم في ثوب الناصح: أفلا أدلكم على مرضع له فيقول لها: هاتها فأحضرت له أمه فأرضعته، وهذا معنى قوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.
487
وكان موسى وهو فتى ابن اثنتي عشرة سنة وقد امتلأ قلبه غيظا وحنقا على معاملة المصريين لبني إسرائيل، رأى رجلا مصريا يقتتل مع إسرائيلى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي هو من عدوه فوكزه موسى وضربه فقضى عليه وقتله، فلما علم فرعون بذلك أراد قتل موسى في المصرى فأخبره رجل مؤمن من آل فرعون بذلك، ففر هاربا لا يلوى على شيء حتى وصل إلى مدين، وأقام هناك عشر سنين، وهذا معنى قوله تعالى وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ قتلت نفسا فنجاك الله من الغم في الآخرة بالتوبة والندم وفي الدنيا بالفرار إلى مدين فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك اختبارات حتى صلحت للقيام بالرسالة ولا غرابة فأنت تصنع وتخلق لهذا، وتربى وتنشأ لتحمل الرسالة لبني إسرائيل.
فلبثت سنين في أهل مدين هي عشرة وقيل أكثر.
ثم جئت على قدر يا موسى، ثم جئت على وعد وزمن محدد قد قدره الله وقضاه فلم تتقدم لحظة ولم تتأخر، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سورة الرعد آية ٨].
اصطنعتك لنفسي، واخترتك لوحيي ورسالتي، وعلى هذا اذهب أنت وأخوك بآياتى، ولا تضعفا في ذكرى فإنى معكما أسمع وأرى.
دعوة موسى لفرعون، ومحاجته له [سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٥٦]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١)
قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)
488
المفردات:
لَيِّناً سهلا لا خشونة فيه ولا شدة يَفْرُطَ عَلَيْنا أى: يعالجنا بالعقوبة ويعاملنا معاملة المتقدم في الذنب، والمادة تدل على التقدم والإسراف ولذا قيل اليوم السابق فارط، ولمن أسرف فرط وأفرط خَلْقَهُ صورته وشكله فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالها وما شأنها؟ لا يَضِلُّ لا يخطئ مَهْداً كالفراش في الشكل والمعنى لِأُولِي النُّهى لأولى العقل.
موسى وهارون- عليهما السلام- أرسلا إلى قومهما بني إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه تبعا ليخلصا بني إسرائيل من حكم فرعون وظلمه، ويدخلوهم في شريعة الحق- سبحانه وتعالى-.
489
المعنى:
اذهب يا موسى أنت وأخوك إلى فرعون وملئه إنه طغى وجاوز الحد المعقول في الشرك بالله، وتعذيب بني إسرائيل: اذهبا إليه فقولا له قولا لينا لا خشونة فيه، وجادلاه بالتي هي أحسن فهو رجل مغرور كافر معاند لعله يتذكر أو يخشى.
قالا: يا ربنا، إننا نخاف أن يفرط علينا، ويبادرنا بالعقوبة ويطغى، والخوف من الظالم الجبار لا ينافي التوكل على الواحد القهار، والأخذ بالأسباب والمسالك، على أن الخوف من طبيعة البشر.
قال الله لهما: لا تخافا من شيء إننى معكما أسمع كل شيء يسمع، وأبصر كل شيء يبصر، وأرى كل شيء يرى، نهاهما الله عن الخوف من فرعون لأنه معهما بالمعونة والنصر وهو يعلم بكل ما يحصل لهما، وليس بغافل عنهما.
ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار.
فقولا له: إنا رسولا ربك أرسلنا إليك، فأتياه وقالا له ذلك، وأمرهما أن يقولا:
فأرسل معنا بني إسرائيل، ولا تحجزهم وخل عنهم، ولا تعذبهم، وقد كانوا في عذاب أليم، وتعب شديد كما مضى، وقد جئناك يا فرعون بآية دالة على صدقنا، وقيل إن فرعون قال: ما هي؟ فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء، لها شعاع مثل شعاع الشمس، فعجب منها، ولم يره العصا إلا يوم الزينة.
والسلام من سخط الله وعذابه حاصل لمن اتبع الهدى وليس تحية لأن المقام ليس مقام تحية.
ولما فرغ موسى مما قال- وذكر لفرعون أنه يريد إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية، وفرعون ملك جبار تدين له الأمة المصرية وتذعن لقداسته، وقد رأى من موسى أمرا لا يقره ولا يرضاه حيث قال له: إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل وهو يقول للناس أنا ربكم الأعلى، ويستذل الإسرائيليين ويستعبدهم في أغراضه- أخذ يجادل موسى ويحاجه.
ولما علم موسى وهارون عدم إيمانه، وتماديه في الباطل قالا له: إنا قد أوحى إلينا
490
من ربنا أن العذاب والنكال، والهلاك والدمار في الدنيا والآخرة واقع لا محال على من كذب وتولى، وكذب بالوحدانية وأعرض عن رسول الله ولم يصدقه.
وكان في جداله يقول: فمن ربكما يا موسى؟ قالا: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه وصورته وشكله، الذي يناسب المنفعة المطلوبة منه كاليد للبطش والرجل للسير والعين للنظر، والثدي واختلاف شكله وعدده للرضاع وهكذا.
ثم هدى كل نفس لما يطلب منها، وما توفق إليه.
قال فرعون: فما بال القرون الأولى؟ التي انقرضت قبلكما ولم يقروا بالوحدانية.
أجابا: إنها في علم الغيب، والله وحده يعلم ما عملوا وجزاءهم، وهم في كتاب محفوظ، لا يطلع عليه أحد.
