تفسير سورة النّمل

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة النمل من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النمل مكية١
١ ز: سورة النمل مكية بسم الله الرحمن الرحيم..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النمل مكية
قوله تعالى ذكره: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن﴾.
قال ابن عباس: طس: قسم، وهو من أسماء الله فيكون معناه على هذا التأويل: واللطيف السميع: إن هذه الآيات التي أنزلها الله على محمد ﷺ لآيات القرآن، وآيات كتاب مبين، أي يتبين لمن تدبره، وتفكر فيه، يفهم أنه من عند الله، لم تتخرصه أنت يا محمد، ولا أحد سواك، من خلق الله، إذ لا يقدر أحد أن يأتي بمثله.
قال تعالى: ﴿هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي هو هدى للمؤمنين به يهديهم إلى سبيل الرشاد ومبشراً لهم بالجنة والمغفرة. ثم نعت المؤمنين فقال: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾، يعني المفروضة يقيمونها بحدودها في أوقاتها. ﴿وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾، يعني المفروضة ويخرجونها في أوقاتها إلى مستحقها. ﴿وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾، أي يصدقون بالبعث والحشر بعد الموت والجزاء.
قال: ﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾، أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾، أي حببناها لهم يعني الأعمال السيئة.
وقال بعضهم: يعني الأعمال الجسنة: زينها لهم وبينها لهم، فخالفوا، وهذا مذهب المعتزلة، والأول مذهب أهل السنة. وهو ظاهر التلاوة والنص. ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾، أي يترددون في ضلالهم، ويتحيرون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ثم وصف هذا الجنس أيضاً فقال: ﴿أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب﴾ يعني في الدنيا، عني به الذين قتلوا يوم بدر من مشركي قريش.
ثم وصف هذا الجنس أيضا١ فقال :﴿ أولئك الذين لهم سوء العذاب ﴾ يعني في الدنيا، عني به الذين قتلوا يوم بدر من مشركي قريش.
﴿ وهم في الآخرة٢ هم الأخسرون ﴾[ ٥ ]، أي : أخسر٣ الناس لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وفي الآخرة تبيين، وليس يتعلق في الأخسرين٤، ويجوز أن يكون في الكلام حذف، والتقدير : وهم الأخسرون : في الآخرة هم الأخسرون.
١ "أيضا" سقطت من ز..
٢ ز: بالآخرة..
٣ ز: خسر..
٤ ز: بالأخسرين..
﴿وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون﴾، أي أخسر الناس لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وفي الآخرة تبيين، وليس يتعلق في الأخسرين، ويجوز أن يكون في الكلام حذف، والتقدير: وهم الأخسرون: في الآخرة هم الأخسرون.
أي وإنك يا محمد، لتحفظ القرآن وتتعلمه من عند رب حكيم بتدبير خلقه، عليم بمصالحهم، والكائن من أمورهم، والماضي من ذلك.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً﴾، العامل في: ﴿إِذْ﴾ اذكر.
وقيل: العامل في ﴿إِذْ﴾ عليم، والتقدير: عليم، حين قال موسى لأهله: ﴿إني آنَسْتُ نَاراً﴾، وذلك حين خرج موسى ﷺ من مدين إلى مصر، وقد آذاهم برد ليلهم، وضاع زنده. ﴿إني آنَسْتُ نَاراً﴾، / أي أبصرت وأحسست. ﴿سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾، في الكلام حذف، والتقدير: إني
آنست ناراً، فامكثوا سآتيكم من النار بخبر، أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون بها من البرد.
قال ابن عباس: كانوا شاتين، قد أخطأوا الطريق. وأصل الطاء: ثاء، لأنه من صلى النار فهو يفتعلون، فأبدل من التاء طاء لتكون في الإطباق كالصاد، وأصله: يصتليون، ثم أعلى على الأصول، وأبدلت التاء طاء، كما قالوا: مصطفى، وأصله: مصتفى: لأنه مفتعل من الصفوة.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار﴾، إلى قوله: ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾،
معناه: فلما جاء موسى النار نودي أن بورك: أي بأنه بورك، ويجوز أن يكون (أن) في موضع رفع بنودي ولا يقدر جاراً، ومعنى بورك: قدس أي طهر من في النار، قاله ابن عباس.
5370
وعن ابن عباس أنه قال: كان نور رب العالمين في الشجرة.
وقال ابن جبير: ناداه وهو في النور.
وقال الحسن: هو النور.
وقال قتادة: نور الله بورك.
وقيل: من في النار: الملائكة، الموكلون بها، ومن حولها الملائكة أيضاً يقولون: سبحان الله رب العالمين.
وعن مجاهد معناه: بوركت النار. حكاه عن ابن عباس.
قال محمد بن كعب: النار: نور الرحمن، والنور هو الله سبحان الله رب العالمين.
وقال ابن جبير: النار: حجاب من الحجب وهي التي نودي منها وذكر الحجب: فقال: حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار،
5371
وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء.
قال عبد الرحمن بن الحويرث: مكث موسى عليه السلام، أربعين ليلة لا يراه أحد، إلا مات من نور رب العالمين. يعني إذ تجلى إلى الجبل.
قال الطبري: إنما قال: بورك من في النار، ولم يقل: بورك على من في النار، على لغة الذين يقولون: باركك الله. والعرب تقول: باركك الله، وبارك عليك، حكى ذلك الكسائي عن العرب.
وقوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، يعني من حول النار من الملائكة. قاله الحسن وغيره.
وقال محمد بن كعب القرطبي: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، يعني موسى والملائكة.
ثم قال تعالى: ﴿وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين﴾، أي تنزيهاً لله مما يصفه به الظالمون.
ثم قال تعالى: ﴿ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم﴾، أي إنّ الآمر أنا الله، العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبير أمر خلقه.
5372
ثم قال: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾، أخبر عن العصا ها هنا أنها انقلبت كالجان، والجان: صغير الحيات، وأخبر عنها في موضع آخر أنها انقلبت ثعباناً مبيناً، والثعبان: كبير الحيات. ومعنى ذلك أن عصا موسى انقلبت له على ثلاث حالات، آيات من الله، انقلبت حية تسعى وهي الأنثى، وجان وهو الصغير من الحيات، وثعبان مبين: وهو الذكر الكبير من الحيات.
وقيل: إنها انقلبت ثعبان تهتز كأنها جان ولها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه، وهي حية تسعى. والعرب تقول: هذه حية، وهذا حية.
وقيل: إن الله أقلب له العصا في أول مرة جاناً، وهو الحية الصغيرة لئلا يخاف ويجزع، فلما أنس بها وأخذها وأرسلها. أرسله إلى فرعون، فألقاها في الحال الأخرى بين يدي فرعون فصارت ثعباناً مبيناً، والله أعلم، وفي لفظ الآية
5373
اختصار وحذف، والتقدير: فألق عصاك، فألقاها: فصارت حية تهتز، فلما رآها تهتز كأنها جان أي حية، والجان جنس من الحيات معروف.
وقوله: ﴿ولى مُدْبِراً﴾، أي هارباً خوفاً منها، ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾، أي ولم يرجع. يقال: عقب فلان: إذا رجع على عقبيه إلى حيث بدأ.
قال قتادة: ولم يعقب: لم يلتفت.
قال ابن زيد: لما ألقى موسى ﷺ العصا صارت حية، فرعب منها وجزع، فقال الله تعالى: ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾، فلم يركن لذلك فقال الله: ﴿أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين﴾ [القصص: ٣١]، قال: فلم يقف أيضاً على شيء من هذا حتى قال الله جل ذكره: ﴿سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى﴾ [طه: ٢١]، قال: فالتفت موسى، فإذا هي عصا كما كانت / فرجع فأخذها، ثم قوي بعد ذلك عليها حتى صار
5374
يرسلها على فرعون ويأخذها.
وقوله جل ثناؤه: ﴿لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾، أي عندي. ثم قال: ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء﴾، أي من ظلم فعمل بغير ما أذن له في العمل به.
قال ابن جريج: لا يخاف الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه الله حتى يأخذه منه.
وقال الحسن: في الآية إنما أخيف لقتله النفس، وقال الحسن أيضاً: كانت الأنبياء تذنب، فتعاقب ثم تذنب والله فتعاقب.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ﴾، استثناء منقطع عند البصريين، لأن حق الاستثناء أن يكون ما بعده مخالفاً لما قبله في المعنى.
وقوله: ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾، يدل على أمنهم. وقوله: ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، يدل على أمن من ظلم، ثم فعل ذلك فقد حصل المعنى فيهما واحد، فوجب أن يكون ليس من الأول و " إلا " بمعنى لكن، والتقدير،
5375
لكن من ظلم من المرسلين وغيرهم ثم تاب فليس يخاف ومثله من كلام العرب ما اشتكى إلا خيراً، فالخير لا يشتكى.
وقوله: ما اشتكى يدل على أنه حل به الخبر. وقوله: إلا خيراً قد صار مثل الأول في المعنى، فوجب أن يكون منقطعاً، و " إلا " بمعنى لكن خيراً، وكأنه قال: ما أذكر إلا خيراً.
وقال الفراء: الاستثناء من محذوف، والتقدير عنده: ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾، إنما يخاف غيرهم، إلا من ظلم ثم تاب فإنه لا يخاف، وأجاز الفراء أيضاً أن تكون " إلا " بمعنى الواو، ومثله عنده ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ﴾ [البقرة: ١٥٠] أي والذين، وقد رد عليه القولان، لأن الاستثناء من محذوف لا يجوز، إذ لا يعلم ما هو، ولو جاز هذا، لجاز: إني لأضرب القوم إلا زياً. على معنى وأضرب غيرهم إلا زيداً. وهذا ضد البيان، ونقض الكلام، ولا يجوز كون " إلا " بمعنى الواو.
لأنه تقلب
5376
المعاني، فيلزم إذا قلت له: عندي عشرة إلا أربعة أن تكون قد أقررت بأربعة عشر وهذا محال.
وقوله: ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء﴾، يريد التوبة. وقرأ: مجاهد ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً﴾، بالفتح على معنى عملاً محسناً. ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ﴾، أي ساتر لذنوبه. ﴿رَّحِيمٌ﴾، به إن عاقبته.
وقوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ وقف إن جعلت ﴿وَسُبْحَانَ الله﴾ لم ينادي به موسى، وإنما هو من قوله: لما خاف. فإن جعلت ﴿وَسُبْحَانَ الله﴾ من النداء، كان الوقف " ﴿رَبِّ العالمين﴾ ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ وقف ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ وقف و ﴿لاَ تَخَفْ﴾ وقف. ﴿المرسلون﴾ وقف، إن جعلت ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ﴾ منقطعاً، فإن جعلته مستثنى على معنى: إن المرسلين لا يخافون إلا أن يذنبوا
5377
فيخافون العقوبة، كما قال الحسن وغيره. لم تقف إلا على ﴿سواء﴾، والتمام ﴿رَّحِيمٌ﴾.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾.
قال مجاهد: كانت على موسى يؤمئذ مدرعة فأمره الله أن يدخل كفه في جيبه، ولم يكن لها كُمٌّ.
وقيل: أمره أن يدخل يده في قيمصه، فيجعلها على صدره ثم يخرجها بيضاء تشبه شعاع الشمس أو نور القمر.
قال ابن مسعود: إن موسى أتى فرعون حين أتاه في زرمانقة يعني جبة صوف.
وقوله: ﴿تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾، أي تخرج اليد بيضاء مخالفة
5378
للون موسى من غير برص.
وقيل: من غير مرض. وفي الكلام اختصار وحذف. والتقدير: واجعل يدك في جيبك، وأخرجها تخرج بيضاء.
ثم قال: ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾، أي من تسع آيات، و " في " بمعنى " من ".
وقيل: بمعنى " مع ".
وقيل: المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. والمعنى في تسع آيات مرسل أنت بهن إلى فرعون، والتسع الآيات: العصا، واليد، والجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقد تقدم تفسيرها بالاختلاف بأشبع من هذا.
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾، يعني فرعون وقومه من القبط. ثم قال: ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، أي لما جاءت فرعون وقومه أدلتنا
5379
وحججنا، وهي التسع الآيات مبصرة أي مبينة: أي يبصر بها من نظر إليها ورأى حقيقة ما دلت عليه.
قال ابن جريج: مبصرة، مبينة.
قال فرعون وقومه ﴿هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، أي بين للناظرين فيه أنه سحر.
قال: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ﴾، أي كذبوا بالآيات أن تكون من عند الله، وقد تيقنوا في أنفسهم أنها من عند الله، فعاندوا بعد تبينهم الحق: قاله ابن عباس.
وقوله: ﴿ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ أي اعتداءً وتكبراً. والعامل في ظلم وعلو: جحدوا، وفي الكلام تقديم وتأخير.