والله لا يضل أبدا ولا يخطئ أبدا، ولا ينسى أبدا- سبحانه وتعالى-، وهو الذي جعل لكم الأرض مهادا، وسلكها سبلا فجاجا، وجعلها كالفراش المبسوط وهي في الواقع كالكرة المكورة.
وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا وضروبا من نبات مختلفة.
كلوا وارعوا أنعامكم، وتمتعوا بخيراتكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.
من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم مرة أخرى للثواب والعقاب تراه وصف الرب- سبحانه وتعالى- بما يقطع حجة فرعون، ويرد كيده في نحره، ويملأ قلبه خوفا من عالم الغيب، وفيه تذكير له بأصله وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر بدنياه وملكه، وليعلم أن وراءه يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون، وتلك آيات بينات ولكنها لأولى النهى، إنما يتذكر من يخشى.. ولقد أرينا فرعون آياتنا كلها وبصرناه بها، ولكنه كذب وأبى عنادا واستكبارا وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «١» لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً «٢».
(١) سورة النمل الآية ١٤.
(٢) سورة الإسراء الآية ١٠٢.
491
موسى والسحرة الذين جمعهم فرعون [سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٧ الى ٧٦]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
492
المفردات:
سُوىً مستويا ووسطا وعدلا بيننا يَوْمُ الزِّينَةِ المراد يوم يتزينون فيه بأفخر اللباس ويجتمعون فيه كأنه عيد ويظهر أنه يوم وفاء النيل كَيْدَهُ ما يكيد به وَيْلَكُمْ هلاككم فَيُسْحِتَكُمْ فيبيدكم بعذاب فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ تشاوروا وتجاذبوا أطراف الحديث النَّجْوى ما يتناجون به سرا بِطَرِيقَتِكُمُ بمذهبكم وقيل بأشرافكم وسادتكم فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أحكموا أمركم واعزموا عزما أكيدا صَفًّا مصطفين اسْتَعْلى غلب فَأَوْجَسَ أحس وأضمر تَلْقَفْ تلتهم وتأكل بسرعة لَكَبِيرُكُمُ لأستاذكم ومعلمكم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ على جذوعها لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك تَزَكَّى تطهر من دنس الشرك والمعاصي.
493
المعنى:
ولقد أرينا فرعون المعجزات الدالة على صدق موسى في رسالته، وأريناه حجج الله الدالة على توحيده ونفى الشركاء له فكذب وعصى، وأبى ذلك وأعرض قائلا: أجئتنا يا موسى مدعيا الرسالة لربك لتخرجنا من أرضنا بسحرك وحيلتك، جئت يا موسى بآية توهم الناس أنك صادق لتتغلب علينا وتخرجنا من أرضنا وتزيل ملكنا، وتجعله لنفسك، وانظر إلى فرعون وهو يحرض الناس على عصيان موسى ومخالفته، ومن خلال كلامه نفهم أنه كان واثقا أن موسى على الحق، وأن النصر في النهاية له، وقوله بسحرك تعليل مزيف لتغطية الموقف.
وإذا كان الأمر للسحر فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا تحدده زمانا ومكانا، لا نخلفه نحن ولا أنت، اجعل مكانا مستويا وسطا بيننا وبينك حتى لا يكون عذر في التخلف. قال موسى: موعدكم يوم الزينة يوم الاحتفال بوفاء النيل وكان عيدا من أعيادهم القومية، يجتمع الناس فيه من كل حدب وصوب مع السحرة المهرة في المملكة كلها ولعل اختيار هذا الموعد الذي يجتمع فيه الناس اجتماعا كاملا والوقت ضحى، وفيه اتساع للمساجلة والمناقشة والحكم ليكون علو كلمة الله وإظهار دينه على ملأ من الناس كثير، ويكون الحكم على رؤوس الأشهاد في وسط النهار فلا سبيل للإنكار، وليحدث به كل الناس صغيرهم، وكبيرهم. وقد كان ذلك.
فتولى فرعون، وانصرف من ذلك المقام ليهيّئ ما يحتاج إليه، وليشرف بنفسه على الاستعداد لذلك اليوم الخطير، فتولى فرعون فجمع كيده وحيله، وجمع المهرة من السحرة وأتوا مدلين بأنفسهم واثقين من سحرهم طالبين الأجر على ذلك أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «١» وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبى ليفرغوا طاقتهم وليعملوا جهدهم في التغلب على موسى.
فلما حضروا قال لهم موسى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً الهلاك لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا، إنكم إن فعلتم ذلك فسيسحتكم بعذاب من عنده وسيستأصلكم ويقطع دابركم، وقد خاب وهلك من افترى على الله أو على رسوله كذبا.
(١) سورة الشعراء الآيتان ٤١ و ٤٢.
494
فلما سمعوا هذا من موسى أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، ويتشاورون فيما بينهم، وأسروا نجواهم قائلين: إن غلبنا فسنتبعه، وقيل إنهم لما سمعوا من موسى قوله:
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً وأسروا فيما بينهم بأن هذا ليس بساحر أبدا.
وقيل كانت نجواهم هي قولهم إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم ومذهبكم الأمثل الحسن، وقيل يذهب بأشراف قومكم ويهلكهم.
فأجمعوا كيدكم غدا، وأحكموا أمركم واعزموا عليه ثم ائتوا مصطفين فذلك أدعى إلى تربية المهابة في نفوس النظارة، وقد أفلح اليوم من استعلى وغلب خصمه، وكانت له المكانة إلى الأبد.
فلما التقى الصفان، واجتمع الطرفان قالوا. يا موسى إما أن تلقى أوّلا، وإما أن نكون نحن الملقين أوّلا.
قال موسى. بل ألقوا أنتم أولا، أشار بهذا ليفرغوا جهدهم أولا، ويلقوا بكل أسلحتهم، فلما ألقوا إذا حبالهم وعصيهم يخيل إلى موسى من سحرهم أنها تسعى، وذلك أنهم وضعوا فيها مادة الزئبق التي إذا أحست بالحرارة تحركت واضطربت.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وجنوده وعلية القوم، وأيقنوا أنهم نجحوا، وأن السحرة قد فازوا على خصمهم موسى وهارون، وأنه لا يمكنه أن يأتى بشيء أعظم من سحرهم إذ كل ما في يده عصاه فإذا قلبت حية فهي حية واحدة بين آلاف الحيات.
وفي تلك اللحظة الفاصلة هال موسى ما رأى، وأوجس في نفسه خيفة مما حصل، ودار بذهنه فيما عسى أن يكون لو لم يبعث الله له نصر السماء.
ولكن الله- سبحانه وتعالى- العليم الخبير القوى القادر الذي لا يترك عباده المخلصين وحدهم بل هو معهم وقد قال لهما: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى.
وفي هذه اللحظة أمره ربه أن يلقى عصاه التي هي بيمينه فإذا هي حية تسعى ولكنها ليست كحيات السحرة بل أخذت تبتلع حياتهم كلها وتلتهمها بسرعة وخفة.
والله أكبر ظهر الحق وبطل السحر، وجاء الحق وزهق الباطل ودهش آل فرعون والملأ من قومه بل وكل الناس وعلم السحرة- وهم أدرى الناس بالسحر وطاقته
495
- أن السحر لا يفعل هذا أبدا وإنما هي القوة الإلهية صنعت هذه المعجزة، فخروا لله ساجدين، وآمنوا برب العالمين، رب موسى وهارون مفضلين ذلك على الأجر الدنيوي مؤثرين الحق على الباطل، والباقية على الفانية!! ماذا يفعل فرعون؟ إنه لموقف جد خطير قد جمع الناس جميعا وجمع السحرة من كل مكان، وقد أفهم الشعب الذي يقدسه أن نهاية موسى وهارون في ضحى الغد، يوم يجتمع الناس في وفاء النيل.
ولم يعد موسى وهارون وحدهما بل صار معهما السحرة والعلماء في قومه!! فلا بد أن يختصم الجميع، ويتهم الكل، وإن كان مخالفا للعقل والمنطق.
فقال للسحرة سترا لموقفه: إنه لكبيركم وأستاذكم الذي علمكم السحر ولهو أقوى منكم، وغلب سحره سحركم، وهو يريد بهذا أن يخرج المسألة عن نطاق المعجزة الإلهية إلى دائرة سحر السحرة.
قال هذا مع علمه أن موسى رحل إلى مدين صغيرا، وعاد منها قريبا، ولم يتصل بالسحرة مطلقا فضلا عن كونه أستاذهم، ولكنه المقهور المغلوب يلتمس لنفسه العذر وإن كان لا يغنى شيئا.
ثم أخذ يتجنى عليهم ويؤنبهم بقوله: آمنتم به قبل أن آذن لكم، فهم أذنبوا حيث لم يستأذنوا، وهو لهذا أقسم ليقطعن أيديهم وأرجلهم من خلاف، وليصلبنهم على جذوع النخل، ولتعلمن أيها السحرة أينا أشد عذابا وأقوى؟ وهو إذ يضع نفسه في كفة وموسى في كفة أخرى إنما يستهزئ ويفتخر.
هذا هو فرعون مصر، وذلك بطشه الشديد، وتهديده الكثير، أما الإيمان العميق المبنى على الفهم الدقيق فقد جعل السحرة يقولون: لن نؤثرك يا فرعون ونختارك على ما جاءنا من البينات والهدى لن نفضل نعمتك على ما هدانا الله إليه والذي فطرنا وخلقنا فاقض بما تشاء واحكم بما تريد، إنما تقضى وتحكم في هذه الحياة الدنيا، ولن تنال إلا من جسمنا الفاني تقطع منه أو تقتله أما الإيمان واليقين فذلك شيء لن تنال منه.
وذلك إنا آمنا بربنا وصدقنا برسالة نبينا رجاء أن يغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، والله- سبحانه- خير وأبقى، والدار الآخرة للذين يتقون، وكيف
496
لا يكون ذلك؟ إنه من يأت ربه مذنبا فله جهنم خالدا فيها لا يموت ولا يحيا، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالح من الأعمال فاؤلئك لهم الدرجات العليا، ولهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى وتطهر من دنس المعاصي والآثام.
خروج بني إسرائيل من مصر، ورحيل فرعون لطلبهم [سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
المفردات:
يَبَساً لا طين فيه ولا ماء دَرَكاً إدراكا ولحوقا بهم فَأَتْبَعَهُمْ يقال أتبعهم إذا تبعتهم وإذا سبقوك فلحقتهم الْمَنَّ وَالسَّلْوى تقدم تفسيرهما في سورة البقرة جزء أول يَحْلِلْ يجب هَوى سقط في الهاوية.
المعنى:
أذن الله- سبحانه وتعالى- لموسى أن يخرج من تحت حكم فرعون، وأن ينقذ
497
بنى إسرائيل من عذاب المصريين، فأوحى إليه بأن أسر بعبادي ليلا حتى لا يراك فرعون وجنده، فذهبوا حتى وصلوا شاطئ البحر الأحمر الغربي من جهة (السويس) فأمره الله بأن اضرب بعصاك البحر! فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأصبح لهم عدة طرق بقدر أسباطهم الاثنى عشر، وسار الطريق وسط الماء يابسا لا طين فيه ولا ماء.