ثم قال تعالى: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾، أي عاقبة تكذيبهم، كيف أغرقوا أجمعين. هذا كله تحذير لقريش أن تحل بهم ما كان حل بمن كان قبلهم.
ثم قال ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً﴾، أي علم منطق الطير، والدواب وغير ذلك. ﴿وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين﴾، أي فضلنا بعلم لم يعلمه أحد في زماننا. وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: " أوحى الله إلى داود ﷺ أن العبد من عبيدي ليأتيني بالحسنة، فأحطه في جنتي، قال داود: وما تلك الحسنة، قال: يا داود: كربة فرجها عن مؤمن ولو بتمرة. قال داود: حقيق على من عرفك حق معرفتك أن ييأس ولا يقنط منك ".
قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾، أي ورث علمه وملكه.
وقال قتادة: ورث منه النبوة والملك.
وروى أن داود كان له تسعة عشر ولداً، فورث سليمان النبوة والملك دونهم.
5381
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾، أي فهمنا كلامها، وسماه منطقاً لما فهمه عنها كما يفهم بنطق الرجل. قال محمد بن كعب: بلغنا أن سليمان كان في عسكره مائة فرسخ: خمس وعشرون منها للإنس، وخمس وعشرون للجن، وخمس وعشرون للوحش، وخمس وعشرون للطير، وكان لع ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة صريحة، وسبع مائة سرية، فأمر الريح لعاصف فرفعته، وأمر الرخاء فسيرته، فأوحى الله تعالى وهو يسير بين السماء والأرض: أي قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرتك.
قال وهب بن منبه: أرادت الشياطين كيد سليمان، وتحاوروا بينهم في ذلك،
5382
ليخلصوا من السحرة، فأمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد من الخلائق إلا وضعته في اذن سليمان، فبذلك سمع كلام النملة.
وذكر وهب: أن سليمان مر بجنوده من السماء والأرض، فرآه رجل من بني إسرائيل، كان في حرثه يفجر الماء فقال: لقد آتاكم الله آل داود، فاحتملت الريح قوله فقذفته في أذن سليمان. فقال سليمان للريح: إحبسي فحبست، ونزل سليمان متقنعاً ببرد له حتى أتى الرجل فقال له: ما قلت؟ فقال له الرجل: رأيتك في سلطانك الذي آتاك الله، وما سخر لك فقلت: لقد آتاكم الله آل داود. فقال له سليمان: صدقت، ولكن جئتك، خوف الفتنة عليك، تعلم والذي نفس سليمان بيده لثواب سبحان الله كلمة واحدة عند الله يوم القيامة أفضل من كل شيء أوتيته آل داود في الدنيا. فقال له الرجل: فرجت همي فرج الله عنك همك.
5383
فقال له سليمان: وما همي؟ قال: أن تشكر ما أعطاك الله، قال: صدقت. وانصرف عنه سليمان إلى مركه.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾، يعني من كل شيء من الخيرات، يؤتاه الأنبياء والناس، وهذا على التكثير كما تقول: ما لقيت أحداً إلا كلمته.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾، أي إن الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا الظاهر.
قال: ﴿وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير﴾، يقال: إن الجن سخرت له، بأن ملك مضارها ومنافعها، وسخرت له الطير بأن جعل فيها ما تفهم عنه فكانت تستره من الشمس وغيرها.
وقيل: لهذا تفقد الهدهد. ومعنى الآية: وجمع سليمان جنوده في مسير له ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾.
5384
قال قتادة: أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا.
قال ابن عباس: جعل على كل صنف منهم وزعة يرد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في السير كما يفعل الملوك.
وقال ابن زيد: يوزعون: يساقون.
وقال الحسن: / يوزعون يتقدمون. والوازع في اللغة: الكاف: يقال: وزع فلان فلاناً عن الظلم، أي كفه عنه، ومنه قيل للذين يدفعون الناس عن القضاة والأمراء: وزعة لأنهم يكفون الناس عنهم، أي يمنعونهم منهم.
5385
قال ﴿حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل﴾، يعني أتى سليمان وجنوده على واد النمل، وهو واد كان بالشام نمله على قدر الذباب، ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ أي بيوتكم ﴿لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾، أي يكسرنكم. ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، أي يكسرونكم بوطئهم غير عالمين بكم. فتكون الجملة في موضع الحال من سليمان وجنوده، والعامل في الحال يحطمنكم، ويجوز أن تكون الجملة حالاً من النملة، ويكون العامل في الحال: قالت. أي قالت نملة ذلك في حال غفلة الجنود، كما تقول: قلت خيراً والناس نيام.
وقيل: إن قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، راجع إلى النمل. أي والنمل لا يشعر أن سليمان يفهم مقالتها، فتكون حالاً من النملة أيضاً والعامل فيه: قالت. كما تقول: شتمتك وأنا غير عالم بك. أي شتمتك في حال جهلي بك. ولما
5386
فهم سليمان قول النمل وصارت بمنزلة من يعقل في الفهم عنها، أخبر عنها كما يخبر عن من يعقل، فلذلك قال: ﴿قَالَتْ﴾، وقال: ﴿ادخلوا﴾ ولذلك أضاف إلى الطير منطقاً في قوله: ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾ [النمل: ١٦].
وروي: أن الله جلّ ذكره: فهم سليمان كلام الإنس باختلاف لغاتها، وفهمه كلام الطير والبهائم، وكان إذا أراد أن يسير على الأرض أمر بالكرسي فوضع له فجلس عليه، ثم أمر بكراسي فوضعت لأصحابه فأجلس عليها من أراد، فالذين يلونه الإنس، ثم الجن، ثم الشياطين ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض، وإذا أراد صار على الخيل في الأرض، فبينما سليمان ذات يوم يسير بين أيدي الناس على الأرض، ورجلان معه أحدهما ختنه: زوج ابنته، والآخر عن يساره من أهل مملكته كريم عليه، ولم يكن أحد يسير بين يديه تواضعاً لله، إذ مر على واد النمل وهو واد فيه نمل، فسمع نملة تقول: ﴿يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾ وكان قد أعطى الله سليمان زيادة في ملكه ألا يذكره أحد إلا حملت
5387
الريح ذلك الكلام إليه حتى يسمعه، فلما فهم سليمان كلام النمل تبسم ووقف فوقف الناس معه، فقال الرجلان: ما يضحك نبي الله؟ فأخبرهما بكلام النملة، فلم يزل واقفاً حتى دخلت النمل مساكنها ثم سار.
وروى الأعمش عن نوف أنه قال: كانت نمل سليمان أمثال الذباب، وكانت هذه النملة مثل الذيب في العظم.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا﴾،
أي فضحك سليمان من قول النملة، وقال: ﴿رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾، أي ألهمني الشكر على ما أنعمت به علي وعلى والدي وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه.
وقيل: معناه كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك. ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين﴾، أي مع عبادك الصالحين، يعني الأنبياء، أي أدخلني معهم الجنة.
5388
قال ابن زيد: ﴿عِبَادِكَ الصالحين﴾: هم الأنبياء والمؤمنون. ثم قال: ﴿وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد﴾، سأل ابن عباس، عبد الله بن سلام: لم تفقد سليمان الهدهد من بين سائر الطير؟ فقال عبد الله: إن سليمان نزل منزلة في مسير له، فلم يدر ما بعد الماء، فقيل: من يعلم ما بعد الماء؟ فقالوا: الهدهد، فذلك حين تفقده.
وروي: أن الهدهد كان يدل سليمان على مواضع الماء في أسفاره، فأخذ الناس عطش في مفازة فسألوا سليمان الماء، فسأل عن الهدهد، فقالوا: غاب ولم يكن معه إلا هدهد واحد.
قال ابن عباس: تفقد سليمان - عند سؤالهم الماء - الهدهد، فسأل عنه، ودعا أمين الطير فسأله عنه، ولم يكن معه إلا هدهد واحد. فقال الأمين: ما أدري / أين ذهب ولا استأمرني. فكان الهدهد إذا وضع منقاره في الأرض أخبره كم بعد الماء،
5389
فغضب سليمان عند ذلك، وتألاّ لنعذبنه عذاباً شديداً، أي ينتف ريشه حتى يتركه أقرع لا ريش عليه، فلم يكن إلا يسيراً حتى أتى الهدهد بعذر بين، فقال: اطلعت على ما لم تطلع عليه ﴿فَوَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ﴾ [النمل: ٢٢]، أي بخبر صادق.
قال ابن عباس: لما أقبل الهدهد قيل له: إن سليمان قد حلف ليعاقبنك حين فقدك. فقال الهدهد: هل استثنى؟ قالوا: نعم، فأقبل حتى قام بين يديه فأخبره بعذره.
وروي: أن الطير كانت تظله من الشمس في مسيره. فلما غاب الهدهد أصابته الشمس من موضع الهدهد، فسأل عنه إذ فقده.
وقال ابن عباس: كان سليمان يوضع له ست مائة كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس، فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو
5390
الطير فتظلهم، قال: ثم يدعو الريح فتحملهم فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر. قال: فبينما هو في مسيرة إذا احتاج إلى الماء، وهو في فلاة من الأرض قال: فدعا الهدهد، فجاءه فنقر في الأرض فيبصر موضع الماء. قال: فتجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب، ثم يستخرجون الماء. فاعترض على ابن عباس نافع بن الأزرق، فقال له: كيف يبصر الهدهد الماء تحت الأرض، ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.
وذكر أن الهدهد كان يرى الماء في الأرض، كما يرى الماء في الزجاجة. ومعنى قوله: ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾، أي أخطأه بصري فلا أراه، وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق؟ " وكان " ها هنا بمعنى صار لأنه لم يستفهم وهو حاضر، إنما استفهم عنه وهو غائب، وإذا حملت " كان " على لفظها صار المعنى أنه استفهم عنه وهو حاضر، ولم يكن كذلك بل كان غائباً وقت الاستفهام فكان محمولة على معنى صار. وبذلك يتم المعنى.
5391
وقيل: إن مثله ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى﴾ [الأنفال: ٦٧] أي أن يصير له أسرى، لأن الأسرى كانوا بالحضرة لم يكونوا غيباً، ولا متوقعين ولا منتظرين و " يكون " يدل على أنه أمر متوقع منتظر، وليس هو كذلك، بل كانوا بالحضرة، فالمعنى أن تصير له أسرى.
قال: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً﴾، في الكلام اختصار وحذف، والتقدير: فقيل له غاب، فقال: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً﴾، أي لأنتفن ريشه، وأشتمه. قاله ابن عباس.
﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي بحجة ظاهرة يقوم له بها عذر في غيبته عني.
قوله: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ ليس هو بجواب قسم لسليمان. مثل أو (لأعذبنه أو لأذبحنه) هذا جواب قسم لسليمان وليس ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ بجواب قسم له، لأنه لم يقسم على أن يأتيه بحجة تدفع عنه العذاب، لكنه جرى على لفظ ما قبله من قوله: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ﴾ أو ﴿لأَاْذبَحَنَّهُ﴾ على باب المجازات لا أنه مثله.
ومثله قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٩٠] فهذا جواب قسم ثم قال: ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ فليس هذا بجواب قسم ولكن دخلت اللام على طريق المجازات، ﴿لَسَلَّطَهُمْ﴾ لا على الجواب.
قال تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾، أي فمكث سليمان غير وقت طويل من حين سأل عن الهدهد، حتى جاء الهدهد فقال له الهدهد لما سأله سليمان عن علة تخلفه وغيبته: أحطت علماً بما لم يحط به علمك.
قال ابن زيد: معناه علمت ما لم تعلم. ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، أي بخبر صحيح، ومن صرف ﴿سَبَإٍ﴾ جعله اسماً للأب أو للحي أو لرجل أللبلد. ومن لم يصرفه جعله اسماً للقبيلة، أو لامرأة هي أم القبيلة أو للبلدة.
قال أبو إسحاق: سبأ مدينة تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين
5393
صنعاء مسيرة ثلاثة أيام.
وروي: " أن النبي ﷺ سأله رجل عن سبإ فقال: يا رسول الله أخبرني سبإ ما هو أرض أم امرأة؟ فقال النبي ﷺ: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من الولد، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان وأما الذين تيامنوا فكندة، والأشعرون، والأزد ومذحج وحمير، وأنمار. فقال رجل: ما أنمار؟ فقال رسول
5394
الله ﷺ: الذين منهم خثعم وبجيلة " وكذلك رواه ابن عباس عن النبي ﷺ. بهذا المعنى فيجب صرفه على هذا القول. وكل النحويين على أنه إن سمي به رجل صرف فدل على أنه مذكر في الأصل.
قال: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾، أي قال الهدهد لسليمان مخبراً بعذره في الغيبة: إني وجدت امرأة تملك شيئاً، وأوتيت من كل شيء.. أي من كل شيء يؤتاه الناس في دنياهم.