فاجعل لهم طريقا في البحر يابسا غير خائفين إدراك فرعون لهم، ولا أنت تخشى لحوقه لكم.
أما فرعون فلما علم بخروجهم من مصر وكانوا يسكنون في إقليم الشرقية، أرسل في المدائن يجمع الجند للحاق بهم وإدراكهم قائلا: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، فلحقهم فرعون ومعه جنده وهم يعبرون البحر، وقد جعل الله لهم طرقا فيه.
فلما أبصر فرعون تلك الطرق سار فيها ظنا منه أنها طرق عامة له أن يسير فيها، فلما احتواه البحر ونجا موسى ومعه بنو إسرائيل غشيهم من اليم ما غشيهم، وأصابهم من الهول والخوف والغرق ما أصابهم فكان كالغطاء لهم، حتى إذا أدركه الغرق قال:
آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، ولكن هيهات له ذلك، وقد أضل فرعون قومه وما هداهم إلى خير أبدا بل كان هو الداعية للشر كله، وما كان مخلصا في إيمانه هذا، فلما نجا بنو إسرائيل، وغرق فرعون وجنده على مرأى منهم، وكان ذلك من النعم عليهم أخذ يعدد نعمه فقال: يا بنى إسرائيل: قد أنجيناكم من عدوكم، وواعدناكم جانب الطور الأيمن، بمعنى: وأمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه وأنتم حضور فتسمعوا الكلام فالمواعدة كانت بين موسى وربه، وإنما خوطبوا بها لأنها كانت من أجلهم، والأيمن صفة للجانب والمراد يمين الشخص لا يمين الجبل، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وهو طعام شهى من صنع الله لا تعب فيه ولا ألم.
وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تتجاوزوا الحد بالإسراف أو التقتير أو عدم القيام بالشكر، وإياكم والمعصية فإنها أصل الطغيان.
إنكم إن طغيتم يحل عليكم غضبى، وينزل بكم عذابي، ومن يحلل به عذابي، ويوجب عليه لعلمه السوء فقد هوى في الهاوية وهي قعر جهنم. واعلموا أنى غفار
498
رحيم بمن تاب وأناب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، وفي التعبير بثم إشارة إلى بعد المرتبتين.
اتخاذ بنى إسرائيل إلها يعبدونه [سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٩٨]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢)
أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
499
المفردات:
وَما أَعْجَلَكَ ما الذي حملك على العجلة عَلى أَثَرِي المراد هم بالقرب منى فَتَنَّا قَوْمَكَ ابتليناهم واختبرناهم أَسِفاً الأسف الشديد: الغضب الْعَهْدُ الزمان بِمَلْكِنا بملكنا أمورنا والصواب منها أَوْزاراً أحمالا ثقالا خُوارٌ الخوار: صوت البقر يا سامِرِيُّ رجل منافق محتال اسمه السامري قَبْضَةً هي المرة من القبضة التي هي أخذ الشيء بجمع الكف والمراد هنا الشيء المقبوض سَوَّلَتْ زينت لا مِساسَ أى لا أحد يمسني لَنَنْسِفَنَّهُ لنذروه في الرياح والمراد لنلقينه في البحر.
المعنى:
كان موسى قد وعد بنى إسرائيل إذا هلك فرعون أن الله سيعطيه الألواح وفيها الوصايا التي يأخذ بها بنو إسرائيل أنفسهم وأعقابهم من بعدهم أى فيها دستورهم الذي يعيشون عليه.
500
فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ثم زيدت إلى أربعين يوما وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف آية ١٤٢].
وكان لمخالطة بنى إسرائيل للمصريين وهم عبدة الأوثان أثر كبير في نفوسهم فكانوا يقولون لموسى بعد خروجهم من مصر: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف آية ١٣٨] ولهذا أمكن لرجل منهم أن يؤثر فيهم فعبدوا العجل بعد مفارقة موسى لهم للميقات.
ولما ذهب موسى لميقات ربه، استخلف على القوم أخاه هارون، وكان موسى على رأس سبعين نقيبا ذاهبين معه للميقات (كما مر في سورة الأعراف).
ولكن موسى تعجل من بينهم شوقا لربه فقيل له ما أعجلك عن قومك؟ وما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم، فأجاب موسى: هم أولاء على أثرى وفي عقبى، وهم بالقرب ينتظرون عودتى إليهم على أنى عجلت إليك يا رب لترضى بمسارعتى للقائك، وامتثال أمرك.
قال الله- سبحانه وتعالى-: فإنا قد فتنا قومك واختبرناهم من بعدك، وهم الذين تركهم مع هارون- وأضلهم السامري، ودعاهم إلى الضلالة والكفر حيث قال لهم- وقد تأخر موسى عن الميعاد عشر ليالي: إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما معكم من الحلي وهي حرام عليكم. وأمرهم بإلقائها في النار، وكان منها العجل على ما سيأتى:
فرجع موسى إلى قومه غضبان شديد الغضب والحزن لما صار إليه حال بعضهم وهو عبادة العجل، وقد قلت إن جهل الإسرائيليين ومخالطتهم لعبدة الأوثان سهل عليهم قبول خداع السامري.
قال موسى: يا قوم. ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا؟ حيث قال: وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وقد وعدهم بالثواب الجزيل إذا عملوا بما في التوراة التي سينزلها على موسى إذا ذهب للميقات.
أوعدكم ذلك فطال عليكم العهد، وضقتم ذرعا بطول الزمن؟!! أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أى أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سببا
501
في حلول الغضب عليكم والعذاب من ربكم؟! فأخلفتم موعدي، ولم تقيموا على عهدي قالوا يا موسى: ما أخلفنا موعدك بملكنا الصواب والرأى الحسن بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ الذي وقعنا فيه.