وقيل: معناه: من كل شيء يؤتاه مثلها من الأموال والعدد والرجال والخصب والنعم، وغير ذلك. فقام له العذر عند سليمان في غيبته لأن سليمان عليه السلام كا لا يرى في الأرض أحداً له مملكة معه، وكان قد حبب إليه الجهاد، والغزو، فلما دله الهدهد على ملك معه ودله على موضع جهاد عذره وترك تعذيبه.
قال قتادة: هي امرأة يقال لها بلقيس بنت شراحيل وكان أحد أبويها
5395
من الجن، وكان مؤخر قدمها كحافر الحمار.
وقوله: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾، يعني ذا سعة، وحسن صنعة يعني به السرير.
قال ابن عباس: عرش عظيم: سرير كريم حسن الصنعة. وكان سريراً من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
وروي: أنه كان سريراً من ذهب تجلس بلقيس عليه، طوله ثمانون ذراعاً، وعرضه أربعون ذراعاً، وارتفاعه في السماء: ثلاثون ذراعاً، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، قوائمه من زبرجد أخضر، وكان اسم المرأة بلقيس ابنة اليشرح الحميرية. روي: أنه كان سريراً عالياً تجلس عليه، وتكلم الناس من فوقه.
وذكر قوم: أن الوقف ﴿وَلَهَا عَرْشٌ﴾، ثم تبتدئ ﴿عَظِيمٌ﴾ ﴿وَجَدتُّهَا﴾ وروي ذلك عن نافع، وليس بشيء لأن " عظيماً " من
5396
نعت العرش، ولو كان متعلقاً بما بعده لقال: عظيم أن وجدتها أي عظيم وجودي لها كافرة.
قال تعالى: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾، أي يعبدون الشمس ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾، أي حسن لهم عبادة الشمس من دون الله ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل﴾، أي فمنعهم بتزيينه لهم الباطل، أن يتبعوا الطريق المستقيم، وهو دين الله فهم لا يهتدون إلى الحق.
قال: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ﴾ أن من ﴿أَلاَّ﴾ في موضع نصب على البدل من الأعمال عند: اليزيدي. وقال: أبو عمرو والكسائي، " أن " في موضع خفض بدل من السبيل، ويجوز أن يعمل فيها " يهتدون ".
وقرأ الكسائي: ألا بالتخفيف، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فجعلها: " ألا " التي للتنبيه، ويا: حرف نداء، واحتج الكسائي أن حرف أبي وابن مسعود:
5397
" هلا يسجدوا " فهلا تحقيق وأن اسجدوا أمر، واحتج أيضاً أن السجود هنا مروي عن النبي ﷺ، ومن شدد لا يلزمه سجود، لأنه خبر عن قوم أنهم لم يسجدوا، وليس هو أمر. وليس فيه بمعنى الأمر. ومن الدليل على صحة قراءة الجماعة، حذف الألف من يا من الخط، وحذف ألف الوصل من اسجدوا ويدل على ذلك أنه كله من كلام الهدهد وحكايته. ولم يكن في الوقت أحد يؤمر بالسجود فيكون هذا أمراً له، ولا يلزم ترك السجود على قراءة الجماعة، لأنه لما أخبر أنهم لا يسجدون، وجب لمن يؤمن بالله أن يسجد لله عند ذكر تركهم للسجود تعظيماً لله، وخلافاً لما فعلوا من ترك السجود.
وقوله: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ﴾ قيل: هو من قول الله جلّ ذكره ينبه عباده أن
5398
السجود لا يصلح إلا لله.
واختلف العلماء في سجود القرآن، ويقال لها: عزائم القرآن. فكان ابن عمر، وابن عباس يقولان: سجود القرآن إحدى عشرة سجدة: في الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج، أولها، والفرقان / والنمل، وآلم السجدة، وصَ، وحَم السجدة، وهذا مذهب مالك. قال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم: أجمع الناس على أن عزائم سجود القرآن إحدى عشر سجدة ليس في المفصل منها شيء. يعني بقوله أجمع الناس: أهل المدينة.
وقد روي عن ابن عباس: أنه أسقط صَ وجعلها عشرة.
ومذهب الشافعي: أنها أربع عشرة سجدة زاد في الحج آخرها، وفي والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك، ونقص سجدة (صَ) وكذلك قال: أبو ثور، إلا أنه أثبت السجود في (صَ) وأسقطه من والنجم.
وقال إسحاق: سجود القرآن خمس عشرة سجدة، زاد على مذهب الشافعي
5399
سجدة أخرى في الحج، واختلفوا في الموضع الذي يسجد فيه في (حَم) السجدة. فقال ابن عباس، وابن عمر والحسن البصري، وابن سيرين: يسجد آخر قوله:
﴿إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: ٣٧] وقد حكى ذلك عن مسروق عن أصحاب ابن مسعود، وبه قال مالك والليث بن سعد.
وقال ابن المسيب، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى وإسحاق: يسجد عند آخر قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ﴾ [فصلت: ٣٨]. وقد روي ذلك أيضاً: عن ابن عباس، وابن سيرين، وفي سجود القرآن فضل عظيم.
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أمر هؤلاء، أو هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ".
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ: " كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ".
وكره مالك السجود بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا يسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وإذا كان القارئ في الصلاة فسجد، سجد بغير تكبير،
5400
ثم قال١ :﴿ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ﴾[ ٢٦ ]، هذا كله من إخبار الله٢عن قول الهدهد. قاله ابن زيد وابن إسحاق.
١ ز: وقال..
٢ بعده في ز: "تعالى"..
ويرفع رأسه بتكبير، فإن كان في غير صلاة لم يكبر في الرفع ولا قبله، وعلى من سمع قراءة السجدة أن يسجد مع الإمام. وقوله: ﴿الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض﴾، أي يخرج المخبوء في السماوات من غيث، والأرض من نبات.
وقال مجاهد: هو الغيث.
وقال ابن زيد: خبء السماوات المطر، وخبء الأرض النبات.
وقال قتادة: الخبء: السر، " وفي " في موضع " من ".
ثم قال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾، أي يعلم ما يسرون وما يظهرون. ثم قال: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾، هذا كله من إخبار الله عن قول الهدهد. قاله ابن زيد وابن إسحاق.
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧)
أي قال سليمان للهدهد: سننظر أصدقت فيما اعتذرت به لغيبتك أم كنت من الكاذبين فيه. وقوله:
﴿أَمْ كُنتَ﴾ معناه أم أنت، لأن سليمان لم يرد أنه ينظر أن كان فيما مضى من الزمان من الكاذبين، إنما أراد إن كان هو في حاله ذلك الوقت من الكاذبين. ومثله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
قال: ﴿اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾، أي قال سليمان للهدهد: اذهب بكتابي إليهم فألقه إليهم، ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾، أي منصرفاً، ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم.
وقيل: الكلام على بابه لا تقديم فيه، وانظر فيما انتظر أي فألقه إليهم فانتظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم.
قال ابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها، فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها، واستبطأت الشمس فقامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه، وطار حين قامت تنظر إلى الشمس. فهذا التفسير يدل على أنه نظر إليها ماذا ترجع قبل إلقائه الصحيفة، ثم
5402
ألقاها ورجع إلى سليمان.
وقيل: المعنى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ قريباً منهم فانظر ماذا يرجعون؟ ودل على هذا سماع الهدهد قولها لأهل مملكتها بعد إلقائه الكتاب إليهت، وهذا القول هو اختيار الطبري.
واختار الزجاج القول الأول أن يكون على التقديم والتأخير. ثم قال: ﴿قَالَتْ يا أيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾، في الآية اختصار وحذف، والتقدير فذهب الهدهد بكتاب سليمان فألقاه إليها، فلما قرأته قالت: يا أيها الملأ: تريد أشراف قومها.
قال ابن عباس: كتب سليمان إليها بسم الله الرحمن الرحيم: من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة اليشرح الحميرية: ﴿أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، أي لا تتعظموا عن طاعتي وأتوني مسلمين فذهب الهدهد بالكتاب فانتهى إليها ظهيرة وهي قائلة في قصرها، وقد غلقت عليها الأبواب، فلا يصل إليها شيء،
5403
والحرس حول قصرها. وكان لها من قومها اثنى عشر ألف مقاتل، كان كل رجل منهم على مائة ألف سوى نسائهم وذراريهم. وكانت تخرج إلى قومها فتقضي بينهم في أمورهم، وحوائجهم، في كل جمعة يوماً قد جعلت على عرشها أربعة أعمدة من ذهب، ثم جعلت عليه حريرة تجلس خلفها فهي تراهم ولا يرونها، فإذا أراد الرجل منهم قام بين يديها فنكس رأسه ولا ينظر إليها، ثم يسجد ولا يرفع رأسه حتى تأذن له إعظاماً لها. فإذا قضت حوائجهم أمرت بأمرها ودخلت قصرها فلم يورها إلى مثل ذلك اليوم. وكان ملكها ملكاً عظيماً، فلما أتاها الهدهد بالكتاب، وجد الأبواب قد غلقت دونها والحرس حوالي قصرها، فدار الهدهد حوالي القصر يطلب السبيل إليها حتى وصل إليها من كوة في القصر فدخل منها إلى بيت ثم مر من بيت إلى بيت حتى انتهى إليها في أقصى سبعة أبواب على عرشها مستلقية،
5404
نائمة ليس عليها إلا خرقة على عورتها وكذلك كانت تصنع إذا نامت، فوضع الكتاب إلى جنبها على العرش ثم تولى فوقع في كوة ينتظرها حتى تقرأ الكتاب فمكث طويلاً لا تستيقظ، فلما أبطأ عليه ذلك انحط، فنقرها نقرة فاستيقظت، فبصرت بالكتاب إلى جنبها على السرير فأخذته وفزعت، وجعلت تنظر ما حال الكتاب، وكيف وصل الكتاب إليها فإذا الأبواب مغلقة، فخرجت فإذا الحرس حوالي القصر، فقالت هل رأيتم أحداً دخل علي أو فتح باباً؟ قالوا: لا، أما رأيت الأبواب مغلقة كما هي ونحن حوالي القصر، ففتحت الكتاب، وكان مطبوعاً فقرأته ولم تشك أنه من السماء سقط عليها فأرسلت إلى قومها وشاورتهم كما قص الله علينا في كتابه.
قال وهب بن منبه: كتب سليمان مع الهدهد ﴿بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾: من سليمان بن داود إلى بلقيس وقومها: أما بعد، فلا تعلوا
5405
علي وأتوني مسلمين. فأخذ الهدهد الكتاب برجله فانطلق به حتى أتاها، وكانت لها كوة في بيتها إذا طلعت الشمس نظرت إليها فسجدت لها، فأتى الهدهد الكوة فسدّها بجناحه حتى ارتفعت الشمس ولم تعلم من ألقى الكتاب من الكوة فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه فأخذته.
وقال قتادة: كان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام. ومعنى وصفها للكتاب بالكريم أنه كان مطبوعاً.
وقيل: وصفته بذلك لحسن ما فيه واختصاره.
وقوله: ﴿أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ﴾، أي لا تتكبروا علي، ولا تتجبروا علي، وأتوني مذعينين مستسلمين. وقال: إنما وصفته بالكريم على معنى كتاب من رجل كريم، رفيع القدر يطيعه الجن، والإنس والطير. لأنها كانت قد سمعت بخبر سليمان، فلما رأت اسمه في الكتاب عرفته، وعرفت قدر ملكه، وأخبرتهم أنه من سليمان وأن فيه بسم الله الرحمن الرحيم.
5406
وهذه جملة من علل بسم الله الرحمن الرحيم: فمن ذلك ما روي عن عيسى ﷺ: أنه قعد بين يدي مؤدب، فقال له المؤدب قل: بسم الله الرحمن الرحيم: فقال عيسى وما بسم الله. فقال المؤدب: لا أدري؟ فقال عيسى: الباء: بهاء الله / والسين سناء الله، والميم ملكه. وكذلك قال الحسن إلا أنه قال: والميم مجده. والباء متعلقة بفعل مضمر، والمعنى: ابدأ بسم الله، فإذا اختلفت الأفعال التي تريد أن تسمي الله عليها، أضمرت لكل معنى فعلاً يشاكله، فإذا أردت القيام فقلت بسم الله: أضمرت أقوم بسم الله، وإذا أردت القعود قدّرت أقعد بسم الله، وكذلك الركوب وشبهه.
وقيل: إن الاضمار في جميع ذلك أبداً وهو أحسن عند الحذاق، وإنما حذف الفعل ولم يذكر إيجازاً واختصاراً، إذ ما بقي من الكلام يدل عليه، وهذا
5407
الحذف كثير في الكلام، وإنما اختيرت الباء لأنها للإلصاق، وأنت تحتاج أن تلصق ابتداءك بالتسمية، فجئت بالباء لأنه موضعها، وإنما سميت الباء، ومن وعن وشبهها بحروف الجر لأنها تجر الأفعال إلى الأسماء: تقول: مررت بزيد وانتهيت إلى عمرو.
فلولا الحروف ما انجرت الأفعال إلى الأسماء. وإنما خفضت هذه الحروف الأسماء لأن معناها الإضافة، تضيف فعلاً إلى اسم، أو معنى إلى اسم. كقولك: مررت بزيد، وعمرو كزيد. وإنما كسرت الباء. لتكون حركتها مثل عملها؛ هذا قول الجرمي. ولم تكسر الكاف لتفرق بين ما يكون حرفاً واسماً، وبين ما لا يكون إلا حرفاً، وإنما عملت الخفض لأنها لا معنى لها في الأفعال فلزمت الأسماء، فلما لزمت الأسماء عملت إعراباً لا يكون إلا في الأسماء، وهو الخفض، وقد فتحوا لام الجر مع المضمر.
ردت إلى أصلها لأنها إنما كسرت مع المضمر ليفرق بينها وبين لام
5408
التأكيد، وتركت الباء على كسرها مع المضمر إذ ليس فيها علة توجب فتحها، وكسرت لام كي لأنها هي لام الجر بعينها، وكسرت لام الأمر للفرق بينها وبين لام التأكيد، والفرق بين لام الجر، ولام الأمر وكلاهما مكسور، أن لام الجر لا تدخل على الأفعال ولام الأمر لا تدخل على الأسماء، فعملت لام الجر إعراباً لا يكون إلا في الأسماء للزومها الأفعال وهو الجزم. وأصل هذه الحروف كلها الفتح، كواو العطف، وفائه، وألف الاستفهام. وكانت في الأصل لا حركة لها ولم يمكن الابتداء بساكن فلم يكن بد من حركة فأعطيت أخفّ الحركات وهي الفتحة، وإذا قلت: بسم الله فهو الله في المعنى كما قال لبيد:
5409
إلى الحلول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
يريد ثم السلام عليكم فرفع اسماً بالابتداء لما قدمه ولم يعمل فيه الإغراء لأنه متأخر لا يتقدم عليه معموله، ومثله قول الشاعر:
يا أيها المائح دلوي دونكا إني رأيت الناس يحمدونكا
أي هذا دلوي، ويجوز النصب بإضمار فعل تقديره: ثم الزم اسم السلام. وحذفت الألف من بسم لأن الباء كفت منها، فوصلت اللسان إلى النطق بالسين.
وكان الخليل يسمي ألف الوصل سلم اللسان، وحذفت من الخط لكثرة الاستعمال، هذا مذهب الجرمي، والمبرد، والكسائي والفراء. وقال الاخفش: حذفت
5410
من الخط لما وصلت إلى السين بالباء فألزمه الفراء أن تحذف الألف من الخط في قولهم: فاضرب واضرب ولا يحسن حذف هذا.
وقال الكسائي: في قوله: ﴿بِسْمِ الله مجراها﴾ [هود: ٤١] إن شئت أثبت الألف في الخط وإن شئت حذفتها. وإنما دخلت ألف الوصل الأسماء، وحقها أن تدخل على الأفعال على التشبيه بالأفعال، كما أضافوا إلى الأفعال وليس بابها أن يضاف إليها على التشبيه أيضاً بالأسماء.
وقيل: إنما دخلت هذه الأسماء اللف لأنهم لما حذفوا من أواخرها أرادوا العوض من المحذوف، فلم يمكن أن يعوضوا منه آخراً، فعوضوا منه أولاً، وسكنوا السين ليسوغ دخول الألف، والعوض في كلام العرب كثير ألا ترى أنهم يقولون: زنادقة وزناديق.
فيعوضون الياء من الهاء، وإنما حذفوا من هذه الأسماء
5411
لأن آخرها / حرف علة ياء، أو واو، وقد كان يجب أن ينقلبا ألفا غذ هما ظرفان، فكان الحذف أخف من الإعلال والإقلاب، فلما حذف من آخرها حرف أشبهت الأفعال، لأن الحذف أكثر ما يكون في الأفعال نحو: لم أبل ولا أدر فلما ضارع الاسم الفعل في باب الحذف آخراً ضارعه في باب الزيادة أولاً فدخلته ألف الوصل، ولم يمكن أن تدخل على متحرك فسكن أوله، وهذا قول حكي عن الخليل.
والمحذوف من اسم عند البصريين واو وأصله سمو على مثال قنو، دليله قولهم: أسماء كأقناء وكذلك أب وأخ. المحذوف منهما واو يدل على ذلك قولهم: الأبوة والأخوة. وقولهم: أبوان وأخوان. وقد كان يجب أن تدخل ألف الوصل على أب، وأخ على ما قدمنا من العلة إلا أنه لما كان في أول أب وأخ همزة ثقل دخول همزة أخرى عليها، والعرب تستثقل الجمع بين همزتين في كلمتين ولا تجيزه في كلمة إلا بالتخفيف، فتركوا ما يستثقلون.
5412
واسم مشتق من السمو.
وقيل: من السمة.
وقيل: هو أمر من قولك اسم فلاناً أي أعله وكذلك ابن أصله الأمر من قولك: ابن البناء يا رجل. وقول ما قال: هو من السمة. قول صحيح في المعنى لأن صاحبه يعرف به كالسمة في البعير يعرف بها، لكنه غير جائز في الاشتقاق، والأصمول، وذلك أنه ليس في كلام العرب مصدر فعل معتل فاؤه واو تدخله ألف الوصل، فيكون هذا مثله، ألا ترى أنك لا تجد مثل أعد وأزن في وعد ووزن وأيضاً فإنه يجب أن يقال في تصغيره وسيم كما تقول في تصغير عدة وعيدة وذلك لا يقال.
وقولك: بسم في موضع نصب عند الكوفيين فبين لأن التقدير أُبدأ بسم.
5413
وقال البصريون: موضعه رفع على إضمار مبتدأ، والتقدير أول ابتداء بسم الله، وقد أجاز النحويون: ابتدأت ببسم الله فأدخلوا الباء على الباء، وليس هذا بجائز في غيره، وإنما ذلك، لأن هذه الباء لما لزمت الاسم ولم تفارقه، وكثر الاستعمال بها صارت كأحد حروف الاسم، فدخلت عليها الباء كما تدخل على سائر الأسماء، وإنما خصت الألف بالزيادة والتعويض من المحذوف في اسم لأن أولى الحروف بالزيادة من حروف المعجم الياء والواو والألف، وهنا حروف المد واللين، ولا يكون الإعراب إلا بواحد منها، أو بحركة هي منها.
قالوا: ولا تزاد أولاً، وكذلك الياء، فزادوا ألفاً، والألف لا تكون إلا ساكنة وبعدها السين ساكنة فكسرت الألف لالتقاء الساكنين وإنما سميت الهمزة ألفاً لأن صورتهما واحدة، ولأن الألف تبدل من الهمزة في يأكل ويأتي، والهمزة تبدل من الألف في رسائل وقلائد، وإنما ردت ألف الوصل في قولك امرئ وهو غير محذوف الآخر لأن آخره وهو الهمزة لا تثبت على حال يكون في الرفع واواً، وفي النصب
5414
ألفاً، وفي الخفض ياء، فضعف فصار بمنزلة المحذوف فزيدت الألف في أوله لضعف الآخر.
وقال المبرد: لما كان امرؤ لا يقوم بنفسه حتى يضيفه إلى غيره. فتقول هذا امرؤ سوء، وشبه الأفعال إذ كانت لا تقوم بنفسها ولا بد لها من فاعل فدخلته ألف الوصل لذلك، وإنما لقبت هذه الألف بألف وصل عند الكوفيين لأنها تذهب في الوصل فلقبت بضد حالها كما سمي اللذيع سليماً، والمخافة مفازة. وقيل: سميت ألف وصل لأنها تصل الكلام الذي قبلها بالذي بعدها ويستغنى عنها. وهذا القول هو القول الأولى في المعنى.
وقال البصريون: لقبت ألف وصل: لأنه يوصل بها إلى الساكن الذي بعدها.
وحكي عن الخليل: أنه كان يسمي ألف الوصل: سلم اللسان.
5415
قوله تعالى ذكره ﴿قَالَتْ يا أيها الملأ أَفْتُونِي﴾.
أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أشيروا / علي في أمري الذي قد حضرني في أمر هذا الكتاب الذي ألقي إلي. ﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ﴾، أي قالت: ما كنت قاضية أمراً في جواب هذا الكتاب حتى تشهدون أي تحضروني. قال لها أشراف قومها لما شاروتهم في أمرها: ﴿نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ﴾، أي أصحاب قوة في القتال ﴿وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي ذوو بأس في الحرب شديد، والأمر أيّتها الملكة إليك في القتال وغيره ﴿فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾.
روي: أن قومها كانوا أولي قوة، وأن أحدهم كان يركض الفرس حتى إذا امتلأ في جريه ضم فخذيه عليه فحبسه بقوته.
روى الأعمش عن مجاهد أنه قال: كان مع ملكة سبأ اثنى عشر ألف قيول مع كل قيول مائة ألف.
وعن ابن عباس أنه قال: كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل بلسانهم الملك.
قال تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾، أي قالت بلقيس لأشراف قومها: إن الملوك إذا دخلوا قرية عنوة وغلبة أفسدوها. ﴿وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً﴾، تم كلامها.
ثم قال الله تعالى تصديقاً لقولها في الملوك إذا غلبوا على قرية:
5417
﴿وكذلك يَفْعَلُونَ﴾، وقد أجاز بعضهم أن يكون ذلك من قولها على التأكيد لصدر ما قالت.
وقيل: هو من قول سليمان. ومثله في اتصال كلامين مختلفين قوله:
﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾ في يوسف، فهو من قول امرأة العزيز فاتصل له كلام يوسف. فقال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢]، ومثله في قصة فرعون.
﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ [الشعراء: ٣٥]، وانتهى كلام الأشراف من قوم فرعون ثم اتصل به كلام فرعون لهم وهو قوله: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ يخاطب أشراف قومه.
والقرية كل مدينة تجمع الناس مشتقة من قريت الماء: أي جمعته.
ثم قال تعالى عنها: أنها قالت لهم: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾، أي إني مرسلة إلى سليمان بهدية، لنختبر بذلك سليمان ونعرف أملك أم نبي؟ فإن يكن نبياً لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن يكن ملكاً قَبِل الهدية
5418
وانصرف. قال ذلك ابن عباس.
قيل: إنها لما لم يشر عليها قومها برأي رجعت إلى رأيها فأرسلت الهدية.
قال ابن عباس: بعثت إليه بوصائف ووصف ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أنثى، فقالت: إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى، ثم رد الهدية فإنه نبي، وينبغي لنا أن نترك ملكنا، ونتبع دينه ونلحق به. وكذلك قال ابن جريج، ومجاهد، والضحاك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: أهدت إليه اثني عشر غلاماً فيهم تأنيت مخضبة أيديهم قد مشطتهم، وألبستهم لباس الجواري، وقالت لهم: إذا كلمكم فردوا عليه كلاماً فيه تأنيث، وأهدت إليه اثني عشر جارية فيهن غلظ، واستأصلت رؤوسهن وأزرتهم، وألبستهن النعال، وقالت لهن: إذا كلمكن فردوا عليه كلاماً
5419
صحيحاً وأرسلت إليه بعود يخرج بالمسك والعبير والحرير في الأطباق على أيدي الوصفاء والوصائف، وأرسلت إليه اثني عشر بختية، كل بختية تحلب كذا وكذا من اللبن. وأرسلت إليه بخرزتين إحداهما مثقوبة ملتوية الثقب، والأخرى غير مثقوبة، وأرسلت إليه بقدح ليس فيه شيء، وأرسلت ذلك كله مع امرأة، وتقدمت إليها أن تحفظ جميع أمره وكلامه حتى تخبرها عنه، وقالت لهم: قوموا بين يديه قياماً، ولا تجلسوا حتى يأمركم، فإنه إن كان جباراً لم يأمركم بالجلوس وأرضيناه بالمال فيسكت عنا، وإن كان نبياً أمركم بالجلوس، وأمرتها أن تقول له أن يثقب الخرزة الصحيحة بغير حديدة، ولا علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له: أن يميز الغلمان من الجواري، وأمرتها أن تقول له: يدخل في الخرزة المثقوبة المعوجة / خيطاً بغير علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له أن يملأ القدح ماءً مزبداً ليس من الأرض ولا من السماء.