ولكنا حملنا أثقالا من زينة القوم أى المصريين، وذلك أنهم أخذوا حلى بعض المصريين بحجة أن لهم عيدا أو اجتماعا، وقيل، لما غرق فرعون أخذوا زينته فهم حملوا أثقالا من زينة القوم، فقذفناها كما أشار- بذلك السامري- إلى النار. فمثل ذلك القذف قذفها السامري فأخرج لهم بعد أن أذاب الذهب في النار صورة عجل له جسد، وله خوار وصوت كصوت العجل الحي.
أكان حقيقة هذا العجل من جسد وروح وله خوار؟ أو هو عجل جسد فقط وله صوت نشأ من وضع خاص في تركيبه إذا مر به الريح صار له صوت يمكن أن يكون هذا وذاك والله أعلم.
والشيخ النجار يرى أن السامري أمكنه بالحيلة أن يحضر لهم عجلا حقيقيا لم يروه قبل هذا، وكان أخذ الذهب منهم وإلقاؤه في النار حيلة منه فقد عمل عمل الدجالين.
ولما أخرج لهم عجلا له جسد وله صوت قال ومن معه: يا بنى إسرائيل هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب ليطلبه ولكنه نسى مكانه فضل طريقه، أو هو إلهكم ولكن موسى نسى أن يخبركم به.
ويقول الله لهم: أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع لهم قولا ولا يرد عليهم بكلمة، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا.. فيكف يكون إلها؟!! ولقد قال لهم هارون محذرا إياهم من عبادة العجل، يا قوم إنما فتنتم وابتليتم به، وإن ربكم الرحمن- سبحانه وتعالى- فاتبعوني ولا تتبعوا طرق الشيطان وكلام السامري، وأطيعوا أمرى فإنى ناصح لكم شفيق بكم قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، ولن نزال مقيمين على عبادته حتى يعود أخوكم موسى.
فلما رجع موسى قال وهو في غاية الحسرة والألم: يا هارون ما منعك أن تتبعني في شدة النكير على المخالف والقسوة على العاصي؟ أى هلا قاتلتهم إذ قد علمت أنى لو كنت بينهم لقاتلتهم في ذلك قتالا عنيفا.
502
أفعصيت أمرى؟ وكان أمره له اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف آية ١٤٢].
ويصح أن يكون المعنى أفعصيت أمرى لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها!! قال معتذرا. يا ابن أمى لا تأخذ بشعر رأسى ولا بلحيتي وقد كان موسى فعل ذلك من شدة الغضب، وإنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل لو قاتلت ولم ترقب وتنتظر قولي، اجتهد هارون فرأى أن طريق المسالمة خير من القتال، وفي موضع آخر اعتذر بقوله. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [سورة الأعراف آية ١٥٠].
ثم توجه موسى إلى خطاب السامري فقال. ما خطبك يا سامرى!! ما حالك وما الذي دهاك حتى تعمل هذا؟!! قال بصرت بما لم يبصروا به، وعلمت ما لم يعلموا فقبضت قبضة من أثر الرسول- وهو جبريل- فما وضعتها على شيء إلا دبت فيه الحياة، ولما رأيت بنى إسرائيل يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كما لهؤلاء الذين يعكفون على الأصنام آلهة زينت لي نفسي ذلك وعملت لهم إلها عجلا جسدا لها خوار كالذي يعبده المصريون.
ويروى الشيخ النجار في كتابه قصص الأنبياء ص ٢٢٤ أما قول السامري فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فمعناها على ما اخترت أنه قبض قبضة من أثر الرسول أى تعاليمة وأحكام التوحيد التي جاء بها الرسول- وهو موسى- فنبذتها أى ألقيتها وأهملتها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وهذا رأى لا ضير فيه وفي كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن الذي صنع العجل هو هارون أخو موسى، وهو كذب وافتراء يضيفونه إلى سلسلة الأكاذيب التي ينسبون فيها إلى رسل الله أحط الأعمال وأحقرها.
قال موسى للسامري. اذهب فإن جزاءك في الدنيا أن حالك تصل إلى أن تقول لغيرك لا مساس فأنت تنفر من الناس وتعيش منبوذا مطرودا وذلك جزاء الظالمين.
أما في الآخرة فإن لك موعدا هو يوم القيامة لن تخلفه أنت، ولن تمكن من خلفه والله لا يخلف الميعاد. فهو حاصل قطعا وستأخذ فيه جزاءك الأوفى.
وأما هذا الإله الباطل فحكمه الإحراق وأن يذرى في الماء.
503
إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو. ولا معبود بحق سواه، العالم بخلقه، الخبير بشأنهم الذي وسع كل شيء علما.. ترى أن قصة موسى بدئت بالتوحيد الخالص وانتهت به كذلك كانت رسالة كل نبي.
المعرضون عن القرآن يوم القيامة [سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١١٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨)
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
504
المفردات:
ذِكْراً هو القرآن الكريم وِزْراً إثما عظيما وحملا ثقيلا يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الصور: شيء كالبوق ينفخ فيه مرة فيموت الكل ثم ينفخ فيه أخرى فيحيا الكل وتأتى الناس أفواجا ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ زُرْقاً المراد: تسوء خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم يَتَخافَتُونَ يتسارون يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً المراد: يفتتها كالرمل ثم تذروها الرياح قاعاً صَفْصَفاً القاع المستوي من الأرض المكشوف، والصفصف المستوي الأملس. والمعنى يكاد يكون واحدا عِوَجاً أى: اعوجاجا وتعوجا وَلا أَمْتاً أى: تلالا صغيرة عِوَجَ لَهُ لا معدل لهم عنه خَشَعَتِ ذلت وسكنت هَمْساً صوتا خفيا هَضْماً انتقاصا من حقه.
المعنى:
مثل القصص ذلك الذي قصصناه عليك من خبر موسى وفرعون. نقص عليك من أنباء ما قد سبقك من أخبار الأمم الماضية ففي القصص عبرة وعظة، ودرس وتسلية، وإحاطة بأخبار الناس وأحوالهم فالزمن يوم مكرر والناس هم الناس وإن اختلفت الأزمان وتغيرت الأحوال.
وآتيناك من لدنا قرآنا هو ذكر لك ولقومك وشرف لك وأى شرف؟، وفي القرآن ذكر للرحمن، وذكرى وموعظة للإنسان.
من أعرض عن القرآن وذكره، وما فيه فإنه يحمل يوم القيامة حملا ثقيلا من الآثام
505
والأوزار خالدين فيه ماكثين في عذابه، وساء لهم يوم القيامة حملا، وبئس الحمل حملهم يوم القيامة.
يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية بدليل ذكر الحشر بعدها، ونحشر المجرمين الظالمين وهم المشركون زرق العيون سود الوجوه عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس الآيات ٤٠- ٤١- ٤٢] نحشرهم عطاشا خائفين مضطربين، يتسارون بينهم قائلين. ما لبثتم إلا عشرا من الليالي أو من الساعات فهم لشدة ما يرون ولهول ما يصادفون يستقصرون مدة الدنيا أو مدة ما كانوا في القبر، أو مدة ما بين النفختين، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم وأصدقهم نظرا ما لبثنا إلا يوما واحدا لا عشرا، والأمثلية نسبية فلا يمنع أنه على الباطل مثلهم.
ويسألونك عن الجبال ماذا تكون يوم القيامة؟ استعظاما لها سألوا عنها النبي فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: فقل ينسفها ربي نسفا قال بعضهم: يقلعها من أصولها، ثم يصيرها رملا دقيقا، ثم يصير كالصوف المندوف، ثم تكون هباء منثورا.. فيذر أماكنها أرضا مستوية مكشوفة لا نبات فيها ولا بناء وهي صفصف أى: مواضعها أرض ملساء مستوية لا شيء فيها، لا ترى فيها عوجا ولا ميلا، ولا تلالا صغيرة، والمعنى أن الجبال ذهبت وبقيت مواضعها أرضا مستوية مكشوفة معتدلة لا شيء عليها.
يومئذ يتبعون الداعي وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور، لا معدل لهم عن ابتاعه! ولا ينحرفون عن طلبه بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه، وخشعت الأصوات وسكنت فلا تسمع إلا صوتا خافتا، ولا تسمع إلا وقع الأقدام فقط إذ كل امرئ له شأن يغنيه عن كلام أخيه، ويومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضى له قولا، إذ الله- سبحانه وتعالى- هو المالك المتصرف في الخلق جميعا العالم ما بين أيديهم من أحوال القيامة، وما خلفهم من أمور الدنيا ولا أحد يحيط به علما..
وعنت الوجوه وذلت الرقاب، وخضعت النفوس للحي القيوم على كل نفس بما كسبت القائم بتدبير الخلق جميعا، الدائم الذي لا يزول ولا يحول ولا يبيد، وقد خاب من حمل ظلما وشركا.
ومن يعمل من الصالحات الباقيات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا نقصا لثوابه ولا هضما لحق من حقوقه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء آية ٤٧].
506
ومثل ذلك الإنزال أنزلناه أى: القرآن حالة كونه قرآنا بلسان عربي غير ذي عوج لأنه نزل على العرب فكان بلغتهم التي يفهمونها على معجزته كانت من ناحية البلاغة العربية التي أعجزت فحول العرب مجتمعين فلا يبقى عذر لعربي لا يؤمن بالقرآن لأنه بلغته فيمكن الحكم عليه، وأما غير العرب فإذا رأوا عجز العرب عن الإتيان بمثله مع التحدي لهم آمنوا بأنه من عند الله. على أن في القرآن نواحي إعجاز أخرى في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم. فمن ينظر إلى كلامه في الشجر والنبات يؤمن أنه لا يمكن لمخلوق في القرن السادس الميلادى أن يأتى بهذا، ويقولون: إن ملاحا انجليزيا نظر في كلام القرآن عن البحار والسفن فآمن أنه من عند الله ولا شك، وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا، وصرفنا فيه من الوعيد، وكررناه، وسقناه على أشكال وألوان مختلفة لعلهم يتقون الله ويخافون عقابه، ولا شك أن كثرة الكلام في الثواب والعقاب يحدث هذا، ألا ترى إلى فن الإعلان اليوم، وأنه يعتمد على كثرة العرض والحديث عن الشيء في ألوان مختلفة.
لعل الناس يتقون أو يحدث لهم ذكرا ووعظا وخوفا وتقوى.
وإذا كان الله صاحب هذا القرآن الكامل المعجز فتعالى الله- سبحانه وتعالى- الملك الحق.
ولا تعجل يا محمد بالقرآن وتلاوته، وكان النبي لشدة حرصه على القرآن يتابع جبريل فيه بسرعة فقيل له. لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[سورة القيامة الآيتان ١٦ و ١٧] وقل ربي زدني علما، وإذا كان هذا حال النبي صلّى الله عليه وسلّم فما لنا لا نحرص على القرآن الحرص المناسب لنا؟؟
قصة السجود لآدم [سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
507
المفردات:
عَهِدْنا العهد من الله للناس كل أمر أو نهى منه، والعهد الذي كان من الله لآدم هو أمره الذي حرم عليه الأكل من الشجرة فَنَسِيَ النسيان له معان: منها هو ضد التذكر، أو هو بمعنى السهو ويظهر أن هذين المعنيين ليسا معنا، وقيل: هو
508
بمعنى عدم الاهتمام بالشيء وجعله في زاوية النسيان وعليه قوله: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ.