قال: وكتبت إليه تسأله عن ألف باب فانطلقت المرأة بهديتها، حتى أتت بها سليمان، فوضعتها بين يديه، وقاموا قياماً ولم يجلسوا، فنظر
5420
إليهم سليمان لحظاً لم يحرك يداً ولا رجلاً، ثم رفع رأسه إلى رسولها فقال: إن الله رفع السماء ووضع الأرض، فمن شاء قام ومن شاء جلس، فجلسوا، فقدمت إليه الخرزتين وقالت: إنها تقول لك: أدخل في هذه الخرزة المثقوبة خيطاً ينفذ إلى الجانب الاخر من غير علاج إنس ولا جان، وأن تثقب الأخرى ثقباناً فذاً من غير علاج إنس ولا جان، ثم قربت إليه القدح، وقالت: تقول لك أن تملأ هذا القدح من ماء مزبد رواء ليس من الأرض ولا من السماء، ثم قربت إليه الوصفاء والوصائف، وقالت: تقول لك: أن تفرق بين الغلمان والجواري ففرق بينهم بالوضوء فبدأ الجواري بالمرافق، وبدأ الغلمان بالإيدي، وملأ لهما القدح من عرق الخيل، ودخلت دودة الثمرة بالخيط في الخرزة حتى خرجته من الجانب الآخر، وتولت دودة الخشب ثقب الخرزة الأخرى حتى نفذتها، ورد الهدية عليها.
5421
وقال ثابت البُناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ سليمان ذلك أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقي في الطرق، فلما جاءوا رأوه ملقى لا يلتفت إليه، صغر في أعينهم ما جاءوا به.
قال ابن زيد: قالت: إن هذا الرجل إن كانت همته الدنيا فسنرضيه، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبل غيره.
وقال ابن جبير: أرسلت بمأتي وصيف ووصيفة وقالت: إن
5422
كان نبياً فسيعلم الذكر من الأنثى، فأمرهم فتوضأوا، فمن توضأ منهم، فبدأ بمرفقه قبل كفه قال: هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال: هو من الذكور.
وروى أنها: وجهت إليه بمائة وصيف، ومائة وصيفة، وألبست الجواري ثياب الغلمان، وألبست الغلمان ثياب الجواري، وقالت: إن كان ملكاً لم يعرف حتى يعريهم، وإن كا نبياً علم ولم يعريهم، فلما قدموا على سليمان أمر فوضع لهم ماء يتوضأون، فكل من بدأ بالمرفق فغسله إلى اليد علم أنها جارية، وكل من بدأ باليد إلى المرفق علم أنه غلام، فأمر بنزع ثياب الغلمان فردها على الجواري، ونزع ثياب الجواري وردها على الغلمان، ثم ردَّ ما أهدت إليه.
وقوله: " إليهم " تريد به سليمان وحده لأن الملوك يخاطبون مخاطبة الجماعة، كما يخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة.
وقوله: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾، أي فأنظر بأي شيء يرجع رسلي
5423
بقبول الهدية أم بردها؟
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾،
أي فلما جاء رسولها سليمان بالهدية، قال سليمان: أتمدونني بمال، فالذي أعطاني الله من الملك في الدنيا ﴿خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾، أي ما أفرح بما أهديتم إلي بل أنتم تفرحون بها، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا، ومكاثرة بها.
روي: أن رسولها لما رجع إليها بالهدية وأخبرها خبر سليمان، قالت لقومها: هذا أمر من السماء لا ينبغي لنا معاندته فعمدت إلى عرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات، وأقامت عليه الحرس، ثم أقبلت إلى سليمان فرجع الهدهد وأخبر سليمان بذلك، فقال عند ذلك: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾، أي بسريرها ﴿قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، فيحرم علي ما لهم.
وقوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَ﴾، فوحد وقد قال عنها ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾ [النمل: ٣٥]،
5424
فجمع فمعناه: فلما جاءوها سليمان.
وقيل: إن الرسول كان واحداً، وإنما قالت هي: ﴿المرسلون﴾، فجمعت لأن الرسول لا بد له من خدمة وأعوان، فجمعت على ذلك المعنى.
وقد قيل: إن الرسول الذي وجهته إلى سليمان كانت امرأة.
وقيل: بل كانوا جماعة، وإنما قال " جاء " فوحد على معنى الجمع ودل / على ذلك أن في حرف ابن مسعود ﴿فَلَمَّا جَآءَ﴾ بالجمع وقوله: ﴿ارجع إِلَيْهِمْ﴾، يدل على أنه كان واحداً والله أعلم.
ثم قال تعالى: ﴿ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾، أي قال سليمان لرسول المرأة: ارجع إليهم بهديتهم فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بها.
﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً﴾، أي لنخرجنهم من بلدتهم صاغرين إن لم يأتوني مسلمين.
5425
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾.
قال ابن عباس: كان إتيان العرش إليه قبل أن كتب إليها. لأنه لما أتاه الهدهد فأخبره بملك سبأ وعرشها، أنكر سليمان أن يكون لأحد سلطان في الأرض غيره، فقال لمن عنده من الجن والإنس: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ قال سليمان أريد أعجل من هذا. ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، وهو رجل من الإنس كان عنده علم من الكتاب فيه اسم الله الأكبر، فدعا بالاسم، فاحتمل العرش احتمالاً حتى وضع بين يدي سليمان بقدرة الله، فلما أتاه العرش صدّق الهدهد في قوله، ووجهه بالكتاب وكذلك روى الضحاك. وقال وهب بن منبه وغيره: بل كتب معه الكتاب قبل أن يأتيه العرش. والكلام في التلاوة على رتبته ووصل إليه العرش بعد رده الهدية.
قال وهب بن منبه: لما رجعت إليها
5426
الرسل بالهدية، وأ'لموها بما كان من أمر سليمان.
وقوله: قالت: قد والله علمت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة وبعثت إليه إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك؟ وما تدعو إليه من دينك؟ ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه، وكان من ذهب مفصص بالياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما يخدمها النساء، معها ست مائة امرأة يخدمنها، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا ترينه حتى آتيك، ثم شخصت إلى سليمان في إثني عشر ألف قيل، معها من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه
5427
بمسيرها، ومنهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت، جمع من عنده من الإنس والجن ثم قال: ﴿يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، أي بسريرها، وذلك أنه خشي أن تسلم فيحرم عليه أخذه، وقد وصف له، وأعجب به، فأراد أن يأخذه قبل إسلامها فيحل له. قاله قتادة.
قال قتادة: كان السرير من ذهب وقوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ. قال ابن جريج: كان من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
وقيل: إنما فعل ذلك ليختبر عقلها به هل تنتبه إليه إذا رأته أم لا؟ قاله ابن زيد.
5428
قال ابن عباس: معنى ﴿مُسْلِمِينَ﴾، طائعين أي مستسلمين لي. وقال ابن جريج: معناه قبل أن يدخلوا في الإسلام فتمتنع علي أموالهم. وهو قول قتادة المتقدم. وإنما خص سليمان السرير دون غيره من مملكتها لأنه أعجب به.
فعل ذلك لإعجابها به، واحتياطها عليه، فأراد أن يريها قدرة الله عجزها، وأن السبعة الأبيات التي قفلت عليه لا تنفع شيئاً، فيكون ذلك حجة عليها في نبوته. وقوله: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾، العفريت النافذ في الأمور المبالغ فيها الذي معه خبث ودهاء، وفيه لغات:
5429
عفريت وعفرية وعفر وعفارية.
وقرأ أبو رجاء: قال: " عفرية " وجمع عفرية على عفار وجمع: عفريت على عفاريت، وإن شئت عفار لأن التاء زائدة كما تقول في طاغوت طواغ، وإن شئت عوضت فقلت عفاري.
قال مجاهد: عفريت من الجن: أي ما ورد من الجن.
وقال قتادة ومعمر: داهية من الجن.
وقيل: عفريت: رئيس من الجن.
قال وهب: كان اسم العفريت: كودتا.
5430
وعن ابن عباس: أنه صخر الجني. فالمعنى: قوي على حمله، أمين على فرج هذه.
وعن ابن زيد: نحوه.
وقوله ﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾، قال مجاهد: مقعدك الذي تقضي فيه.
وقال قتادة: يقال مقام ومقامة: للمكان الذي يقام فيه قيل: كان سليمان يجلس للناس إلى وقت نصف النهار، ثم يقوم إلى عبادة ربه، وإلى أهله.
قال ابن عباس: كان من قوة العفريت حين وصف نفسه بالقوة: أنه كان يضع قدمه حيث ينال طرفه، فقال سليمان: أنا أحب أعجل من ذلك: ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب﴾ قيل: هو جبريل عليه السلام. وقيل هو سليمان نفسه.
وذهب ابن وهب: أنه الخضر.
وقيل: هو أصف بن برخيا.
5431
وقوله: ﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾، أي لقوي على حمله: أمين على ما فيه من الذهب والجوهر لا أخون فيه.
وعن ابن عباس: أمين على فرج المرأة.
ثم قال: ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، أي قال الإنسي الذي عنده علم من كتاب الله جلّ ذكره.
قال مجاهد: فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش تحت الأرض حتى خرج إليهم.
قال الزهري: دعا الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت: إيتني بعرشها. قال: فتمثل له بين يديه.
قال قتادة: كان اسمه يلجا.
5432
وقيل: كان اسمه آصف بن برخيا.
وقال النخعي: هو جبريل ﷺ.
وقيل: هو سليمان نفسه. ودل على ذلك قوله: ﴿هذا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾. ومعنى: ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، أي قبل أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك، أي قبل أن يأتيك أقصى ما ترى.
وقال وهب معناه: أنا آتيك به قبل أن تمتد عينك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى آتيك فأمثله بين يديك فدعا فغاص العرش تحت الأرض ثم نبع إليه.
وقال وهب: توضأ آصف، وركع ركعتين، ودعا فنبع السرير من تحت الأرض، فقال سليمان: ﴿هذا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾، أي هذا النصر من فضل ربي ليختبرني أشكر أم أكفر، ومن شكر فلنفسه يشكر، لأن النفع إليه يرجع، ومن
5433
كفر فإن ربي غني عنه، ونفسه ظلم. كريم أي تفضل على من كفر ويرزقه.
قال مالك: كانت باليمن وكان سليمان بالشام.
وروى ابن وهب عن ابن لهيعة قال: بلغني أن الذي قال لسليمان ﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ أنه الخضر.
قال الأعمش: قال الذي عنده علم من الكتاب لا إله إلا أنت رب كل شيء إيتني به. قال: فإذا هو بين يديه.
قوله تعالى ذكره: ﴿قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي﴾.
أي قال سليمان لما أتي بالعرش وقدمت إليه بجندها: غيروا سريرها. قاله قتادة.
قال ابن عباس: زيد فيه ونقص منه. وقال الضحاك.
" ننظر أتهتدي " أي ألها عقل تهتدي به إلى عرشها، أم لا تهتدي إليه؟.
قال الفراء: كان الشياطين قد قالوا لسليمان: إنها لا عقل لها، وإن رجلها كحافر حمار، فأراد أن يعرف صحة ذلك، فغير السرير وصنع الصرح من زجاج تحته ماء فيه حيتان.
وقيل: المعنى ننظر أتهتدي لهذه العظمة التي أتت بسريرها مع عظمه وبعد موضعه، وأن الناس لا يتهيأ لهم حمل مثله، فتعلم أنه لا يأتي به إلا نبي من عند الله، فتدع الضلالة وترجع إلى الإيمان بهذه المعجزة التي رأتها من حمل سريرها من موضعه، وهي لا تشعر به ولا قومها، أم تكون من الذين يجهلون ذلك.
قال: ﴿فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾، أي فلما جاءت بلقيس سليمان أخرج لها العرش، وقال لها: أهكذا عرشك؟ فشبهته به وقالت: / ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾، ولم تقطع أنه هو، لأنها تركته خلفها وغلقت عليه الأبواب.
وقوله تعالى ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا﴾، هذا خبر من قول سليمان، أي قال سليمان: وأعطينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء جل ذكره من قبل هذه المرأة
﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾، من قبلها، قاله مجاهد وغيره.
وقيل: العلم هنا التوحيد.
قال: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله﴾، أي وصدها عبادتها الشمس من دون الله عن أن تعلم ما علمنا، وعن أن تسلم " فما " في موضع رفع بفعلها على هذا التقدير.
وقيل: المعنى: وصدها الله أو وصدها سليمان عما كانت تعبد. ثم حذفت " عن " فتعدى الفعل إلى " ما " في موضع نصب على هذا التقدير، ومثله في الحذف ما أنشد سيبويه:
نبئت عبد الله بالجو أصبحت مواليها لئيماً صميمها
أي عن عبد الله.
وقرأ ابن جبير: " أنها كانت " بفتح أن وموضعها نصب على البدل من " ما " على مذهب من جعل " ما " في موضع نصب، ويجوز أن تكون في موضع نصب على حذف اللام، وفي موضع خفض على إرادة اللام. وهو قول الكسائي. وفي موضع رفع على البدل من " ما " على مذهب من جعل " ما " في موضع رفع.
والوقف لمن كسر " إن " ﴿مِن دُونِ الله﴾، ومن فتحها وقف على ﴿كَافِرِينَ﴾.
قال تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح﴾، قال وهب بن منبه: أمر سليمان بالصرح فعملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً، ثم أرسل الماء تحته، ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعطفت عليه الطير، والجن، والإنس.
وقيل: إنه ألقى في الماء الحوت، فنظرت إلى ماء فيه حوت على ظهره سرير، ولم تر الزجاج لصفائه، فرفعت ثيابها، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء إلى سليمان.
فقيل: ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ﴾، أي من زجاج، والممرد: الأملس، ومنه الأمرد.
5437
وقيل: إنما فعل ذلك ليختبر عقها بذلك على نحو ما اختبرته يعني في توجيهها إليه الوصائف والوصفاء، ليميز بين الذكور والأناث يعاتبها بذلك.
فقال لها: ادخلي الصرح ليريها ملكاً أعز من ملكها، وسلطاناً أعظم من سلطانها. ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا﴾، لا تشك أنه ماء تخوضه، فقيل لها: ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ﴾، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعابها في عبادة الشمس من دون الله، فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت، وسجد معه الناس، وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلما رفع رأسه قال: ويحك ما قلت؟ فأنسيت ما قالت، فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾، فحسن إسلامها.
5438
وقيل: إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح، لأن الجن خافت سليمان أن يتزوجها، فأرادوا ان يزهدوه فيها فقالوا: إن رجلها رجل حمار، وإن أمها كانت من الجن. فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجن به. قاله محمد بن كعب القرظي.
وقال: إن سليمان لما عمل له الصرح سخر فيه دواب البحر: الحيتان والضفادع، فلما نظرت إلى الصرح، قالت: ما وجد ابن داود عذاباً يقتلني به إلا الغرق. فحسبته لجة وكشفت عن ساقيها، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً. قال: فضن سليمان بساقيها عن الموسى، فأحدثت النورة لذلك السبب لسيلمان.
قال مجاهد: والصرح: بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير
5439
ألبسها إياه.
قال: وكانت بلقيس هلباء شعراء قدمها كحافر حمار وأمها جنية.
وعن ابن عباس قال: سمعت الجن بشأن بلقيس فوقعوا فيها عند سليمان ليكرهوها إليه، وخافوا أن يتزوجها، فتظهره على أمورهم، وكانت تعلم ذلك لأن أحد / أبويها كان جنياً. فقالوا: أصلح الله الملك إن في عقلها شيئاً، ورجلها كحافر حمار، فلما قالوا له ذلك، أراد أن يرى عقلها، ويرى قدميها، فأمر بالصرح وأجرى تحته الماء وجعل فيه الضفادع والسمك، وأمر بعرشها فزيد فيه ونقص منه، فلما نظرت إليه جعلت تعرف وتنكر، وقالت في نفسها: من أين تخلص إلى عرشي، وهو تحت سبعة أبواب والحرس حوله؟ فلم تعرف ولم تنكر وقالت ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ فقيل لها ﴿ادخلي الصرح﴾، إلى القصر فظنته ماء، وكشفت عن ساقيها لتخوض
5440
الماء إلى سليمان، فرأى سليمان أحسن ساق بخلاف ما قيل له فيها.
روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنياً ".
ومعنى: ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾، أي لما رأت الماء تحت الزجاج الأبيض، ودواب الماء تحته، ظنته لجة بحر وكشفت عن ساقيها لتخوض إلى سليمان.
قال مجاهد: لما كشفت عن ساقيها، فإذا هما شعراوان فقال سليمان: ألا شيء من يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، قال الموسى له أثر، فأمر بالنورة، فصنعت، فكان أول من صنع النورة.
5441
وقيل: إنه لما تزوجها قالت له: إني لم يمسني حديد قط، فعملت النورة.
ومعن: " ممرد " أي مشيد.
﴿مِّن قَوارِيرَ﴾، أي من زجاج.
وقيل: الصرح: القصر.
وقيل الصحن: هو ساحة الدار.
وأصل الممرد: الأملس. ومنه: الأمرد، ومنه قولهم: شجرة مرداء: إذا سقط عنها ورقها.
وقيل: الممرد: الطويل. ومنه قيل لبعض الحصون: مارد. ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾.
وقد تقدمت قصة صالح في مواضع، فأغنى عن إعادتها.
5442
وقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾، إنما جمع لأن كل فريق جمع، ويجوز يختصمان، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما دعاهم صار قومه فريقين يختصمون: مؤمن وكافر، ومصدق له ومكذب يختصمون في أمره فيما جاءهم به.
قوله تعالى ذكره: ﴿قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة﴾،
أي قال صالح لقومه: لم تستعجلون بعذاب الله قبل رحمته؟.
قال مجاهد: وقيل السيئة: العذاب، والسنة: العافية، وهذا يدل على أنه طلبوا منه أن يحل بهم العذاب الذي توعدهم به، واستعجلوه لوقوعه أنهم تكذيباً منهم للعذاب، ولما جاءهم به.
قوله: ﴿لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله﴾ أي هلا تسألون الله المغفرة من كفركم ليرحمكم.
قال تعالى: ﴿قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾،. أي قالت ثمود لصالح
تشاءمنا بك وبمن معك لما يصيبنا من القحط والشدة، وقلة نماء الأموال، وذلك من اتباعك، فقال لهم صالح: ﴿طَائِرُكُمْ عِندَ الله﴾، أي ما يصيبكم مما تكرهون عند الله علمه، ومن عند الله يأتيكم.
قال قتادة: معناه: علمكم عند الله.
وقال الفراء: عند الله، ومعناه: أي في الوح المحفظ ما يصيبكم. مثل: قوله ﴿قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ﴾ [يس: ١٩]، أي ما يصيبكم من خير وشر لازم لكم في رقابكم.
وقوله: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾، أي تختبرون، أي يختبركم ربكم برسالتي إليكم، فينظر طاعتكم له فيما بعثني به إليكم.
قال تعالى: ﴿وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾، أي كان في مدينة قوم صالح تسعة أنفس ﴿يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾، أي يكفرون بالله ولا يؤمنون به، وخص هؤلاء بالذكر، وقد علم أم جميعهم كافرون، لأنهم هم الذين سعوا في عقر الناقة، وتعاونوا عليها، وتحالفوا على قتل صالح من بين ثمود.
قال ابن عباس: هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيت صالحاً وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً وما لنا به علم، فدمرهم الله أجمعين.
قال عطاء بن أبي رباح: بلغني عنهم أنهم / كانوا يقرضون الدراهم.
وقال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون، ويأمرون بالفساد، فجلسوا تحت صخرة عظيمة على نهر، فقلبها الله عليهم فقتلهم.
قال تعالى: ﴿قَالُواْ تَقَاسَمُواْ﴾، أي تحالفوا كأنه أمر بعضهم بعضاً أن يتحالفوا بالله، ويجوز أن يكون تقاسموا فعلاً ماضياً في معنى الحال والتقدير: قالوا: متقاسمين بالله، والمعنى: قال تسعة الرهط: تحالفوا بالله أيها القوم،
أي ليحلف بعضكم بعضاً لنبيتن صالحاً الليلة، وأهله فلنقتلنه ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾، أي ولي دمه ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾.
قال مجاهد: تحالفوا على إهلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا هم وقومهم أجمعون.
قال أبو إسحاق: قال التسعة الرهط الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً أي فيما يوعدنا به من العذاب بعد الثلاث عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته. فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم متشادخين قد رضخوهم بالحجارة.
وقوله: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾، أي نقول لوليه: وإنا لصاقون أنا ما شهدنا مهلك أهله.
أي مكر هؤلاء التسعة بسيرهم إلى صالح ليلاً ليقتلوه، وصالح لا يشعر بذلك. ﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً﴾ أي فأخذناهم بالعقوبة وهم لا يشعرون بمكر الله. فالمعنى: ومكروا مكراً بما عملوه، ومكرنا مكراً أي جازيناهم على مكرهم.
وقيل: مكر الله بهم هو: إعلامه لصالح ومن آمن به بهلاكهم، وأمره لهم بالخروج من بين أظهرهم، ففعلوا، وأخذ العذاب الكفار دون غيرهم.
وقيل: المكر من الله الإتيان بالعقوبة المستحقة من حيث لا يدري العبد.
وقيل: المكر من الله: أخذه من أخذ منهم على غرة وغفلة.
قال إبراهيم بن عرفة: المكر من المخلوقين هو إظهار غير ما في النفوس ليوقعوا الحملة، ويبلغوا ما يريدون، والمكر من الله إظهار النظرة وترك العقوبة عاجلاً حتى يأخذه على غرة. ألم تسمع إلى قوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٢] أي أطيل لهم المدة.
روي في خبر صالح مع قومه: " أنهم قالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه، ومن أهله قبل ثلاث. وكان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فخرجوا إلى كهف وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صخرة من أهضب جبالهم فخشوا أن تشدخهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم في ذلك، فلا يدر قومهم أين هم؟ ولا يدرون ما فعل بقومهم؟ فعذب الله هؤلاء هنا، وهؤلاء هنا، وأنجى صالحاً ومن معه.
قال: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾، أي فانظر يا محمد بعين قلبك إلى عاقبة غدر ثمود لنبيهم صالح كيف كان.
﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾، أي أهلكناهم وقومهم أجمعين.
ومن فتح ﴿أَنَّا﴾ ففيه خمسة أوجه:
الأول: أن يقدر اللام معها ثم يحذفها فتكون " أن " في موضع نصب على حذف حرف الجر منها.
الثاني: أن تكون " أن " في موضع رفع بدل من عاقبة، وكيف خبر كان في الوجهين.
الثالث: أن تكون في موضع نصب على خبر كان: أي كيف كان عاقبة مكرهم، تدميرهم، وتكون " كيف " ظرفاً عمل فيه جملة الكلام بعده، كما تقول: اليوم كان زيد منطلقاً.
الرابع: أن تكون " أن " فيوضع رفع على إضمار مبتدأ للعاقبة والتقدير للعاقبة والتقدير هي إنا دمرناهم.
الخامس: ذكره الفراء: أن يجعل " أن " بدلاً من كيف، وهذا الوجه بعيد.
فأما من كسر " إنا " فإنه يجعل " كيف ": خبر كان و " عاقبة " اسم كان / ثم يستأنف فيكسر.
قال تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا﴾، خاوية نصباً على الحال، ويجوز الرفع من خمسة أوجه:
الأول: أن ترفع " تلك " بالابتداء " وبيوتهم " بدل من تلك " وخاوية " خبر الابتداء.
والثاني: أن ترفع " تلك " بالابتداء و " خاوية " و " بيوتهم " خبر ثاني عن الابتداء كما يقال هذا حلو حامض.
الثالث: أن ترفع " خاوية " على إضمار مبتدأ: أي هي خاوية.
الرابع: أن تجعل " خاوية " بدلاً من بيوتهم كأنك قلت: فتلك خاوية.
الخامس: أن تقدر في بيوتهم الانفصال، فتجعل خاوية نعتاً للبيوت تقديره فتلك بيوت لهم خاوية.
والمعنى: فتلك مساكنهم خاوية منهم ليس فيها منهم أحد، قد أهلكوا بظلم أنفسهم. ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، أي إن في فعلنا بثمود ما قصصنا عليك لعظة لمن يعلم.
وروي: أن بيوتهم هذه المذكورة: هي بوادي القرى: وهو موضع بين المدينة والشام معروف.
أي أنجينا من عذابنا، ونقمتنا التي حلت بثمود صالحاً والمؤمنين به، وكانوا يتقون العذاب والنقمة، فآمنوا خوفاً من ذلك، فكذلك ننجيك يا محمد، ومن آمن بك عند حلول عقوبتنا بمشركي قومك.
وروي: أن صالحاً ﷺ لما أحل الله تعالى ذكره بقومه ما أحل من العذاب، خرج هو والمؤمنين به إلى الشام فنزل رملة فلسطين.
قال: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾، أي واذكر لوطاً وإن
﴿ أئنكم لتاتون الرجال ﴾[ ٥٥ ]، أي في أدبارهم شهوة منكم لذلك، من دون فروج١ النساء٢ التي أباح الله لكم بالنكاح ﴿ بل أنتم قوم تجهلون ﴾[ ٥٧ ]، أي تجهلون حق الله عليكم فخالفتم أمره٣.
١ "فروج" سقطت من ز..
٢ بعده في ز "أي فروج النساء"..
٣ بعده في ز: حزب..