عَزْماً العزم التصميم على العمل، وانعقاد الضمير عليه فَتَشْقى فتتعب وَلا تَعْرى من العرى ضد اللباس وَلا تَضْحى ولا تظهر للشمس فتجد حرها فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفى المكرر، والمراد: ما نجده من الخواطر شَجَرَةِ الْخُلْدِ المراد شجرة الحنطة مُلْكٍ لا يَبْلى لا ينفذ سَوْآتُهُما المراد عوراتهما طَفِقا يَخْصِفانِ أخذ يجعلان ورقة فوق ورقة فَغَوى أى:
فشد عليه عيشه بنزوله الدنيا ضَنْكاً أى: شديدة متعبة أَسْرَفَ انهمك في اقتراف الشهوات.
قصة آدم أبى البشر ذكرت في القرآن عدة مرات، وفي سور مختلفة، وبأساليب متباينة، وكانت جديرة بذلك لما فيها من الأسرار والإشارات، ولما في ذكرها من التذكير والعظات، لو كانوا يعقلون.
المعنى:
وبالله لقد عهدنا إلى آدم من قبل وجود هؤلاء الناس، عهدنا إليه ووصيناه بألا يقرب هذه الشجرة، وأمرناه ألا يأكل منها فنسي هذا الأمر ولم يهتم به فلم يكن في بؤرة شعوره، وذلك بوسوسة إبليس له، ولم نجد له عزما وتصميما إذ هو ناس لا محالة.
إذن يمكن أن نفهم من هذه الآية أن الحق- تبارك وتعالى- يعرفنا أن النسيان وعدم العزم هما سببا هبوط المرء إلى درجة العصيان أما التذكرة وقوة العزم فهما سبب الصعود إلى الخير والرشد.
واذكر إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم تحية وإجلال لا سجود عبادة وتأليه حتى يعرف أبناؤه تكريم الله لهم فيقوموا بواجب الشكر ورد الجميل فسجدوا جميعا إلا إبليس الذي كان معهم وقت الأمر، وإن كان من الجن كما هو ظاهر الآية كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف آية ٥٠].
509
فقلنا: يا آدم أما وقد عصى إبليس ربه ولم يسجد لك حسدا أو غرورا منه فاعلم أنه عدو لك، ولزوجك، وإياك طاعته، واحذر من وسوسته وتزيينه الباطل في صورة الحق.
إن هذا عدو لكما فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى وتتعب، إنك يا آدم فيها لا تجوع أبدا، ولا تعرى أبدا، ولا تظمأ من العطش، ولا تظهر في الشمس فتجد حرها ولهيبها- فأنت في الجنة متمتعا بنعم الله التي لا تحصى.
ومع هذا التذكير لآدم، والتحذير له من إبليس.
وسوس له الشيطان وزين له العصيان، وقال له: يا آدم أقسم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين:
يا آدم هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت من الخالدين، وكان لك ملك لا يبلى ولا يفنى، أتى آدم من جهة إثارة غريزتين هما غريزة حب البقاء، وغريزة الملك فأزلهما الشيطان، وضحك عليهما بكذبه وتغريره. فأكلا من الشجرة المحرمة.
عند ذلك بدت لهما عوراتهما، وأخذ يستران العورة، ويخيطان عليها من ورق الشجر وعصى آدم ربه ففسد عيشه وتبدل حاله لحكمة الله يعلمها، وقيل إن المراد في بدت لهما عوراتهما: ظهور الغريزة الجنسية عندهما.
ثم بعد ذلك اجتباه ربه واصطفاه فتاب عليه لما ندم على ما فرط منه، وهداه إلى سواء السبيل فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة آية ٣٧].
خرج آدم وحواء من الجنة لما أكلا من الشجرة، وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض فقال:
اهبطا أنتم والشيطان الذي أغواكم من الجنة إلى الأرض بعضكم لبعض عدو فاحذروا يا أبناء آدم هذا العدو اللدود لكم.
فإما يأتينكم منى هدى على لسان الرسل فمن اهتدى واتبع وسلك سبيل الخير وابتعد عن الهوى فإن الجنة هي المأوى، ولن تراه في الدنيا يضل، ولن تراه يشقى أبدا بل هو في سعادة أبدية إن أعطى المال شكر وإن حرم منه صبر فهو سعيد راض، قنوع، محتسب فائز إن شاء الله.
510
ومن أعرض عن ذكرى وسلك سبيل الغواية والشيطان، فإن له معيشة ضنكا، معيشة تعب وألم فهو دائما في تعب ونصب إن أعطى مالا هو مستقله ويطلب المزيد منه مهما كان، وإن حرم منه فهو غير راض عن ربه فهو في الحالين في عيشة تعسة وحياة منغصة.
أما يوم القيامة فسيحشره أعمى عن درجات السعادة، وأعمى عن طرق النجاة فسيتردى في جهنم وبئس القرار.
قال: ربّ لم حشرتني أعمى؟ وقد كنت بصيرا، قال: ليس العمى الذي أنت فيه الآن عمى البصر، ولم تكن في الدنيا بصير القلب بل كنت أعمى البصيرة أتتك آياتنا على لسان رسلنا فنسيتها، وأهملتها، ولم تر بقلبك فيها نورا ولا هداية، وكذلك اليوم تنسى وتهمل في عذاب النار.
ومثل ذلك نجزى من أسرف على نفسه، وانهمك في الشهوات والبعد عن آيات القرآن ولم يؤمن بها الإيمان الصحيح.