شئت، وأرسلنا لوطاً: ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ يعني نكاح الرجال في أدبارهم. ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾، أي تبصرون أنها فاحشة، إذ قد علمتم أنه لم يسبقكم إلى من تفعلون أحد. ﴿أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال﴾، أي في أدبارهم شهوة منكم لذلك، من دون فروج النساء التي أباح الله لكم بالنكاج ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾، أي تجهلون حق الله عليكم فخالفتم أمره.
قال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ﴾، أي فلم يكن جواب قوم لوط له لما نهاهم عن نكاح الرجال، إلا قول بعضهم لبعض: ﴿أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾، عما نفعله نحن من إتيان الذكران. قال ابن عباس: أي يتطهرون من إتيان النساء والرجال في أدبارهم. وقاله مجاهد.
قال تعالى: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا﴾، يعني أنجاهم من العذاب. ﴿إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا﴾، أي جعلناها بتقديرنا ﴿مِنَ الغابرين﴾، أي من الباقين في العذاب. ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً﴾، أي حجارة من السماء، أي
﴿ وأمطرنا عليهم مطرا ﴾[ ٦٠ ]، أي حجارة من السماء، أي أمطرنا الحجارة على من لم يكن حاضرا في المدائن المنقلبة على من فيها منهم١.
﴿ فساء مطر المنذرين ﴾ أي فساء المطر مطر القوم الذين أنذرهم الله عقابه على معصيتهم إياه.
١ "منهم" سقطت من ز..
أمطرنا الحجارة على من لم يكن حاضراً في المدائن المنقلبة على من فيها منهم. ﴿فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين﴾ أي فساء المطر مطر القوم الذين أنذرهم الله عقابه على معصيتهم إياه.
قال: ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى﴾ أي قل يا محمد الحمد لله.
وقال الفراء معناه: قل يا لوط الحمد لله على هلاكهم. ﴿وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى﴾ والقول الأول أحسن لأن القرآن على النبي ﷺ نزل، فهو المخاطب والمعنى: قل يا محمد لله على نعمه وتوفيقه لكم. ﴿وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ﴾، أي وأمنه من عقابه الذي عاقب به قوم لوط، وصالح، على عباده الذين اجتباهم لمحمد ﷺ فجعلهم له أصحاباً ووزراء على الذين الذي بثه بالدعاء إليه.
قال ابن عباس: ﴿على عِبَادِهِ الذين اصطفى﴾، أصحاب محمد عليه السلام وقاله الثوري.
5451
ثم قال: ﴿ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أجاز أبو حاتم تحقيق الهمزتين في " ءالله " ولم يوافقه على ذلك أحد، والمعنى: أثواب الله خير أم ثواب ما تشركون؟
وقيل: " خير " هنا ليست أفعل. والمعنى: الله ذو خير ما تشركون؟ وقيل: إنما أتى هذا لأنهم كانوا يعتقدون، ويظنون أن في عبادة الأصنام خيراً، وفي عبادة غيرها شراً، فخوطبوا على ما كانوا يظنون، ويعتقدون، لا على غير ذلك.
وقيل: المعنى الخير في هذا الذي تشركونه به في العبادة.
وحكى سيبويه: الشقاء أحب / إليك أم السعادة؟ وهو يعلم أن السعادة أحب إليه.
وقيل: لفظ الاستفهام في هذا مجاز، ومعناه التبيين لهم أن الله خير لهم مما يشركون به من الأصنام، وهذا النص يدل على أن الدعاوى في الديانات لا تصح إلا ببرهان وحجة تدل على صحة ذلك، ولو كان الأمر على غير ذلك لم يطلب
5452
من هؤلاء برهان وحجة على ما يدعون.
والمعنى: عند الطبري: قل يا محمد للمشركين، الله الذي أنعم على أوليائه بالنعم التي قصها عليكم: ﴿خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ من أوثانكم التي لا تنفعكم، ولا تضركم، ولا تدفع عن أنفسها، ولا عن أوليائها شراً، ولا تجلب نفعاً.
قال تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾، أي أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض فهو مردود على ما قبله على المعنى الذي تقدم ذكره. وفيه معنى التوبيخ، والتقريع لهم، وفيه أيضاً معنى التنبيه على قدرة الله، وعجز آلهتهم، وكذلك معنى ما بعده في قوله " أمن "، " أمن " هو كله مردود على الله ﴿خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٥٩]، وفيه من المعاني ما ذكرنا من التوبيخ، والتقريع، والتنبيه فافهمه كله.
والحدائق: جمع حديقة وهي البستان عليه حائط محوط، فإذا لم يكن عليه حائط فليس بحديقة.
وقال قتادة: هي النخل الحسان.
قال عكرمة: الحدائق: النخل، والبهجة: الزينة والحسن.
ثم قال: ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾، أي لم تكونوا قادرين على إنبات شجرها، لولا ما أنزل الله من الماء ﴿أإله مَّعَ الله﴾، أي أمعبود مع الله خلق ذلك؟ ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾، أي يعدلون عن الحق ويجورون على عمد منهم لذلك، ويجوز أن يكون المعنى: بل هو قوم يعدلون بالله الأوثان.
قال: ﴿أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾، أي أعبادة ما تشركون خير أم عبادة من جعل الأرض قراراً أي تستقرون عليها لا تميد بكم. ﴿وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾، أي وجعل بين أبنيتها أنهاراً. ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾، وهي الجبال. ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً﴾ أي بين الملح والحلو، لئلا يفسد أحدهما صاحبه.
﴿أإله مَّعَ الله﴾، أي أمعبود يعبد مع الله ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي
لا يعلمون قدر عظمة الله جل ذكره، وما عليهم من الضرر في إشراكهم مع الله غيره.
قال: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السوء﴾، أي أعبادة ما تشركون خير أم عبادة من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل به.
قال ابن جريج: السوء: الضر
ثم قال تعالى: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض﴾، أي سيتخلفكم بعد أمواتكم في الأرض ﴿أإله مَّعَ الله﴾، أي أمعبود مع الله ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾، أي قليلاً ما تذكرون عظمة الله، وقبيح ما تفعلون.
قال تعالى: ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾، أي أعبادة أوثانكم خير، أم عبادة من يهديكم في ظلمات البر والبحر، إذا ضللتم فيهما الطريق، وخفيت عليكم السبيل فيهما. ﴿وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً﴾ أي يرسلها حياة للأرض ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾، أي قدام الغيث الذي يحيي الأرض.
ثم قال: ﴿أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، أي أمعبود مع الله، تعالى الله عن شرككم به.
قال تعالى: ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ﴾، أي أعبادة أوثانكم خير أم عبادة من يبدأ الخلق من غير أصل، ثم يفنيه، ثم يعيده إذا شاء كهيئته ﴿وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض﴾، أي بالبعث والنبات.
﴿أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، أي إن زعمتم أن مع الله إلها غيره يفعل ذلك، فقل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم على ذلك، ودليلكم عليه إن كنتم صادقين في دعواكم.
وقد وقعت أمن في السواد موصولة، وكان حقها أن تكون مفصولة، ولكن كتبت على لفظ الإدغام.
قوله تعالى ذكره: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله﴾،
أي قل يا محمد لمن سألك عن الساعة متى هي: لا يعلم غيبها إلا الله.
وعن عائشة أنها قالت: " من زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم الله
الفرية، والله يقول: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله﴾ الآية.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ ويقول:
﴿عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ﴾.
ثم قال: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ / أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾، أي لا يدري أحد متى يبعث لقيام الساعة.
قال تعالى: ﴿بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة﴾، أي بل تكامل علمهم في الآخرة، أي يتكامل ذلك يوم القيامة، والماضي بمعنى المستقبل، فالمعنى: أنهم يتكامل علمهم بصحة الآخرة، إذا بعثوا وعاينوا الحقائق. ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾ يعني في الدنيا لأنهم إذا بعثوا وعاينوا الحقائق يوم القيامة، رأوا كل ما وعدوا به معاينة.
وقيل المعنى: يتابع علمهم اليوم بعلم الآخرة. وفي: بمعنى الباء، ومن قرأه: إدرك على وزن إفعل: فمعناه: كمل في الآخرة كالأولى.
5457
وقيل: معناه: الإنكار، فدل ذلك قوله: ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾، وقيل: المعنى بل إدارك علمهم بالآخرة فأيقنوا بها، وعلموها حين لم ينفعهم يقينهم بها، إذ كانوا بها في الدنيا مكذبين. وقاله ابن عباس وهو اختيار الطبري. في معنى هذه القراءة.
وعن ابن عباس: ﴿بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة﴾ أي غاب علمهم، وقال ابن زيد: ضل علمهم في الآخرة. أي بالآخرة: فليس لهم فيها علم هم منها عمون.
وقال قتادة: ﴿بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ﴾ أي لم يبلغ لهم فيها علم، وقال مجاهد: ﴿بَلِ ادارك﴾ معناه: إم إدارك.
وقوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾، أي هؤلاء المشركون في شك من الآخرة لا يوقنون بها. ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾، أي بل هم من العلم بقيامها عمون.
5458
وعن ابن عباس: أنه قرأ " بل أدارك " بلفظ الاستفهام وبلى بالألف، وفيها بعد عند النحويين، لأن بلى إيجاب، والاستفهام في هذا الموضوع إنكار.
وقرأ ابن محيصن: بل بغير ألف أدارك بالاستفهام، وفيها أيضاً بعد. ومعنى الاستفهام هما: التوقيف، وتقديرها: أدرك علمهم في الدنيا حقيقة الآخرة لم يدرك.
وفي حرف أبي: " بل تدارك " أتى به على الأصل ولم يدغم التاء في الدال.
قال: ﴿وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾، أي قال
الكافرون بالله المنكرون للبعث: أإنا لمخرجون من قبورنا أحياء، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل محمد، فلم نر لذلك حقيقة.
﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي ما هذا الوعد إلا ما سطره الأولون من الأحاديث في كتبهم، والعامل في إذ فعل مضمر، والتقدير: أنبعث إذا كنا تراباً.
قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض﴾، أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من أخبار الأمم قبلهم: سيروا في الأرض فانظروا آثار من كان قبلكم من المكذبين رسل الله مثل ما كذبتم أنتم، واعتبروا بهلاكهم، وقطع آثارهم، واحذروا أن يحل عليكم بتكذيبكم إياي مثل ما حل عليهم.
قال: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾، أي لا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المشركين عنك وكفرهم بما جئتهم به ﴿وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾، أي لا يضيق صدرك يا محمد عن مكرهم بك، فإن الله ناصرك عليهم، ومهلكهم قتلاً بالسيف.
ثم قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي يقول مشركو
قومك يا محمد: متى يأتي هذا الوعد الذي تعدنا به من العذاب الذي يحل بنا على ما تقول؟ ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، في ما تعدنا به.
قال: ﴿قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي قل يا محمد لهم: عسى أن يكون اقترب لكم ودنا بعض الذي تستعجلون من عذاب الله.
وقال ابن عباس: ردف لكم: اقترب لكم.
وقال مجاهد: أعجلكم. وعنه أيضاً: أزف لكم، وهو قوله الضحاك.
وقال أبو عبيدة: جاء بعدكم، وهو من ردفه: إذا جاء في إثره.
وقيل: تقدير الآية: قل يا محمد: عسى أن يكون بعض الذين تستعجلون ردف لكم لأنه ليس من الجائز أن يلي فعل فعلاً.
وقيل: إن بعد يكون إضمار القصة، أو الحديث وشبهه. و " بعض " مرفوع بردف، ودخلت اللام في ردف لكم حملاً على المعنى لأن معناه: اقترب لكم ودنا لكم.
وقيل: هي زائدة. والمعنى: ردفكم.
وقيل: هي متعلقة بمصدر ردف.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾. أي لذو فضل عليهم بتركه معاجلتهم بالعقوبة على / معصيتهم، وكفرهم به. ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾، أي لا يشكرون نعمه عندهم، بل كثير منهم يشركون معه في العبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ولا فضل له عندهم ولا إحسان. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾، أي ما يضمرون فيها، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾. أي وما يظهرون، فهو يعلم الخفي والظاهر.
أي وما من مكتوم وخفي أمر في السماء والأرض ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ يعني في أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من لدن ابتداء الخلق إلى يوم القيامة.
قال ابن عباس: معناه: ما من شيء في السماء والأرض سراً وعلانية إلا يعلمه.
أي يخبرهم بالحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها، وفي غير ذلك، كاختلافهم في عيسى ونحوه.
أي وإن القرآن لبيان من الله ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه.
قال تعالى: ﴿إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ﴾، أي يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل بحكمه، فينتقم من المبطل، ويجازي المحسن، وهو العزيز في انتقامه العليم بالمحق منهم والمبطل. ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾، أي ثق به في جميع أمورك ﴿إِنَّكَ عَلَى الحق المبين﴾، أي الظاهر.