وأقسم لعذاب الآخرة وأهوالها أشد وأنكى من عذاب الدنيا، لأنه دائم لا ينقطع وهم فيها خالدون.
عبر ونصائح [سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٥]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
511
المفردات:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ هدى كاهتدى بمعنى تبين الْقُرُونِ الأمم آناءِ جمع إنى بمعنى وقت وَلا تَمُدَّنَّ المراد: لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل أَزْواجاً أصنافا زَهْرَةَ الْحَياةِ زينتها وبهجتها بَيِّنَةُ بيان ما في الكتب السابقة نَذِلَّ بعذاب الدنيا، وَنَخْزى بعذاب الآخرة مُتَرَبِّصٌ منتظر ما يؤول إليه الأمر.
المعنى:
أغفل هؤلاء المكذبون للنبي الكافرون برسالته فلم يتبين لهم خبر من أهلكناهم من الأمم السابقة؟ حالة كونهم يمشون في مساكنهم التي أصبحت خاوية على عروشها وحتى لم يبق من عاد وثمود، وأصحاب الأيكة وقوم لوط أثر ولا عين فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [سورة النمل آية ٥٢].
إن في ذلك لآيات واضحات ولكن لأولى النهى والعقل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج آية ٤٦].
512
ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير العذاب عنهم، وأجل مضروب ومسمى عند الله لكان إهلاكهم لأجل تكذيبهم لك لازما لهم فورا، ولهذا فاصبر على ما يقولون، وسبح بحمد ربك، وصل لربك حامدا له ومستغفرا قبل طلوع الشمس كصلاة الفجر وقبل الغروب كصلاة الظهر والعصر وبعض الليل فسبحه فيه عند صلاة المغرب والعشاء وفي قيام الليل، وعليك بالصلاة خصوصا عند أطراف النهار وعند طلوع الشمس وعند الغروب لعلك أيها المخاطب ترضى بالجزاء الوافر.
أما علاج تكذيب المكذبين، وعناد المشركين، وإيلام الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالصبر والسلوان فهذا أمر ظاهر المعنى بين الحكمة وأما العلاج بالتسبيح والاستغفار والصلاة والتكبير فهذا دليل على تأثير الروح في النطاق الجسمى إذ الصلاة والتسبيح غذاء للروح قوى، وإذا قويت الروح كان الإحساس بالتعب الجسمى، وبالألم البدني قليلا بل يكاد ينعدم، ولقد كنا نقرأ حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول لفاطمة ابنته: وقد شكت له ما تجد من مشقة (الرحا) حين تديرها لطحن طعامها وطعام بنيها ما معناه:
إذا أويت إلى فراشك فقولي: (سبحان الله والحمد لله. والله أكبر ثلاثا وثلاثين) قالت فاطمة: فلم أجد بعد ذلك ما كنت أجد من مشقة أو أذى.
فما علاقة التعب الجسماني بالتسبيح والتحميد والتكبير؟!! ولكن ظهر أن هذا للروح والروح إذا قويت لم يشعر الجسم بالتعب، ولقد صدق الله حيث يقول:
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها الآية.
وهذا إرشاد آخر، ونصح للنبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن أولى به باتباعه، ولا تطيلن النظر إلى ما متعنا به أصنافا من الناس، فتلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها وبهجتها، والمعنى: لا تنظر متعجبا طالبا مثله فإنما أعطيناهم لنفتنهم فيه ونبلوهم به، ورحمة ربك في الآخرة خير من هذا كله وأبقى.
وليست الآية تأمرنا بالكسل وعدم العمل، ولكنها تنهانا فقط عن أن نتمنى مثل ما في يد الكفار والعصاة من حطام الدنيا الفاني، والواجب أننا لا نجعل الدنيا أكبر همنا، ونترك الآخرة بالمرة بل نعمل للآخرة مؤثرين رضاء الله وطاعته ولا ننسى نصيبنا
513
من الدنيا ولا نحزن على فواتها، ولا نفرح لمجيئها
«اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا».
وهاك نصحا آخر: وأمر أهلك من أقاربك وأصحابك وأصدقائك بالصلاة، وحببهم فيها، وعلمهم الصبر عليها، واستعينوا بها على قضاء حوائجكم، وفك أزماتكم «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر- أى: وقع في شدة- هم إلى الصلاة» حديث شريف.
كانوا يكثرون من اقتراح الآيات على النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنهم لم يقنعوا بما في يد النبي صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات. وخصوصا القرآن الكريم المعجزة الباقية.
وقالوا عنادا وكفرا: لولا يأتينا بآية من ربه كالعصا والناقة مثلا!! أعموا ولم يأتهم بيان ما في الكتب السابقة، ولقد جاءهم هذا كله في القرآن المهيمن على الكتب السابقة المصدق لها، وفيها أن الأقوام السابقة طلبوا آيات فأجيبوا بها ولم يؤمنوا لها فأهلكهم ربهم بعذاب من عنده.
وكيف يطلبون الآية بعد هذا القرآن الجامع الشامل الذي فصل كل شيء تفصيلا وما فرط في شيء أبدا، بل فيه كل الصحف السابقة وزيادة.
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبل نزوله على يد المصطفى لقالوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونؤمن بها من قبل أن نذل في الدنيا ونعذب في الآخرة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء آية ١٦٥].
قل لهم كل منا ومنكم متربص ومنتظر ما يؤول إليه الأمر، وعند ذلك فستعلمون من أصحاب الصراط السوى والطريق المستقيم، ومن هو على الهدى ومن هو على الضلال؟!!! ولقد علموا نهاية أمرهم، وعاقبة كفرهم..
514
Icon