ثم قال تعالى ذكره١ :﴿ فتوكل على الله ﴾[ ٨١ ]، أي ثق به في جميع أمورك ﴿ إنك على الحق المبين ﴾[ ٨١ ]، أي الظاهر.
١ "تعالى ذكره" سقطت من ز..
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء﴾.
المعنى: إنك يا محمد لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلبه فأماته، ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصم الله سمعه ﴿إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾ أي إذا هم أدبروا معرضين عنه، فأما قراءة ابن كثير " ولا يسمع " بالياء " الصم " بالرفع، فمعناها: ليس يسمع الصم الدعاء في حال إعراضهم، وتوليتهم عنه.
قال: ﴿وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ﴾، أي وما أنت يا محمد بهادي من أعماه الله جل ذكره عن الهدى فجعل على بصره غشاوة ﴿إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾، أي ما يقدر أن يفهم الحق أحد إلا من يصدق بآياتنا ﴿فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾، أي إذا وجب على المختلفين من بني إسرائيل والمشركين من العرب وغيرهم، غضب من الله جل ذكره، إذا لم يكن في علم الله منهم راجع عن كفره، ولا تائب من ضلاله
5464
﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ﴾. أي تخبرهم وتحدثهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم الجحدري وطلحة: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ بفتح التاء وتسكين الكاف من كلمه إذا جرحه أي تسمهم.
قال مجاهد: وقع القول: حق القول.
وقال قتادة: وجب القول.
وقال ابن جريج: القول: العذاب.
وقال قتادة: القول: الغضب.
وخروج الدابة في قول جماعة من العلماء، إنما يكون حين لا يأمر الناس بمعروف، ولا ينهون عن منكر.
5465
قال ابن عمر وغيره: وخروجها والله أعلم بعد خروج الدجال، لأن الدجال يخرج فيفتتن الناس به إلا من شاء الله، ثم يقتله عيسى ابن مريم، وتصير الأديان ديناً واحداً وهو الإسلام، ثم تحدث الحوادث، وتتغير الأمور بعد موت عيسى عليه السلام، فتخرج الدابة فتسم الكافر بسواد في وجهه، والمؤمن ببياض في وجهه.
وقد قال الضحاك - في صفة الدجال: إنه وافر الشارب، لا لحية له رأسه كالقلة العظيمة طول وجهه ذراعان، وقامته في السماء ثمانون ذراعاً، وعرض ما بين منكبيه ثلاثون ذراعاً، ثيابه، وخفاه، وسيفه وسرجه، ولجامه: بالذهب والجوهر على رأسه تاج مرصع بالذهب والجوهر، في يده طبرزين هيئته هيئة المجوس، قوسه الفارسية، وكلامه بالفارسية، تطوى له
5466
الأرض ولأصحابه طياً طياً، يطأ مجامعها، ويرد مياهها إلا المساجد الأربعة: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد بين المقدس، ومسجد الطور، فخروج الدابة هو آخر الآيات / وهو معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا﴾ [الأنعام: ١٥٨] وهو خروج الدابة.
وروي أنه ترفع عند ذلك التوبة، وتخبر الكافر أنه كافر، والمؤمن أنه مؤمن.
وروي: أنه يجعل الله لها من الطول ما تشرف به على الناس
5467
لتكلمهم بكلام يفهمونه، ويسمعونه، وتخبرهم أن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، وينغلق عند ذلك باب العمل ويجهل فلا ترى عالماً بالدين، ويحصل كل امرئ على ما قدم من خير أو شر. وهو معنى قوله: ﴿وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾ أي وجب عمله كل امئ لنفسه إن خيراً فخير. وإن شراً فشر.
قال ابن عمر: تخرج الدابة من صدع في الصفا.
وروى حذيفة عن النبي ﷺ أنه قال: " تخرج الدابة من أعظم
5468
المساجد حرمة على الله، بينما عيسى بن مريم يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم، تحرك القنديل، وينشف الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يبدو رأسها، ملصقة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب ولا يفوتها هارب، تسم الناس مؤمن وكافر، أما المؤمن فتترك زجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه نكتة بيضاء مؤمن، وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء كافر ".
روى أو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتختم أنف الكافر بخاتم، ثم إن أهل الدار يجتمعون فيقولون هنا يا مؤمن ويقول هنا يا كافر ".
وقد كثرت في ذلك الأخبار عن حذيفة وابن عمر كلها ترجع إلى معنى هذا الحديث.
5469
ويروى أن موسى ﷺ: " سأل الله تعالى أن يريه الدابة، فمكث ثلاثة أيام، وثلاث ليال لا يظهر منها إلا رأسها، وعنقها، وظهرها ".
وعن ابن عمر أنه قال: تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب، ورجلاها في الأرض ما خرجتا، فتمر بالإنسان يصلي فتقول: ما الصلاة من حاجتك فتخطمه، قال: وتخرج ومعها خاتم سليمان وعصا موسى. فأما الكافر فتختم بين عينيه بخاتم سليمان فيسود، وأما المؤمن فتمسح وجهه بعصا موسى فيبيض.
قال ابن عباس: هي والله تكلمهم وتكلمهم، تكلم المؤمن وتكلم الكافر.
5470
قال تعالى ذكره: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾، أي واذكر يا محمد يوم نحشر من كل قرن وملة فوجاً، أي جماعة منهم وزمرة ﴿مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا﴾، أي يجحدها ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي يحبس أولهم على آخرهم فيجتمع جميعهم ثم يسافرون إلى النار.
قال ابن عباس: يوزعون: يدفعون.
قال مجاهد: يحبس أولهم على آخرهم.
وقال قتادة: لهم وزعة: ترد أولهم على آخرهم.
قال تعالى: ﴿حتى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي﴾، أي جاء الأفواج واجتمعوا، قال لهم الله جل ذكره: ﴿أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي﴾، أي بحججي وأدلتي ﴿وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً﴾، أي ولم تعرفوها حق معرفتها أماذا ﴿كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيها من تصديق أو تكذيب. وقوله: ﴿وَلَمْ تُحِيطُواْ﴾، معطوف
5471
على ﴿أَكَذَّبْتُم﴾ فيه معنى التوبيخ والتقدير. على معنى: ﴿وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً﴾ " أي أكذبتم بها وقد أحطتم بها علماً، لأن الألف إذا دخلت على النفي نقلته إلى الإيجاب بمنزلة ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ٧] أي قد شرحناه لك، ودل على حذف الألف من ولم تحيطوا. قوله: " أما ذا كنتم ". ولو لم تقدر الألف ويجري على معنى الإيجاب الذي أصله النفي وردته الألف إلى الإيجاب لكان ذلك عذراً لهم إنهم إنما كذبوا لما لم يحيطوا بعلمها، وليس الأمر كذلك بل كذبوا بعد إحاطتهم بعلمها ونزولها، والدعوة إلى الإيمان بها.
وقد قيل إنه لا إضمار ألف في هذا، والمعنى: أنهم كذبوا وهم غير محيطين
5472
ثم قال :﴿ ووقع القول عليهم بما ظلموا١ [ ٨٧ ]، أي٢ وجب السخط والغضب من الله بظلمهم ﴿ فهم لا ينطقون ﴾[ ٨٧ ]، بحجة ولا بعذر.
١ "بما ظلموا" سقطت من ز..
٢ من "أي وجب.... والغضب" سقط من ز..
بالعلم وبالآيات، ودليله قوله: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ﴾ [يونس: ٣٩] فإذا أجريته على هذا المعنى: كانت " أم " عديلة الألف في " أكذبتم " فإذا أجريته على المعنى الأول كانت " أم " عديلة الألف المحذوفة في " أولو " ودالة عليها، ومعنى الكلام: التقريع، والتوبيخ، والتقدير على ما قدموا، ولفظه لفظ الاستفهام، ومعناه على غير ذلك.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل / لِيَسْكُنُواْ فِيهِ﴾، أي ألم ير هؤلاء المكذبون تصريف الله جل ذكره الليل، والنهار، وجعله الليل يسكنون فيه، أي يهدءون فيه لراحة أبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهاراً.
ثم قال ﴿والنهار مُبْصِراً﴾، أي مضيئاً يبصرون الأشياء فيه، ويتقلبون فيه لمعاشهم، فيعلموا أن مصرف ذلك هو الإله الذي لا يعجزه شيء أراده.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، أي إن في تصرف الليل والنهار لعلامات ظاهرة لقوم يؤمنون بالله وقدرته.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾، أي واذكر يا محمد يوم نفخنا في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل.
روى أبو هريرة: أن النبي ﷺ قال: " هو قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر، وهو الذي ذكر الله في قوله:
5474
﴿وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ أي ما لها من راحة فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترتج الأرض بأهلها رجاً وهي التي يقول:
﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة﴾ فتكون الأرض كالسفينة المرنقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها أو كالقنديل المعلق بالوتر ترجحه الأمواج فيميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة، حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين يوالي بعضهم بعضاً وهو الذي يقول:
﴿يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من
5475
الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم.
قال رسول الله ﷺ: والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك، قال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى إذ يقول: ﴿فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ قال: أولئك الشهداء ".
وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ﴿أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، ويجوز أن يكون العامل في " يوم ينطقون ". وقال مقاتل: إلا من شاء الله ": جبريل وإسرافيل، وميكائيل، وملك الموت صلى الله على جميعهم وسلم، ومعنى داخرين: صاغرين.
قال تعالى: ﴿وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾، أي وترى يا محمد الجبال يؤمئذ
تحسبها جامدة.
قال ابن عباس: قائمة ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب﴾، أي تسير سيراً حثيثاً مثل سير السحاب ﴿صُنْعَ الله﴾ أي صنع الله ذلك صنعاً.
وقيل: المعنى: انظروا ﴿صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾، أي أحكمه وأوثقه.
ومن نصب ﴿صُنْعَ الله﴾ على المصدر لم يقف على السحاب، لأن الجملة دلت على الفعل العامل، ومن نصبه على انظروا نع الله، جاز الوقف على السحاب.
قال تعالى. ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾، أي من جاء بالحسنة فله من ثواب الله ما هو خير من عمله، وله أفضل من ثواب عمله، لأن الله جل ذكره يعطي من الثواب فضلاً لا يستحقه العبد بعمله، زيادة منه وتفضلاً وإحساناً.
وقوله: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة﴾، أي بالسيئات التي فيها الشرك ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾، ولم يذكر زيادة لأنه تعالى إنما يعذبهم على قدر كفرهم.
5477
وقيل: من جاء بالتوحيد والإيمان فله عند الله خير من أجل ما جاء به وهو الجنة.
﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾، من نون " فزعاً " فمعناه: أنهم آمنون من كل فزع؛ فزع ذلك اليوم، وفزع ما يخافون العقوبة عليه من أعمالهم السالفة.
ومن لم ينون فمعناه: وهم من فزع ذلك اليوم آمنون.
ثم قال تعالى. ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة﴾، أي بالشرك / ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾.
قال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك.
وقال قتادة: الحسنة: الإخلاص، والسيئة: الشرك.
قال عكرمة: كل شيء في القرآن، السيئة: فهو الشرك
قال علي بن الحسين: أنا في بعض خلواتي حتى رفعت صوتي، أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. قال: فرد علي رجل: ما تقول يا عبد الله؟ قال: قلت: أقول ما تسمع،
5478
قال: فها إنها الكلمة التي قال الله تعالى. ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾.
قال ابن عباس: ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾، أي فمنها وصل إليه الخير.
وقال ابن زيد: أعطاه الله بالواحدة: عشراً فهدأ خير منها.
قال: ﴿إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة﴾، أي قل ذلك يا محمد.
البلدة: مكة، والذي حرمها نعت للرب: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾، أي أمرني ربي بذلك ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن﴾، أي وأمرني ربي بتلاوة القرآن. ﴿فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾، أي من آمن بي نفع نفسه لدفعه عنها العذاب في الدنيا والآخرة. ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ [يونس: ١٠٨] أي ومن كفر بي وجحد نبوتي، وما جئت
5479
به فإنما يضر نفسه، إذ يوجب لها العذاب والسخط عند الله بكفره وضلاله عن الهدى.
وقوله: ﴿فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين﴾، أي إنما أنا ممن ينذر قومه عذاب الله وسخطه، وقد أنذرتكم ذلك. ﴿وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾، أي وقل يا محمد لهؤلاء القائلين: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين: الحمد لله على نعمه علينا، وفقنا للإيمان، وللإسلام الذي أنتم عنه عمون ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي آيات عذابه فتعرفونها أي يريكم علامات عذابه فتعرفونها، يعني في أنفسكم، وفي السماء، والأرض، والرزق.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، أي وما ربك يا محمد بغافل عما يعمل هؤلاء المشركون، ولكن يؤخرهم إلى أجل هم بالغوه.
ومن قرأ بالتاء فجعل المخاطبة للمشركين.
5480
Icon